المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌حول أجور العقار - آثار عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني - جـ ١٧

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

الفصل: ‌حول أجور العقار

بسم الله الرحمن الرحيم

‌حول أجور العقار

كثر الضجيج هذه الأيام من ارتفاع أجور العقار، وكتب في ذلك فضيلة الشيخ عبد الله الخياط وغيره، والقضيةُ وما يشبهها مفتقرة إلى تحقيق علمي مُشْبِع لا أزعم أنّي أهلٌ له، ولكنني سأحاول كتابة ما عسى أن يكون حافزًا لمن هو أهل له على النظر في القضية وفَصْلِ القول فيها.

يقول أرباب العقار: هذه أموالنا، لا يحلُّ شيء منها لغير مالكه إلا بطيبةٍ من نفسه، كما ثبت ذلك بالنصوص الشرعية القطعية ــ وقد ذكر فضيلة الشيخ عبد الله الخياط بعضها ــ ولا تَطِيب أنفسُنا بأن نؤجرها إلا بأجرة نرضاها، وليس في الشرع ما يوجب علينا أن لا نزيد على مقدار معين.

فيقال لهم: قد قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يُؤمِن أحدُكم حتى يُحِبَّ لأخيه ما يُحِبُّه لنفسه"

(1)

، وقال صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ المؤمنين

"

(2)

، مع ما ذكر فضيلة الشيخ عبد الله الخياط من أدلة الحثِّ على الفضل والرحمة.

فيقول أرباب العقار: إنّنا نُؤاخِي المستأجرين بقدر ما يُؤاخوننا، ونُحِبُّ

(1)

أخرجه البخاري (13) ومسلم (45) من حديث أنس بن مالك.

(2)

بياض بالأصل، وتتمة الحديث ــ وهو مشهور ــ:"في توادِّهم وتراحُمِهم وتعاطُفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسَّهَر والحمَّى". أخرجه البخاري (6011) ومسلم (2586) من حديث النعمان بن بشير.

ص: 895

لهم ما يحبُّونه لنا، ونَعطِف عليهم بقدر ما يَعطِفون علينا، ونُفضِل عليهم بمثل ما يُفضِلون علينا لو كانوا مكاننا، ونَرحَمهم بقدر ما يرحموننا، ونحن واثقون أنّهم لو كانوا أرباب الدور وكنّا المستأجرين لعاملونا بمثل ما نعاملهم به الآن على الأقل.

أرأيتَ قبل أن تعلن الحكومة حرية العقار، أليس قد كان النقص والحيف نال الملَّاك باعتراف الشاكِين الآن؟ فهل حاسبَ المستأجرون أنفسَهم، فزادوا ما يرون أنّ العقارات تستحقّه؟

هيهات! بل عارضوا ما ارتأته الحكومة من إعلان حرية العقار أشدّ المعارضة. هذا، مع أنّ حقّنا حقٌّ يُحتِّمه الشرع، وما يزعمونه من حقٍّ غايته أن يكون مرغَّبًا فيه. وقد قال فضيلة الشيخ عبد الله الخياط: .......

(1)

[ص 2] فهذا هو الحقُّ الذي لا مَحِيدَ منه.

هذا، ومنّا فقراء وأراملُ لا مورد لهم إلا ذاك البيت أو الدكان، ولعلهم لو زادوا ما زادوا ما كفاهم، فكيف يُطلَب منهم الفضل والإيثار؟ ومنّا من له ثروةٌ لا بأس بها، ولكنّه يرى أنّ للصدقة مواضعَ هي أحقُّ بها من تخفيض كراء داره. ومنّا ومنّا

، فمن عسى أن يكون أحكمَ من الشريعة التي تركت الأمر إلى الملَّاك، واكتفت بالترغيب، ووكَّلت كلَّ أحدٍ إلى نفسه، وهو أعرفُ بها من سائر الناس.

(1)

بياض في الأصل.

ص: 896

الرسالة الرابعة والعشرون

مناقشة لحكم بعض القضاة في

قضية تنازع فيها رجلان

ص: 897

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه.

وقفَ الحقيرُ على صورة حكمٍ صدر من محكمة "باجل" لأحمد بن عبد الله مدابش على محمد بن علي مغبوش، فرأيت فيه انتقاداتٍ:

أولًا: حكى الحاكم دعوى المدّعي أحمد بن عبد الله مدابش، وفيها التعرض لبيان الأحكام الشرعية، وممّا لا يحتاج إلى دليل أن ذلك ليس من وظيفة المدّعي ولا المدَّعى عليه، بل وظيفتهما الدعوى والإجابة بشروطها المعروفة.

