الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لو كانوا مؤمنين به لنفذوا أحكامه، ولا بك يا محمد لأنهم لو كانوا مؤمنين بك لاستجابوا لك فيما تأمرهم به وتنهاهم عنه.
قال الفخر الرازي: قوله- تعالى-: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ.. إلخ: هذا تعجيب من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بتحكيم اليهود إياه بعد علمهم بما في التوراة من حد الزاني، ثم تركهم قبول ذلك الحكم فعدلوا عما يعتقدونه حكما حقا إلى ما يعتقدونه باطلا طلبا للرخصة. فلا جرم ظهر جهلهم وعنادهم في هذه الواقعة من وجوه:
أحدها: عدولهم عن حكم كتابهم.
والثاني: رجوعهم إلى حكم من كانوا يعتقدون فيه أنه مبطل.
والثالث: إعراضهم عن حكمه بعد أن حكموه. فبين الله حال جهلهم وعنادهم لئلا يغتربهم مغتر أنهم أهل كتاب الله، ومن المحافظين على أمر الله» «1» .
وبعد أن وصف الله- تعالى- اليهود وأشباههم بجملة من الصفات القبيحة، كمسارعتهم في الكفر. وكثرة سماعهم للكذب، وتحريفهم للكلم عن مواضعه، وتهافتهم على أكل أسحت. وبعد أن خير رسوله صلى الله عليه وسلم في أن يحكم بينهم أو أن يعرض عنهم إذا ما تحاكموا إليه، وبعد أن عجب كل عاقل من أحوالهم. بعد كل ذلك شرع- سبحانه- في بيان منزلة التوراة وفي بيان بعض ما اشتملت عليه من أحكام فقال- تعالى-:
[سورة المائدة (5) : الآيات 44 الى 45]
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (44) وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
(1) تفسير الفخر الرازي ج 11 ص 236
فقوله- تعالى-: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ بيان لشرف التوراة قبل أن تمتد إليها الأيدى الأثيمة بالتحريف والتبديل. ويدل على شرفها وعلو مقامها أن الله- تعالى- هو الذي أنزلها لا غيره، وأنه- سبحانه- جعلها مشتملة على الهدى والنور. والمراد بالهدى، ما اشتملت عليه من بيان للأحكام والتكاليف والشرائع التي تهدى الناس إلى طريق السعادة.
والمراد بالنور: ما اشتملت عليه من بيان للعقائد السليمة، والمواعظ الحكيمة، والأخلاق القويمة.
والمعنى إنا أنزلنا التوراة على نبينا موسى- عليه السلام مشتملة على ما يهدى الناس إلى الحق من أحكام وتكاليف وعلى ما يضيء لهم حياتهم من عقائد ومواعظ وأخلاق فاضلة.
ثم بين- سبحانه- بعض الوظائف التي جعلها للتوراة فقال: يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ.
والمراد بقوله: النَّبِيُّونَ من بعثهم الله في بنى إسرائيل من بعد موسى لإقامة التوراة.
وقوله: الذين أسلموا صفة للنبيين. أى: أسلموا وجوههم لله وأخلصوا له العبادة والطاعة.
وعن الحسن والزهري وقتادة: يحتمل أن يكون المراد بالنبيين الذين أسلموا محمدا صلى الله عليه وسلم وذلك لأنه حكم على اليهوديين الذين زنيا بالرجم، وكان هذا حكم التوراة. وإنما ذكر بلفظ الجمع تعظيما له.
وقال ابن الأنبارى: هذا رد على اليهود والنصارى لأن بعضهم كانوا يقولون: الأنبياء كلهم يهود أو نصارى- فقال- تعالى- يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا يعنى أن الأنبياء ما كانوا موصوفين باليهودية أو النصرانية، بل كانوا مسلمين لله منقادين لتكاليفة» «1» .
(1) تفسير الفخر الرازي ج 6 ص 3- طبعة عبد الرحمن محمد [.....]
وقوله: لِلَّذِينَ هادُوا أى: رجعوا عن الكفر. والمراد بهم اليهود. واللام للتعليل.
