المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ذكر أشياء تحرم ويتأكد تحريمها في حق الصائم: - موارد الظمآن لدروس الزمان - جـ ١

[عبد العزيز السلمان]

الفصل: ‌ ذكر أشياء تحرم ويتأكد تحريمها في حق الصائم:

قَصْدٍ، لَمْ يفْسُدْ صَوْمِهِ، لِمَا وَرَدَ مِنْ أنَّ عَائِشَةِ وَأَمِّ سَلَمَةٍ رضي الله عنهما قَالَتَا:(نَشْهَدُ عَلى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنْ كَانَ لَيُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ غَيْرِ احْتِلَامٍ ثُمَّ يَغْتَسِلُ) .

وَتُكْرَهُ الْمُبَالَغَةُ فِي الْمَضْمَضَةِ وَالاسْتِنْشَاقِ لِلصَّائِمِ، لِمَا وَرَدَ عَنْ لَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَسْبِغْ الْوُضُوءَ، وَخَلِّلْ بَيْنَ الأَصَابِعِ، وَبَالِغْ فِي الاسْتِنْشَاقِ، إلا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا» . وَاللهُ أَعْلَم.

اللَّهُمَّ اجْعَلْ قُلُوبَنَا مَمْلُوءة بِحُبِّكَ وَأَلْسِنَتِنَا رَطِبَةً بِذِكْرِكَ وَنُفُوسَنَا مُطِيعَةَ لأَمْرِكَ وَارْزَقْنَا الزُّهْدَ في الدُّنْيَا وَالإِقْبَالَ عَلَى الآخِرَةِ وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

(فصل) : 2 -‌

‌ ذِكْرُ أَشْيَاءَ تَحْرُمُ وَيَتَأَكَّدَ تَحْرِيمُهَا فِي حَقِّ الصَّائِمِ:

يَجبُ اجْتِنَابُ كُلِّ كِذْبٍ مُحَرَّمٍ، أَمَّا الكَذِبُ لِتَخْلِيصِ مَعْصُومٍ مِنْ قَتْلِ فَوَاجبٌ. قُلْتُ: وَيَتَرجَّحُ عِندي مِثْلُهُ أَيْضًا تَخْلِيصُ مَالِهِ مِنْ ظَالِمٍ أَوْ قَاطِعِ طَرِيقٍ أَوْ غَاصِبٍ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، وَالْمَالُ مُثْمَنٌ وَالأَحْسَنُ يَتَأَوَّلُ، وَلإصْلاحٍ بَيْنَ الزَّوْجَيْن فَمُبَاحٌ لِمَا وَرَدَ عَنْ أُمِّ كُلْثُومٍ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولَُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ وَيَقُولُ خَيْرًا أَوْ يَنْمِى خَيْرًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الدَّاعِي إلى الكَذِب مَحَبَّةُ النَّفْعِ الدُّنْيَوِي وَحُبُّ التُّرَاثِ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُخْبِرَ يَرَى أَنَّ لَهُ فَضْلاً عَلَى الْمُخْبَر بِمَا عَلَّمَهُ فَهُوَ يَتْشَبَّهُ بِالعَالِمِ الفَاضِلِ فَيَظُنُّ أَنَّهُ يَجْلِبُ بِمَا يَقُولُهُ فَضْلاً وَمَسَرَّةً وَهُوَ يَجلِبُ بِهِ نَقْصًا وَفَضِيحَةً فَالكذِبُ رَذِيلَةٌ مَحْضَةٌ مِنْ أَرْذَلِ الرَّذَائِلِ يُنْبِئُ عَنْ تَغَلْغُلِ الفَسَادِ فِي نَفْسِ صَاحِبَها وَعَنْ سُلُوكٍ يُنْشِئُ الشَّرَّ إنْشَاءً فَالكَذِبُ يَتَصَدَّعُ

ص: 368

بِهِ بُنْيَانُ المَجْتَمَعِ وَبِهِ يَخْتَلُّ سَيْرُ الأُمُورِ، وَيُسْقِطُ صَاحِبَهُ مِنْ العُيُونِ وَلا يُوثَقُ فِي قَوْلِهِ، وَلا يُوثَقُ بِهِ فِي عَمَلٍ، وَلا يَرْغَبُ لَهُ مَجْلِسٌ، وَأَحْادِيثُهُ عِنْدَ النَّاسِ مَتْرُوكَةٌ، وَشَهَادَتُهُ مَرْدُودَةٌ وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يُطْبَعُ الْمُؤمِنُ عَلَى الخِلالِ كُلَّهَا إِلا الخِيَانَةَ وَالكذِبَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ.

