الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَذَكَرَ الإِمْامُ أَحْمدُ عنْ وَهْبٍ قَالَ: مكْتُوبٌ في حِكْمَةِ دَاوُود.
حَقَّ عَلَى العَاقِل أَنْ لا يَغْفلَ عَنْ أَرْبَعِ سَاعَاتٍ:
سَاعَةٍ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ، وَسَاعَةٍ يُحَاسِبُ فِيهَا نَفْسَهُ، وَسَاعَةٍ يَخْلُو فِيهَا مَعْ إِخْوَانِهِ الذينَ يُخْبِرُونَهُ بِعُيوبِهِ وَيَصَدُّونَه عَنْ نَفْسُهُ، وَسَاعةٍ يُخَليَّ فيهَا بَيْنَ نَفسه وَبَيْنَ لذّتِهَا فِيمَا يَحُلّ وَيَجْمُلُ، فَإِنَّ في هَذِهِ السَّاعةِ عَوْنًا عَلَى تِلكَ السَّاعَاتِ وَإجْمَامًا للقُلوبِ.
وقَالَ الْحَسَنُ: الْمؤمِنُ قوَّامٌ عَلى نَفْسه للهِ وإنّما يَخُفَّ الْحِسَابُ يَوْمَ القِيامَةِ عَلَى قَوْمٍ حَاسَبُوا أَنْفُسَهُمْ في الدُّنْيَا، وَإِنَمَّا شَقَّ الحِسَابُ يَوْمَ القِيَامِةِ عَلَى قَوْمٍ أَخَذُوا هَذَا الأَمْرَ مِنْ غَيرِ مُحاسبةٍ.
إِنَّ الْمُؤمنَ يَفْجَؤهُ الشَّيْءَ يُعْجبُه فيقولُ: واللهِ إنّي لأَشْتَهِيكَ وإنَّكَ لمَنْ حَاجتِي وَلَكنْ واللهِ مَا مِنْ صِلَةٍ إِليْكَ هَيْهَاتَ حِيلَ بَيْنِي وَبِينِكَ وَيَفْرطُ مِنْهُ الشَّيءُ فَيرِجعُ إلى نَفْسِه فَيقُولُ: مَا أَردْتَ إِلى هَذا، مَا لِي وَلِهَذَا، وَاللهِ لا أعودُ إلى هَذَا أَبَدًا إِنَّ الْمُؤمِنينَ قَوْمٌ وَفَقَهُم القُرآنُ وَحَالَ بَيْنَهُم وَبَيْنَ هَلَكتهِمْ إنّ المؤمنَ أسيرٌ في الدُّنْيَا يَسْعَى في فَكَاك رَقَبته لا يَأْمِنُ شَيْئًا حَتَّى يَلْقَى اللهَ لِيَعْلَم أَنَّه مَأْخُوذٌ عَلَيْهِ فِي سَمْعِهِ وَفي بَصَرِهِ وفي لِسَانِهِ وفي جَوارِحِهِ.
اللَّهُمَّ أَيْقِظْ قُلُوبَنَا وَنَوِّرْهَا بِنُورِ الإِيمَانِ وَثَبَّتْ مَحَبَّتَكَ فِي قُلُوبِنَا وَقَوِّهَا وَارْزُقْنَا الْمَعْرِفَةِ بِكَ عَنْ بَصِيرَةٍ وَأَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ وَوَفَّقْنَا لِطَاعَتِكَ وَامْتِثَالِ أَمْرِكَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) : قَالَ ابنُ القيّمِ: رحمه الله عَلى قَوْلِ صَاحِبِ الْمَنَازِل: المحَاسَبةُ لَهَا ثَلاثَةُ أرْكَانٍ، أحدُهَا: أَنْ تُقايِسَ بَيْنَ نِعمتهِ وَجِنَايَتكَ يَعْنِي تُقَايسَ بَيْنَ مَا مِن اللهِ وَمَا مِنْكَ فَحِينَئذٍ يَظْهرُ لَكَ التَّفاؤتُ وَتَعَلمُ أَنَّهُ لَيْسَ إلا عَفوهُ وَرَحْمَتُه أَوْ الْهَلاكُ والعَطَبُ وَبِهَذِهِ الْمقَايسةِ تَعْلمُ أنَّ الربَّ رَبُّ وَالْعَبْدَ عَبْدٌ
وَيتبيّنَ لكَ حَقِيقَةُ النَّفسِ وَصِفَاتُهَا وَعَظمةُ جَلالِ الرُّبُوبيَّةِ وتفرد الرَّبُ بَالكمَالِ والأَفْضَالِ وأنّ كلّ نِعمةٍ فَضْلٌ، وَكُلَّ نِقْمَةٍ مِنْهُ عَدْلٌ وَأَنْتَ قَبْلَ هَذِهِ الْمقَايَسةِ جَاهلٌ بِحقيقةِ وَبِرُبُوبيّةِ فَاطِرِهَا وَخَالِقهَا.
فإذَا قَايَستَ ظَهرَ لك أنّها مَنْبَعُ كلِّ شَرٍ وأسَاسُ كلِّ نَقْصٍ وأنْ حَدَّهَا الْجَاهلَةُ الظَّالِمَةُ وأنَّهُ لَوْلا فَضْلُ الله ورَحْمَتُه بَتَزْكِيَتِهِ لها مَا زَكَتْ أَبدًا وَلَوْلا هُداهُ مَا اهْتَدَتْ وَلولا إرشَادهُ وَتَوْفِيقُهُ لما كانَ لَها وُصُولٌ إلى خَيرٍ البتَّةَ وَإنّ حُصول ذَلِكَ لَها مِنْ بَارِئها وَفَاطِرَها، ثُمَّ تُقايس بينَ الْحَسناتِ والسَّيئاتِ فَتعلمُ بِهذهِ الْمُقَايسة أيُّهما أكثرُ وأرجَحُ قَدْرًا وَصِفَة.
قَالَ: وهذه الْمُقَايَسةُ تَشُقّ عَلَى مَنْ لَيْسَ لَهُ ثَلاثَةُ أَشْيَاءٍ: نُورُ الْحِكْمةِ، وَسُوءُ الظَّنِّ بالنَّفسِ، وَتَمييزُ النَّعمةِ مِنْ الفِتْنةِ، يَعْني أنّ هَذِهِ الْمُقايسة والْمُحَاسَبة تَتَوقَفُ عَلى نُورِ الْحِكْمَةِ وَهُو النور الذي نَوَّرَ اللهُ بِهِ قلوبَ أتْبَاعِ الرُّسُلِ فبقدْرِهِ تَرَى التَّفاوتَ وَتَتَمَكَّنَ مِن الْمُحاسبةِ، نُورُ الْحِكْمةِ هَا هُنَا هُوَ العِلْمُ الذي يُميّزُ بهِ العْبدُ بينَ الْحقَّ والباطِلِ، والْهُدى والضَّلالِ، والضَّارِّ والنَّافعِ، والكاملِ والنَّاقِص، والْخَيرِ والشَّرِ وَيُبْصِرُ بهِ مَرَاتَبَ الأَعْمالَ رَاجِحِهَا وَمَرْجُوحِهَا وَمَقْبُولَهَا وَمَرْدُودِهَا كلّما كان حَظهُ مِن هَذَا النُّورِ أَقْوَى كَانَ حَظَهُ مِنْ الْمُحَاسبةِ أَكْمَلَ وَأَتَمَّ.
أَمَّا سُوءُ الظَّنِّ بالنَّفس فإنّما احتَاجَ إليْه لأَنّ حُسنَ الظَّنِ بالنَّفسِ يَمْنعُ مِنْ كَمالِ التَّفتيشِ وَيُلبِّسُ عَلَيْهِ فَيَرَى الْمَسَاوئ محاسنَ والعُيوبَ كَمَالاً وَلا يُسيُء الظَّنَ بِنَفْسِهِ إلا مَنْ عَرفهَا، وَمَنْ أَحْسنَ ظَنَّه بِنَفْسِهِ فَهُو مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ بِنَفْسِهِ. وَأَمَّا تَمْييزُ النَّعْمَةِ مِنْ الفتْنةِ فَلْيَفْرِقْ بين النَّعْمةِ الَّتِي يَرى بِهَا الإِحْسَانَ واللُّطفَ وَيُعَانَ بِهَا عَلى تَحْصِيل سَعادتِهِ الأَبْديِّةِ وَبَيْنَ النِّعْمَةِ الَّتِي يَرَى بِها الاسْتدراجَ فَكْم مِنْ مُسْتَدَرَجٍ بالنِّعم وهو لا يَدْري
مَفْتونٌ بِثَنَاءِ الْجُهّالِ عَلَيْهِ مَغْرُورٌ بِقَضاءِ اللهِ حَوَائِجَه وَسَترِهِ عَلَيْهِ، وأكْثَرُ النَّاسِ عنْدهُم أَنَّ هَذِهِ الثَّلاثةَ عَلامةُ السَّعَادَةِ والنَّجَاحِ، ذلك مَبلغُهم مِنْ العلمِ وَقَدْ مُثلتِّ النَّفسُ معَ صَاحِبهَا في الْمَالِ، وَكَمَا أنَّهُ لا يَتِمُّ مقْصُودُ الشّرِكَةِ من الرّبْحِ إلا بالْمُشَارَطَةِ عَلى مَا يَفْعلُ الشَّريكُ أَولاً ثُُمّ بِمطالعَةِ مَا يَعمَلُ والإِشْرَافُ عَلَيْهِ وَمُراقَبتِهِ ثَانيًا، ثُمَّ بِمحَاسَبتهِ ثَالثًا، ثُمّ بِمنْعِهِ مِنَ الْخِيانَةِ أنْ اطّلعَ عَلَيْهَا رَابعًا، فَكذلكَ النّفسُ يُشارِطُها أَوَّلاً على حِفظِ الْجَوارِحِ السَّبعَةِ الَّتِي حِفظُهَا هوَ رأسُ الْمَال والرِّبْحُ بَعدَ ذَلِكَ فَمَنْ لَيْسَ لَهُ رَأسُ مَالٍ كَيْفَ يَطْمَعُ في الرِّبْحِ؟
وَهَذِهِ الْجَوارِحُ السَّبْعةُ هِيَ: الَعْينُ، والأُذُنُ، والفَمْ، واللِّسَانُ، والفَرْجُ، واليَدُ، والرِّجْلُ هِيَ مَرْكَبُ العَطَبِ والنَّجَاةِ، فَمِنْهَا عَطِبَ مَنْ عَطِبَ بإهْمَالِهَا وَعَدَمِ حِفْظَها، وَنَجَا مَنْ نَجَا بِحِفْظِهَا وَمُرَاعَاتِهَا فَحَفِظُهَا أَسَاسُ كلِّ خَيرٍ، وَإهْمَالُها أَسَاسُ كَلِّ شَرٍ، قَالَ الله تعالى:{قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} .
وقَالَ تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} فإذا شارطَهَا على حِفظِ هَذِهِ الْجَوارِحِ وانتَقَل مِنْهَا إِلى مُطَالَعتها والإِشْرَافِ عَلَيْهَا وَمُراقبَتِهَا فَلا يُهُملها فإنّه إنْ أَهْمَلهَا لَحْظَةً وَقَعتْ في الْخِيَانةُ ولا بُدّ فَإنْ تَمادَى على الإِهْمَالِ تَمَادَتْ فِي الْخِيانَةِ حَتَّى يَذْهَبَ رَأسُ الْمَالِ كُلِّهِ فَمَتى أَحَسَّ بالْخُسْرَانِ وَتَيَقّنهُ اسْتَدْرَكَ مِنْهَا مَا يَسْتَدْرُكُه الشَّرِيكُ مِنْ شَريكِهِ مِن الرُّجُوع عَلَيْهِ بِمَا مَضَى والقِيَام بالْحِفْظ والْمُرَاقَبةِ في الْمُسْتَقْبَلِ وَلا مَطْمَع لَهُ فِي فَسْخِ هذِهِ الشِّرِكَةِ مَعَ هذا الْخَائِنِ فَليَجْتهدْ في مُراقَبتهِ وَمُحَاسَبَتهِ وَلِيَحْذَرْ مِنْ إهْمَالِهِ، وَيُعينُهُ عَلَى هَذِهِ الْمُرَاقَبةِ والْمحَاسَبةِ مَعرفتُهُ أَنَّهُ كُلّما اجْتهَدَ فِيهَا اليَومَ استَراحَ منْهَا غَدًا إذا صَارَ الْحِسَابُ إلى غَيْرِهِ وَكُلّما أَهَمَلهَا اليَوْمَ اشْتَدّ عليهِ الْحِسَابُ غَدًا،
وَيعُينهُ عَليهَا أيضًا مَعْرفتُهُ أَنَّ ربْحَ هذه التِّجَارَةِ سُكْنَى الفِرْدَوسِ والنَّظَر إلى وَجْهِ الرَّبِّ وَخَسَارتِها دَخولُ النَّار والْحِجَابِ عَنْ الرَّبِّ فَإِذَا تَيَقَنَ هَذَا هَانَ عَليْهِ الْحِسَابُ اليَومَ.
فَحَقُّ على الحازِم الْمُؤمِنِ بالله واليَومِ الآخِر أَنْ لا يَغْفُلَ عنْ مُحَاسَبَةِ نفسِهِ والتّضِييقِ عليهَا في حَركَاتهَا وَسَكناتِهَا وَخَطَواتِهَا فَكلُّ نَفسٍ مِنْ أنْفَاس العُمْرِ جَوهَرةٌ نَفِيسةٌ لا خَطَر لَهَا يُمكنُ أن يَشتَرِي بِهَا كنْزًا مِن الكنوز لا يَتَنَاهَى نَعيمُهُ أبدُ الآبادِ.
فإضاعةُ هذه الأنفاسُ أو مُشتَرى صَاحِبهَا بِها ما يَجلبُ هلاكَهُ خُسرانٌ عَظيمٌ لا يَسْمَحُ بِمْثِلِهِ إِلا أجْهلُ النَّاسِ وَأحْمَقهُم وأقلُّهم عَقْلاً وَإنَّما يَظْهَرُ لَهمْ حَقيقةَ هَذَا الْخُسرانِ يومَ التغابُن {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} ، {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ} ، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} ، {يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} .
