المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌نظرية الإسلام في الأعياد - آثار عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني - جـ ١٧

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

الفصل: ‌نظرية الإسلام في الأعياد

‌الأعياد الدينية

أمَّا الأديان التي عَبِثَتْ بها الأهواء فغالب أعيادها اصطلاحيٌّ، والبحث فيه يطول، والذي يهمُّنا هنا البحث عن الأعياد الثابتِ شرعُها عن الله تبارك وتعالى، وإنَّما يتيسَّر لنا ذلك في دين الإسلام.

‌نظرية الإسلام في الأعياد

قد علمت مما تقدَّم أنَّ الأعياد على نوعين: طبيعي واصطلاحي.

فأمَّا ما يتعلَّق بالطبيعي فإنَّ الشريعة الإسلامية لم تنظر إلَّا إلى النِّعَم الحقيقية التي تعمُّ جميعَ المسلمين. والموجود من هذه النِّعَم متكرِّرًا كلَّ عام أمران:

الأول: تمام صيام شهر رمضان، والخروج من مشقَّة الصيام.

الثاني: تمام الحج، والخلاص من مشقة الإحرام.

وصيام شهر رمضان والحج من أركان الإسلام، ومن أعظم النِّعَم على المسلمين أن يتمَّ صيامهم ويتم حجُّهم.

فإن قيل: فإن الحجَّاج إنَّما هم طائفةٌ من المسلمين.

قلت: نعم، ولكن حج البيت كل سنة فرض كفاية على جميع المسلمين؛ فإذا قام به بعضهم فقد تمَّت النِّعْمة على الجميع بسقوط الإثم.

زِدْ على ذلك أنَّ تمكُّن المسلمين من إتمام الحج من مظاهر ظهور الإسلام واجتماع المسلمين؛ وذلك من أعظم النِّعَم عليهم.

ص: 527

وأظهر من ذلك: أنَّ من حِكَم شرع الحج اجتماعَ المسلمين، وكان ظاهرُ هذا وجوبَه على كل فرد منهم كل سنة. لأنَّه يُشَرع في الصلوات الخمس اجتماعُ أهل كل محلَّةٍ، وفي الجمعة اجتماع أهل كل مدينةٍ، وفي عيد الفطر اجتماع أهل كل مدينةٍ وما حولها؛ حتى النساء، بما فيه العواتق ذواتُ الخدور والحيَّض؛ كما في الحديث الصحيح

(1)

.

فما بعد ذلك إلَاّ اجتماع أهل قطر، وهذا أهمله الشارع اكتفاءً بالحج. فكان الظاهر أن يُشرَع في الحج اجتماع جميع المسلمين، ولكن لما كان في ذلك مشقةٌ عليهم، وضياعٌ لمصالحهم خفَّف الله عنهم.

ومن هنا يُفهَم ما صحَّ: أنَّ النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم سُئِل عن وجوب الحج؛ أكلَّ سنةٍ؟ ــ يعني: على كل فردٍ ــ فقال: «لا، ولو قلتُ: نعم لوجبَتْ»

(2)

.

فاكتفى الشرع بأن يحجَّ من أهل كل جهةٍ طائفةٌ، ثم هذه الطائفة تُبلِّغ مَنْ وراءها آثار الاجتماع في الحج. كما قال الله تعالى في الجهاد:{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122].

وكلَّف الذين لم يحجّوا باجتماع أهل كل بلد في بلدهم ليحصل بذلك ما يحصل من حضور الاجتماع الأعظم.

ومن جهة أخرى فالغالب أنَّ كل فردٍ من المسلمين يكون له قريب أو صديق في الحج، وتمام النِّعْمة على ذلك يوجب سرور هذا.

(1)

أخرجه البخاري (974) ومسلم (890) من حديث أم عطية.

(2)

أخرجه مسلم (1337) من حديث أبي هريرة.

ص: 528

ومع ذلك شرع للمقيمين صيام تسع ذي الحجة، ولا سيَّما التاسع، وبتمامها تتم عليهم نعمة أخرى، وشرع لمن أراد التضحية منهم أن لا يحلق شعرًا، ولا يقُصَّ ظُفْرًا حتى يُضحِّي؛ كما جاء في الحديث

(1)

.

وشرع لهم في عيد الأضحى: أن لا يَطْعَموا شيئًا حتى يُصلُّوا العيد، وبعد صلاة العيد ينفكُّ عنهم قيدُ الإمساك عن القَرْض

(2)

وعن الأكل؛ وهذه نعمةٌ أخرى.

لم تكن الشريعة الإسلامية ــ وهي من وضع الحكيم العليم عز وجل ــ لتكتفي بهذا؛ بل نظرت إلى الأعمال التي ينبغي للمسلمين عملُها في عيدهم، فوجدت أنَّ تمام النِّعْمة كما يبعث المسلم ــ كغيره ــ على السرور طبعًا، والسرور يبعث على إظهار الزينة= فإنه يبعثه أيضًا على شكر المنعم عز وجل.

لهذا اقتضت الحكمة أن تكون الأعمال المشروعة في العيد جامعةً بين الزينة والعبادة. فالتكبير، والصلاة، وأداء الفطرة، والصدقة من الأضحية= عبادةٌ محضةٌ. والتنظُّف، والتطيُّب، ولبس الجديد، والاجتماع، والتقرُّب بالأضحية= تتضمَّن الأمرين.

أمَّا كونها عبادة فقد جاء في الحديث: «النَّظَافة من الإيمان»

(3)

.

(1)

أخرجه مسلم (1977) من حديث أم سلمة.

(2)

أي استعمال المقراض لقصّ الشعر.

(3)

أخرجه الطبراني في «الأوسط» (7311) وأبو نعيم في «أخبار أصبهان» (1/ 183) من حديث ابن مسعود بلفظ: «النظافة تدعو إلى الإيمان» . ولا يصح، قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (1/ 236): فيه إبراهيم بن حيان، قال ابن عدي: أحاديثه موضوعة. وقال العراقي في «تخريج الإحياء» (1/ 49، 125): سنده ضعيف جدًّا.

ص: 529

وجاء: أنَّ النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يحبّ الطِّيب

(1)

، وأن الملائكة يحبُّون الطِّيب.

وجاء عنه صلى الله عليه وآله وسلم الندبُ إلى حسن اللباس، وقال:«إنَّ الله يحبُّ أن يرى أثر نعمته على عبده»

(2)

.

وقال للِّذي أخبره أنَّه يحبُّ أن يكون ثوبه حسنًا، ورأسه دهينًا، ونعلاه حسنتين:«إنَّ الله جميل يحبُّ الجمال»

(3)

.

وعدم التنظُّف والتطيُّب يؤذي المجتمعين، واجتناب أذية الناس عبادةٌ.

والاجتماع الحسي باعث على الاجتماع المعنوي؛ [ص 3] ولاسيَّما والمشروع أن يكون الإمام هو الأمير؛ فيخطب فيهم ببيان المصالح العامة التي ينبغي أن يتعاونوا عليها، ويمثل بصلاته بهم واقتدائهم به تقدُّمَه إياهم في طاعة الله عز وجل، وتبَعَهم له في ذلك، أعني في مصالح الإسلام والمسلمين.

والتقرب بالأضحية ظاهر.

وأمَّا كون هذه الأشياء من الزينة ــ أعني ما يعمُّ التوسُّعَ في الأكل ونحوه ــ فظاهر.

(1)

أخرجه أحمد (3/ 128، 199، 285) والنسائي (7/ 61) من حديث أنس بن مالك مرفوعًا: «حُبِّب إليَّ الطيبُ والنساء

» وإسناده حسن.

(2)

أخرجه الترمذي (2820) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. وإسناده حسن.

(3)

أخرجه مسلم (91) من حديث ابن مسعود.

ص: 530

بقي ما أبيح في العيد من اللهو؛ كالضرب بالدفِّ، واللعب بالسلاح، وهذا أيضًا مشتملٌ على الأمرين.

أمَّا كونه زينةً فظاهر.

وأمَّا أنَّ فيه عبادةً فلِمَا جاء عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال للحبشة ــ عندما كانوا يلعبون بحِرَابِهم ــ: «إيهِ بني أرفدةَ؛ لتعلم اليهود والنصارى أنَّ في ديننا فسحةً»

(1)

.

واللعب بالسلاح تدرُّبٌ على الجهاد، وأيضًا فإنَّ في إسعاف النفس ببعض حظوظها إجمامًا لها، وترويحًا عنها لتنشط للعبادات والأعمال المصلحية، ولاسيَّما وهي خارجةٌ من عمل شاقٍّ حالَ بينها وبين شهواتها؛ وهو الإحرام لمن حجَّ، وسرد الصيام في عِدَّة رمضان، وصيام تسع ذي الحجة لمن لم يحج، مع إمساكه عن الحلقِ وقصِّ الأظفار حتى يُضحِّي، وعن الطعام حتى يرجع من الصلاة، وأنت خبيرٌ أن اللهو إنَّما يحدث بعد ذلك.

هذه حكمة الإسلام في الأعياد، ولكن ــ يا للأسف ــ إن المسلمين لا يكاد يوجد منهم من يستحضر هذه المعاني ويبني عملَه على تلك المقاصد، ولا يكاد يُوجد من علمائهم من يُبيِّن لهم ذلك؛ فالله المستعان.

وكما رخَّص الشارع في بعض اللهو وغيره في العيدين، كذلك رخَّص فيها عند حدوث نعمةٍ عظمى؛ كالزواج، والختان، والقدوم من سفر؛ ولم

(1)

أخرجه أحمد (6/ 116، 233) والحميدي في «مسنده» (254) من حديث عائشة. وإسناده حسن.

ص: 531

يُرخِّص في ذلك في مثل ذلك اليوم من الأسبوع، أو الشهر، أو السنة؛ لما علمت.

أمَّا الأعياد الاصطلاحية فلم تلتفت إليها الشريعة من حيث هي أعياد، وما كان فيها من أغراض سياسية أدرجته الشريعة في الأعياد الطبيعية ــ كما مرَّت الإشارة إليه ــ، أو في عبادة تخصُّه؛ كما في يوم الجمعة؛ كما يأتي. مع أنَّ في عيدَي الفطر والأضحى ما يفي بذلك؛ فعيد الفطر تذكار لنزول القرآن في رمضان؛ كما يأتي. وعيد النحر تذكارٌ لتمام الدين وعزِّه.

والعُرْف يقضي بأنَّ أمةً من الأمم لو جاهدت في سبيل استقلالها مثلًا، فانتصرت في عدة انتصارات= فإنَّما تجعل العيدَ اليومَ الذي تميَّز فيه نتيجة جهادها.

وهذا المعنى نفسه بالنسبة إلى الإسلام كافٍ في عيد الأضحى؛ كما يأتي. ولكن الشريعة نظرت إلى الأيام التي حدثت فيها نِعَمٌ عظمى عامة؛ فرأت أن المثلية تذكِّرُ بالنِّعَم كما مرَّ. وتذكُّر النِّعْمة، وإن لم يكفِ في البعث على إظهار الزينة= فإنه يكفي للبعث على الشكر. فشَرَعت في أمثال تلك الأيام عباداتٍ مخصوصة، واختارت أقرب ما يكون من المثلية.

فإذا حدثت النِّعْمة في يومٍ عيَّنت العبادة في مثله من كل أسبوع، ولا تخرج عن هذا إلَاّ لمعنىً آخر؛ كما سيأتي في صيام عرفة ويوم عاشوراء.

وإذا حدثت النِّعْمة في شهرٍ عيَّنت العبادة في مثله من كلِّ سنة.

فمن الأول: يوم الجمعة؛ ففي «صحيح مسلمٍ»

(1)

عن النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم: «خيرُ

(1)

رقم (854) عن أبي هريرة.

ص: 532

يومٍ طلعتْ عليه [الشمسُ]

(1)

[ص 4] يوم الجمعة؛ فيه خُلِق آدم، وفيه أُدخِلَ الجنةَ، وفيه أُخرِجَ منها، ولا تقوم الساعة إلَاّ في يوم الجمعة».

وخروج آدم عليه السلام من الجنة نعمةٌ في حقِّنا؛ لأنَّه سبب وجودِنا. وقيام الساعة نعمةٌ على المؤمنين؛ لأنَّ فيه القضاءَ لهم على أعدائهم، والأخذَ لهم بحقوقهم، بل إدخالهم الجنة، وتجلِّي الرب عز وجل لهم.

ولما كانت هذه النِّعَم عامةً لجميع بني آدم شرع الله تعالى لهم جميعًا تخصيصَ هذا اليوم؛ ولكن اقتضت حكمته عز وجل أن لا يَدُلَّهم على يوم الجمعة من أول وهلةٍ؛ بل يأمرهم بتخصيص يومٍ من الأسبوع، ويدع تعيينه إلى اجتهادهم.

ففي الصحيحين

(2)

عن النَّبي: «نحن الآخِرون السابقون يوم القيامة؛ بيدَ أنَّهم أُوتوا الكتابَ من قبلِنا، وأُوتيناه من بعدِهم، ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم ــ يعني يوم الجمعة ــ فاختلفوا فيه، فهدانا الله إليه» الحديث.

وهداية هذه الأمة له: ما ثبت في السيرة وغيرها أنَّ المسلمين في المدينة قبل هجرة النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم اتفقوا ــ إمَّا بأمرٍ منه صلى الله عليه وآله وسلم أو باجتهادهم ــ على أن يخصِّصوا يومًا معيَّنًا من الأسبوع يجتمعون فيه لذكر الله تعالى والاتفاق على مصالح المسلمين؛ إذْ لا يتيسَّر لهم الاجتماع كلَّ يوم؛ لاشتغالهم بنخيلهم وتجارتهم، وغير ذلك من مصالح دنياهم، فأجمعوا على يوم الجمعة.

(1)

سقطت من الأصل.

(2)

البخاري (876) ومسلم (855) عن أبي هريرة.

ص: 533

وكانت صلاة الظهر يومئذٍ ركعتين؛ كما في الصحيحين

(1)

، عن عائشة رضي الله عنها قالت:«فُرِضت الصلاة ركعتين، ثم هاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ففُرِضَتْ أربعًا، وتُرِكَت صلاة السفر على الفريضة الأولى» .

أقول: وتُرِكَت ظهر يوم الجمعة في حقّ المجتمعين الاجتماعَ المخصوص، كما هو ظاهر، وههنا مباحث علمية ليس هذا موضعها.

والمقصود: أن الله عز وجل شرع يوم الجمعة ما شرع من العبادة الزائدة على بقية الأيام؛ من الاجتماع، والخطبة، والغُسل، والسواك، والطيب، والتبكير إلى الجامع، وكثرة الصلاة قبل خروج الإمام= شكرًا له عز وجل على ما تقدَّم من النِّعَم وغيرها.

ومن الناس من يَعُدُّ يوم الجمعة عيدًا؛ لأنَّ كثيرًا مما شُرِع في العيد من التطيُّب والتنظُّف والاجتماع والخطبة، شُرِع فيه. ولأنَّه صحَّ النهي عن تخصيصه بصيام

(2)

؛ كما نَهَى عن صيام يوم العيد

(3)

.

وليس هذا بظاهر.

أمَّا التطيُّب والتنظُّف فإنَّما شرعت فيه لحقوق المجتمعين؛ كما صحَّ أنَّ الصحابة كانوا أولًا يجتمعون، ومنهم من لم يغتسل ولم يتطيَّب، فيؤذي

(1)

البخاري (3935) ومسلم (685) عن عائشة.

(2)

أخرجه البخاري (1985) ومسلم (1144) من حديث أبي هريرة. وفي الباب أحاديث أخرى.

(3)

أخرجه البخاري (1991) ومسلم (783) من حديث أبي سعيد الخدري. وفي الباب أحاديث أخرى.

ص: 534

بعضهم بعضًا، فأُمِرُوا بذلك

(1)

.

وأمَّا الاجتماع والخطبة فأمر مصلحيٌّ لا يقتضي أن يُعَدَّ ذلك اليوم عيدًا.

وأمَّا النهي عن تخصيص يوم الجمعة بالصيام؛ فلو كان لأنَّه عيدٌ لنَهَى عن صيامه مطلقًا، وليس كذلك؛ وإنَّما نَهَى أن يُصام وحده، فلو صامه مع الخميس [ص 5] أو مع السبت صحَّ؛ كما ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم

(2)

.

وههنا فائدةٌ يتعطَّش إليها القارئ، وإن كانت خارجةً عن الموضوع وهي حكمة النهي عن تخصيص يوم الجمعة بصيامٍ، وليله بقيام.