وَعَنْ بَهْزِ بْنُ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا: «وَيْلٌ لِلْذِي يُحَدِّثُ لِيُضْحِكَ بِهِ القَوْمَ وَيْلٌ لَهُ، وَيْلٌ لَهُ» .

وَعَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: مَا كَانَ خُلُقٌ أَبْغَضَ إِلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ مِنَ الْكَذِبِ وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَكْذِبُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْكَذْبَةَ فَمَا يَزَالُ فِي نَفْسِهِ عَلَيْهِ حَتَّى يَعَلَمَ أَنَّهُ أَحْدَثَ مِنْهَا تَوْبَةً. رَوَاهُ أَحْمَدُ.

وَفِي الحَدِيثِ الآخَرِ أَنَّهُ قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَيَكُونُ الْمُؤمِنُ كذَّابًا قَالَ: «لا» . الحَدِيثِ رَوَاهُ مَالِكُ، وَالبَيْهَقِي فِي شُعَبْ الإِيمَانِ.

وَقَالَ ابنُ القَيِّمِ رحمه الله: إِيَّاكَ وَالكَذِبَ فَإنَّهُ يُفْسِدُ عَلَيْكَ تَصَوُّرَ الْمَعْلُومَاتِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ وَيُفْسِدُ عَلَيْكَ تَصْوِيرَهَا وَتَعْلِيمَهَا لِلنَّاسِ فَإنَّ الكَاذِبَ يُصَوِّرُ الْمَعْدُومَ مَوْجُودًا وَالْمَوْجُودَ مَعْدُومَا وَالحَقَّ بَاطِلاً وَالبَاطِلَ حَقًّا وَالخَيْرَ شَرًّا فَيُفْسَدُ عَلَيْهِ تَصْوُّرَهُ وَعِلْمَهُ عُقُوبَةً لَهُ ثُمَّ يُصَوِّرُ ذَلِكَ فِي نَفْسِ الْمُخَاطَبِ الْمُغْتَرِ بِهِ الرَّاكِنُ إِلَيْهِ فَيُفسِدُ عَلَيْهِ تَصَوُّرَهُ وَعِلْمَه وَنَفْسُ الكَاذِبِ مُعْرِضَة عَنْ الحَقِيقَةِ الْمَوْجُودَةِ تَرَّاعَةٌ إِلى العَدَمِ مُؤْثِرَةٌ لِلْبَاطِلِ وَلِهَذَا كَانَ الكَذِبُ أَسَاسُ الفُجُورِ.

ص: 369

كَمَا قَالَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِى إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِى إِلَى النَّارِ» . وَأَولُ مَا يَسْرِي الكذِبُ مِنْ النَّفْسِ إِلى اللِّسَانِ فَيُفْسِدُهُ ثُمِّ يَسْرِي إلى الجَوَارِحِ فَيُفْسِدُ عَلَيْهَا أَعْمَالَهَا كَمَا أَفْسَدَ عَلَى اللسَانِ أَقْوَالِهِ فَيَعُمُّ الكَذِبَ أَقْوَالَهُ وأعْمَالَهُ وَأَحْوَالَهُ فَيَسْتَحْكِمُ عَلَيْهِ الفَسَادُ وَيَتَرَامَى دَاؤهُ إلى الهُلَكَةِ إنْ لَمْ يَتَدَارَكْهُ اللهُ بِدَوَاءِ الصِّدْقِ بِقَلْعِ تِلْكَ الْمَادَّةِ مِنْ أَصْلِهَا.