وقوله: وَالرَّبَّانِيُّونَ معطوف على النَّبِيُّونَ وهو جمع رباني. وهم- كما يقول ابن جرير- العلماء والحكماء البصراء بسياسة الناس وتدبير أمورهم، والقيام بمصالحهم «1» .
وقوله: الْأَحْبارُ معطوف أيضا على النَّبِيُّونَ.
قال القرطبي ما ملخصه: والأحبار: قال ابن عباس: هم الفقهاء. والحبر بالفتح والكسر- الرجل العالم وهو مأخوذ من التحبير بمعنى التحسين والتزيين، فهم يحبرون العلم.
أى: يبينونه، وهو محبر في صدورهم «2» والباء في قوله: بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ متعلقة بقوله يَحْكُمُ.
وقوله اسْتُحْفِظُوا من الاستحفاظ بمعنى طلب الحفظ بعناية وفهم، إذ أن السين والتاء للطلب، والضمير في اسْتُحْفِظُوا يعود على النبيين والربانيين والأحبار.
والمعنى: إنا أنزلنا التوراة فيها هداية للناس إلى الحق، وضياء لهم من ظلمات الباطل، وهذه التوراة يحكم بها بين اليهود أنبياؤهم الذين أسلموا وجوههم لله، وأخلصوا له العبادة والطاعة، ويحكم أيضا بينهم الربانيون والأحبار الذين هم خلفاء الأنبياء. وكان هذا الحكم منهم بالتوراة بين اليهود، بسبب أنه- تعالى- حملهم أمانة حفظ كتابه، وتنفيذ أحكامه وشرائعه وتعاليمه.
ويصح أن يكون قوله بِمَا اسْتُحْفِظُوا متعلقا بالربانيين والأحبار، وأن يكون الضمير عائدا عليهم وحدهم. أى: على الربانيين والأحبار ويكون الاستحفاظ بمعنى أن الأنبياء قد طلبوا منهم حفظه وتطبيق أحكامه.
والمعنى: كذلك الربانيون والأحبار كانوا يحكمون بالتوراة بين اليهود. بسبب أمر أنبيائهم إياهم بأن يحفظوا كتاب الله من التغيير والتبديل.
وقوله: وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ معطوف على اسْتُحْفِظُوا.
أى: وكان الأنبياء والربانيون والأحبار شهداء على الكتاب الذي أنزله الله- وهو التوراة- بأنه حق، وكانوا رقباء على تنفيذ حدوده، وتطبيق أحكامه حتى لا يهمل شيء منها.
قال الفخر الرازي قوله: بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ: حفظ كتاب الله على وجهين:
(1) تفسير ابن جرير ج 6 ص 39
(2)
تفسير القرطبي ج 6 ص 189
الأول: أن يحفظ فلا ينسى.
الثاني: أن يحفظ فلا يضيع.
وقد أخذ الله على العلماء حفظ كتابه من وجهين.
أحدهما: أن يحفظوه في صدورهم ويدرسوه بألسنتهم.
والثاني: ألا يضيعوا أحكامه ولا يهملوا شرائعه.
وقوله: وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ أى: هؤلاء النبيون والربانيون والأحبار كانوا شهداء على أن كل ما في التوراة حق وصدق ومن عند الله فلا جرم كانوا يمضون أحكام التوراة ويحفظونها من التحريف والتغيير» «1» .
ثم أمر الله- تعالى- اليهود- ولا سيما علماءهم وفقهاءهم- أن يجعلوا خشيتهم منه وحده.
وألا يبيعوا دينهم بدنياهم فقال- تعالى-: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا.
والخشية- كما يقول الراغب- خوف يشوبه تعظيم، وأكثر ما يكون ذلك على علم بما يخشى منه، ولذلك خص العلماء بها في قوله: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ «2» .
وكأن الراغب- رحمه الله يريد أن يفرق بين الخوف والخشية فهو يرى أن الخشية خوف يشوبه تعظيم ومحبة للمخشى بخلاف الخوف فهو أعم من أن يكون من مرهوب معظم محبوب أو مرهوب مبغوض مذموم.