فأقول: قد قيل: لأنَّه عيدٌ، وقد تقدَّم ما فيه.

وقيل: لئلا يَضعُفَ بقيام ليلته وصيامه عن العبادات المشروعة فيه.

وهذا أيضًا باطلٌ؛ لجواز قيام ليلته لمن يريد قيام ليلة السبت، وصيامه لمن يريد صيام يوم السبت؛ كما تقدَّم. والضعف حاصلٌ هنا، وقيل، وقيل.

وعندي أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم إنَّما نَهَى عن ذلك؛ لأنَّ الله عز وجل لم يشرع التخصيص بذلك. وربما يتوَّهم بعض الناس مشروعية التخصيص بذلك لما ليوم الجمعة من الفضيلة؛ فبيَّن صلى الله عليه وآله وسلم أنَّ فضيلة اليوم لا تقتضي مشروعية تَخصيصِه بجميع العبادات؛ بأن يكون لها فيه أجرٌ أعظم منها في سواه؛ وإنَّما يشرع التخصيص بالعبادة التي شرع الله تعالى التخصيص بها.

فيوم الجمعة بالنسبة إلى قيام ليلته وصيام نهاره بمنزلة يوم الثلاثاء في أنَّ الله عز وجل لم يشرع تخصيص كل منهما بذلك. فمن خصَّص أحدهما

(1)

أخرجه البخاري (903) ومسلم (847) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(2)

في الحديث الذي خرجناه آنفا.

ص: 535

ظانًّا أنَّ أجر ذلك فيه أعظم من غيره فهو مبتدعٌ.

وإنَّما نصَّ النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم على يوم الجمعة لأنَّه مظنَّة أن يتوهَّم الناس فيه زيادة الأجر لفضيلته. ولذلك أكَّد صلى الله عليه وآله وسلم النهي عن صيامه، حتى لمن لم يتعمَّد تخصيصَه التماسًا لزيادة الأجر.

ولم يقل ذلك في يوم الثلاثاء مثلًا؛ فلو صامه أحدنا وحدَه غيرَ متعمِّدٍ للتخصيص، وإنَّما وقع ذلك اتفاقًا، ما كان بذلك بأسٌ.

نعم، لما كان في الأعمال المشروعة في الجمعة ما فيه حظٌّ للنفس شرع الله تعالى للأمة صيام يوم الخميس؛ ليكون الصائم له مستحقًّا لما يكون في يوم الجمعة من حظِّ النفس. ولا ينافي ذلك ما جاء من حكمة استحباب صوم يوم الخميس؛ بأنَّه يومٌ تُعرَض فيه الأعمال

(1)

.

ومن ذلك يوم الاثنين؛ ففي «صحيح مسلم»

(2)

عن أبي قتادة قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن صوم يوم الاثنين؛ فقال: «فيه وُلِدْتُ، وفيه أُنزِل عليَّ» .

فشرع الله تعالى للمسلمين صيام يوم الاثنين؛ شكرًا على هاتين النِّعَمتين العظيمتين: ولادة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وإنزال القرآن عليه

(3)

.

(1)

أخرجه الترمذي (747) من حديث أبي هريرة، وفي سنده محمد بن رفاعة بن ثعلبة القرظي، لم يوثقه غير ابن حبان. ولكن للحديث شواهد منها حديث أسامة بن زيد الذي أخرجه أبو داود (2436) والنسائي (4/ 201، 202)، وبمجموعهما يرتقي الحديث إلى الحسن.

(2)

رقم (1162/ 198).

(3)

في هامش (ص 1) عبارة تناسب السياق المذكور هنا: «ولأنه لو فُتح هذا الباب لآل إلى تعميم الأيام، إذ لم يبقَ غيرُ خمسة أيام، وهي ما عدا الاثنين والخميس، وفي ذلك حرجٌ يؤدي إمّا إلى الاشتغال عن المصالح، وإمَّا إلى التهاون بالجميع» .

ص: 536

وبهذا مع ما تقدّم عُلِمَ الجواب عن طعن بعض أهل الأديان في الإسلام؛ بأنَّه لم يشرع لأهله أن يتّخذوا يوم ولادة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، أو يوم بَعْثِه عيدًا.

وطعن بعضهم في القرون الإسلامية الأولى بذلك؛ لأنَّه لم يحدث الاحتفاء بيوم 12 ربيع الأول إلَاّ في القرن ......

(1)

.

فيقال لهم: إنَّ النِّعْمة كان حدوثها يومَ وُلِد صلى الله عليه وآله وسلم[ص 6]، ويوم بُعِث؛ وأمَّا مثل ذلك اليوم من كل أسبوع، أو شهر، أو فصل، أو سنة= فلا يحدث فيه إلَّا تذكُّر النِّعْمة. وتذكُّر النِّعْمة لا يُحْدِث في النفس سرورًا دنيويًّا، يبعثها على إظهار الزينة حتى ينبغي أن نتّخذه عيدًا، وإنَّما يُحدِث فيها سرورًا دينيًّا يبعثها على شكر تلك النِّعْمة.

وقد شرع الله عز وجل لنا أقرب الأمثال لذلك اليوم، وهو مثله من كل أسبوع؛ أن نقوم بشكره عز وجل على تَينكَ النِّعمتين العظيمتين؛ بعبادةٍ خالصة عن حظِّ النفس، وهي الصيام الذي يناسب السرور الديني، فإن السرور الديني يبعث على الرغبة عن الدنيا.

وقد ذكَّرني هذا الاعتراض ما صحَّ أنَّ اليهود قالوا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: آيةٌ في كتابكم معشرَ المسلمين لو علينا معشرَ اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. فأجابهم الفاروق رضي الله عنه بأنَّها

(1)

بياض في الأصل. ومعلوم أن ابتداء الاحتفال بالمولد كان في القرن السادس على يد السلطان المظفر كوكبوري صاحب إربل، والله المستعان.

ص: 537

نزلت يوم الجمعة يوم عرفة؛ والنَّبي صلى الله عليه وآله وسلم بعرفةَ

(1)

.

يعني: وكلاهما يوم عبادة شرعها الله تعالى للمسلمين، فيوم عرفة يوم شُرِع فيه للحجاج الوقوف بعرفات، وذكر الله تعالى، ولغيرهم الصيام، ويوم الجمعة قد تقدم العبادات التي فيه. والعبادة هي التي ينبغي عملها عند تذكُّر النِّعَم لا الزينة.

وعندي: أنَّ هذا الاعتراض من خُبْثِ المغضوب عليهم ــ قاتلهم الله ــ؛ طمعوا أن يَستزِلُّوا المسلمين إلى إحداثٍ يخالفون به نفس تلك الآية العظيمة؛ فكبَتَهم الله: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب: 25].

ولكن المسلمين ــ ويا للأسف ــ نَسُوا صومَ يوم الاثنين وما في صومه من شكر الله عز وجل، وما يتضمَّن ذلك من محبَّته صلى الله عليه وآله وسلم؛ حتى إنَّ أكثرهم يجهل ذلك. ولم أرَ طولَ عمري من يصومه بتلك النيَّة، ولا مَن يذكره؛ إلَاّ أنني سمعتُ مَن يذكر الحديثَ احتجاجًا على مشروعية الاحتفاء بثاني عشر ربيع الأول؛ فالله المستعان.

فأمَّا صوم يوم عاشوراء فكان من بقايا شرائع الأنبياء المتقدّمين، وجاء: أنَّه اليوم الذي أنجى الله تعالى [فيه] موسى وقومه، وغرَّق فرعون وقومه. فصامه موسى عليه السلام، وأمر بصيامه، وصامه النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأرشد إلى صيامه

(2)

؛ عملًا بقول الله عز وجل: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90].

(1)

أخرجه البخاري (45، 4407) ومسلم (3017) من حديث طارق بن شهاب عن عمر.

(2)

أخرجه البخاري (2004) ومسلم (1130) من حديث ابن عباس.

ص: 538

وقد كانت أيامٌ حدثتْ فيها نِعَمٌ في العهد النبوي، ولم يشرع تخصيص أمثالها بعبادةٍ اكتفاءً عنه بغيرها. وبما أنَّ الله تعالى قد أكمل الدين؛ فليس لأحدٍ إحداثُ شيء من ذلك.

وهكذا الأيام التي حدثت فيها النِّعَم بعد العهد النبوي ليس لأحدٍ تخصيصُ أمثالها بعبادةٍ مخصوصةٍ؛ لأن الدِّين قد كمل في حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ولأنّ كل نعمةٍ عامةٍ للمسلمين حدثَتْ بعده صلى الله عليه وآله وسلم فهي فرعٌ عن النِّعَم التي حدثتْ في عهده عليه الصلاة والسلام.

ومن الباب ــ أعني حدوثَ النِّعْمة في شهرٍ ــ: شهر رمضان، قال الله عز وجل:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]. فالفاء في قوله: {فَمَنْ} للتعليل؛ تدلُّ على أنَّ ما قبلها علّة لما بعدها. ومثلُ (الشهر) إنَّما يحصل في السنة مرّةً، وهذا واضحٌ بحمد الله تعالى.

[ص 7] ومن ذلك: تسع ذي الحجة؛ شرع الله تعالى لغير الحاجّ صيامها، وعدَّه شكرًا له عز وجل على تيسير طريق الحج لإخوانهم، وعلى النِّعَم التي شرع الحج شكرًا لها. وأكَّد لهم صوم يوم عرفة؛ لأنَّه يوم الحج الأكبر. وإخوانهم من جميع بلدان المسلمين قد برز فيهم الاجتماع الحسيّ بأجلى مظاهره؛ وهو رمز إلى اجتماع كلمة المسلمين جميعًا. وتلك من أعظم النِّعَم التي يجب شكرها لغيرهم، والله أعلم.

فأمَّا سبب تخصيص الحج بالأيام من ذي الحجة فلم أستحضر الآن الأصلَ في ذلك؛ إلَاّ أنَّ الاستقراء يدلُّ على أنَّ لذلك سببًا، من جنس ما تقدَّم.

ص: 539

وعلى كل حال، فليس المقصود هنا استيفاء العبادات، وإنَّما المقصود: بيان أن الأيام التي تحدثُ فيها النِّعَم العظام مرَّة من الزمان لا يجعلها الشرع أعيادًا، وإنَّما يجعلها مواسم للعبادات؛ شكرًا على تلك النِّعَم، مع حِكَمٍ أخرى.

أمَّا المقاصد السياسية في الأعياد فأهمها: الاجتماع؛ ليطَّلع كلٌّ من أفراد الأمة على أحوال غيره، ويتبادلوا الأفكار، ويوحدوا صفَّهم، وغير ذلك.

وقد راعتِ الشريعة الإسلامية الاجتماعَ على غاية ما يمكن؛ فشُرِعَت الجماعة في الصلوات الخمس لأهل كل قريةٍ أو محلّةٍ، وشُرِعَ تقليل المساجد وتوسيعُها؛ حتى لا يزيد عددها على قدر الحاجة، فيكون الزائد كمسجد الضرار تفريقًا بين المؤمنين، مع ما في ذلك من تحجير البقعة لغير حاجةٍ، وكان يمكن أن تنفع المسلمين باتخاذها مدرسةً أو نحوها.

وبعض الأئمة يرى أنَّ الجماعة فرض عينٍ؛ بل منهم من جعلها من شروط الصلاة.

ثم شُرِعت الجمعة ليجتمع أهل كل مدينةٍ في مسجدٍ واحدٍ؛ ولذلك لم يُجوِّز بعضُ الأئمة تعدُّد الجمع في البلد الواحد وإن اتّسعَ وضاق المسجد، بل يجب على المسلمين توسيع المسجد ولو إلى أميال. وهذا هو الموافق للسنة، وعمل القرون الأولى مع اتساع المدن وكثرة الناس، وهو الموافق لحكمة الاجتماع.

ثم شُرِع العيد لاجتماعٍ أعمَّ من الجمعة؛ حتى شُرع فيه إخراج النساء؛ صغارًا وكبارًا، حتى الحيَّض ــ كما مرَّ ــ. وبعض الأئمة يرى أن العيد فريضة.

ص: 540

ثم شُرع الحج؛ ليجتمع في موضعٍ واحدٍ جميعُ المسلمين.

هذا هو الأصل؛ على ما تقدَّم. ولكن ــ ويا للأسف ــ المسلمون جهلوا هذه الحِكَم؛ فقليلٌ منهم يجتمعون هذا الاجتماعات المشروعة، والمجتمعون قليلًا ما يبحثون عن مصالحهم. حتى إنَّ الخطب الجُمعية والعيدية والحَجّيَّة تراها بمعزلٍ عن هذا.

وأكثر الحجَّاج لا يبحثون عن شيء من مصالح المسلمين في سائر الأقطار.

اللهم أَيقِظِ المسلمين لتدبُّر دينهم الكافل لمصالح دنياهم وأخراهم، بيدك الخير، وعلى كل شيء قدير

(1)

.

(1)

إلى هنا انتهت الرسالة. وقد كتب المؤلف على صفحة غلافها ما يلي:

ما عليه كثير من الناس [من ذكر] الأيام التي وقعتْ في مثلها بليَّة أو مصيبة؛ كما كان

وكما يفعله النصارى في تذكار صلب المسيح عليه السلام، وأيام قتل الشهداء، وغير ذلك، لا يُعلَم في الإسلام شيءٌ من ذلك.

وسببه أنَّ المشروع عند المصائب الصبر؛ فإذا شرع ذلك في يوم حدوث المصيبة فبالأولى فيما يماثله من الأيام؛ لأنَّه لم يحدُثْ في المثل شيءٌ.

وأمَّا ما سُمِح به يومَ حدوثِ المصيبة من إراقة الدمع؛ فذلك لأنَّه أمرٌ طبيعيٌ، لا يُستطاع دفعُه، ولا يكون هكذا في مثل ذلك اليوم.

وهكذا ما أُمِرتْ به زوجةُ المتوفى من الإحداد فهو أمرٌ خاصٌّ بها لمدَّةٍ معيَّنةٍ، وقد صحَّ النهي عما عدا ذلك.

وإذا تأمّل العاقل وجد أنَّ هذا النوع من الأعياد يُنتِج نقيضَ المقصود؛ ولأننا نرى الأقوام المعتنين بها تكون حالُهم فيها حالَ سرورٍ وفرحٍ، ولهو ولعب؛ إذا استثنينا بعض الحركات التكلُّفية التي أصبحت مظهرًا من مظاهر اللهو واللعب أيضًا، والله المستعان.

ص: 541

الرسالة الثامنة عشرة

توكيل الولي غير المجبر بتزويج موليته

ص: 543

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله على إفضاله، والصلاة والسلام على خاتم أنبيائه، سيّدنا محمد وآله.

وبعدُ، فقد جرت المذاكرة في توكيل الولي غير المجبر بتزويج موليته إذا وقع التوكيل قبل إذنها، فلمّا راجعتُ المظانَّ وجدت الحاجة ماسةً إلى بسطٍ وتحقيق، فأقول مستعينًا بالله سبحانه:

[ص 2] قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: "وإذا جاز للمرأة أن تُوكِّل وليَّينِ جاز للوليِّ الذي لا أمرَ للمرأة معه أن يوكّل، وهذا للأب خاصة في البكر، ولم يجُزْ لوليٍّ غيرٍ هـ

(1)

للمرأة معهم أمرٌ، أن يُوكِّل أبٌ في ثيّب، ولا وليٌّ غيرُ أبٍ، إلا بأن تأذن له أن يوكّل بتزويجها، فيجوز بإذنها". "الأم" (ج 5 ص 14)

(2)

.

وأمّا كلام الأصحاب، فقال الشيخ أبو إسحاق في "المهذَّب":

"ولا يصحُّ التوكيلُ إلا ممّن يملك التصرفَ في الذي يُوكَّل فيه بمِلْكٍ أو ولاية، فأمّا من لا يملك التصرفَ في الذي يُوكَّل فيه ــ كالصبي، والمجنون، والمحجور عليه في المال، والمرأة في النكاح، والفاسق في تزويج ابنته ــ فلا يملك التوكيلَ فيه .... وأمّا من لا يملك التصرف إلا بالإذن كالوكيل والعبد المأذون له، فإنّه لا يملك التوكيل إلا بالإذن. واختلف أصحابنا في

(1)

وقوله "غيره" أي: غير الولي الذي لا أمر للمرأة معه، أو غير الأب في البكر.