عَلَيْكَ بِمَنْعِ نَفْسِكْ عَنْ هَوَاهَا
…
فَمَا شَيْءٌ أَلَذَّ مِنَ الصَّلاحَ
تَأهَّبْ لِلْمَنِيَّةِ حَيْنَ تَغْدُو
…
كَأَنَّكَ لا تَعِيشُ إلى الرَّوَاحَ
فَكَمْ مِنْ رَائحٍ فِينَا صَحِيحٍ
…
نَعَتْهُ نُعَاتُهُ قَبْلَ الصَّباحَ
وَبَادِرْ بالإِنَابَة قَبْلَ مَوْتٍ
…
عَلَى مَا فِيكَ مِنْ عِظَمِ الْجُنَاحَ
وَلَيْسَ أَخُو الرَّزَانَةِ مَنْ تَجَافَى
…
وَلَكنْ مَنْ تَشَمَّرَ لِلْفَلاحَ
اللَّهُمَّ افْتَحْ لِدُعَائنا بَابَ الْقُبُولِ والإِجَابَةِ واغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(3)
(موعظة)
أيُّهَا الْمُسْلمونَ لَقد تَراكَمَتْ عَلَيْكُم الذَّنوبُ وأنتمْ في غَيِّكمْ ولهوَكِمْ
في دُنْياكمْ مُشْتَغِلونَ أحاطَتْ بكم البَلايَا مِنْ كُلّ جَانِبٍ وَلَسْتمُ لإِصْلاحِ أَنْفسِكمْ تَجنحُونَ، كُلّما أوضَحَ لكمْ الواعظُ طَريقَ الْهَدَايةِ تعامَيْتمُ فَلا أَنتُم بالكُروبِ مُعتَبِرونَ، وَلا مِن البَلايَا مُنْزَجرِونَ أَمَا سَمِعْتُمْ قولَ اللهِ جَلَّ وعَلا:{سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} ، وَقَوْلُهُ تَعَالى:{ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} .
وقَالَ: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ} ، وَقَوْلُهُ:{فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} أَيُّهَا الْمُسْلِمْ انْظرْ في نَفْسِكَ هَلْ تَجِدُها عَامِلةً بمقْضَى الدّينِ؟ هلِ أَتيْتَ بالصَّلاة على الوْجَهٍ الأَكْملِ واجْتَنُبتَ الْمَعَاصِي الْمُنَافِية لِلدِّينِ هل أَدَّيت الزَّكَاةَ كامِلةً مُكَمَّلةً بِيَقِينٍ فَتّش هَلْ تَجِدُ فِيهَا حياءً مِن اللهِ بيَقينٍ؟ هَلْ أَنْتَ سالمٌ مِن الكذبِ والْخِيانَةِ والاحْتِيَالِ؟ هَلْ سَالِمٌ مِنَ الرِّياءِ في أَقْوَالِكَ وَأَعْمَالِكَ؟ هَلْ أَنْتَ سَالِمٌ مِنْ الرِّبَا فِي مَعَامَلاتِكَ؟ هَلْ أَنْتَ سَالِمٌ مِنْ الْمُدَاهَنَةِ والنِّفَاقِ؟ هَلْ أَنْتَ سَالِمٌ مِنْ الغِيبَةِ والنَّمِيمَةِ والبَهْتِ واللَّعْنِ وسيءِ الْمَقَالاتِ؟ هَلْ أَنْتَ سَالِمٌ مِنْ الْغِشِّ في بَيْعِكَ وَشِرَائِكَ وَسَائِر تَصرُّفَاتِكَ؟ هَلْ أَنْتَ صَائِنٌ لِسَانَكَ عَنْ مَا يَضْركَ مِن الأقوال والأعَمِالَ؟ هَلْ أَنْتَ سَالِمٌ مِنْ الكِبْرِ والإعْجَابِ وَقَطِيعَةِ الرَّحمِ والْعُقُوقِ؟ هَلْ أَنْتَ سَالِمٌ مِنْ أذِيَّةِ الْجَارِ؟ هَلْ قَلبُكَ لَيِّنٌ رَحُوم تَرْحَمُ الْمِسْكِينَ وَتُكْرِمُ الْيَتِيمَ؟ هَلْ أَنْتَ تَقْضِي حُقُوقَ النَّاسِ بُدونِ مِطالٍ ولِجَاجٍ؟ هَلْ أَنْتَ تُحِبُّ في اللهِ وَتُبْغِضُ في اللهِ؟ هَلْ أَنْتَ سَالِمٌ مِنْ حَلْقِ اللِّحْيَةِ أَوْ صَبْغِهَا أَوْ الدُّخانِ؟ هَلْ أَنْتَ سَالِمٌ مِنْ الْخَنَافِسَ وَالتَّواليتِ ونحوِ ذَلِكَ مِنْ الأخْلاقِ السَّافِلاتِ؟ هَلْ بَيْتُكَ خَالٍ عَنْ صُوَرِ ذَواتِ الأَرْوَاحِ وَهْلُ هُوَ خَالٍ مِن الْمِذياعِ والتَّلِفْزيُونِ والسِّينَماتِ؟ هَلْ أَنْتَ سَالِمٌ مِنْ بَيْعِ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ؟ هَلْ قُمْتَ عَلَى أَوْلادِكَ لِلصَّلاةِ
والتَّوجِيهِ إلى الأعمالِ الصَّالحةِ والأَخْلاقِ الْحَمِيدةِ فَعَلَيْكَ أنْ تَتَفَقَّدَ لِنفْسِكَ بِدقَّةٍ كُلَّ يَومِ وتُعَالِجْ مَا بِكَ مِنْ هَذِهِ الأمْرَاض الْمُهْلِكَاتَ فَإنَّهَا أَشَدُّ ضَرَرًا وَفَتَكًا مِنْ أَمْرَاضِ البَدَنِ التِي لا نَصْبِرُ عَلَيْهَا إِنْ لَمْ نَجِدْ لَهَا عِلاجًا ذَهَبْنَا إلى الْخَارِج رَجَاءَ بُرْئِهَا واللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِهِ وَسَلَّمَ.
(فَصْلٌ)
قَالَ: وَمُحَاسَبَةُ النَّفْسِ نَوْعَانِ أَمَّا الأَولُ: فَيقِفْ عِنْدَ أَوَّلِ هِمَّتِهِ وَإرَادَتِهِ وَلا يُبَادِرُ بالْعملِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ رُجْحَانُهُ على تركِهِ، قَالَ الْحسنُ: رَحِمَ اللهُ عَبْدًا وَقفَ عندَ هَمِّهِ فَإِنْ كانَ للهِ مَضَى وَإِنْ كَانَ لَغَيْرِهِ تَأخَّرَ. النُّوع الثَّانِي: مُحَاسَبَةٌ بَعْدَ العَمَلِ، وهو ثلاثَةُ أَنْوَاعٍ: أحدُهَا مُحَاسَبَتُهَا عَلَى طَاعَةٍ قَصَّرَتْ فِيهَا مِنْ حَقَّ اللهِ فَلَمْ تُوقِعْهَا عَلَى الوَجْهِ الذي يَنْبَغِي.
وَحَقُّ اللهِ في الطَّاعاتِ بِمُرَاعات سِتَّةِ أُمُورٍ وهِيَ: الإخْلاصُ في العمل والنصيحةُ للهِ فيه وَمُتَابَعَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فِيهِ وَشُهُودُهُ مَشْهَدَ الإحْسَانِ فيهِ، وَشُهُودُ مِنَّةِ اللهِ عَلَيْهِ فِيهِ، وَشُهُودُ تَقْصِيرِهِ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَيُحَاسِبُ نَفْسَهُ هَلْ وَفّى هَذِهِ الْمَقَامَاتِ حَقَّهَا، وَهَلْ أَتَى فِي هَذِهِ الطَّاعَاتِ، الثَّانِي: أَنْ يُحَاسِبَ نَفْسَهُ عَلَى عَمَلٍ كَانَ تَركَهُ خَيرًا لَهُ مِن فعله. الثَّالث: أَنْ يُحَاسِبَ نَفْسَهُ عَلَى أَمْرٍ مباحٍ أَوْ مُعْتَادٍ لَما فَعَلَهُ، وَهَلْ أَرَادَ بِهِ اللهِ والدَّارَ الآخِرةَ فَيَكُونُ رَابِحًا فِيهِ أَوْ أَرَادَ بِهِ الدُّنْيَا وَعَاجِلَتَهَا فَيَخْسَرُ ذَلِكَ الرِّبْحَ وَيَفُوتُهُ الظَّفَرُ بِهِ. قَالَ: وَجِمَاعُ ذَلِكَ أَنْ يُحَاسِبَ نَفْسَه أولاً عَلَى الْفَرَائِضِ فَإِذَا تَذَكَّرَ فِيهَا نَقْصًا تَدَارَكَهُ إِما بِقَصَاءٍ أَوْ إِصْلاحٍ ثُمَّ يُحَاسِبُ عَلَى الْمَنَاهِي فَإنْ عَرَفَ أَنَّهُ ارْتَكَبَ مِنْهَا شَيْئًا تَدَارَكَهُ بالتَّوْبَةِ والاسْتِغْفَارِ والْحسناتِ الْمَاحِيةِ ثُمَّ يُحَاسِبُ نَفْسَه على الْغَفْلَةِ فإن كَانَ قَدْ غَفَلَ عَمَّا خُلِقَ لَهُ تَدَارَكَهُ بالذِّكْرِ والإِقْبَالِ على الله.
ثُمَّ يُحَاسِبُهَا بِمَا تَكَلَّمَ به لِسَانُهُ أَوْ مَشَتْ بِهِ رِجْلاهُ أَوْ بَطَشَتْهُ يَدَاهُ أَوْ سَمِعَتْهُ أُذْنَاهُ مَاذَا أَرَدْتَ بِهَذَا، وَلِمَ فَعَلْتُ، وَعَلَى أَيْ وَجْهٍ فَعَلْتُهُ، وَيَعْلَمُ أنَّه لا بُدَّ أَنْ يُنْشَرَ لِكلَّ حَرَكةٍ وَكَلِمَةٍ مِنْه دِيوانٌ لِمَ فَعَلْتَهُ وَكَيْفَ فَعَلْتَهُ فَالأوَّلُ: سُؤالٌ عَنْ الإِخْلاصِ.
والثَّانِي: سُؤالٌ عَنْ الْمُتَابَعَةِ: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، وقَالَ:{فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ * فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ} ، وقَالَ:{لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ} فَإِذَا سُئِلَ الصَّادِقونَ وحُوسِبُوا عَلَى صِدْقِهِمْ فَمَا الظَّنُ بالكَاذِبينَ؟ وقَالَ قَتَادة: كَلِمَتَانِ يُسئلُ عَنْهُمَا الأوَّلَونَ والآخِرونَ: مَاذَا كُنْتمُ تَعْبُدونَ؟ وماذا أجبْتمُ الْمُرَسلينَ. فَيُسألونَ عن الْمَعْبُودِ، وعَنِ العِبَادَةِ. وقَالَ تَعَالى:{ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} .
شِعْرًا:
تَصَاوَنْ عَن الأَنْذَالِ مَا عِشْتَ واكْتَسِبْ
…
لِنَفْسِكَ كَسْبًا مِن خِلالٍ تَصُونُهَا
وَمَا لِلْفَتَى بِرٌّ كَمِثلِ عَفَافِهِ
…
إِذَا نَفْسُهُ اخْتَارَتْ لَهَا مَا يَزِينُهَا
إِذَا النَّفْسُ لَمْ تَقْنَعْ بِقَسْمِ مَلِيكِهَا
…
عَلَى مَا أَتَى مِنْهُ فَمَا ثَمَّ دِينُهَا
قَالَ مُحَمَّدُ بنُ جَريرٍ: يَقُولُ الله تَعَالى: (لِيَسْألنَّكُم اللهُ عز وجل عن النَّعيمِ الذِي كُنْتمْ فِيهِ فِي الدُّنْيَا: مَاذَا عَمِلتمُ فيهِ؟ وَمِنْ أَيْنَ وَصَلتُم إِليهِ؟ وَفِيمَ أصَبْتُمُوُه؟ وَمَاذَا عملتم بِهِ؟)، وقَالَ قَتَادَةَ: إِنَّ اللهَ سَائِلٌٌ كُلَّ عَبْدٍٍ عَمَّا اسْتَوْدَعهُ مِنْ نِعمَتِهِ وَحَقِّهِ، والنَّعِيمُ الْمَسْئُولُ عَنه نَوعانِ: نَوْعٌ أُخِذَ مِنْ حِلِّهِ وصُرفَ في حَقِّهِ فُيسَأل عَنْ شُكْرِهِ، ونَوْعُ أُخَذَ بِغيرِ حِلِّه وَصُرِف فِي غَيْرَ حَقَّه فُيسأَلُ عَن مُستَخرَجه وعن مَصرَفِهِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى وُجوبِ الْمُحَاسَبِةِ قَولهُ تَعَالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} الآية.
(1)
اعْلم أَيَّها الإِنسان أن النفسَ الأمارةَ بالسُّوء عَدُوّةٌ لَكَ مَعَ إِبْلِيسَ لَعَنهُ
الله، وإنما يَتَقَوَّى عَلَيْكَ الشَّيْطَانُ بِهَوَى النَّفْسِ وَشَهَواتِهَا، فَهِيَ سِلاحُه الذِي يَصِيدُ بِهِ وَهَلْ أَوْقَعَ إِبْلِيسَ فِي كَبْرِهِ وَمَعْصِيَتِهِ إلا نَفْسُهُ، قَالَ اللهُ جَلَّ وَعَلا وَتَقَدَّسَ:{إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} .
فلا تَغُرَنَّكَ نَفْسُكَ بالأَمَانِي والغُرُورِ لأنَّ مِنْ طَبْعِ النَّفْسِ الأَمْنُ والغَفْلَة والرَّاحَةُ والفَتْرةُ والكَسَلُ والعَجْزُ فَدَعْواهَا بَاطِلٌ وَكُلُ شَيْءٍ مِنْهَا غُرورٌ وَإِنْ رَضِيتَ عنها واتَّبَعْتَ أَمْرَهَا هَلَكْتَ، وَإِنْ غَفَلْتَ عَنْ مُحَاسَبَتِها غِرَقْتَ، وإنْ عَجَزْتَ عن مُخَالَفَتِهَا واتَّبعتَ هَواهَا قَادَتْكَ إلى النَّارِ.
