المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الأحاديث التي احتج بها من يرى أن من قال: طلقتك ثلاثا، أو ألفا، أو كعدد ذرات العالم، أو نحو ذلك، فهي مرة واحدة، تكون له بعدها الرجعة - آثار عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني - جـ ١٧

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

الفصل: ‌الأحاديث التي احتج بها من يرى أن من قال: طلقتك ثلاثا، أو ألفا، أو كعدد ذرات العالم، أو نحو ذلك، فهي مرة واحدة، تكون له بعدها الرجعة

‌الأحاديث التي احتج بها من يرى أن من قال: طلقتك ثلاثًا، أو ألفًا، أو كعدد ذرَّات العالم، أو نحو ذلك، فهي مرة واحدة، تكون له بعدها الرجعة

[ص 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

في "صحيح مسلم"

(1)

بسندٍ على شرطهما عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال: "كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمرٍ قد كانت لهم فيه أناةٌ، فلو أمضيناه عليهم. فأمضاه".

وبسندٍ آخر

(2)

على شرطهما عن ابن جريج أخبرني ابن طاوس عن أبيه أن أبا الصهباء قال لابن عباس: "أتعلم أنما كانت الثلاث تُجعَل واحدةً على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وثلاثًا من إمارة عمر؟ فقال ابن عباس: نعم".

وبسندٍ آخر

(3)

على شرطهما عن إبراهيم بن مَيْسَرة أن أبا الصهباء قال لابن عباس: "هاتِ من هَنَاتِك! ألم يكن الطلاقُ الثلاثُ على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر واحدةً؟ فقال: قد كان ذلك، فلما كان في عهد عمر تَتايَعَ الناسُ في الطلاق، فأجازه عليهم".

ورجال هذه الأسانيد أئمة أثبات.

(1)

رقم (1472).

(2)

تابع للرقم السابق.

(3)

تابع للرقم المذكور.

ص: 603

وفي "المستدرك"

(1)

من طريق ابن أبي مليكة أن أبا الجوزاء أتى ابن عباس فقال: "أتعلم أن ثلاثًا كن يُرْدَدْنَ على عهد رسول الله إلى واحدة؟ قال: نعم".

وفي "مسند أحمد"

(2)

: ثنا سعد بن إبراهيم، ثنا أبي، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني داود بن الحصين، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس، قال: طلَّق رُكانةُ بن عبد يزيد أخو بني المطَّلب امرأتَه ثلاثًا في مجلس واحد، فحزِن عليها حزنًا شديدًا. قال: فسأله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كيف طلقتَها؟ قال: طلقتُها ثلاثًا. قال: فقال: في مجلسٍ واحدٍ؟ قال: نعم. قال: فإنما تلك واحدةٌ، فارجِعْها إن شئت. قال: فراجعَها، فكان ابن عباس يرى أنما الطلاق عند كل طهر.

وقد احتج الإمام أحمد بحديث آخر بسند هذا سواء

(3)

.

وفي "سنن أبي داود"

(4)

من طريق ابن جريج أخبرني بعض بني أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس قال: طلق عبد يزيد أبو ركانة

فقال (النبي صلى الله عليه وآله وسلم): راجعْ أمَّ ركانة وإخوتِه. فقال: إني طلقتها ثلاثًا يا رسول الله! قال: قد علمتُ، راجعْها، وتلا:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} .

(1)

(2/ 196). وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، وتعقبه الذهبي فقال: ابن المؤمل ضعفوه.

(2)

(1/ 265).

(3)

هو حديث إرجاع النبي صلى الله عليه وسلم ابنته زينب على زوجها بالنكاح الأول. أخرجه أحمد في "المسند"(2366) من طريق ابن إسحاق بهذا الإسناد.

(4)

رقم (2196).

ص: 604

وعورض هذا بحديث ضعيف

(1)

، ضعفه الإمام أحمد وغيره في "أن ركانة طلَّق البتة".

وفي "صحيح مسلم"

(2)

من طريق محمد بن سرين قال: "مكثتُ عشرين سنة يحدثني من لا أتهم: أن ابن عمر طلَّق امرأته ثلاثًا وهي حائض، فأمر أن يراجعها، فكنت لا أتهمهم ولا أعرِفُ وجهَ الحديث، حتى لقيت أبا غلاب يونس بن جبير، وكان ذا ثبت، فحدثني أنه سأل ابن عمر، فحدثه أنه طلَّق امرأته تطليقةً وهي حائض".

أقول: [ليس] بين ما أخبره الجماعة الذين لا يتهمهم، وما أخبره أبو غلاب عن ابن عمر [تعارض]، بل يُجمع بينهما بأنه طلَّق ثلاثًا في اللفظ، وواحدة في الحكم.

وعلى هذا يُحمل ما جاء في عدة روايات من أنه طلَّق تطليقةً واحدةً، وكأن ابن عمر أو من بعده كان يعبر بهذا؛ لأنه يرى أن الحكم قد تغير بسبب استعجال الناس، كما مر في حديث ابن عباس، فصار الإنسان إذا طلَّق ثلاثًا حسبت عليه ثلاثًا، ولا يصرح بقوله ثلاثًا؛ لئلا يخطئ الناس بظن أن هذه الصورة مستثناة مما أمضاه عمر.

وعلى هذا أيضًا يُحمل ما في "صحيح مسلم"

(3)

: "وكان عبد الله إذا سئل عن ذلك قال لأحدهم: أما أنت طلقتَ امرأتك مرةً أو مرتين، فإن

(1)

أخرجه أبو داود (2206، 2208).

(2)

رقم (1471/ 7).

(3)

رقم (1471/ 1).

ص: 605

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمرني بهذا، وإن كنتَ طلقتَها ثلاثًا، فقد حرمتْ عليك حتى تنكح زوجًا غيرك، وعصيتَ الله فيما أمرك من طلاق امرأتك".

ومثله ما يُروى عن عمر: أن رجلًا قال له: إني طلقت امرأتي البتةَ وهي حائض. فقال: عصيتَ ربك، وفارقتَ امرأتك. قال: فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر ابن عمر أن يراجع امرأته؟ قال: إنه أمر ابن عمر أن يراجعها بطلاق بقي له، وأنت لم تُبقِ ما ترتجعُ به امرأتك.

رواه الدارقطني

(1)

من طريق إسماعيل بن إبراهيم الترجماني عن سعيد بن عبد الرحمن الجمحي، والسند بعد ذلك صحيح. والترجماني قالوا:"لا بأس به". ووثقه بعض المتأخرين

(2)

، والجمحي مختلف فيه

(3)

.

[ص 7] وقد أطال أهل العلم الكلامَ في هذه المسألة، فلنقدم كلام الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في كتاب "اختلاف الحديث"

(4)

. قال: "باب في طلاق الثلاث المجموعة"، ثم ذكر حديث ابن عباس بمعنى الرواية الثانية عند مسلم، ثم أسند عن ابن عباس:"أن رجلًا قال له: طلَّقتُ امرأتي ألفًا. فقال: تأخذ ثلاثًا، وتَدَعُ تسعمائة وسبعًا وتسعين"

(5)

.

وبسند آخر: "قال رجلٌ لابن عباس: طلقتُ امرأتي مائةً. فقال: تأخذ ثلاثًا، وتَدَعُ سبعًا وتسعين".

(1)

(4/ 8).

(2)

انظر "تهذيب التهذيب"(1/ 271، 272).

