الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأرض، وسرى إلى غيرهم من سكانها المنتشرين فيها. وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد حكت لنا ما دار بين ابني آدم من محاورات أدت إلى قتل أحدهما للآخر ظلما وحسدا، إذ الحسد يأكل القلوب، ويشعلها بالشر كما تشتعل النار في الحطب، وبسببه ارتكبت أول جريمة قتل على ظهر الأرض، وبسببه كانت أكثر الجرائم في كل زمان ومكان.. كما حكت لنا أن بنى إسرائيل- مع علمهم بشناعة جريمة القتل- قد أسرفوا في قتل الأنبياء والمصلحين مما يدل على قسوة قلوبهم، وفي كل ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه عما كانوا يلاقونه من اليهود المعاصرين لهم من عناد ومكر وأذى.
وبعد أن ذكر- سبحانه- تغليظ الإثم في قتل النفس بغير حق، وتعظيم الأجر لمن عمل على إحيائها، أتبع ذلك ببيان الفساد المبيح للقتل، فقال- تعالى-:
[سورة المائدة (5) : الآيات 33 الى 34]
إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَاّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)
قال ابن جرير: اختلف أهل التأويل فيمن نزلت هذه الآية؟ فقال بعضهم: نزلت في قوم من أهل الكتاب كانوا أهل موادعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنقضوا العهد، وأفسدوا في الأرض، فعرف الله نبيه الحكم فيهم
…
وقال آخرون: نزلت في قوم من المشركين.
وقال آخرون: بل نزلت في قوم من عرينة وعكل- بضم العين وسكون الكاف- ارتدوا عن الإسلام، وحاربوا الله ورسوله، فعن أنس أن رهطا من عكل وعرينة أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله إنا أهل ضرع، ولم نكن أهل ريف، وإنا استوخمنا المدينة- أى: وجدناها
رديئة المناخ- فأمر لهم النبي صلى الله عليه وسلم بذود وراع- أى: بعدد من الإبل ومعهم راع-، وأمرهم أن يخرجوا بها، فيشربوا من ألبانها وأبوالها، فقتلوا الراعي، واستاقوا الذود، وكفروا بعد إسلامهم، فأتى بهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم، وتركهم في الحرة حتى ماتوا، فذكر لنا أن هذه الآية نزلت فيهم.
ثم قال ابن جرير: وأولى الأقوال في ذلك عندي أن يقال: أنزل الله هذه الآية على نبيه صلى الله عليه وسلم: لمعرفة حكمه على من حارب الله ورسوله، وسعى في الأرض فسادا، بعد الذي كان من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرنيين» «1» .
والذي يراه ابن جرير أولى هو الذي تطمئن إليه النفس، فإن الآية الكريمة تبين عقاب قطاع الطرق الذين يحاربون النظام القائم للأمة، ويرتكبون جرائم القتل والنهب والسلب والسرقة سواء أكانوا من المشركين أم من غيرهم؟ إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وقوله: سبحانه يُحارِبُونَ من المحاربة. والمحاربة: مفاعلة من الحرب وهي ضد السلم، والأصل في معنى كلمة الحرب: الأخذ والسلب. يقال: حربه، إذا سلبه ماله، والمراد بالمحاربة هنا: قطع الطريق على الآمنين بالاعتداء عليهم بالقتل أو السلب أو ما يشبه ذلك من الجرائم التي حرمها الله- تعالى-:
ومحاربة الناس لله- تعالى- على وجه الحقيقة غير ممكنة، لتنزهه- سبحانه- عن أن يكون من الجواهر والأجسام التي تقاتل ولأن، المحاربة تستلزم أن يكون كل من المتحاربين في وجهة ومكان والله منزه عن ذلك، فيكون التعبير مجازا عن المخالفة لشرع الله، وارتكاب ما يغضبه أو المعنى: يحاربون أولياء الله وأولياء رسوله وهم المسلمون فيكون الكلام على تقدير حذف مضاف.
وصدر- سبحانه- الآية بلفظ إنما المفيد للقصر، لتأكيد العقاب، ولبيان أنه عقاب لا هوادة فيه، لأنه حد من حدود الله- تعالى- على تلك الجريمة النكراء التي تقوض بنيان الجماعة، وتهدم أمنها، وتزلزل كيانها، وتبعث الرعب والخوف في نفوس أفرادها.