(فَصْلٌ) : وَفِي مُحَاسَبةِ النفسِ عِدة مصالحٍ، أَوَّلاً: الإِطلاعُ عَلى عُيوبها وَمَنْ لَمْ يطّلعْ عَلَى عَيْبِ نَفْسِهِ لَمْ يُمْكنهُ إزَالتهُ، ومِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْلا أَنَّ اللهَ وَفَّقَ العَبدَ لِمُحَاسَبَتِهَا لَشِقِيَ في القِيامَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُحَاسَبَةَ لِلنَّفْسِ مِنْ الكَياسَةِ وَمِنْ ذَلِكَ اسْتِرَاحَةُ الْمُحَاسِبِ مِن التَّعَبِ الطَّويل يَوْمَ القِيَامَةِ، وَمنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لا يَتَحسّرُ الْمُحَاسِبُ فِي القِيَامَةِ كَالذينَ لَمْ يُحَاسِبُوا أَنْفُسَهم، ومِن ذَلِكَ تَمْرِينُ النَّفْسِ عَلَى العِبَادَةِ والْمُدَاوَمَةِ عَلَى ذِكرِ اللهِ لَيْلاً وَنَهَارًا.
شِعْرًا:
عَلَيْكَ بِذِكْر اللهِ فِي كُلِّ لَحْظِةٍ
…
فَمَا خَابَ عَبْدٌ لِلْمُهَيْمنِ يَذكُرُ
آخر:
ثَلاثَةٌ يَجْهَلُ مِقْدَارُهَا
…
الأَمْنُ والصِّحَّةُ والدِّينِ
فَلا تَثِقْ إلا بِمَنْ أَمْرُهُ
…
مَا بَيْنَ كَافٍ وَنُونٍ يَكُونْ
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُحَاسبة تُضْعفُ الأعْمالَ السَّيئةَ وَتُوقِّفُهَا، وَمِن ذَلك أنَّها تَحُضُّ الإِنْسَانَ عَلى أَعْمالِ الصَّالِحةِ، وَمِن ذَلك أنَّها تُخلِّصُ النَّفْسَ مِن العُجْب ورُؤْيَةِ العَملِ، ومن ذلك أنَّ الْمُحَاسبةَ تَفْتحُ للإِنْسَانِ بَابَ الذُّلِ والانْكِسَارِ والْخُضُوعِ للهِ، وَمِن ذلكَ أَنَّهَا تَدْعُو الإنسانَ إلى أَنْ يَنْظُرَ فِي حَقَّ الله عليه.
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّها تُوجبُ للإنسانِ أَنْ يمقُتَ نَفْسَهُ وَيَعلَمَ أنَّ النَّجاةَ لا تَحْصُلُ إلا بِعَفوِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ.
وإذَا تَأملْتَ حَال أكْثَر النَّاسِ وَجَدتَهمُ بِضِدْ ذَلِكَ يَنْظُرونَ فِي حَقِّهم على الله ولا يَنْظرُونَ في حَقِّ اللهِ عَلَيْهم ومنْ هُنَا انقَطعُوا عِن اللهِ وَحُجبَتْ قُلوبُهم عَنْ مَعْرفِتهِ وَمَحَبَّتِهِ والشَّوْقِ إلى لِقَائِهِ والتَّنْعِيمِ بذكْرهْ وهذا غَايةُ جَهْلِ الإِنسانِ بربّهِ وَبِنفسه فُمُحَاسَبْةُ النَّفسِ هَيَ نَظَرُ العَبْدِ في حقَّ الله عَلَيْهِ أَوّلاً ثُمَّ نَظَرَهُ هَلْ قَامَ به كما يَنْبَغِي ثَانِيًا.
وَيَنْبَغِي للإنسان أنَّه إذَا حَاسَبَ نَفْسه فَرَآهَا قَدْ قَارفَتْ مَعْصيةً أَنْ يَتوبَ تَوْبَةً نَصُوحًا وَيُتْبعُ السَّيئةَ بالْحَسَناتِ التِي تَمْحُوهَا فقدْ وَرَدَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «وأَتْبعْ السَّيئَةَ الْحَسَنةَ تَمْحُها» . وإنْ تَوَانى عَنْ بَعْضِ الفَضَائِلَ أَوْ فَاتَتهُ نِسْيانًا فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَدْرِكَ جَبْرَ مَا نَقَصَ بالنَّوافِل، فَقَدْ وَرَدَ عَنْ عُمَرَ بن الْخَطَّابِ رضي الله عنه حِينَ فَاتَتْهُ صَلاةَ العصْرِ في جَمَاعةٍ أنَّه تَصَدَّق بأرْضَ كانتَ له قِيمتُهَا مَائِتَا ألفِ دِرْهَمٍ.
وَرُوِيَ عنه: أنَّه شَغَلَهُ أمرٌ عَن المغْرب حتّى طَلعَ نَجمَانٍ فَلمَّا صَلاها أعْتَقَ رَقَبتينِ. وَفَاتَتْ ابنُ أبي رَبِيعَةَ رَكْعتَا الفجر فأعتَقَ رَقَبةً. وَوَرَدَ أَنَّ ابنَ عُمرَ كَانَ إِذَا فَاتَتهُ صَلاةٌ في جَمَاعِةٍ أَحيَا تِلكَ اللَّيْلَةِ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَجْعِلُ عَلَى نَفْسِه صَوْمُ سنَةٍ، أَوْ الْحَجُّ مَاشِيًا، أَوْ التَّصدَقُ بالشيءِ الكَثير كلُّ ذَلك مؤاخَذَهٌ لهَا بما فِيهِ نَجَاتُها. والله أعْلَمُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَىَ مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
(4)
موعظة
رُوِيَ عَنْ عَلَيَّ بن أبي طَالب أنّه قَالَ: لا تَكُنْ مِمَّنْ يَرْجُو الآخرةَ بَغْيرِ عَمَلٍ ويَؤخرُّ التَّوْبةَ لِطُولِ الأَملِ وَيقَولُ في الدُّنيَا بِقوْلِ الزَّاهدِينَ، ويعَملُ فيها عَمَلَ الرَّاغِبينَ، إِنْ أُعْطِيَ مِنَ الدُّنيا لَمْ يَشْبَعْ، وإن مُنْعَ منهَا لَمْ يَقْنَعْ، وَيَأْمُرُ النَّاسَ بِمَا لا يَأْتِيهِ، يُحِبُّ الصَّالِحينَ وَلا يَعْملُ أَعمَالَهم، وَيَبْغَضُ الْمُسيئينَ وَهُوَ مِنْهُمْ، يَكرهُ الْموْتَ لِكَثرةِ ذُنوبه، ويُقيمُ على ما يَكَرهُ لَهُ الْمَوْتَ،
إنْ سَقِمُ ظَلَّ نَادمًا، وإنَ صَحّ أمِنَ لاهِيًا، يَعجبُ مِن نفسِه إذَا عُوفيَ، ويَقنَطُ إذَا تَغلِبهُ نفْسُهُ على ما يَظُنُّ ولا يَغلِبُهَا على ما يَسْتِقينُ، ولا يَثقُ منِ الرَّزقِ بما ضُمِنَ لهُ، ولا يَعْملُ مِن العَمَلِ بمَا فُرِضَ عَلَيْهِ إِنْ اسْتغَنى بَطِرَوان افتقرِ قَنِطَ وحَزنَ فهو منَ الذّنبِ في حَال النَّعمة والمِحْنة مُوقرٌ، يَطلبُ الزيادة ولا يشكرُ، ويتكلّفُ مِن الناس مالاً يُؤمرُ، ويضيّعُ الموتَ ولا يُبادرُ الفَوْتَ، يَستكبرُ مِن مَعصيةِ غيرِهِ ما يَسهُلُ أكثرُه مِن نفْسه. مَزاهرُ اللهّوِ مع الأغْنياءِ أحبُّ إليهِ مِن الذِّكرِ مع الفُقراءِ، يَحكمُ على غيرِهِ لِنفسِهِ ولا يَحكمُ عليها لِغَيرِهِ.
اللَّهُمَّ يا حَيُّ يَا قَيُّومُ يا ذَا الجلال والإكرام أَسْأَلُكَ بأَسْمَائِكَ الحُسْنَى وصِفَاتِكَ العلْيَاءِ أَنْ تُعِزَّ الإِسْلامَ وَالمُسْلِمِينَ وَأَنْ تُذِلَّ الشِّرْكَ وَالمُشْرِكِينْ وَأَنْ تُدمِّرَ أَعْدَاءَ الدِّينِ. اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ.
شِعْرًا:
تَجَهَّزِي بِجِهَاز تَبْلِغِينَ بِهِ
…
يَا نَفْسُ قَبْلَ الرَّدَى لَمْ تُخْلَقِي عَبَثَا
وَسَابِقِي بَغْتَةً الآجَالِ وانْكَمِشِي
…
قَبْلَ الْلِزَام فلا مَلْجَا ولا غَوثا
وَلا تَكُدِّي لِمَنْ يَبْقَى وَتَفتَقِري
…
إنَّ الرَّدَى وارِثُ البَاقِي وَمَا وَرَثَا
وَاخْشِي حَودِثَ صَرْفِ الدَّهْر في مَهَلٍ
…
وَاسْتَيْقِظِي لا تَكُونِي كالَّذِي بَحَثَا
عَنْ مُدْيَةٍ كَانَ فِيهَا قَطْعُ مُدَّتِهِ
…
فَوافَتْ الْحَرْثَ مَحَرُوثًا كَمَا حُرِثَا
مَنْ كَانَ حِينَ تُصِيبُ الشَّمْسُ جَبْهَتَهُ
…
أَوْ الغُبَارُ يَخَافُ الشَّينَ والشَّعَثا
وَيَألَفُ الظِّلَّ كَيْ تَبْقَى بِشاَشَتُهُ
…
فَسَوْفَ يَسْكُنُ يَوْمًا رَاغِمًا جَدَثا
فِي قَعْرِِ مُوحِشَةٍ غَبْرَاءَ مُقفِِْرَةٍ
…
يُطِيلُ تَحْتَ الثَّرَا فِي جَوْفِهَا اللِّبَثَا
آخر:
…
وَنَفْسَكَ فَازْجُرْهَا عن الْغِيَ والْخَنَا
…
وَلا تَتَّبعْهَا فَهِي أُسُّ الْمَفَاسِدِ
وَحَاذِرْ هَواهَا مَا اسْتَطَعْتَ فَإنَّهُ
…
يَصُدُّ عَنْ الطَّاعَاتِ غَيْرَ الْمُجَاهِدِ
وَإِنَّ جِهَادَ النَّفسْ حَتْمٌ عَلى الفَتَى
…
وَإِنَّ التُّقى حَقًا لَخَيْرُ الْمَقَاصِدِ
فَإنْ رُمْتَ أَنْ تُحْظَى بِنَيْلِ سَعَادَةٍ
…
وَتُعْطَى مَقَامَ السَّالِكينَ الأَمَاجِدِ
فَبَادِرْ بَتَقوى اللهِ واسْلُكْ سَبِيلَها
…
ولا تَتَّبعْ غَيَّ الرَّجِيمِ الْمُعَانِدِ
وَإِيَّاكَ دُنْيَا لا يَدُومُ نَعِيمُهَا
…
وَإِنَّكَ صَاحِ لَسْتَ فِيهَا بِخَالِدِ
تَمَسَّكَ بِشَرْعِ اللهِ وَالْزَمَ كِتَابَهُ
…
وَبِالعِلْمِ فاعْمَلْ تَحْوِ كُلَّ الْمَحَامِدِ
اللَّهُمَّ امنُنْ علينَا بإصْلاحِ عُيوبِِنَا واجعلْ التقّوى زادَنا وفي دِينِكَ اجتهادَنا وعليك توكّلنا واعتَمادُنَا، واغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ أَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ وَارُزْقْنَا حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يَنْفَعُنَا حُبُّهُ عِنْدَكَ، اللَّهُمَّ وَمَا رَزَقْتَنَا مِنْ مَا نُحِّبُ فَاجْعَلْهُ قُوَّةً لَنَا فِيمَا تُحِبُّ، اللَّهُمَّ وَمَا زَوَيْتَ عَنَّا مِمَّا نُحِبُّ فَاجْعَلْهُ فَرَاغًا لَنَا فَيمِا تُحِبُّ، واغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ منهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
الفصل الثالث عشر
(5)
في مَوْعِظَةٍ جَلِيلْةٍ
قال بعضُ العلماءِ على قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} .
كَشفتْ لَنَا هَذِهِ الآيةُ الشريفةُ عن سُنةٍ من سُنن اللهِ تعالى وهي: أنَّ مَن غَفلَ عن تَذكُّرُّ الله فَنَسِيَهُ وأَلْهتهُ دُنياهُ عن العملِ للدّارِ الآخرةِ أنساهُ الله نفَسَه التي بينَ جنبيهِ فلا يَسعىَ لما فيه نَفُعها ولا يأخُذُ في أسْبابِ سَعَادِتِهَا وإصْلاحِهَا وما يكمّلُها ولا السّعيُ في إزالةِ عِللها وأمراضِها التي تَؤولُ بها إلى الفساد والدّمارِ والهلاكِ وهذا مِنْ أعظمِ العُقوبةِ لِلْعَامَةِ وَالخَاصَّةِ، فَأَيُّ عُقُوبةٍ أَعْظَمُ مِنْ عُقُوبَةِ مَنْ أَهْمَلَ نَفْسَُهُ وَضَيَّعَهَا ونَسِيَ مَصَالِحَها ودَاءَها ودَوَاءَها وأسبابَ سَعادتِها وصَلاحِها وحَياتِها الأَبَدِيَّة في النَّعِيمِ المقيم.
ومَن تأملَ هذا المَوضِعَ تَبيَّنَ لَهُ أنَّ أَكْثَرَ هَذَا الخَلْقَ قَدْ نَسُوا أنْفُسَهُمْ وضَيَّعُوهَا وأَضَاعُوا حَظَّهَا مِن اللهِ وباعُوها رَخيصَةً بثَمَن بَخْس بَيعَ المغْبُونِ
ويَظْهَرُ ذلكَ عندَ الموتِ ويَتَجَلَّى ذلكَ يَومَ التغابُن يَومَ لا يَنْفَعُ نفسًا إيمَانُها لمَ تَكُنْ آمنَتْ مِن قبلُ أو كَسَبَتْ في إيمَانهِا خَيْرًا، إِنهَا لحَسْرةٌ على كلّ ذي غَفلةٍ دُونَها كلّ حَسْرَةٍ، هؤلاء هُمُ الذينَ اشتروا الضلالةَ بالهدى فما رَبِحتْ تجارتُهم وما كانوا مُهتدين.