(3)

انظر المصدر السابق (4/ 55، 56).

(4)

ضمن كتاب "الأم"(10/ 256، 257) ط. دار الوفاء.

(5)

أخرجه أيضًا عبد الرزاق في "المصنف"(6/ 397) والبيهقي (7/ 337).

ص: 606

قال الشافعي: "فإن كان معنى قول ابن عباس أن الثلاث كانت تُحسَب على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يعني أنه بأمر النبي".

أقول: هذا هو المتعين قطعًا؛ لأن هذا الجعل إنما يكون قضاءً أو إفتاءً، ولم يكن يقع القضاء والإفتاء في عهده صلى الله عليه وآله وسلم إلا منه، أو بأمره، أو بعلمه، إذ لا يجوز أن يكون وقع القضاء والإفتاء في هذا الحكم العظيم من أصحابه صلى الله عليه وآله وسلم باجتهادهم، ثم لا يبلغه ذلك، مع ما تُشعِر به الآثار من تكرر ذلك واستمراره.

وعلى فرض أنه كان يقع ذلك ولم يبلغه ــ وهو محالٌ عادةً ــ فكفى بتقرير الله عز وجل حجةً.

وفي "الصحيح"

(1)

عن جابر: "كنا نَعزِل والقرآن ينزل، لو كان شيئًا يُنهَى عنه لنَهَى عنه القرآن".

وإذا كنا نحتج بتقرير النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فالاحتجاج بتقرير الله عز وجل أولى، فإن الوصلة كانت حينئذٍ موجودة بينه وبين عباده بوجود الوحي، فإذا لم يبين للناس خطأ ما يفعلونه حينئذٍ، فقد أقرهم عليه، ويوضح هذا قول الله عز وجل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} .

وما تضافرت به الآثار أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يكره المسائل حتى قال: "إن أعظم المسلمين في المسلمين جرمًا من سأل عن شيءٍ لم يُحرَّم على الناس، فحُرِّم من أجل مسألته". رواه الشيخان

(2)

من حديث سعد بن أبي وقاص.

(1)

البخاري (5208) ومسلم (1440). والفقرة الأخيرة عند مسلم فقط.

(2)

البخاري (7289) ومسلم (2358).

ص: 607

وإنما المعنى أن الناس كانوا مأمورين أن يعملوا بما ظهر لهم من الشريعة، وبأصل الإباحة وعدم التكليف، متَّكلِين على أن الله تبارك وتعالى يعلم بهم وبما فعلوه، فإن أخطأوا غفر لهم خطأهم، وبين لهم على لسان رسوله، كما في "صحيح البخاري"

(1)

عن سهل بن سعد قال: "أنزلت {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} ولم ينزل {مِنَ الْفَجْرِ}، فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجلَيْه الخيطَ الأبيض والخيط الأسود، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله بعد {مِنَ الْفَجْرِ}، فعلموا أنما يعني الليل والنهار".

ويوضح هذا ما في "صحيح مسلم"

(2)

عن أبي هريرة قال: "خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أيها الناس! قد فرض الله عليكم الحج فحُجُّوا. فقال رجل: أكلَّ عامٍ يا رسول الله؟ فسكت، حتى قالها ثلاثًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لو قلت: نعم، لوجبتْ، ولما استطعتم"، ثم قال: "ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيءٍ فأْتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيءٍ فدعوه" (صحيح مسلم ج 4/ ص 102).

لما كان الأصل عدم التكليف بالحج، وقوله:"قد فرض الله عليكم الحج، فحجوا" يتحقق بمرةٍ واحدةٍ في العمر، كان عليهم أن يفهموا المرة الواحدة، ويقتصروا عليه، عالمين أن الله تعالى إذا أراد كل سنة فسيُبينه لهم

(1)

رقم (1917). وأخرجه أيضًا مسلم (1091).

(2)

رقم (1337).

ص: 608

بدون سؤال.

وهكذا ما كان الأصل فيه الإباحة، كان عليهم أن يستمروا على استباحته، فإذا أراد الله تعالى تحريمه، فسيبينه بدون سؤال.

واعلم أن سكوت الشرع عن تنبيههم على خطئهم في القضاء والفتوى في الطلاق ــ لو كانوا أخطأوا ــ أبعدُ جدًّا من سكوته عن تنبيههم على الخطأ في فعل العَزْل، وتناوُلِ ما لم يروه حرامًا، والاقتصار على حجة واحدة، فدلالة السكوت على التقرير في الأول وأنهم مصيبون أوضح من الدلالة في الثاني، فتدبَّر هذا.

مع أن الحكم في قضية ركانة، وقضية ابن عمر من النبي نفسه صلى الله عليه وآله وسلم.

[ص 8] ولضعف أو بطلان احتمال أن ما كان يقع في عهده صلى الله عليه وآله وسلم مِنْ جعلِ الثلاث واحدةً، كان بغير أمره وبغير تقريره، لم يعتمد الشافعي على هذا الجواب، ولا اعتدَّ به، وإنما أشار إليه إشارةً، وإنما أمعنتُ في بيان سقوطه؛ لأن بعض أهل العلم ممن بعده اعتمد عليه، والله المستعان.

قال الشافعي

(1)

: "فالذي يُشبِه ــ والله أعلم ــ أن يكون ابن عباس قد علم أن كان شيئًا فنُسِخ.

فإن قيل: فما دلَّ على ما وصفتَ؟

قيل: لا يُشبِه أن يكون يروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئًا ثم يخالفه بشيءٍ لم يعلمه كان من النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه خلافُه.

(1)

في "اختلاف الحديث" ضمن كتاب "الأم"(10/ 257، 258) ط. دار الوفاء.

ص: 609

فإن قيل: فلعل هذا شيءٌ روي عن عمر، فقال فيه ابن عباس بقول عمر.

قيل: قد علمنا أن ابن عباس يخالف عمر في نكاح المتعة، وبيع الدينار بالدينارين، وفي بيع أمهات الأولاد، وغيره، فكيف يوافقه في شيءٍ، ويروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه خلافه؟

فإن قيل: فلِمَ لم يذكره؟

قيل: وقد يُسأل الرجل عن الشيء، فيجيب فيه ولا يتقصَّى فيه الجواب، ويأتي على الشيء، ويكون جائزًا له، كما يجوز له لو قيل: أصلَّى الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى بيت المقدس؟ أن يقول: نعم. وإن لم يقل: ثم حُوِّلتِ القبلة.

قال: فإن قيل: فقد ذكر [على] عهد أبي بكر، وصدر من خلافة عمر.

قيل ــ والله أعلم ــ: وجوابه حين استفتي يخالف ذلك، كما وصفتُ".

أقول: أطال النووي في "شرح مسلم"

(1)

في الرد على احتمال النسخ، ورده واضح، فإن قول ابن عباس:"كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر الثلاثُ واحدةً، فقال عمر .. " صريحٌ في أن الطلاق كله كان على هذا، فإن هذه قضيةٌ عامةٌ، وليس مثلها ما لو قيل:"أصلَّى الناسُ على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى بيت المقدس"؛ لأن هذه قضية خاصة، فالأولى تدل على الاستمرار، بخلاف الثانية.

وقول ابن عباس في جواب السائل: "قد كان ذلك، فلما كان في عهد

(1)

(10/ 71، 72).