ثم ما حكاه المدّعي عن أحكام الشرع فيه غلط سنُبيِّنه فيما بعد إن شاء الله تعالى.

وتلك الدعوى اشتملت على دعوى لحقٍّ لنفسِه، وهي طلب قَلْعِ الأخشاب، ودعوى لنفسه أيضًا ولكن بصورة حِسْبة، وهي طلب هدم الصفّة لكونها في السبيل.

ولا بأس أن دعوى الحِسبةِ المعتمدَ قبولُها في ما تُقبل فيه شهادتها غير حقوق الله تعالى المحضة، لكنها لا تُسمَّى "حِسبة" إلا إذا كانت ممن لا يَجرُّ بها لنفسه نفعًا، أو يدفع بها ضررًا، أمّا ممن يجرُّ بها نفعًا أو يدفع بها ضررًا؛ فلا تُسمَّى دعوى حِسبةٍ، ولا الشهادة المبنيّة عليها شهادة حسبةٍ؛ لما في "البغية"

(1)

عن الأشخر: "مسألة: شهادة الحسبة نوعان: متمحِّضٌ حق لله

(1)

"بغية المسترشدين"(ص 286).

ص: 899

تعالى، كالزنا حيث لم تَسُغ الدعوى به، فالشهادة به لا تكون إلا حسبةً؛ لأنها غير مسبوقةٍ بدعوى

(1)

أو طلبٍ من مدَّعٍ، بل شهادة الشاهد احتسابًا، أي طلبًا للثواب، وحميّةً لدين الله تعالى، فلم يؤثِّر فيها رضَى أحدٍ. وغير متمحِّض: كالزنا حيث ادّعاه القاذف، والطلاق، فإن سَبقتِ الشهادةُ الدعوى كان حِسْبة، وإن تأخرتْ وطلبها المدّعي فغير حِسْبة". انتهى.

ثم حكى الحاكم إجابةَ وكيل المدَّعى عليه، وهي تفيد أن المتشاجرَ عليه دُكَّانانِ، أحدهما المغروزُ خشبُه في جدار المدّعي، والآخر المدَّعى كونُه في السبيل. والحاصل أن الحاكم حكى دعوى وإجابةً يَمَلُّها القارئ والسامع، ولم تطَّابقا، ولا بيَّنتا المقصود. ثم حكى بعد ذلك ما أورده المدّعي من الشهود، ولفظ شهادة كلٍّ منهم:"أشهدُ لله تعالى أني أعلم بهذه الساحة المتشاجَر فيها أنها كانت سبيلاً، ولا أدري على كيفَ صارتْ عمارتها".

وهذه العبارة في أداء الشهادة منظورٌ في صحّتها، إذ قد صرَّح العلماء أنه يُشترط لأداء الشهادة لفظ "أشهد"، أي: أشهد بأن هذا مِلْك فلان ــ مثلًا ــ، كما يُمثِّلون له، ولا يكفي لفظ "أعلم" كما صرَّحوا به.

وكذا ــ فيما يظهر ــ الصيغة التي حكاها الحاكم؛ لأنهم لم يشهدوا بأن هذا كان سبيلاً، وإنما شهدوا بأنهم يعلمون.

ثم العبارة محتملة لكونهم يعلمون ذلك بالمشاهدة، أو بالسماع، والشهادةُ لا تُقبل فيها الألفاظُ المحتملة. وقد قال الشيخ ابن حجر ما لفظه

(2)

: "ومعظم

(1)

في الأصل: "بدعوة"، والتصويب من "البغية".

(2)

"الفتاوى الفقهية الكبرى"(4/ 347).

ص: 900

[شهادات] الناس يشوبها جهل وغيره، يُحوِج الحاكم إلى الاستفسار، وإن كانوا عدولاً. كذا قال الشيخان تبعًا للإمام، وبه قال ابن الرِّفعة وغيره، واختاره الأذرعي في مواضع من "شرح المنهاج" وقال: إنه الحق".

ثم قال في "التحفة"

(1)

: "والوجه أنه إن اشتهر ضبطه وديانته لم يلزمه استفسارُه، وإلّا لزمه

(2)

" اهـ.