وأما الرَّابحُون فهمُ الذينَ أنارَ اللهُ قُلُوبَهُم للْحَقِّ فَعَرَفُوا الدُّنيَا وقِيْمتها وقالْوا: مَا مِقْدَارُ هَذِهِ الدُّنْيَا من أوَّلِهَا إلى آخِرِها حَتَّى نَبْيعَ حَظّنا مِن الله تَعالى والدّارِ الآخرة بها فكيفَ بِمَا يَنال العَبْدَ منها في هذا الزّمن القصير الذَي هُوَ في الحَقِيْقَةِ كَغَفْوَةِ حُلْمٍ لا نِسْبة له إلى دَارِ القَرارِ البتّةَ.
قال الله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلَاّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} ، وقال:{كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} هَؤُلاءِ هُمُ الكَيِّسونَ الذين عَلموا حقيقَةَ الدُّنْيَا كَمَا عَلِمُوا قِلّةَ لُبثِهم فيها وأنّ لهم دارًا غيرَ هذه الدارِ دَار الحَيوان وَدَار البقاءِ اتّجَرُوا تِجَارَة الأكْياسِ ولم يَغْتَرّوا بتجارة السُّفهاءِ مِن الناس فَظَهَر لهم يومَ التّغابنِ رَبْح تِجَارَتِهم وَمِقْدَار ما اشْتَرُوا، قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} .
وفي هذا المَعْنَى يَقُول عُمرُ رضي الله عنه: إنمَا الدُّنْيَا أَملٌ مُخْتَرمٌ. أي: مُنْتَقَض وبَلاغٌ إلى دارٍ غيرها وسَيرٌ إلى المَوْتِ لَيْسَ فيه تَعْرِيْجٌ، فَرحِمَ اللهُ امْرءًا أفكَرَ في أَمرِهِ ونَصَحَ لِنَفْسِهِ ورَاقبَ رَبّه واستقالَ ذَنْبَه وتابَ إلى رَبِّهِ. إلى أن قال: إيّاكم والبطْنَةَ فإنها مَكْسَلةٌ عن الصَّلاة، ومَفْسَدَةٌ لِلْجِسْمِ ومُؤَدّيَةٌ لِلسُّقمِ، وعَلِيكمُ بالقَصْدِ في قُوتِكمْ فهو أبعدُ عن السَّرفِ وأصَحُّ لِلْبَدَنَ وأقْوى على العِبَادَةِ إنَّ العَبْدَ لَنْ يَهْلَكَ حَتَّى يُؤْثرَ شَهْوَتَهُ على دِينِهِ.
ومِنَ العَجَبِ العُجَاب أنَّ العَبْدَ يَسْعَى بِنفسِهِ في هَوَانِ نَفْسِهِ وَهُوَ يَزعُمُ أَنَّهَا لَهَا مُكْرمٌ ويَجْتَهِدُ في حِرْمَانِهَا مِن حُظوظِها وشرفِها وهو يَزعمُ أنّه يَسْعَى في حِفظِهَا ويَبْذِلُ جُهدَهُ في تَحقِيرهَا وتَصْغِيرهَا وتَدْنِيسِهَا وهو يَزعِمُ أنّه يَسْعَى في صَلاحِها، وكََان بَعْضُ السَّلفِ يَقول في خُطبَتِهِ: ألا رُبَّ مُهِينٌ لِنَفْسِهِ وهو يَزْعمُ أنَّهُ مُكْرِمٌ لَهَا ومُذلٌ لِنَفْسِهِ وهو يَزْعُمُ أنه مُراعٍ لحقِّها وكفَى بالمرءِ جَهْلاً أن يَكُونَ مَعَ عَدوهِ لِنَفْسِِهِ يَبلغُ منها بفِعلِهِ ما لا يَبْلغُهُ مِنها عَدوُّه.
شِعْرًا:
لَعَمْرُكَ مَا الرَّزِيَّةُ فَقْدُ مَالٍ
…
يَكُونُ بِفَقْدِهِ مَنْ مُعْدِمِينَا
وَلَكِنَّ الرَّزِيَّةَ فَقْدُ دِينٍ
…
يَكُونُ بِفَقْدِهِ مِنْ كَافِرِينَا
آخر:
مَا يَبْلُغُ الأَعْدَاءُ مِنْ جَاهِلٍ
…
مَا يَبْلُغُ الجَاهِلُ مِنْ نَفْسِهِ
فالعاقلُ هو الذي يعملُ مُجِدًا لآخِرَتِهِ ولا يُنسِيهُ نَصيبهُ مِن الدنيا حَظّه مِنَ الآخِرة عَاملاً بقوله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} ولَو أنّه تَأَمَّلَ قَلِيلاً لَوجدَ أنّ لَذائِذَ الدُّنيا مُتولّدةٌ مِنْ آلامِهَا فَمثلاً لَذَّةُ الطّعامِ لا تَتحَقَّقُ إلا بِأَلمِ الجوَع ولذةُ الشّرابِ لا بدَّ أنْ يَسبِقَها حُرقَةُ العَطش ولذّةِ النَوّم لا يَجَدُ الإنْسانُ لها شَوقًا إِلا بَعْدَ أنَ يُضنِيهِ التَّعبُ الشَّديدُ وَهُنَاكَ نَوعٌ آخرُ مِنْ الحِكمةِ غَفلَ عنْهُ الكَثيرونَ مِنَ النّاسِ وهوَ أنّها بمثابةِ بَرَاطِيلَ تَحمْلُ الإِنْسانَ على قَوامِه وبَقاءِ حَيَاتهِ فَلذّةُ الطّعامِ تَدفعُه إلا ألا يَهمِلَ جسْمهُ من الغِذَاء ولوَلا ما جَعلَ اللهِ مِن لَذّةِ النّكاح لانقرضَ النّوع الإِنْسانيُّ مِنَ الوُجُودِ ولما وَجدنَا دَابةً تَدُبُّ علَى وَجْه الأَرْضِ ولا طَائِرًا يَطيرُ في السّماءِ وكذلكَ فَرْحَةُ الأُمِ بطِفْلِهَا تُنْسِيهَا آلامَ الحَمْلِ والوَحْمِ والوِلادةِ والتّعبِ والنَصَب والرَّضَاع والسّهرِ الطَويل في التّمريضَ ممَا يَقُضّ مَضْجعهَا ويُنسيَها نَفسَها فَسُبحانَ الحكيمِ العلَيمِ الذّي خَلَق كلَّ شَيءٍ فقدّرهُ تقْديرًا. انتهى
بتصرف يسير. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(6)
مَوْعِظة
كَتَبَ الحَسَنُ إلى عُمَر بنِ عبدِ العزيز في ذَمِّ الدُّنْيَا كِتابًا طَويلاً قال فيه: أمَّا بعدُ فَإنّ الدُّنيا دَارُ ظَعَنٍ ليْسَتْ بدارِ مُقَامِ وإنّما أُنزلَ إليهَا آدمُ عُقوبةً فاحْذرْهَا يا أَميرَ المؤمنين فإنَّ الزّادَ منهَا تَركُها والغِنَى فيها فَقرُهَا تُذلّ من أَعزّها وَتُفقرُ منْ جمعها كالسُّمِ يأَكلهُ مَن لا يَعْرفُهُ وَهُوَ حَتْفُه فاحْذرْ هَذِهِ الدّارَ الغرّارةَ الخَتّالةَ الخدّاعةَ وكُن أَسَرَّ ما تَكونُ فِيهَا أحذَرْ ما تكونُ لهَا، سُرورُهَا مشُوبٌ بالحُزنِ وَصفوها مشُوبٌ بالكَدِر فلوْ كان الخَالقُ لم يُخْبره عنْها خبرًا وَلم يَضْرِبْ لَهَا مَثَلاً لَكُنْتُ قَدْ أَيقظْتُ النَّائِمَ ونبَّهتُ الغَافلَ فَكيفَ وَقدْ جَاء مِن اللهِ عز وجل عنها زَاجِرٌ وَفِيهَا واعِظٌ فما لَهَا عِنْدَ الله سبحانه قَدْرٌ ولا وَزْنٌ، ما نَظَرَ إليها مُنذُ خَلقَها وَلَقَدْ عُرِضَتْ على نبيّنا صلى الله عليه وسلم مَفاتِيحُهَا وَخَزَائنُهَا لا يَنقصُ عند الله جَناحَ بَعوضةٍ فأَبى أنْ يَقبَلَهَا وَكَرِهَ أن يُحبَّ ما أبغَضَهُ خَالقهُ أو يَرفَعَ ما وَضَعه مليكُه، زَواها اللهُ عن الصّالحين اختيارًا، وَبَسَطَهَا لأعْدَائِه اغْتِرَارًا أَفَيَظُنُّ المغْرورُ بها أنّه أُكْرِمَ بِهَا وَنَسِيَ ما صَنَعَ اللهُ بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم حينَ شدَّ على بَطْنِهِ الحَجَرَ، واللهِ ما أحدٌ مِنَ النَّاسِ بُسِطَ لَهُ في الدُّنيا فَلمْ يَخَفْ أَنْ يَكُونَ مَكْرًا إلا كان قَدْ نقَص عقْلُه وَعَجَزَ رَأيهُُ وما أَمْسَكَ عن عَبدٍ فلم يَظُنّهُ خيرًا لهُ فيهَا إلا نَقَصَ عقْلُهُ وَعَجَزَ رأيهُ.
شِعْرًا:
إِلَى دُنْيَاكَ انْظُرْ بِاعْتِبَارٍ
…
تَجِدْهَا دَارَ ذُلٍّ مَعَ فَنَاءِ
إلَى كَمْ تَحْمِلُ الأوْزَارَ فِيهَا
…
مَعَ الشَّهَواتِ تَسْرِي يا مُرَائِي
أَمَا آنَ انْتِبَاهَكَ مِنْ غُرُورٍ
…
بِهِ أَصْبَحْتَ بَيْنَ الأَغْبِيَاءِ
تَيِقَّظْ وانْتَبِهْ واقْبِلْ بِقَلْبٍ
…
عَلَى مَوْلاكَ تَظْفَرْ بِاهْتِدَاءِ
وَقِفْ بِالبابِ وَاطْلُبْ مِنْهُ عَفْوًا
…
عَسَى تَحْظَى بِصُبِْحٍ أَوْ مَسَاءِ
اللَّهُمَّ يَا حيُّ ويا قيُّوم فَرِّغْنَا لما خَلَقْتَنَا له، ولا تُشْغِلْنَا بما تَكَفَّلْتَ لنا بهِ واجعلنا مِمَّن يُؤمِنُ بلقَائِك ويَرْضَى بقَضَائِك، ويقنعُ بعطائِكُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فَصْلٌ) : وقال الشّيخُ الواسِطيُّ في بعض رَسائِلهِ: إذا أرادَ الله بعبدٍ خيرًا أقامَ في قلبِهِ شَاهِدًا منْ ذكر الآخرة يُريدُ فَناءَ الدُّنيا وَزَوَالَها وبقاءَ الآخرةِ ودوامها فَيُزهّدهُ في الفَانِي وَيُرَغّبُهُ في الباقي، فَيبدأُ في السّير والسُلوكِ في طريقِ الآخرة وأوّلُ السيرِ فيهَا تَصحيحُ التَّوبةِ، والتّوبةُ لا تتمُّ إلا بالمُحاسبةِ ورعَايةِ الجَوارح السّبعةِ، العينُ والأُذنُ واللّسانُ والبَطْنُ والفَرْجُ واليَدُ والرِّجلُ وكفِّها عن جميع المحَارم والمكَارِهِ والفضُول هذا أحدُ شَطْرَي الدّين وَيَبْقَى الشّطرُ الآخرُ وهو القيامُ بالأوامِرِ فَتَحْقِيقُ الشّطرِ الأوّلِ وهو تَركُ المناهِي مِنْ قلبهِ وَقالبهِ.
أَما القَالَب فلا يَعصِي اللهَ بجَارحةٍ مِن جَوارحِهِ ومتَى زلَّ أو أخْطأَ تابَ، وأما القلبُ فَتُنَقّي منه المُوبقاتُ المُهلِكاتُ مثلُ: الرّياءِ، والعجْب، والكِبْر، والحَسَد، والبُغْضِ لِغَيرِ اللهِ، وَحُبِّ الدّنيا، وردِّ الحقّ واستثقالِهِ، والازْدِرَاءِ بالخَلْقِ وَمَقْتُهم وَغَيرُ ذلك مِن الكَبائِر القَلبيّةِ التي هِي في مُقَابَلَةِ الكَبائرِ القَالَبيةِ مِن شُرْبِ الخَمْرِ، والزّنَا، والقَذْفِ وغيرِ ذلك فهذِِهِ كَبَائِرٌ ظاهِرَةُ وَتِلْكَ كَبَائرٌ بَاطِنةٌ. وكلاهما ضرر.
قال: فَمَنْ انْطَوى على شَيءٍ مِن الكبائرِ البَاطنيّة ولم يَتُبْ حَبِطَ عَمَلُه بدليل لا يدخل الجَنّةَ مَن كان في قلبهِ مثقالُ ذرةٍ مِن كِبَر وجاء: إنّ الحسدَ يأكلُ الحسناتِ كما تأكلُ النارُ الحطبَ، وجاء بقول الله تعالى:" أنا أغْنى الشُّرَكاءِ عن الشركِ مَنْ عمِلَ عملاً فأشركَ مَعِيَ فيه غَيري تَركْتُه وشركه ". وقال تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} .
شِعْرًا:
وَإِنَّ أَحْسَن قَوْلٍ أَنْتَ قَائِلُهُ
…
قَوْلٌ تَضَمَّنَ تَوْحِيدَ الذِّي خَلَقَا
فمتَى تَنقَّى القلبُ مِن مثْلِ هذهِ الخَبائِثَ والرَّذَائِل طَهُرَ وَسَكَنتْ فيه الرّحمةُ في مكان البُغضِ، والتواضُع في مَقَابلةِ الكِبْر، والنّصيحةُ في مُقابلَةِ الغِشِّ، والإخلاصُ في مقابلةِ الرَّياءِ، ورؤية المنّةِ في مُقابَلةِ العُجْب، ورؤيةُ النفس فعند ذلكَ تَزْكوا الأَعمالُ وَتَصْعَدُ إلى اللهِ تعالى وَيَطْهُرُ القلبُ وَيَبْقَى مَحَلاً لِنَظَر الحَقِّ بِمَشيئَةِ اللهِ وَمَعُونَتِهِ فَهَذَا أحَدُ شَطْريْ الدِّين وهو رِعايَةُ الجَوارحِ السّبعةِ على المآثم والمحَارم وإنما تَصْلُح وَتَطْهُرُ بِرِعَايَةِ القلب وَطَهارَتِهِ مِن المُوبِقَاتِ والجَرائِمِ. وَمَعْنى المُوبقاتِ: المهلكات. أ. هـ.