ص: 610

عمر تتايعَ الناسُ في الطلاق، فأجازه عليهم" صريحٌ في أنه أراد أن يُبين تغيرَ الحكم، فلو علم نسخًا في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما عدل عنه، بل كان يقول: قد كان ذلك في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم نسخ، أو نحو هذا.

واحتمالُ أن يكون النسخ وقع في آخر الحياة النبوية، فلم يعمل بموجبه في العهد النبوي، ولم يطلع عليه ابن عباس، يردُّه استمرار الحكم في عهد أبي بكر، وثلاث سنين من إمارة عمر، فيكونون قد أجمعوا على الخطأ.

واحتمال أن يكونوا اطلعوا في عهد عمر على ناسخٍ، يردُّه أن عمر إنما بنى التغيير على قوله:"إن الناس قد استعجلوا في أمرٍ كانت لهم فيه أناةٌ"، ولو كان اطلع على ناسخٍ لما عَدَلَ عنه، بل كان يقول: قد كنا نَقضِي بكذا حتى وقفنا على هذا النص، ويذكره.

وهكذا ابن عباس، إنما بنى التغيير على قوله:"فلما كان في عهد عمر تتايعَ الناسُ في الطلاق، فأجازه عليهم"، فبيَّن أن الإجازة كانت بسبب التتايع، فلو كانت الإجازة للاطلاع على ناسخٍ لما عدلَ عنه.

وقد سلَّم الشافعيُّ أن الاستمرار في عهد أبي بكر ومدة من إمارة عمر يدفع النسخ، وإنما عارض ذلك بفتوى ابن عباس. وهذه معارضة ضعيفة، بل باطلة على أصل الشافعي الذي يوافقه عليه جمهور أهل العلم: أن العبرة بما رواه الراوي وإن خالفه.

وقد قرر الشافعي هذه القاعدة في مواضع من "الأم"، منها: مسألة التحريم بالرضاع من جهة الفحل

(1)

، وغيرها.

(1)

(8/ 768، 769) من "اختلاف مالك والشافعي".

ص: 611

ومن يقول: إن فتوى الراوي بخلاف مرويِّه تَخْدِش في مرويِّه، يستثني من ذلك ما إذا بيَّن الراوي مستندَ فتواه، وتبين لنا ضعف ذلك المستند.

وقد بيَّن ابن عباس هنا أن مستند التغيير هو أن الناس تتايَعوا في الطلاق، فأجازه عليهم عمر. وإجازة عمر ليست عند ابن عباس حجة، كما ذكر الشافعي، فلم يبق إلا أنه وافقه على أن التتايع يقتضي الإجازة، وسيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى.

[ص 9] على أنه قد جاء عن ابن عباس الفتوى بأن الثلاث واحدة.

قال أبو داود في "سننه"

(1)

: روى حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس: "إذا قال أنت طالق ثلاثًا، بفمٍ واحدٍ، فهي واحدة". ورواه إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن عكرمة هذا قوله، لم يذكر ابن عباس، وجعله قول عكرمة. (سنن أبي داود 1/ 298).

أقول: الظاهر صوابهما معًا، إذ لا مانعَ أن يرويه أيوب تارةً عن عكرمة عن ابن عباس، وتارةً عن عكرمة من قوله، فإن أبيتَ إلا الترجيح فقد اختلف الناس أيهما أرجح: حماد أم إسماعيل ــ وهو ابن عُلَية ــ؟

فقدَّم عثمان بن أبي شيبة ابنَ عُلَية.

وقال يحيى بن معين: حماد بن زيد أثبت من عبد الوارث وابن عُلَية والثقفي وابن عيينة.

وقال أيضًا: ليس أحدٌ أثبتَ في أيوب منه.

وقال أيضًا: من خالفه من الناس جميعًا، فالقول قوله في أيوب.

(1)

بذيل رقم (2197).

ص: 612

وقال يعقوب بن شيبة: ابن زيد معروفٌ بأنه يقصر في الأسانيد، ويُوقِف المرفوع، كثير الشك بتوقِّيه .. وكان يُعدُّ من المتثبتين في أيوب.

وقال ابن أبي خيثمة: سمعت يحيى ــ هو ابن معين ــ يقول: لم يكن أحدٌ يكتب عند أيوب إلا حماد.

وقال الخليلي: المعتمد في حديثٍ يرويه حماد، ويخالفه غيره عليه، والمرفوع إليه

(1)

.

أقول: كأنه يريد بقوله: "والمرفوع إليه" أنه إذا رفع حديثًا ووقفه غيره، فالقول قوله؛ لأنه كان كثير التوقي يتوقف عن الرفع لأدنى شك، كما مر عن يعقوب بن شيبة.

ثم قال أبو داود

(2)

: "وصار قول ابن عباس فيما حدثنا

". ذكر أثرًا أفتى فيه ابن عباس وغيره في البكر يطلقها زوجها ثلاثًا، فكلهم قال: "لا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره".

وعقَّبه بقوله

(3)

: حدثنا محمد بن عبد الملك بن مروان نا أبو النعمان نا حماد بن زيد عن أيوب عن غير واحدٍ عن طاوس: أن رجلًا يقال له أبو الصهباء كان كثير السؤال لابن عباس، قال: أما علمتَ أن الرجل كان إذا طلَّق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها، جعلوها واحدةً على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وصدرًا من إمارة عمر؟ قال ابن عباس: بلى، كان الرجل إذا طلَّق

(1)

انظر أقوال هؤلاء النقاد في "تهذيب التهذيب"(3/ 10، 11).

(2)

رقم (2198).

(3)

رقم (2199).

ص: 613

امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدةً على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وصدرًا من إمارة عمر، فلما رأى الناس قد تتايعوا فيها، قال: أجيزوهن

(1)

عليهم.

ثم أخرج

(2)

رواية ابن طاوس عن أبيه بلفظ الرواية الثانية عند مسلم.

فقوله: "وصار قول ابن عباس" ظاهرٌ في اعترافه بأن رواية حماد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس ثابتة، وأن لابن عباس قولين، كان يقول بأحدهما، ثم صار إلى الآخر، فإن أراد أنه كان يقول بأنها واحدةٌ، كما في رواية حماد، ثم صار إلى وقوع الثلاث، فهي دعوى بلا دليلٍ، وهكذا إن أراد عكسه، فالأولى أنه كان يفتي بهذا تارةً، وبهذا أخرى، يتوخى في كل قضية ما هو الأولى بها، كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى.

وقد استدل بعضهم لما تقدم عن الشافعي من احتمال أن ابن عباس اطلع على ناسخٍ بما رواه أبو داود

(3)

قال: حدثنا أحمد بن محمد المروزي، حدثني علي بن حسين بن واقد، عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} الآية، وذلك أن الرجل كان إذا طلَّق امرأته فهو أحقُّ برجعتها وإن طلَّقها ثلاثًا، فنسخ ذلك، فقال:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} الآية. (سنن أبي داود ج 1/ ص 296).

(1)

كذا في الأصل. وعند أبي داود: "أُجِيزُهن".

(2)

رقم (2200).

(3)

رقم (2195).

ص: 614

أقول: علي بن حسين بن واقد، قال أبو حاتم: ضعيف الحديث. وقال النسائي: ليس به بأس

(1)

.

وعلى كلتا العبارتين فلا يصلح للحجة، وإنما يصلح على الثانية للمتابعة.