(2)

(6/ 43) ط. دار الوفاء.

ص: 545

غير الأب والجد من العصبات هل يملك التوكيل في التزويج من غير إذن المرأة؟ منهم مَنْ قال: يملك؛ لأنّه يملك التزويج بالولاية من جهة الشرع، فيملك التوكيل من غير إذن كالأب والجدّ. ومنهم من قال: لا يملك؛ لأنّه لا يملك التزويج إلا بالإذن، فلا يملك التوكيل إلا بإذن، كالوكيل والعبد المأذون". "المهذب" (ج 1 ص 351)

(1)

.

[ص 3] أقول: مسألة "المهذَّب" في الولي غير المجبر الذي أذنت له بالزواج، ولم تأذنْ له بالتوكيل ولا نهتْه عنه، وهي غير مسألتنا.

وقال الرافعي في "المحرر"

(2)

: "وأمّا غير المجبر فإن نهتْه عن التوكيل لا يُوكِّل، وإن أذنتْ له وَكَّل، وإن قالت له: زوِّجني، فهل له التوكيل؟ فيه وجهان أصحهما نعم. ولا يجوز [له] التوكيل من غير استئذانها في النكاح في أصح الوجهين".

وعبارة "المنهاج"

(3)

: "وغير المُجْبِر إن قالت له وكِّلْ وَكَّلَ، وإن نهتْه فلا، وإن قالت: زوِّجْني فله التوكيل في الأصح، ولو وَكَّل قبل استئذانها لم يصحَّ على الصحيح".

قال الخطيب في "المغني"

(4)

بعد قول "المنهاج": "على الصحيح": المنصوص، يريد نصّ الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، وقد تقدم.

(1)

(3/ 347) تحقيق الزحيلي.

(2)

(ص 293) ط. دار الكتب العلمية.

(3)

"منهاج الطالبين"(2/ 432) ط. دار البشائر.

(4)

"مغني المحتاج"(3/ 158).

ص: 546

وفي "الروض" مع شرحه: (ولغير المجبر) بأن كان غير أب وجدٍّ مطلقًا أو أحدهما في الثيّب (التوكيل) أيضًا، لكن (بعد الإذن له) منها (في النكاح والتوكيل أو في التوكيل فقط) أي: دون النكاح (وكذا في النكاح وحده) أي: دون التوكيل؛ لأنّه تصرّف بالولاية فيتمكن من التوكيل بغير إذن، كالوصيّ والقيّم، هذا (إن لم تنهَه) عن التوكيل، فإن نهتْه عنه لم يوكّل، لأنّها إنّما تزوج بالإذن، ولم تأذن في تزويج الوكيل بل نهتْ عنه، أمّا توكيله بغير إذنها له فلا يصح؛ لأنّه لا يملك التزويج بنفسه. "شرح الروض"(ج 3 ص 135)

(1)

.

ومقابل الأصح في عبارة "المنهاج" هو الوجه الذي صرّح به في "المهذب"، وذكر دليله، وهو موافق لنصّ الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، وإن كان الأصح خلافه عند الأصحاب.

وممّا يوضح ما قلنا ما في "صحيح مسلم"

(2)

وغيره من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنّ النّبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "الثيّب أحقُّ بنفسها من وليّها، والبكر تُستأمر وإذنها سكوتها"، وفي لفظٍ لأبي داود والنسائي وصححه ابن حبّان

(3)

: "ليس للولي مع الثيب أمر، واليتيمة تُستأمر".

[ص 4] وشبهتهم قياس غير المجبر إذا أذنت له بالتزويج على المجبر،

(1)

"أسنى المطالب شرح روض الطالب" ط. مصر 1313 هـ.

(2)

رقم (1421). وأخرجه أيضًا أبو داود (2099) والنسائي (6/ 85).

(3)

انظر: "سنن أبي داود"(2100) و"النسائي"(6/ 85) و"صحيح ابن حبان"(4089).

ص: 547

ويُفرَّق بأنّ المجبر ولايته تامّة بدون إذنها، وغير المجبر إنّما تتمّ ولايته بإذنها، بل لو قيل: إنّه إنّما يستفيد الولاية بإذنها لما كان عجبًا، ألا ترى أنّها لو دَعَتْ إلى كُفْءٍ فقيرٍ مستضعف دميمٍ بصداقٍ قليل، ودعا غير المجبر إلى من هو خير من ذاك كفاءةً وكمالاً وجمالاً ومالاً وجاهًا بصداقٍ أضعافِ ما بذله الآخر لوجب إجابتها، حتى لو لم يُجِب الوليُّ إلى تزويجها بمن رغبتْ فيه عُدَّ عاضلاً فيزوِّجها السلطان، ولو قالت للمجبر: لا توكِّلْ، فوكّل صحّ، ولو أذنت لغير المجبر بالتزويج وقالت: لا توكِّلْ، لم يكن له أن يوكِّل اتفاقًا كما مرّ.

ومنهم من قاسه على الوصي والقيّم، قال في "المغني"

(1)

: "بل هو أولى منهما؛ لأنهما نائبان، وهو ولايته أصلية بالشرع، وإذنها بالتزويج شرط في صحة تصرفه، وقد حصل".

أقول: لك أن تقول: بل الأصل هو إذنها، ولكن يشترط له أن يكون المأذون له أولى العصبات بدليل الحديث المذكور آنفًا وما معه، ثم نقول: يُفرَّق بين الولي وبين الوصيّ والقيم بأنّ الضرورة دعت إلى ذلك في الوصي والقيم، لعدم إمكان الإذن من الصبي ونحوه، ولهذا لو أذنت الصغيرة لوليها غير المجبر أن يزوِّجها لم يعتدّ بإذنها، فأمّا المرأة البالغة العاقلة فإنّ استئذانها في التوكيل ممكن، وإذنها معتدٌّ به شرعًا، بل المدار عليه كما مرّ.

فإن قلت: إنّما قصدوا أنّ الوصي له أن يوكِّل، وإن لم يأذن له الموصي، والقيم له أن يوكِّل وإن لم يأذن له القيّم.

(1)

"مغني المحتاج"(3/ 158).

ص: 548

قلتُ: وعلى هذا أيضًا فبينهما وبين الولي غير المجبر فرق، وهو أنّ عمل الوصي والقيم يكون كثيرًا متشعبًا، تدعو الحاجة إلى أن يستعينا بغيرهما ويُوكِّلاه؛ فلذلك عُدّ سكوت الموصي والقيم عن اشتراط عدم التوكيل بمنزلة الإذن بالتوكيل، ألا ترى أن الوكيل إذا كان العمل كثيرًا لا يستطيع مباشرته، وعَلِمَ الموكِّلُ ذلك عند التوكيل؛ عُدَّ توكيله وسكوته عن المنع عن التوكيل إذنًا بالتوكيل، فأمّا الولي فإنّما هي كلمة واحدة يقولها، وإن فرض أنّه قد يعرض له ما يحوجه إلى التوكيل فذلك نادرٌ، يمكنه حينئذٍ أن يستأذن المرأة في التوكيل، فأمّا الوصيُّ والقيّم فعملهما كثيرٌ كما مرّ، ولا يمكن الوصيَّ استئذانٌ عند عروض الحاجة؛ لأنّه قد مات، وكثيرًا ما يتعسّر الاستئذان من القاضي لبعد مكانه ونحو ذلك بخلاف الوكيل، فإنّ تعسُّر مراجعته للموكل كالنادر، وكذا العبد المأذون له في التجارة، فأمّا احتياج وليِّ المرأة إلى التوكيل فأقلُّ وأندر، وتعسُّر مراجعتها ممّا لا يكاد يقع.

والحاصل أنّ المعنى الذي يدور عليه جواز التوكيل من النائب وعدمه هو كونه يكثر احتياجه إلى التوكيل، وعسر الاستئذان من المنيب، وهذا المعنى موجود في الوصي والقيم، وقليل في الوكيل والعبد المأذون له في التجارة، ونادرٌ جدًّا في ولي النكاح، فإذا منعنا الوكيل والعبد المأذون له في التجارة من التوكيل فوليُّ النكاح أولى، نعم إنّ له ولايةً شرعية، ولكنّه لا يملك بها الأمر الذي يريد أن يوكل به وهو العقد، وإنّما ملكه بإذنها، والله أعلم، على أنّ في الوصي والقيم خلافًا، والذي اختاره محمد رملي أنّه ليس لهما أن يوكلا إلا فيما عجزا عنه أو لم تلق بهما مباشرته.

واعلم أنّ من قال: ليس لغير المجبر التوكيل حتى يأذن له به، ولا يكفي

ص: 549

إذنها له بالتزويج، يقول: إنّه لو وكَّل قبل إذنها بالتوكيل وبعد إذنها بالتزويج كانت الوكالة باطلة، ولو عقد الوكيل كان عقدُه باطلاً، كما يُعلَم من تمثيلهم له بالوكيل والعبد المأذون، وتوكيلهما بدون إذن الموكل والسيد باطلٌ، وتصرُّف من وكَّلاه باطلٌ.

وممّا يبيِّن أنّ الشيخ رحمه الله ذكر مسألة الولي في الفصل المتقدم الذي لم يذكر فيه إلا من كان توكيله باطلاً، وتصرف وكيله باطلاً، فأمّا "المحرّر" و"المنهاج" فإنهما زادا المُحرِمَ في النكاح

(1)

، ولكن بيَّن الشرَّاح أنّ المراد المحرم الذي وكَّل ليعقد الوكيل حال الإحرام، وهذا التوكيل باطلٌ، ولو عقد الوكيل كان العقد باطلاً، والله أعلم.

فأمّا غير المجبر فللقائل بجواز توكيله قبل إذنها أن يتمسّك بشُبهٍ:

الشبهة الأولى:

قد يقال: إنّما تُبطِلون توكيله؛ لأنّه لا يملك تزويجها حينئذٍ، ويجاب عنه: بأنّه من المتفق عليه أنّ الولي غير المجبر وليٌّ قبل إذنها، أي: أنّ له ولايةً شرعية ثابتة، سواءً أحبَّتْ ذلك أم كرهتْ، فلِمَ لا يكون له أن يجعل للوكيل مثل ما له من تلك الولاية؟

الجواب من وجوه:

الأول: أنّ المقصود من الولاية إنّما هو تولّي العقد، والولاية المذكورة لا تُسوِّغ الوليَّ تولي العقد أصلاً، فهي كالعدم، ولو دعت إلى كفءٍ وأبى الوليُّ زوَّجَها السلطان.

(1)

انظر "المحرر"(ص 195) و"منهاج الطالبين"(2/ 159).

ص: 550

الثاني: أنّه لمّا كان المقصود من الولاية تولي العقد فهو ثمرتها، والولي قبل إذنها لا يستحق [ص 5] الثمرة، فلا يؤثّر رضاه بجعلها لآخر، كالوصية بأكثر من الثلث توقف على إجازة الورثة بعد موت المُورِث، فلو أجازوا والمورِث في الغرغرة كانت إجازتهم لغوًا، مع أنّه في مرض الموت قد صار لهم اختصاص ما بالتركة، ولكن هذا الاختصاص إنّما يتم بالموت، فكذلك الولي له اختصاصٌ ما، ولا يتمّ إلا بإذنها.

الثالث: أنّ الوكالة إنّما شُرِعت لينوب الوكيل عن الموكِّل في فِعلٍ يفعله، ولذلك عرَّفها الفقهاء كما في "التحفة"

(1)

بأنها تفويضُ شخص لغيره ما يفعله عنه في حياته ممّا يقبل النيابة، ولهذا يقال في الصيغة: وكَّلتُك بتزويجها أو نحو ذلك، ولا يقال: وكَّلتك بأن تكون وليًّا أو نحوه، وولاية غير المجبر قبل إذنها لا يترتب عليها وحدها فعلٌ حتّى يصحّ التوكيل، فتدبَّر.

فإن قيل: فقد نصُّوا على أنّه لو نجَّز الوكالة وشرطَ للتصرف شرطًا جاز، وعبارة "المنهاج"

(2)

: "فإن نجَّزها وشَرط للتصرّف شرطًا جاز". وعليه فلو قال المجبر: وكَّلتك بتزويجها ولا تَعقِد إلا بإذنها صحّ، مع أنّ الحقّ الذي جعله له لا يترتب عليه وحده فعلٌ، فمسألة توكيل غير المجبر قبل إذنها نظير هذه.

فالجواب من وجهين:

الأول: أنّ في صحة توكيل المجبر على الصفة المذكورة نظرًا، وفي

(1)

"تحفة المحتاج"(5/ 294).

(2)

"منهاج الطالبين"(2/ 165).

ص: 551

الإيصاء من "شرح الروض"

(1)

: "قال العبادي .... فإن قال له: لا تعمل إلا بأمر فلانٍ أو إلا بعلمه أو إلا بحضرته فليس له الانفراد؛ لأنّهما وصيّان". وصححه الشهاب الرملي كما في الحاشية. وعليه فلو قال في الوكالة: وكَّلتك بكذا ولا تتصرف إلا بإذن فلانٍ كانا وكيلين، وهما بمنزلة الوكيل الواحد، ويشترط في كلٍّ منهما شروط الوكيل، والمرأة لا تكون وكيلةً في عقد النكاح، ولاسيّما لنفسها، واشتراطُ إذنها توكيل لها، فهو باطل، فتبطل الوكالة من أصلها.

وفي "الروض"

(2)

: "ولو وكَّل حلالٌ مُحرِمًا ليُوكِّل حلالاً في التزويج جاز". قال في الشرح: لأنّه سفير محض، نعم إن قال له: وكِّل عن نفسك، قال الزركشي: ينبغي أن لا يصحّ قطعًا، كما ذكروا مثله فيما إذا وكَّل الوليُّ المرأةَ لتُوكِّل عن نفسها من يزوِّجها. انتهى".

فإن قيل: إنه إن سُلّم في مسألتنا أنّها وكيلة، فإنما وكَّلها في الإذن.

قلت: هذا قريب، وعليه فهما وكيلان، هي في الإذن والرجل في العقد، فتركبت من وكالتهما وكالة صحيحة، ولكن لا يأتي مثله في غير المجبر؛ لأنّ الإذن ليس إليه حتى يوكِّلها فيه. والله أعلم.

وعلى كل حالٍ فقولهم: "فإن نجزها وشرط للتصرف شرطًا جاز" محلّه [ص 6] في شرط لا يعود على الوكالة بالبطلان.

وعلى فرض صحة توكيل المجبر مع قوله: ولا تَعقِد إلا بإذنها، فالفرق بينها وبين غير المجبر إذا وكَّل قبل إذنها، وشرطُ إذنها ما قدمناه، أنّ قول المجبر "ولا تعقد إلا بإذنها" توكيلٌ منه لها في الإذن مع توكيله للرجل في

(1)

"أسنى المطالب شرح روض الطالب"(3/ 71).

(2)

المصدر السابق (3/ 133).

ص: 552

العقد، فتركبت من وكالتهما وكالة صحيحة. وأمّا غير المجبر فإنه لا يملك العقد ولا الإذن، فكيف يوكّل فيهما؟ وأيضًا ولاية المجبر تامة؛ لأنّه يملك التزويج حين وكّل، فصحت وكالته وإن شرط الشرط المذكور، بخلاف غير المجبر فإن ولايته ناقصة، فلم يُغتفر فيها ذلك.

والحاصل أنّ ولاية المجبر تامة لا نقصَ فيها، وإنّما النقص فيما جعله للوكيل من الحقّ، وأمّا غير المجبر فولايته ناقصة، والحقّ الذي جعله للوكيل ناقص، والله أعلم.

الشبهة الثانية:

قد يقال: إنّ عبارة "المنهاج" السابقة آنفًا تشمل مسألتنا؛ لأنّ غير المجبر إذا قال قبلَ إذنها: وكَّلتُك أن تُزوِّجها إذا أذنتْ، فقد نجز الوكالة وشرط للتصرّف إذنها، وإذنُها شرطٌ شرعي.

الجواب:

مرادهم بالشرط في عبارة "المنهاج" ونظائرها الشرط الجعلي، أعني الذي يجعله الموكِّل من عنده لا الشرط الشرعي، للعلم بأن الشرط الشرعي شرطٌ لملك الموكل لصحة المباشرة، وقد نصُّوا على أنّ الملك المذكور شرطٌ لصحة الوكالة، كما تقدّم أوّلَ هذه الرسالة في عبارة "المهذب"، وستأتي عبارات غيره إن شاء الله تعالى.