ثم الأقرب إلى كلام العامةِ الثاني، لا يقال: غاية ما في المقام أن تكون شهادة بالتسامع، فإن للشهادة بالتسامع شروطًا، منها ما ذكره في "الروضة"

(3)

بقوله: "فرع: لا يكفي أن يقول الشاهد: سمعت الناس يقولون: إنه لفلان، وكذا في النسب، وإن كانت الشهادة مبنيَّةً

(4)

عليه. بل يُشترط أن يقول: أشهد بأنه له، أو بأنه ابنه" إلخ.

وبهذا تبيَّن بطلان الشهادة الموردة مِنْ طرف

(5)

المدعي.

ثم حكى ما أورد من طرف المدَّعى عليه، وأن لفظ شهادة كل منهم:"أشهد لله تعالى أن هذا الدكَّان كان مفرش فيه السيد قاسم مغني، وبعده ولده السيد قاسم عمره، وفيما بعد حرَّج به واشتراه محمد مغبوش".

وزاد أحدهم: أنه لا يعلم بالسبيل، وأن السبيل على حاله.

(1)

"تحفة المحتاج"(10/ 237).

(2)

في الأصل: "لزمه استفساره، وإلا لم يلزمه" سبق قلم.

(3)

"روضة الطالبين"(11/ 270).

(4)

في الأصل: "متعينة"، والتصويب من "الروضة".

(5)

غير واضحة بالأصل، ولعلها هكذا.

ص: 901

وحكى شهادة شاهد اسمه عمر بن محمد هران الباجلي بقوله: "أشهد لله تعالى أن هذه الساحة أنها كانت ملك السيد قاسم مغني، وبعده ولده السيد أحمد قاسم، وبعد ذلك اشتراها المغبوش وصارت ملكه، والسبيل على حاله".

ثم حكى شهادة محمد عيسى بن سالم، وحسين بن علي عَنْدَلَهْ، بمعنى شهادة عمر بن محمد، إلَّا أنهما قالا:"حقَّ السيد قاسم" بدل "مِلْك"، وهي في لغة العامة مرادفة لها. فإن لم يكفِ ذلك حلف مع المصرّح.

ثم حكى أنه بعث أمينَيْنِ للكشف على المحلّ، فوجدا بين الدكان المدَّعى أنه في السبيل، وبين الدكان المقابل له ثلاثة أذرُعٍ ورُبُعٌ هي عرض السبيل، وأن ذلك ــ طبعًا ــ يضرّ بالمارّة، مع أن الشارع قدَّر الطريق سبعة أذرع.

هذا خلاصة هذه الدعوى.

ولما وصل الحاكم إلى الحكم وقع في حَيْصَ بَيْصَ! وبان الخُبر، وحار الغُمر، فلم يدر ما يقول في ذلك المقام، إلا أنه هَيْنَم بألفاظٍ نادَتْ عليه بالجهل، وأعلَمتْ أنه ليس للقضاء بأهل.

وأمّا ما عندنا في ذلك:

فأولاً: الشهادة الواردة من طرف المدّعي قد سبق إبطالها، وعلى فرض صحتها، فقد عارضتْها الشهادةُ الواردة من طرف المدَّعَى عليه، ولاسيّما المصرِّحة بالمِلْك، المبيِّنة لسببه بتسلسل الشراء إلى حيث انتهى علمها لطول المدة، مع أنه لا يُشترط لبيّنةِ الداخل بيانُ السبب.

ص: 902

هذا، وغاية ما هنالك التعارضُ، فينظر إلى المرجّحات، فمن الواضح أن بينة المدعي خارجة، وبينة المدّعى عليه داخلة، وأن الداخلة مقدَّمة ــ ولو شاهدًا ويمينًا ــ على الخارجة ولو كثر شهودها، ما لم يبلغوا حدّ التواتر.

ولا يقال: إن الشهادة الموردة من طرف المدعي في حكم متقدّمة التاريخ، لأنها أثبتت أنه كان قبل أن يُبْنَى فيه سبيلاً، وأسبقيَّةُ التاريخ مرجِّح في الأظهر، مع أن الطريق له حكم الوقف، إذا لم يكن وقفًا، إذ لا يجوز التعدّي على [ .... ]

(1)

= فإنا نقول: اليد مع صاحب المتأخرة، ولم يُبيِّن شهود المتقدمة أن البناء وقع اعتداءً، بل قالوا:"ولا نعلم على كيف وقعت العمارة".