وَلِهَذَا كَانَ أَصْلُ أَعْمَالِ القُلُوبِ كُلِّهَا الصِّدْقَ وَأَضْدَادُهَا مِنْ الرِّيَاءِ وَالعُجْبِ وَالكِبُرِ وَالفَخْرِ والخُيلاءِ وَالبَطَرِ وَالأشَر والعَجْزِ وَالكَسَلَ وَالجُبْنِ وَالْمَهَانَةِ وَغَيْرِهَا أَصْلُهَا الكَذِبُ فَكُلُّ عَمَلٍ صَالِحٍ ظَاهِرٌ أَوْ بَاطِنٌ فَمَنْشَؤُهُ الصِّدْقُ وَكُلُّ عَمَلٍ فَاسِدٍ ظَاهِرٍ أَوْ بَاطِنٍ فَمَنْشَؤُوهُ الكَذِبُ، وَاللهُ تَعَالى يُعَاقِبُ الكَذَّابَ بَأَنْ يُقْعِدَهُ وَيُثَبِّطَهُ عَنْ مَصَالِحِهِ وَمَنَافِعِهِ وَيُثِيبُ الصَّادِقَ بَأَنْ يُوَفِّقَهُ لِلْقِيَامِ بِمَصَالِحِ دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ.

وكان الصدق في صدر الإسلام أساسًا في القول والعمل والمعاملة، وخصوصًا فيما يتعلق بالدين وحفظ الحديث.

فقد وُرِثَتْ عن العُلماء الأوائل عُلومُ الدين مَضْبُوطة كامِلَةً كَمَا أُنزِلَت على رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم وحَدَّث عنها.

وكان عُلماءُ الدين وجامِعُوا أَحَادِيثِ النبي صلى الله عليه وسلم يَتَحرونَ صِدقَ الُمَحِّدِث بِشَكْلٍ عَجِيبٍ.

يَدْرُسُونَ حَيَاتَه وَيَتَحقَّقونَ مِنْ أَقواله وأَعماله وأنه يأكل مِنْ كسْب يَدِهِ وَلَمْ يَدخل على سلطان في صُحْبَةٍ أَوْ وَظِيفَةٍ.

وَأنه يُطبّقُ تَعَالِيمَ الدِّينِ كَاملةً ولم تُعْهَدْ عليه كِذْبَة في حَيَاته. فعندها يُؤْخَذُ عنه الحديث النبوي.

ص: 370

ومثالٌ عَلَى مَا ذُكِرَ عن الإمام أحمد رحمه الله أنه سَمِعَ بِوجُودِ حَدِيثٍ عندَ عَالمٍ بدمَشق فسافَر إليهِ مِنْ بغداد حتى وَصَل دمشق فمكث مُدَّةً يسأل عن العالم وعن أخلاقه وَمُعَامَلِته وكلامه.

حتى إذا وَثَقَ مِن صِدقه أتاه مُبَكِّرًا بعد أن اغتسل وتطيب ولبس أحسنَ ثيابِه إجْلالاً لِلْحَدِيثِ وَلِمَنْ يحمله.

ولما اقتربَ مِن بَيْته وَجَدَ العَالِمَ خارجًا مِن بَيْتهِ يَقودُ حِمارَهُ وقد كان حَمَالاً يَكتَسِبُ رِزقَه.

فَرَفَضَ الحِمَارُ أَنْ يَسِيرَ مَعهُ فَحاوَل أَنْ يَجُره أو يسُوقه بمُخْتَلَفِ الوَسَائِلِ وَيأْبَى الحِمار.

فَجَمَعَ لَه طَرفَ جُبَّتِهِ وَقَدَّمَهُ لِلْحِمارِ لِيُوهِمه أَنَّ في الجُبَّةِ شَعِير أَو نحوه فَتَبعَه الحِمَار.

فَنَظَر الإِمام أحمد إلى الجبة فوجَدَهَا خَالِيَةً ما فيها شيء.

فَتَرَكَ أحمدُ العالم والأخْذَ عنه حَيثُ تَبَيَّنَ له كَذبُهُ على الحِمار.