آخر:
خِصَالٌ إِذَا لَم يَحْوِهَا المَرْءُ لم يَنَلْ
…
منالاً مِنَ الدَّارِينَ يَكْسُبُ بِهِ حَمْدَا
يَكُونُ تَقِيًا مُخْلِصًا وَمُتَابِعًا
…
لِصَفْوَةِ خَلِقِ اللهِ أَعْنِي مُحَمَّدَا
وقال ابنُ القيم رحمه الله: والقلوبُ ثلاثةٌ: قَلبٌ خالٍ مِن الإِيمانِ وجَمِيعِ الخَيرِ، فذلِكَ قَلبٌ مُظلمٌ قد اسْتَرَاحَ الشَّيطانُ مِن إلقاءِ الوَسَاوِسَ إِليه لأنه قد اتَّخذهُ بَيْتًا وَوَطَنًا، وَتَحَكَّمَ فِيهِ بِمَا يُرِيدُ وَتَمَكَّنَ مِنْهُ غَايَةَ التَّمَكُّنِ، القَلْبُ الثَّانِي: قَلبٌ قد استَنَارَ بِنُورِ الإيمان وأُوقَد فيه مِصبَاحُه لكن عليه ظُلْمَةُ الشَّهَوَاتِ وَعَوَاصِفُ الأَهْوِيةِ فلِلشَّيْطَانِ هُنَاكَ إقْبَالٌ وإِدْبارُ ومَجَالاتٌ وَمَطَالِعُ فالحَرْبُ دُوَلٌ وَسِجَال، وَتَخْتَلِفُ أَحْوالُ هذا الصّنفِ بالْقِلَّةِ والكَثْرَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أوقاتُ غَلَبَتِهِ لِعَدُوّهِ أَكْثَرُ، وَمِنْهُم مَنْ أوقاتُ غَلَبَةِ عَدوّهِ أكْثرُ، ومِنهم مَنْ هو تَارةً وتَارة.
القلبُ الثّالثُ: قَلبٌ مَحْشوٌ بالإِيمانِ قَد اسْتَنَارَ بِنُورِ الإِيمانِ وانْقَشَعَتْ عَنه حُجُبُ الشّهواتِ وأقْلَعَتْ عنه الظُّلُمَاتُ فَلِنُوِرِه في صَدْرِهِ إِشْرَاقٌ ولِذَلِكَ الإِشْراقُ إيقَادٌ لَوْ دَنَا منه الوسْوَاسُ احْترقَ بِهِ فَهُوَ كالسّماءِ
الّتي حُرسَتْ بالنّجوم فَلوْ دَنَا مِنْهَا الشّيطانُ يَتخطّاها رُجِمَ فَاحْترق.
وَلَيْستِ السّماءُ بأَعظَمَ حُرْمةٍ من المؤْمن وحِراسَةُ الله تعالى لَهُ أَتمُّ منْ حراسَةِ السّماء، والسّماءُ مُتَعبّدُ الملائكةِ وَمُسْتَقَرُّ الوحي، وفيها أَنْوارُ الطَّاعاتِ وَقَلْبُ المؤْمنِ مُسْتَقر التّوحِيدِ والمحبّةِ والمعْرِفةِ والإِيمانِ، وفَيهِ أنْوارُهَا فهوَ حَقيقٌ أَنْ يُحرَسَ وَيُحفَظَ مِن كَيْدِ العدوِّ فَلا يَنَالُ مِنْهُ إِلا خَطْفةً تَحْصلُ له على غِرّةٍ وَغَفْلةٍ مِنْ العَبْدِ إذْ هُو بَشَرٌ وَأَحْكَامُ الْبَشَرِيّةِ جَارِيَةٌ عَلَيْهِ مِن الغَفلةِ والسّهو والذّهُول وَغَلبةِ الطَبع. انتهى.
هذه قصيدة لِبَعْضِهم فيها غُلُوٌ صَلّحْنَا مَا فِيهَا مِن الغَلَطِ الاعْتِقَادِيْ وَجَعَلْنَا على ما فيه تَصْلِيح أَقْوَاسًا:
تَيَقَّضْ لِنَفْسٍ عَنْ هُدَاهَا تَوَّلْتِ
…
وَبَادِرْ فَفِي التَّأْخِيرِ أَعْظَمُ خَشْيَةِ
فَحَتَّامَ لا تَلْوى لِرُشْدٍ عِنَائَها
…
وَقَدْ بَلَغَتْ مِنْ غَيِّهَا كُلَّ بُغَيَةِ
وَأَمَّارَةٌ بالسُّوءِ لَوَّامَةُ لِمَنْ
…
نَهَاهَا فَلَيْسَتْ لِلْهُدَى مُطْمَئِنَّةِ
إِذَا أَزْمَعَتْ أَمْرًا فَلَيْسَ يَرُدُّهَا
…
عَنِ الفِعْلِ إِخَوَانُ التُّقَى وَالْمَبَّرةِ
وَإِنْ مَرَّ فَعْلَ الخَيْرِ في بَالِهَا أَنْثَنَى
…
أَبُو مُرَّةٍ يَثْنِيهِ في كُلِّ مَرَّةِ
وَلِي قَدَمٌ لَوْ قُدِّمَتْ لِظُلامَةٍ
…
لَطَارَتْ وَلَوْ أَنِّي دُعِيتُ لِقُرْبَةِ
لَكُنْتُ كِذِي رِجْلَيْنِ رِجْلٌ صَحِيحَةُ
…
وَرِجْلٌ رَمََى فِيهَا الزَّمَانُ فَشُلَّتِ
وَقَائِلَةً لَمَّا رَأَتْ مَا أَصَابَنِي
…
وَمَا أَنَا فِيهِ مِنْ لَهِيبٍ وَزَفْرَتِي
رُوَيْدَكَ لا تَقْنَطْ وَإِنْ كَثُرَ الخَطَا
…
وَلا تَيْأَسَنْ مِنْ نَيْلِ رَوْحٍ وَرَحْمَةِ
مَعَ العُسْرِ يُسْرٌ وَالتَّصَبُّرُ نُصْرَةٌ
…
ولا فَرَجٌ إلا بِشِدَّةِ أَزْمَةِ
(وَكَمْ عَامِلِ أَعْمَالَ أَهْلَ جَهَنَّمٍ
…
فَلَمَّا دَعَى المَوْلَى أُعِيدَ لِجَنَّةِ)
فَقُلْتُ لَهَا جُوزِيتِ خَيْرًا عَلَى الذِّي
…
مَنَحْتِ مِنَ البُشْرَى وَحُسْنِ النَّصِيحَةِ
فَهَلْ مِنْ سَبِيلٍ لِلنَّجَاةِ مِنَ الرَّدَى
…
وَمَا حِيلَتِي في أَنْ تُفَرَّجَ كُرْبَتِي
(فَقَالَتْ فَطِبْ نَفْسًا وَقُمْ مُتَوَجِّهًا
…
لِرَبَّكَ تَسْلَمْ مِنْ بَوَارٍ وخَيْبَةِ)
(فَكَمْ آيِسٍ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ فَالْتَجَا
…
إِليْهِ فَحُطَّتْ عَنْهُ كُلُّ خَطِيئَةِ)
(فَدَيْتُكَ فَاَقْصِدْهُ بِذُلٍّ فَإِنَّهُ
…
يُقِيلَ بَنِي الزَّلاتِ مِنْ كُلِّ عَثْرِةِ)
(إِذَا مَا أَتَوهُ تَائِبِينَ مِن الذِّي
…
جَنَوْهُ مِنَ الآثامِ تَوْبَةَ مُخْبِتِ)
وَصِلِّ إِلهِي كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ
…
عَلَى أَحْمَدِ المُخْتَارِ أَزْكَى البَرِيَّةِ
اللَّهُمَّ اجْعَلنَا مِنْ حِزْبِكَ المفْلِحِينَ وَعِبادِكَ الصَّالِحينَ الذين أهّلتهم لِخِدْمَتِكَ. اللَّهُمَّ ثَبِّتْ مَحَبَّتَكَ في قُلُوبِنَا وَقَوِّهَا، وارْزُقْنَا مَحَبَّةُ أَوْلِيائِكَ وَأَصْفِيائِكَ واجْمَعَنَا وَإِيَّاهُمْ في دَارِ كَرَامَتِكَ يَا أَكْرَمَ الأَكْرَمِينَ، وَأَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى محمدٍ وعَلى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
كتاب الصلاة:
الصّلاةُ لغةً: الدّعاءُ قَال اللهُ تَعَالَى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} ، والصّلاةُ في الشّرع: أَقْوالٌ وَأَعْمَالٌ مَخْصُوصَةٌ مُفْتَتَحةٌ بالتَّكْبِير مُخْتتمة بالتَّسْلِيم وَسُمّيتْ صَلاةٌ لاشْتِمالِها على الدُّعاءِ، وقِيلَ: لأنها ثانيةُ الشّهادتين، وقيل: لأنها صِلةٌ بَيْنَ العَبْدِ وبَيْنَ رَبِهِ.
وقيل: لما تَتَضَمّنُ من الدّعاءِ والخُشُوع والخَشْيَةِ، وقيل: لأَنَّ المُصَلِّي يَتْبعُ مَن تَقَدَّمَهُ، والصّلاة عِمَادُ الدّين، قال في مَراصِد الصّلاة للقَسطلاني: الحِكْمةُ في فَرْض الصَّلاة وَتَخْصِيصِهَا بالخَمْس، أحَدُهَا: أنّ الأنْفُسَ البَشَريّةَ الْمُقْتَضِيةَ للشَّهْوةِ والغفلةِ والسَّهوِ والنسّيانِ والشّره في العَمَلِ والفْتَرةِ عَنْهُ فاقْتضتْ الحِكْمةُ أن تذكر نِسيَانَها وَتُوقظَ غَفَلَتَهَا وَتُقْمَعَ شَهْوتَهَا بقَطعِهَا عن عاداتِها ومَنُاجَاتِها الذي كَفَلها بنعَمِهِ وغَذّاها بجُوده وَكَرمِهِ ولعلْمِهِ بِضَعفِ قُواها لم يَجْعل هَذِهِ العِبَادَةَ إلا في أَوْقَاتٍ يَكْثُرُ الْفَرَاغُ فِيهَا مِن إشْغَالِ العَادَاتِ وهذا هُوَ الحكمةُ في تَنْقِيصِهَا مِن الخَمْسِين إلى الخمس.
والوجه الثاني: أن العبدَ في هذِه الدارِ يَعْمَلُ لِنَجَاتِهِ في الدارِ
الأَخْرَى وهِيَ مُشْتَمِلةٌ على أَهْوَالٍ وَمَشَاقٍ وَمَتَاعِبَ وأَمَامَ العبدِ دُونَهَا خَمْسُ عَقَبَاتٍ: الأولَى: الدُّنيا وشرُورُهَا وآفَاتُهَا ومَحْذُورَاتُها وَشَوَاغلُها وَعَلائِقُهَا القاطِعَةُ عن مَزيدِ السَّعَادَةِ. الثانيةُ: الموتُ وما يُخْشَى مِن فِتْنَتِهِ وشِدَّةِ سَكَرَاتِهِ وما يُشَاهَدُ عندَهُ مِن الأُموِر العِظَامِ والآلامِ الجسَامِ. الثالثة: الْقَبْرُ وضَيْقَتُهُ وَوَحْشَتُهُ وَسُؤَالُ مُنْكَرٍ وَنَكِير، وذَلك صَعْبٌ خَطِيرٌ. الرابعةُ: المَحْشِرُ: وَهو لَهُ وَما فِيهِ مِن الخَوفِ الشَّدِيدِ والْفَزَعِ الأكِيدِ. الخامسةُ: الحِسَابُ وما يُخْشَى فيه بَعْدَ العِتابِ من وُقُوعِ العِقابِ فكان فِعْلُ الصَّلوَاتِ الخَمْسِ مُسَهِّلاً لِهَذِهِ العَقباتِ مُحَّصِّلاً لِنَيلِ المَسَرَّاتِ في دَارِ الكَرَامَاتَ وَهِيَ أَجلُّ مَبَانِي الإِسْلامِ بَعْدَ الشَّهَادتَيْنِ وَمَحَلُّهَا مِن الدِين مَحَلُ الرأسِ مِن الجَسَدِ فَكَمَا أَنَّهُ لا حَيَاةَ لِمَنْ لا رَأَسَ لَهُ، فَكَذَلِكَ لا دِينَ لِمَنْ لا صَلاة لَهُ.
وَهِيَ خَاتِمَةُ وَصِيَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ آخِرِ عَهْدِهِ مِن الدُّنيا فَعَن أنسٍ رضي الله عنه قال: كانَتْ عَامَّةُ وَصِيَّةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ حَضَرَتْهُ الوَفاةٌ وَهُوَ يُغَرْغِرَ بِنَفْسِهِ: «الصلاةَ وما مَلَكَتْ أَيمانُكُم» . رواه أحمد، وأبو داود.
وهيَ أوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ العَبْدُ يَوْمَ القِيَامَةِ كَمَا وَرَدَ بِذَلِكَ الحديثُ عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: سَمعتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقولُ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلاتُهُ فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ» . الحديث أخرجه الترمذي.
وهِيَ أَكْبَرُ عَوْنٍ لِلْعَبْدِ على مَصَالِحِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ قال تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَاّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} ، وقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}
فَبِمُدَاوَمَةِ العَبْدِ عَلى الصَّلاةِ تَقْوَى رَغْبَتُهُ في الخَيْرِ وَتَسهُلُ عليهِ الطاعاتُ وَتَهُونُ عَليهِ المشَاقُ وَتَسْهُلُ عليهِ المصائِبُ وَيُيَسِّرُ اللهُ لَهُ أُمُورَهُ وَيُبَارِكُ لَهُ في مَالِهِ وأَعْمَالِهِ وَتَنْهَاهُ عن الفَحْشَاءِ والمُنْكَرِ كَمَا قال تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} الآية. وفي الصحيح المتفق عليه مِن رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقولُ: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ» ؟ قَالُوا: لا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ، قَالَ:«فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ يَمْحُو اللَّهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا» . وَوَرَدَ مِن حَديثِ ثوبانَ رضي الله عنه قالَ: قَال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «اسْتَقِيمُوا ولَنْ تُحْصُوا واعْلَمُوا أنَّ خَيْرَ أعْمَالِكُم الصَّلاةُ ولا يُحافِظُ على الوضوءِ إلا مُؤمِنُ» ، وعن عثمانَ بن عَفَّان رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَا من امْرئٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلاةَ مَكْتُوبَةٌ فيُحْسِنُ وُضُوءَهَا وخُشُوعَهَا ورُكُوعَهَا إلا كانَتْ كَفَارَةً لِما قَبْلَهَا مِنَ الذُنُوبِ مَا لَم تَؤْتَ كَبِيرَةٌ وذلكَ الدّهْرَ كُلَّهُ» .