وأبوه

(2)

وثقه يحيى، وقال أبو زرعة وأبو داود والنسائي وأحمد في رواية: ليس به بأس. وقال ابن حبان في "الثقات": كان من خيار الناس، وربما أخطأ في الروايات. وقال أحمد في رواية أخرى: في أحاديثه زيادة، ما أدري أي شيءٍ هي، ونفضَ يده.

[ص 10] أقول

(3)

: فالحديث غير صالح للحجة، ومع ذلك فإن كان مراده بقوله:"وإن طلَّقها ثلاثًا" يعني مجموعةً، فيؤخذ من ذلك أن هذا منسوخٌ، ومن جملة ما نسخ، فقد دلت الأحاديث الصحيحة الثابتة على بطلان هذا الحديث، بدلالتها على أن ابن عباس لم يكن يعلم ناسخًا، بل صرَّح بأن الحكم بجعل الثلاث واحدةً استمرَّ في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وثلاثًا من إمارة عمر.

وفيما تقدم عن سنن أبي داود من فتوى ابن عباس ثم عكرمة بعده بكونها واحدةً، دليلٌ آخر على بطلان هذا الحديث، لأنه مروي من طريق عكرمة عن ابن عباس.

(1)

"تهذيب التهذيب"(7/ 308).

(2)

انظر المصدر السابق (2/ 373، 374).

(3)

قبلها في الأصل ورقة من مكان آخر.

ص: 615

وإن كان مراده بقوله: "وإن طلَّقها ثلاثًا" أي متفرقةً، بأن يطلق ثم يراجع، ثم يطلق ثم يراجع، ثم يطلق، فله شاهدٌ، وهو ما رواه مالك في "الموطأ"

(1)

عن هشام بن عروة عن أبيه قال: "كان الرجل إذا طلَّق امرأته، ثم ارتجعَها قبل أن تنقضي عدتها، كان ذلك له، وإن طلَّقها ألفَ مرة، فعَمَدَ رجلٌ إلى امرأته فطلَّقها، حتى إذا شارفَتْ انقضاءَ عدتها راجعها، ثم طلَّقها، ثم قال: لا والله لا أُوْوِيكِ

(2)

إليَّ، ولا تَحِلِّين أبدًا، فأنزل الله تبارك وتعالى:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} فاستقبل الناس الطلاقَ جديدًا من يومئذٍ، من كان طلَّق منهم أو لم يطلِّق".

وذكر أيضًا

(3)

عن ثور بن زيد الدِّيلي: "أن الرجلَ كان يطلق امرأته، ثم يراجعها، ولا حاجةَ له بها، ولا يريدُ إمساكها، كيما تطول بذلك عليها العدة لِيُضارَّها، فأنزل الله تبارك وتعالى: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} يَعِظُهم الله بذلك". (الموطأ هامش المنتقى ج 5/ص 175).

وذكره الشافعي عقبَ ما حكيناه عنه سابقًا، فقال

(4)

: "فإن قيل: فهل من دليلٍ تقوم به الحجة في ترك أن تُحسَب الثلاث واحدةً في كتاب أو سنة، أو أمرٍ أبين مما ذكرت؟

قيل: نعم، أخبرنا مالك

".

(1)

(2/ 588).

(2)

في "الموطأ": "لا آويك".

(3)

"الموطأ"(2/ 588).

(4)

"الأم"(10/ 258).

ص: 616

فذكره ثم قال: "وذكر بعض أهل التفسير هذا، فلعل ابن عباس أجاب على أن الثلاث والواحدة سواء".

أقول: روى ابن جرير

(1)

مرسل عروة بنحوه عن ابن حميد عن جرير عن هشام به، وعن أبي كريب عن ابن إدريس عن هشام به، وزاد بعد قوله:"ولا تحلين لي": قالت له: كيف؟ قال: أطلقك حتى إذا دنا أجلك راجعتك، ثم أطلقك فإذا دنا أجلك راجعتك، قال: فشكت ذلك إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأنزل الله

" (تفسير ابن جرير 2/ 258).

وأخرج

(2)

عن قتادة وابن زيد نحو هذا المعنى، وأشار إليه الشافعي بقوله:"وذكر بعض أهل التفسير هذا".

وقد أغرب يعلى بن شَبِيب، فروى

(3)

حديث عروة عن هشام عن أبيه عن عائشة. (جامع الترمذي ج 1/ص 224، المستدرك ج 2/ص 280).

ويعلى

(4)

مجهول الحال، وإن ذكره ابن حبان في "الثقات"

(5)

، فإن مذهب ابن حبان أن يذكر في "ثقاته" المجهول الذي روى عن ثقة، وروى عنه ثقة، ولم يكن حديثه منكرًا، كما نص على ذلك في "الثقات"

(6)

،

(1)

"تفسيره"(4/ 125، 126).

(2)

المصدر نفسه (4/ 126).

(3)

أخرجه من طريقه الترمذي (1192) والحاكم (2/ 279، 280) كما ذكره المؤلف.

(4)

انظر "تهذيب التهذيب"(11/ 401، 402).

(5)

(7/ 652).

(6)

المصدر نفسه (1/ 13).

ص: 617

وأوضحه ابن حجر

(1)

وغيره. انظر "فتح المغيث"

(2)

.

وكذلك لا ينفعه إخراج الحاكم له في "المستدرك"؛ لما علم من تساهله.

[ص 11] نعم، إن مرسل عروة اعتضد، ولكنه لا علاقة له بمسألتنا، والكلام الآن في مقامين:

الأول: فيما ظنه بعضهم أن هذا المرسل وعواضده يدل على نسخ ما تضمنته أحاديث جعل الثلاث واحدة، والظاهر من كلامهم تجويز أن ابن عباس إنما عنى بقوله:"إنما كانت الثلاث تُجعل واحدةً على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم " بيانَ ما ذكره عروة بقوله: "كان الرجل إذا طلَّق امرأته ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدتها كان ذلك له، وإن طلَّقها ألف مرة".

فاعلم أن قوله: "كانت الثلاث تُجعل واحدة" يُشعِر بأن هذا في وقت كان للطلاق فيه حد معين، والحالة التي ذكرها عروة لم يكن فيها حسابٌ أصلًا، فلم يكن للحكم تعلق بأن يقال: طلَّق واحدة، طلَّق ثنتين، طلَّق ثلاثًا، وإنما كان المعتبر الطلاق من حيث هو طلاق، إن طلَّق وانقضت العدة بانت، وإن راجع في العدة رجعت، وكأنه لم يُطلق، ثم إن طلَّق وانقضت العدة بانت، وإن راجع فيها رجعت وكأنه لم يُطلق، وهكذا أبدًا، فكان الطلاق بمنزلة العتق، فلو فُرِض أن الرجل إذا أعتق عبده كان له أن يرجع عن العتق إلى شهر مثلًا، ثم إذا أعتق ثانيًا فهكذا، وإذا أعتق ثالثًا فهكذا، وهكذا أبدًا،

(1)

"لسان الميزان"(1/ 209).

(2)

"فتح المغيث"(2/ 45).

ص: 618

ففي هذه الحال لا يكون باعث للسيد أن يقول لمملوكه: أعتقتك ثلاثًا، أو أربعًا، أو غير ذلك، ولا يكون وجهٌ لأن يقال: إذا قال: أعتقتك ثلاثًا جُعِلت واحدةً، أو حُسِبت بواحدة، فتدبر.

وإنما يأتي هذا لو كان الحكم أن من أعتق عبده كان له أن يرجع إلى شهر مثلًا، ثم إذا أعتق ثانيًا فهكذا، فإذا أعتق ثالثًا لم يكن له الرجوع.

