الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سورة المائدة (5) : الآيات 48 الى 50]
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
قوله: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ.
معطوف على قوله قبل ذلك إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ.
والمراد بالكتاب الأول: القرآن الكريم وأل فيه للعهد.
والمراد بالكتاب الثاني: جنس الكتب السماوية المتقدمة فيشمل التوراة والإنجيل وأل فيه للجنس وقوله وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ أى: رقيبا على ما سبقه من الكتب السماوية المحفوظة من التغيير، وأمينا وحاكما عليها لأنه هو الذي يشهد لها بالصحة ويقرر أصول شرائعها.
قال ابن جرير: وأصل الهيمنة الحفظ والارتقاب. يقال: إذا رقب الرجل الشيء وحفظه وشهده: قد هيمن فلان عليه. فهو يهيمن هيمنة، وهو عليه مهيمن» «1» .
وقال صاحب الكشاف: وقرئ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ- بفتح الميم- أى هومن عليه بأن حفظ من التغيير والتبديل كما قال- تعالى-: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ.
والذي هيمن عليه هو الله- عز وجل. أو الحفاظ في كل بلد، لو حرّف حرف منه أو حركة أو سكون لتنبه له كل أحد، ولاشمأزوا، رادين ومنكرين» «2» .
والمعنى: لقد أنزلنا التوراة على موسى، والإنجيل على عيسى، وأنزلنا إليك يا محمد الكتاب
(1) تفسير ابن جرير ج 6 ص 266
(2)
تفسير الكشاف ج 6 ص 640
الجامع لكل ما اشتملت عليه الكتب السماوية من هدايات وقد أنزلناه ملتبسا بالحق الذي لا يحوم حوله باطل، وجعلناه مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ أى: مؤيدا لما في تلك الكتب التي تقدمته: من دعوة إلى عبادة الله وحده، وإلى التمسك بمكارم الأخلاق. وجعلناه كذلك «مهيمنا عليها» أى: أمينا ورقيبا وحاكما عليها.
فأنت ترى أن الله- تعالى- قد أشار إلى سمو مكانة القرآن من بين الكتب السماوية بإشارات من أهمها:
أنه- سبحانه- لم يقل: وقفينا على آثارهم- أى على آثار الأنبياء السابقين- بمحمد صلى الله عليه وسلم وآتيناه القرآن. كما قال في شأن عيسى ابن مريم وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ.. إلخ.
لم يقل ذلك في شأن الرسول صلى الله عليه وسلم وفي شأن القرآن الكريم، وإنما قال: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ للإشارة إلى معنى استقلاله وعدم تبعيته لغيره من الكتب التي سبقته، وللإيذان بأن الشريعة التي هذا كتابها هي الشريعة الباقية الخالدة التي لا تقبل النسخ أو التغيير.
وأنه- سبحانه- لم يزد في تعريف الكتاب الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم على تعريفه بلام العهد فقال: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ للإشارة إلى كماله وتفوقه على سائر الكتب.
أى: أنه الكتاب الذي هو جدير بهذا الاسم، بحيث إذا أطلق اسم الكتاب لا ينصرف إلا إليه لأنه الفرد الكامل من بين الكتب في هذا الوجود.
وأنه- سبحانه- قد وصفه بأنه قد أنزله ملتبسا بالحق والصدق، وأنه مؤيد ومقرر لما اشتملت عليه الكتب السماوية من الدعوة إلى الحق والخير، وأنه- فضلا عن كل ذلك- أمين على تلك الكتب، وحاكم عليها، فما أيده من أحكامها وأقوالها فهو حق، وما لم يؤيده منها فهو باطل.
قال ابن كثير: جعل الله هذا الكتاب العظيم الذي أنزله آخر الكتب وخاتمها، جعله أشملها وأعظمها وأكملها، لأنه- سبحانه- جمع فيه محاسن ما قبله من الكتب وزاد فيه من الكمالات ما ليس في غيره، فلهذا جعله شاهدا وأمينا وحاكما عليها كلها، وتكفل- سبحانه- بحفظه بنفسه فقال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ «1» .
وقوله: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ أمر من الله- تعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم بأن يلتزم في حكمه بين الناس الأحكام التي أنزلها- سبحانه-
(1) تفسير ابن جرير ج 2 ص 65
والفاء في قوله: فَاحْكُمْ للإفصاح عن شرط مقدر.
