الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القَبِيحَةِ وَيَحْمِلُ النَّاسَ عَلى أَنْ يَقُولُوا لَهُمْ عَائِلَةُ الْمُزَوِّرِ، وَأَعْظِمْ بِهَا مِنْ أَذِيَّةٍ لِلْمُسْتَقِيمِينَ.
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي الْحَدِيث أَنَّ الكَذبَ مِنْ صِفَاتِ النِّفَاقِ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِن الشَّكِ بَعْدَ اليَقِينِ، وَمِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، ومِن شَدَائِدِ يَوْم الدِّين، وَنَسْأَلُكَ رِضَاكَ وَالْجَنَّةِ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ سَخَطِكَ والنَّارِ، اللَّهُمَّ أَتْمِِمْ عَلَيْنَا نِعْمَتِكَ الوَافِيَةَ وَارْزُقْنَا الإِخْلاصَ فِي أَعْمَالِنَا وَالصِّدْقَ فِي أَقْوَالِنَا وَعُدْ عَلَيْنَا بإصْلاحِ قُلُوبِنَا وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
في التَّحْذِيرِ مِنْ الغِيبَةِ
وَيَجِبُ اجْتِنَابَ الغَيْبَةِ قَالَ اللهُ تَعَالى: {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً} أَيْ لا يَتَنَاوَلْ بَعْضُكُمْ بَعْضَا بِظَهْرِ الغَيْبِ بِمَا يَسُوؤُهُ ثُمَّ ضَرَبَ تَعَالَى لِلْغَيْبَةِ مَثَلاً فَقَالَ: «أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ» ، وَعَنْ البرَاءِ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«إِنَّ أَرْبَى الرِّبَى اسْتِطَالَةُ الرَّجُلِ فِي عِرْضِ أَخِيهِ» . وَفي الْحَدِيثِ الآخَرِ: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ» .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «أَنَّ مِنْ الكَبَائِرِ اسْتِطَالَةُ الْمَرْءِ فِي عِرْضِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ» . فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَلِّل كَلامَهُ إلا في ذكْرِ الله وَمَا وَلاهُ لِيَسْلَمُ وَيَغْنَمْ.
أسْنَى كَلامِكَ مَا أَردْتَ بِفِعْلِهِ
…
رُشْدًا وَخَيْر كَلامِكَ التَّسْبِيحُ
شِعْرًا:
أَقْلِلْ كَلامَكَ وَاسْتَعِذْ مِنْ شَرِّهِ
…
إِنَّ البَلاءَ بِبَعْضِهِ مَقْرُونُ
وَاحْفَظْ لِسَانَكَ وَاحْتَفِظْ مِنْ غَيِّه
…
حَتَّى يَكُونَ كَأنَّهُ مَسْجُونُ
وَكِّلْ فُؤادَكَ باللِّسَانِ وَقُلْ لَهُ
…
إِنَّ الكَلامَ عَلَيْكُمَا مَوْزُونُ
آخر:
إِنْ صُمْتَ عَنْ مَأكل العَادِي وَمَشْربِهِ
…
فَلا تُحَاولْ عَلَى الأَعْراضِ إِفْطَارَا
يَغْدُ عَلَى كَسْبِ دِينَارٍ أَخُو عَمَلَ
…
لَوْ يُوزَنُ الإِثْمُ فِيهِ كَانَ قِنْطَارَا
وَعَنْ سَعِيدِ بن زَيْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ مِنْ أَرْبَى الرِّبَا الاسْتِطَالة في عِرْضِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا الغِيبَةُ؟ قِيلَ: قَدْ حَدَّهَا النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَدْ رَوَى أَبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ» ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «ذِكْرُك أَخَاك بِمَا يَكْرَهُ» . قَالَ (أحدهم) : أَفَرَأَيْت إنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟
قَالَ: «إنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ اغْتَبْته، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَمِنْ الغَيْبَةِ التَّمْثِيلِيَّاتِ لِلأَشْخَاصِ وَالْهَيْئَاتِ وَمُحَاكَاتِهِمْ في اللِّبَاسِ عَلَى وَجْهِ التَّنَقُّصِ وَالاسْتِهْتَارِ كَمَا يَفْعَلُهُ الْمُنْهَمِكُونَ فِي أَكْلِ لُحُومِ الغَوَافِلِ. فَتَكُونُ الغِيبَةُ بِالتَّعْرِيضِ وَبِالكِنَايَةِ وَبِالْحَرَكَةِ وَبِالرَّمْزِ وَالإِشَارَةِ بِاليَدِ وَكُلُّ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْمَقْصُودُ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الغِيبَةِ وَهُوَ حَرَامٌ.
فَقَدْ وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: دَخَلَتْ عَلَيْنَا امْرَأةٌ فَلَمَّا وَلَّتْ أَوْمَأَتُ بِيَدِي أَيْ قَصِيرَةُ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: «اغْتَبْتِهَا» . وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرمِذِي وَصَحَّحَهُ، قَوْلُ عَائِشَةَ عَنْ صَفِيَّةَ أَنَّهَا: قَصِيرَةٌ وَأَنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ» .
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بَالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «وَنَظَرَ فِي البَابِ فَإِذَا قَوْمٌ يَأْكُلُونَ الْجِيف، قال: مَنْ هَؤُلاء يَا أَخِي يَا جِبْرِيلُ» ؟ قَالَ الذين يَأكُلُونَ لُحُومَ النَّاس» .
شِعْرًا:
عَلامَ رَغِبْتَ بَالأَوْزَار حَتَّى
…
رَغِبْتَ عَنْ القِيامِ بَكُلِّ فَرْضِ
بِضُرِّ النَّاسِ كَمْ تَغْدُوا وَلُوْعًا
…
بَأَنْيَابِ تُمَزِّقُ كُلَّ عَرْضِ
فَوَاعَجَبًا لِمُغْتَابٍ زَنِيم
…
بِزُورِ القَوْلِ وَالبُهْتَانِ يَمْضِي
وَلَمْ يَخْتَرْ سُلُوكًا غَيْرَ غَدْرٍ
…
بِهِ قَرْضَ الأَكَارِمَ شَرَّ قَرْضِ
يَظَلُّ عَلَى الفَسَادِ وَلَيْسَ يَدْرِي
…
بَأَنَّ الله بَيْنَ النَّاسِ يَقْضِي
آخر:
بَلاءٌ لَيْسَ يُشْبِهُهُ بَلاء
…
عَدَاوَةِ غَيْرَ ذِي حَسَبٍ وَدِينِ
يُبِيحُكَ مِنْهُ عِرْضًا لَمْ يَصُنْهُ
…
وَيَرْتَعُ مِنْكَ فِي عِرْض مَصُونِ
آخر:
إِذَا لَؤمَ الفَتَى لَمْ يَخْشَ مِمَّا
…
يُقَالُ وَإِنْ تَرَادَفَهُ الملامُ
آخر:
وَذِي حَسَدٍ يَغْتَابُنِي حَيْثُ لا يَرَى
…
مَكَانِي وَيُثْنِي صَالحًا حَيْثُ أَسْمَعُ
تَوَرَّعْتُ أَنْ أغْتَابَهُ مِنْ وَرَائِهِ
…
بِمَا لَيْسَ فيهِ وَهُوَ لا يَتَوَرَّعُ
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَكَلَ بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ أَكْلَةً فَإِنَّ اللَّهَ يُطْعِمُهُ مِثْلَهَا فِي جَهَنَّمَ، وَمَنْ كُسِيَ ثَوْبًا بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ فَإِنَّهُ يَكْسُوهُ مِثْلَهُ فِي جَهَنَّمَ، وَمَنْ قَامَ بِرَجُلٍ مَقَامَ سُمْعَةٍ وَرِيَاءٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُومُ بِهِ مَقَامَ سُمْعَةٍ وَرِيَاءٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
فَالغِيبَةُ عَادَةٌ مَرْذُوَلَةٌ، كَثِيرًا مَا تَقْطَعُ الصِّلَةَ بَيْنَ النَّاسِ، وَتُثِيرُ الأَحْقَادَ، وَتُشَتِّتُ الشَّمْلَ، ثُمَّ هِيَ مَعْ ذَلِكَ مَضِيَعَةٌ لِلْوَقْتِ بَالاشْتِغَالِ بِمَا يَضُرُّ الإِنْسَانَ، وَلا يَنْفَعُهُ. وَمِمَّا تَقَدَّمَ يَتَبَيَّنُ تَحْرِيمُ الغِيبَةِ وَخَطَرُهَا وَشَرّهَا فَإِذًا يَجِبُ الإنْكَارُ عَلَى الْمُغْتَابِ وَرَدْعُهُ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ امْرِئٍ يَخْذُلُ مُسْلِمًا فِي مَوْطِنٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ إلا خَذَلَهُ اللهُ في مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ، وَمَا مِنْ امْرئٍ مُسْلِمٍ يَنْصُرُ امْرَءًا مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ إِلا نَصَرَهُ اللهُ في مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ» .
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ أُذِلَّ عِنْدَهُ مُؤْمِنُ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى نَصْرِهِ فَلَمْ يَنْصُرْهُ أَذَلِّهُ اللهُ عَلَى رُؤوسِ الْخَلائِقِ» .
وَقَالَ عُمَرُ بن الْخَطَّابِ رضي الله عنه فِي خُطْبَتِهِ: لا يُعْجِبَنَّكُمْ مِنْ الرَّجُلِ طَفْطَفَتُهُ وَلَكِنْ مِنْ أَدَّى الأَمَانَةَ، وَكَفَّ عَنْ أعْرَاضِ النَّاسِ فَهُوَ الرَّجُلُ. وَقَالَ أَيْضًا: كَفَى بِالْمَرْءِ عَيْبًا أَنْ يَسْتَبِينَ لَهُ مِنْ النَّاسِ مَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ وَيَمْقَتُ النَّاسَ عَلَى مَا يَأْتِي.
قَالَ بَعْضُ العُلَمَاءِ: اعْلَمْ أَنَّ الغِيْبَةِ مَعَ تَحْرِيمِهَا شَرْعًا وَعَقْلاً هِيَ عَيْنُ العَجْز وَنَفْسُ اللُؤْمِ وَدَلِيلُ النَّقْصَ تَأبَاهَا العُقُولُ الكَامِلَةُ وَالنُّفُوسُ الفَاضِلَةُ لِمَا فِيهَا مِنْ انْحِطَاطِ الرُّتْبَةِ وَانْخِفَاضِ الْمَنْزِلَةِ. قَالَ عَلَيُّ بن الْحُسَيْنَ: الغِيْبَةِ إِدَامُ كِلابِ الناسِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: يَا ابْنَ آدَمَ لَنْ تَنَالَ حَقِيقَةَ الإيمَانِ حَتَّى لا تَعِيبَ النَّاسَ بِعَيْبٍ هُوَ فِيكَ وَتَبْدَأَ بِذَلِكَ الْعَيْبِ مِنْ نَفْسِكَ فَتُصْلِحهُ فَمَا تُصْلِحُ عَيْبًا إِلا تَرَى عَيْبًا آخَرَ فَيَكُونُ شُغْلُكَ فِي خَاصَّةِ نَفْسِكَ. وَقِيلَ لِرَّبِيعِ بْنِ خَيْثَمْ: مَا نَرَاكَ تَعِيبُ أَحَدًا وَلا تَذُمُّهُ فَقَالَ: مَا أَنَا عَلَى نَفْسِي بِرَاضٍ فَأَتَفَرَّغَ مِنْ عَيْبِهَا إلى غَيْرِهَا وَلَقَدْ أَحْسَنَ القَائِلُ:
شَرُّ الوَرَى مَنْ بِعَيْبِ النَّاسِ مُشْتَغِلاً
…
مُثْلُ الذُّبَابِ يُرَاعِي مَوْضِعْ العِلَلِ
آخر:
وَأُكْرِرُ نَفْسِي عَنْ جَزَاءِ بِغِيبَةٍ
…
وَكُلُّ اغْتِيَابٍِ جُهْدُ مَا لا لَهُ جُهْدُ
آخر:
إِيَّاكَ إيَّاكَ أَعْرَاضَ الرِّجَالِ فَإِنْ
…
رَاقَتْ بِفِيْكَ فَإِنَّ السُّمَ فِي الدَّسَم
آخر:
…
إِذَا مَا ذَكَرْتَ النَّاسَ فَاتْرُكْ عُيُوبِهُمْ
…
فَلا عَيْبَ إلا دُونَ مَا مِنْكَ يُذْكَرُ
فَإِنْ عِبْتَ قَوْمًا بِالذي هُوَ فِيهَمْ
…
فَذَلِكَ عِنْدَ اللهِ وَالنَّاسِ مُنْكَرُ
آخر:
يَمْنَعُنِي مِنْ عَيْبِ غَيْرِي الذِي
…
أَعْرَفُهُ عَنْدِي مِنْ العَيْبِ
عَيْبِي لهمُ بالظن مِنّي بَدَا
…
وَلَسْتَ مِنْ عَيْبِي فِي رَيْبِ
إِنْ كَانَ عَيْبِي غَابَ عَنْهُمْ فَقَدْ
…
أَحْصَى عُيوبِي عَالم الغَيْبِ
وَبالتَّالِي فَخَطَرُ اللِّسَانِ عَظِيمٌ لَيْسَ كَغَيْرِهِ مِنْ الأَعْضَاءِ فَإِنَّ العَيْنَ لا تَصِلُ إِلى غَيْرِ الأَلْوَانِ وَالصُّوَرِ وَالأُذَنُ لا تَصِلُ إلى غَيْرِ الأَصْوَاتِ وَاليَدُ لا تَصِلُ إِلى غَيْرِ الأَجْسَامِ وَاللَّسَانُ يَجُولُ في كُلِّ شَيْءٍ وَبِهِ يَبِينُ الإيمَانُ مِنْ الكُفْرِ.
لعُمْركَ مَا لِلْمَرْءِ كالرَّبِ حَافِظُ
…
وَلَيْسَ سِوَى القُرْآن لِلْمَرْءِ وَاعِظُ
لِسَانك لا يُلقِيكَ فِي الغي لَفَظُهُ
…
فَإِنَّكَ مَأْخُوذٌ بِمَا أَنْتَ لافِظُ
وَقَدْ رَوَى أَنَسُ بِنْ مَالِكٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «لا يَسْتَقِيمَ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُه وَلا يَسْتَقِيمَ قَلْبُه حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ» .