والفاء في قوله فَلا تَخْشَوُا للإفصاح عن كلام مقدر.
والمعنى: إذا كان الأمر كما ذكر من أن الله- تعالى- قد أنزل التوراة لتنفيذ أحكامها، وتطبيق تعاليمها.. فمن الواجب عليكم يا معشر اليهود أن تقتدوا بأنبيائكم وصلحائكم في ذلك، وأن تستجيبوا للحث الذي جاء به رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم وأن تجعلوا خشيتكم منى وحدي لا من أحد من الناس، فأنا الذي بيدي نفع العباد وضرهم.
وقوله: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا معطوف على قوله فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ والاشتراء هنا المراد به الاستبدال.
والمراد بالآيات: ما اشتملت عليه التوراة من أحكام وتشريعات وبشارات بالنبي صلى الله عليه وسلم.
(1) تفسير الفخر الرازي ج 12 ص 4
(2)
المفردات من غريب القرآن ص 149 للراغب الأصفهاني.
والمراد بالثمن القليل: حظوظ الدنيا وشهواتها من نحو الرياسة والمال والجاه وما إلى ذلك من متع الحياة الدنيا.
أى: ولا تستبدلوا بأحكام آياتي التي اشتملت عليها التوراة أحكاما أخرى تغايرها وتخالفها، لكي تأخذوا في مقابل هذا الاستبدال ثمنا قليلا من حظوظ الدنيا وشهواتها كالمال والجاه وما يشبه ذلك.
وليس وصف الثمن بالقلة من الأوصاف المخصصة للنكرات، بل هو من الأوصاف اللازمة للثمن المحصل في مقابل استبدال الآيات لأنه لا يكون إلا قليلا- وإن بلغ ما بلغ من أعراض الدنيا- بالنسبة لطاعة الله، والرجاء في رحمته ورضاه.
وهذا النهى الذي اشتملت عليه هاتان الجملتان الكريمتان: فَلا تَخْشَوُا، ولا تَشْتَرُوا وإن كان موجها في الأصل إلى رؤساء اليهود وأحبارهم. إلا أنه يتناول الناس جميعا في كل زمان ومكان، لأنه نهى عن رذائل يجب أن يبتعد عنها كل إنسان يتأتى له الخطاب.
وإلى هذا المعنى أشار الآلوسى بقوله: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ خطاب لرؤساء اليهود وعلمائهم بطريق الالتفات- إذ انتقل من الحديث عن الأحبار السابقين منهم إلى خطاب هؤلاء المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم ويتناول غير أولئك المخاطبين بطريق الدلالة» «1» .
ثم ختم- سبحانه- الآية ببيان سوء عاقبة من يفعل فعل اليهود، فيحكم بغير شريعة الله فقال- تعالى- وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ.
أى: كل من رغب عن الحكم بما أنزل الله: وقضى بغيره من الأحكام، فأولئك هم الكافرون بما أنزله- سبحانه- لأنهم كتموا الحق الذي كان من الواجب عليهم إظهاره والعمل به. والجملة الكريمة- كما يقول الآلوسى- تذييل مقرر لمضمون ما قبلها أبلغ تقرير، وتحذير من الإخلال به أشد تحذير.
هذا ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية ما يأتى:
1-
سمو منزلة التوراة التي أنزلها الله- تعالى- على نبيه موسى- عليه السلام، فقد أضاف- سبحانه- إنزالها إليه، فكان لهذه الإضافة ما لها من الدلالة على علو مقامها، كما بين- سبحانه- شرفها الذاتي بذكر ما اشتملت عليه من هداية إلى الحق، ومن نور يكشف للناس ما اشتبه عليهم من أمور دينهم ودنياهم.
وهذا السمو إنما هو للتوراة التي لم تمتد إليها أيدى اليهود بالتحريف والتبديل، والزيادة
(1) تفسير الآلوسى ج 6 ص 145
والنقصان. أما تلك التوراة التي بين أيديهم الآن، والتي دخلها من التحريف ما دخلها فهي عارية عن الثقة في كثير مما اشتملت عليه من قصص وأحكام.