ففي هذا يمكن أن يقول بعض الناس لمملوكه: أعتقتك ثلاثًا، إما على وجه التوكيد، كأنه يقول: أعتقتك وعزمتُ على نفسي أن لا أرجع، كما لا يرجع من أعتق ثم رجع ثم أعتق ثم رجع ثم أعتق، وإما لظنه

(1)

ــ خطأً أو صوابًا ــ أنه إذا قال ذلك، كان كأنه قد أعتقه ورجع، ثم أعتقه ورجع، ثم أعتقه. وههنا يصح أن يقال: إذا قال: أعتقتك ثلاثًا جُعِلت واحدة.

وإذا فرضنا أن الحكم كان على هذا برهةً، ثم غُيِّر إلى أن من قال: أعتقتك ثلاثًا لم يكن له الرجوع، فحينئذٍ يليق أن يقول من يخبر عن الحكم السابق:"إنما كانت الإعتاقات الثلاث تجعل واحدة".

هذا وأنت خبيرٌ أن الحالة الأولى في مرسل عروة نُسِختْ نسخًا قطعيًّا بصريح القرآن، وكان النسخ بعد قدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمدةٍ لا أراها تتجاوز ثلاث سنين، وانتشر ذلك في الصحابة انتشارًا تامًّا، وقضى به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعلمه الصحابة، واستقبل الناس الطلاقَ من يومئذٍ جديدًا، كما قال عروة، وقالت امرأة رفاعة

(2)

: "إن زوجي طلقني فبتَّ طلاقي".

(1)

في الأصل: "على لظنه".

(2)

أخرجه البخاري (5260)، ومسلم (1433) من حديث عائشة.

ص: 619

وفي حديث فاطمة بنت قيس في الصحيح

(1)

: "فانطلق خالد بن الوليد في نفرٍ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بيت ميمونة، فقالوا: إن أبا حفص طلَّق امرأته ثلاثًا".وقالت في رواية أخرى

(2)

: "وأتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: "كم طلَّقَك؟ " قلت: ثلاثًا". وفيه في رواية ثالثة

(3)

: "وأمر لها الحارث بن هشام وعياش بن أبي ربيعة بنفقة، فقالا لها: والله ما لكِ نفقةٌ إلا أن تكوني حاملًا" أي لأجل تمام الثلاث.

بل إن هذا الحكم انتشر حتى عرفه المشركون، كما قد يؤخذ من قول الأعشى، أنشده الشافعي وغيره

(4)

:

أيا جارتا بِيني فإنكِ طالقه

وموموقةٌ ما كنتِ فينا ووامقَهْ

أجارتَنا بِيني فإنك طالقه

كذاك أمورُ الناس غادٍ وطارقَهْ

وبِيني فإن البينَ خيرٌ من العصا

وأن لا تزالي فوق رأسِكِ بارقه

حبستُكِ حتى لامَني كل صاحب

وخفتُ بأن تأتِي لديَّ ببائقه

(الأم ج 3/ ص 233).

[ص 12] فذِكْره الطلاق مرتين، ثم قوله في الثالثة:"وبِيني"، واقتصاره على ذلك ظاهر في أن الحكم قد كان بلغه في الجملة، [ووقع له ما وقع]

(1)

"صحيح مسلم"(1480/ 38).

(2)

المصدر نفسه (1480/ 48).

(3)

المصدر نفسه (1480/ 41).

(4)

الأبيات في ديوان الأعشى (ص 313) و"الأم"(10/ 215) في "اختلاف الحديث".

ص: 620

لبعض الصحابة كرُكَانة، وعُويمر العجلاني، إذ قال بعد أن لاعن زوجته:"هي طالقٌ ثلاثًا"

(1)

.

وقد مر توجيه ذلك في مثال العتق، وسيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى.

والأعشى هلك قبل فتح مكة، كما ذكره ابن قتيبة

(2)

وغيره.

فمع هذا كله أيجوز أن يقال: إن الطلاق كان على ذلك الحكم المنسوخ في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وثلاثًا من إمارة عمر حتى تتايَعَ الناس في الطلاق، فأُجِيزَ عليهم؟

إن العاقل ليستحيي من حكاية هذا القول، فضلًا عن توهمه، فكيف بمن يُجوِّزه، ويُفسِّر به كلام ابن عباس؟

والشافعي رحمه الله تعالى لم يقل هذا، وإن أوهمه قوله بعد أن ذكر مرسل عروة:"فلعل ابن عباس أجاب على أن الثلاث والواحدة سواء".

وإنما أورد مرسل عروة جوابًا لقوله: "فإن قيل: فهل من دليلٍ تقوم به الحجةُ في ترك أن تُحسَب الثلاث واحدةً؟ ".

المقام الثاني: في النظر في مرسل عروة، هل فيه دلالة على ترك أن تحسب الثلاث واحدة؟

حاصل مرسلِ عروة وما يوافقه:

1 -

أن ارتجاع المطلق لزوجته لم يكن له شرط إلا وقوعه في العدة،

(1)

أخرجه البخاري (5308، 5309) ومسلم (1492) من حديث سهل بن سعد.

(2)

"الشعر والشعراء"(1/ 257).

ص: 621

فلم يكن هناك حدٌّ لسلسلة الطلاق والرجعة. يطلق الرجل ثم يراجع، ثم يطلق ثم يراجع، ثم يطلق ثم يراجع، ثم يطلق ثم يراجع، وهكذا أبدًا.

2 -

فاتخذ بعض الناس ذلك طريقًا للإضرار بالنساء.

3 -

فأنزل الله تعال الآية، وشرع الحكم المستقر.

4 -

فاستقبل الناس الطلاقَ من يومئذٍ جديدًا.

فالنسخ إنما كان لحسم مادة الإضرار بالنساء، وقد أبقى الشرع للزوج حقَّ الرجعة اتفاقًا إذا طلَّق واحدةً، ثم راجع قبل انقضاء العدة، ثمَّ طلَّق ثانيةً، ثم راجع قبل انقضاء العدة. مع أن الزوج قد يتمكن بهذا من إضراره بالمرأة، ولكنه يسير، ولو لم يبقَ له ذلك لأضرَّ ذلك بالنساء وبالأطفال وبالأزواج ضررًا شديدًا.

ولا يخفى أنه لا فرقَ في احتمال قصد الزوج مضارَّة المرأة بين أن يطلق واحدةً ثم يراجع، ثم يطلق أخرى ثم يراجع، وبين أن يقول: طلقتك عدد ذرات العالم ثم يراجع، ثم يقول مثل ذلك ثم يراجع.

فالقول بأنه إذا قال: "طلقتك واحدة" كانت له الرجعة، وإذا قال:"طلقتك ثلاثًا" لم يكن له رجعة، لا يناسب سبب الآية، وما تضمنته من الحكم، فإن سببها هو إضرار الرجال بالنساء، ولا فرق من جهة الإضرار بين أن يطلق واحدة ثم يراجع، أو عدد ذرات العالم ثم يراجع.