وعبر- سبحانه- عمن يحارب أولياءه وشرعه بأنهم محاربون له ولرسوله لزيادة التشنيع عليهم، ولبيان أن كل من يهدد أمن المسلمين ويعتدى عليهم يكون محاربا لله ولرسوله ومستحقا لغضبه- سبحانه- وعقوبته.
وقوله: وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً معطوف على قوله يُحارِبُونَ.
(1) تفسير ابن جرير ج 6 ص 208.
وقوله: وَيَسْعَوْنَ من السعى وهو الحركة السريعة المستمرة.
والفساد: ضد الصلاح. فكل ما خرج عن وضعه الذي يكون به صالحا نافعا، يقال إنه قد فسد. والسعى في الأرض بالفساد المراد به هنا: قطع الطريق على الناس، وتهديد أمنهم، والتعرض لهم بالأذى في أنفسهم أو أموالهم أو أعراضهم.
وقوله: فَساداً مفعول لأجله أى: يحاربون ويسعون لأجل الفساد. أو هو حال من فاعل يَسْعَوْنَ بتأويله بمفسدين، أو ذوى فساد.
وقوله: أن يقتّلوا أو يصلّبوا إلخ. خبر عن المبتدأ الذي هو جَزاءُ والمعنى: إِنَّما جَزاءُ أى: عقاب الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أى: يخالفونهما ويعصون أمرهما، ويعتدون على أوليائهما وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أى: يعملون بسرعة ونشاط في الأرض لا من أجل الإصلاح وإنما من أجل الإفساد فيها عن طريق تهديد أمن الناس، والاعتداء على أموالهم وأنفسهم. جزاء هؤلاء أَنْ يُقَتَّلُوا والتقتيل هو القتل، إلا أنه ذكر بصيغة التضعيف لإفادة الشدة في القتل وعدم التهاون في إيقاعه عليهم لكونه حق الشرع وللإشارة إلى الاستمرار في قتلهم ماداموا مستمرين في الجريمة فكلما كان منهم قتل قتلوا.
أَوْ يُصَلَّبُوا والتصليب: وضع الجاني الذي يراد قتله مشدودا على مكان مرتفع بحيث يرى بعد القتل ليكون عبرة لغيره، وردعا له عن ارتكاب المعاصي والجرائم. قالوا: ويكون الصلب لمدة ثلاثة أيام وقيل: لمدة يوم واحد. وجيء هنا أيضا بصيغة التضعيف لإفادة التشديد في تنفيذ هذه العقوبة وإثبات أنه لا هوادة فيها.
أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أى: تقطع مختلفة، فقوله مِنْ خِلافٍ حال من أيديهم وأرجلهم أى: لا تكون اليد والرجل المقطوعتان من جانب واحد بل تكونان من جانبين مختلفين.
أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ أى، يطردوا من الأرض التي اتفقوا فيها على الإجرام إلى أرض أخرى ليتشتت شملهم، ويتفرق جمعهم، مع مراقبتهم والتضييق عليهم. وفسر بعضهم النفي بالحبس في السجون، لأن فيه إبعادا لهم وتفريقا لجمعهم.
واسم الإشارة في قوله- تعالى- ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا يعود إلى العقاب المذكور في الآية من القتل والصلب.. إلخ.
والخزي: الذل والفضيحة أى ذلك العقاب المذكور لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا أى: ذل وفضيحة وعار عليهم، لأنه كشف أمرهم، وهتك سترهم، وجعلهم عبرة لغيرهم.
هذا هو عقاب الدنيا أما عقاب الآخرة فقد بينه- سبحانه- بقوله: وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ أى: لهم في الآخرة عذاب عظيم في شدته وآلامه جزاء ما اقترفوا من جرائم.
وقوله: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ بيان لحكم هؤلاء المحاربين إذا ما تابوا قبل القدرة عليهم.
أى نفذوا- أيها المسلمون- هذه العقوبات على هؤلاء المحاربين لأولياء الله وأولياء رسوله، والساعين في الأرض بالفساد ماداموا مستمرين في غيهم وعدوانهم إِلَّا الَّذِينَ تابُوا منهم مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ أى: من قبل أن تتمكنوا من أخذهم، بأن أتوكم طائعين نادمين، فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أى واسع المغفرة والرحمة بعباده.