2-
قال الفخر الرازي: «دلت الآية على أنه يحكم بالتوراة النبيون والربانيون والأحبار، وهذا يقتضى كون الربانيين أعلى حالا من الأحبار، فثبت أن يكون الربانيون كالمجتهدين.
والأحبار كآحاد العلماء.
ثم قال: وقد احتج جماعة بأن شرع من قبلنا لازم علينا- إلا إذا قام الدليل على صيرورته منسوخا- بهذه الآية، وتقريره أنه- تعالى- قال في التوراة هدى ونورا، والمراد كونها هدى ونورا في أصول الشرع وفروعه، ولو كان ما فيها منسوخا غير معتبر الحكم بالكلية لما كان فيها هدى ونور، ولا يمكن أن يحمل الهدى والنور على ما يتعلق بأصول الدين فقط، لأنه ذكر الهدى والنور ولو كان المراد منهما معا ما يتعلق بأصول الدين للزم التكرار، وأيضا فإن هذه الآية إنما نزلت في مسألة الرجم فلا بد وأن تكون الأحكام الشرعية داخلة فيها لأنا- وإن اختلفنا في أن غير سبب نزول الآية هل يدخل فيها أم لا- لكنا توافقنا على أن سبب نزول الآية يجب أن يكون داخلا فيها» «1» .
3-
استدل العلماء بهذه الآية على أن الحاكم من الواجب عليه أن ينفذ أحكام الله دون أن يخشى أحدا سواه، وأن عليه كذلك أن يبتعد عن أكل المحرم بكل صوره وأشكاله، وألا يغير حكم الله في نظير أى عرض من أعراض الدنيا، لأن الله- تعالى- يقول: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ، وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا.
وقد أشار إلى هذا المعنى صاحب الكشاف بقوله: قوله: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ نهى للحكام عن خشيتهم غير الله في حكومتهم، وادهانهم فيها- أى ومصانعتهم فيها- وإمضائها على خلاف ما أمروا به من العدل لخشية سلطان ظالم، أو خيفة أذية أحد من الأقرباء والأصدقاء وقوله: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وهو الرشوة وابتغاء الجاه ورضا الناس، كما حرف أحبار اليهود كتاب الله وغيروا أحكامه رغبة في الدنيا وطلبا للرياسة فهلكوا» «2» .
4-
قال بعض العلماء: في قوله: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ تغليظ في الحكم بخلاف المنصوص عليه، حيث علق عليه الكفر هنا والظلم والفسق بعد.
وكفر الحاكم لحكمه بغير ما أنزل الله مقيد بقيد الاستهانة به. والجحود له، وهذا ما سار عليه كثير من العلماء وأثروه عن عكرمة وابن عباس.
(1) تفسير الفخر الرازي ج 12 ص 402
(2)
تفسير الكشاف ج 1 ص 673
وعن عطاء: هو كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق. أى: أن كفر المسلم وظلمه وفسقه ليس مثل كفر الكافر وظلمه وفسقه. فإن كفر المسلم قد يحمل على جحود النعمة» «1» .
وقال فضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف: قوله وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ: اختلف المفسرون فيمن نزلت هذه الآية والآيتان بعدها. فقيل في اليهود خاصة وقيل: في الكفار عامة. وقيل: الأولى في هذه الأمة والثانية في اليهود. والثالثة في النصارى والكفر إذا نسب إلى المؤمنين حمل على التشديد والتغليظ، لا على الكفر الذي ينقل عن الملة.
والكافر إذا وصف بالفسق والظلم أريد منهما العتو والتمرد في الكفر. وعن ابن عباس: من لم يحكم بما أنزل الله جاحدا به فهو كافر. ومن أقربه ولم يحكم به فهو ظالم فاسق» «2» .
وقال الآلوسى ما ملخصه: واحتجت الخوارج بهذه الآية على أن الفاسق كافر غير مؤمن.
