المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الإسلام والتسعير ونحوه - آثار عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني - جـ ١٧

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

الفصل: ‌الإسلام والتسعير ونحوه

بسم الله الرحمن الرحيم

‌الإسلام والتسعير ونحوه

كثُر الضجيج من ارتفاع أجور العقار، وكتب بعض أهل العلم ما يفهم منه أن غلوّ المُلَّاك في زيادة الأجور عمل مذموم، فهو عنده إمّا حرام عليهم، وإمّا قريب منه.

فإن كان يراه حرامًا فالمنع من ارتكاب الحرام معلوم من الشرع بالضرورة.

وإن كان يراه دون ذلك إلا أنّه قريب منه، فلا ريب أنّه فاشٍ منتشرٌ عظيم الضرر، وما كان كذلك فلولي الأمر بل عليه منعُ الناس منه، وعليهم طاعته، قال الله تبارك وتعالى:{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [سورة النساء: 58].

وفي الصحيحين

(1)

وغيرهما من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "السمعُ والطاعةُ على المرء المسلم فيما أحبَّ وكرِهَ، ما لم يُؤمَر بمعصية، فإذا أُمِر بمعصية فلا سمعَ ولا طاعةَ".

وفي الصحيحين

(2)

وغيرهما من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني".

(1)

البخاري (7144) ومسلم (1839).

(2)

البخاري (7137) ومسلم (1835).

ص: 891

فقد أوجب الله طاعة أولي الأمر كما أوجب طاعة الوالدين، ولا ريب أنّه لو لم يجب طاعة أولي الأمر والوالدين

(1)

إلا فيما كان واجبًا بنصّ الشرع، لما ظهرت لتخصيصهم فائدة، [ص 2] فإن ما كان واجبًا بنصّ الشرع فإنّه يجب طاعة كل آمرٍ به كائنًا من كان، ولو لم يجب طاعة ولي الأمر إلا فيما كان واجبًا بنص الشرع لاختلَّت المصالح وعمّ الفساد.

فأمّا قول الله تعالى عَقِبَ ما تقدم: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} ، فذلك كما بيّنه الحديث السابق فيما إذا أمر الأمير بعملٍ لا يراه معصية لله، والمأمور يرى أنّه معصية لله.

فأمّا ما يعترف المأمور أنّه ليس بمعصية لله، ولكنه يقول: لم ينص الشرع على وجوبه عليّ، فيكفي في دفعه أن يقال له: قد نصّ الشرع على وجوب طاعة أولي الأمر، ولم يعارض ذلك شيء.

وأمّا أحاديث التسعير فليس فيها نهي عنه، وإنّما فيها أنّ النّاس طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يُسَعِّر فقال:"إنّ الله هو القابض الباسط الرازق المسعِّر، وإنّي لأرجو أن أَلْقَى الله عز وجل ولا يطلبني أحدٌ بمظلمةٍ ظلمتُها إياه في دمٍ ولا مال". فهذه واقعة حالٍ، وقوله صلى الله عليه وسلم : "إنّ الله هو القابض الباسط الرازق المسعِّر

" إنّما هو تعليل للامتناع عن التسعير في تلك الواقعة.

ويحتمل أن يكون غلاء السعر الذي حدث حينئذٍ لم يكن مصطنعًا، فكان التاجر يجلب المال من المواضع البعيدة غالبًا، فيزيد عليه المعروف، [ص 3] فلم يكن هناك مبرِّرٌ لإجباره بأن يبيع بخسارة أو بدون ربح. وهذا حقٌّ

(1)

في الأصل: "والواجبين" سهوًا.

ص: 892

لا غبارَ عليه، فليس للإمام أن يُسعِّر حتى يتبين له جَشَعُ التجار وتواطؤهم، وعدم قناعتهم بالربح بالمعروف، وتضرر الناس بذلك.

ولنفرضْ أنّ بلدًا من بلاد المسلمين حاصرها العدوّ، ولم يكن فيها طعام إلا عند رجلٍ واحدٍ، فأبى أن يبيع لأحدٍ منهم قوتَه إلا بجميع ما يملك في ذلك البلد وغيره، فيبيع ما قيمته درهم بمائة ألف درهم ونحوها، هل يمكِّنُه أمير الواقعة من ذلك؟

فإن تبيّن وجوبُ التسعير في هذه الواقعة مثلاً تبينَ أنّ امتناع النبي صلى الله عليه وسلم منه إنّما كان لأنّ الحال حينئذٍ لا تستدعيه.

وأحاديث النهي عن الاحتكار معروفة، ولم يعتذر عنها بشيء، إلا أنّ سعيد بن المسيّب لما روى الحديث عن معمر قيل له: إنّك تحتكر، فقال: كان معمر يحتكر.

والواجب في مثل هذا أن يُحمَل احتكار معمر وسعيد على وجهٍ غيرِ الوجه المنهي عنه؛ كأن يقال: إن التمر مثلاً يكثُر في الموسم، ويُعرَض للبيع، فيشتري أرباب البيوت وسائر الناس حاجتهم بحسب ما يتيسَّر لهم، وليس كل محتاج للقوت يستطيع أو يرغب أن يشتري قوتَ سنته دفعةً واحدة، فيبقى الأكثر يشتريه التجار، فشراء التاجر حينئذٍ وادخاره إلى أن يحتاج الناس إلى التمر لقُوْتِه، وحينئذٍ ترتفع الأسعار في الجملة، فيُخرِجه حينئذٍ للبيع= عَملٌ لا تظهر فيه مفسدة. بل لو مُنِع التجار من الشراء حينئذٍ لتضرر أهل النخل؛ لأنّ مصلحتهم تقضي بأن يبيعوا كثيرًا منه حينئذٍ ليقضُوا حاجاتهم الأخرى.

ص: 893

فهذا ــ والله أعلم ــ هو الذي كان يقع من معمر وسعيد، وكان سعيد يتّجر في الزيت، والزيت يُجلب بكثرة في موسم معين من السنة، ويكون حال جالبيه كحال أرباب النخل في بيع التمر سواء.

وإذا كان هذا محتملاً في فعل الصحابي والتابعي الذي يوجبه حسن الظن بهما، بل هو الظاهر بل هو الواقع إن شاء الله، فكيف يُترك لأجله العملُ بالحديث البتة؟

ص: 894