هذا وهناك مسائل تتعلق بهاتين الآيتين من أهمها ما يأتى:
1-
احتج بعموم هذه الآية جمهور العلماء في أن المحاربة في الأمصار وفي القرى وفي الصحراء على السواء، فحيثما تحققت إخافة المسلمين، كان الفاعلون لتلك الإخافة محاربين لله ولرسوله ويجب إنزال العقاب بهم، لقوله- تعالى- وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وكل هذه الأماكن من الأرض. وعلى هذا الرأى سار الإمام مالك والشافعى وأحمد وغيرهم.
ويرى الإمام أبو حنيفة أن قطع الطريق لا يتصور في داخل المصر، إذ يمكن الإغاثة عند الاستغاثة ويد السلطان مبسوطة في داخل الأمصار والقرى وإنما يتصور قطع الطريق في الصحراء وخارج المدن والقرى.
والذي نراه متفقا مع الآية الكريمة أنه حيثما تحقق الوصف- وهو محاربة الآمنين واستلاب أموالهم، والاعتداء على أرواحهم- كانت الحرابة، ولزمت العقوبة التي تردع هؤلاء المعتدين على أموال الناس وأنفسهم.
قال القرطبي: واختلف العلماء فيمن يستحق اسم المحاربة. فقال مالك: المحارب عندنا من حمل على الناس في مصر أو في برية وكابرهم على أنفسهم وأموالهم دون نائرة «1» .
قال ابن المنذر: اختلف عن مالك في هذه المسألة فأثبت المحاربة في المصر مرة ونفى ذلك مرة. وقالت طائفة حكم ذلك في المصر أو في المنازل والطرق، وديار أهل البادية والقرى سواء وحدودهم واحدة.
قال ابن المنذر: كذلك هو، لأن كلا يقع عليه اسم المحاربة. والآية على العموم. وليس
(1) نائرة: أى هاجة يقال: نارت ناره في الناس بمعنى: هاجت هائجة.
لأحد أن يخرج من جملة الآية قوما بغير حجة. وقالت طائفة: لا تكون المحاربة في المصر إنما تكون خارجة عن المصر «1» .
وقال ابن العربي: والذي نختاره أن الحرابة عامة في المصر والقفر، وإن كان بعضها أفحش من بعض. ولكن اسم الحرابة يتناولها، ومعنى الحرابة موجود فيها. ولو خرج بعض من في المصر لقتل بالسيف. ويؤخذ فيه بأشد ذلك لا بأيسره. فإنه سلب وغيلة، وفعل الغيلة أقبح من فعل الظاهرة ولذلك دخل العفو في قتل المجاهرة فكان قصاصا، ولم يدخل في قتل الغيلة وكان حدا» «2» 2- اختلف الفقهاء في معنى التخيير في قوله- تعالى- أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ، أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ.
فقال قوم من السلف: الآية تدل على التخيير بين هذه الأجزية. فمتى خرج المحاربون بقطع الطريق، وقدر الإمام عليهم، فهو مخير بين أن يوقع بهم أى نوع من العقاب من هذه الأنواع الأربعة: القتل أو الصلب أو التقطيع أو النفي، حتى ولو لم يقتلوا ولم يأخذوا مالا، ماداموا قد اجتمعوا وقصدوا تهديد أمن الناس. فالمسألة متروكة لتقدير الحاكم، وعليه أن يوقع بهم ما يراه مناسبا لزجرهم وردعهم وجعلهم عبرة لغيرهم حتى لا يستشرى الشر في الأمة.
قال ابن كثير: قال ابن أبى طلحة عن ابن عباس فيمن شهر السلاح في قبة الإسلام.
وأخاف السبيل ثم ظفر به الإمام وقدر عليه، فإمام المسلمين فيه بالخيار: إن شاء قتله وإن شاء صلبه وإن شاء قطع يده ورجله، وكذا قال: سعيد بن المسيب ومجاهد، وعطاء، والحسن البصري، وإبراهيم النخعي، والضحاك، كما رواه ابن جرير عن أنس- وهو مذهب المالكية.