ووجه استدلالهم بها أن كلمة مِنْ في قوله: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ عامة شاملة لكل من لم يحكم بما أنزل الله فيدخل الفاسق المصدق أيضا لأنه غير حاكم وغير عامل بما أنزل الله.
وأجيب عن شبهتهم بأن الآية متروكة الظاهر فإن الحكم وإن كان شاملا لفعل القلب والجوارح لكن المراد به هنا عمل القلب وهو التصديق ولا نزاع في كفر من لم يصدق بما أنزل الله- تعالى» «3» .
والذي يبدو لنا أن هذه الجملة الكريمة عامة في اليهود وفي غيرهم فكل من حكم بغير ما أنزل الله، مستهينا بحكمه- تعالى- أو منكرا له، يعد كافرا لأن فعله هذا جحود وإنكار واستهزاء بحكم الله ومن فعل ذلك كان كافرا.
أما الذي يحكم بغير حكم الله مع إقراره بحكم الله واعترافه به، فإنه لا يصل في عصيانه وفسقه إلى درجة الكفر.
ثم بين- سبحانه- بعض ما اشتملت عليه التوراة من أحكام فقال وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ، وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ، وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ، وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ، وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ.
فالآية الكريمة معطوفة على ما سبقها وهو قوله- تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ.
(1) تفسير القاسمى ج 1 ص 2000
(2)
تفسير «صفوة البيان» ص 194
(3)
تفسير الآلوسى ج 6 ص 145
وقوله: كَتَبْنا بمعنى فرضنا وأوجبنا وقررنا. والمراد بالنفس: الذات.
أى: أنزلنا التوراة على موسى لتكون هداية ونورا لبنى إسرائيل، وفرضنا عليهم (أن النفس بالنفس) أى: مقتولة أو مأخوذة بها إذا قتلتها بغير حق. وأن (العين) مفقوءة بِالْعَيْنِ وأن الْأَنْفَ مجدوع بِالْأَنْفِ وأن الْأُذُنَ مقطوعة بِالْأُذُنِ وأن السِّنَّ مقلوعة بِالسِّنِّ وأن الْجُرُوحَ قِصاصٌ أى: ذات قصاص، بأن يقتص فيها إذا أمكن ذلك، وإلا فما لا يمكن القصاص فيه- ككسر عظم وجرح لحم لا يمكن الوقوف على نهايته- ففيه حكومة عدل.
وعبر- سبحانه- عما فرض عليهم من عقوبات في التوراة بقوله: كَتَبْنا للإشارة إلى أن هذه العقوبات وتلك الأحكام لا يمكن جحدها أو محوها، لأنها مكتوبة والكتابة تزيد الكلام توثيقا وقوة.
قال القرطبي ما ملخصه: قوله- تعالى-: وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ. ألخ قرأ نافع وعاصم والأعمش وحمزة بالنصب في جميعها على العطف.
وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وأبو جعفر بنصب الكل إلا الجروح فإنه بالرفع على القطع عما قبله والاستئناف به- أى أن الجروح مبتدأ وقصاص خبره.
وقرأ الكسائي وأبو عبيد: وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ، وَالْجُرُوحَ بالرفع فيها كلها.
قال أبو عبيد: حدثنا حجاج عن هارون عن عباد بن كثير، عن عقيل عن الزهري، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ، وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ.
والرفع من ثلاث جهات، بالابتداء والخبر. والوجه الثاني: بالعطف على المعنى على موضع (أن النفس)، لأن المعنى قلنا لهم: النفس بالنفس والوجه الثالث- قاله الزجاج- يكون عطفا على المضمر في النفس. لأن الضمير في النفس في موضع رفع، لأن التقدير أن النفس هي مأخوذة بالنفس فالأسماء معطوفة على هي «1» .
وقوله: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ترغيب في العفو والصفح.
والضمير في (به) يعود إلى القصاص. والتعبير عنه بالتصدق للمبالغة في الحث عليه فإنه أدعى إلى صفاء النفوس. وإلى فتح باب التسامح بين الناس.
(1) راجع تفسير القرطبي ج 6 ص 192
وقوله: فَهُوَ يعود إلى التصدق المدلول عليه بالفعل (تصدق) والضمير في قوله لَهُ يعود إلى العافي المتصدق وهو المجنى عليه أو من يقوم مقامه.