وفي البخاري، ومسلم عن ابن مَسْعُودٍ رضي الله عنه قال: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ تعالى؟ فَقَالَ: «الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا» . قَلَتُ ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «بِرُّ الْوَالِدَيْنِ» . قَلَتُ ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . قَالَ حَدَّثَنِي بِهِنَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلَوْ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي. وأَخْرَجَ الإمامُ أحمدُ عن رجلٍ من أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم
أيُّ العَمَل أفْضَلُ؟ قال: سَمِعْتُهُ قال: «أَفْضَلَ العَمَلِ الصلاةُ لِوَقْتِهَا وبِرُّ الوالِدَين والجهَاد» . ورواته محتج بهم في الصحيح.
اللَّهُمَّ ثبّتْ مَحَبَّتِكَ فِي قُلُوبِنَا وَقَوِّهَا وَارْزُقْنَا الْقِيامَ بِطَاعَتِكَ وَجَنِّبْنَا مَا يُسْخِطُكَ وَأَصْلِحْ نِيَّاتِنَا وَذُرِّيَاتِنَا وَأَعِذْنَا مِنْ شَرِّ نُفُوسَنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا وَأعِذْنَا مِنْ عَدُوِّك وَاجْعَلْ هَوَانَا تَبَعًا لِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُكَ صلى الله عليه وسلم وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
(فصل)
قال ابنُ القَيمِ رحمه الله: إذَا وَقَفَ في الصَّلاةِ صَاحِبُ القَلْبِ العَامِرِ بِمَحَبَّةِ اللهِ وَخَشْيَتِهِ والرَّغْبةِ فِيه وإجْلالِهِ وَتَعْظِيمِهِ وَقَفَ بِقَلْبٍ مُخْبِتٍ خَاشِعٍ لَه قَرِيب مِنْهُ سَلِيمٍ مِن مُعَارَضَاتِ السُوءِ قَدْ امْتَلأتْ أرْجَاؤه بالهَيْبَةِ وَسَطَعَ فَيهِ نُورُ الإِيمانِ وَكُشِفَ عَنْهُ حِجَابُ النَّفْسِ وَدُخَانُ الشَّهواتِ فَيَرْتَعُ في رِياضِ مَعَانِي القُرْآنِ وخَالَطَ قَلْبَهُ بَشَاشَةُ الإِيمانِ بِحَقَائِقِ الأسْمَاءِ والصِّفَاتِ وَعُلُّوِهَا وَجَلالِهَا الأَعْظَمِ وَتَفَرُّدِ الربِ سُبحَانه بِنُعُوتِ جَلالِهِ وصفاتِ كَمَالِهِ.
فاجْتَمَعَ هَمُّهُ على اللهِ وَقرَّتْ عَيْنُهُ بِهِ وأَحَسَّ بقُرْبِهِ مِن اللهِ قُرْبًا لا نَظِيرَ لَهُ فَفَرَّغَ قَلْبَهُ لَهُ وأَقْبَلَ عَليهِ بِكُلِّيتِهِ وَهَذَا الإِقْبَالُ مِنهُ بَيْنَ إقْبَالَينِ مِن رَبّهِ فإنه سبحانَهُ أَقْبَلَ عليهِ أَوَّلا فانْجَذَبَ قَلْبُهُ بإقْبَالِهِ فلمّا أَقْبَلَ على رَبِّهِ حُظِيَ مِنْهُ إِقْبَالاً آخَرَ أَتَمَّ مِن الأَوَّلِ.
وهَا هُنَا عَجِيبَةٌ مِن عَجَائِبِ الأسْمَاءِ والصفاتِ تَحْصُلُ لِمَنْ تَفَقَّهَ قَلْبُه في مَعَانِي القُرآنِ وَخَالَطَ بَشَاشَةَ الإِيمانِ بها قَلْبُهُ بحَيْثُ يَرَ لكمْ اسْمٍ وصفةٍ مَوْضِعًا مِن صَلاتِهِ وَمَحَلاً مِنها فإذَا انْتَصَبَ قائمًا بَيْنَ يَدَيْ الربِ تبارك وتعالى شاهَدَ بِقَلْبِهِ قَيومِيَّتَهُ وإذا قال: الله أكْبَرُ شاهَدَ كِبْرِياءَهُ.
وإذا قال: سبحانَكَ اللَّهُمَّ وبِحَمْدِكَ وَتَبَاركَ اسْمُكَ وتَعَالَى جَدُّكَ
ولا إلهَ غَيْرَكَ شاَهد بِقَلْبِهِ رَبًا مُنَزَّهًا عَن كُلِّ عَيْبِ سَالِمًا مِن كُلِّ نَقْصٍ مَحْمًودًا بِكُلِ حَمْدٍ فَحَمْدُهُ يَتَضَمَّنُ وَصْفَهُ بِكلِ كَمَالٍ وَذلك يَسْتَلزِمُ بَرَاءَتَهُ مِن كُلِّ نَقْصٍ تَبَارَكَ اسْمُهُ فَلا يُذْكْرُ على قَلِيلِ إِلا كَثَّرَهُ ولا عَلى خَيْرٍ إِلا أَنْمَاه وَبارَكَ فيهِ ولا على آفةٍ إِلا أذْهَبَهَا ولا على الشيطانِ إِلا طَرَدَهُ خَاسِئًا دَاحِرًا وكمالُ الاسْمِ مِن كَمَال مُسَمَّاهُ فإذا كانَ هذا شأنُ اسْمِهِ الذي لا يَضُرُّ مَعَهُ شيءٌ في الأَرضِ ولا في السماءِ فَشَأْنُ المُسَمَّي أَعْلا وأجَلُ وتعالى جَدَّهُ أَيْ ارْتَفَعَتْ عَظَمَتُه وَجَلَّتْ فَوقَ كُلِّ عَظَمَةٍ وَعَلا شَأْنُهُ عَلى كُل شأنٍ وَقَهَرَ سُلْطَانُه على كُلِّ سُلْطَانٍ فَتَعَالَى جَدُّهُ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ شَرِيكَ فِي مُلْكِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ أَوْ فِي إلهيَّتِهِ أَوْ فِي صِفَاتِهِ كَمَا قَالَ مؤمِنُوا الجِن وأَنَّهُ تعالى جد ربنا ما اتخذَ صَاحِبَةً ولا ولدًا فكَمْ في هَذِهِ الكلماتِ مِن تَجلّ لِحَقَائِقَ الأَسْمَاءِ والصِّفَاتِ على قَلْبِ العارِفِ بِها غَيْرِ المُعَطّلِ لِحَقَائِقِها وإذَا قَالَ: أعُوذُ باللهِ مِن الشيطانِ الرجيمِ فقد آوى إلى رُكْنِهِ الشَّدِيدِ واعتصَمَ بحَوْلِهِ وَقَوَّتِهِ من عَدُوّه الذي يُرِيدُ أَن يَقْطَعَهُ عن رَبِهِ وَيُبَاعِدَهُ عن قرْبِهِ لِيَكُونَ أَسْوَأَ حَالاً.
فإذَا قَالَ: {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وَقَفَ هُنَيْهَةً يَسِيرَةً يَنْتَظِرُ جَوَابَ رَبِّهِ لَهُ بِقولِهِ: حَمِدَنِي عَبْدِي. فإذا قال: {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} ، انتظرَ الجَوابَ بِقولِهِ: أثْنَى عَليَّ عَبْدِي فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ، انتظرَ جَوَابَهُ بِقولِهِ مَجَّدَنِي عَبْدِي.
فَيَا لَذَّةَ قَلْبِهِ وَقُرَّةَ عَيْنِهِ وَسُرُورِ نَفْسِهِ بِقَولِ رَبِّهِ: عَبْدِي ثلَاث مرَّاتٍ فَواللهِ لَولا مَا عَلَى القُلُوبِ مِنْ دُخَانِ الشَّهَواتِ وغَيْمِ النُّفُوسِ لاسْتُطِيرتَ فَرَحًا وَسُرُورًا بقولِ رَبَها وَفَاطِرِهَا وَمَعْبُودِهَا حَمِدَنِي عَبْدِي وأَثْنَى عَليَّ عَبْدِي وَمَجَّدَنِي عَبْدِي ثُمَّ يَكُونُ لِقَلْبِهِ مَجَالٌ مِن شُهُودِ هَذِهِ الأسْمَاءِ الثلاثةِ
التي هِيَ أُصُولُ الأَسْمَاءِ الحُسْنَى وَهِيَ: اللهُ، والربُّ، والرحمنُ فَشَاهَدَ قَلْبُهُ من ذِكْرِ اسْمِ اللهِ تبارك وتعالى إِلهًا مَعْبُودًا مَوْجُودًا مَخْوفًا لا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ غَيْرُهُ وَلا تَنْبَغِي إِلا لَهُ قَدْ عَنَتِ لَهُ الْوُجُوهُ وَخَضَعَتْ لَهُ المَوْجُودَاتُ وَخَشَعَتْ لَهُ الأَصْوَاتِ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِنْ مِّن شَيْءٍ إِلَاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ {وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} .
وكذالكَ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ والأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا وَخَلقَ الجِنَّ والإنْسَ والطيرَ والوحشَ والجنةَ والنارَ وكذلك أرسلَ وأَنْزَلَ الكتبَ وَشَرَعَ الشرائعَ وألْزَمَ العِبَادَ الأمرَ والنَّهْيَ.
وَشَاهَدَ مِن ذِكْرِ اسْمِهِ رَبَّ العالمين قَيُّومًا قَامَ بِنَفْسِهِ وقَامَ بِهِ كُلُ شَيءٍ فَهُوَ قَائِمٌ عَلى كُلِ نَفْسٍ بِخَيْرِهَا وَشَرِّهَا قَدْ اسْتَوى على عَرْشِهِ وَتَفَرَدَ بِتَدْبِيرِ مُلْكِهِ فالتَّدْبِيرُ كُلُّهُ بِيَدِهِ مَصِيرُ الأُمُورِ كُلِّهَا إِليهِ فَمَراسِيمُ التَّدْبِيرَاتِ نَازِلَةٌ مِن عِنْدِهِ عَلَى أَيْدِي مَلائِكَتِهِ بالعَطَاءِ والمَنْعِ والخَفْضِ والرَّفْعِ والإِحْياءِ والأَمَانَةِ والتَّوْبَةِ والْعَزْلِ والْقَبْضِ والْبَسْطِ وَكَشْفِ الْكُرُوبِ وإِغَاَثُةِ الْمَلْهُوفِ وإِجَابَةِ الْمُضْطَرَِينَ {يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} لا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى ولا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ ولا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ولا رَادَّ لأمْرِهِ ولا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِِهِ تَعْرُجُ الملائِكةُ والرُّوحُ إِلَيْهِ وَتُعْرَضُ الأَعْمَالِ أَوَّلَ النَّهَارِ وآخِرَهُ عليهِ فَيُقَدِّرُ الْمَقَادِيرِ وَيُوَقِّتُ الْمَوَاقِيتَ ثُمَّ يَسُوقُ الْمَقَادِيرَ إِلى مَوَاقِيتِهَا قَائِمًا بِتَدْبِيرْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَحِفْظِهِ وَمَصَالِحِهِ.
ثم يَشْهَدُ عندَ ذِكْرَ اسْمِهِ الرَّحْمَن جل جلاله رَبًّا مُحْسِنًا إِلى خَلْقِهِ بِأَنْوَاعِ الإِحْسَانِ مُتَحَبِبًّا إِليهم بصُنُوفِ النِّعَمِ وَسَعَ كُلَّ شَيءٍ رَحْمَةً وعِلْمًا وأَوْسَعَ كُلَّ مَخْلُوقٍ نِعْمَةً وَفَضْلاً فَوَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيءٍ وَوَسِعَتْ نِعْمَتُهُ
كُلَّ حَيٍ فَبَلَغَتْ رَحْمَتُهُ حَيْثُ بَلَغَ عِلْمُهُ فاسْتَوَى على عَرْشِهِ بِرَحْمَتِهِ وَخَلَقَ خَلْقَهُ بِرَحْمَتِهِ وأَنْزَلَ كُتُبَهُ بِرَحْمَتِهِ وأَرْسَلَ رُسُلَهُ بِرَحْمَتِهِ وَشَرَعَ شَرَائِعَهُ بِرَحْمَتِهِ وَخَلَقَ الجَنَّةَ بِرَحْمَتِهِ والنارَ أيضًا بِرَحْمَتِهِ فإِنها سَوْطُهُ الذي يَسُوقُ بِهِ عِبَادَهُ المؤمنينَ إلى جَنَّتِهِ وَيُطَهِّرُ بِهَا أدْرَانَ الْمُوَحِّدِينَ مِنْ أَهْلِ مَعْصِيَتِهِ وَسِجْنُهُ الذي يَسْجِنُ فيهِ أَعدَاءَهُ مِنْ خَلِيقَتِهِ.
فَتَأَمَّلْ مَا في أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَوَصَايَاهُ وَمَوَاعِظِهِ مِنَ الرَّحْمَةِ الْبَالِغَةِ والنِّعْمَةِ السَّابِغَةِ وَمَا فِي حَشْوِهَا مِنَ الرَّحْمَةِ والنَّعِمْةِ فَالرَّحْمَةُ هِيَ السَّبَبُ الْمُتَّصِلُ مِنْهُ بِعِبَادِهِ كَمَا أَنَّ الْعُبُودِيَّةَ هِيَ السَّبَبُ الْمُتَّصِلُ مِنْهُمْ بِهِ فَمِنْهُمْ إِليهِ الْعُبُودِيَّةُ وَمِنْهُ إِليهِم الرَّحْمَةُ.
وَمِنَ أَخَصَّ مَشَاهِدِ الاسْمِ شُهُودُ الْمُصَلِّي نَصِيبُهُ مِنَ الرَّحْمَةِ الذِّي أَقَامَهُ بِهَا بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ وَأَهَّلَهُ لِعُبُودِيَتِهِ وَمُنَاجَاتِهِ وَأَعْطَاهُ وَمَنَعَ غَيْرَهُ وَذَلِكَ مِنْ رَحْمَتِهِ بِهِ.
فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فَهُنَا شَهِدَ الْمَجْدَ الذي لا يَلِقُ بِسَوى الْمَلكِ الحَقِ الْمُبِينَ فَشَهِدَ مَلِكًا قَاهِرًا قَدْ دَانَتْ له الْخَلِيقَةُ وَعَنَتْ لَهُ الْوُجُوهُ وَذَلَّتْ لِعَظَمَتِهِ الْجَبَابِرَةُ وَخَضَع لِعِزَّتِهِ كُلُّ عَزِيزٍ فَيَشْهَدُ بِقَلْبِهِ مَلِكًا عَلى عَرْشِ السَّمَاءِ مُهَيْمِنُا لِعِزَّتِهِ تَعْنُوا الْوُجُوهُ وَتَسْجُدُ وإِذَا لَمْ تُعَطَّلْ صِفَةٌ حَقِيقَيْةً صِفةَ الْمُلْكِ أَطْلَعَتْهُ عَلى شُهُودِ حَقَائِقِ الأَسْمَاءِ والصِّفَاتِ التي تَعْطِيلُهَا تَعْطِيلٌ لِمُلْكِهِ وَجَحْدٌ لَهُ فَإِنَّ الْمَلكَ الْحَقَّ التَّامَّ الْحَقَّ لا يَكُون إِلا حَيًّا قَيُّومًا سَمِيعًا بَصِيرًا مُدَبِّرًا قَادِرًا مُتَكَلِّمًا آمِرًا نَاهِيًا مُسْتَوِيًا عَلى سَرِيرِ مَمْلَكَتِهِ يُرْسِلُ إِلى أَقَاصِي مَمْلَكَتِهِ بأوامِرِهِ فَيَرْضَى على مَنْ يَسْتَحِقَ الرِّضَا وَيُثِيبُهُ وَيُكْرِمُهُ وَيُدْنِيهِ، وَيَغْضَبُ عَلى مَنْ يَسْتَحِقُ الْغَضَبَ وَيُعَاقِبُهُ وَيُهِينُهُ وَيُقْصِيهِ وَيَقْصِي مَن يَشَاءُ، لَهُ دَارُ عَذَابِ وَهِيَ النَّارُ وَلَهُ دَارُ سَعَادَةٍ وَهِيَ
الْجَنَّةُ. فَيُعَذِبُ مَن يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَاءُ وَيُعْطِي مَن يَشَاءُ وَيُقَرِّبُ مَن يَشَاء.
فَمَنْ أَبْطَلَ شَيْئًا مِن ذَلكَ أَوْ جَحَدَهُ وأَنْكَرَ حَقِيقَتَهُ فَقَدْ قَدَحَ فِي مُلْكِهِ سبحانه وتعالى وَنَفى عَنْهُ كَمَا لَهُ وَتَمَامَهُ.
وكذلكَ مَنْ أَنْكَرَ عُمُومَ قَضَائِه وَقَدَرِهِ فَقَدْ أَنْكَرَ عُمُومَ مُلْكِهِ وَكَمَالِهِ فَيَشْهَدُ الْمُصَلِّي مَجْدَ الربِ تَعاَلَى فِي قَولِهِ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فَفِيهَا سِرُّ الْخَلْقِ والأَمْرِ والدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَهِيَ مُتَضَمِّنَةُ لأَجَلِّ الْغَايَاتِ وأفضلِ الْوَسَائِلِ.
فأَجَلُّ الْغَايَاتِ عُبُودِيتُهُ وَأَفْضَلُ الْوَسَائِلَ إِعَانَتُهُ فَلا مَعْبُودَ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ إِلا هُوَ ولا مُعِينَ على عِبَادَتِهِ غَيرُهُ فَعِبَادَتُهُ أَعْلَى الْغَايَاتِ وإِعَانَتُهُ أَجَلُّ الْوَسَائِلِ وَقَدْ أَنْزَلَ سبحانه وتعالى مائة كِتَابٍ وَأَرْبَعَةَ كُتُبٍ جَمَعَ مَعَانِيهَا فِي أَرْبَعَةِ. وَهِيَ: التَّوْرَاةُ، والإِنْجِيلُ، والْقُرْآنُ، والزَّبُورُ. وَجَمَعَ مَعَانِيهَا فِي الْقُرْآنِ وَجَمَعَ مَعَانِيهِ فِي الْمُفَصَّلِ وَجَمَعَ مَعَانِيهِ فِي الْفَاتِحَةِ وَجَمَعَ مَعَانِيهَا فِي إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ.
وقد اشْتَمَلَتْ هذِهِ الْكَلِمَةُ على نَوْعَيْ التَّوْحِيد وَهُمَا تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ وَتَوْحِيدُ الأُلُوهِيَّةِ وَتَضَمَّنَتْ التَّعَبُدَ باسْمِ الربِ واسمِ اللهِ فَهوَ يُعْبَدُ بالأُلُوهِيَّةِ وَيُسْتَعَانُ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَيَهْدِي إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ بِرَحْمَتِهِ فكانَ أوَّلُ السُّورَةِ ذِكْرُ اسْمِ اللهِ والربِّ والرحمنِ تَطَابَقًا لأَجْلِ الْمَطَالِبِ مِن عِبَادِتِهِ وَإِعَانَتِهِ وَهِدَايَتِهِ وَهو الْمُنْفَرِدُ بإعْطَاءِ ذَلِكَ كُلِّهِ لا يُعِينُ عَلى عِبَادَتِهِ سِوَاهُ وَلا يَهْدِي، سِوَاهُ ثُمَّ يَشْهَدُ الدَّاعِي بَقَوْلِهِ:{اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} شِدّةَ فَاقَتِهِ وَضَرُورَتِهِ إِلى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ التي لَيْسَ هُو إلى شيءٍ أَشَدَّ فاقةً وَحَاجَةً مَنْهُ إِليهَا الْبَتَةَ فإنَّه مُحْتَاجٌ إِليه في كُلِ نَفَسٍ وَطَرفَةِ عَيْنٍ وَهَذَا الْمَطْلُوبُ مِن
الدُّعَاءِ لا يَتِمُ إلا بالهِدَايَةِ إلى الطَّرِيقِ المُوصِلُ إِليْهِ سُبْحانَهُ والْهِدَايَةِ فيهِ أيْ هِدَايَةِ التَّفْصِيلِ وَخَلْقِ الْقُدْرَةِ على الْفِعْلِ وَإِرَادَتِهِ وَتَكْوِينِهِ وَتِوْفِيقِهِ لإِيقَاعِهِ عَلى الْوَجْهِ الْمَرْضِي الْمَحْبُوبِ للرَّبِ سبحانه وتعالى وَحِفْظِهِ عَليهِ مِنْ مُفْسِدَاتِهِ حَالَ فِعْلِهِ وَبَعْدَ فِعْلِهِ.
وَلَمَّا كاَنَ الْعَبْدُ مُفْتَقِرًا فِي كُلّ حَالٍ إِلى هَذِهِ الْهِدَايَةِ فِي جَمِيعِ مَا يأْتِيهِ وَيَذَرُهُ مِنْ أُمُورٍ قَدْ أَتَاهَا عَلى غَيرِ الْهِدَايَةِ فَهو يَحْتَاجُ إِلى التَّوْبَةِ مِنْهَا.
وأُمُورٍ هُدى إِلى أَصْلِهَا دُونَ تَفْصِيلِهَا أَوْ هُدِيَ إِليهَا مِن وَجْهِ دُونَ وَجْهٍ فَهُوَ يَحْتَاجُ إِلى تَمَامِ الْهِدَايَةِ فِيهَا لِيَزْدَادَ هُدَى.
وأُمُورٍ يَحْتَاجُ إِلى أَنْ يَحْصُلَ لَهُ مِن الْهِدَايَةِ فِيهَا بالْمُسْتَقْبَلِ مِثلَ مَا حَصَلَ لَهُ فِي الْمَاضِي.
وَأُمُورٍ هُوَ خَالٍ عَنْ اعْتِقَادٍ فِيهَا فَهُوَ يَحْتَاجُ إلى الهِدَايَةِ فِيهَا.
وَأُمُورٍ لَمْ يَفْعَلْهَا فَهُوَ يَحْتَاجُ إِلى فِعْلِهَا عَلَى وَجْهِ الْهِدَايَةِ.
وأُمُورٍ قَدْ هُدِي إِلى الاِعْتِقَادِ الْحَقِّ والْعَمَلِ والصَّوابِ فِيهَا فهو مُحْتَاجُ إِلى الثَّبَاتِ عَلَيْهَا إِلى غَيْرِ ذَلكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْهِدَايَةِ.
فَرَضَ اللهُ سبحانَهُ عليه أنْ يَسْأَلَ هَذِهِ الْهِدَايَةِ في أَفْضَلِ أَحْوَالِهِ مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ فِي الْيَوْمِ واللَّيْلَةِ ثم بَيَّنَ أَنَّ أَهْلَ هَذِهِ الْهِدَايَةِ هُمْ الْمُخْتَصُوَن بِنِعْمَتِهِ دُونَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَهُمْ الذَّيْنَ عَرَفُوا الْحَقَّ وَلَمْ يَتَّبِعُوهُ وَدُونَ الظَّالِينَ وَهُمْ الذينَ عَبَدُوا اللهَ بِغَيرِ عِلْمٍ فَالطَّائِفَتَانِ اشْتَرَكَتَا فِي الْقَوْلِ فِي خَلْقِهِ وَأمْرِهِ وأسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ بِغَيرِ عِلْمٍ فَسَبِيل ُالْمُنْعِمْ عَلَيْهِم مُغَايرَةُ لِسَبِيلِ أَهْلِ البَّاطلِ كُلِّهَا عِلْمًا وَعَمَلاً فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ هَذَا الثَّنَاءِ والدُّعَاءِ والتَّوحِيدِ شُرِعَ لَهُ أَنْ يَطْبَعَ عَلَى ذَلكَ بِطَابع مِنْ التأمِينِ
يَكُونُ كالخَاتِمِ لَهُ وَافقَ فِيه مَلائِكَةَ السَّماءِ وهذا التأمِينُ مِن زِينَةِ الصلاةِ كَرَفْعِ اليدِيْنِ الذِي هُوَ زِينَةُ الصلاةِ وإتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ وَتَعْظِيمَ أَمْرِ اللهِ وَعُبُودِيَةُ الْيَدَيْنِ وَشِعَارُ الاِنْتِقَالِ مِن رُكْنٍ إِلى رُكْنٍ ثُمَّ يَأَخُذُ فِي مُنَاجاَةِ رَبِّهِ بِكلامِهِ واسْتِمَاعِهِ مِنْ الإِمَامْ بالإِنْصَاتِ وَحُضُورِ الْقَلْبِ وَشُهُودِهِ.
وقال رحمه الله: والقول الجامع في تفسير الصراط المستقيم: أنه الطريق الذي نصبه الله لعباده على ألسنة رسله، وجعله موصلاً لعباده إليه، ولا طريق لهم سواه، وهو إفراده بالعبودية وإفراد رسله بالطاعة، وهو مضمون شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، ونكتة ذلك وعقده أن تحبه بقلبك كله وترضيه بجهدك، فلا يكون في قلبك موضع إلا معمور بحبه، ولا تكون إرادة إلا متعلقة بمرضاته، وهذا هو الهدى وهو معرفة الحق والعمل به وهو معرفة ما بعث الله به رسله والقيام به فقل ما شئت من العبارات التي هذا أحسنها.
وقال: والطريق إلى الله واحد لا تعدد فيه، وهو صراطه المستقيم الذي نصبه موصلاً لمن سلكه إلى الله فمن الناس من يكون سيد عمله وطريقه إلى ربه طريق العلم والتعليم قد وفر عليه زمانًا مبتغيًا به وجه الله فلا يزال عاكفًا على طريق العلم حتى يصل من تلك الطريق إلى الله ويفتح له الفتح الخاص، أو يموت في طريق طلبه فيرجى له الوصول إلى مطلبه، ومنهم من يكون سيد عمله الذكر، ومنهم من يكون طريقه الإِحسان والنفع المتعدى، ومنهم من يكون طريقه الصوم، ومنهم من يكون كثرة تلاوة القرآن، ومنهم من يكون طريقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنهم من يكون طريقه الحج والاعتمار، ومنهم من يكون طريقه قطع العلائق وتجريد الهمة ودوام المراقبة وحفظ الأوقات أن تذهب ضائعة، ومنهم الجامع الفذ السالك إلى الله في كل واد الواصل إليه من كل طريق،
فهو جعل وظائف عبودية قبلة قلبه ونصب عينيه وقد شارك أهل كل عمل وذلك فضل الله.
وقال رحمه الله ولما كان طالبُ الصراط المستقيم طَالِبَ أَمْرٍ أَكْثَرُ النَّاسِ نَاكِبُونَ عَنْهُ، مرِيدًا لِسُلُوكِ طَرِيقٍ مُرَافِقُهُ فيها في غَايَةِ الْقِلَّةِ والْعِزَّةِ، والنُّفُوسُ مَجْبُولَةٌ علَى وحْشَةٍ التَّفَرُّدِ، وعلى الأنس بالرفيق.
نَبَّهَ اللهُ سُبْحَانه على الرفيق في هذه الطريق، وأنَّهمُ هم الذين {أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} .
فأَضَاف الصِّرَاطَ إلى الرفِيقِ السالِكينَ لَهُ، وهُم الذين أَنْعَم اللهُ عليهم، لِيزُولَ عَن الطالِبِ لِلْهِدَايَةِ وسُلُوكِ الصِّرَاطِ وحْشَةُ تَفَردُّهِ عن أهِل زَمَانِهِ وبَنِي جِنْسِهِ، وَلِيَعْلم أَنْ رَفِيقَهُ في هَذا الصراط هم الذين أَنْعم اللهُ عليهم.
فلا يَكْتَرِثْ بِمُخَالَفَةِ النَّاكِبينَ عنه لَهُ فإنهم هم الأقَلُونَ قَدْرًا وإن كانوا الأكْثَرِينَ عَدَدًا، كما قَالَ بعضُ السلفِ: عليكَ بطريق الحقِّ ولا تَسْتَوحِشْ لِقِلَّةِ السَّالِكِين، وَإيَّاكَ وَطَرِيقَ البَاطِلَ وَلا تَغْتَرَّ بِكَثْرَةِ الهَالِكِينَ.
