الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على الكتابيين في ذلك العصر الذي نزل فيه القرآن» «1» .
وقوله: كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ أى: كلما أرادوا حرب الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وهيئوا الأسباب لذلك وحاولوا تفريق كلمتهم وإثارة العداوة بينهم. كلما فعلوا ذلك أفسد الله عليهم خطتهم، وأحبط مكرهم، وألقى الرعب في قلوبهم.
والتعبير بهذه الجملة الكريمة جاء على وفق ما جرى عليه العرب من أنهم كانوا إذا أرادوا حربا بالإغارة على غيرهم أوقدوا نارا يسمونها نار الحرب.
والتعبير هنا لذلك على سبيل المجاز إذ عبر- سبحانه- عن إثارة الحروب بإيقاد نارها.
باعتبار أن الحروب في ذاتها وبما تشتمل عليه من مذابح بشرية تشبه النار المستعرة في أخطارها ومصائبها.
وقوله: وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ تذييل مقرر لما قبله من الصفات الذميمة التي دمغ الله- تعالى- بها اليهود.
أى: أن حال هؤلاء اليهود أنهم يجتهدون في الكيد للإسلام وأهله وأنهم يسعون سعيا حثيثا للإفساد في الأرض عن طريق إثارة الفتن، وإيقاظ الأحقاد بين الناس. والله- تعالى- لا يحب المفسدين بل يبغضهم ويمقتهم، لإيثارهم الضلالة على الهدى، والشر على الخير.
وبهذا نرى الآية الكريمة قد ردت على اليهود في نسبتهم البخل إلى الله- تعالى- وبينت أنه- سبحانه- هو الواسع الفضل، الجزيل العطاء وكشفت عن جوانب من رذائلهم وعنادهم وأوضحت أنه- سبحانه- يبغضهم لأنهم يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
ولقد بسطنا القول في مظاهر فسادهم في الأرض في غير هذا الموطن فارجع إليه إن شئت «2» .
وبعد أن حكى- سبحانه- ما حكى من رذائل أهل الكتاب وخصوصا اليهود عقب ذلك بفتح باب الخير لهم متى آمنوا واتقوا فقال- تعالى:
[سورة المائدة (5) : الآيات 65 الى 66]
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (66)
(1) تفسير الفخر الرازي ج 12 ص 45
(2)
راجع كتابنا «بنو إسرائيل في القرآن والسنة» ج 2 من ص 288 إلى ص 320
والمعنى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ من اليهود والنصارى آمَنُوا برسول الله- صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من حق ونور وَاتَّقَوْا الله- تعالى- بأن صانوا أنفسهم عن كل ما لا يرضاه. لو أنهم فعلوا ذلك لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ بأن رفعنا عنهم العقاب وسترنا عليهم معاصيهم فلم نحاسبهم عليها، وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ في الآخرة.
قال الفخر الرازي: واعلم أنه- سبحانه- لما بالغ في ذمهم وفي تهجين طريقتهم عقب ذلك ببيان أنهم لو آمنوا واتقوا لوجدوا سعادات الآخرة والدنيا. أما سعادات الآخرة فهي محصورة في نوعين:
أحدهما: رفع العقاب.
والثاني: إيصال الثواب.
أما رفع العقاب فهو المراد بقوله: لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ. وأما إيصال التواب فهو المراد بقوله: وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ.
وأما سعادات الدنيا فقد ذكرها في قوله بعد ذلك: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ «1» .
وكرر- سبحانه- اللام في قوله: لَكَفَّرْنا. وَلَأَدْخَلْناهُمْ لتأكيد الوعد. وفيه تنبيه إلى كثرة ذنوبهم ومعاصيهم وإلى أن الإسلام يجب ما قبله من ذنوب مهما كثرت.
وفي إضافة الجنات إلى النعيم إشارة إلى ما يستحقونه من العذاب لو لم يؤمنوا ويتقوا.
وجمع- سبحانه- بين الإيمان والتقوى، للإيذان بأن الإيمان الذي ينجى صاحبه، ويرفع درجاته، هو ما كان نابعا عن يقين وإخلاص وخشية من الله، لا إيمان المنافقين الذين يدعون الإيمان وهو منهم برىء والضمير في قوله: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ يعود إلى أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين فتح الله لهم باب الإيمان ليدخلوا فيه كي ينالوا رضاه.
والمراد بإقامة التوراة والإنجيل: العمل بما فيهما من بشارات بصدق النبي صلى الله عليه وسلم وحضهم على
(1) راجع تفسير الفخر الرازي ج 12 ص 46- بتصريف وتلخيص-
الإيمان به عند ظهوره وتنفيذ ما اشتملا عليه من أحكام أيدتها تعاليم الإسلام، وأصل الإقامة الثبات في المكان. ثم استعير في إقامة الشيء لتوفية حقه.
والمراد بما أنزل إليهم من ربهم القرآن الكريم، لأنهم مخاطبون به، وليسوا خارجين عن دائرة التكاليف التي دعا إليها.
قال- تعالى- وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ «1» أى: لأنذركم به يا أهل مكة، ولأنذر به أيضا جميع من بلغه هذا الكتاب من اليهود والنصارى وغيرهم.
وقيل: المراد بما أنزل إليهم من ربهم. كتب أنبيائهم السابقين مثل كتاب شعياء، وكتاب حزقيل، وكتاب دانيال. فإنها مشتملة أيضا على البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم.
والمراد بقوله: لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ المبالغة في شرح ما ينعم الله به عليهم من خيرات وأرزاق تعمهم من كل جهة من الجهات لا أن هناك فوقا وتحتا.
أى: لأكلوا أكلا متصلا وفيرا، ولعمهم الخير والرزق من كل جهة بأن تعطيهم السماء مطرها وبركتها، وتعطيهم الأرض نباتها وخيرها، فيعيشوا في رغد من العيش وفي بسطة من الرزق.
وفي ذلك دلالة على أن الاستقامة على شرع الله، تأتى بالرزق الرغيد، ولقد أشار القرآن إلى هذا المعنى في آيات كثيرة ومن ذلك قوله- تعالى-:
وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً «2» .
وقال- تعالى- حكاية عن هود أنه قال لقومه: وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ «3» .
والمعنى: وَلَوْ أَنَّهُمْ أى اليهود والنصارى أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ بأن عملوا بما فيهما من أقوال تدعوهم إلى الإيمان بالدين الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وتركوا تحريف الكلم عن مواضعه.
ولو أنهم- أيضا آمنوا بما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ من قرآن مجيد فيه هدايتهم وسعادتهم لو أنهم فعلوا ذلك لأتاهم الرزق الواسع من كل ناحية ولعمهم الخير من كل جهة، ولعاشوا آمنين مطمئنين.
(1) سورة الأنعام الآية 19
(2)
سورة الجن الآية 16
(3)
سورة هود الآية 52