وممّا يدلُّك على أنّ مرادهم ما ذُكِر قول الشيخ في "المهذب": "وإن عقد الوكالة في الحال، وعلّق التصرف على شرطٍ بأن قال: وكَّلتك أن تُطلِّق امرأتي أو تبيع مالي بعد شهرٍ، صحَّ". "المهذب"(ج 1 ص 352)

(1)

. فمثّلها

(1)

"المهذب"(1/ 357) ط. دار المعرفة.

ص: 553

بمثال يكون فيه الموكّل مالكًا للمحلّ، وإنّما شرط شرطًا جعليًّا، وذلك أنّه حالَ التوكيل المرأةُ امرأتُه يَملِك أن يطلِّقها، [ص 7] وكذلك المال ماله يملك بيعه حينئذٍ؛ ولذلك صحّ منه عقد الوكالة في الحال، وإنّما علَّق التصرف بشرطٍ جعلي وهو قوله: بعد شهر.

ومثَّل في "شرح الروض"

(1)

بقوله: "وكَّلتك ببيع عبدي، وبِعْه بعد شهر"، ومثله في "المغني"

(2)

، ولفظ المحلِّي

(3)

: "نحو وكَّلتك الآن في بيع هذا العبد، ولكن لا تبِعْه حتى يجيء رأسُ الشهر". وفي "شرح المنهج"

(4)

: "نحو وكَّلتُك الآن في بيع كذا، ولا تَبِعْه حتى يجيء رجب". وعبارة "التحفة"

(5)

و"النهاية"

(6)

: "كوكَّلتك الآن ببيع هذا، ولكن لا تبِعْه إلا بعد شهر"، لكن قال في "التحفة" ما يأتي، وهي:

الشبهة الثالثة:

قال في "التحفة"

(7)

بعد ما مرّ: "وبذلك يُعلم أن من قال لآخر قبل رمضان: وكَّلتك في إخراج فطرتي وأخرِجْها في رمضان صحَّ؛ لأنّه نجز الوكالة، وإنّما قيّدها بما قيَّدها به الشارع، فهو كقول مُحرِم: زَوِّجْ بنتي إذا

(1)

"أسنى المطالب"(2/ 266).

(2)

"مغني المحتاج"(2/ 223).

(3)

"شرح المحلِّي على منهاج الطالبين"(2/ 341).

(4)

"فتح الوهاب شرح منهاج الطلاب"(3/ 407).

(5)

"تحفة المحتاج"(5/ 312).

(6)

"نهاية المحتاج"(5/ 29).

(7)

"تحفة المحتاج"(5/ 312).

ص: 554

حللتُ، وقول وليٍّ: زَوِّجْ بنتي إذا طُلِّقتْ وانقضتْ عدتها".

فيقال: دلّت عبارة "التحفة" على أنّ الشرط في عبارة "المنهاج" السالفة ونظائرها أريد به ما هو أعمُّ من الشرط الجعلي والشرط الشرعي، فعلى هذا يشمل مسألتنا.

الجواب:

هذه دعوى من ابن حجر يردُّها نصوصهم على أنّه لا يصحّ التوكيل إلاّ ممّن يملك التصرف في الذي يوكَّل فيه بملكٍ أو ولاية، كما تقدّم أولَ هذه الرسالة عن "المهذب".

[ص 8] وفي "الروض"

(1)

: "الأوّل ما يجوز فيه التوكيل، وله شروط:

الأول: الملك، فلا يصح في طلاق من سينكحها وتزويج من ستنقضي عدتها، ونحوه".

وفي "المحرر"

(2)

: "وفي الموكَّل فيه أن يملِكه الموكِّل، فأظهر الوجهين أنّه لا يجوز أن يُوكِّل ببيع عبدٍ سيملكه، وطلاقِ زوجة سينكحها".

وفي "المنهاج" مع المحلّي

(3)

: " (وشرط الموكَّل فيه أن يملكه الموكِّل) حين التوكيل (فلو وكّله ببيع عبدٍ سيملكه وطلاقِ من سينكحها بطل في الأصح) لأنّه لا يتمكن من مباشرة ذلك بنفسه، فكيف يستنيب فيه غيره".

(1)

"أسنى المطالب شرح روض الطالب"(2/ 260).

(2)

"المحرر"(ص 195).

(3)

"منهاج الطالبين"(2/ 161) و"شرح المحلّي"(2/ 338).

ص: 555

ونحوه في "المغني"

(1)

و"التحفة"

(2)

و"النهاية"

(3)

، وعبارة "المنهج" مع شرحه

(4)

: " (و) شرط (في الموكَّل فيه أن يملِكه الموكِّل) حين التوكيل (فلا يصح) التوكيل (في بيع ما سيملكه وطلاق من سينكحها) لأنّه إذا لم يباشر ذلك بنفسه فكيف يستنيب غيره".

فهذه النصوص ونحوها تبيِّن ما قلناه: إنّ مرادهم بالشرط في قولهم: "فإن نجَّزها وشرط للتصرف شرطًا جاز" إنّما هو الشرط الجعلي، وتمثيلهم سلفًا وخلفًا يشهد لذلك، وقد حكى في "النهاية" كلام ابن حجر ثم قال

(5)

: "والأقرب إلى كلامهم عدم الصحة؛ إذ كلُّ من الموكِّل والوكيل لا يملِك ذلك عن نفسه حال التوكيل".

نعم، وافق على صحة التصرف بناءً على ما فهموه في مسألة التعليق، وسيأتي بيان وهمهم فيها إن شاء الله تعالى، ويأتي هناك الكلام على مسألة: زوِّجْ بنتي إذا طلقتْ وانقضتْ عدتها، ومسألة المحرم ستأتي قريبًا.

[ص 9] هذا، ولو سلّمنا صحة الوكالة في مسألة الفطرة كما قال في "التحفة"، أو صحة الأداء على ما وافق عليه في "النهاية"، فبينها وبين توكيل الولي غير المجبر قبل إذنها فرقٌ من وجوه:

الأول: ما اشتهر بينهم أنّه يُحتاط للأبضاع ما لا يحتاط لغيرها.

(1)

"مغني المحتاج"(2/ 219).

(2)

"تحفة المحتاج"(5/ 301).

(3)

"نهاية المحتاج"(5/ 21).

(4)

"فتح الوهاب شرح منهج الطلاب"(3/ 403).

(5)

"نهاية المحتاج"(5/ 29).

ص: 556

الثاني: أنّ التوكيل في أداء الفطرة ليس فيه افتياتٌ على أحد، وتوكيل غير المجبر قبل إذنها فيه افتياتٌ عليها، وقد قال جماعة من أصحابنا: إنّها إذا أذنت له بتزويجها ولم تتعرّض لنهيه عن التوكيل ولا الإذن له به، أنّه ليس له أن يوكل، وقد مضت هذه المسألة بما لها وعليها، وبيّنا أنّ دليلها قويٌّ، وأنّ المنع هو الموافق لنصّ الإمام الشافعي رحمه الله تعالى.

الثالث: أنّ أداء الفطرة عبادة يتشوّف إليها الشارع كالعتق والوقف، فيحتمل أن يُسامح فيها ما لا يسامح في غيرها.

الرّابع: أنّ أداء الفطرة أمرٌ هيّن لا يترتب عليه أمرٌ عظيم له خطر، بخلاف التزويج.

الخامس: أنّ أداء الوكيل لفطرة الموكِّل يبعد أن يندم عليه الموكِّل، بخلاف التزويج، فيمكن أن يندم، فيحتاط للتوكيل بالتزويج بأن لا يلزم الموكّل به إلاّ إذا وكّل وهو تام الولاية، كما في الوصية لغير الوارث، حيث لم تُعتبر [ص 10] إجازة سائر الورثة في حياة المُورِث ولو عند الغرغرة، وإنّما تعتبر إذا وقعت بعد موته حيث يصير الحقُّ كله للورثة.

الشبهة الرابعة:

في "الروض"

(1)

: "فرعٌ: لو أحرم وكيل النكاح أو موكِّله أو المرأة لم ينعزل، فلا يزوِّج قبل تحلُّله وتحلُّلِ موكِّله، ولو وكَّله مُحرِمًا أو أذنت وهي مُحرِمة صحّ، لا إن شرط العقد في الإحرام". قال في الشرح

(2)

بعد قوله:

(1)

"أسنى المطالب شرح روض الطالب"(3/ 133).

(2)

المصدر نفسه.

ص: 557

"صح": "سواء أقال: لتزوّج بعد التحلل أم أطلق".

فيقال: كما صحّ توكيل المحرم وهو لا يملك التزويج، فليصح توكيل غير المجبر قبل الإذن.

الجواب:

بينهما فرقٌ من وجوه:

الأوّل: أنّ ولاية المحرِم تامّة، والإحرام مانع فقط، وولاية غير المجبر ناقصة، وإذنها جزء أو شرط، وقد قال الإمام الرازي

(1)

: إنّ المناسبة لا تنخرم بوجود المانع، بل يبقى المقتضي تامًّا، وإنّما يتخلَّف الحكم لوجود المانع، فأمّا فقد الجزء والشرط فلا نزاع أنّ المقتضي لا يتمّ بدونهما.

بل قد تقدّم قُبيل الشبهة الأولى أنّ ولاية غير المجبر قبل إذنها بغاية الضعف، فارجع إليه.

الوجه الثاني: أن منع المُحرِم من العقد ليس لخللٍ في أصل النكاح والمقصودِ منه، وإنّما هو لاحترام النسك، والتوكيلُ لا يُشعِر بعدم الاحترام، بل نقول: إنّ منع المحرم من العقد ليس لمفسدةٍ ذاتية، وإنّما هو سدٌّ لذريعة الجماع في الإحرام. وأما منع غير المجبر من العقد قبل إذنها فإنّه لِما يُخشى من عقده أن يُخِلّ بمقصود النكاح من الألفة والمودَّة والرحمة بأن يزوِّجها من لا تهواه، ويَحرِمَها من تهواه؛ ولأنّ في ذلك افتياتًا عليها. وإذا كان الشارع قد نهى المجبر أن يزوِّجها حتى يستأمرها، فما بالك بغيره؟

(1)

المسألة موجودة في كتب الأصول ونصُّوا فيها على قول الإمام الرازي ومخالفتهم له في انخرام المناسبة بوجود مانع.

ص: 558

[ص 11] هذا مع وفور شفقة المجبر ورحمته ومعرفته، وأنّ نظره لها خيرٌ لها من نظرها لنفسها، وتوكيل غير المجبر قبل إذنها لا يخلو من افتيات عليها، كما مرّ في الوجه الثاني من وجوه الفرق بين مسألتنا ومسألة الفطرة، فارجع إليه.

الوجه الثالث: أنّ انقضاء الإحرام كالمقطوع بحصوله قريبًا، وإذنها ليس كذلك.

الوجه الرابع: أنّ كون الإحرام مانعًا من العقد فيه خلافٌ بين الأمة، وإذن غير المجبرة لا بدّ منه إجماعًا.

الوجه الخامس: سيأتي عن ابن حجر في مسألة التعليق ما معناه: أنّه لو أشار المجبر أو المأذون له بالتزويج إلى بنته المعتدّة، وقال: وكَّلتك بتزويج هذه، كان هذا لغوًا، لا يصحّ التوكيل ولا العقد ولو بعد العدّة، وزعم أنّه لو قال: وكَّلتك بتزويجها بعد انقضاء عدتها فسد التوكيل، وصحّ العقد إن وقع بعد انقضاء العدة. مع قوله كغيره في مسألة المحرم

(1)

: "لو قال: وكلتك بالتزويج، ولم يقل حالَ الإحرام ولا بعده، صحّ التوكيل والعقد إذا وقع بعد الإحرام". فهذا يدلُّك على أنّ مانعية الإحرام ضعيفة، كما قدّمناه، والله أعلم.

تنبيه: بعض هذه الفروق يأتي مثله بين مسألة المحرم ومسألة الفطرة، والله أعلم.

(1)

انظر "تحفة المحتاج" مع حواشيه (7/ 257) و"حاشية القليوبي على شرح المحلّي"(2/ 337).

ص: 559

[ص 12] الشبهة الخامسة:

أن يقال: النصوص المتقدمة إنّما تفيد بطلان الوكالة، وذلك لا يستلزم بطلان عقد الوكيل، وقد قال الشيخ في "المهذب": "فصلٌ: ولا يجوز تعليق الوكالة على شرط مستقبل

فإن علَّقها على شرط مستقبل ووجد الشرط وتصرف الوكيل صحّ التصرف؛ لأنّ مع فساد العقد الإذن قائم، فيكون تصرفه بإذن، فصحّ

وإن عقد الوكالة في الحال، وعلّق التصرف على شرطٍ بأن قال: وكَّلتك أن تطلّق امرأتي أو تبيع مالي بعد شهرٍ، صحّ؛ لأنّه لم يعلِّق العقد على شرط، وإنّما علّق التصرف على شرطٍ، فلم يمنع صحة العقد". "المهذب" (ج 1 ص 352)

(1)

.

وعبارة "المحرر"

(2)

: "ولا يجوز تعليق الوكالة بالشروط على أظهر الوجهين، ويجوز أن ينجزها ويشترط للتصرف شرطًا".

وفي "المنهاج"

(3)

: "ولا يصح تعليقها بشرطٍ في الأصح".

وفي "الروض" مع شرحه: " (ولو علّقها بشرطٍ) كقوله: إذا قدم زيدٌ أو جاء رأس الشهر فقد وكَّلتك بكذا، أو فأنت وكيلي فيه (بطلت) للشرط. (ونفذ تصرف صادف الإذن) فينفذ تصرفه في ذلك عند وجود الشرط إلا أن يكون الإذن فاسدًا

وشمِلَ كلامهم النكاحَ، فينفذ بعد وجود [ص 13] الشرط في نحو: إذا انقضت عدة بنتي فقد وكَّلتك بتزويجها، بخلاف نحو: وكَّلتك بتزويجها ثم انقضت عدتها". "شرح الروض" (ج 2 ص 266).

(1)

(1/ 357) ط. دار المعرفة.

(2)

"المحرر"(ص 196).

(3)

"منهاج الطالبين"(2/ 165).

ص: 560

وهذه الشبهة باطلة لوجوه:

الأول: أنّ صحة التصرف مع بطلان الوكالة خاصٌّ بما إذا كان الإذن صحيحًا كما مرّ في عبارة "شرح الروض"، وذلك خاص بالوكالة التي لا يكون فيها نقصٌ ما إلا التعليق، كقوله: إذا جاء رأس الشهر فقد وكلتك أن تبيع عبدي هذا. وسيأتي تحقيق ذلك في جواب الشبهة السادسة إن شاء الله تعالى.

الوجه الثاني: أنّ الفرق بين الوكالة الصحيحة والوكالة الفاسدة التي يصح معها التصرف لم يذكروا له ثمرةً إلا أنّه إذا سمّى للوكيل جُعلاً يبطُل المسمَّى وتثبت أجرة المثل. وهذه الفائدة إن اعتني بمراعاتها ففي باب الوكالة، فأمّا باب النكاح فإنّما يعتني بذكر الوكالة التي لها مساس بصحته، فإذا قالوا في باب النكاح: لا تصح الوكالة بكذا، لم يجز حمل كلامهم إلا على أنّ النكاح لا يصح بها.

ونصُّ الإمام الشافعي الذي قدّمناه إنّما ذكره في النكاح، [ص 14] وكذلك النصوص التي ذكرناها بعده من "المحرر" و"المنهاج" و"الروض"، فأمّا "المهذّب" فإنّ نصّه المتقدم عقب نص الشافعي هو في الوكالة، ولكن فيه دلالة أخرى تمنع احتماله لهذه الشبهة كما سيأتي.

الوجه الثالث: ولهذا المعنى الذي ذكرناه في الوجه الثاني فسّر ابن حجر والرملي في شرحيهما على "المنهاج" الضمير المستتر في "يصح" بالنكاح، ولفظهما مع "المنهاج"

(1)

: " .... (لم يصح) النكاح (على الصحيح) ".

(1)

"تحفة المحتاج"(7/ 264) و"نهاية المحتاج"(6/ 244).

ص: 561

فأمّا المحلي

(1)

والخطيب

(2)

فإنهما ذكرا التوكيل بدل النكاح، وكأنهما وثقا بأنّ المسألة حيث كانت في باب النكاح فلا بدّ أن يُفهم من بطلان التوكيل بطلان النكاح، ولكن صنيع "التحفة" و"النهاية" أجود.