وَكُلَّمَا اسْتَوْحَشْتَ في تَفَرُّدِكَ فَانْظُرْ إلى الرَّفِيقِ السَّابِقِ وَاحْرِصْ عَلَى اللِّحَاقِ بِهِمْ، وَغُضِّ الطَّرْفَ عَنْ مَنْ سِوْاهُمْ فَإِنَّهُمُ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا، وَإِذَا صَاحُوا بِكَ في طَرِيقِ سَيْرِكَ فَلا تَلْتَفِتْ إِلَيْهِمْ.
قَالَ وَلَمَّا كَانَ سُؤالُ اللهِ الْهِدَايةِ إِلى الصَّرَاطَ الْمُسْتَقِيمِ أَجَلَّ الْمَطَالِبِ، وَنَيْلُهُ أَشْرَفَ الْمَوَاهِبِ عَلَّمَ اللهُ عِبَادِهُ كَيْفِيَّةَ سُؤالِهِ، وأَمَرَهُمْ أَنْ يُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْهِ حَمْدَهُ والثَّنَاءَ عَلَيْهِ وَتَمْجِيدَهُ.
ثم ذَكَرَ عُبُودِيَّتَهُمْ وَتَوْحِيدَهُمْ فَهَاتَانِ وسِيلَتَانِ إِلى مَطْلُوبهم تَوَسُّلٌ
إِليه بأسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَتَوسُّلٌ إِليه بِعُبُودِيَّتِهِ وَهَاتَان الْوَسِيلَتَان لا يَكَادُ يُرَدُّ مَعْهُمَا الدُّعَاءُ.
ويُؤيِّدْهُما الْوَسِيلَتَانِ الْمَذْكُورَتَانِ فِي حَدِيثَيْ الاسْم الأعظم اللَّذَيْنِ رواهما ابن حبَّان في صَحِيحه، والإِمام أحمد، والترمذي.
أَحَدُهما: حَدِيثُ بُرَيْدَةَ عن أبيه قال سَمِعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً يَدْعُو ويقول: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بأني أَشْهَدُ أَنَّكَ اللهُ الذي لا إِلهَ إلا أَنْتَ الأَحَدُ الصَّمَدُ الذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ولم يكن له كُفْوًا أحَد.
فقال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ سَأَلَ الله باسْمِهِ الأَعْظَمْ الذي إذا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وإذا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى» . قال الترمذيُ: حَدِيثٌ صحيح.
فهذا تَوَسُّلٌ إلى الله بتَوحِيدِهِ، وشَهَادَةِ الدَّاعِيَ لَهُ بالْوَاحْدَانِيَّةِ وثبوتِ صِفاتِهِ المدلُولِ عليها باسمِ الصَّمَدِ.
وهو كما قال ابن عباس: العَالِمُ الذي كَمُلَ عِلْمُهُ القادِرُ الذي كَمُلَتْ قُدْرَتُهُ وفي رواية: (هو السيدُ الذي قَدْ كَمُلَ فيه جَمِيعُ أنواعِ السؤدَدِة) .
وقال سعيد بن جبير: هو الكاملُ في جَميعِ أَقوالِهِ وَصِفاتِهِ وأفْعالِهِ.
والثاني: حَدِيثُ أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سَمِعَ رَجُلاً يَدْعُو:
اللَّهُمَّ إني أسألكَ بأن لك الحمد لا إله إلا أنْتَ المنان بَدِيعُ السماوات والأرض؛ ذا الجلال والإكرام، يا حَيُّ يا قَيُّوم.
فقال: «لقد سأل الله باسمه الأعظم» . فهذا توسل إليه بأسمائِهِ وصفاته.
وقد جمعت الفاتحة الوسيلتين وهما: التوسل بالحمد، والثناء عليه وتمجيده والتوسل إليه بعبوديته وتوحيده.
ثم جاء سؤال أهم المطالب وأنجح الرغائب وهو الهداية بعد الوسيلتين فالداعي به حقيقٌ بالإجابة.
ونظير هذا دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يدعو به إذا قام يصلي من الليل. رواه البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس:
«اللَّهُمَّ لك الحمد أنتَ نور السماوات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنتَ قيوم السماوات والأرض ومن فيهن.
ولك الحمد أنتَ الحق ووعدك الحق ولقاؤك حق والجنة حق والنار حق، والنبيون حق والساعة حق ومحمد حق.
اللَّهُمَّ لكَ أسلمتُ، وبكَ آمَنْتُ، عليك تَوَكَّلْتُ، وإليك أَنَبْتُ، وبكَ خاصَمْتُ، وإليكَ حَاكَمْتُ.
فاغفِرْ لي ما قَدَّمْتُ وما أخَّرْتُ، وما أسررتُ وما أعلنت، أنْتَ إلهي لا إله إلا أنْتَ» ، فذكر التوسلَّ إليه بِحَمْدِهِ والثَّناء عليه، وبِعُبُودِيَّتِهِ ثم سأله المغفرة.
اللَّهُمَّ يَا مَنْ خَلَقَ الإنسانَ في أَحْسَنِ تَقْويم وَبِقُدْرَتِهِ التي لا يُعْجِزُها شيءٌ يُحْيي العِظَامَ وهي رَمِيمٌ، نسأَلك أَنْ تَهْدِينا إلى صِراطِك المستقيم، صِراط الذيْنَ أَنْعَمْتَ عَليهم من النَّبيينَ والصِّدِِيقِينَ والشُّهَداءِ والصَّالِحَينَ، وَأَنْ تَغْفِرَ لَنَا وَلِوالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنهُمْ وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فصل)
عِبَادَ اللهِ إِن الصلاةَ عِمادُ الدِّينِ وأَعْظَمُ أَرْكَانِ الإِسْلامِ بَعْدَ الشهادَتَين مَنْ حَافَظَ عَلَيهَا فَهُوَ السَّعِيدُ، وَمَنْ أَضَاعَهَا وأَهْمَلَهَا فهو الشَّقِيُ الْعَنِيدُ، وقد أَمَرَ اللهُ بالمحافظةِ عَلَيْهَا وَأَمَرَ بِإقَامَتِهَا فِي آياتً كَثِيرَةٍ قال
تعالى: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلَاةِ الْوُسْطَى} ، وَقَالَ:{وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} ، وَقَالَ:{رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} .
وَقَالَ: {وَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ} ، وَقَالَ:{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} الآية. وَقَالَ: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ} ، وَقَالَ:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} ، الآية. وقَالَ:{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} ، وقَالَ:{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} ، قال ابنُ عَبَّاسٍ: يُقِيمونَ الصَّلاةَ بِفُروضِهَا. وقال الضَّحاكُ: عَن ابنِ عباسٍ: إقامةٌ الصَّلاةِ إتْمَامُ الرُّكُوعِ والسُّجود والتِّلاوةِ والْخُشُوعِ والإقبالِ عليهِ فيهَا. وقال قَتَادَةُ: إقامَةُ الصَّلاةِ الْمُحَافَظَةُ عَلى مَوَاقِيتِهَا وَوُضُوئِهَا وَرُكُوعِهَا وَسُجُودِها.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إقامَتُها: الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَوَاقِيتِهَا وإسْبَاغُ الطَّهُورِ فِيهَا وإتْمَامُ رُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا وَتِلاوَةِ الْقُرْآنِ فِيهَا والتَّشَهّدُ والصَّلاةُ عَلى النبي صلى الله عليه وسلم وَحَثَّ صلى الله عليه وسلم عَلى الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا فِي أَحَادِيثَ كثيرةٍ مِنْهَا مَا وَرَدَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «خَمْسٌ مَنْ جَاءَ بِهِنَّ مَعَ إِيمانٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ مَنْ حَافَظَ على الصَّلَواتِ الْخَمْسِ عَلى وُضُوئِهِنَ وَرُكُوعِهِنَّ وَمَواقِيتِهِنَّ، وَصَامَ رَمَضَانَ، وَحَجَّ الْبَيْتَ إِنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً، وآتَى الزَّكَاة طَيَّبةً بِهَا نَفْسُهُ، وأدّى الأمانة» . قيل: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا أَدَاءُ الأمانَةِ؟ قَالَ: «الْغُسْلُ مِنَ الْجَنَابَةِ إِنَّ اللهَ لَمْ يَأْمَنْ ابنَ آدَمَ على شيءٍ مِنْ دِينِهِ غَيْرَها» . رواه الطبراني.
وعن عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «ثَلاثٌ أَحْلِفُ عَلَيْهِنَّ لا يَجْعَلُ اللهُ مَنْ لَهُ سَهْمٌ في الإِسْلام كَمَنْ لا سَهْمَ لَهُ وَأَسْهُمُ الإِسْلامِ ثلاثةٌ: الصَّلاةُ، والصَّومُ، والزَّكَاةُ. ولا يَتَولَّى اللهُ عَبْدًا
فِي الدُّنْيَا فَيُوَلِّيهِ غَيْرَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُحِبُّ رَجلٌ قَوْمًا إِلا جُعِلَ مَعَهُمْ» . الحديثَ رواهُ أحمدُ بإسنادٍ جيدٍ، ورواهُ الطَّبَراني في الْكَبِير مِنْ حديثِ ابنِ مَسْعُودٍ.
وَعَنْ عمر بن مُرَّة الجُهَنِي قَالَ: جَاءَ رَجلٌ إِلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَرأَيْتَ إِنْ شَهِدتُ أَنْ لا إلهَ إلا اللهَ، وأَنكَ رَسُولُ اللهِ، وَصَليتُ الصَّلواتِ الْخَمْسِ، وأدَّيْتُ الزَّكاةَ، وَصُمْتُ رَمَضَانَ وَقُمْتُهُ فَمِنْ مَنْ أَنَا؟ قَالَ:«من الصِّدِيقِينَ والشُّهَدَاءِ» . رواهُ البَزَّارُ، وابنُ خزيمةَ، وابنُ حِبَّان في صَحِيحَهُمَا، واللفظُ لابنِ حِبَّانَ. ومن الأَدِلَةِ الدَّالةِ عَلى وُجُوبِهَا مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِن الكِتَابِ والسُّنَّةِ قَولهُ تَعَالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} ، وأَمَّا السُّنَّةُ فَعَنْ ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: شِهَادةِ أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وإِقَام الصَّلاةِ، وإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصِيامِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً» .
وأَجْمَعَتِ الأمةُ عَلى وُجُوبِ خَمْسِ صَلَواتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ وَفُرضَتْ الصَّلاةُ لَيْلةَ الإِسْرَاءِ قَبْلَ هِجْرَتِهِ صلى الله عليه وسلم بِنَحْو خَمْسِ سِنينَ وِقِيلَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ.
اللَّهُمَّ وَفِقْنَا للاسْتِعْدَادِ، واهْدِنَا إِلى سَبِيل الرَّشَادِ، وَوَفقْنَا للعَمَلِ الصَّالِحِ ليومِ الْمَعَاد، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ، الأحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالمَيِّتِينَ، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
فصل: وَيَحْرمُ تَأْخِيرُ الصَّلاةِ عَنْ وَقْتِهَا عَلَى الْقَادِر عَلى فِعْلِهَا
الذَّاكِرِ لَهَا إِلا لِنَاوِي الْجَمْعِ لِنَحْوِ سَفَرٍ أَوْ مَرَضٍ لأنه يَجبُ إيقاعُهَا في الوقتِ فإذا خَرَجَ وَقْتَهُا وَلم يأتِ بِهَا كَانَ تَارِكًا لِلواجِبِ مُخَالِفًا لِلأَمْرِ وَلِئَلا تفُوتَ فائدةُ التأقِيتِ.
وَأَمَّا الدَّليلُ عَلى جَوازِه للعُذْرِ وَتَحْرِيمه لِغيرِ الْعذْر فَحَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ مَرْفُوعًا: «لِيْسَ في النَّوْم تَفْرِيطَ إنما التفريط في الْيَقَظِةَ أَنْ تُؤَخِر الصَّلاةَ إِلى أَنْ يَدْخَلَ وَقْتَ أَخْرَى» ، وَقَدْ وَرَدَ في تَفْسِير قولهِ تَعَالَى:{فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} ، عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ تأخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا وَسَمَّاهُمْ مُصَلِّينَ لَكنَّهُمْ لِمَا تَهَاونُوا بِهَا وَأخَروهَا عَنْ وَقْتِهَا وَعَدهُم بِويل وَهُوَ شِدّةُ الْعَذَابِ وَقِيلَ هُوَ وَادٍ فِي جَهَنَّمْ لَوْ سُيّرتْ فِيهِ جِبَالُ الدُّنْيَا لذَابَتْ مِنْ حَرِّهِ وَهُوَ مَسْكَنْ مَنْ يَتَهَاوَنُ بالصَّلاةِ ويُؤخِرُّهَا عَنْ وَقْتِهَا إِلا أَنْ يَتُوبَ وَيَنْدَمَ وَيَعْزَمَ أَنْ لا يَعُودَ وَيَتُوبَ اللهُ عَليهِ وَقَالَ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ الْمُرَادُ بِذِكْرِ اللهِ فِي هَذِهِ الآيةِ الصَّلواتُ الْخَمْسُ فَمَنْ اشْتُغِلَ بِمَالِهِ فِي بَيْعِهِ وَشِرَائِهِ وَمَعِيشَتِهِ وَضِيعَتِهِ وَأَوْلادِهِ عَنْ الصَّلاةِ فِي وَقْتِهَا كَانَ مَنْ الْخَاسِرينَ. وفي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «كَيْفَ أَنْتِ إِذَا كَانتْ عَليكَ أَمْرَاءُ يُمِيتُونَ الصَّلاةَ» ، أَوْ قَالَ:«يُؤَخِّرُونَهَا عَنْ وَقْتِهَا» .
وَقَالَ تَعَالَى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ} ، قَالَ ابنُ مَسْعُودٍ وَإِبْرَاهِيمْ: أَخَّرُوهَا عَنْ وَقْتِهَا. وَقَالَ سَعِيدْ بِنْ الْمُسَيِّبْ: هُوَ أَنْ لا يُصَلِّي الظُّهْرَ حَتى يَأْتِي الْعَصْرُ وَلا الْعَصْرَ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ وَجَاحِدُ الصَّلاةِ مَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لا يَجْهَلُ وُجُوبَهَا كَمَنْ نَشَأَ بِدَارِ الإِسْلامِ فَهَذَا يَكْفُرُ بِجَحْدِهِ لأَنَّهُ مُكذبٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وإجْمَاعِ الأمَّةِ وَيَصِيرُ مُرْتَدًا