ومستند هذا القول أن ظاهر أَوْ للتخيير كما في نظائر ذلك من القرآن، كما في قوله- تعالى- في كفارة الفدية: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فأو هنا للتخيير، وكذلك في الآية التي معنا» «3» .
وقال قوم آخرون من السلف: الآية تدل على ترتيب الأحكام وتوزيعها على ما يليق بها من الجنايات. أى: أن أَوْ لتنويع العقوبات على حسب طبيعة الجرائم. فإذا قتل هؤلاء المحاربون غيرهم وأخذوا المال قتلوا وصلبوا وإذا قتلوا فقط قتلوا، وإذا أخذوا المال فحسب قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف. وإذا تجمعوا واتفقوا على ارتكاب الجرائم من غير أن
(1) تفسير القرطبي ج 6 ص 151.
(2)
أحكام القرآن لابن العربي ج 2 ص 595.
(3)
تفسير ابن كثير ج 2 ص 51- بتلخيص يسير-[.....]
يرتكبوا بالفعل نفوا من الأرض.
وبهذا الرأى قال ابن عباس وقتادة والأوزاعى، وهو مذهب الشافعية والأحناف والحنابلة.
قال ابن كثير: وقال الجمهور: هذه الآية منزلة على أحوال، فعن ابن عباس أنه قال في قطاع الطريق: إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا المال نفوا من الأرض.
ثم قال ابن كثير: ويشهد لهذا التفصيل الحديث الذي رواه ابن جرير في تفسيره أن عبد الله بن مروان كتب إلى أنس بن مالك يسأله عن هذه الآية، فكتب إليه يخبره أنها نزلت في أولئك النفر العرنيين الذين ارتدوا عن الإسلام وقتلوا الراعي، واستاقوا الإبل وأخافوا السبيل.. قال أنس: فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عن القضاء فيمن حارب، فقال جبريل:
من سرق ما لا وأخاف السبيل فاقطع يده بسرقته ورجله بإخافته ومن قتل فاقتله. ومن قتل وأخاف السبيل واستحل الفرج الحرام فاصلبه» «1» .
وقال الفخر الرازي: والذي يدل على ضعف القول الأول وجهان:
الأول: أنه لو كان المراد من الآية التخيير لوجب أن يمكن الإمام من الاقتصار على النفي، ولما أجمعوا على أنه ليس له ذلك علمنا أنه ليس المراد من الآية التخيير.
الثاني: أن هذا المحارب إذا لم يقتل ولم يأخذ المال فقدهم بالمعصية ولم يفعل، وذلك لا يوجب القتل كالعزم على سائر المعاصي فثبت أنه لا يجوز حمل الآية على التخيير، فيجب أن يضمر في كل فعل على حدة فعلا على حدة، فصار التقدير: أن يقتلوا إن قتلوا، أو يصلبوا إن جمعوا بين أخذ المال والقتل أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إن اقتصروا على أخذ المال. أو ينفوا من الأرض إن أخافوا السبيل» «2» .
والخلاصة أن أصحاب هذا الرأى الثاني يستدلون بأدلة نقلية- سبق بيانها- كما يستدلون بأدلة عقلية منها ما ذكر الإمام الرازي ومنها أن العقل يقضى أن يكون الجزاء مناسبا للجناية بحيث يزداد بازديادها، وينقص بنقصها، وليس من المعقول أن تكون جريمة الاتفاق على الإرهاب بدون تنفيذ، متساوية مع جريمة الإرهاب والقتل والسلب. إذا فالعدالة توجب تنويع العقوبة.
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 51.
(2)
تفسير الفخر الرازي ج 11 ص 216.
ومنها أن التخيير الوارد في الأحكام المختلفة بحرف التخيير إنما يجرى على ظاهره إذا كان سبب الوجوب واحدا كما في كفارة اليمين وكفارة الفدية، أما إذا كان السبب مختلفا فإنه يخرج التخيير عن ظاهره- كما هنا-، ويكون الغرض بيان الحكم لكل واحد في نفسه، وذلك لأن قطع الطريق متنوع وبين أنواعه تتفاوت الجريمة: فقد يكون باستلاب المال فقط، وقد يكون بالقتل فقط، وقد يكون بهما ومادام الأمر كذلك وجب أن يكون العقاب مختلفا ووجب أن يحمل ظاهر النص على غير التخيير. بأن يحمل على بيان الحكم لكل نوع.