والحكم بأنه إذا قال: "طلقتك" كانت له الرجعة، ثم إذا قال:"طلقتك" كان له الرجعة أيضًا، إنما أُبقِي ــ مع احتمال قصد الرجل الإضرار بالمرأة ــ

ص: 622

دفعًا لضررٍ أشدَّ يلحق بالمرأة وأطفالها، وبالزوج أيضًا، فقد تكون المرأة وسطًا، ولها أطفال صغار، وليس لها من يقوم بها، ويكون الزوج غير غني، فيحتدُّ فيطلق، ثم يندم لما يلحقه من الضرر، مع ما يلحق الزوجةَ وأطفالَها، فأبقى الله عز وجل له فُسحةً لدفع هذا الضرر.

ولا فرق في حصول هذا الضرر الشديد بالمرأة والأطفال والزوج بين أن يقول: "طلقتك واحدة"، وبين أن يقول:"طلقتك عدد ذرات العالم".

ومن كان له معرفة بأحوال الناس في هذا العصر، وجدَ أن إضرار الرجال بالنساء بأن يطلق أحدهم ثم يراجع، ثم يطلق ثم يراجع = نادرٌ جدًّا، بل لعله معدومٌ، والضرر الشديد الذي يلحق النساءَ والأطفالَ والأزواجَ بمنع الرجعة إذا غضب الرجل فطلقها ثلاثًا= كثيرٌ جدًّا، ولاسيَّما في الأقطار التي تقلُّ الرغبة فيها في زواج الثيبات كالهند.

على أن الضرر الأول ــ مع خفته ــ يمكن علاجه بالصبر مدةً يسيرةً، والضرر الثاني ــ مع شدته، وتناوله للمرأة والأطفال والزوج ــ لا علاج له.

[ص 12 مكرر] والتحليل باطلٌ عند جماعة من العلماء، وجائزٌ مع الكراهة الشديدة عند آخرين، وعلى كل حال فهو خبيثٌ شرعًا وطبعًا، ويجرُّ إلى مفاسد شديدة، وأهل التقوى أو الغيرة يُؤثِرون الضررَ الشديد على التحليل.

وبالجملة فالضرر الشديد الناجم عن تنفيذ الثلاث محسوسٌ مشاهدٌ بكثرة فاحشة في جميع الأقطار، بل إن الضرر الذي يُخاف من عدم تحديد الطلاق أصلًا، كان يمكن دفعه بأمر الحكام بالتضييق على الأزواج إذا تبين منهم قصد المضارَّة.

ص: 623

فالقول بأن الآية نزلت لتدفع عن النساء هذا الضرر، ومع ذلك أوقعت عليهن وعلى أطفالهن وأزواجهن ضررًا أشد من ذلك، لا علاج له= فيه ما فيه.

وإذا تأملتَ ذلك علمتَ أنه لو قال قائلٌ: "إن مرسل عروة أقرب إلى موافقة حديث ابن عباس وما معه، منه إلى مخالفته" لما أبعد.

قال الشافعي

(1)

رحمه الله: "فلعل ابن عباس أجاب على أن الثلاث والواحدة سواء".

أقول: هذا كلام موجَّه، يحتمل أنه أراد: لعل ابن عباس أجاب على أن الثلاث المجموعة والواحدة سواء في معنى الإضرار بالزوجة، فلا وجه للتفريق بينها في الحكم، فقد أبقى الله تعالى بعد النسخ للرجل أن يطلق ثم يراجع، ثم يطلق ثم يراجع، ثم إذا طلَّق فلا رجعة، فسواءً أثَلاثًا طلَّق في المرة الأولى أم واحدةً، وهكذا الثانية، فإن المقصود من النسخ لا يفرق بين ذلك، فعلى هذا تكون له الرجعة.

ويحتمل أن يكون أراد: لعل ابن عباس أجاب على مقتضى ما كان قبل النسخ أن الثلاث والواحدة سواء، إذ لم يكن حدٌّ للطلاق، فإن كان أراد هذا الثاني فقد تقدم جوابه.

ثم قال

(2)

: "و [إذا] جعل الله عدد الطلاق على الزوج، وأن يطلق متى شاء، فسواء الثلاث والواحدة وأكثر من الثلاث في أن يقضى بطلاقه".

(1)

"الأم"(10/ 258).

(2)

المصدر نفسه.

ص: 624

أقول: وهذا الكلام كأنه موجّه، فقد يحتمل أن يكون من تتمة تفسير قول ابن عباس على الاحتمال الأول، فيكون شرحه هكذا:

(وجعل الله عدد الطلاق على الزوج) فجعل له أن يطلق ويراجع، ثم يطلق ويراجع، ثم إذا طلَّق لم يكن له أن يراجع؛ سدًّا لذريعة الإضرار بالزوجة (و) جعل للزوج (أن يطلق متى شاء) فإذا طلَّق وتركها حتى انقضت العدة بانت منه، وحلَّت لغيره، سواء أواحدةً طلَّق أم ثلاثًا أم أكثر.

وغرض العاقل من الطلاق إنما هو هذا، ولا غرض له في أن يطلقها طلاقًا لا رجعة فيه، بل إنما يحرص العاقل على أن يطلق طلاقًا تمكنه معه الرجعة، أو النكاح بعقدٍ جديدٍ قبل أن ينكحها غيره، لأنه قد يندم، وقد تتضرر الزوجة أو أطفالها بالطلاق، فيكون عليه أن يدفع عنهم الضرر، وهذا هو الغرض المحمود شرعًا وعقلًا، فلم يكن هناك باعثٌ لشرع طلاق يقع مرةً واحدةً، ومع ذلك لا رجعة فيه.

على أنه إن فُرِض غرضٌ فيمكنه تحصيلُه بأن يطلق ثم يراجع، ثم يطلق ثم يراجع، ثم يطلق. فقد جعل الله له أن يطلق متى شاء، ولم يقل له: إذا طلقت ثم راجعت، لم يجز لك طلاق بعد ذلك.

وعلى هذا (فسواءٌ الثلاثُ والواحدةُ وأكثرُ من الثلاث في أن يقضى بطلاقه) من حيث هو طلاق يحصل به مقصود العاقل في تخلِّيه عنها، وإحلالها لغيره إذا انقضت عدتها، فإن كانت هذه أول مرة أو الثانية كان له أن يراجعها في العدة، أو يتزوجها بعدها قبل أن تنكح غيرَه، وإن كانت الثالثة لم تحلَّ له حتى تنكح زوجًا غيره.

ص: 625

[ص 13] ويحتمل أن يكون احتجاجًا من الشافعي على وقوع الثلاث المجموعة ثلاثًا تحرمها عليه حتى تنكح زوجًا غيره، وشرحه على هذا هكذا:

(وجعل الله عدد الطلاق على الزوج) أي إليه (وأن يطلق متى شاء) فله ثلاث طلقات، يوقع منها ما شاء متى شاء، فإن أوقعها دفعة وقعت (فسواء الثلاث والواحدة وأكثر من الثلاث في أن يقضى بطلاقه) الذي أوقعه، فإن طلَّق ثلاثًا أو أكثر قضي بثلاث، وإن طلَّق واحدة أو اثنتين قضي بذلك.

فإذا كان مراد الشافعي هو هذا الثاني، فجوابه:

أن الثلاث التي جعلها الله تعالى على الزوج ليست ثلاث طلقات، وإنما هي مرتان، في كل مرة طلاق تعقبه رجعة، والثالثة طلاق تحرم به حتى تنكح زوجًا غيره، كما قدمناه في تفسير الآيات. ومن ادعى أنها ثلاث طلقات يجوز أن تقع معًا، أو تقع اثنتان منها معًا، فعليه البيان.