فلا يُؤْتَمَن على الحديث الشريف. أ. هـ.

سَلامِي عَلَى أَهْلِ الحَدِيثِ فَإِنَّنِي

نَشَأْتُ عَلَى حُبِّ الأَحَادِيثَ مِن مَهْدِي

هُمُوا بَذَلُوا في حِفْظِ سُنَّةِ أَحْمَدٍ

وَتَنْقِيحِهَا مِنْ جُهْدِهِمْ غَايةَ الْجُهْدِ

وَأَعْنِي بِهِ أَسْلافَ أُمَّةِ أَحْمَدٍ

أُولَئكَ في بَيْتِ القَصِيدِ هُمُوا قَصْدِي

أُوَلئكَ أَمْثَالِ البُخَارِي وَمُسْلمٍ

وَأَحْمَدَ أَهْلُ الجِدِّ فِي العِلم والجَدِّ

بُحُورٌ وَحَاشَاهُمْ عَنْ الجَزْر إِنَّمَا

لَهُمْ مَدَدٌ يَأْتِي مِنْ اللهِ بالمدِّ

رَوَوْا وَارْتَوَوْا مِنْ بَحْرِ عِلْمِ مُحَمَّدٍ

وَلَيْسَتْ لَهُمْ تِلْكَ الْمَذَاهِبِ مِنْ وَرْدِ

كَفَاهُمْ كتابُ اللهِ وَالسُّنَةُ التِي

كَفَتْ قَبْلَهم صَحْبَ الرَّسُولِ ذَوِي المَجْدِ

فَمُقْتَدِيًا بَالحقِ كُنْ لا مُقَلِّدَا

وَخَلِّ أَخَا التَّقْلِيدِ فِي الأَسْرِ بالقدِّ

فَشَتَّانَ مَا بَيْنَ الْمَقِّلدِ في الهُدى

وَمَنْ يَقْتَدِي وَالضِّدُّ يُعْرَفُ بالضِّدِّ

ص: 371

فَمَنْ يَقْتَدِي أَضْحَى إِمَام مَعَارَفٍ

وَكَانَ أُوَيْسًا فِي العِبَادَةِ وَالزُّهْدِ

فَمَا اسْتُجْلِبَتْ مَصَالِحُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ بِمِثْلِ الصِّدْقِ وَلا مَفَاسِدُهُمَا وَمَضَارُّهُمَا بِمِثْلِ الكَذِبْ قَالَ تَعَالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} ، وَقَالَ:{هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} ، وَقَالَ:{فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ} .

شِعْرًا:

عَلَيْكَ بِالصِّدِقِ وَلَوْ أَنَّهُ

أَحْرَقَكَ الصِّدْقُ بِنَارِ الوَعِيدْ

وَاطْلُبْ رِضَى المَوْلَى فَأشقى الوَرَى

مَنْ أَسْخَطَ المَوْلَى وَأَرْضَى العَبِيدْ

آخر:

عَوِّدْ لِسَانَكَ قَوْلَ الصِّدْقِ تَحْظَ بِهِ

إِنَّ الِّلسَانَ لِمَا عَوَّدْتَ يَعْتَادُ

مُوَكَّلٌ بِتَقَاضِي مَا سَنَنْتَ لَهُ

فِي الصِّدْقِ وَالكِذْبِ فَانْظُرْ كَيْفَ يَرْتَادُ

اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإِيمَانِ وَثَبِّتْهَا عَلَى قَوْلِكَ الثَّابِتْ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينِ وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينِ يَا أَكْرَمَ الأَكْرَمِينَ. وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

(فصل) : في بَيَانِ أَنْوَاعِ الْكَذِبِ

وَيَتَنَوَّعُ الكَذِبُ إِلى أَنْوَاعٍ، فَمَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بَأَمْوَالِ النَّاسِ وَأَعْرَاضِهم وَأَنْفُسِهم هُوَ مِنْ أَشَدِّ الكَبَائِرِ وَأَقْبَحِ الجَرَائمِ التي تُضِرُّ بَالْمُجْتَمعِ الإِنْسَانِي، وَتَقْضِي عَلى العَدْلِ، فإنَّ الذِي يَقُولُ الزُّورَ لِيَقْتَطِعَ حُقُوقَ عِبَادِ اللهِ أَوْ يَثْلِمَهُمْ فِي أَعْرَاضِهِمْ مِنْ كُلِّ مَا يَضُرُّ الإِنْسَانِيَّةَ وَيُؤْلِمُهَا.