الوجه الرابع: أنّ من ذكر هذه المسألة في الوكالة ذكرها مع الأشياء التي تبطل معها الوكالة أصلاً، أي: بحيث إذا تصرف الوكيل كان تصرّفه باطلاً، كما تراه في عبارة "المهذب" المتقدمة عقب نصّ الشافعي رحمه الله تعالى، فإنه ذكرها مع الصبيّ والمجنون والمحجور عليه في المال والمرأة في عقد النكاح، والوكيل والعبد المأذون إذا لم يؤذن لهما بالتوكيل، [ص 15] وهؤلاء كلهم لا تصح وكالتهم، ولا ينعقد تصرف الوكيل.

الوجه الخامس: أنّ الشيخ ذكر أنّ من قال ببطلان توكيل الولي غير المجبر المأذون له بالزواج دون التوكيل، من حجته القياس على الوكيل والعبد المأذون له، ومعلوم أنّ توكيل هذين بدون إذن باطلٌ، ولا ينعقد تصرف من وكّلاه، فكذا يقال في المسألتين المقيسة عليهما كما مرّ، وأولى منها مسألتنا.

الشبهة السادسة:

أن يقال: قال في "التحفة" بعد قول "المنهاج"

(3)

: "فلو وكّله ببيع عبدٍ سيملكه وطلاق من سينكحها بطل في الأصح" ما لفظه

(4)

: "

وكذا لو

(1)

"شرح المحلِّي"(3/ 229).

(2)

"مغني المحتاج"(3/ 158).

(3)

"منهاج الطالبين"(2/ 161).

(4)

"تحفة المحتاج"(5/ 301 - 302).

ص: 562

وكّل من يزوِّج موليته إذا انقضت عدتها أو طلقت، على ما قالاه هنا، واعتمده الإسنوي، لكن رجّح في "الروضة" في النكاح الصحة".

ونحوه في "النهاية"

(1)

، قال علي شبراملسي في حواشيه

(2)

: "قوله: (على ما قالاه) ضعيفٌ".

فيقال: إنّ هذه المرأة تكون غير مجبرة؛ لأنّها قد تزوجت، ومع ذلك لم يذكر اشتراط أن تكون قد أذنت، فهو شاملٌ لمسألتنا.

[ص 16] الجواب:

أولاً: هذا الوجه الذي رجحه في النكاح من "الروضة" قد جزم بخلافه هو، وأصله في الوكالة منها كما علمت، وقد اعتمد الإسنوي عدم الصحة، وكذا الخطيب في "المغني"

(3)

، والرملي في "النهاية"

(4)

، ووالده في فتاواه كما في "النهاية"

(5)

، وأمّا ابن حجر فميله إلى الصحة بشرط أن يكون في الصيغة تعليق ولو ضمنًا، كما سيأتي نقله في جواب الشبهة التاسعة.

والعجبُ منه أنّه استند في ذلك إلى القياس على صورةٍ ذكرها الإسنوي كما سيأتي، وخالف في ذلك نصّ الإسنوي نفسه.

ثانيًا: دعوى أنّ هذه المرأة تكون غير مجبرة؛ لأنها قد تزوجت خطأً

(1)

"نهاية المحتاج"(5/ 21).

(2)

بهامش "النهاية"(5/ 21).

(3)

"مغني المحتاج"(2/ 219).

(4)

"نهاية المحتاج"(5/ 21).

(5)

المصدر السابق.

ص: 563

لاحتمال أن يكون الوليُّ أبًا أو جدًّا، وتكون بكرًا لم يدخل بها زوجها حتى طلقها، فيحلّ زواجها عقب الطلاق، أو مات عنها فعليها عدة الوفاة.

فقوله: "إذا انقضت عدتها" موجَّه إلى الثاني، وقوله:"أو طلقت" موجَّه إلى الأول.

وممّا يدلُّ على أنّ المسألة مفروضة في المجبرة أنّ الخطيب في "المغني"

(1)

ذكرها بلفظ: "وتزويج بنته إذا انقضت عدتها أو طلقها زوجها".

[ص 17] وفي "النهاية"

(2)

ما يدلّ على أنّ المسألة منقولة في النكاح من "الروضة" عن "فتاوي البغوي"، وذكر نصّ عبارة البغوي وهي:"كما لو قال الوليُّ للوكيل: زوِّج بنتي إذا فارقها زوجها أو انقضت عدتها".

وفي "التحفة"

(3)

في الكلام على مسألة التعليق: "أو بتزويج بنته إذا طلقت وانقضت عدتها".

وقد يُظَنّ أن الصواب "أو انقضت عدتها" كما ذكره نفسه فيما مرّ، وكما ذكره غير هـ، وأنّ الألف سقط قبل الواو من تحريف النساخ، ولكن في سياق عبارته ما يفيد أنّه بنى على العطف بالواو، وعليه فيمتنع فرض المسألة في المجبرة، ولكن يمكن فرضها في غير المجبرة إذا سبق منها الإذنُ لوليها بأن يزوِّجها، فإنّ إذنها حينئذٍ صحيحٌ عند القائل بصحة وكالة الوليّ على الوجه

(1)

"مغني المحتاج"(2/ 219).

(2)

"نهاية المحتاج"(5/ 21).

(3)

"تحفة المحتاج"(5/ 311).

ص: 564

المذكور، بل وأفتى الشهاب الرملي بصحة إذنها مع إفتائه ببطلان الوكالة، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

وإذ قد أمكن فرض المسألة المذكورة في المجبرة أو في الإذن مع إشعار القرائن بذلك، فقد سقطت الشبهة في التمسك بها:

أولاً: تنزيهًا للأصحاب عن مخالفة نص الإمام.

ثانيًا: تقييدًا لنصّ من نصَّ على هذه المسألة ببقيّة [ص 18] نصوصهم التي قدّمنا بعضها، هذا مع أنّ المسألة في نفسها ضعيفة كما مرّ.

الشبهة السابعة:

أن يقال: سلَّمنا أنّ المسألة السابقة مفروضة في المجبرة أو الآذنة، ولكنّا نقول: إذا صحّ توكيل الأب بزواج ابنته وهي مزوّجة أو معتدّة فلْيصحَّ توكيله وهي ثيّب خلية قبل إذنها من باب أولى؛ لأنّ كونها مزوَّجة أو معتدّة أشدُّ في منع صحة تزويجها من كونها لم تأذن، بدليل أن عدم الإذن لا يكون مانعًا في المجبرة، وأمّا كونها مزوّجة أو معتدّة فإنه مانعٌ مطلقًا.

والجواب من وجهين:

الأول: أنّ المسألة المذكورة ضعيفة كما مرّ، فلا يفيد القياس عليها.

والثاني: أنّ ولاية المجبر والمأذون له تامّة، وولاية غيرهما ناقصة إلى حدٍّ كأنها معدومة كما تقدم.

فأمّا كونها مزوَّجة أو معتدَّة فإنّما ذلك مانعٌ كالإحرام، فارجع إلى جواب الشبهة الرابعة.

ص: 565

الشبهة الثامنة:

أن يقال: قد نقل الشيخان في "الروضة" وأصلِها صحةَ إذن المرأة لوليّها أن يزوِّجها إذا انقضت عدتها أو طلقت، وأقرَّاه، وأفتى به الشهاب [ص 19] الرملي كما ذكره ولده في "النهاية"، وإذا صحّ ذلك فلْيصحَّ توكيله الوليَّ وهي مزوّجة أو معتدّة، ثم تقاس عليه مسألتنا.

الجوابُ: يُعلَم ممّا تقدم في جواب الشبهة السابعة، ومع ذلك فبين المسألتين فرقٌ، وهو أنّ لولاية الوليّ أصلاً شرعيًّا، وإنّما يحتاج إلى الإذن تكميلاً للولاية. وأمّا الوكيل فإنّه إنّما يستفيد الحقَّ من الوكالة، فلا غروَ أن يُكتفَى في الأول بما لا يُكتفَى به في الثاني.

وفي "النهاية"

(1)

عن والده الشهاب الرملي ما لفظه: "والفرق بينهما أن تزويج الولي بالولاية الشرعية، وتزويج الوكيل بالولاية الجعلية، وظاهرٌ أنّ الأولى أقوى، فيُكتفى فيها بما لا يُكتفى به في الثانية، وأن باب الإذن أوسع من باب الوكالة".

وقال ابن حجر في النكاح من "التحفة"

(2)

: "وعليه فالفرق بينها وبين وليّها أنّ إذنها جعليٌّ وإذنه شرعي، أي: استفاده من جهة جعل الشرع له ــ بعد إذنها ــ وليًّا شرعيًّا، والجعلي أقوى من الشرعي كما مرّ في الرهن".

أقول: ومع هذا فالحق ما جزم به في "التحفة" في باب الوكالة من

(1)

"نهاية المحتاج"(5/ 21).

(2)

"تحفة المحتاج"(7/ 265).

ص: 566

بطلان إذن المزوَّجة أو المعتدَّة، وقد نصّ الله تعالى في كتابه على النهي عن التصريح بخِطْبة المعتدّة، وإن لم يكن استئذانها وإذنها أشدَّ من التصريح بالخِطْبة فما هو بدونه، فأمّا المزوَّجة فالأمر فيها أشدُّ، ومحاسنُ الشريعة تقتضي سدّ هذا الباب كما لا يخفى، والله أعلم.

الشبهة التاسعة:

قد يقال: أمّا إذا قال غير المجبر قبل إذنها: وكَّلتك أن تزوِّج أختي مثلاً، فلا شكّ في بطلان الوكالة وعدم صحة النكاح لو أنكح الوكيل، ولكن إذا علّق بإذنها كأن قال: إذا أَذِنَت أختي بالنكاح فقد وكَّلتك في تزويجها أو نحو ذلك، فإنها تفسد الوكالة، ويصح النكاح لشمول نصوصهم في تعليق الوكالة لذلك. وقد تقدّم نصُّ "المهذّب" ونصُّ "الروض" مع شرحه مع قول الشرح:"وشمِلَ كلامهم النكاحَ إلخ".

وفي "التحفة"

(1)

عقب قول "المنهاج"

(2)

: "فلو وكَّله ببيع عبدٍ سيملكه وطلاقِ من سينكحها بطل في الأصح" ما لفظه: "لأنّه لا ولاية له حينئذٍ. وكذا لو وكّل من يزوِّج موليته إذا انقضت عدتها أو طلقت على ما قالاه هنا، واعتمده الإسنوي. لكن رجّح في "الروضة" في النكاح الصحةَ. وكذا لو قالت له وهي في نكاح أو عدّة: أَذِنتُ لك في تزويجي إذا حللتُ، ولو علّق ذلك ــ ولو ضمنًا، كما يأتي تحقيقه ــ على الانقضاء أو الطلاق، فَسَدت الوكالة، ونفذ التزويج للإذن".

(1)

"تحفة المحتاج"(5/ 301 - 302).

(2)

"منهاج الطالبين"(2/ 161).

ص: 567

ثم قال بعد قول "المنهاج"

(1)

: "ولا يصح تعليقها بشرطٍ في الأصح" ما لفظُه: "فلو تصرَّف بعد وجود الشرط، كأن وكَّله بطلاق زوجةٍ سينكحها [ص 21] أو بيعٍ أو عتقِ عبدٍ سيملكه أو بتزويج بنته إذا طلقت وانقضت عدتها، فطلَّق بعد أن نكح أو باع أو أعتق بعد أن ملك أو زوَّج بعد العدّة، نفذ عملاً بعموم الإذن. وتمثيلي بما ذكر هو ما ذكره الإسنوي في الأولى وقياسها ما بعدها، كما يقتضيه كلام "الجواهر" وغيرها.

وقال الجلال البلقيني: يحتمل أن يصح التصرف كالوكالة المعلقة يفسد التعليق ويصح التصرف لعموم الإذن، ولم يذكروه أي: نصًّا، وأن يبطل لعدم ملك المحل حالة اللفظ بخلاف المعلقة فإنّه مالك للمحل عندها، وعلى هذا يلزم الفرق بين الفاسدة والباطلة، وهو خلاف تصريحهم بأنّهما لا يفترقان إلا في الحج والعارية والخُلع والكتابة. انتهى.

وقضية ردّه للثاني بما ذكر اعتماده للأول، وليست المعلقة مستلزمة لملك المحل عندها، إذ الصورة الأخيرة فيها تعليق لا ملكٌ للمحل حال الوكالة، نعم الأوجه أنّه لا بدّ في هذه الصور أن يذكر ما يدلّ على التعليق كقوله: التي سأنكحها أو الذي سأملكه، بخلاف اقتصاره على: وكَّلتك في طلاق هذه أو بيع هذا أو تزويج بنتي؛ لأنّ هذا اللفظ يُعَدّ لغوًا لا يفيد شيئًا أصلاً، فليس ذلك من حيث الفرق بين الفاسد والباطل، فتأمّله. ويأتي في الجزية [ص 22] وغيرها ومرّ في الرهن الفرقُ بين الفاسد والباطل أيضًا، فحصرهم المذكور إضافيٌّ، وفائدة عدم الصحة بهما في المتن سقوط المسمّى إن كان ووجوب أجرة المثل".

(1)

"منهاج الطالبين"(2/ 165)، "تحفة المحتاج"(5/ 311).

ص: 568

الجواب:

أصل مسألة التعليق إنّما هي في التعليق بشرطٍ جعلي، أي: يجعله الموكِّل، كأن يقول: إذا قدم زيدٌ أو جاء رأس الشهر فقد وكَّلتُك في بيع عبدي هذا. يدلّك على هذا تمثيل "المهذب"

(1)

لتعليق التصرّف بقوله: "وكلتك أن تطلق امرأتي أو تبيع مالي بعد شهرٍ"، وقد مضى مثله عن غيره، ومسألة تعليق التصرف مرتبطة بتعليق الوكالة.

ومثّل في "شرح الروض"

(2)

لتعليق الوكالة بقوله: "كقوله: إذا قدم زيدٌ أو جاء رأس الشهر فقد وكلتك بكذا أو فأنت وكيلي فيه".

ومثَّلها المحلّي في "شرح المنهاج"

(3)

بقوله: "نحو: إذا قدم زيدٌ أو إذا جاء رأس الشهر فقد وكّلتك بكذا". وعبارة "المغني على المنهاج"

(4)

مثل عبارة "شرح الروض".

وأصرح من ذلك عبارةُ الجلال البلقيني التي تقدمت عن "التحفة"، فإنها صريحة أنّ المعلقة خاصة بما ذكرناه، وأنّ الصور التي مثّل بها ابن حجر ليست من المعلقة، وإن احتمل أن تقاس عليها، فارجع إلى عبارة البلقيني وتدبرها، [ص 23] فإنّي أخشى أن يكون ابن حجر نفسه لم يتدبرها، كما يدلّ عليه قوله:"وليست المعلقة مستلزمةً لملك المحل عندها، إذ الصورة الأخيرة فيها تعليق لا ملك للمحل حال الوكالة".

(1)

"المهذب"(1/ 357).

(2)

"أسنى المطالب شرح روض الطالب"(2/ 266).

(3)

"شرح المنهاج"(2/ 340).

(4)

"مغني المحتاج"(2/ 223).

ص: 569

فإنّ كلام البلقيني صريحٌ في أنّ المعلقة خاصة بما علقت مع ملك الموكّل للمحل عندها، وأنّ هذه الصور التي ذكرها ابن حجر كلها ليست منها، والبلقيني إمامٌ واسع الاطلاع فلا وجه لردّ قوله بلا حجة.

وكأنّ الإسنوي لما رأى تعبير السلف بنحو: "فإن علَّقها على شرط"، سبق إلى ذهنه أنّ المراد بالشرط الشرط الشرعي، فمثّل بقوله: كأن وكّله بطلاق زوجة سينكحها. وتبعه ابن حجر وقاس على هذه الصورة غيرها كما رأيت، والله المستعان.

والمراد بملك المحل الذي عبَّر به البلقيني ملك التصرف فيه، الناشئ عن ملك العين تارةً والولاية عليه أخرى، كما في "التحفة" في شرح قول "المنهاج":"وشرط الموكَّل فيه أن يملكه الموكِّل"، فيشمل ملكه لطلاق زوجته وتزويج موليته بشرطه، والله أعلم.

فأمّا قول البلقيني: "وعلى هذا يلزم الفرق بين الفاسدة والباطلة .. إلخ".

[ص 24] فجوابه من وجوه:

الأول: ما ذكره ابن حجر أن الحصر إضافي.