فإن قال: إن الله لما جعل للزوج أن يطلق ثم يراجع، ثم يطلق ثم يراجع، ثم يطلق، كان معقولًا أنه قد جعل الأمر إليه، فإذا كان الأمر إليه وطلق ثلاثًا معًا، فلماذا لا يقع؟

فالجواب:

أولًا: أن هذا قياس يعارض النص، فهو فاسد الاعتبار.

وثانيًا: أن الله تعالى لم يجعل له إذا طلَّق المرة الأولى أو الثانية أن يراجع إلا إذا قصد بالرجعة الإمساك بمعروف.

وثالثًا: أن الطلاق قد يضر بالزوج، وبالمرأة، وبأطفالهما، وبأهليهما،

ص: 626

فحدَّ الله تعالى له حدودًا تمنع أو تقلِّل هذا الضرر، فلم يجعل له أن يطلق وهي حائض، ولا في طهر قد قاربها فيه، والسر في ذلك ــ والله أعلم ــ أن الرجل إذا بعد عهده بالمرأة قوي ميله إليها، فإذا طلَّقها مع ذلك كان الظاهر أن رغبته عنها قد استحكمت، وهذا هو المقتضي للرخصة في الطلاق.

وإذا كانت المرأة حائضًا كان محتملًا أن يكون قاربها في الطهر الذي قبل تلك الحيضة، فعهده بها قريب، وقرب العهد يُضعِف الميل، بل ربما أوجب النفرة.

وينضم إلى ذلك أن نفس الرجل تنفر من الحائض، إما للأذى، وإما لليأس من مقاربتها، وهذه نفرةٌ عارضةٌ، لا يصح أن يكتفى بها لاستحقاق رخصة الطلاق.

وهكذا إذا كانت طاهرًا وقد قاربها في ذلك الطهر، فعهده بها قريبٌ، وقرب العهد يُضعِف الميل، أو يوجب النفرة كما مر.

فإذا أراد أن يطلقها وهي طاهرٌ في طهرٍ لم يقاربها فيه، فالظاهر أن رغبته عنها قد استحكمت، ولكن ربما تضعف هذه الرغبة أو تزول إذا ازداد العهد بعدًا.

مع أن موجب النفرة قد يكون سببًا عارضًا، من ذنب وقع منها، أو إساءة، وإذا طال العهد غفر الذنب، ونسيت الإساءة، فرخص له أن يطلقها، على أن له أن يراجعها ما دامت في عدتها.

فإذا طلَّق كان عليه أن لا يقطع عنها النفقة والسكنى، ومن الحكمة في ذلك ــ والله أعلم ــ أن يبقى باب الصلح مفتوحًا ميسرًا، والغالب أن يكون

ص: 627

بيتها الذي أمر أن يُسكِنها فيه هو بيته أو قريب منه، وذلك أدعى إلى الصلح، فقد تهيج به الذكرى وهو على فراشه في أثناء العدة، فلا يكون بينه وبينها إلا كشف الستر أو طَرْق الباب، ولعله لو صبر إلى الصبح لفترت رغبته، فلا يراجع، ولعله يبدو له خطؤه في إيقاع الطلاق، ومضرته عليه، ويلومه هذا، وتعذله هذه، ومع ذلك فقد جرَّب الفرقة وجرَّبتها، وذاق كل منهما مرارتها، فإذا وقعت الرجعة، فقد ذاقت هي من الفرقة ما يجعلها تخاف من وقوعها مرةً أخرى، فيدعوها هذا الخوف إلى حسن الطاعة والحرص على رضاه، وتحري ما يوافق هواه، وذاق هو ما يحمله على التأني والتريث في المستقبل، فلا يستعجل بإيقاع الطلاق، مع علم كل منهما بأنهما قد صارا على ثلث الطريق من الفرقة الباتة.

[ص 14] فإن لم تعطفه العواطف حتى انقضت العدة، فالظاهر أن النفرة قد استحكمت، ومع ذلك بقي له أن يراجعها، ولكن برضاها، ومهر آخر، وعقد جديد.

فإذا راجع من المرة الأولى، ثم طلَّق مرة أخرى بالشروط السابقة، وشرعت في العدة على الصفة الأولى، كان ذلك أدعى إذا وقعت رجعة أن لا تعصيه بعدُ ولا يطلقها، لعلمهما أنهما على ثلثي الطريق، وأنه إن طلَّقها المرة الثالثة حرمت عليه حتى تنكح زوجًا غيره، فتخاف هي أن لا يرغب فيها أحدٌ، وإن رغب فيها فلعله يسيء عشرتها، ويظلمها ويمسكها على البؤس والشقاء، ويخاف هو إن طلَّقها أن تتبعها نفسه كما تبعتْها المرتين الأوليين، فلا يجد إلى ذلك سبيلًا، إذ لعلها لا تتزوج بعده، وإن تزوجت فلعل الزوج الجديد يكون أسعد بها، وأحرص عليها، وإن فارقها هذا الزوج

ص: 628

الجديد فلا ترجع إلى الأول إلا بعقد جديد، ومهر جديد، ثم ترجع إليه بعد أن ذاقت عسيلة غيره، وعرفت ما عرفت، إلى غير ذلك.

فإذا علمتَ ما تقدم، فاعلم أن الله تعالى أرحم بعباده من أنفسهم، وأنه لا يُحِلُّ لهم أن يضروا بأنفسهم فضلًا عن غيرهم، فكيف يجعل لأحدهم أن يطلق زوجته ابتداءً طلاقًا يحرمها عليه البتة حتى تنكح زوجًا غيره؟!

مع العلم بأن نظر الإنسان قاصرٌ، فقد يظن أنه لم يبق له إليها حاجة، وأنها قد استحكمت نفرته منها، وأن لا ضرر عليه في بينونتها منه، ويكون مخطئًا يتبين له خطؤه بعد ساعة، كما هو مشاهدٌ بكثرة فاحشة في هذه الأزمان.

فإن قلت: عليك فيما أطلتَ به مناقشاتٌ:

الأولى: أنك جعلت العلة في النهي عن الطلاق في حيضٍ أو طهر قاربها فيه = هي أن تلك مظنة لضعف ميله عنها، فلعله يطلق عن غير نفرة مستحكمة. والشافعي لا يقول بهذا، بل يقول: إن في طلاقها حائضًا إضرارًا بها لطول العدة، وفي طلاقها في طهر قاربها فيه استعجالًا، إذ لعلها تكون قد علقت منه، فيندم على الطلاق.

الثانية: أنه إذا سُلِّم لك ما قلت، قيل لك: فإن الطلاق في حيضٍ أو طهرٍ قاربها فيه يقع مع ما فيه من خوف أن لا تكون النفرة قد استحكمت، فكذلك نقول نحن: إن طلاق الثلاث دفعةً يقع وإن خيف فيه ذلك.

الثالثة: أن الغضب مظنة عروض النفرة، ولعلها تزول بعد ذلك بسرعة، ومع ذلك يقع فيه الطلاق، فهكذا القول في جمع الثلاث.

ص: 629

الرابعة: أنك جعلت العلة في وجوب النفقة والسكنى للمعتدة هي تيسير سبيل الصلح بالمراجعة، وهذا لا يأتى في المرة الثالثة.

فالجواب عن الأولى: أن الصواب ــ إن شاء الله ــ ما قلته، فإن تحريم الطلاق في الحيض يتناول اللحظة الأخيرة منه، وأي ضرر عليها بلحظة تزيد في عدتها؟

وقد التزم الشافعي رحمه الله أنها لو رضيت بالطلاق وهي حائض لم يحرم لرضاها بالضرر، وهذا مخالف لعموم قوله تعالى:{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} فعمَّ من لم ترضَ ومن رضيتْ.