قُل لِلَّذي لَسْتُ أَدْرِي مِن تَلَوُّنِهِ
…
أَنَاصِحٌ أَمْ عَلى غِشٍّ يُداجيني
إِنّي لأَكْثِرُ مِمّا سُمتَني عَجَبًا
…
يَدٌ تَشُجُّ وَأُخْرَى مِنْكَ تَأسُوني
تَغتابَني عِنْدَ أَقْوَامٍ وَتَمْدَحُنِي
…
في آخَرينَ وَكُلٌّ عَنْكَ يَأتِينِي
هَذَانِ أَمْرَانِ شَتَّى الْبَوْنُ بَينَهُمَا
…
فَاِكفُف لِسَانَك عَن ذمِّي وَتَزَينِي
لَو كُنْتُ أَعْلَمُ مِنْكَ الوِدَّ هَانَ إذًا
…
عَلَيَّ بَعْضُ الَّذي أَصْبَحْتَ تُولِينِي
لا أَسْأَلُ النَّاسَ عَمَّا فِي ضَمَائِرهم
…
مَا فِي ضَمِيري لهمُ مِن ذَاكَ يَكْفِينِي
أَرْضَى عن الْمَرْءِ مَا أَصْفَى مَوْدَّتَهُ
…
وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ البَغْضَاءِ يُرْضِينِي
وَاللهِ لَوْ كَرِهَتْ كَفِّي مُصَاحَبَتِي
…
لَقُلْتُ إِذْ كَرِهَتْ قُرْبى لَهَا بَيْنِي
ثم انْثَنَيْتُ على الأخْرَى فَقُلْتُ لَهَا
…
أَنْ تُسْنِدِينِي وِإلا مِثْلَهَا كُونِي
لا أَبْتَغِي وُدَّ مَنْ يَبْغِي مُقَاطَعَتِي
…
وَلا أَليِنُ لِمَنْ لا يَبْتَغِي لَيْنِي
إِنِّي كَذَاكَ إِذَا أَمْرٌ تَعرَّضَ لِي
…
خَشِيتُ مِنْهُ عَلَى دُنْيَايَ أَوْ دِينِي
خَرَجْتُ مِنْهُ وَعِرْضِي مَا أُدَنّسُهُ
…
وَلَمْ أَقُمْ غَرَضًا لِلَّنْذِلِ يَرْمِينِي
رُبَّ امرِئٍ أَجْنَبِيٍّ عَنْ مُلاطَفتِي
…
مَحْضِ المَوَدَّةِ في البَلْوَى يُوَاسِينِي
ومُلْطفٍ بِي مُدَارٍ ذِي مُكَاشَرةٍ
…
مُغْضٍ عَلَى وَغَر في الصَّدْرِ مَكْنُونِ
لَيْسَ الصَّدِيقُ الذي تُخْشَى بَوَادرهُ
…
وَلا العَدُوّ عَلَى حال بِمَأمُونِ
يَلُومنِي النَّاسُ فِيمَا لَوْ أُخُبِّرِهُم
…
بالعُذْرِ مِنِّي فِيه لَمْ يَلُومُونِي
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِصَالِحِ الأَعْمالِ وَاكْفِنَا بِحَلالِكَ عَنْ حَرَامِكَ وَبِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرْ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
(فَصْلٌ) : وَفي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ مَا فِيهَا يَزِلُّ بِهَا في النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ» . وَأَخْرَجَ الترمِذي وَلَفْظهُ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنَ الشَّرِّ مَا يَعْلَمُ مَبْلَغَهَا يَكْتُبُ اللهُ لَهُ بِهَا عَلَيْهِ سَخَطَهُ إِلى يَوْمِ القِيامَةِ» . رَوَاهُ في شَرْحِ السُّنَّةِ، وَرَوَاهُ مَالِكُ، وَالتِّرْمِذي، وَابْنُ مَاجَة نَحْوَهُ.
فَالغِيبَةُ مِنْ آفَاتِ اللِّسَانِ وَمِنَ الذُّنُوبِ التِّي قَلَّ مَنْ يَسْلَمُ مِنْهَا كَالكَذِبِ وَالرِّيَاءِ وَالرِّبَا وَالمُدَاهَنَة.
وَإِذَا فَهِمْتَ مَا سَبَقَ فَاعْلَمْ أَنَّ الذُّنُوبَ المُتَعَلِّقَةِ بِحُقُوقِ العِبَادِ لا تُمْحَى إلا أَنْ عَفَوْا عَنْهَا أَوْ رُدَّتْ لَهُمْ مَظَالِمَهُمْ، فَقَدْ وَرَدَ عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«الدَّوَاوِينُ عِنْدَ اللهِ ثَلاثَةٌ: دِيوَانٌ لا يَعْبَأُ اللهُ بِهِ شَيْئاً، وَدِيوَانٌ لا يَتْرُكُ اللهُ مِنْهُ شَيْئاً، وَدِيوَانٌ لا يَغْفِرُهُ اللهُ فَأَمَّا الدِّيوَانُ الذِي لا يَغْفِرُهُ اللهُ فَالشِّرْكُ بِاللهِ» .
قال تعالى: {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} الآية، وقال تعالى:{إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ} .
وَأَمَّا الذِي لا يَعْبَأُ اللهُ بِهِ شَيْئاً فَظُلمُ العَبْدِ نَفْسَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ مِنْ صَوْمِ يَوْمِ تَرَكَهُ أَوْ صَلاةٍ، فَإِنَّهُ يَغْفِرُ ذَلِكَ وَيَتَجَاوَزَ إنْ شَاءَ، وَأَمَّا الدِّيوَانِ الذِي لا يَتْرُكُ مِنْهُ شَيْئاً فَظُلمُ العِبَادِ بَعْضَهُمْ بَعْضًا القِصَاصُ لا مَحَالَةَ. رَوَاهُ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِهِ، وَالحَاكِمْ فِي مُسْتَدْرَكِهِ فَظُلْمُ العَبْدِ نَفْسَهُ بِيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ هُوَ أَخَفُّ الدَّوَاوِينِ وَأَسْرَعُهَا مَحْوًا فَإِنَّهُ يُمْحَى بِالتَّوْبَةِ وَالاسْتِغْفَارِ والحَسَنَاتِ المَاحِيَةِ وَالمَصَائِبِ المُكَفِّرَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَلا رَيْبَ أَنَّ الغِيبَةَ جَنَابَةٌ عَلَى أَعْرَاضِ النَّاسِ وَهُمْ غَافِلُونَ فَكَفَّارَتُهَا أَنْ يَتَحَلَّلَ لِمَنْ اغْتَابَهُ وَيَطْلُبَ مِنْهُ العَفْوَ إِنْ كَانَ لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ وَيَتُوبُ وَيَتَنَدَّمُ وَيَسْتَغْفِرُ لِمَنْ اغْتَابَهُ وَيَذْكُرُهُ بِمَا فِيهِ مِنَ الخِصَالِ الحَسَنَةِ عِنْدَ مَنِ اغْتَابَهُ عِنْدَهُمْ لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَرْحَمَهُ وَيَغْفِرَ لَهُ إِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ أَنَسٍ وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنْ كَفَّارَةِ الغِيبَةِ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لِمَنْ اغْتَبْتَهُ تَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَلَهُ» .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا تَرَتَّبَ عَلَى الغِيبَةِ مَصْلَحَةٌ أَوْ دَرْءُ مَفْسَدَةٍ كَانَتْ لازِمَةً وَإِذَا تَرَتَّبَ عَلَيْهَا أَمْرٌ جَائِزٌ فَجَائِزَةٌ، وَيُمْكِنْ ضَبْطُ الأَوَّلُ في خَمْسَةِ أُمُورٍ أَوْ سِتَّةِ أُمُورٍ.
الأَوَّلُ: المَظْلُومُ الذِي يُرِيدُ أَنْ يَشْكُو لِمَنْ يَرْفَعُ مَظْلَمَتَهُ، فَلَهُ أَنْ يَذْكُرَ عَيْبَ ظَالِمِهِ الذِي يَحْتَاجُ إِلَيَهِ في بَيَانِ حَقِّهِ.
الثَّانِي: الاسْتِعَانَةُ عَلَى تَغْييرِ المُنْكَرِ لِمَنْ يَظُنُّ أَنَّ لَهُ قُدْرَةً عَلَى إِزَالَتِهِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَقُولُ: إِنَّ فُلانًا ارْتَكَبَ كَذَا وَفَعَلَ كَذَا.
الثَّالِثُ: الاسْتِفْتَاءُ فَإِنَّهُ يَجُورُ لِلْمُسْتَفْتِي أَنْ يَقُولَ لِلْمُفْتِي: إِنَّ فُلانًا ظَلَمَنِي فِي كَذَا وَكَذَا، فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ مَثَلاً؟
الرَّابِعُ: التَّحْذِيرُ فَيُحَذِّرُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ شَرَّ مَنْ يَتَصَدَّى لِلزَّعَامَةِ فِي أُمُورِهِمْ العَامَّةُ، أَوْ مَنْ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ القَضَاءُ فِي مَصَالِحِهِمْ؛ أَوْ مَنْ يَتَصَدَّى لإفْتَائِهِمْ وَتَعْلِيمِهِمْ، كَالزُّعَمَاءِ فِي الشّؤون الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَويَّةِ وَالشُّهُودِ وَالْمُدَرِّسِينَ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّنْ يُشْتَرَطُ فِيهِمْ الأَمَانَةِ والاتِّصَافِ بِمَكَارِمِ الأَخْلاقِ، فَيَصِحُّ أَنْ يُبَيِّنَ مَا فِيهِمْ مِنْ النَّقَائِصْ وَالعُيُوبِ وَيَرْفَعَ بَأمْرِهِمْ لَيُبْعَدُوا.
الْخَامِسُ: أَنْ يَتَجَاهَرَ بِفِسْقِهِ، وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم:«كُلُّ أُمَّتِي مُعَافَى إلا الْمُجَاهِرُونَ» .
حَذَارِ حَذارِ مِنْ شَيْطَانِ إنْسٍ
…
بِهِ لَعِبَ الْهَوَى مَع شَرِّ َرَهْطِ
يُرِيكَ تَمَلُّقًا مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ
…
وَيُبْدِي لِلخِدَاعِ لِسَانَ بَسْطِ
رُويْدَكَ لا تُغَرَّ بِهِ وَحَاذِرْ
…
وُقُوعَكَ فِي حَضِيضِ هَوانِ سُخْطِ
فَلا تَصْحَبْ سِوَى خِلٍّ تَحَلَّى
…
بِإيمَانٍ قَويمٍ لَيْسَ يُخْطِي
تَنَلْ عِزًّا وَمَجْدًا وَاعْتِبَارًا
…
وَرَبُّكَ خَيْرَ فَضْلٍ مِنْهُ يُعْطِي
اللَّهُمَّ وفقنا لِصَالِح الأعمال واكفنا بِحَلالِكَ عَنْ حَرَامِكَ وَبِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِواك إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قدير. وَاللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.
(فَصْلٌ)
وَأَسْبَابُ الغِيبَةِ أَحَدَ عَشَرَ:
1-
تَشَفِّي الغَيْظِ بِذِكْرِ مَسَاوِي الْمَوْقُوعِ في عِرْضِهِ بِالغِيبَةِ قَوْلاً أَوْ فِعْلاً.
مُوَافَقَةُ الأَقْرَانِ وَالزُّمَلاءِ وَمُسَاعَدَتُهُمْ وَيَرَى ذَلِكَ فِي حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ، وَأَنَّهُ لَوْ أَنْكَر عليهم اسْتَثْقَلُوه فيُسَاعِدُهم على ذلك.
3-
أَنْ يَسْتَشْعِرَ مِنْ إِنْسَانٍ أَنَّهُ سَيَقْصِدُهُ وَيُطَوِّلُ لِسَانَهُ عَلَيْهِ أَوْ يَقْبِّحَ حَالَهُ عِنْدَ مُحْتَشِمٍ فَيُبَادِرَهُ فَيَطْعَنُ فِيهِ لِيُسْقِطَ شَهَادَتَهُ أَوْ يَبْتَدِئ بِذكر ما فيه صَادِقًا عَلَيْهِ لِيَكْذِبَ عَلَيْهِ بَعْدَهُ فَيُروجُ كذِبَهُ بِالصِّدْقِ الأول نَسأل الله العافية.
وَلْيَحْذَرِ الإنْسَانُ مِنْ ذِي الوَجْهَين الذي يَأْتِي هَؤُلاء بوجْه وهَؤُلاء بوجه قال بعضهم:
يَسْعَى عَلَيْكَ كَمَا يَسْعَى إِلَيْكَ فَلا
…
تَأْمَنْ غَوَائِلَ ذِي وَجْهَينُ كَذَّابِ
4-
أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِ شَيْءٌ فَيَذْكُرَ أَنَّ الذِي فَعَلَهُ فُلانٌ وَيَتَبَرَّأَ مِنْهُ مَعَ أَنَّ التَّبَرُّأَ يَحْصَلُ بِدُونِ أَنْ يَذْكُرَ الغَيْرَ بِشَخْصِهِ.
5-
أَنْ يَنْطَوِي عَلَى عَدَاوَةِ شَخْصٍ وَيَحْسِدَهُ فَيَرْمِيهِ بِمَساوِئ وَمَعائِبَ يَنْسِبُهَا إِلَيْهِ لِيَصْرِفَ وُجُوهَ النَّاسِ عَنْهُ وَيُسْقِطَ مَهَابَتَهُ وَمَكَانَتَهُ مِنْ النُّفُوسِ وَيَقْصِدُ بِذَلِكَ إِثْبَاتُ فَضْلِ نَفْسِهِ وَلَكِنَّ العَاقِلَ اللَّبِيبَ يَعْرِفُ أَنَّهُ مَا أَضَرُّ عَلَى الأَعْدَاءِ وَلا أَشَدُّ مِنْ التَّمَسُّكِ بِالأَخْلاقِ الفَاضِلَةِ وَالاعْتِرَافِ بالفَضْلِ لأَهْلِهِ كَمَا قِيلَ:
وَمَا عَبَّرَ الإِنْسَانُ عَنْ فَضْلِ نَفْسِهِ
…
بِمِثْل اعْتِقَادِ الفَضْلِ فِي كُلِّ فَاضِلِ
وَلَيْسَ مِنْ الإنْصَافِ أَنْ يَدْفَعَ الفَتَى
…
يَدَ النَّقْصِ عَنْهُ بِانْتِقَاصِ الأَفَاضِلِ
آخر:
أَرَى كُلَّ إنْسَانٍ يَرَى عَيْبَ غَيْره
…
وَيَعْمَى عَنْ العَيب الذي هو فيه
وما خَيْرُ مَنْ تَخْفَى عَلَيْهِ عُيُوبُهُ
…
وَيَبْدُو لَهُ العَيْبُ الذي بَأَخِيهِ
وَكَيْفَ أَرَى عَيْبًا وَعَيْبِي ظَاهِرٌ
…
وَمَا يَعْرِفُ السَّوْءاتِ غَيْرُ سَفِيهِ
فَإِذَا رَأَيْتُ إِنْسَانًا مُبْتَلَى بِسَبِ الغَوَافِلِ وَأَكْلُ لُحُومِهم يُريد بذلكَ رِفعةَ نَفْسِهِ وَخَفْضِ الغَيْرِ كَأنْ يَقُولَ: فلانٌ جَاهِلٌ، أَوْ فَهْمُهُ ضَعِيف، أو لا يُحْسِنُ التعليمَ، أو عِبَارَتُه رَكِيكَةٌ، أَوْ لا يُحْسِنُ الْخِطَابَةَ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا تَتَدَرَّجُ بِهِ إِلى إظْهَارِ فَضْلٍ لِنَفْسِهِ بِسَلامتِهِ مِنْ تِلْكَ العُيوبِ وَالنَّقَائِصِ، فَقل له: اتقِ الله هذا لا يَرفَعُكَ
وَلا يزيلُ مَا فِيكَ مِن النقائصِ اقْتَصِرْ على تَأملِ عُيوبكَ فَهُو أَوْلَى بِكَ يا مَغْرُور.