الثاني: أن يقال له: لا نزاع أنّ وكالة المحجور عليه في المال يُبنى عليها صحة التصرف، وأنّ الوكالة المعلَّقة في نحو: إذا قدم زيدٌ فقد وكَّلتك بعتق عبدي هذا، يبنى عليها صحة التصرف، فإن سميت الأولى باطلة والثانية فاسدة، فقد اعترفت بالفرق ولا بدّ، وإن قلت: الأولى لغوٌ، قلنا: فلتكن الوكالة بطلاق من سينكحها ونحوها ممّا ذكر معها لغوًا، فلم يلزم الفرق.

الوجه الثالث: الوكالة يلزمها الإذن، ثم تارةً تبطل هي ويبطل الإذن،

ص: 570

وتارةً تبطل هي ويصح الإذن، فالتفرقة في الحكم مدارها على صحة الإذن وبطلانه، وأمّا الوكالة فهي باطلة في الصورتين.

الوجه الرابع: أنّ من الأبواب التي فرّقوا بين باطلها وفاسدها الإجارة والجعالة، وقد صرّحوا أن ثمرة فساد الوكالة مع صحة الإذن إنّما هي أنّه لو سمّى للوكيل جُعلاً لم يلزم المسمّى، بل يرجع إلى أجرة المثل. وعلى هذا فالوكالة المعلقة من حيث هي وكالة هي صحيحة، وإنّما الفساد فيها من حيث هي إجارة أو جعالة، فليس للوكالة من حيث هي وكالة إلا حكمان: الصحة والبطلان.

[ص 25] وممّا يدلُّ على بطلان التصرف فيما إذا وكَّله بطلاق من سينكحها، وغيرها من الصور التي ذكرها في "التحفة" ونحوها، ومنها مسألتنا: اختيارُ "المنهاج" التعبيرَ في ما إذا وكَّله ببيع عبدٍ سيملكه أو طلاق من سينكحها بقوله: "بطل في الأصح"

(1)

، مع تعبيره في المعلَّقة بقوله:"ولا يصح تعليقها بشرطٍ في الأصح"

(2)

، فأشار إلى أنّ الأولى تبطل أصلاً، أي: حتى لا يصح التصرف، وأنّ الثانية تفسد؛ لأنّ نفي الصحة كما يحتمل البطلان يحتمل الفساد. هذا مع أنّ الأولى معلَّقة ضمنًا على تفسير ابن حجر.

فإن قلت: فقد عبّر النووي في النكاح بقوله

(3)

: "ولو وكَّل قبل استئذانها لم يصحَّ على الصحيح".

(1)

"منهاج الطالبين"(2/ 261).

(2)

المصدر نفسه (2/ 265).

(3)

"منهاج الطالبين"(2/ 432).

ص: 571

قلتُ: قد سبق الجوابُ عن هذا في جواب الشبهة الخامسة.

وممّا يدلّ على بطلان التصرف أيضًا قول "الروض" مع شرحه (ج 2 ص 266)

(1)

في المعلقة: " (ونفذ تصرف صادف الإذن) فينفذ تصرفه في ذلك عند وجود الشرط إلا أن يكون الإذنُ فاسدًا. انتهى". ونحوه في "المغني على المنهاج"

(2)

، وكذا في "النهاية"

(3)

وغيرها. والإذن فيما لا يملك فاسد، وقد قال الشهاب الرملي في حواشي "الروض"

(4)

: "قوله: (فينفذ تصرفه في ذلك عند وجود الشرط لوجود الإذن) الخالي عن المفسد .. إلخ"[ص 26] والإذن فيما لا يملك غير خالٍ عن المفسد.

وقال الشهاب الرملي أيضًا

(5)

: "قوله: (وشمل كلامهم النكاح، فينفذ عند وجود الشرط إلخ). كما يصح البيع بالإذن في الوكالة الفاسدة. وهو خطأ صريح مخالف للمنقول، قال في "الروضة": قال الإمام: إذا عينت المرأة زوجًا سواءً شرطنا التعيين أم لا، فليذكره الولي للوكيل، فإن لم يفعل وزوج الوكيل غيره لم يصحّ، وكذا لو زوّجه لم يصح على الظاهر؛ لأنّ التفويض المطلق مع أنّ المطلوب معيّن فاسد. وأيضًا فلو اختلطت محرمة بنسوة محصورات، فعقد على واحدةٍ منهنّ، لم يصح النكاح على الأصح، وإن ظهر كونها أجنبية. وكذلك لو عقد على خنثى فبان امرأة لم يصح. ولو

(1)

"أسنى المطالب شرح روض الطالب" ط. مصر 1313 هـ.

(2)

"مغني المحتاج"(2/ 223).

(3)

"نهاية المحتاج"(5/ 29).

(4)

(2/ 266).

(5)

(2/ 266).

ص: 572

قبل النكاح لزيدٍ بوكالة فأنكرها زيدٌ لم يصح العقد، ولو اشترى له بوكالة فأنكرها صحّ الشراء للوكيل، ولو أذن لعبده إذنًا فاسدًا في النكاح لم يستفد العقد الصحيح ت".

والمسألة الأولى مذكورة في متن "الروض"

(1)

في النكاح، ولفظه:"وإذا أذنت له مطلقًا فله التوكيل مطلقًا، فإن عينته وجب تعيينه للوكيل، وإلاّ لم يصحّ، ولو زوّج المعين كما لو قال وليّ الطفل: بعْ ماله بدون ثمن المثل فباع بثمن المثل".

قال في الشرح

(2)

عقب قوله: "ولو زوّج المعين" ما لفظه: "لأنّ التفويض المطلق مع أنّ المطلوب معين فاسد". وقال عقب قوله: "فباع بثمن المثل" ما لفظه: "لم يصح لفساد صيغة التفويض".

قال المحشي

(3)

: "قوله: (لم يصح لفساد صيغة التفويض) ومن هنا يؤخذ أنّ الوكالة الفاسدة لا يصح بها عقد النكاح، وإن صح البيع في الوكالة الفاسدة في الأصح، وهو ظاهر، والفرق وجوب الاحتياط في النكاح بخلاف البيع. وغلط [الإسنوي] في "المهمات" في قوله: إنّ الوكالة الفاسدة يستفيد بها عقد النكاح كالبيع ت. ذكر الزركشي نحوه، انتهى. انظر "شرح الروض" (ج 3 ص 135).

أقول: وكأنّ حرف "ت" في آخر العبارتين رمزٌ لكتاب "توقيف الحكام

(1)

"أسنى المطالب شرح روض الطالب"(3/ 135).

(2)

المصدر نفسه.

(3)

المصدر نفسه.

ص: 573

على غوامض الأحكام" لابن العماد، ففي "حواشي عبدالحميد على التحفة" عند قول "التحفة"

(1)

: "ولو علّق ذلك ولو ضمنًا إلخ" ما لفظه: "قوله: (ونفذ التزويج إلخ) قد بالغ ابن العماد في "توقيف الحكام على غوامض الأحكام" في تخطئة من قال بصحة النكاح عند فساد التوكيل فيه، وقد أشار إلى ذلك شيخنا الشهاب الرملي أيضًا. اهـ سم".

وممّن صرّح بفساد الإذن في مسألة توكيل الولي بزواج موليته إذا طلقت إذا انقضت عدتها: ابن حجر نفسه، فإنّه ذكر في النكاح هذه المسألة [ص 27] كما ستأتي عبارته، ثم ذكر قول "المنهاج"

(2)

: "وليقل وكيل الولي: زوجتك بنت فلان"، ثم قال في شرحها

(3)

: "ثم يقول: موكلي أو وكالة عنه مثلاً، إن جهل الزوج والشاهدان أو أحدهما وكالته عنه، وإلاّ لم يحتج لذلك.

تنبيهٌ: ظاهر كلامهم أنّ التصريح بالوكالة فيما ذكر شرط لصحة العقد، وفيه نظر [واضح]

وليس هذا كما مرّ آنفًا، لأنّ الإذن للوكيل ثَمَّ فاسد من أصله بخلافه هنا".

قال عبد الحميد

(4)

: "قوله: كما مرّ آنفًا

أقول: بل في شرح: لم يصح على الصحيح من قوله: لا إذن الولي لمن يزوج إلخ".

(1)

"تحفة المحتاج"(5/ 302).

(2)

"منهاج الطالبين"(2/ 432).

(3)

"تحفة المحتاج"(7/ 265 - 266).

(4)

في حواشيه على التحفة، الموضع السابق.

ص: 574

أقول: وعليه ففي عبارة ابن حجر التصريحُ بفساد الإذن في مسألة توكيل الولي من يزوِّجها إذا طلقها زوجها إلخ، بل في عبارته أن عقد الوكيل غير صحيح؛ لأنّ معنى كلامه:(وليس هذا كما مرّ آنفًا) في مسألة إذن الولي لمن يزوِّج موليته إذا طلقت وانقضت عدتها، حتى يلزم عدم صحة العقد هنا كما أنّه غير صحيح هنالك، أي: في مسألة إذن الولي (لأنّ الإذن) من الولي (للوكيل ثَمَّ فاسدٌ من أصله) فلهذا لم يصح العقد هناك (بخلافه هنا).

وفي "حواشي" القليوبي على المحلِّي

(1)

: "

وكذا لو قالت: وكَّلتك في تزويجي إذا انقضت عدتي، فإن كان قائل ذلك الولي لوكيله بطل الإذن أيضًا على المعتمد كما مرّ".

فأمّا قول ابن حجر

(2)

: "ولو علّق ذلك ولو ضمنًا إلخ"، فقد تعقبه الرملي في "النهاية"

(3)

فقال: "وما جمع به بعضهم بين ما ذكر في البابين بحمل عدم الصحة على الوكالة، والصحة على التصرف، إذ قد تبطل الوكالة ويصح التصرف= رُدّ بأنّه خطأٌ صريح مخالف للمنقول، إذ الأبضاع يُحتاط لها فوق غيرها".

قال الشبراملسي في حواشيه

(4)

: "قوله: وما جمع به بعضهم أي حج ــ ابن حجر ــ حيث قال: ولو علّق ذلك ولو ضمنًا

".

(1)

"شرح المحلي مع حاشيتي القليوبي وعميرة"(2/ 341).

(2)

"تحفة المحتاج"(5/ 302).

(3)

"نهاية المحتاج"(5/ 21، 22).

(4)

"حاشية الشبراملسي"(5/ 22).

ص: 575

أقول: وقد تقدم ما كتبه الشهاب الرملي على "شرح الروض"، وما ذكره ابن قاسم عن ابن العماد.

ثم إنّ ابن حجر وفى بما وعد، فذكر المسألة ونحوها عند مسألة التعليق، [ص 28] وقد تقدمت العبارة. ثم عاد في النكاح في الكلام على قول "المنهاج"

(1)

: "ولو وكّل قبل استئذانها لم يصحّ على الصحيح"، فقال

(2)

: "ويصحُّ إذنها لوليّها أن يزوِّجها إذا طلقها زوجها وانقضت عدتها، لا إذن الولي لمن يزوِّج موليته كذلك على ما قالاه في الوكالة، وقد مرّ بما فيه مع نظائره. وعليه فالفرق بينها وبين وليّها أنّ إذنها جعليٌّ، وإذنه شرعي، أي: استفاده من جهة جعل الشرع له بعد إذنها وليًّا شرعيًّا، والجعلي أقوى من الشرعي كما مرّ في الرهن، وبهذا جمعوا بين تناقض "الروضة" في ذلك. والجمع بحمل البطلان على خصوص الوكالة والصحة على التصرف لعموم الإذن، قال بعضهم: خطأٌ صريح مخالف للمنقول، ومرّ ما في ذلك في الوكالة".

وفي حواشي عبد الحميد

(3)

: " (قوله: خطأٌ إلخ) أي: لأنّه لا يصح النكاح بالوكالة الفاسدة. سم ورشيدي" اهـ.

ثم إنّ ابن حجر ذكر بعد ما مرّ بقليل مسألة أنّ التصريح بالوكالة إذا لم تعلم شرط لصحة العقد، ونظر فيها، وفرَّق بينها وبين مسألة توكيل الولي المتقدمة بأنّ الإذن للوكيل في مسألة الولي فاسدٌ من أصله، أي: فلذلك كان

(1)

"منهاج الطالبين"(2/ 432).

(2)

"تحفة المحتاج"(7/ 265).

(3)

في الموضع السابق.

ص: 576

العقد غير صحيح. وعلى هذا [ص 29] رجّح في باب الوكالة صحة العقد، ثم تردّد فيه في النكاح في شرح قول "المنهاج":(ولو وكَّل قبل استئذانها إلخ)، ثم أشار بعد ذلك بقليل إلى فساد الإذن من أصله وعدم صحة العقد، وهذا هو المتأخر، فعليه استقرّ قول "التحفة"، وعليه الاعتماد، ولله الحمد.

هذا وقد تقدّم في الجواب عن الشبهة السادسة أنّ مسألة توكيل الولي في تزويجها إذا طلقت أو انقضت عدتها مفروضة في الولي المجبر البتةَ، أو فيه وفي غير المجبر الذي قد أذنت له، بناءً على صحة إذنها حينئذٍ.

وعليه فلو سلّمنا أنّه إن عقد الوكيل في هذه المسألة صحّ عقده، فلا يلزم مثل ذلك في مسألتنا، وهي ما إذا وكل غير المجبر قبل إذنها وعلّق بإذنها.

والفرق بين المسألتين أنّ المجبر والمأذون له ولايتهما تامّة، وإنّما هناك مانع من مباشرة العقد حالاً، فأمّا غير المجبر الذي لم تأذن له فولايته ناقصة، بل كأنّها معدومة كما مرّ قبيل الشبهة الأولى. ومرّ في جواب الشبهة الرابعة فرقٌ بين وجود المانع وفقد الشرط أو الجزء، فارجع إليه.

[ص 30] الشبهة العاشرة:

قد يقال: سلَّمنا بطلان الوكالة وعدم صحة التصرف فيما إذا وكّل غير المجبر قبل أن تأذن له، وكذلك في كلّ ما لا يملكه الموكل عند الوكالة إلا ما استثني من النكاح ونحوه، ولكن محلّ ذلك ما لم يكن غير المملوك تبعًا لمملوك، وإلاّ فيصحّ، كما إذا قال: وكَّلتك أن تنكح بنتي البكر التي لا مانع بها، وكل مَن لي عليها ولاية، ففي "الروض" وشرحه: " (فلا يصح) التوكيل

ص: 577

(في طلاق من سينكحها وتزويج من ستنقضي عدتها ونحوه) كبيع من سيملكه أو إعتاق من سيملكه؛ لأنّه لا يتمكن من مباشرة ما وُكِّل فيه حال التوكيل، نعم لو جعل ما لا يملكه تبعًا لما يملكه، كتوكيله ببيع عبده وما سيملكه، ففيه احتمالان للرافعي، والمنقول عن الشيخ أبي حامد وغيره الصحة، كما لو وقف على ولده الموجود ومن سيحدث له من الأولاد". "شرح الروض" (ج 2 ص 260)

(1)

.

الجواب:

قال في "التحفة"

(2)

: "ويؤيد ذلك قول الشيخ أبي حامد وغيره: لو وكَّله فيما ملكه الآن وفيما سيملكه صحّ، ويصح في البيع والشراء في: وكَّلتك في بيع هذا وشراء كذا بثمنه، وإذن المقارض للعامل في بيع ما سيملكه، وألحق به الأذرعي الشريك".

فإن حملنا الملك في عبارة الشيخ أبي حامد وغيره على ملك العين كما هو [ص 31] المتبادر عند الإطلاق؛ ولذلك مثّلوا في "شرح الروض" و"المغني" و"النهاية" بالبيع، فلا تشمل النكاح والطلاق ونحوهما، وإن حملناه على ملك التصرف شملت ذلك. ثم تبين لي تعين الأول، فقد قال زكريا في "شرح المنهج"

(3)

: "فيصحُّ التوكيل ببيع ما لا يملكه تبعًا للمملوك، كما نقل عن الشيخ أبي حامد، وببيع عينٍ يملكها وأن يشتري له بثمنها، كذا على الأشهر في المذهب، وقياس ذلك توكيله بطلاق من سينكحها تبعًا

(1)

هو "أسنى المطالب شرح روض الطالب" ط. مصر 1313 هـ.

(2)

"تحفة المحتاج"(5/ 303).

(3)

"شرح منهج الطلاب"(3/ 51).

ص: 578

لمنكوحته". فأفاد أنّ عبارة أبي حامد إنّما هي في البيع لا تشمل الطلاق، إلا أنّه قد يقاس عليها.