وقد قال في "الروض"

(2)

: [ص 2] وتُقدَّم بينةُ صاحب اليد على سابقة التاريخ. قال في "الشرح": فلو كانت سابقة التاريخ شاهدة بوقفٍ، والمتأخرة التي معها اليد شاهدة بملك أو وقفٍ= قُدِّمت التي معها يد. قال البلقيني: وعليه جرى العمل، ما لم يظهر أن اليد عادية، باعتبار ترتُّبِها على بيعٍ صدر من أهل الوقف أو بعضهم بغير سبب شرعي. إلخ.

وفي "التحفة"

(3)

ــ بعد قول المتن: لو كان لصاحب متأخّرة التاريخ يدٌ قُدِّمت ــ: سواء أشهدت كل بوقف أو ملك، كما أفتى به المصنف كابن الصلاح، واقتضاه قول "الروضة": بَيِّنتَا المُلك والوقف يتعارضان، كبيِّنتَي

(1)

غير ظاهرة في الأصل.

(2)

"أسنى المطالب شرح روض الطالب"(4/ 411).

(3)

"تحفة المحتاج"(10/ 333).

ص: 903

الملك. ثم حكى كلام البلقيني، ثم قال: واعتمده غيره، وفي "الأنوار" عن فتاوى القفال ما يؤيدّه. اهـ.

ومع هذا، فإنّ واضع اليد قد وقف الموضع لصالح بيت من بيوت الله تعالى، وذلك في معنى السبيل أو أنفع. مع أن المدة لثبوت يد المدَّعى عليه بعد الأيدي المتسلسلة إليه طائلة، وأن مذهب الحنفيّة في طول المدة معلوم.

وفي "حواشي الشرقاوي" على "التحرير"، بعد تعديد شروط الدعوى، ما لفظه: "ويُزاد سابع، وهو أن لا يمضي على الحق المدَّعى به خمسَ عشرةَ سنةً، فإن مضى عليه ذلك لم تُسْمَع الدعوى، كما أفتى به الزيادي، لمنع وليّ الأمر القضاةَ من ذلك. إلخ.

وقد اطلعتُ على رسالةٍ للسيد العلامة عبد الرحمن بن عبد الله القديمي، كتبها إلى سيدنا الإمام أيَّده الله تعالى، قوَّى فيها جانبَ اليد، وأن إجراء مذهب الحنفية هو المطابق للمصلحة، مع كونه قد صار مذهبًا للشافعية بأمر وليّ الأمر. إلخ.

ومع هذا، فإن سيّدنا أمير المؤمنين يُلزِم الحكام بأن لا تُسْمَع دعوى مضَتْ عليها عشر سنين إلّا لعذرٍ، كصِغَرٍ وغَيْبة ونحو ذلك.

ومما يتعلّق بقضيّتنا: ما حكاه صاحب "بغية المسترشدين"

(1)

عن السيد الإمام عبد الله بن الحسين بن عبد الله بافقيه، ولفظه: "ولو وُجِدَتْ

(1)

(ص 142).

ص: 904

دكّة في شارعٍ ولم يُعْرَف أصلها، كان [محلُّها] مستحقًّا لأهلها، فليس لأحدٍ التعرضُ لها بهدمٍ وغيره ما لم تقم بيّنةٌ بأنها وُضِعَتْ تعدِّيًا، كما صرّح به ابن حجر. اهـ.

وأمّا قوله أخيرًا: "إن أقلَّ ما يقدر به الطريق سبعة أذرُعٍ" فذلك مفروض فيما إذا اختلف المُحْيُون عند الإحياء في قدره.

وعبارة "الروض"

(1)

: "وَلْتجعل سبعة أذرع إن اختُلِف عند الإحياء في تقديره" اهـ.

وبعد ذلك حكى عن الزركشي ــ تبعًا للأذرعي ــ أن مذهب الشافعي التقديرُ بقدر الحاجة، وأن الحديث محمول على ذلك، وصرّح به الماوردي والروياني.

فتقررّ ممّا أسلفناه: بطلانُ ما حكم به الحاكم من هدم الدكاكين المذكورة، بل الحق الذي لا ريبَ فيه بقاؤها على ما هي عليه

(2)

.

[ص 3] وأمّا مسألة غَرْزِ الأخشاب، فالمدّعي ذكر في دعواه أن مذهب الشافعي أنَّ للمعير الرجوعَ قبل البناء وبعده في الأصح، وأن فائدة الرجوع أن لصاحب الدكان بقاء الأخشاب المغرزة في جُدُرِه بأجرة، وله تكليف صاحب الأخشاب قلْعَها، ويُغرم صاحبُ الأخشاب أَرْشَ ما نقص بسبب القلع في جدار المالك، كما هو المعتمد في مذهب الإمام الشافعيّ.