6-
أَنْ يَقْدَحَ عِنْدَ من يُحِبُّ الشَّخْصَ حَسَدًا لإكَرَامِهِمْ وَمَحَبَّتِهِمْ لَهُ.
7-
أَنْ يَقْصِدَ اللَّعِبَ وَالهَزَلَ وَالْمُزَاحَ وَالْمُطَايَبَةِ وَيُضْحِكَ النَّاسِ.
8-
السُّخْرِيَةُ وَالاسْتِهْزَاءُ بِالشَّخْصِ اسْتِحْقَارًا لَهُ وَهُوَ يَجْرِي فِي الْحُضُورِ وَالغَيْبَةِ وَمَنْشَؤُهُ التَّكَبُّرُ وَاسْتِصْغَارُ الْمُسْتَهْزَأ بِهِ وَازْدِرَاءُهُ. وَهَذَا غَالبٌ عَلَى كُلِّ مَنْ نَزلَتْ هِمَّتُهُ وَرَكَّتْ حالتُه وَصَارَ يُضْحِكُ النَّاس.
شِعْرًا:
إِنْ صُمْتَ عَنْ مَأْكَلِ العادي وَمَشْرَبِهِ
…
فَلا تُحَاوِلْ عَلَى الأعْرضَ إِفْطَارَا
9-
أَنْ يَتَعَجَّبَ مِنْ فِعْلِ الغَائِبِ لِلْمُنْكَرِ وَهَذَا مِنْ الدِّينِ لَكِنْ أَدَّى إِلى الغَيبَةِ بِذِكْرِ اسْمِهِ فَصَارَ مُغْتَابًا مِنْ حَيْثُ لا يَدْرِي.
10-
أَنْ يَغْتَمَّ لِسَبَبْ مَا يُبْتَلَى بِهِ فَيَقُولُ مِسْكِينٌ فُلانٌ قَدْ غَمَّنِي أَمْرُهُ وَمَا أبْتُلِي بِهِ مِنْ الْمَعْصِيَةِ وَغَمّهُ وَرَحْمَتَهُ خَيْرٌ لَكِنْ سَاقَهُ إِلى شَرٍّ وَهُوَ الغِيبَةُ مِنْ حَيْثُ لا يَدْرِي أَنَّهُ صَاغَهَا بِصِيغَةِ التَّرَحُّمِ وَالتَّوَجُّعِ.
11-
إظْهَارُ الغَضَبِ للهِ عَلَى مُنْكَرٍ قَارَفَه إِنْسَانٌ فَيَذْكُرُ الإنْسَانَ بِاسْمِهِ وَكَانَ الوَاجِبُ أَنْ يُظْهِرَ غَضَبَهُ عَلَى فَاعِلِهِ وَلا يُظْهِرَ عَلَيْهِ غَيْرَهُ بَلْ يَسْتُرُ اسْمَهُ وَهَذِهِ الثَّلاثَةُ رُبَّمَا تَخْفَى عَلَى العُلَمَاءِ وَطَلَبَةِ العِلْمِ فَضْلاً عَنْ العَوَامِّ وَلِذَلِكَ تَسْمَعُ مِنْهُمْ كَثِيرًا مَا يَقُولُونَ فُلانُ وَنِعْمَ لَوْلا أَنَّهُ يَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا يُعَامِلُ بالرِّبَا مَثَلاً وَكَانَ الوَاجِبُ نُصْحُهُ بَدَلَ الغِيبَةِ، وَلَكِنْ يَا أَخِي بَشِّرْ الموقوع في عِرْضِهِ بِغيبَةٍ أَوْ قَذْفٍ أَوْ سَبٍّ أَوْ نَمٍّ أَوْ نَحْو ذلك بأنَّهُ سَيَفرحُ وَيَسْترُ حِينَ مَا يَأخُذُ حَسَنَاتٍ مَا تَعِبَ بِهَا فِي لَيْل ولا نَهَارٍ صَيْفٍ وَلا شِتَاءٍ وَهَلْ أَحْلَى وَأَلَذَ مِنْ حَسَنَاتٍ تَأَتِيكَ مَا تَعِبْتَ بِهَا.
شِعْرًا:
…
يُشَارِكُكَ الْمُغْتَابُ فِي حَسَنَاتِهِ
وَيُعْطِيكَ أَجْرَى صَوْمِهِ وَصَلاتِهِ
وَيَحْمِلُ وِزْرًا عَنْكَ ظَنَّ بِحَمْلِهِ
عَنْ النُّجْبِ مِنْ أَبْنَائِهِ وَبَنَاتِهِ
فَكَافِيهِ بِالْحُسْنَى وَقُلْ رَبِّ جَازِهِ
بِخَيْرٍ وَكَفِّرْ عَنْهُ مِنْ سَيَّئَاتِهِ
فَيَا أَيُّهَا الْمُغْتَابُ زِدْنِي فَإِنْ بَقِي
ثَوَابُ صَلاةٍ أَوْ زَكَاةٍ فَهَاتِهِ
فَغَيْرُ شَقِيٍّ مِنْ يَبِيتُ عَدُوُّهُ
يُعَامِلُ عَنْهُ اللهَ فِي غَفَلاتِهِ
فَلا تَعْجَبُوا مِنْ جَاهِلٍ ضَرَّ نَفْسَهُ
بإمْعَانِهِ فِي نَفْعِ بَعْضِ عُدَاتِهِ
وَأَعْجَبُ مِنْهُ عاَقِلٌ بَاتَ سَاخِطًا
عَلَى رَجُلٍ يُهْدِي لَهُ حَسَنَاتِهِ
وَيَحْمِلُ مِنْ أَوْزَارِهِ وَذُنُوبِهِ
وَيَهْلَكُ فِي تَخْلِيصِهِ وَنَجَاتِهِ
فَمَنْ يَحْتَمِلْ يَسْتَوْجِبِ الأجْرَ وَالثَّنَا
وَيُحْمَدُ في الدُّنْيَا وَبَعْدَ وَفَاتِهِ
وَمَنْ يَنْتَصِفْ يَنْفَخْ ضِرًا مَا قَدْ انْطَفَى
وَيَجْمَعُ أَسْبَابَ الْمَسَاوِي لِذَاتِهِ
فَلا صَالِحٌ يُجْزَى بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ
وَلا حَسَنٌ يُثْنَى بِهِ فِي حَيَاتِهِ
يَظَلَّ أَخُو الإِنْسَانِ يَأْكُلُ لَحْمَهُ
كَمَا فِي كِتَابِ اللهِ حَالَ مَمَاتِهِ
وَلا يَسْتَحِي مِمَّنْ يَرَاهُ وَيَدَّعِي
بَأنَّ صِفَاتِ الكَلبِ دُونَ صِفَاتِهِ
وَقَدْ أَكَلا مِنْ لَحْمِ مَيْتٍ كِلاهُمَا
وَلَكَنْ دَعَى الكَلْبَ اضْطِرَارُ اقْتِيَاتِهِ
تَسَاوَيْتُمَا أَكْلا فَأشْقَاكُمَا بِهِ
غَدَا مَنْ عَلَيْهِ الْخَوْفُ مِنْ تَبَعُاتِهِ
وَمَا لِكَلامِ مَرَّ كَالرِّيحِ مَوْقِعٌ
فَيَبْقَى عَلَى الإِنْسَانُ بَعْضُ سِمَاتِهِ
اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا حِفْظَ جَوَارِحِنَا عَنْ الْمَعَاصِي مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَنَقِّ قُلُوبَنَا مِنْ الحِقْدِ وَالْحَسَدِ وَالإحَنْ. اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ شَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ وَعُضَالِ الدَّاءِ وَخَيْبَةُ الرَّجَاءِ وَزَوَال النِّعْمَةِ. اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وَأَلْحِقْنَا بَالصَّالِحِينَ غَيْرَ خَزَايَا وَلا مَفْتُونِينَ وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ، يَا خَيْرَ مَنْ دَعَاهُ دَاعٍ وَأَفْضَلَ مَن رَجَاهُ رَاجٍ يَا قَاضِي الْحَاجَاتِ، وَمُجِيبَ الدَّعَواتِ، هَبْ لَنَا مَا سَألناهُ، وَحَقق رَجَاءَنا فِيمَا تَمَنَيْنَاهُ، يَا مَنْ يَملِكُ حَوَائِجَ السَّائِلِينَ وَيَعْلَمُ مَا فِي صُدُورِ الصَّامِتِينَ أَذِقْنَا بَرْدَ عَفْوِكَ وَحَلاوَةِ مَغْفِرَتِكَ وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فصل) : ومِِمَّا يَتَأَكَّدُ اجْتِنَابِهِ وَلا يَتِمُّ الصِّيَامُ لِمَنْ لَمْ يَجْتَنِبْهُ النَّظَرُ إلى الْمَرْأَةِ الأَجْنَبِيَّةِ وَالرَّجُلِ الأَمْرَدِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ أَوْ حَاجَةٍ شَرْعِيَّةٍ لأَنَّ الْمَرْأَةَ كُلُّهَا عَوْرَةٌ لا يَصِحُّ أَنْ يَرَى مَنْ لَيْسَ مِنْ مَحَارِمِهَا شَيْئًا مِنْ جَسَدِهَا وَلا شَعْرَهَا الْمُتَّصِلِ بِهَا وَمَا تَفْعَلُهُ بَعْضُ نِسَاءِ هَذَا الزَّمَانِ مِنْ التَّبَرُّجِ وَالتَّجَمُّلُ فِي الأَسْوَاقِ مَا هُو مُجَاهَرَةٌ بِالْمَعَاصِي وَتَشَبُّهُ بِنِسَاءِ الإفْرَنْجِ.
فَمِنْ أَعْظَمِ الْمُنْكَرَاتِ وَأَفْظَعَهَا خُرُوجُ الْمَرْأَةُ كَاشِفَةً رَأْسِهَا أَوْ عُنُقَها أَوْ نَحَرَهَا أَوْ ذِرَاعَيْهَا أَوْ سَاقَيْهَا أَوْ وَجْهِهَا أَوْ الْجَمِيعَ أَوْ الثِّيَابِ الْمُظْهِرَةِ
لِلْمَفَاتِنِ أَوْ اللِّبَاسِ الشَّفَافِ الذي وَجُودُهُ كَعَدَمِهِ لا يَسْتُرُ مَا تَحْتَهُ فَهَذَا دَاخِلٌ فِي التَّبَرجُّ فَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَمْنَعَ نِسَاءَهُ وَمَنْ لَهُ عَلَيْهِنَّ وِلايَة وَيَقْبَلْنَ مِنْهُ جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَ وَيُلِزْمُهُنَّ السِّتَر وَالتَّحفُّظَ ويَنْصَحَ إِخْوَانَهُ الْمُهْمِلِينَ لِلمُتَّصِفَاتِ بِذَلِكِ.
وَمِنْ الآدَابِ التِي أَمَرَ الله تَعَالَى بِهَا نِسَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَنهُنَّ القُدْوَةُ الْحَسَنَةَ فِي العَفَافِ وَالتُّقَى وَالتَّسَتُّرِ وَالْحَيَاءِ وَالإيمانِ وَمَعَ حَيَاءِ النَّاسِ مِنْهُنَّ وَاحْتِرَامِهِمْ لَهُنَّ مَا ذَكَرَهُ تَعَالى فِي سُورَةِ الأَحْزَابِ بِقَوْلِهِ: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} .
قَالَ مُقَاتِلُ: التَّبَرُّجُ أَنَّهَا تُلْقِي الْخِمَارَ عَلَى رَأْسِهَا وَلا تَشُدُّهُ فَيُوَارِي قَلائِدَهَا وَقُرْطَهَا وَعُنُقَهَا وَيَبْدُو ذَلِكَ كُلُّهُ مِنْهَا وَذَلِكَ التَّبَرُّجُ.
وَقَالَ تَعَالى آمِرًا لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ عَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ فَلا يَنْظُرُوا إِلا لِمَا أَبَاحَ لَهُمْ النَّظَرُ إِلَيْهِ: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} .
قَالَ أَبُو حَيَّانٍ فِي تَفْسِيرِهِ: قُدِّمَ غَضُّ البَصَرِ عَلَى حِفْظِ الفُرُوج لأَنَّ النَّظَرَ بَرِيدُ الزِّنَا وَرَائِدُ الفُجُورِ وَالبَلْوَى فِيهِ أَشَدُّ وَأكْثَرُ لا يَكَادُ يَقُدْرُ عَلَى الاحْتِرَازِ مِنْهُ، وَهُو البَابُ الأَكْبَرُ إلى القَلْبِ وَأَعْمَرُ طُرُقِ الْحَوَاسِّ إِلَيْهِ وَيَكْثُرُ السُّقُوطُ مِنْ جِهَتِهِ.
وَقَالَ تَعَالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} ، وَقَالَ تَعَالى:{يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ} ، قَالَ البَغَوِي: أَيْ خِيَانَتُهَا، وَهِيَ اسْتِرَاقُ النَّظَرِ إِلى مَا لا يَحِلُّ.
قَالَ مُجَاهِدُ: هُوَ نَظَرُ الأَعْيُنِ إلى َمَا نَهَى اللهُ عَنْهُ.
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: «كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنَ الزِّنَا، مُدْرِكٌ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، الْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ، وَالأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الاِسْتِمَاعُ، وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلَامُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
شِعْرًا:
تَخَيَّرَ مِنَ الطُّرْقِ أَوْسَاطَهَا
…
وَعَدِّ عَنِ الجَانِب المُشْتَبِهْ
وسَمْعَكَ صُنْ عن سَمَاعِ القَبِيحِ
…
كَصَوْنِ اللِّسَانِ عَنِ النُّطْقِ بِهْ
فَإِنَّكَ عِنْدَ اسْتِمَاعِ القَبِيحِ
…
شَرِيكٌ لِقَائِلِهِ فَانْتَبِهْ
وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِي عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَعْنِي عَنْ رَبِّهِ عز وجل: «النَّظْرَةُ سَهْمٌ مَسْمُومٌ مِنْ سِهَامِ إِبْلِيسَ مَنْ تَرَكَهَا مِنْ مَخَافَتِي أَبْدَلْتُهُ إِيمَانًا يَجِدُ حَلاوَتُهُ فِي قَلْبِهِ» .
وَرَوَى الأصْبَهَاني عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم «كُلُّ عَيْنٍ بَاكِيَةٌ يَوْمَ القِيَامَةِ إِلا عَيْنًا غَضَّتْ عَنْ مَحَارِمِ اللهِ، وَعَيْنًا سَهِرَتْ في سَبِيلِ اللهِ، وَعَيْنًا خَرَج مِنْهَا مِثْلُ رَأْسِ الذُّبَابِ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ» . وَأَخْرَجَهُ الإمَامُ أًحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَقَالَ: صَحِيحُ الإِسْنَادِ. وَاعْتَرَضَهُ المُنْذِرِي.
عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «اضْمَنُوا لِى سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَضْمَنُ لَكُمُ الْجَنَّةَ: اصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ، وَأَوْفُوا إِذَا وَعَدْتُمْ، وَأَدُّوا إِذَا ائْتُمِنْتُمْ، وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ، وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ، وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ» . وَقَالَ ابنُ القَيِّمِ رحمه الله: وَالنَّظَرُ أَصْلُ عَامَّةِِ الحَوَادِثِ التي تُصِيبُ الإِنْسَانَ فَإِنَّ النَّظْرَةَ تُوَلِّدُ خَطْرَةً، ثُمَّ تُوَلِّدُ الخَطْرَةُ فِكْرَةً، ثُمَّ تُوَلِّدُ الفِكْرَةُ شَهْوَةً، ثُمَّ تُوَلِّدُ الشَّهْوَةُ إِرَادَةً ثُمَّ تَقْوَى فَتَصِيرُ عَزِيمَةً جَازِمَةً فَيَقَعْ الفِعْلُ وَلا بُدَّ مَا لَمْ يَمْنَعْ مَانِعٌ.
وَفي هَذَا قِيلَ: الصَّبْرُ عَلَى غَضِّ النَّظَرَ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى أَلَمٍ بَعْدَه.
كُلُّ الحَوَادِثِ مَبْدَاهَا مِنَ النَّظَرِ
…
وَمُعْظَمُ النَّارِ مِن مُسْتَصْغَرِ الشَّرَرِ
وَالعَيْنُ أَصْلْ عِنَاهَا فِتْنَةُ النَّظَرِ
…
وَالقَلْبُ كُلُّ أَذاهُ الشُّغْلُ بِالفِكَرِ
كَمْ نَظْرَةٍ نَقَشَتْ في القَلْبِ صُورَةَ من
…
رَاحَ الفُؤَادُ بِهَا في الأسْرِ وَالحَذَرِ
وَالمَرْءُ مَا دَامَ ذَا عَيْنٍ يُقَلِّبُهَا
…
في أَعْيُنِ العِيْن مَوقُوفٌ على الخَطَر
يَسُرُّ مُقْلَتَهُ مَا ضَرَّ مُهْجَتَهُ
…
لا مَرْحَبًا بِسَرُورٍ جَاءَ بِالضَّرَرِ
فَالقَلْبُ يَحْسُدُ نُورَ العَيْنِ إِذَْ نَظَرَتْ
…
وَالعَيْنُ تَحْسُدُهُ حَقًا عَلَى الفِكَرِ
يَقُولُ قَلْبِي لِعَيْنِي كُلَّمَا نَظَرَتْ
…
كَمْ تَنْظُرِينَ رَمَاكِ اللهُ بِالسَّهَرِ
فَالعَيْن تُورثُهُ هَمًا فَتُشْغِلُهُ
…
وَالقَلْبُ بالدَّمْعِ يَنْهَاهَا عَنِ النَّظَرِ
هَذَانِ خَصْمَانِ لا أَرْضَى بِحُكْمِهِمَا
…
فَاحْكُمْ فَدَيْتُكَ بَيْنَ القَلْبِ وَالبَصَرِ
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَا وَفَّقْتَ إليه القَوْم وأَيْقِظْنَا من سِنة الغَفْلَةِ والنَّوم وارزِقْنَا الاستعدادَ لِذَلِكَ اليَوْمِ الذي يَرْبَحُ فيه المُتَّقُونَ، اللَّهُمَّ وعامِلنَا بإحْسَانِكَ وَجُدْ علينا بِفَضْلِكَ وامْتِنانِكَ واجعلنا من عِبادِكَ الذينَ لا خَوفٌ عليهم ولا هُمْ يَحْزَنُون، اللَّهُمَّ ارحَمْ ذُلَّنَا بَيْنَ يَدَيْكَ واجعلْ رَغْبَتَنَا فِيما لَدَيْكَ، ولا تحرمنا بِذُنوبنا، ولا تَطْرُدْنَا بعُيوبنا، واغْفِرْ لَنِا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ منْهُمْ وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فصل) : وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِعَلِيّ: «يَا عَلي لا تُتْبِع النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ، فَإِنَّ لَكَ الأُولَى وَلَيْسَتْ لَكَ الآخِرَةُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِي.
وفي حَدِيثِ جَرِيرٍ رضي الله عنه قال: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ نَظْرَةِ الفُجَاءَةِ فَقَالَ: «اصْرِفْ بَصَرَكَ» . وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أبِي هُرَيْرَةِ رضي الله عنه أن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ «إِنَّ الْمَرْأَةَ تُقْبِلُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ وَتُدْبِرُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ، فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمُ مِنْ امْرَأَةً
مَا يُعْجِبُهُ فَلْيَأْتِ أَهْلَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ يَرُدُّ مَا فِي نَفْسِهِ» .
وَعَنْ ابنِ مَسْعُودِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْمَرْأَةُ عَوْرَةٌ فَإِذَا خرَجَتْ اسْتَشْرَفَهَا الشَّيْطَانُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذي.
وَعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي النِّسَاءِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَنْظُرُ إلى مَحَاسِنِ امْرَأَةٍ أَوَّل مَرَّةٍ ثُمَّ يَغُضُّ بَصَرَهُ إِلا أَحْدَثَ اللهُ لَهُ عِبَادَةٌ يَجِدُ حَلاوَتَهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ.
شِعْرًا:
لا تَخلُ بِامرأَةٍ لَدَيكَ بريبَةٍ
لَو كُنتَ في النُسّاكِ مِثلَ بَنانِ
وَاغْضُضْ جُفُونَكَ عَنْ مُلاحَظَةِ النِّسَاء
وَمَحَاسِنِ الأَحْدَاثِ وَالصِّبْيَانِ
إِنَّ الرِجالَ الناظِرينَ إِلى النِّسَاءِ
مِثلُ الكِلابِ تَطوفُ بِاللُحمَانِ
إِن لَم تَصُن تِلكَ اللُحومَ أُسودُها
أُكِلَت بِلا عِوَضٍ وَلا أَثمانِ
آخر:
لَيْسَ الشجاعُ الذي يَحْمِي فَرِيسَتَهُ
…
عِنْدَ النِزَالِ ونارُ الحَرْبِ تَشْتَعِلُ
لَكِنَّ مَنْ غَضَّ طَرْفَا أَوْ ثَنَى قَدَمًا
…
عَنْ الْحَرَامِ فَذَاكَ الدرِاعُ البَطَلُ
اللَّهُمَّ نَجّنا برحمتِكَ مِن النارِ وعافِنا من دار الخِزْيَ والبَوَار، وَأَدْخِلنا بفَضْلِكَ الجنةَ دارَ القَرار وعامِلْنَا بكَرَمِكَ وَجودِكَ يا كَرِيمُ يا غَفارُ وَاغْفِرْ لَنَا يَا خَيْرَ مَنْ دَعَاهُ دَاعٍ وَأَفْضَل مَنْ رَجَاهُ رَاجٍ يَا قَاضِي الْحَاجَاتِ، وَمُجِيبَ الدَّعواتِ، هَبْ لَنَا مَا سَأَلْنَاهُ، وَحَقق رَجَاءَنا فِيمَا تَمَنْيَنْاهُ، يَا مَنْ يَمْلِكُ حَوَائِجَ السائِلينَ وَيَعلمُ مَا في صُدُورِ الصَّامِتينَ أذقنا بَرْدَ عَفْوِكَ وَحَلاوَةَ مَغْفِرَتِكَ وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فصل) : قَالَ شَيْخُ الإِسْلامِ رحمه الله: يُقَالُ إِنَّ غَضَّ البَصَرِ عَنْ الصُّورَةِ التِي يُنْهَى عَنْ النَّظَرِ إِلَيْهَا كَالْمَرْأَةِ وَالأَمْردِ الْحَسَنِ يُورِثُ ثَلاثَ فَوَائِدَ:
إحْدَاهَا: حَلاوَةِ الإِيمَانِ، وَلَذَّتَهُ التِي هِيَ أَحْلَى وَأَطْيَبُ مِمَّا تَرَكَهُ للهِ، فَإنَّ مَنْ تَرَكَ شَيْئًا للهِ عَوَّضَهُ اللهُ خَيْرًا مِنْهُ.
الفَائِدَةُ الثانيَةُ: أَنَّ غَضَّ البَصَرِ يُورِثُ نُورَ القَلْبِ وَالفَرَاسَةِ.
الفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: قُوَّةُ القَلْبِ وَثَبَاتِهِ وَشَجَاعَتُهُ فَيَجْعَلُ اللهُ لَهُ سُلْطَانَ البَصِيرَةِ مَعَ سُلْطَانِ الْحُجَّةِ، فَإِنَّ فِي الأَثَرِ (الذِي يُخَالِفُ هَوَاهُ يَفْرَقُ الشَّيْطَانُ مِنْ ظِلِّهِ) .
وَإِذَا كَانَ النَّظَرُ إلي مَنْ لا يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَيْهِ مُحَرَّمًا فَالْخَلْوَةُ بِمَنْ لا تَحِلُّ مُحَرَّمَةٌ مِنْ بَابَ أَوْلى وَأَحْرَى لأَنَّ الوَسَاوِسَ الشَّيْطَانِيَّةِ تَجِدُ لَهَا مَجَالاً فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَثَوَرَانِ الشَّهْوَةِ يَجِدُ لَهُ مُبَرِّرًا فَيَضْعُفُ العَقْلُ عِنْدَ هَذَا، وَلا يَكُونُ لَهُ تَأْثِير عَلَى زَجْرِ الشَّهْوَةِ فَتَسُوقُهُ نَفْسُهُ الأَمَّارَةُ بالسُّوءِ إِلى الفَاحِشَةِ، لِهَذَا نَهَى الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم عَنْ الْخَلْوَةِ فَقَدْ رُوِي عَنْ ابن عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لا يَخْلُوَنَّ أَحَدُكُمْ بامْرَأَةٍ إلا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ» . فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ؟ قَالَ: «الْحَمْوُ الْمَوْتُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَالْحَمْوُ: قَرِيبُ الزَّوْجِ كَأَخِيهِ وَابْنِ أَخِيهِ وَابْنِ عَمِّهِ.
وَعَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَلَا لَا يَخْلُو رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَاّ كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَان» . رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَالتِّرْمِذِي فِي جَامِعِهِ.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ وَاليَوْمِ الآخِر فَلا يَخْلُوَنَّ بامْرَأَةٍ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا مَحْرَمٌ» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِي فِي الكَبِير.
وَرَوَى الطَّبَرَانِي أَيْضًا عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «إِيَّاكَ وَالْخُلوَةُ بِالنِّسَاءِ وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا خَلا رَجُلٌ بامْرَأَةٍ إِلا وَدَخَلَ الشَّيْطَانُ بَيْنَهُمَا وَلأَنْ يَزْحَمَ الرَّجُلُ خَنْزِيرًا مُتَلِطِّخًا بِطِينٍ أَوْ حَمَأةٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَزَحَمَ مَنْكِبُهُ مَنْكِبَ امْرَأَةٍ لا تَحِلُّ لَهُ» .
وَمِنْ أَخْطَرِ مَا يَكُونُ عَلَى النِّسَاءِ خِدْمَةُ الرِّجَالِ فِي البُيُوتِ إِذَا كَانَ هُنَاكَ اخْتِلاطٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُنَّ خُصُوصًا إِذَا كَانَ الرُّجُلُ الْمُسْتَخدَمُ مِنَ الشُّبَّانِ وَإِنْ كَانَ لَهُ وَسْمَةُ جَمَالٍ فَأَقْرَبُ إِلى الْخَطَرَ وَقَدْ يَكُونُ أَشَبَّ مِنْ صَاحِبِ البَيْتِ وَأَجْمَل وَهُوَ مَلازِمٌ لِلبَيْتِ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ وَهُوَ تَحْتَ أَمْرِ الزَّوْجَةِ أَوْ نَحْوِهَا وَفِي إِمْكَانِهَا إِبْقَاؤُهُ أَوْ طَرْدُهُ فَالْخَطَرُ عَظِيمٌ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ ذَا شَرَفٍ وَمَكَانَةٍ، وَتَأَمَّلْ قِصَّة امْرَأَةِ العَزِيزِ مَعَ يُوسُفَ عليه السلام حَيْنَ رَاوَدَتْهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعَاذَ بِاللهِ مِنْ شَرِّهِنَّ وَكَيْدِهِنَّ فَعَصَمَهَ اللهُ عِصْمَةً عَظِيمَةً وَحَمَاهُ فامْتَنَع أَشَدَّ الامْتِنَاعِ عَنْهَا وَاخْتَارَ السِّجْنَ عَلَى ذَلِكَ وَهَذَا في غَايَةِ
مَقَامَاتِ الكَمَالِ أَنَّهُ مَعَ شَبَابِهِ وَجَمَالِهِ وَكَمَالِهِ تَدْعُوهُ سَيِّدَتُهُ وَهِي امْرَأَةُ عَزِيزِ مَصْرَ وَهِيَ مَعَ هَذَا في غَايَةِ الْجَمَال وَالْمَالَ وَالرِّيَاسَةِ وَيَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ وَيَخْتَارُ السِّجْنَ عَلَى ذَلِكَ خَوْفًا مِنْ اللهِ وَرَجَاءَ ثَوَابِهِ وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ مِنْ السَّبْعَةِ الذِينَ يُظلُّهُمْ اللهُ فِي ظِلِّهِ: «رَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتَ مَنْصَبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافَ اللهُ» . وَاللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّم.
شِعْرًا:
مَا مِنْ جَمِيلٍ مِنْ الدُّنْيَا وَلا حَسَنٍ
…
إِلا وَمِنْ فَضْلِ رَبِّ العَرشِ ذِي الْمِنَنِ
أَعْظِمْ بِهَا مِنَّةً لَكِنْ يُخَفِّفُها
…
شكْرِي لِرَبِّي فِي سِرِّي وَفِي عَلَنِ
اللَّهُمَّ يَسر لَنَا سَبِيلَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدَا وَاجْعَلْ مَعُونَتَكَ العُظْمَى لَنَا سَنَدًا وَاحْشُرْنَا إِذَا تَوَفَّيْتَنَا مَعَ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ الذِينَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(موعظة) : عِبَادَ اللهِ نَحْنُ فِي زَمَنٍ كُلُّهُ عَجَائبٌ يُعْجِبُ العَاقِلُ اللَّبِيبُ وَمِنْ أَعْجَبِ مَا فِيهِ أَنَّ الرِّجَالَ أَصْبَحُوا لا سُلْطَانَ لَهُمْ عَلَى النِّسَاءِ إِلا النَّادِرَ القَلِيلَ، نَعْمَ أَصْبَحْنَا فِي زَمَنٍ لِلنِّسَاءِ فِيهِ جَبَرُوتٌ أَمَامَهُ الرِّجَالُ فِي حَالٍ ضَئِيلٍ انْعَكَسَ الأَمْرُ فَصَارَ القَوِيُّ ضَعِيفًا وَالضَّعِيفُ قَوِيًّا فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكِّ مِنْ ذَلِكَ فَاخْرُجْ وَانْظُر فِي الشَّوَارِعِ تَرَى النِّسَاءَ تَجُولُ فِي الشَّوَارِع ذَاهِبَاتٍ أَيبَاتٍ وَيَتَثَنِّينَ فِي تَبَخْتُرُهِنِّ عَلَيْهِنَّ مِنْ الزِّينَةِ مَا يُرْغِمُ عَلَى النَّظَرِ إِلَيْهِنَّ كُلُّ مِنْ لَهُ عَيْنَانِ.