أى: إذا كان شأن القرآن كما ذكرت لك يا محمد فاحكم بين هؤلاء اليهود وبين غيرهم من الناس بما أنزله الله من أحكام، فإن ما أنزله هو الحق الذي لا باطل معه، ولا تتبع في حكمك أهواء هؤلاء اليهود وأشباههم لأن اتباعك لأهوائهم يجعلك منحرفا ومائلا عما جاءك من الحق الذي لا مرية فيه ولا ريب. ولم يقل- سبحانه- «فاحكم بينهم به» بل ترك الضمير وعبر بالموصول فقال: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ للتنبيه على علية ما في حيز الصلة للحكم، لأن الموصول إذا كان في ضمن حكم تكون الصلة هي علة الحكم.
أى: التزم في حكمك بينهم بما يؤيده القرآن لأنه الكتاب الذي أنزله الله عليك.
والضمير في قوله، أَهْواءَهُمْ يعود إلى أولئك اليهود الذين كانوا يتحاكمون إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا بقصد الوصول إلى الحق، وإنما بقصد الوصول إلى ما يسهل عليهم احتماله من أحكام.
قال الآلوسى: والنهى يجوز أن يكون لمن لا يتصور منه وقوع المنهي عنه، ولا يقال: كيف نهى صلى الله عليه وسلم عن اتباع أهوائهم، وهو صلى الله عليه وسلم معصوم عن ارتكاب ما دون ذلك. وقيل الخطاب له صلى الله عليه وسلم والمراد سائر الحكام» «2» .
وقوله: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً استئناف جيء به لحمل أهل الكتاب على الانقياد لحكمه صلى الله عليه وسلم بما أنزل الله إليه من الحق.
والشرعة والشريعة بمعنى واحد. وهي في الأصل الطريق الظاهر الموصل للماء. والمراد بها هنا ما اشتمل عليه الدين من أحكام تكليفية يجب العمل بها أمرا ونهيا وندبا وإباحة. وسمى ما اشتمل عليه الدين من أحكام شريعة تشبيها بشريعة الماء. من حيث إن كلا منهما سبب الحياة. إذ أن الشريعة الدينية سبب في حياة الأرواح حياة معنوية. كما أن الماء سبب في حياة الأرواح حياة مادية.
(1) تفسير الآية الكريمة لفضيلة الشيخ الأستاذ محمد أبو زهرة. مجلة لواء الإسلام العدد الرابع السنة 21
(2)
تفسير الآلوسى ج 6 ص 152
والمنهاج: الطريق الواضح في الدين، من نهج الأمر ينهج إذا وضح. والعطف باعتبار جمع الأوصاف.
قال بعضهم. هما كلمتان بمعنى واحد والتكرير للتأكيد.
وقيل: ليستا بمعنى واحد. فالشرعة ابتداء الطريق. والمنهاج الطريق المستقيم.
وقوله: مِنْكُمْ متعلق بمحذوف وقع صفة لما عوض عنه تنوين «كل» .
أى: لكل أمة من الأمم الحاضرة والماضية وضعنا شرعة ومنهاجا خاصين بها، فالأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى- عليهما السلام، كانت شرعتها ما في التوراة من أحكام. والأمة التي كانت من مبعث عيسى إلى مبعث محمد- عليهما الصلاة والسلام كانت شرعتها ما في الإنجيل. وأما هذه الأمة الإسلامية فشريعتها ما في القرآن من أحكام، لأنه مشتمل على ما جاء في الكتب السابقة عليه من أصول الدين وكلياته التي لا تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة وزاد عليها ما يناسب العصر الذي نزل فيه، والعصور التي تلت ذلك إلى يوم القيامة.
وأهل الكتاب إنما أمروا بأن يتحاكموا إلى كتبهم قبل نسخها بالقرآن الكريم، أما بعد نزوله ومجيء النبي صلى الله عليه وسلم خاتما للرسالات السماوية، فقد أصبح من الواجب عليهم الدخول في الإسلام، واتباع رسوله محمد- صلى الله عليه وسلم في كل ما أمر به أو نهى عنه، وليس لأحد بعد بعثته صلى الله عليه وسلم إيمان مقبول إلا باتباعه وتصديقه في جميع أقواله وأعماله.
والاختلاف في الشرائع إنما يكون فيما يتعلق ببعض الأوامر والنواهي، وببعض وجوه الحلال والحرام، وبغير ذلك من فروع الشريعة، فقد يحرم الله شيئا على قوم عقوبة لهم، ويحله لقوم آخرين تخفيفا عنهم، كما قال- تعالى-: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ، وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ «1» .