ومخالف لعموم السنة، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما أخبر بأن ابن عمر طلَّق امرأته وهي حائض، أنكر ذلك ولم يستفصل: أرضيتْ أم لم ترضَ.

وقد قال الشافعي رحمه الله تعالى ووافقه الناس: "إن ترك الاستفصال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال".

ومخالف لما فهمه الصحابة رضي الله عنهم، فإن عبد الرحمن بن عوف سألته امرأته الطلاق فقال لها:"إذا طهُرتِ فآذنيني".

[ص 15] والعلة التي تعود على النص بالتخصيص قد أبطلها قوم، ومَن قَبِلها فإنما يقبلها إذا لم توجد علة أخرى سالمة من ذلك.

والشافعي رحمه الله تعالى جعل العلة في الحيض شيئًا، وفي الطهر الذي قاربها فيه شيئًا آخر، والعلة التي ذكرتها أنا واحدة لهما معًا، فهي أولى.

على أن العلة التي جعلها لتحريم الطلاق في طهر جامعها فيه، تكاد تكون هي العلة التي ذكرتها أنا، بل هي هي، فإن الشافعي رحمه الله تعالى لم

ص: 630

ينظر إلى لحوق الضرر بالحمل خاصة، بل ولا نظر إليه الشارع، فإنه يحل طلاق الحامل وقد تبين حملها، فبالأولى من احتمل أنها قد علقت.

فالظاهر أن الشافعي إنما نظر إلى استحكام النفرة وعدمه، فرأى أنه إذا طلَّقها في طهر قد قاربها فيه، فربما لم تكن النفرة قد استحكمت، فلعله لو صبر حتى يجيء إبان حيضها ولم تحض ظن أن تكون حاملًا، فهنالك إن أراد أن يطلق كان له ذلك، لأن الظاهر استحكام النفرة، فإذا ثبت أن العلة في أحد الشِّقين هي كونه مظنة نفرة غير مستحكمة، فلتكن هي العلة في الشِّقين معًا.

والجواب عن الثانية: أن الطلاق في حيض أو طهر قاربها فيه غير مجمع على وقوعه، فإذا قلنا بالوقوع فلا يقاس عليه الطلاق المجموع.

أولًا: لأنه قياس يعارض النص، فهو ساقط الاعتبار.

ثانيًا: لأن الخطر في إيقاع الطلاق المجموع أشد منه في إيقاع الطلاق في حيضٍ أو طهرٍ قاربها فيه؛ لأن هذا إن كان المرة الأولى أو الثانية فقد بقي له حق الرجعة، وإن كان في المرة الثالثة فقد أشعر وقوع الطلاق مرتين قبلها ثم وقوعها باستحكام النفرة.

على أن ما احتج به من أجاز الطلاق في الحيض مورده الطلقة الأولى، والله أعلم.

وأما الثالثة: فطلاق الغضبان غير مجمع على إجازته، وإذا قلنا بإجازته، فقد علم الجواب مما مر.

وأما الرابعة: فوجوب النفقة والسكنى للمبتوتة مختلفٌ فيه، والحجة مع من ينفيه.

ص: 631

قال الشافعي

(1)

رحمه الله تعالى: "وحكم الله تعالى في الطلاق أنه {مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}، وقوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} يعني ــ والله أعلم ــ الثلاث، {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} فدل حكمه أن المرأة تحرم بعد الطلاق ثلاثًا حتى تنكح زوجًا غيره".

أقول: أما الآية فمخالفك أسعد بها، كما تقدم.

وقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} المراد به المرة الثالثة، أي بعد مرتين قد عقبتْ كلًّا منها الرجعة، هذا ظاهر القرآن، ومقتضى سياقه، وقد تقدم تحقيق ذلك، فانهدم ما بنيتَه.

قال

(2)

رحمه الله: "وجَعْلُ حكمِه بأن الطلاق إلى الأزواج يدل على أنه إذا حدث تحريم المرأة بطلاق ثلاث، وجعل الطلاق إلى زوجها، فطلقها ثلاثًا مجموعةً أو مفرقة، حرمت عليه بعدهن حتى تنكح زوجًا غيره، كما كانوا مملكين عتق رقيقهم، فإن أعتق واحدًا أو مائةً في كلمة لزمه ذلك، كما يلزمه كلها، جمع الكلام فيه أو فرَّقه، مثل قوله لنسوةٍ له: أنتن طوالق، ووالله لا أقربكن، وأنتن علي كظهر أمي. وقوله: لفلان عليّ كذا، ولفلان عليّ كذا، فلا يسقط عنه بجمع الكلام معنى من المعاني جميعه كلام، فيلزمه بجمع الكلام ما يلزمه بتفريقه".

أقول: يظهر من هذا الكلام أنه رحمه الله ظن أن الثلاث التي ذكر ابن

(1)

"الأم"(10/ 258).

(2)

بعد الكلام السابق مباشرة.

ص: 632

عباس أنها كانت تُجعل واحدةً إنما هي الثلاث الواقعة في كلامٍ واحدٍ، حتى لو طلَّق، ثم بعد ساعة طلَّق، ثم بعد أخرى طلَّق، لم يكن هذا من ذاك، بل تكون ثلاثًا حتمًا. وهذا وهمٌ، وإنما المراد الثلاث التي توقع بدون تخلل رجعة، وقائل هذا يقول: إنما جعل الله إلى الزوج الطلاق مرةً واحدةً، فإذا طلَّق وراجع كان له الطلاق مرة ثانية، وإذا طلَّق وراجع كان له الطلاق المرة الثالثة، كما دل عليه القرآن، وتقدم بيانه.

[ص 16] وعليه، فليس هذا بنظير للفروع التي ذكرها، فعتقُه مائة رقيقٍ بكلمة واحدة أو بكلمات متصلة لا شبهة في صحته؛ لأنَّ له في تلك الحال عتقهم جميعهم، ولا كذلك الطلاق، وإنما نظيره أن يطلق زوجته ونساءً غيرها، ثم قال بعد ذلك: إني طلقت هؤلاء النساء مع امرأتي، فلا يحللن لي، فكما يقال هنا: إنك لم تكن تملك طلاقهن، وإنما كان يمكن أن تملكه بزواجهن، وهذا مفروض لا واقعٌ، فلم يقع فيه شيءٌ، فكذلك يقال هنا: إنك لا تملك من طلاق زوجتك إلا مرةً واحدةً، وإنما كان يمكن أن تملك الثانية بمراجعتك من الأولى، وكان يمكن أن تملك الثالثة بمراجعتك من الثانية، وهذا مفروض لا واقعٌ، فلا يقع به شيءٌ.

وهكذا لو كان قد طلَّق زوجته وراجعها مرتين، ثم [قال]: هي طالق اثنتين، فقيل له في ذلك، فقال: أردت أن لا أتمكن من نكاحها بعقد جديد، فهكذا من يطلق ثلاثًا، إذا قيل له: إن واحدة تكفي. قال: أردت أن لا أتمكن من مراجعتها.

فإن قيل: وكيف تقيس الرجعة على النكاح؟

قلت: لأن كلا منهما عقد تحلُّ به المرأة لمن كانت حرامًا عليه، وقد

ص: 633