وَلا تَسْأَلْ عَمَّا يُحْدِثُهَ ذَلِكَ النَّظَرِ فِي نُفُوسِ الشُّبَّانِ وَأَشْبَاهِ الشُّبَّانِ تَرَاهُ إِذَا لَمََحَها أَتْبَعَهَا نَظَرَهُ ثُمَّ جَرَى وَرَاءَهَا لأنَّهُ يَفْهَمُ مِنْ هَيْئَتِهَا وَتَثِنَّيَهَا وَتَلَفُّتِهَا فَهْمًا لا يُقَالُ لَهُ إِنَّهُ فِيهِ غَلْطَانٌ، إنَّه يَفْهَمُ أَنَّهَا إِذَا لَمْ تَكُنْ تُرِيدُ مِنْهُ مَا تُرِيدُ مَا عَرَضَتْ نَفْسَهَا فِي الشَّارِعِ بِذَلِكَ التَّهَتُّكِ وَذَلِكَ الازْدَيَانُ وَهِيَ فِي بَيْتِهَا أَمام زَوْجِهَا الذِي يَنْبَغِي أَنْ تَتَجَمَّلَ لَهُ تَكُونُ بِحَالةٍ تَشْمَئِزُّ مِنْ
رُؤْيَتِهَا نَفْسُ الإِنْسَانِ، تَلْبَسُ لَهُ أردى الْمَلابِسَ وَلا تَمَسُّ طِيبًا وَلا تَعْتَنِي لَهُ، فَإِذَا أَرَادَتْ الْخُرُوجَ بَذَلَتْ مِنْ العِنَايَةِ فِي تَجْمِيلِ نَفْسِهَا مَا يُلْهِبُ نَارَ الشَّوْقِ إِلَيْهَا في نُفُوسِ النَّاظِرِينَ.
وَهَذِه حَالَةٌ تَجْعَلُ العُيُونَ وَقْفًا عَلَى النَّظَرِ إِلى تِلْكَ الأَجْسَامِ وَتَشْغَلُ القُلُوبَ شُغْلاً بِهِ تَنْسَى كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى نَفْسَهَا وَرَبَّهَا وَمَا لَهُ عَلَيْهَا مِنْ وَاجِبَاتٍ، وَتَوَجِّهُ الأَفْكَارَ إِلى أُمُورٍ دَنِيئَةٍ يَقْصُدْهَا مِنْ أُولَئِكَ النِّسَاءِ أَرْبَابُ النُّفُوسِ الدَّنِيئَاتِ، بَلْ وَتَدْفَعُ النُّفُوسَ دَفْعًا تَسْتَغِيثُ مِنْهُ الفَضِيلةُ وَيَغْضَبُ لَهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ.
إِنَّ الرِّجَالَ النَّاظِرِينَ إِلى النِّسَا
…
مِثْلُ الكِلابِ تَطُوفُ بِاللُّحْمَانِ
إِنْ لَمْ تَصُن تِلْكَ اللُّحُومَ أُسُودُهَا
…
أُكِلَتْ بِلا عِوَضٍ وَلا أَثْمَانِ
إِنَّ أُولَئِكَ النِّسَاءُ زَوْجَاتُ وَبَنَاتُ وَأَخَوَاتُ رِجَالٍ يَرَوْنَهُنَّ بَأَعْيُنهِمْ في الشَّوَارِعِ بِتِلْكَ الْحَالِ يَرَوْنَهُنَّ وَلَيْسَ لَهُمْ مِنْ الغَيْرَةِ مَا يُفهِمْ أَنَّهُمْ مِنْ صَنْفِ الرِّجَالِ، وَأَمَامَهُمْ يُجْرِينَ الزِّينَةِ التِي يَخْرُجْنَ بِهَا إِلى تِلْكَ الْمِيَادِينَ الْمَلأَى بالأنْذَالِ، وَبَعْضُهُمْ يَسْتَصُحِبُ زَوْجَتَهُ مَعَهُ سَافِرَةً فِي الشَّوَارِعِ وَرُبَّمَا فَهِمَ بَعْضُ الفُسَّاقِ أَنَّهُ يَتَصَيَّدُ لِهَا وَذلِكَ يَجْرِي عَلَى أَلْسِنَةِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ.
أَيُّهَا الأَخُ عَصَمَنَا اللهُ وَإِيَّاكَ وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ أَنْتَ أَقْوَى عَقْلاً وَأَقْوَى دِينًا مِنْ الْمَرْأَةِ لا خِلافَ في ذَلِكَ إِنْ لَمْ يَعْصِمْكَ اللهُ تَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ مِنْكَ مَعَ الْمَرْأَةِ مَا يَكُونَ إِذَا وَقَعَ نَظَرُكَ عَلَى مَا لَهَا مَنْ بِهَاءٍ وَجَمَالٍ فَتَأَكَّدْ كُلَّ التُّأكُدِّ أَنَّ تَمَنِّي الْمَرْأَةِ أَقْوى مِنْ تَمَنِّي الرَّجُلِ إِذَا وَقَعَ نَظَرُهَا عَلَى جَمِيلٍ مِنْ الرِّجَالِ وَلا تَشُكُ أَنَّهَا بَعْدَ رُؤيَتِهَا الْجَمِيلَ تَتَمَنَّى فِرَاقَكَ إِلَيْهِ وَرُبَّمَا دَعَتْ عَلَيْكَ، نَحْنُ فِي جُوِّ مَوْبُوءٍ بِفَسَادِ الأَخْلاقِ، مِنْ تَعَرَّضَ
لَهُ أَصَابَهُ مِن ذَلِكَ الوَبَاء مَا يُضَيِّعُهُ في دُنْيَاهُ وَفِي الدِّينِ.
فَصُنْ نِسَاءَكَ عَنْ الْخُرُوجِ إِلَيْهِ إِنْ أَرَدْتَ الْعَافِيةَ وَِإِلا فَلا تَلُمْ إِلا نَفْسَكَ إِذَا أَصْبَحْتَ فِي عِدَادِ الضَّائِعِينَ وَالضَّائِعَاتِ أَنْتَ تَرَى كُلَّ يَوْمٍ مَا يَكُونُ في الطُّرُقِ لِنِسَاءِ غَيْرِكَ فَلا تَشُكَّ أَنَّ نِسَاءِكَ يُلاقِيَن مِثْلَهُ وَأَشَدَّ مِنْهُ وَأَيُّ رَجُلٍ يَرْضَى أَنْ تَخْرُجَ نِسَاؤُهُ لِيَلْعَبَ بِعَفَافِهِنَّ وَشَرَفِهِنَّ مَنْ لا دَينِ لَهُ وَلا شَرَفَ وَلا أَخْلاقَ، إِنَّ الْبَهِيمَ يَغَارُ وَمَعَارِكُ ذُكُورِ الْبَهَائِمِ عَلى إِنَاثِهَا مَعْرُوفَةٌ، فَلا تَكُنْ أَقَلَّ غَيْرَةً مِنْ الْبَهِيمِ، وَلَوْلا أَنَّنَا نَرَى بِأَعْيُنِنَا مَبْلَغَ ضَعْفِ رِجَالِنَا أَمَامَ النِّسَاءِ مَا صَدَّقْنَا أَنْ يَسْتَصْحِبَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ سَافِرَةً رَاكِبَةً أَوْ غَيْرَ رَاكِبَةٍ تَقْدُمُهُ.
اللَّهُمَّ أَذِقْنَا عَفْوَكَ وَغُفْرَانَكَ وَاسْلُكْ بِنَا طَرِيقَ مَرْضَاتِكَ، وَعَامِلَنَا بِلُطْفِكَ وَإِحْسَانِكَ وَاقْطَعْ عَنَّا مَا يُبْعِدُ عَنْ طَاعَتِكَ، اللَّهُمَّ وَثَبِّتْ مَحَبَّتِكَ فِي قُلُوبِنَا وَقَوّهَا وَيَسِّرْ لَنَا مَا يَسَّرْتَهُ لأَوْلِيَائِكَ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) : أَيًُّهَا الأخُ أَنْتَ الذِي تَلَقَى الْمَشَاقَّ مِنْ حَرٍّ وَبَرْدٍ وَأَنْتَ مَشْغُولٌ بَالكدِّ لأجْلِ جَلْبِ الرِّزْقِ، يَكُونُ مِنْكَ ذَلِكَ لِتُطْعِمَ الْمَرْأَةِ وَتَكْسُوهَا وَتَنْعِمُ عَلَيْهَا فَفَضْلِكُ عَلَيْهَا كَبِيرٌ كَمَا قَالَ تَعَالى:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} وأَنْتَ أَرْجَحَ مِنْهَا عَقْلاً وَأَكْمَلْ دِينًا فَمِنْ الْغَلَطِ أَنْ تَكُونَ مَعَهَا كَالْعَبْدَ الْمَمْلُوكَ يَصْرِفُهُ مَوْلاهُ كَيْفَ شَاء. وَإِذَا كَنْتَ كَمَا ذَكَرَ اللهُ قَوَّامًا عَلَيْهَا فَأَنْتَ مَسْئُول عَنْهَا لأَنَّكَ رَاعِيهَا وَالرَّاعِي مَسْئُول عَنْ رَعَيَّتِهِ، فَأَنْتَ مُثَابْ إِنْ وَجَهْتَهَا إِلى عَمْل الْخَيْرِ، وَآثِمْ إِنْ سَكَتَّ عَنْهَا وَهِيَ تَعْمَل أَعْمَلاً لَيْسَتْ مَرْضَيَّة، فَانْظُرْ مَاذَا عَلَيْكَ مِنْ الإِثْمِ فِي خُرُوج زَوْجَتَكَ وَمَا يَتَرَتَبْ عَلَيْهِ مِنْ بَلايَا مَرَئِيْة وَغَيْر
مَرْئِيَّةٍ، فَحُلْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا تَعْلَمُ أَنَّ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَيْهَا وَكُلُّ عَمَلٍ يُغْضِبُ رَبَّكَ، وَإِلا فَأَنْتَ شَرِيكَ لَهَا فِي كُلَّ مَا لَها مِنْ أَوْزَارٍ. أ. هـ.
كُلُّ هَذَا سَبَبُهُ مُخَالَطَةُ رَبَائِبِ الاسْتِعْمَارِ الذِّينَ تَشَبَّهُوا بِهِ وَقَلَّدُوهُ فِي الأَقْوَالِ وَالأَفْعَالِ، وَقَلَّدَهُمْ كَثِيرٌ مِنْ نِسَائِنَا، وَصَدَقَ الْمُصْطَفََى صلى الله عليه وسلم حَيْثُ يَقُولُ:«لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذرَاعٍ حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ دَخَلَ حُجْرَ ضَبِّ لَدَخَلْتُمُوهُ وَحتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ جَامَعَ امْرَأَتَهُ بِالطَّرِيقِ لَفَعَلْتُمُوهُ» . فَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا باللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلِ. أ. هـ.
كَفى بِالمَرءِ عاراً أَن تَراهُ
…
مِنَ الشَأنِ الرَفيعِ إِلى اِنحِطاطِ
عَلى المَذمومِ مِن فِعلٍ حَريصًا
…
عَلى الخَيراتِ مُنقَطِعَ النَشاطِ
يُشيرُ بِكَفِّهِ أَمراً وَنَهيًا
…
إِلى الخُدّامِ مِن صَدرِ البِساطِ
يَرى أَنَّ المَعازِفَ وَالمَلاهي
…
مُسَبِّبَةُ الجَوازِ عَلى الصِراطِ
لَقَد خابَ الشَقِيُّ وَضَلَّ عَجزًا
…
وَزالَ القَلبُ مِنهُ عَنِ النِياطِ
آخر:
وعَاقِبَةُ الصَّبْرِ الْجَمِيلِ حَمِيدَةٌ
…
وَأَفْضَلُ أَعْمَال الرِّجَال التَّدَيُّنُ
ولا عَارَ إِنْ زَالَتْ عَنِ الْمَرْءِ نِعْمَةً
…
وَلَكِنَّ عَارًا أَنْ يَزُولَ التَّدَيُّنُ
اللَّهُمَّ اعْمُرْ قُلُوبَنا وَأَلْسنَتنا بِذِكْرِك وَشُكْرِك وَوَفِّقْنَا للامْتِثَالِ لأَمْرِكَ وَأمِّنا مِنْ سَطوتِكَ وَمَكْرِكَ واجْعَلْنَا مِنْ أَوْلِيَائِكَ الْمُتَّقِينَ وَحِزْبِكَ الْمُفْلِحِينَ، اللَّهُمَّ أَلْحِقْنَا بِعِبِادِكَ الصَّالِحِين الأَبْرَار، وآتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارْ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) : فِيمَا يُسْتَحبُّ أَنْ يَقُولَهُ أَوْ يَفْعَلَهُ:
يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَسَحَّرَ لِلصَّوْمِ لِمَا وَرَدَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قَال: «تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السُّحُورِ بَرَكَةً» .
وعَنْ عَمْرو بن العَاص قَالَ: قَالَ رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ فَصْلَ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلةُ السَّحَرِ» .
وعَنْ ابن عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ اللهَ ومَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ على الْمُتَسَحِّرِينَ» .
وَعَنْ الْعِرْبَاضِ بن سَارِيَةَ قَالَ: دَعَانِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى السَّحُورِ في رَمضَانَ فَقَالَ: «هَلُمَّ إِلى الْغَدَاءِ الْمُبَارَكِ» .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «نِعْمَ سَحُورُ الْمُؤْمِنِ التَّمْرُ» .
وَيَنْبَغِي أَنْ يُخَفِّفَ عَشَاءَهُ فِي ليَاَلِي رَمَضَانَ لِيَهْضِمَ طَعَامَهُ قَبْلَ السَّحُورِ ولأِنَّ الامْتِلاءَ مِنَ الطَّعَامِ رُبَّمَا يَكُونُ سَبَبًا لِلتُّخَمْ.
وَعَنْ الْمِقْدَادِ بْنِ مَعْدِ يكْرِبَ رضي الله عنه قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَا مَلأَ ابن آدَمَ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ، بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أَكَلاتٍ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لامَحَالَةَ فَثُلُثٌ طَعَامٌ، وَثُلُثٌ شَرَابٌ، وَثُلُثٌ نَفَسٌ» .
شِعْرًا:
تَوَقَّ إِذا مَا اسْطَعْتَ إِدخالُ مَطعَمٍ
…
عَلى مَطعَمٍ مِن قَبلِ فِعْلِ الْهَواضِمِ
وَكُلُّ طَعامٍ يَعجَزُ السِنُّ مَضغَهُ
…
فَلا تَبتَلِعْهُ فَهوَ شَرٌّ الْمَِطَاعِِمِِ
والشَّبَعُ مَذْمُومٌ لأنَّهُ يُوجِبُ تَكَاسُلَ الْبَدَنِ وَكَثْرَةُ النَّوْمِ وَبَلادَةِ الذِّهْنِ وَذَلِكَ يُكْثِرُ الْبُخَّارُ في الرَّأسِ حَتَّى يُغَطِّي مَوْضِعَ الذَّكْرِ والْفِكْرِ والْبَطْنَةُ تَذْهبُ الْفِطْنَةَ وَتَجْلِبُ أَمْرَاضًا عَسِرةً، وَمَقَامُ الْعَدْلِ أَنْ لا يَأْكُلَ حَتَّى تَصْدُقَ شَهْوَتُهُ وَأَنْ يَرْفَعَ يَدَهُ وَهُوَ يَشْتَهِي وَنِهَايَةُ مَقَامِ الْحُسْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{كُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلَا تُسْرِفُواْ} ، وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:«ثُلُثٌ طَعَامٌ، وَثُلُثٌ شَرَابٌ، وَثُلُثٌ نَفَسٌ» .