وكما قال- تعالى- حكاية عن عيسى- عليه السلام: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ «2» .
أما ما يتعلق بأصول الشريعة، وجوهر الدين، وأساس العقيدة كالأمر بعبادة الله وحده،
(1) سورة الأنعام. ص 146
(2)
سورة آل عمران الآية 50
والتحلي بمكارم الأخلاق، فلا يتعلق به اختلاف في أى شريعة من الشرائع، أو أى دين من الأديان.
وقد تكلم عن هذا المعنى الإمام ابن كثير فقال: قوله: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً هذا إخبار عن الأمم المختلفة الأديان باعتبار ما بعث الله به رسله الكرام من الشرائع المختلفة في الأحكام المتفقة في التوحيد. كما ثبت في صحيح البخاري عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نحن معاشر الأنبياء إخوة لعلات- أمهاتهم شتى- ودينهم واحد» يعنى بذلك التوحيد الذي بعث الله به كل رسول أرسله، وضمنه كل كتاب أنزله، كما قال- تعالى-: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ «1» . وأما الشرائع فمختلفة في الأوامر والنواهي فقد يكون الشيء في هذه الشريعة حراما ثم يحل في الشريعة الأخرى. كما قال- تعالى- في شأن شريعة عيسى: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وبالعكس، قد يكون الشيء حلالا في هذه الشريعة ثم يحرم في شريعة أخرى، فيزداد في الشدة في هذه دون هذه، وذلك لما له- تعالى- في ذلك من الحكمة البالغة، والحجة الدامغة» «2» .
وقال الآلوسى ما ملخصه: وقوله: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً الخطاب فيه- كما قال جماعة من المفسرين- للناس كافة الموجودين والماضين بطريق التغليب. واستدل بالآية من ذهب إلى أننا غير متعبدين بشرائع من قبلنا، لأن الخطاب يعم الأمم، واللام للاختصاص فيكون لكل أمة دين يخصها.
والتحقيق في هذا المقام أننا متعبدون بأحكام الشرائع السابقة من حيث إنها أحكام شريعتنا لا من حيث إنها شريعة للأولين» «3» .
ثم بين- سبحانه- بعض مظاهر قدرته، وبالغ حكمته فقال: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ.
ومفعول المشيئة هنا محذوف لدلالة الجزاء عليه.
وقوله: وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ متعلق بمحذوف يستدعيه المقام.
والابتلاء: الاختبار والامتحان ليميز المطيع من العاصي.
والمعنى: لو شاء الله- تعالى- أن يجعل الأمم جميعا أمة واحدة تدين بدين واحد وبشريعة
(1) سورة الأنبياء آية 25.
(2)
تفسير ابن كثير ج 2 ص 67
(3)
تفسير الآلوسى ج 6 ص 154.
واحدة لفعل، لأنه- سبحانه- لا يعجزه شيء ولكنه- سبحانه- لم يشأ ذلك، وإنما شاء أن يجعلكم أمما متعددة ليختبركم فيما آتاكم من شرائع مختلفة في بعض فروعها ولكنها متحدة في جوهرها وأصولها فيجازى من أطاعه بما يستحقه من ثواب ويجازى من خالف أمره بما يستحقه من عذاب.
وقوله: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ حض منه- سبحانه- لعباده على الاجتهاد في فعل الطاعات.
أى إذا كان الأمر كما وصفت لكم. فسارعوا إلى القيام بالأعمال الصالحة التي تسعدكم في الدنيا والآخرة، وتنافسوا في تحصيلها بكل عزيمة ونشاط لتنالوا رضا الله- تعالى- وجزيل مثوبته.
فَاسْتَبِقُوا بمعنى فتسابقوا، ولتضمنه معنى السبق والابتدار تعدى بنفسه من غير إلى كما في قوله- تعالى- وَاسْتَبَقَا الْبابَ أى: حاول كل واحد منهما الابتدار والوصول إلى الباب قبل الآخر.
وقوله إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ استئناف مسوق مساق التعليل لاستباق الخيرات.
وقوله فَيُنَبِّئُكُمْ أى فيخبركم والمراد بالإنباء والإخبار هنا المجازاة على الأعمال، وإنما عبر عنها بالإنباء لوقوعها موقع إزالة الاختلاف التي هي وظيفة الأنبياء.