ص: 372

وَقَدْ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِغَضَبِ اللهِ وَكَانَ سَبَبًا في بَثِّ الفَوْضَى وَإِغْرَاءِ الْمُجْرِمِينَ عَلى اقْتِرَافِ الْجَرَائِمْ فَيَنَالُونَ مِنْ أَعْرَاضِ النَّاسِ وَأَمْوَالِهِمْ مَا يَشْتَهُونَ وَهُمْ آمِنُونَ مِنْ العُقُوبَةِ لأَنَّهُمْ يَجِدُونَ شَاهِدَ الزُّورِ يُسَاعِدُهُمْ عَلَى الإفْلاتِ مِنْهَا، وَقَدْ أَكْبَرَ صلى الله عليه وسلم خَطَرَ قَوْلِ الزُّورِ وَأَعْظَمَ جُرْمَهُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ قَالَ:«الإِشْرَاكُ بَاللهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ» . وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ، فَقَالَ:«أَلا وَقَوْلَ الزُّورِ» . فَمَا زَالَ يُكرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ. فَجُلُوسُهُ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ اتِّكَائِهِ اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِ، وَصَدَّرَ قَوْلُه بَأَدَاةِ التَّنْبِيهِ وَكَرَّرَ كَلِمَتَهُ حَتَّى شَقَّ عَلَى نَفْسِهِ وبَدَا الغَضَبُ فِي وَجْهِهِ، وَتَمَنَّى أَصْحَابُهُ لَوْ سَكَتَ.

وَقَوْلُ الزُّورِ يَشْمَلُ الشَّهَادَةَ بِالبَاطِلِ وَالْحُكْمَ الْجَائِرَ وَرَمْيَ الأَبْرِيَاءِ وَالْقَوْلَ عَلَى اللهِ بِلا عِلْمٍ.

وَعَنْ خُرَيْمِ بِنْ فَاتِكٍ، قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلاةَ الصُّبْحِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَامَ قَائِمًا، فَقَالَ:«عُدِلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ بِالإشْرَاكِ بِاللَّهِ» . ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَرَأ:{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وابْنُ مَاجَة.

وَشَاهِدُ الزُّورِ يُسِيءُ إِلى نَفْسِهِ إِذْ يَبِيعُ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ، وَيُسِيءُ إِلى مَنْ شَهِدَ لَهُ بِإعَانَتِهِ عَلَى ظُلْمِهِ، وَيُسِيءُ إِلى منْ يَشْهَدُ عَلَيْهِ في إِضَاعَةِ حَقِّهِ، وَيُسِيءُ إِلى القَاضِي الذي جَلَسَ يَتَحَرَّى الْعَدْلَ لِيحُكُم بِهِ وَيُنْصِفَ الضّعَفَاءِ مِنْ الأَقْوِيَاءِ وَيَنْتَزِعَ حَقَّ الْمَظْلُومِ مِنْ الظَّالِمَ بَأَنَّهُ بِشَهَادَتِهِ بِالزُّورِ يُظَلِّلُه وَيَسُدُّ أَمَامَهُ طَرِيقَ الْحَقِّ وَيَفْتَحْ بَابَ البَاطِلِ.

وَبِهَذَا يَشُلُّ يَدَ العَدَالَةِ أَنْ تَقْتَصَّ لِلْمَظْلُومِ مِنْ الظَّالِمِ وَيُسِيءُ شَاهِدُ الزُّورِ إِلى أَوْلادِهِ وَأُسْرَتِهِ لأَنَّهُ يُلَوِّثَهَا بِهَذِهِ السُّمْعَةِ السَّيِّئَةِ وَالفَائِهَةِ

ص: 373