قالوا: ونظير ذلك قوله- تعالى- قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً فإنه ليس الغرض التخيير وإنما الغرض: ليكن شأنك مع قومك تعذيب من جحد وظلم، والإحسان إلى من آمن وعمل صالحا.
وإنما قلنا: ليس الغرض التخيير، لأنه لا يمكن أن يكون له الحق في أى الأمرين من غير مرجح لأحدهما في الاعتبار، إذ منطق العدالة يقتضى أن يكون العذاب لمن فسق وجحد، وأن يكون الإحسان لمن آمن واستقام.
قال بعض العلماء: «وإن الفقه في التفرقة بين الرأيين أن الرأى الثاني يحدد جرائم معينة، ويعتبرها موضوع قطع بفعلها أو بالشروع فيها وهي القتل والسرقة. وأن الجرائم لا تخلو عن ذلك، ولذلك كانت العقوبات مترددة بين القطع والقتل، وأنه يكون ثمة تغليظ إذا ارتكبت الجريمتان معا.
وإن كان الشروع بالتجمع واتخاذ الأسباب، فإن العقوبة تكون بمنع الجريمة من الوقوع باتخاذ أسباب الوقاية بالنفي من الأرض، ولذلك كان التنويع، وكان تخريج حرف أَوْ على ذلك الأساس، ليكون التكافؤ بين الجريمة والعقوبة، وإن لم تكن جريمة كانت الوقاية.
أما الرأى الأول فهو يتجه إلى أن عقوبة الحرابة لذات الحرابة والسعى في الأرض بالفساد، ومنع الناس من السير والاستمتاع بأموالهم وحرياتهم الشخصية. وظاهر هذا الرأى أنه لا ينظر إلا إلى ذات الحرابة التي هي التخويف والإرهاب، ولا ينظر إلى الجرائم التي ارتكبوها فعلا، ولذلك يعمم الجرائم ولا يقصرها على القتل والسرقة كالرأى الثاني.
ويرى أن العقوبات في جملتها هي لعلاج ذلك الشر، وحسم مادته، والقضاء على التفكير لمن يهم بمحاكاة من وقعوا فيه، ولذلك يجب إطلاق يد ولى الأمر واعتبار تلك العقوبات في يده كالدواء بين يدي الطبيب، يختار من أصنافه ما يراه أنجح في علاج الآفة التي أصابت الجسم الاجتماعى.
وإنا نرى الرأى الثاني بالنسبة لتنويع العقاب، ونرى الرأى الأول بالنسبة لتعميم الجرائم
التي تفسد المجتمع. فإذا كانت عصابة تعمل لجمع الرجال على النساء وتخطف النساء لذلك الغرض، أو كانت عصابة لتجميع المواد المخدرة المحرم دينا وقانونا تناولها، فإنهم يكونون كقطاع الطريق، ويدخلون في باب الحرابة «1» .
3-
تدل الآية بظاهرها على أن المحاربين يعاقبون في الدنيا والآخرة، ولا يكون العقاب الدنيوي طهرة لهم ولو كانوا مسلمين لقوله- تعالى- ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ.
قال القرطبي: فقوله: ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا لشناعة المحاربة، وعظم ضررها وإنما كانت المحاربة عظيمة الضرر، لأن فيها سد سبيل الكسب على الناس. لأنه إذا أخيف الطريق انقطع الناس عن السفر، واحتاجوا إلى لزوم البيوت، فانسد باب التجارة عليهم، وانقطعت أكسابهم، فشرع الله على قطاع الطريق الحدود المغلظة، وذلك الخزي في الدنيا ردعا لهم عن سوء فعلهم، وفتحا لباب التجارة التي أباحها الله لعباده. وتكون هذه المعصية خارجة عن المعاصي ومستثناة من حديث عبادة بن الصامت في قول النبي صلى الله عليه وسلم:«فمن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له» .