(1)

"روض الطالب"(2/ 220 - مع شرحه "أسنى المطالب").

(2)

في طرف الصفحة هنا حاشية يظهر أنها تابعة لكلام مضروبٍ عليه.

ص: 905

هكذا زعم! فلما جاء الحاكم إلى الحكم حكم بمضمون هذا، مقلِّدًا للدعوى! !

فرحم الله العلماء، ذكروا أنه يحرم على الحاكم تلقينُ خصمٍ الحجةَ، ولم يَخْطُر أنَّ مِن الخصوم مَنْ يُلقِّن الحاكمَ الحكمَ!

فإن الحاكم إنما قلّد المدعي؛ بدليل موافقته له في الغلط، كما يأتي بيانه، اللهم إلّا أن يكون الحاكم هو صوَّر الدعوى للمدّعي، ثم حكم بما قرّره فيها، فيكون الخطأ منه أولاً وآخرًا [مِنْ]

(1)

غير تلقين أحدٍ له.

وأمّا بيان الخطأ في ذلك، فهاك عبارة "المنهاج" في باب الصلح. قال

(2)

: "والجدار بين المالكينِ قد يختصُّ به أحدهما، وقد يشتركان فيه، فالمختص ليس للآخر وضْعُ الجذوع عليه بغير إذنٍ ــ في الجديد ــ، ولا يُجْبَر المالك، فلو رضي بلا عوض فهو إعارة، له الرجوعُ قبل البناء عليه، وكذا بعده في الأصحّ، وفائدة الرجوع تخييره بين أن يُبْقيه بأجرة، أو يَقْلَع ويغرم أرشَ نقصه".

قال في "التحفة"

(3)

وغيرها: "وهو ما بين قيمته قائمًا ومقلوعًا". انتهى.

فالغرامة لصاحب الأخشاب على صاحب الجدار، عكس ما فهمه الأغمار!

ثم نظرنا إلى الشهادة التي أوردها المدَّعى عليه في مسألة غرز

(1)

زيادة يقتضيها السياق.

(2)

"منهاج الطالبين"(2/ 135 ــ 136).

(3)

"تحفة المحتاج"(5/ 211).

ص: 906

الأخشاب، فإذا بعضهم يطلق أن الحاضرين بعد النزاع أصلحوا بين المتنازعين. وبعضهم قال: ثم قالوا: أمة محمد لله ورسوله وشاهد واحد شهد أنهما اصطلحا على أن يَغْرِز كل منهما خشبته في دكان الآخر.

فشهادة هذا عندها زيادة علم، ولا تنافي ما مرّ. فإن كان كذلك، فقد وضح الأمر، ولم يبق إلا أن يُعدَّل هذا الشاهد، وإن كان الحاكم قد ألغى التعديل رأسًا، ويحلف المدَّعى عليه معه، فيُقْضَى له باستحقاق غرز الأخشاب أبدًا.

ففي "الروض" ما لفظه مع شرحه

(1)

: "ويجوز الصلح على وضعه ــ أي الجذع ــ على الجدار، بمال، لأنه انتفاع بالجدار، وهو إما بيع أو إجارة، وسيأتي بيانهما" اهـ.

قوله: "وسيأتي" إلخ، أي: في مسألة بيع حق البناء على الجدار أو إجارته. وقد ذكرها في المتن بعد ذلك بقوله: "فرع: تجوز إعادة العلوّ للبناء عليه وإجارته، فإن باعه حقَّ البناء أو العلوّ للبناء عليه بثمن معلومٍ استحقّه، وهو متردّد بين البيع والإجارة، فلو عقد بلفظ الإجارة صحّ، وتأبدّ الحق إن لم يُوَقَّت" اهـ.

فلو فُرِض أنه لم تقم له بينة على ذلك، فلا أقل من أن يكون عارية، وقد سبق بيان حكمها.

تنبيه: تبيّن أن قول وكيل المدَّعى عليه له دافعٌ ورافعٌ وحججٌ شرعيّة قد أورده، ولكن الحاكم لم يفهم من لفظ "حجج" إلا قراطيس مسوّدة لا يقيم

(1)

"أسنى المطالب شرح روض الطالب"(2/ 223).

ص: 907

لها مذهبُ الشافعي وزنًا في الاحتجاج. وهذا إذا لم يكن جهلًا فهو عدم معرفة.

فنسأل الله التوفيق، والهدايةَ إلى أقوم طريق، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وآله وصحبه وسلم.

ص: 908