أى: إلى الله وحده مصيركم ومرجعكم، فيخبركم عند الحساب بما كنتم تختلفون فيه في الدنيا، ويجازيكم بما تستحقون: فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم منه- سبحانه- جزيل الثواب. وأما الذين طغوا وآثروا الحياة الدنيا فلهم منه شديد العقاب.
ثم كرر- سبحانه- الأمر لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بأن يحكم بين اليهود وغيرهم بما أنزله الله- تعالى- وحذره من مكرهم وكيدهم فقال: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ.
أخرج ابن جرير عن ابن عباس- رضى الله عنهما- قال: قال كعب بن أسد وابن صوريا وشاس بن قيس بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه: فأتوه فقالوا:
يا محمد، إنك قد عرفت أنا أحبار اليهود وأشرافهم وساداتهم وإنا إن اتبعناك اتبعك يهود ولم يخالفونا. وإن بيننا وبين قومنا خصومة فنحاكمهم إليك فتقضى لنا عليهم، ونؤمن لك ونصدق فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك. فأنزل الله فيهم: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ
إلى قوله: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ «1» .
وقوله: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ في محل نصب عطفا على الكتاب في قوله:
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ.
وقوله: أَنْ يَفْتِنُوكَ بدل اشتمال من المفعول في وَاحْذَرْهُمْ كأنه قيل: واحذر فتنتهم كما تقول: أعجبنى زيد علمه.
والمراد بالفتنة هنا محاولة إضلاله وصرفه عن الحكم بما أنزل الله.
والمعنى: وأنزلنا إليك الكتاب يا محمد فيه حكم الله، وأنزلنا إليك فيه أن أحكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواء هؤلاء اليهود الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا، واحذرهم أن يضلوك أو يصدوك عن بعض ما أنزلناه إليك ولو كان أقل قليل بأن يصوروا لك الباطل في صورة الحق، أو بأن يحاولوا حملك على الحكم الذي يناسب شهواتهم:
وقد كرر- سبحانه- على نبيه صلى الله عليه وسلم وجوب التزامه في أحكامه بما أنزل الله، لتأكيد هذا الأمر في مقام يستدعى التأكيد، لأن اليهود كانوا لا يكفون عن محاولتهم فتنته صلى الله عليه وسلم وإغراءه بالميل إلى الأحكام التي تتفق مع أهوائهم، ولأنه قد جاء في الآية السابقة ما قد يوهم بأن لكل قوم شريعة خاصة بهم لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وأن حكم القرآن ليس له صفة العموم فأراد- سبحانه- أن ينفى هذا الوهم نفيا واضحا وأن يؤكد أن شريعة القرآن هي الشريعة العامة الخالدة التي يجب أن يتحاكم إليها الناس في كل زمان ومكان، لأنها نسخت ما سبقها من شرائع.
وقوله- تعالى- وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ تيئيس لأولئك اليهود الذين حاولوا إغراء الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقضى لهم بما يرضيهم لكي يتبعوه، ونهى له صلى الله عليه وسلم ولأتباعه عن الاستجابة لأهواء هؤلاء ولو في أقل القليل مما يتنافى مع الحق الذي أمره الله- تعالى- بالسير عليه في القضاء بين الناس.
ثم بين- سبحانه- سوء عاقبة كل من يعرض عن حكم الله- تعالى- فقال: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ.
أى: فإن تولوا عن حكمك، وأعرضوا عنك بعد تحاكمهم إليك وأرادوا الحكم بغير ما أنزل الله. فاعلم أن حكمة الله قد اقتضت أن يعاقبهم بسبب بعض هذه الذنوب التي اقترفوها بتوليهم عن حكم الله، وإعراضهم عنك، وانصرافهم عن الهدى والرشاد إلى الغي والضلال، لأن الأمة التي لا تخضع لأحكام شرع الله، وتسير وراء لذائذها ومتعها وشهواتها وأهوائها
(1) تفسير ابن جرير ج 6 ص 273.
الباطلة، لا بد أن يصيبها العقاب الشديد بسبب ذلك.
وعبر- سبحانه- عما يصيبهم من عقاب بأنه بسبب ارتكابهم لبعض الذنوب، للإشارة بأن لهم ذنوبا كثيرة بعضها كاف لإنزال العقوبة الشديدة بهم.
وقوله: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ اعتراض تذييلى مقرر لمضمون ما قبله، ومتضمن تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما لقيه من مخالفيه ولا سيما اليهود.