ويحتمل أن يكون الخزي لمن عوقب، وعذاب الآخرة لمن سلم في الدنيا، ويجرى هذا الذنب مجرى غيره. ولا خلود لمؤمن في النار على ما تقدم، ولكن يعظم عقابه لعظم ذنبه، ثم يخرج إما بالشفاعة وإما بالقبضة وهذا الوعيد كغيره مقيد بالمشيئة، وله- تعالى- أن يغفر هذا الذنب» «2» .
4-
دل قوله- تعالى-: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ على أن توبة المحاربين قبل الظفر بهم، تسقط عنهم حد المحاربين المذكور في الآية، إلا أن كثيرا من الفقهاء قالوا إن الذي يسقط عنهم هو ما يتعلق بحقوق الله، أما ما يتعلق بحقوق العباد فلا يسقط عنهم بالتوبة قبل القدرة عليهم.
قال القرطبي: قوله- تعالى-: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ: استثنى- جل شأنه- التائبين قبل أن يقدر عليهم، وأخبر بسقوط حقه عنهم بقوله: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
. أما القصاص وحقوق الآدميين فلا تسقط، وظاهر الآية أن من تاب بعد القدرة عليه فتوبته لا تنفع، وتقام الحدود عليه كما تقدم» «3» .
(1) تفسير الآية الكريمة لفضيلة الأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة. مجلة لواء الإسلام العدد السابع. السنة العشرون.
(2)
تفسير القرطبي ج 6 ص 157.
(3)
تفسير القرطبي ج 6 ص 185.
وقال الآلوسى: قوله: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ استثناء مخصوص بما هو من حقوق الله- تعالى- كما ينبئ عنه قوله فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وأما ما هو من حقوق العباد- كحقوق الأولياء من القصاص ونحوه- فيسقط بالتوبة وجوبه على الإمام من حيث كونه حدا، ولا يسقط جوازه بالنظر إلى الأولياء من حيث كونه قصاصا فإنهم إن شاءوا عفوا، وإن أحبوا استوفوا» «1» .
ويرى ابن جرير وابن كثير أن توبة المحاربين قبل القدرة عليهم تسقط عنهم جميع الحدود.
فقد قال ابن جرير- بعد أن ساق الأقوال في ذلك-: «وأولى هذه الأقوال بالصواب عندي، قول من قال: توبة المحارب الممتنع بنفسه، أو بجماعة معه، قبل القدرة عليه، تضع عنه تبعات الدنيا التي كانت لزمته أيام حربه وحرابته، من حدود الله، وغرم لازم، وقود وقصاص، إلا ما كان قائما في يده من أموال المسلمين والمعاهدين فيرد على أهله» «2» .
وقال ابن كثير: وقوله- تعالى- إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ أما على قول من قال إنها في أهل الشرك، فظاهر. - أى: فإنهم إذا آمنوا قبل القدرة عليهم سقطت عنهم جميع الحدود المذكورة-: وأما المحاربون المسلمون فإذا تابوا قبل القدرة عليهم فإنه يسقط عنهم تحتم القتل والصلب وقطع الرجل.
وهل يسقط قطع اليد؟ فيه قولان للعلماء. وظاهر الآية يقتضى سقوط الجميع، وعليه عمل الصحابة.
ثم ساق آثارا في هذا المعنى منها: ما رواه ابن أبى حاتم عن الشعبي قال: كان حارثة بن بدر التميمي من أهل البصرة- وكان قد أفسد في الأرض وحارب- فكلم رجالا من قريش فكلموا عليا فيه فلم يؤمنه. فأتى سعيد بن قيس الهمدانى فخلفه في داره ثم أتى عليا فقال:
يا أمير المؤمنين: أرأيت من حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا، فقرأ حتى بلغ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فقال على: اكتب له أمانا..» «3» .
وبعد، فهذه بعض الأحكام التي تتعلق بقطاع الطريق الذين سماهم الله- تعالى- محاربين لله ولرسوله، وسمى الفقهاء عملهم حرابة.
وقد رأينا أن الله- تعالى- قد عاقبهم بتلك العقوبات الرادعة في الدنيا. وأعد لهم العذاب
(1) تفسير الآلوسى ج 6 ص 120.
(2)
تفسير ابن جرير ج 6 ص 225.
(3)
تفسير ابن كثير ج 2 ص 52.