والأكْلُ عَلَى مَقَامِ الْعَدْلِ يُصِحُّ الْبَدَنَ وَيُبْعِدُ الْمَرَضَ بِإذْنِ اللهِ وَيُقَلِّلُ النَّوْمَ وَيُخَففُ الْمَؤُنَةَ وَيُرَقِّقُ الْقَلْبَ وَيُصَفِّيْهِ فَتَحْسُنُ فِكْرَتُهُ وَتُسَهِّلُ الْحَرَكَاتِ والتَّعْبِيرَاتِ، والشَّبَعُ يُمِيتُ الْقَلْبَ وَمِنْهُ يَكُونُ الْفَرَحُ والْمَرَحُ وَالضَّحِكُ.
وَيُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُ السَّحُورِ لِمَا وَرَدَ عَنْ أَنَسٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه قَالَ: تَسَحَّرْنَا مَعَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ. قَال أَنَسٌ قُلْتُ لِزَيْدٍ: كَمْ كَانَ بَيْنَ الأَذَانِ وَالسَّحُورِ؟ قَالَ: قَدْرُ خَمْسِينَ آيَةً. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِمَا وَرَدَ في الْبُخَاري عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ أَتَسَحَّرُ فِي أَهْلِي، ثُمَّ تَكُونُ سُرْعَتِي أَنْ أُدْرِكَ السُّجُودَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدي رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ وأخَّرُوا السَّحُور» .
وَعَنْ ابن عَطِيَّةَ قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَمَسْرُوقٌ عَلى عَائِشَةَ فَقُلْنَا: يَا أَمَّ الْمُؤمِنِين رَجُلانِ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّد أَحَدُهُمَا: يُعَجِّلُ الإفْطَارَ وَيُعَجِّلُ الصَّلاةَ، والآخرُ: يُؤخِّرُ الإفْطَارَ وَيُؤخِّرُ الصَّلاةَ، قَالَتْ: أَيُّهُمَا يُعَجّل الإفْطَارَ وَيُعَجِّلَ الصَّلاةَ؟ قُلْنَا: عَبْدُ اللهِ بن مَسْعُودٍ، قَالَتْ: هَكَذَا صَنَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، والآخَرُ: أَبوُ مُوسَى.
وَلأَنَّ السَّحُورَ يُرَادُ بِهِ التَّقَوِّي عَلَى الصَّوْمِ. فَكَان التَّأْخِيرُ أَبْلَغَ فِي ذَلِكَ وَأَوْلَى، وَيُسَنُّ تَعْجِيلُ فِطْرٍ إِذَا تَحَقَّقَ الْغُرُوبَ لِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «قَالَ اللهُ عز وجل إِنَّ أَحَبَّ عِبَادِي إِليَّ أَعْجَلُهُمْ فِطْرًا» .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لا يَزَالُ الدِّينُ ظَاهِرًا مَا عَجَّلَ النَّاسُ الْفِطْرِ، لأَنَّ الْيَهُودَ والنَّصَارَى يُؤَخِّرُونَ» . وَلِحَدِيث سَهْل وَحَدِيث أَبِي عَطيَّة وَقَدْ تَقَدَّمَا قَرِيبًا.
اللَّهُمَّ اسْلُكْ بِنَا سَبِيل عِبَادِكَ الأَبْرَارِ واجْعَلْنَا مِن عِبَادِكَ الْمُصْطَفِينَ الأَخْيَارَ وامْنُنْ عَلَيْنَا بالْعَفْوِ والْعِتْقِ مِن النَّارِ واحْفَظْنَا مِنْ الْمَعَاصِي فِيمَا بَقِيَ مِن الأَعْمَارِ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) : وَيُسَنُّ أَنْ يَكُونَ فِطْرُهُ عَلَى رُطَبٍ، فَإِنْ عَدِمَ فَتَمْرٌ، فَإِنْ عَدِمَ فَمَاءٌ، لِمَا وَرَدَ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُفْطِرَ عَلى رُطَبَات قَبْلَ أَنْ يُصَلِّي فَإِنْ لَمْ تَكُنْ رُطَبَات فَتَمَراتٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُن تَمَرَاتٍ حَسَا حَسَوَاتِ مِنْ مَاءٍ، وَعَنْ سَلْمَانَ بن عَامِرٍ الضَّبِّي قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَفْطَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيَفْطَر عَلى تَمْرٍ، فَإِنَّهُ بَرَكَةٌ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ تَمْرًا فالْمَاءُ فَإِنَّهُ طَهُورٌ» .
والْفِطْرُ قَبْلَ صَلاةِ الْمَغْربِ أَفْضَلُ، لِحَدِيث أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ:(مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يصَلِّي حَتَّى يُفْطِرَ، وَلَوْ شَرْبَةَ مَاءٍ) .
إذا رُمْتَ أَنْ تَشْرَبْ فَكُنْ قَاعِدًا تَفُزْ
…
بِسُنَّةِ خَيْرِ الْخَلْقِ أَعْنِي مُحَمَّدًا
فَقَدْ صَحَّحُوا شُرْبًا لَهُ وَهُوَ قَائِمٌ
…
وَلَكِنْ بَيَانًا لِلْجَوازِ فَسَدِّدَا
وَيُسْتَحَبُّ قَوْلُ الصَّائِمِ عِنْدَ فِطْرِهِ:
اللَّهُمَّ لَكَ صُمْتُ وَعَلَى رِزْقِكَ أَفْطَرْتُ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. لِمَا وَرَدَ عَنْ مُعَاذِ بنِ زَهْرَةَ: أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَفْطَرَ قَالَ: «ذَهَبَ الظَّمَأُ وابْتَلَّتْ الْعُرُوقُ، وَثَبَتَ الأجْرُ إِنْ شَاءَ الله» ، وَثَبَتَ عَن النَّبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«لِلصَّائِمِ عِنْدَ فِطْرِهِ دَعْوَةُ لا تَرَدُّ» . وَلِحَدِيثَي ابنْ
عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ رضي الله عنهما قَالا: كَان النبي صلى الله عليه وسلم إِذَا أَفْطَرَ قَالَ: «اللَّهُمَّ لَكَ صُمْنَا وَعَلَى رِزْقِكَ أَفْطَرْنَا، اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُُ الْعَلِيمُ» .
وَعَنْ عَبْد اللهِ بن الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما قَالَ: أَفْطَرَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عِنْدَ سَعْدِ بن مُعَاذٍ، فَقَالَ:«أَفْطَرَ عِنْدَكُم الصَّائِمُونَ وَأَكَلَ طَعَامَكُمْ الأَبْرَارُ وَصَلَّتْ عَلَيْكُمْ الْمَلائِكَةُ» .
وَعَلَى الإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ أَنْ يَكُونَ فِطْرُهُ عَلَى حَلالٍ وَأَنْ يَحْذَرَ أَنْ يَكُونَ على حَرَام، فَإِنْ أَكَلَ الْحَرَامِ مِنْ جُمْلَةِ مَوَانِعِ قَبُولِ الدُّعَاءِ، فَقَدْ وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ طَيَّبٌ وَلا يَقْبَلُ إلا طَيِّبًا، وإِنَّ الله أَمَرَ الْمُؤمِنينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً} ، وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ، - ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ - أَشْعثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السَّمَاء وَيَقَولَ: يَا رَبُّ يَا رَبُّ! وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لَهُ» .
فَإِيَّاكَ إِيَّاكَ الرِّبَا فَلَدِرْهَمٌ
…
أَشَدُّ عِقَابًا مِنْ زِنَاكَ بِنُهَّدِ
وَتَمْحَقُ أَمْوَالُ الرِّبَا وَإِنْ نَمتْ
…
وَيَرْبُو قَلِيلُ الحِلِّ فِي صِدْقِ مَوْعِدِ
آخر:
المالُ يَذْهَبٌ حِلُّهُ وَحَرَامُهُ
…
يَوْمًا وَتَبْقَى في غَدٍ آثَامِهِ
لَيَسْ التَّقِيُّ بُمِتْقَّ لإِلهِهِ
…
حَتَّى يَطِيبَ شَرَابِهِ وَطَعَامِهِ
وَفِي الْحَدِيثِ: «أَلا إِنَّ أَوَّلَ مَا يُنْتِنُ مِنْ الإِنْسَانِ بَطْنُهُ فَمَنْ اسْتَطَاعَ أَلا يَأْكُلَ إِلا طَيِّبًا فَلْيَفْعَلْ» . الْحَدِيثِ.
وَمِنْ آدَابِ الدُّعَاءِ أَنْ يَكُونَ مِنْ صَمِيمِ القَلْبِ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «ادْعُوا الله
وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بالإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لاهٍ وَأَنْ يَكُونَ دُعَائَهُ في السَّرَّاءِ والضَرَّاءِ» .
فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةِ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ اللهُ لَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالكُرَبِ فَليُكْثِرْ الدُّعَاء في الرِّخَاءِ وَأَنْ يَكُونَ بالتَّضَرُّعِ بالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ» . قَالَ اللهُ تَعَالى: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} ، وَقَالَ:{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} ، وَقَالَ فِي حَقِّ يُونُسَ عليه السلام:{فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} وَأَنْ يَفْتَتِحَ الدُّعَاء بالثَّنَاءِ عَلَى اللهِ وَالصَّلاةِ عَلَى نَبِيِّهِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
رَوَى التِّرْمِذِي وَغَيْرَهُ عَنْ فضَالَةَ بن عُبَيْدٍ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَاعِدًا إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«عَجِلْتَ أَيُّهَا الْمُصَلِّي إِذَا صَلِّيْتَ فَقَعَدْتَ فَاحْمَدِ اللهِ بِمَا هُوَ أَهْلُه وَصَلِّ عَلَيِّ ثُمَّ ادْعُهُ» . قَالَ ثُمَّ صَلى رَجُلٌ آخَرُ بَعْدَ ذَلِكَ فَحَمِدَ اللهَ وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «أَيُّهَا الْمُصَلِّي ادْعُ تَجِبْ» .
وَعَنْ عُمَرَ قَالَ: إِنَّ الدُّعَاءَ مَوقُوفٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا يَصْعَدُ مِنْهُ شَيْءٌ حَتَّى تُصَلي عَلَى نَبِيِّكَ صلى الله عليه وسلم وَأَنْ يُخْفَى الدُّعَاءَ. قَالَ الْحَسَنُ: بَيْنَ دَعوةِ السِّرِ وَدَعْوَةِ العَلانِيَةِ سَبْعُونَ ضِعْفًا وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَقَدْ جَمَعَ القُرْآنَ وَمَا يَشْعُرُ بِهِ النَّاسُ، وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ لقد فَقِهَ الفِقْهَ الكَثِيرَ وَمَا يَشْعُرُ بِهِ النَّاسُ، وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ لِيُصَلي الصَّلاةِ الطويلَةَ في بَيْتِهِ وَعندَهُ الزُّوَّارُ مَا يَشْعُرونَ بِهِ، وَلَقَدْ أَدْرَكْنَا أَقْوَامًا مَا كَانَ عَلَى الأَرْضِ مِنْ عَمَلٍ يَقْدُرُونَ أَنْ يَعْمَلُوهُ فِي السرِ فَيَكُونُ عَلانيةً أَبَدًا وَلَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ
يَجْتِهدُونَ في الدعاءِ وَمَا يُسْمَعُ صَوْتٌ إِنْ كَانَ إِلا هَمْسًا بَينَهُم وبينَ رَبِّهم وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ يَقُولُ: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} وَذَلكَ أَنَّ اللهَ ذَكرَ عَبْدًا صَالِحًا رَضِيَ فِعْلَهُ فَقَالَ: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً} .
شِعْرًا:
إِلى مَتَى يَا عَيْنُ هَذَا الرُّقَادُ
أَمَا آنَ أَنْ تَكْتَحِلِي بِالسُّهَادِ
تَنَبَّهِي مِنْ رَقْدَةٍ وَانْظُرِي
مَا فَاتَ مِنْ خَيرٍ عَلَى ذِي الرُّقَادِ
يَا أَيُّهَا الغَافِلُ فِي نَوْمِهِ
قُمْ لِتَرى لُطْفَ الكَرِيمِ الْجَوَادِ
مَوْلاكَ يَدْعُوكَ إلى بَابِهِ
وَأَنْتَ فِي النَّوْمِ شَبِيهُ الْجَمَادِ
وَيَبْسُطُ الكَفَّينَ هَلْ تَائِبٌ
مِنْ ذَنْبِهِ هَلْ مِنْ لَهُ مِنْ مُرَادِ
وَأَنْتَ مِنْ جَنْبٍ إِلى جَانِب
تدور في الفرش ولين المهاد
يدعوك مولاك إلى قربه
وَأَنْتَ تَخْتَارُ الْجَفَا وَالبِعَادِ
كَمْ هَكَذَا التَّسْوِيفُ فِي غَفْلَةٍ
لَيْسَ عَلَى العُمْرِ العَزِيزِ اعْتِمَادِ
لَقَدْ مَضَى لَيْلُ الصَّبَا مُسْرِعًا
وَنِيرُ صُبْحِ الشَّيْبِ فَوْقَ الفُؤَادِ
أَفِقْ فَإِنَّ اللهََ سُبْحَانَهُ
رَحْمَتُهُ عَمَّتْ جَمِيعَ العِبَادِ
اللَّهُمَّ تَوفَّنَا مُسْلِمِينَ وَألْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، اللَّهُمَّ ألْهِمْنَا شُكْرَكَ آنَاء اللَّيْل وَالنَّهَارِ، وَثَبِّتْنَا عَلَى قَوْلِكَ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.
(فَصْلٌ) : فِي أَحْكَامِ القَضَاءِ
وَيُسْتَحَبُّ قَضَاءُ رَمَضَانَ فَوْرًا مَعَ سَعَةِ وَقْتٍ مُسَارَعَةً لِبَرَاءَةِ الذِّمَةِ وَيُسَنَّ التَّتَابُعْ فِي قَضَائِهِ لأَنَّهُ أَشْبَهُ بَالأَدَاءِ وَأَبْعَدُ عَنْ الْخِلافِ. وَيَجُوزُ تَفْرِيقُهُ لِمَا وَرَدَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «قَضَاءَ رَمَضَانَ إِنْ شَاءَ فَرَّقَ وَإِنْ شَاءَ تَابَعَ» .