أى: وإن كثيرا من الناس لخارجون عن طاعتنا، ومتمردون على أحكامنا، ومتبعون لخطوات الشيطان الذي استحوذ عليهم، وإذا كان الأمر كذلك فلا تبتئس يا محمد عما لقيته من أصحاب النفوس المريضة، بل اصبر حتى يحكم الله بينك وبينهم.
ثم ختم- سبحانه- هذه الآية الكريمة بتوبيخ أولئك الذين يرغبون عن حكم الله إلى حكم غيره فقال: أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ.
فالهمزة هنا للاستفهام الإنكارى التوبيخي. والفاء للعطف على مقدر يستدعيه المقام.
والمعنى: أينصرفون عن حكمك بما أنزل الله ويعرضون عنه فيبغون حكم الجاهلية مع أن ما أنزله الله إليك من قرآن فيه الأحكام العادلة التي ترضى كل ذي عقل سليم، ومنطق قويم.
وقدم- سبحانه- المفعول «أفحكم» لإفادة التخصيص المفيد لتأكيد الإنكار والتعجيب من أحوال أولئك اليهود الذين يريدون حكم الجاهلية.
إذ أن التولي عن حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حكم آخر منكر عجيب. وطلب حكم الجاهلية أقبح وأعجب.
والمراد بالجاهلية: الملة الجاهلية التي هي متابعة الهوى، والمداهنة في الأحكام، فيكون ذلك توبيخا لليهود بأنهم مع كونهم أهل كتاب يبغون حكم الملة الجاهلية. وعدم الأخذ بشريعة المساواة. فيكون ذلك- أيضا- تعييرا لهم لاقتدائهم بأهل الجاهلية.
قال الآلوسى: فقد روى أن بنى النضير لما تحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في خصومة قتيل وقعت بينهم وبين بنى قريظة، طلب بعضهم من رسول الله أن يحكم بينهم بما كان عليه أهل الجاهلية من التفاضل، فقال صلى الله عليه وسلم:«القتلى سواء» - أى: متساوون- فقال بنو النضير: نحن لا نرضى بحكمك، فنزلت هذه الآية» «1» .
وقوله- تعالى- وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ إنكار منه- سبحانه- لأن يكون هناك حكم أحسن من حكمه أو مساو له.
(1) تفسير الآلوسى ج 6 ص 156.
أى: لا أحد أحسن حكما من حكم الله- تعالى- عند قوم يوقنون بصحة دينه، ويذعنون لتكاليف شريعته، ويقرون بوحدانيته، ويتبعون أنبياءه ورسله.
فاللام في قوله: لِقَوْمٍ بمعنى عند، وهي متعلقة بأحسن، ومفعول يُوقِنُونَ محذوف أى لقوم يوقنون بحكمه وأنه أعدل الأحكام. والجملة حالية متضمنة لمعنى الإنكار السابق.
وخص- سبحانه- الموقنين بالذكر، لأنهم هم الذين يحسنون التدبر فيما شرعه الله من أحكام، وينتفعون بما اشتملت عليه من عدل ومساواة.
هذا، وقد شدد الإمام ابن كثير النكير على الذي يرغبون عن حكم الله إلى أحكام من عند البشر، ووصف من يفعل ذلك بالكفر، وأفتى بوجوب مقاتلته حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فقال- رحمه الله:
«ينكر- تعالى- على من خرج عن حكم الله- المشتمل على كل خير الناهي عن كل شر- وعدل عنه إلى ما سواه من الآراء والأهواء والإصلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات.
مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم «جنكزخان» الذي وضع لهم «الباسق» وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى. فصارت في بنيه شرعا متبعا يقدمونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير.
قال- تعالى- أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أى: ومن أعدل من الله في حكمه لمن عقل عن الله شرعه وآمن به وأيقن. وعلم أنه- سبحانه- أحكم الحاكمين، وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها؟ فإنه- تعالى- هو العالم بكل شيء، والقادر على كل شيء، والعادل في كل شيء.
روى الطبراني عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أبغض الناس إلى الله- تعالى- من يبتغى في الإسلام سنة الجاهلين ومن طلب دم امرئ بغير حق ليريق دمه «1» .
وإلى هنا نرى الآيات الكريمة قد كشفت «باستفاضة» عن المسالك الخبيثة التي سلكها اليهود وأشباههم لكيد الإسلام والمسلمين.
فأنت تراها في مطلعها قد نادت الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا النداء وأمرته بعدم المبالاة بما يصدر عن
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 67- بتصرف وتلخيص-