وعلى كل حال فالشيخ أبو حامد وغيره إنّما حجتهم القياس على الوقف كما في "شرح الروض"

(1)

، ونحوه في "المغني"

(2)

و"النهاية"

(3)

.

وفي "شرح المنهج": القياس على التوكيل ببيع كذا وشراء كذا بثمنه. ونحوه في "التحفة"

(4)

، وزاد القياس على القراض.

فأمّا القياس على القراض، ففي حواشي عبدالحميد

(5)

: "قوله: في بيع ما سيملكه" ما صورته: فقد يقال: هذا البيع لا يتوقف على إذنٍ زائد على العقد المتضمن للإذن. اهـ. سم.

أقول: والفرق واضحٌ بين القراض وبين نحو: وكَّلتك أن تبيع عبدي هذا وعبدَ فلانٍ إذا ملكتُه، أو وكُلَّ عبدٍ أملكه، أولًا: لأنّ القراض لا يحصل أصل المقصود منه إلا بأن يشتري ثم يبيع، وهكذا.

ثانيًا: أنّ عامل القراض إذا اشترى لم يكن المشترى للمالك فقط، بل للعامل فيه بقدر ربحه.

(1)

"أسنى المطالب"(2/ 260).

(2)

"مغني المحتاج"(2/ 219).

(3)

"نهاية المحتاج"(5/ 22).

(4)

"تحفة المحتاج"(5/ 303).

(5)

في الموضع السابق.

ص: 579

ثالثًا: أنّ التصرف في القراض مرتبط بعضه ببعض، أي: أنّ الثاني مبنيٌّ على الأول، ومتوقفٌ عليه، كأن يشتري برأس المال عبدًا ثم يبيع العبد بنقدٍ ثم يشتري بالنقد ثيابًا، وهكذا.

وهذه الأمور كلها ليست في الصورة الأخرى، أعني: نحو وكّلتك أن تبيع عبدي إلخ. نعم، الثالث حاصل في مسألة: وكلتك ببيع هذا وشراء كذا بثمنه، ولكنَّ في صحتها [ص 32] خلافًا، وأشهر القولين صحة التوكيل بالشراء، كما مرّ عن "شرح المنهج"، ونحوه في "المغني" و"النهاية".

وأمّا القياس على هذه الصورة فالفرق ما ذكرناه من الارتباط، والحاجة ماسة كثيرًا إليها، كما تبعث الأرملة بصوفها أو غزلها أوسمنها أو نحو ذلك مع رجلٍ، ليبيعه ويشتري لها بثمنه طعامًا أو ثوبًا أو نحوه، وليست الحاجة إلى التوكيل ببيع عبده وعبد فلان إذا ملكه كذلك، مع أنّ المقصود في مثال الأرملة هو أن يشتري لها ببضاعتها طعامًا أو ثوبًا، وإنّما البيع بالنقد وُصلةٌ إلى ذلك، لما عُلم بأنّ التجار إنّما يرغبون أن يبيعوا بالدراهم.

وأمّا الشركة فكالقراض، وأمّا القياس على الوقف فإن كان المراد بالملك في عبارة الشيخ أبي حامد ملك العين، فقد قاس البيع على الوقف على ولده ومن سيولد له، وهذا الوقف نفسه مَقِيسٌ على الوقف على الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف، كما ورد في الصحيحين

(1)

في وقف عمر الذي أقره عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والقياس على القياس لا يجوز كما تقرّر في الأصول.

(1)

البخاري (2737، 2772، 2773)، ومسلم (1632) من حديث ابن عمر.

ص: 580

وقد يقال: لا حاجة إلى قياس الوقف على ولده ومن سيولد له على ما ذكر، لدخوله في لفظ القربى أو للإجماع عليه.

فأقول: إن كان هناك إجماعٌ فذاك، وإلاّ ففي دخوله في القربى نظر؛ [ص 33] لأنّ المراد بالقربى جميع الأقارب الذين يمكن أن يكونوا مصرفًا للوقف دائمًا، كما هو شأن الوقف، فالضرورة داعية إلى إدخال من لم يوجد بعدُ.

فأمّا الوقف على ولده ومن سيولد له، فإنّه لم يقصد به أن يكون أولاده مصرفًا للوقف دائمًا؛ لأنّهم لا بدّ أن يموتوا، وعليه فكان يمكنه أن ينتظر حتى ييأس من الولد ثم يقف عليهم وهم موجودون كلهم، ولا يمكنه هذا في القربى كما مرّ.

هذا، وقياس الوكالة بالبيع على الوقف مختلٌّ، أوّلاً: لأنّ الوقف من شأنه الدوام، فلا مندوحة مِن ضمّ من لم يوجد من المستحقين إلى الموجودين، بخلاف الوكالة.

ثانيًا: الوقف قربة يتشوَّف إليها الشارع كالعتق، فيوسع فيها ما لا يوسع في الوكالة.

ثالثًا: المعدوم في الوقف هو بعض الموقوف عليهم، والمعدوم في مسألة الوكالة هو بعض المال، وقد يُغتفر في المعقود له ما لا يُغتفر في المعقود عليه، كالوقف نفسه فإنّه يجوز على الموجود ومن سيوجد، ولا يجوز وقف ما يملكه وما سيملكه، فأمّا صحة وقف الجارية وحملها، فالحمل كالعضو منها، حتى لو بيعت الحامل دخل الحمل في البيع.

ص: 581

ثم قياس النكاح والطلاق على البيع قياسٌ على قياس، مع أنّ البيع قد يتصور فيه من الحاجة إلى التوكيل به فيما لم يملك بعدُ أشدّ ممّا يتصوّر في النكاح، وأيضًا فالأبضاع يُحتاط لها ما لا يحتاط لغيرها.

وإن كان المراد بالملك في عبارة الشيخ أبي حامد ملك التصرف، بحيث يشمل النكاح والطلاق والولاية ونحوها، فقد عُلِم فساده ممّا مرّ.

وإذا امتنع قياس البيع على الوقف وقياس النكاح على البيع، فما عسى أن يقال في قياس النكاح على الوقف، وهما على طرفي نقيض.

[ص 34] وإذا كان الأمر على ما ذُكِر، فهذه التعسُّفات لا تقوى على تخصيص أو تقييد نصّ الإمام الشافعي رحمه الله تعالى على بطلان توكيل غير المجبر إلا بأن تأذن له المرأة أن يوكّل بتزويجها، فالحقُّ الذي لا يجوز غيره إبقاء نصّه على ظاهره. والله أعلم.

ص: 582

الرسالة التاسعة عشرة

الحكم المشروع في الطلاق المجموع

ص: 583

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيات وتفسيرها:

قال الله تعالى:

1 -

{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)} .

2 -

{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)} .

3 -

{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)} .

4 -

{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)} .

5 -

{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)} [البقرة: 228 ــ 232].

ص: 585

6 -

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)} [الأحزاب: 49].

7 -

{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)} .

8 -

{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)} [الطلاق: 1 ــ 3]

(1)

.

[ص 3] صح عن عروة بن الزبير قال: قال رجل لامرأته على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا آوِيكِ ولا أدعُكِ تَحِلِّين. فقالت له: كيف تصنع؟ قال: أطلِّقك، فإذا دنا مُضِيُّ عدتِك راجعتُك، فمتى تحلِّين؟ ! فأتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأنزل الله {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} ، فاستقبله الناس جديدًا، من كان طلَّق، ومن لم يكن طلَّق" (تفسير ابن جرير ج 2/ ص 258)

(2)

.

(1)

بعدها الصفحة الثانية فارغة في الأصل.

(2)

(4/ 126) ط. التركي. وفيها: "لا أُؤْوِيك" بدل "لا آوِيك".

ص: 586

هذا مرسلٌ صحيحٌ

(1)

، وقد رفعه بعضهم، قال:"عن عروة عن عائشة"

(2)

. وله عواضد، وسيأتي بسط ذلك في البحث مع الإمام الشافعي رحمه الله تعالى.

ومفاده: أن الطلاق في أول الإسلام لم يكن له حد، فكان للرجل إذا طلَّق أن يراجع قبل مضي العدة، ثم إذا طلَّق فله أن يراجع، ثم إذا طلَّق فله أن يراجع، وهكذا أبدًا، فا تخذ بعض الناس ذلك طريقًا للإضرار بالنساء، فأنزل الله سبحانه وتعالى {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (الآيتين: 2 - 3 من آيات البقرة).

فقوله تعالى في الآية الأولى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ} الآية، يحتمل في نزولها ثلاثة أوجه:

الأول: أن يكون نزولها متقدمًا على نزول ما بعدها بمدة.

الثاني: أن تكون نزلت مع ما بعدها معًا.

الثالث: أن يكون نزولها متأخرًا عما بعدها في النظم.

والأول أقرب؛ لأن التقدم في النظم يُشعِر بالتقدم بالنزول، وإن لم يكن ذلك حتمًا، ولأن ظاهرها عموم استحقاق الرجعة في كل طلاق، وهذا مطابقٌ للحكم المنسوخ بما بعدها، ولمرسل عروة وعواضده، فإن ظاهره أن قوله تعالى:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} أول ما نزل بعد شكوى المرأة، وذلك يقتضي

(1)

أخرجه الترمذي عقب حديث (1192) وابن أبي شيبة في "المصنف"(5/ 260).

(2)

أخرجه الترمذي (1192) والحاكم في "المستدرك"(2/ 279) والبيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 333).

ص: 587

أن الآيتين نزلتا منفصلتين عن الآية التي قبلها، وقد ثبت تقدمُها بالدليلين الأولين.

وعلى هذا فكلمة (المطلقات) على عمومها، ولا ينافيه قوله في أثناء الآية:{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} ؛ لأن الآية نزلت قبل تحديد الطلاق كما سمعت، ويكون قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ

} (الآيتين) ناسخًا لبعض ما دخل في الآية الأولى، وهو استحقاق الرجعة بعد الطلاق الثالث.

وأما على الوجهين الآخرين، فيحتمل في قوله تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ} أن يكون

(1)

من العام المراد به الخصوص، أو من العام المخصوص، أو

(2)

أن يكون باقيًا على عمومه، ولكن الضمير في قوله:{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} أخصُّ من مرجعه، كأنه قال:"وبعولة بعضهن"، والمراد ببعضهن: المطلقات مرةً أو مرتين فقط.

وهذا الأخير ــ وإن ذكروه ــ بعيدٌ جدًّا؛ لمخالفته سنة الكلام من مطابقة الضمير لمرجعه، وتوجيهُه بإضمار "بعضهن" تعسفٌ، وهو شبيه بالاستخدام، وقد تكلمت على الاستخدام في مقالتي في بيان مَنِ المراد بقوله تعالى:{وَآخَرِينَ مِنْهُمْ}

(3)

.

والحق في توجيه هذا أن الضمير عامٌّ كمرجعه، ولكن قد يرد التخصيص على العام باعتبار الحكم الواقع مع الضمير دون الحكم الأول،

(1)

في الأصل: "تكون".

(2)

في الأول: "و".

(3)

انظر كلام المؤلف على المراد بهم في (ص 316 - 318).

ص: 588

فيكون الظاهر عامًّا باقيًا على عمومه، والضمير عامًّا مخصوصًا.

وعلى هذا، فالضمير مطابقٌ لمرجعه على ما هو سنة الكلام.

وإذ قد ترجح الاحتمال الأول، فلا حاجة لبسط الكلام في الاحتمال الثاني.

وأما الآية الرابعة؛ وهي قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)} .

ففيها احتمالان:

1 -

أن تكون متقدمة النزول على الآيتين اللتين قبلها.

وعليه؛ فهي على ظاهرها من أن الطلاق تحل الرجعة بعده مطلقًا، أي: سواء في المرة الأولى، أو الثانية، أو الثالثة، وهكذا.

2 -

وتحتمل أن تكون متأخرة عنهما.

وعليه؛ فقوله: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} من العام المراد به الخصوص، أو العام المخصوص، أو على عمومه، ولكنَّ الضمير في قوله:{فَأَمْسِكُوهُنَّ} أخص من مرجعه، ولكن هذا الثالث بعيدٌ، أو باطلٌ ههنا، فإن الآية إنما سيقت لأجل هذا الحكم خاصة، أعني قوله:{فَأَمْسِكُوهُنَّ} الآية.

ص: 589

وأما آيات سورة الطلاق؛ فيتعين فيها النزول معًا على نظمها؛ لأنها كلامٌ واحدٌ مرتبطٌ أوثقَ الارتباط.

ويبقى النظر بينها وبين قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (الآيتين)، فإن كانت آيات سورة الطلاق نزلت قبل آيتي {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} فلا إشكال في هذا.

وإن كانت نزلت بعدُ، فتحتاج إلى تأويل، فيقال: إن قوله تعالى: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} إما عامٌّ مرادٌ به الخصوص، وإما عامٌ مخصوص، وإما على عمومه، وإن كان التعليل بقوله تعالى:{لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} يختص بمن طلقت مرةً أو مرتين فقط.

وهكذا الضمير في قوله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} .

والاحتمال الأول أولى؛ لتسلَم الآياتُ من مخالفة الظاهر.

ولا ينافي ما تقدم في الآية الرابعة من آيات البقرة، وما قلناه ههنا قولهم:"إن التخصيص أولى من النسخ"، فإن محله حيث لم يتحقق النسخ، وها هنا قد تحقق النسخ في الجملة كما تقدم.

فأما على قول الحنفية ومن وافقهم: أن العام المتأخر ينسخ الخاص المتقدم، فيتعين القول بتأخر نزول آيات سورة الطلاق، وإلا لزم أن يكون ناسخًا لقوله:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} الآيتين.

ص: 590

وكذلك لا ينافيه ما جاء أن سورة البقرة نزلت قبل سورة الطلاق بمدة؛ لأن المراد فيه معظم سورة البقرة، فقد صح عن ابن عباس:"أن آخر ما نزل من القرآن آية الربا" يعني التي في سورة البقرة. رواه البخاري وغيره

(1)

، وروي مثله عن عمر

(2)

، ولذلك نظائر في القرآن. انظرها في "الإتقان"

(3)

.

[ص 4] فصل

قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} "ال" للعهد، أي: الطلاق الذي تعهدونه من حيث إن من شأنه أن الرجل إذا أوقعه كان له أن يراجع.

وهذه الحيثية كانت سبب نزول الآية، كما تقدم في مرسل عروة، والذي من شأنه ما قاله ذلك الرجل، والذي تقدم ذكره في الآية السابقة، وهي قوله:{وَالْمُطَلَّقَاتُ} إلى قوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} .

ولا ينافي هذا ما اخترناه من تقدم نزول آية {وَالْمُطَلَّقَاتُ} بمدة؛ لأنها في علم الله تعالى متصلة بها، وجعلت في النظم متصلة بها.

والعهد هنا أولى من الجنس لأمرين:

الأول: لما تقرر في الأصول: أنه إذا تحقق عهدٌ تعين المصير إليه.

الثاني: قوله: {مَرَّتَانِ} مع أن جنس الطلاق ــ مع صرف النظر عن المراجعة ــ ثلاث بمقتضى هاتين الآيتين.

(1)

البخاري (4544). وأخرجه أيضًا أبو عبيد في "فضائل القرآن"(ص 223 ــ 224) والطبري في "تفسيره"(5/ 67)، والبيهقي في "دلائل النبوة"(7/ 138).

(2)

أخرجه البيهقي في "الدلائل"(7/ 138).

(3)

(1/ 180).

ص: 591

وقال ابن جرير

(1)

: "اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: هو دلالة على عدد الطلاق الذي يكون للرجل فيه الرجعة على زوجته". ثم ذكر مرسل عروة

(2)

، ومرسلًا في معناه عن قتادة

(3)

، وآخر عن ابن زيد

(4)

، ثم ذكر عن السدي

(5)

قال: "هو الميقات الذي يكون عليها فيه الرجعة". ثم ذكر أثرًا عن عكرمة

(6)

.

ثم قال

(7)

: "وقال آخرون: إنما أُنزِلت هذه الآية على نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم تعريفًا من الله تعالى ذكرُه عبادَه سنةَ طلاقهم"(تفسير ابن جرير 2/ ص 258 - 259).