والمعنى: فَمَنْ تَصَدَّقَ بما ثبت له من حق القصاص، بأن عفا عن الجاني فإن هذا التصدق يكون كفارة لذنوب هذا المتصدق، حيث قدم العفو مع تمكنه من القصاص.
وقيل إن الضمير في لَهُ يعود على الجاني فيكون المعنى: فمن تصدق بما ثبت له من حق القصاص، بأن عفا عن الجاني، فإن هذا التصدق يكون كفارة له. أى لذنوب الجاني، بأن لا يؤاخذه الله بعد ذلك العفو. وأما المتصدق فأجره على الله.
وقد رجح ابن جرير عودة الضمير إلى العافي المتصدق وهو المجنى عليه أو ولى دمه فقال:
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب: قول من قال: عنى به: فمن تصدق به فهو كفارة له أى المجروح، ولأنه لأن تكون الهاء في قوله (له) عائدة على (من) أولى من أن تكون عائدة على من لم يجر له ذكر إلا بالمعنى دون التصريح، إذ الصدقة هي المكفرة ذنب صاحبها دون المتصدق عليه في سائر الصدقات) «1» .
وقوله: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ تذييل قصد به التحذير من مخالفة حكم الله. أى: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون لأنفسهم، حيث تركوا الحكم العدل واتجهوا إلى الحكم الجائر الظالم.
قال الرازي: وفيه سؤال وهو أنه- تعالى-. قال: أولا: فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ وثانيا هُمُ الظَّالِمُونَ والكفر أعظم من الظلم، فلماذا ذكر أعظم التهديدات أولا وأى فائدة في ذكر الأخف بعده؟
وجوابه: أن الكفر من حيث إنه إنكار لنعمة المولى وجحود لها فهو كفر، ومن حيث إنه يقتضى إبقاء النفس في العقاب الدائم الشديد فهو ظلم على النفس. ففي الآية الأولى ذكر الله ما يتعلق بتقصيره في حق الخالق- سبحانه- وفي هذه الآية ذكر ما يتعلق بالتقصير في حق نفسه» «2» .
هذا، ومما أخذه العلماء من هذه الآية ما يأتى:
1-
أن الآية الكريمة- ككثير غيرها- تنعى على بنى إسرائيل إهمالهم لأحكام الله- تعالى- وتهافتهم على ما يتفق مع أهوائهم.
(1) تفسير ابن جرير ج 6 ص 262 بتصريف وتلخيص.
(2)
تفسير الفخر الرازي ج 12 ص 12
قال ابن كثير: هذه الآية مما وبخت به اليهود أيضا وقرعت عليه، فإن عندهم في نص التوراة أن النفس بالنفس. وقد خالفوا حكم ذلك عمدا وعنادا فأقادوا النضري من القرظي، ولم يقيدوا القرظي من النضري وعدلوا إلى الدية، كما خالفوا حكم التوراة في رجم الزاني المحصن، وعدلوا إلى ما اصطلحوا عليه من الجلد والتحميم والإشهار. ولهذا قال هناك وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ، لأنهم جحدوا حكم الله قصدا منهم وعنادا وعمدا. وقال هنا في تتمة الآية فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. لأنهم لم ينصفوا المظلوم من الظالم في الأمر الذي أمر الله بالعدل والتسوية بين الجميع فيه، فخانوا وظلموا وتعدى بعضهم على بعض.
ثم قال: واستدل كثير ممن ذهب من الأصوليين والفقهاء إلى أن شرع من قبلنا شرع لنا بهذه الآية. وذلك إذا حكى مقررا ولم ينسخ. والحكم عندنا على وفقها في الجنايات عند جميع الأئمة. وقال الحسن البصري: هي عليهم وعلى الناس عامة» «1» .