وقد ذكر في موضعٍ آخر عن قتادة، ولفظه

(8)

: عن قتادة قال: "جعل الله الطلاق ثلاثًا، فإذا طلَّقها واحدةً فهو أحقُّ بها ما لم تنقضِ عدتُها، وعدتها ثلاث حيض، فإن انقضت العدة قبل أن يكون راجعها، فقد بانت منه بواحدةٍ، وصارت أحقَّ بنفسها، وصار خاطبًا [من الخُطَّاب]

(9)

، فكان الرجل إذا أراد طلاق أهله نظر حَيْضَتها، حتى إذا طهرت طلَّقها تطليقة في

(1)

"تفسيره"(4/ 125) ط. التركي.

(2)

سبق تخريجه.

(3)

"تفسير الطبري"(4/ 126).

(4)

المصدر نفسه (4/ 126).

(5)

المصدر نفسه (4/ 127). وأخرجه أيضًا البيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 367).

(6)

المصدر نفسه (4/ 127). وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة في "المصنف"(5/ 261).

(7)

المصدر نفسه (4/ 127).

(8)

المصدر نفسه (4/ 166).

(9)

ما بين المعكوفتين مخروم من الأصل.

ص: 592

قُبل عدتها، عند شاهدَيْ عدلٍ، فإن بدا [له مراجعتها] راجعها ما كانت في عدتها، وإن تركها حتى تنقضي عدتها فقد بانت منه بواحدةٍ، وإن بدا له طلاقها بعد الواحدة وهي في عدتها نظر حيضتها، حتى إذا طهرت طلَّقها تطليقةً أخرى في قُبل عدتها، فإن بدا له مراجعتها راجعها، فكانت عنده [على] واحدة، وإن بدا له طلاقها طلَّقها الثالثةَ عند طهرها، فهذه الثالثة التي قال الله تعالى ذكره:{فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} " (تفسير ابن جرير ج 2/ ص 270)

(1)

.

[ص 9 مكرر] ودل على هذا قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} ولم يقل: ثلاث، ولا وجه لذلك إلا أنه أراد الذي تكون معه الرجعة، وهو الذي عهده الناس من قبل نزول الآية، والذي تقدم ذكره.

قال تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} .

قال ابن جرير

(2)

: "فقال بعضهم: هو دلالة على عدد الطلاق الذي يكون للرجل فيه الرجعةُ على زوجته".

ثم استدل على ذلك بمرسل عروة وما شاكله، ثم حكى أقوالًا مضطربة، ثم روى عن الضحاك قال

(3)

: "يعني تطليقتين بينهما مراجعة، فأمر أن يمسك، أو يطلق بإحسان".

(1)

كتب الشيخ بعدها: "ملحق". ويقصد به الآتي.

(2)

"تفسيره"(4/ 125).

(3)

المصدر نفسه (4/ 132).

ص: 593

واعترضه ابن جرير من جهة غير ما نحن بصدده.

ثم قال ابن جرير

(1)

: "فبيِّنٌ أن تأويل الآية: الطلاق الذي لأزواج النساء على نسائهم فيه الرجعة مرتان، ثم الأمر بعد ذلك إذا راجعوهن في الثانية إما إمساكٌ بمعروف، وإما تسريحٌ منهم لهن بإحسان بالتطليقة الثالثة".

ثم قال

(2)

في قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} : "فقال بعضهم: دل على أنه إن طلَّق الرجل امرأته التطليقة الثالثة بعد التطليقتين اللتين قال الله تعالى ذكره فيهما: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} فإن امرأته تلك لا تحلُّ له بعد التطليقة الثالثة حتى تنكح زوجًا غيره".

ثم أخرج

(3)

عن قتادة قال: "جعل الله الطلاق ثلاثًا، فإذا طلَّقها واحدةً فهو أحقُّ بها ما لم تنقضِ العدة، وعدتها ثلاثُ حِيَض، فإن انقضت العدة قبل أن يكون راجعها، فقد بانت منه بواحدةٍ، وصارت أحقَّ بنفسها، وصار خاطبًا من الخطاب، فكان الرجل إذا أراد طلاق أهله نظر حيضتها، حتى إذا طهرت طلَّقها تطليقةً في قُبُل عدتها، عند شاهدي عدلٍ، فإن بدا له مراجعتها راجعها ما كانت في عدتها،

وإن بدا له طلاقها طلَّقها الثالثة عند طهرها، فهذه الثالثة التي قال الله تعالى ذكره:{فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} ".

(1)

المصدر نفسه (4/ 132).

(2)

المصدر نفسه (4/ 165).

(3)

المصدر نفسه (4/ 166).

ص: 594

ثم روى

(1)

بسند ضعيف عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يقول: "إن طلَّقها ثلاثًا فلا تحِلُّ حتى تنكح زوجًا غيره".

وأخرج عن الضحاك قال

(2)

: "إذا طلَّق واحدة أو اثنتين فله الرجعة ما لم تنقضِ العدة، قال: والثالثة قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا}

".

وعن السدي

(3)

: "فإن طلَّقها بعد التطليقتين".

ثم حكى عن مجاهد

(4)

ما حاصله أن الطلقة الثالثة قد تقدمت في قوله: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} ، وقوله:{فَإِنْ طَلَّقَهَا} تفسيرٌ لذلك، كأنه قال: فإن وقع التسريح بالإحسان.

وقد قدَّم في تفسير التسريح حديث أبي رزين

(5)

قال: قال رجل: يا رسول الله! يقول الله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} فأين الثالثة؟ قال: "التسريح بإحسان".

وروى عن مجاهد وقتادة نحوه

(6)

.

وحكى عن السدي والضحاك أنهما قالا

(7)

: "الإمساك: المراجعة،

(1)

المصدر نفسه (4/ 166).

(2)

المصدر نفسه (4/ 167).

(3)

المصدر نفسه (4/ 167).

(4)

المصدر نفسه (4/ 167).

(5)

المصدر نفسه (4/ 130).

(6)

المصدر نفسه (4/ 131).

(7)

المصدر نفسه (4/ 131، 132).

ص: 595

والتسريح: أن يدعها حتى تمضي عدتها".

وعلى كل حال فهم متفقون أن قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} أراد به الثالثة، سواء من قال: إنه لم يتقدم لها ذكر، ومن قال: بل قد تقدم.

وهكذا ما روي عن ابن عباس ــ وإن لم يصح ــ من قوله: "إن طلَّقها ثلاثًا"، فإنه إنما أراد الثلاث التي تقدمت، وهي المرتان اللتان

(1)

راجع بعد كل منهما، والتسريح.

هكذا يجب أن يُفهم، فإنه إن فُهِم على معنى: إن طلَّقها ثلاثًا دفعة واحدة، كان على خلاف سياق القرآن، وخلاف ما عليه سائر المفسرين.

[منتصف ص 4] وقوله تعالى: {مَرَّتَانِ} لماذا عُدِل به عن "طلقتان"؟

عنه ثلاثة أجوبة:

الأول: أن يقال: إنما عُدِل عنه؛ لأن تكرار الحروف يوجب ثقلًا في اللفظ.

وليس هذا الجواب بشيءٍ؛ لأن التكرار هنا لا يوجب ثقلًا يعتدُّ به. وقد وقع في القرآن كثيرًا ما هو مثله، أو أدخلُ منه في شبهة الثقل، مثل {مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً} ، {وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} ، {عَاهَدُوا عَهْدًا} ، {أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا} ، وأبلغ من ذلك قوله تعالى:{وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ} ، اجتمعت فيها سبع ميمات.

(1)

في الأصل: "اللتين".

ص: 596

الثاني: ما قاله الجصاص في "أحكام القرآن" وغيره: أنه عُدِل عن "طلقتان" للدلالة على وجوب تفريق الطلاق، إما بأن يطلق واحدةً يقتصر عليها، ولا يطلق أخرى إلا إذا راجع بعد الأولى، وإما بأن يطلق عند كل طهر واحدةً، قولان لأهل العلم.

قالوا: فقوله: {مَرَّتَانِ} دلالة على ذلك.

قال الجصاص: "وذلك يقتضي التفريق لا محالة؛ لأنه لو طلَّق اثنتين معًا لما جاز أن يقال: طلَّقها مرتين، وكذلك لو دفع رجل إلى آخر درهمين لم يجز أن يقال: أعطاه مرتين حتى يفرق الدفع"(أحكام القرآن ج 1/ ص 378).

بل في الطلاق نفسه لو قال قائلٌ: إن فلانًا طلَّق زوجته اليوم مرتين، لفُهِم منه التفريق، ولم يفهم منه أنه قال: أنت طالق طلقتين، أو أنت طالق أنت طالق.

ومع ذلك ففي هذا الجواب نظرٌ؛ لأنه كان الظاهر أن يقال: "ثلاث مرات"، فلماذا قال:{مَرَّتَانِ} ، ثم ذكر الطلقة الثالثة بعدُ؟

ولأن التفريق يصدق بما لو طلَّقها طلقةً، ثم بعد ساعة طلَّقها أخرى بدون تخلل رجعة، فلو أريد تفريق مخصوص، لكان الظاهر أن يقام عليه دليلٌ.

نعم، من قال: إن السنة أن يطلق طلقة واحدة، ثم يدعها حتى تنقضي عدتها، فإن راجعها في العدة ثم بدا له أن يطلق، فليطلق مرة أخرى، فله أن يجيب بأن المراد بـ {مَرَّتَانِ} طلاقان يعقب كلًا منهما رجعة، وهذا لا يكون ثلاثًا، وبأن في الآية دليلًا على هذا التفريق بخصوصه، وهو قوله: {فَإِمْسَاكٌ

ص: 597

بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} بناءً على تفسير الإمساك بالرجعة، والتسريح بعدمها.

وفيه: أن ذلك إنما يتم لو كان المعنى: فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان بعد كل مرة، وهذا محتمل فيما حكاه ابن جرير عن الضحاك

(1)

[ص 5] قال: "يعني: تطليقتين بينهما مراجعة، فأمر أن يُمسِك أو يُسرِّح بإحسان، قال: فإن هو طلَّقها ثالثة فلا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره".

وقد فسره ابن جرير بقوله: "وكأن قائلي هذا القول الذي ذكرناه عن السدي والضحاك ذهبوا إلى أن معنى الكلام: الطلاق مرتان، فإمساكٌ [في] كل واحدة منهما لهن بمعروف أو تسريح لهن بإحسان"(تفسير ابن جرير ج 2/ ص 260)

(2)

.

أقول: ولفظ السدي

(3)

: "إذا طلَّق واحدةً أو اثنتين إما أن يمسك ــ ويُمسك: يراجع بمعروف ــ، وإما سكت عنها حتى تنقضي عدتها، فتكون أحقَّ بنفسها".

وقوله: "واحدة أو اثنتين" أراد به على ما فهمه ابن جرير: الأولى أو الثانية، ولم يرد اثنتين لم تتخللهما رجعة.

ولكن ابن جرير رد هذا القول بحديث رواه، كما سيأتي.

(1)

(4/ 132).

(2)

(4/ 132).

(3)

المصدر نفسه (4/ 132).

ص: 598

وأقول: إن فيه بعدًا من جهة أن الظاهر في قوله: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} أنه بعد المرتين كما تقتضيه الفاء.

الجواب الثالث: أنه إنما لم يقل: "طلقتان" إشعارًا بأنه لو قال: طلقتك وطلقتك وطلقتك، أو قال: طلقتك ثلاثًا، أو ألفًا، أو عدد ذرات العالم، كان هذا كله مرةً واحدةً، كما تقول: ضرب فلانٌ عبده اليوم مرتين، فيصدق بما لو ضربه كل مرة من المرتين ضربةً، أو ضربتين، أو ضربات.

ويحتج لهذا القول بأن الآية نزلت لإبطال ما سبق من تكرر الطلاق مع تكرر الرجعة مرارًا لا حدَّ لها، [إذ] كان لأحدهم أن يقول: أنت طالق ألفًا ثم يراجعها، ثم يقول: أنت طالق ألفًا ثم يراجعها، ثم يقول: أنت طالق ألفًا ثم يراجعها، وهكذا مرارًا لا حدَّ لها.

فقيل لهم: إن الطلاق الذي تعقبه الرجعة مرتان، لا مِرارٌ لا حدَّ لها، فالمرة الواحدة هي طلاق تعقبه رجعة، مع صرف النظر عن ذلك الطلاق أطلقةً كان أم ألفًا

(1)

.

وهذا جوابٌ جيد، لكنه لا يأتي إلا على قول الظاهرية والزيدية وعامة الشيعة ومن وافقهم: إن الطلاق الثلاث الذي يحرمها حتى تنكح زوجًا غيره، إنما هو طلاق يتبعه رجعة، ثم طلاق يتبعه رجعة، ثم طلاق. فأما أن يقول: طلقتك ألفًا، أو يكرر لفظ الطلاق في كلامٍ واحدٍ، أو يطلق مرارًا كثيرةً لم تتخللها رجعة، فهذا كله مرةٌ واحدةٌ.

(1)

كتب المؤلف هنا: "ملحق". ويقصد به الكلام الآتي.

ص: 599

ويحتجون بالآية، والإنصاف أن ظاهرها معهم، فإنها أثبتت أن للرجل أن يطلق ثم يراجع، ثم يطلق ثم يراجع، ولم تحدّد الطلاق الواقع كل مرة.

ويحتجون بالآية الرابعة من آيات البقرة، فإنه تعالى قال:{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ} والإمساك هنا الرجعة اتفاقًا، قالوا: فأثبت لهم الرجعة بعد الطلاق، ولم يحدد الطلاق بحدّ، فهو صادق بأن يقول: طلقتك، وأن يقول: طلقتك وطلقتك وطلقتك، أو طلقتك ألفًا، أو عدد ذرات العالم، ولا حدَّدتْه بأنه أول طلاق، ولا أنه طلاق قد تقدمه طلاق ورجعة.

فإن قيل: إنك قد قدمت استظهار أن هذه الآية متقدمة على قوله: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} !

قلت: نعم، ولكن لهم أن يقولوا: إن آيتي {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} أقرت الآية الرابعة على هذا المعنى، ووافقتها عليه ــ كما تقدم ــ وإنما خالفتها في المرة الثالثة.

[ص 5 مكرر] ويحتجون أيضًا بآيات سورة الطلاق، والكلام فيها كالكلام في الآية الرابعة من آيات البقرة سواء.

واحتج مخالفوهم بقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} .

أخرج أبو داود بسندٍ صحيحٍ كما في الفتح

(1)

عن مجاهد قال: "كنت

(1)

(9/ 362). والأثر عند أبي داود (2197).

ص: 600

عند ابن عباس فجاءه رجل، فقال: إنه طلَّق امرأته ثلاثًا، فسكت حتى ظننت أنه سيردُّها إليه، فقال: ينطلق أحدكم فيركب الأُحموقةَ، ثم يقول: يا ابن عباس! يا ابن عباس! إن الله قال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} ، وإنك لم تتق الله، فلا أجد لك مخرجًا، عصيتَ ربك، وبانتْ منك امرأتك".

ويجاب عن هذا بأن هذه الجملة وردت بعد أوامر ونواهي ليس فيها النهي عن جمع الطلاق، على أن من جملة الأوامر الطلاق للعدة، ومعلوم أن من طلَّق واحدة لغير العدة لا تبين منه امرأته إجماعًا.

فهذا يدل أن المخرج في الآية ليس في خصوص عدم البينونة، فمن لم يتق الله فطلق لغير العدة، ضيَّقَ الله تعالى عليه بوجوب الرجعة، ومن لم يتق الله فقال: هي طالقٌ ثلاثًا، أو ألفًا، يُضيِّق الله عليه بأن لا تقع إلا واحدة، فإن وافق ذلك هواه ضيَّق الله عليه من جهة أخرى، كأن يوقع الخلاف بينه وبين امرأته، فيضطر إلى مفارقتها، أو يعيش معها في نَكَدٍ، أو غير ذلك.

على أننا قد قدمنا أن الظاهر أن هذه الآيات نزلت قبل النسخ، وعليه فهذه الآية تشير إلى ما تقدم قبلها في الآية {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} .

فكأنه قال: إن اتقيتم الله تعالى فلم تراجعوا المطلقات إلا بمعروف، جعل الله لكم مخرجًا بأن يستمر الحكم بعدم تحديد الطلاق، وإن لم تتقوا بل أخذتم تراجعون ضرارًا، فسيضيِّق الله تعالى عليكم.

ص: 601

وقد وقع هذا الوعيد، فإنهم لما أخذوا يراجعون ضرارًا، كما في مرسل عروة، ضيَّق الله عليهم بتحديد الطلاق، والله أعلم.

هذا ما يتعلق بهذه المسألة من كتاب الله عز وجل، فلننظر الآن ما يتعلق بها من السُّنَّة.

ص: 602