2-
استدل جمهور الفقهاء بعموم هذه الآية على أن الرجل يقتل بالمرأة. ويؤيد ذلك ما رواه النسائي وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب في كتاب عمرو بن حزم: أن الرجل يقتل بالمرأة.. وفي رواية للإمام أحمد أن الرجل إذا قتل المرأة لا يقتل بها، بل تجب ديتها «2» .
قال الآلوسى: واستدل بعموم أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ من قال: يقتل المسلم بالكافر، والحر بالعبد، والرجل بالمرأة ومن خالف استدل بقوله- تعالى:
الْحُرُّ بِالْحُرِّ، وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ، وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى وبقوله صلى الله عليه وسلم «لا يقتل مؤمن بكافر» .
وأجاب بعض أصحابنا بأن النص تخصيص بالذكر فلا يدل على نفى ما عداه. والمراد بما روى في الحديث الكافر الحربي وقد روى أنه صلى الله عليه وسلم قتل مسلما بذمي» «3» .
3-
استدل العلماء بجريان القصاص في الأطراف لقوله- تعالى- الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ، وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ إلخ. إلا أنهم قالوا بوجوب استيفاء ما يماثل فعل الجاني بدون تعد أو ظلم فتؤخذ العين اليمنى باليمنى عند وجودها، ولا تؤخذ اليسرى باليمنى.
وقالوا: إنما تؤخذ العين بالعين إذا فقأها الجاني متعمدا. فإن أصابها خطأ ففيها نصف الدية: إن أصاب العينين معا خطأ ففيهما الدية كاملة.
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 61 بتصرف يسير. [.....]
(2)
تفسير ابن كثير ج 2 ص 61 بتصرف يسير.
(3)
تفسير الآلوسى ج 6 ص 118
ويرى بعضهم أن في عين الأعور الدية كاملة لأن منفعته بها كمنفعة ذي عينين أو قريبة منها.
وقد توسع الإمام القرطبي في بسط هذه المسائل فارجع إليه إن شئت «1» .
4-
أخذ العلماء من هذه الآية أن الله- تعالى- رغب في العفو، وحض عليه، وأجزل المثوبة لمن يقوم به فقد قال- تعالى- فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ. أى: فمن تصدق بما ثبت له من حق القصاص فتصدقه كفارة لذنوبه.
وقد وردت في الحض على العفو نصوص كثيرة ومن ذلك قوله- تعالى-: فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ «2» وقوله- تعالى- وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ، وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ «3» .
وروى الإمام أحمد عن الشعبي أن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
«ما من رجل يجرح في جسده جراحة فيتصدق بها إلا كفر الله عنه مثل ما تصدق به» «4» .
وروى ابن جرير عن أبى السفر قال: دفع رجل من قريش رجلا من الأنصار، فاندقت ثنيته. فرفعه الأنصارى إلى معاوية. فلما ألح عليه الرجل قال معاوية: شأنك وصاحبك.
قال: وأبو الدرداء عند معاوية. فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من مسلم يصاب بشيء من جسده، فيهبه إلا رفعه الله به درجة وحط عنه به خطيئة» . فقال الأنصارى: أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: سمعته أذناى ووعاه قلبي- فخلى سبيل القرشي. فقال معاوية: «مروا له بمال» «5» ومن هذه الآية وغيرها نرى أن الإسلام قد جمع فيما شرع من عقوبات بين العدل والرحمة فقد شرع القصاص زجرا للمعتدى. وإشعارا له بأن سوط العقاب مسلط عليه إذا ما تجاوز حده، جبرا لخاطر المعتدى عليه، وتمكينا له من أخذ حقه ممن اعتدى عليه.
ومع هذا التمكين التام للمجنى عليه من الجاني فقد رغب الإسلام المجنى عليه في العفو عن الجاني حتى تشيع المحبة والمودة بين أفراد الأمة، ووعده على ذلك بتكفير خطاياه، وارتفاع درجاته عند الله- تعالى-
(1) راجع تفسير القرطبي ج 6 ص 191- 209
(2)
سورة الشورى الآية 40
(3)
سورة آل عمران الآية 134
(4)
تفسير ابن كثير ج 2 ص 164.
(5)
تفسير ابن جرير ج 6 ص 260