وَرَوَى الأَثْرَمُ بِإسْنَادِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بن الْمُنْكَدِرِ أَنَّهُ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ تَقْطِيعِ قَضَاءِ رَمَضَانَ، فَقَالَ:«لَوْ كَانَ عَلَى أحَدَكُمْ دَيْنٌ فَقَضَاهُ مِنْ الدِّرْهَمِ وَالدِّرْهَمِينِ حَتَّى يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ مِنْ الدِّينِ، هَلْ كَانَ قَاضِيًا دِينَهُ» ؟ قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ:«فَاللهُ أَحَقُّ بِالعَفْوِ واَلتَّجَاوُزِ مِنْكُمْ» .
قَالَ البُخَارِي: قَالَ ابْنُ عَبَّاس رضي الله عنهما لا بَأْسَ أَنْ يُفَرِّقَ لِقَوْلِهِ تَعَالى: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} مُتَتَابِعَاتٍ، فَسَقَطَتْ مُتَتَابِعَاتِ.
وَلا يَجُوزُ تَأْخِيرَ قَضَاءَ رَمَضَانَ إِلى رَمَضَانَ آخَرَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، لِمَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ يَكُونُ عَليَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَ إِلا فِي شَعْبَانَ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: إِنْ كَانَتْ إحْدَانَا لَتُفْطِرُ فِي زَمَانِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَمَا تَقْدِرُ أَنْ تَقْضِيهِ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلا فِي شَعْبَانَ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِي: قَالَتْ رضي الله عنها مَا كُنْتُ أَقْضِي مَا يَكُونُ عَليَّ مِنْ قَضَاءِ رَمَضَانَ إِلا فِي شَعْبَانَ حَتَّى تُوفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
وَإِذَا لَمْ يَبْقَ مِنْ شَعْبَانَ لا قَدْرُ مَا عَلَيْهِ، وَجَبَ القَضَاءُ فَوْرًا مُتَابِعًا لِضِيقِ الوَقْتِ، كَأَدَاءِ رَمَضَانَ فِي حَقَّ مَنْ لا عُذْرَ لَهُ.
وَلا يُكْرَهُ القَضَاء في عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، فَإِنْ أَخَّرَ القَضَاءَ لِغَيْرِ عُذْرٍ حَتَّى أَدْرَكَهُ رَمَضَانُ آخَرَ فَعَلَيْهِ مَعَ القَضَاءِ إِطْعَامُ مُسْكِينٍ لِكُلِّ يَوْمٍ وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسِ- رضي الله عنهما وَابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه وَلَمْ يُرَوَ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلافُهُ قَالَهُ في الشَّرْحِ.
وَمَنْ فَاتَهُ رَمَضَانُ قَضَا عَدَدَ أَيَّامِهِ تَامًّا كَانَ أَوْ نَاقِصًا لأَنَّ القَضَاءَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِعَدَدِ مَا فَاتَهُ كَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالى: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وَيَجُوزُ أَنْ يَقْضِي يَوْمَ صَيْفٍ عَنْ يَوْمِ شِتَاءٍ وَأَنْ يَقْضِي يَوْمَ شِتَاءٍ عَنْ يَوْمِ صَيْفٍ. وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ.
(فصل) : ثُم اعْلَمْ وَفَّقَنَا وَإِيَّاكَ اللهُ لِطَاعَتِهِ أَنَّ لِلصِّيَامِ مَحَاسِنَ كَثِيرَةً وَهِيَ قَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِي ثَبَّتْنَا اللهُ وَإِيَّاكَ وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ فَمِنْهَا: أَنَّ الإِنْسَانَ إِذَا جَاعَ بَطْنُهُ انْدَفَعَ جُوعُ كَثِير مِنْ حَوَاسِهِ فَإِذَا شَبعَ بَطْنُهُ جَاعَ عَيْنُه وَلِسَانُهُ وَيَدُهُ وَفَرْجُهُ فَكَانَ تَشْبِيعُ النَّفْسِ تَجْوِيعًا لِهَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ، وَفِي تَجْوِيعِ النَّفْسِ تَشْبِيعُهَا فَكَانَ هَذَا التَّجْوِيعُ أَوْلَى وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا جَاعَ عَلِمَ حَالُ الفُقَرَاءِ فِي جَوْعِهِمْ فَيَرْحَمُهُمْ
وَيُعْطِيهِمْ مَا يَسُدُّ بِهِ جَوْعَهُمْ إِذْ لَيْسَ الْخَبَرُ كالْمُعَايَنَةِ لا يَعْلَمُ الرَّاكِبُ مَشَقَّة الرَّاجِلَ إِلا إِذَا تَرَجَّلَ.
وَمِنْ مَحَاسِنِ الصِّيَامِ في فَرْضِهِ وَشَرْعِهِ أَنَّهُ لَمْ يُفْرَضْ فِي كُلِّ العُمْرِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْحُسْنِ بَلْ فُرِضَ شَهْرًا مِنْ كُلِّ سَنَةٍ شَهْرَ رَمَضَانَ وَرُخِصَّ فِي الإِفْطَارِ عِنْدَمَا يَحْصُلُ لَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ عُذْرٌ وَأَيْضًا أَمُرَ بالصَّوْمِ فِي النَّهَارِ وَأُبِيحَ في اللَّيْلِ الإِفْطَارُ، وَهَذَا مِنْ لُطْفِ اللهِ أَمَرَ عِبَادَهُ عَلى وَجْهِ يُمْكِنُ لَهُمْ فِيهِ إحْرَازُ الفَضِيلَةِ وَاكْتِسَابُ الوَسِيلَةِ وَمِنْ ذَلِكَ إنَّهُ خَصَّ الصِّيَامَ بالنَّهَارِ لأَنَّ الأَكْلَ فِيهِ مُعْتَادٌ، وَالنَّوْمُ في اللَّيْلِ مُعْتَادٌ وَمِنْ مَحَاسِنِ الصَّوْمِ اكْتِسَابِ مَكَارِمِ الأَخْلاقِ لأَنَّ قِلةَ الأَكْلِ مِنْ مَحَاسِنِ الأَخْلاقِ.
وَلِذَلِكَ لَمْ يُحْمَدْ أَحَدٌ بِكَثْرَةِ الأَكْلِ وَيُحْمَدُ عَلى قِلَّةِ الأَكْلِ يَحْمِدُهُ كُلُّ ذِي دِينٍ فِي كُلِّ حِينٍ وَلَمْ يُرَوَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الأَنْبِيَاءِ كُثْرَةُ الأَكْلِ وَمِنْ جُمْلَةِ الْمَحَاسِنِ فِي الصِّيَامِ أَنَّ اللهَ مِنْ لُطْفِهِ بِعِبَادِهِ لَمْ يَشْتَرِطْ في القَضَاء مَا في الأداءِ مَنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَمْ يَشْتَرِطْ في القَضَاء طُولَ اليَوْمِ باليَوْمِ وَلا حَرَارَتَهُ وَلا بُرُودَتَهُ فَإِذَا أَفْطَرَ فِي أَطْوَلِ يَوْمٍ ثُمَّ قَضَاهُ فِي أَقْصَرِ يَوْمٍ أَجْزَاهُ وَكَفَاهُ.
وَمِنْ جُمْلَةِ الْمَحَاسِنِ فِي الصَّوْمِ أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرَطْ فِيهِ قِرَانُ النِّيَةِ عِنْدَ الشُّرُوعِ كَمَا فِي سَائِرِ العِبَادَاتِ لأَنَّ هَذَا الوَقْتِ وَقْتُ نَوْمٍ وَغَفْلَةٍ قَلَّمَا يَقِفُ العَبْدُ عَلَيْهِ فَلوَ شُرِطَ لَضَاقَ الأمْرُ عَلَى النَّاسِ فَيَسَّرَ الأَمْرَ عَلَى عِبَادِهِ حَتَّى أَجَازَ الصَّوْمَ بِنِيَّةٍ مُتَقَدِّمَةٍ تَقَعُ بِجُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ وَإِنْ طَرَأ عَلَيْهِ الأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالرَّفَثُ لأَنَّ اللهَ أَبَاحَ الأَكْلَ وَالشُّرْبَ إلى آخِرِ اللَّيْلِ فَلَوْ بَطَلَتْ بِهِ فَاتَ مَحَلُّهَا.
اللَّهُمَّ اسْلُكْ بِنَا سَبِيلَ عِبَادِكَ الأَبْرَارِ، وَنَجِّنَا مِنْ عَذَابِ النَّارِ، وأَسْكِنَّا الْجَنَّةَ دَارَ القَرَارِ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) : كَتَبَ عُمر بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ إِلى القُرَضِي: أَمَّا بَعَدُ فَقَدْ بَلَغَنِي كِتَابُكَ تَعِظُنِي وَتَذْكُرُ مَا هُو لِي حَظٌّ وَعَلَيْكَ حَقَّ وَقَدْ أَصَبْتَ بِذَلِكَ أَفْضَلَ الأَجْرِ إِنَّ الْمَوْعِظَةَ كَالصَّدَقَةِ بَلْ هِيَ أَعْظَمُ أَجْرًا وَأَبْقَى نَفْعًا وَأَحْسَنُ ذُخْرًا وَأَوْجَبُ عَلى الْمُؤْمِن حَقًّا، لِكَلِمَةُ يَعِظُ بِهَا الرَّجُلُ أَخَاهُ لِيَزْدَادَ بِهَا فِي هُدىً وَرَغْبَةٌ خَيْرٌ مِنْ مَالِ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ بِهِ إِلَيْهِ حَاجَةٌ، وَلِما يُدْرِكُ أَخُوكَ بِمَوْعِظَتِكَ مِنْ الْهُدَى خَيْرٌ مِمَّا يَنَالُ بِصَدَقَتِكَ مِنْ الدُّنْيَا وَلأَنْ يَنْجُو رَجُلٌ بِمَوْعِظَتِكَ مِنْ هَلَكَةٍ خَيْر مِنْ أَنْ يَنْجُو بِصَدَقَتِكَ مِنْ فَقْرٍ.
فَعِظْ مَنْ تَعِظُ لِقَضَاءِ حَقٍّ عَلَيْكَ وَاسْتَعْمِلْ كَذَلِكَ نَفْسَكَ حِينَ تَعِظْ وَكُنْ كَالطَّبِيبِ الْمُجَرِّبِ العَالِمِ الذِي قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ إِذَا وَضَعَ الدَّوَاءَ حَيْثُ لا يَنْبَغِي أَعْنَتَ نَفْسَهُ، وَإِذَا أَمْسَكَ مِنْ حَيْثُ يَنْبَغِي جَهْلَ وَأَثِمَ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُدَاوِي مَجْنُونًا لَمْ يُدَاوِهِ، وَهُوَ مُرْسَلٌ حَتَّى يَسْتَوْثِقَ مِنْهَ وَيُوَثِّقَ لَهُ خَشْيَةَ أَنْ لا يَبْلُغَ مِنْهُ مِنْ الْخَيْرِ مَا يَتَّقِي مِنْهُ مِنْ الشَّرِ وَكَانَ طِبُّهُ وَتَجْرِبَتُهُ مِفْتَاحُ عَمَلِه، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمْ يُجْعَلْ الْمِفْتَاحُ عَلى البَابِ لِكَيْمَا يُغْلَقُ فَلا يُفْتَحُ أَوْ ليُفْتَحَ فَلا يُغْلَقُ وَلَكِنْ لِيُغْلَقَ فِي حِينِهِ وَيُفْتَحَ فِي حِينِهِ.
وَكُنْ نَاصِحًا لِلْمُسْلِمِينَ جَمِيعهِمْ
بِإرْشَادِهِمْ لِلْحَقِّ عِنْدَ خَفَائِهِ
وَمُرْهُمْ بِمَعْرُوفِ الشَّرِيعَةِ وَانْهَهُمْ
عَنْ السُّوءِ وَازْجُرْ ذَا الْخَنَا عَنْ خَنَائِهِ
وَعِظْهُمْ بَآيَاتِ الكِتَابِ بِحِكْمَةٍ
لَعَلَّكَ تُبْرِي دَاءَهُمْ بِدَوَائِهِ
فَإِنَّ يَهْدِ مَوْلانَا بِوَعْظِكَ وَاحِدًا
تَنَلْ مِنْهُ يَوْمَ الْحَشْرِ خَيْرَ عَطَائِهِ
وَإلا فَقَدْ أَدَّيْتَ مَا كَانَ وَاجِبًا
عَلَيْكَ وَمَا مَلَكَتْ أَمْرَ اهْتِدَائِهِ
اللَّهُمَّ ألْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَوَفِّقْنَا لِلْقِيَامِ بِحَقِّكَ وَبَارِكْ لَنَا فِي الْحلال مِنْ رِزْقَكَ وَلا تَفْضَحْنَا بَيْنَ خَلْقِكَ يَا خَيْرَ مَنْ دَعَاهُ دَاعٍ وَأَفْضَلَ مَنْ رَجَاهُ رَاجٍ يَا قَاضِيَ الْحَاجَاتِ وَمُجِيب الدّعَواتِ هَبْ لَنَا مَا سَأَلْنَاهُ وَحَقِّقْ رَجَاءَنَا فِيمَا تَمَنَّيْنَاهُ يَا مِنْ يَمْلِكُ حَوائِجَ السَّائِلين وَيَعْلَمُ مَا فِي ضَمَائِر الصَّامِتِينَ أَذِقْنَا بِرْدَ عَفْوِكَ وَحَلاوَةَ مَغْفِرَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمينَ. اللَّهُمَّ يَا مَنْ خَلَقَ الإِنْسَانَ في أَحْسَنِ تَقْويمٍ وَبِقُدْرَتِهِ التي لا يُعْجِزُهَا شَيْءٌ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِي رَمِيمٌ نَسْأَلُكَ أَنْ تَهْدِينَا إِلى صِرَاطِكَ الْمُسْتِقيمِ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصَّدِّيقِينَ والشُّهَدَاءِ والصَّالِحِينَ، وَأَنْ تَغْفِرْ لَنَا وَلِوالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمِ وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
(فَصْلٌ)
في صَلاةِ التَّرَاوِيحِ
وَيَبْحَثُ في:
1-
مَشْرُوعِيَّةِ صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ.
2-
صِفَةِ أو كَيْفِيَّةِ التَّرَاوِيحِ.
3-
مَذَاهِبِ العُلَمَاَءِ رحمهم الله في عَدَدِ رَكَعَاتِهَا.
4-
مَا يُسْتَحَبُّ فِيهَا.
1-
مَشْرُوعِيَّةِ صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ.
التَّرَاوِيحُ سُنَّةٌ مَؤَكَّدةٌ سَنَّهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: فَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى فِي الْمَسْجِدَ فَصَلَّى بِصَلاتِهِ نَاسٌ ثُمَّ صَلَّى الثَّانِيَةَ فَكَثَرَ النَّاسُ ثُمَّ اجْتَمَعُوا مِنْ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ: «رَأَيْتُ الذِي صَنَعْتُمْ فَلَمْ يَمْنَعِنِي مِنْ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ إِلا أَنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ» . وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَتْ: (كَانَ النَّاسُ يُصَلُّونَ فِي الْمَسْجِدِ فِي رَمَضَانَ باللَّيْلِ أَوْزَاعًا مَعَ الرَّجُلِ الشَّيْءَ مِنْ القُرْآنِ، فَيَكُونُ مَعَهُ النَّفَرُ الْخَمْسَةُ، أَوْ السَّبْعَةُ، أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ يُصَلُّونَ بِصَلاتِهِ، قَالَتْ: فَأَمَرِنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أنْصِبَ لَهُ حَصِيرًا عَلَى بَابِ حُجْرَتِي، فَفَعَلْتُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ بَعْدَ أَنْ صَلَّى العِشَاءَ الآخِرَةِ فاجْتَمَعَ إِلَيْهِ مَنْ فِي الْمَسْجِد فَصَلَّى بِهِمْ. وَذَكَرْتُ القِصَّةَ بِمَعْنَى مَا تَقَدَّمَ، غَيْرَ أَنَّ فِيهَا أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ) .
وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ نَفِيرٍ عَنْ أَبِي ذَر رضي الله عنه قَالَ: صُمْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يُصَلِّ بِنَا حَتَّى بَقِي سَبْعٌ مِنَ الشَّهْرِ فَقَامَ بِنَا حَتَّى ذَهَبَ شَطْرُ اللَّيْلِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ: لَوْ نَفَّلْتَنَا بَقِيَّةَ لِيْلَتِنَا هَذِهِ فَقَالَ: «مَنْ قَامَ مَعَ الإِمَامَ حَتَّى يَنْصَرِفَ كَتَبَ اللهُ لَهُ قِيَامَ لِيْلَةٍ» . ثُمَّ لَمْ يَقُمْ بِنَا حَتَّى بَقِي ثَلاثٌ مِنَ الشَّهْرِ فَصَلَّى بِنَا فِي الثَّالِثَةِ وَدَعَا أَهْلَهُ وَنِسَاءَهُ حَتَّى تَخَوَّفنَا الفَلاحَ، قَلْتُ لَهُ: وَمَا الفَلاحَ؟ قَالَ: السُّحُورُ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُرَغِّبُ في قِيَامِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرُهُمْ بِعَزِيمَةٍ) ،
فَيَقُولَ: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» .
وَعَنْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن عَوْفٍ: أَنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ اللهَ عز وجل فَرَضَ صِيَامَ رَمَضَانِ، وَسَنَنْتُ قِيَامَهُ فَمَنْ صَامَهُ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا خَرَجَ مِنْ ذِنُوبِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أَمُّهُ» .
وَعَنْ زَيْدِ بن ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اتَّخَذَ حُجْرَةٌ فِي حَصِيرِ فَصَلَّى فِيهَا لَيَالٍ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ نَاسٌ، ثُمَّ فَقَدُوا صَوْتَهُ لَيْلَةً فَظَنُّوا أَنَّهُ نَامَ، فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَتَنَحْنَحُ لِيَخْرُجَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ:«مَا زَالَ بِكُمْ الذِي رَأَيْتُ مِنْ صَنِيعِكُمْ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْكُمْ، وَلَوْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ مَا قُمْتُمْ بِهِ، فَصَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ فَإِنَّ أَفْضَلَ صَلاةِ الْمَرْءِ في بَيْتِهِ إِلا الصَّلاةَ الْمَكْتُوبَةَ» .
2-
صِفَةِ أو كَيْفِيَّةُ صَلاةِ التَّرَاوِيحِ:
صَلاةِ التَّرَاوِيحِ بِجَمَاعَةٍ أَفْضَلُ، قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ:(كَانَ عَلي، وَجَابِرُ، وَعَبْدُ اللهِ رضي الله عنهم يُصَلُّونَهَا جَمَاعَةً)، وَرُوِيَ عَنْ عَلي رضي الله عنه:(أَنَّهُ كَانَ يَجْعَل لِلرِّجَالِ إِمَامًا وَلِلنِّسَاءِ إمَامًا) .
وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: إِنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم جَمَعَ أَهْلَهُ وَأَصْحَابَهُ وَقَالَ: «إِنَّهُ مَنْ قَامَ مَعَ الإِمَامَ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلِهِ» .
وَيَجْهَرُ الإِمَامُ بالقِرَاءَةِ لِنَقْلِ الْخَلَفِ عَن السَّلَفِ. وَيُسَلِّمُ مِنْ كُلَّ رَكْعَتَيْنِ، وَوَقْتَهَا بَعْدَ صَلاةِ العِشَاءِ، قَبْلَ الوِتْرِ إِلى طُلُوعِ الفَجْرِ، وَفِعْلُهَا فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَلٌ، لأَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم صَلاهَا ثَلاثَ لَيَالٍ مَتَوَالِيَةً، كَمَا رَوَتْ عَائِشَةَ رضي الله عنها وَمَرَّةً ثَلاثَ لَيَالٍ
مُتَفَرِّقَةٍ كَمَا رَوَى أُبُو ذَرّ قَالَ: مَنْ قَامَ مَعِ الإِمَامَ حُسِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ، وَكَانَ أَصْحَابَهُ يَفْعَلُونَهَا فِي الْمَسْجِدْ أَوْزَاعًا فِي جَمَاعَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ فِي عَهْدِهِ.
وَالوَقْتَ أَنْفَسُ ما عُنِيْتَ بِحْفظِهِ
…
وَرَاهُ أَسْهَلَ مَا عَليْكَ يضِيْعُ
شِعْرًا:
…
وَمَا اللَّيْل إلا لِلمُنِيب مَطِيَّةٌ
…
وَمِيدَانُ سَبْق لِلذِي يَتَهَجَّدُ
آخر:
يَهْوَى الدَّيَاجِي إِذَا الْمَغْرُورُ أَغْفَلِهَا
…
كَأَنَّ شُهْبَ الدَّيَاجِي أَعْيَنٌ نُجُلُ
آخر:
إِذَا شَمَّ الفَتَى بَرْقَ الْمَعَالِي
…
فَأَهْوَنُ فَائِتٍ طَيْبُ الرِّقَادِ
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن القاَرِئْ قَالَ: (خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بُنِ الْخَطَّابِ في رَمَضَانَ إِلى الْمَسْجِدِ فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ مَتَفَرِّقُونَ يُصَلِّي الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ، وَيُصَلِّي الرَّجُلُ فَيُصَلِّي بِصَلاتِهِ الرَّهْطُ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي أَرَى لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلاءِ علَىَ قَارِئٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَمْثَلَ. ثُمَّ عَزَمَ فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبِيّ بِنْ كَعْبٍ ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُ لَيْلَةً أُخْرَى وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاةِ قَارِئِهِمْ، فَقَالَ عُمَرُ: (نِعْمَتْ البِدْعَةُ هَذِهِ، وَالتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ مِنْ التِي يَقُومُونَ) . يَعْنِي: آخِرُ اللَّيْلِ، وَكَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَهُ. فَدَلَّتْ هَذِهِ الأَخْبَارُ وَغَيْرِهَا عَلَى أَنَّ فِعْلَ التَّرَاوِيحِ جَمَاعَةً أَفْضَلُ مِنْ الانْفِرَادِ وَكَذَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَأَهْلِ الأَمْصَارِ عَلَى ذَلِكَ.
وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَتَجُوزُ فُرَادَى وَاخْتَلَفَ أَيَّتُهما أَفْضَلُ لِلقَارِئ، قَالَ البَغَوِي وَغَيْرِه: الْخِلافُ بِمَنْ يَحْفَظُ القُرْآنَ، وَلا يَخَافُ الكَسَلَ عَنْهَا لَوْ انْفَرَدَ، وَلا تَخْتَلُّ الْجَمَاعَةُ بِتَخَلُّفِهِ، فَإِنْ فُقِدَ أَحَدُ هَذِهِ الأمُورِ فَالْجَمَاعَةُ أَفْضَلُ بِلا خِلافٍ وَأَمَّا عَدَدُ صَلاةِ التَّرَاوِيحِ فَقَالَ القَاضِي: لا خِلافَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ حَدٌّ لا يُزَادُ عَلَيْهِ وَلا يَنْقُصْ مِنْهُ.
فَاخْتَارَ الإِمَامُ أَحْمَدُ وَجُمْهُورُ العُلَمَاءِ عِشْرِينَ رَكْعَةً لِمَا رَوَى مَالِكُ فِي (الْمُوَطَّأِ) عَنْ يَزِيدِ بن رُومَانَ قَالَ: (كَانَ النَّاسُ فِي زَمَنِ عُمَرَ يَقُومُونَ فِي رَمَضَانَ بِثَلاثِ وَعِشْرِينَ رَكْعَةً) .
وَقَالَ السَّائِبُ بِنْ يَزِيدَ: لِمَّا جَمَعَ عُمَرَ النَّاسَ عَلَى أُبِيّ بِنْ كَعْبٍ، وَكَانَ يُصَلِّي بِهِمْ عِشْرِينَ رَكْعَةً. وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ فِي كِتَابِهِ (الشَّافِي) : عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي فِي شَهْرِ رَمَضَانَ عِشْرِينَ رَكْعَةً.
وَقَالَ شَيْخُ الإِسْلامِ: لَهُ أَنْ يُصَلِّيهَا عِشْرِينَ كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ في مَذْهَب أَحْمَدَ، وَالشَّافِعِي، وَلَهُ أَنْ يُصَلِّيهَا سِتًّا وَثَلاثِينَ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَلَهُ أَنْ يُصَلِّي إِحْدَى عَشْرَةَ، وَثَلاثَ عَشْرَةَ وَكُلُّهُ حَسَنٌ، فَيَكُونَ تَكْثِيرُ الرَّكَعَاتِ أَوْ تَقْلِيلُهَا بِحَسْبِ طُولِ القِيَامِ وَقِصَرِهِ. وَقَالَ: الأَفْضَلُ يَخْتَلِفُ باخْتِلافِ الْمُصَلِّينَ فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ احْتَمَالٌ بِعَشْرِ رَكْعَاتٍ وَثَلاثٍ بَعْدَهَا، كَمَا كَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي لِنَفْسِهِ فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ فَهُو الأَفْضَلُ، وَإِنْ كَانُوا لا يَحْتَمِلُونَهُ، فَالْقِيَامُ بِعِشْرِينَ هُوَ الأَفْضَلُ وَهُوَ الذِي يَعْمَلُ بِهِ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ وسَطٌ بَيْنَ العَشْرِ وَالأَرْبَعِينَ، وَإِنْ قَامَ بَأَرْبَعِينَ وَغَيْرِهَا جَازَ، وَلا يَكْرَهُ شَيءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ قِيَامَ رَمَضَانَ فِيهِ عَدَدٌ مُؤَقَّتُ لا يُزْدَادُ فِيهِ وَلا يُنْقَصُ مِنْهُ فَقَدْ أَخْطَأَ، وَقَدْ يَنْشَطُ العَبْدُ فَيَكُونُ الأَفْضَلُ فِي حَقِّهِ تَخْفِيفِهَا.
وَقَالَ: قِرَاءَةُ القُرْآنِ في التَّرَاوِيحِ سُنَّةٌ باتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ مِنْ أَجْلِ مَقْصُودِ التَّرَاوِيحِ قِرَاءَةُ القُرْآنِ فِيهَا لِيَسْمَعُوا كَلامَ اللهِ، فَإِنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ فِيهِ نَزَلَ القُرْآنِ - فِيهِ كَانَ جِبْرِيلُ يُدَارِسُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. انْتَهَى كَلامَهُ رحمه الله. وَاللهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) 4- مَا يُسْتَحَبُّ فِيهَا:
وَعَلَى الإِمَامِ أَنْ يَتَّقِي اللهَ فَلا يُسْرِعُ سُرْعَةً تَمْنَعُ الْمَأْمُومِ مِنْ الإِتْيَانِ بِرُكْنٍِ كَالطُمْأَنِينَةِ، أَوْ وَاجِبٍ كَتَسْبِيحِ رُكُوعِ وَتَسْبِيحِ سُجُودِ، أَوْ
قَوْلِ: رَبِّ اغْفِرْ لِي، وَمَنَ الْمُؤْسِفِ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ، أَثْقَلُ الأَئِمَةِ عِنْدَهُ مَنْ يُصَلِّي التَّرَاوِيحَ بِخُشُوعٍ وَخُضُوعٍ وَاطْمِئْنَانٍ، وَلِذَا يَفِرُّونَ مِنْهُ وَيَذْهَبُونَ إِلى مَنْ يُسْرِعُ بِهَا وَلا يُتِمُّها عَلَى الوَجْهِ الْمَشْرُوعِ، وَلا يَطْمَئِنُّ بِهَا، وَالطَّمَأْنِينَةُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلاةِ، وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم لِلْمُسِيءِ في صَلاتِهِ لَمَا أَخَلَّ بِالطُّمَأنِينَةِ:«ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ» .
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» . وَكَانَ السَّلَفُ يَعْتَمِدُونَ عَلَى العُصِيّ مِنْ طُولِ القِيَامِ.
وَعَنْ الأَعْرَجِ قَالَ: (مَا أَدْرَكْنَا النَّاسَ إلا وَهُمْ يَلْعَنُونَ الكَفَرَةَ فِي رَمَضانَ. وَقَالَ: وَكَانَ القَارِئُ يَقْرَأُ سُورَةَ البَقَرَةِ فِي ثَمَانِ رَكَعَاتٍ، وَإِذَا قَامَ بِهَا فِي اثْنَتَي عَشْرَةَ رَكْعَةً رَأَى النَّاسُ أَنَّهُ قَدْ خَفَّفَ) .
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بِنْ بَكْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: كُنَّا نَنْصَرِفُ فِي رَمَضَانَ مِنْ القِيَامِ فَنَسْتَعْجِلُ الْخَدَمَ بالطَّعَامِ مَخَافَةَ فَوْتِ السُّحُورِ، وَفِي أُخْرَى:(مَخَافَةَ الفَجْرِ) .
وَعَنْ السَّائِبِ بن يَزِيدَ قَالَ: أَمَرَ عُمَرُ أُبَيّ بن كَعْبٍ، وَتَمِيمًا الدَّارِي رضي الله عنهم أَنْ يَقُومَا لِلنَّاسِ فِي رَمَضَانَ بِإحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةٍ، فَكَانَ القَارِئُ يَقْرَأُ بِالْمِئِينَ حَتَّى كُنَّا نَعْتَمِدُ عَلَى العُصيِّ مِنْ طُولِ القِيَامِ، فَمَا كُنَّا نَنْصِرِفُ إِلا فِي فُرُوعِ الفَجْرِ.
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ بِسُورَةِ القَلَمِ فِي عِشَاءِ الآخِرَةِ مِنْ الليلةِ الأَوْلَى مِنْ رَمَضَانَ بَعْدَ الفَاتِحَةِ لأَنَّها أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنْ القُرْآنِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لا يَنْقُصَ عَنْ خَتْمَةٍ فِي التَّرَاوِيحِ لِيَسْمَعَ النَّاسُ جَمِيعَ القُرْآنِ. وَيَتَحَرَّى أَنْ يَخْتِمَ آخِرَ التَّرَاوِيحِ قَبْلَ رُكُوعِهِ وَيَدْعُو.
شِعْرًا:
وَلَيْسَ فَتَى الفِتْيَانِ مِنْ كَانَ هَمُّهُ
…
جَرَائِدَ يَقْرَأهَا وَمِذْيَاعَ يَسْمَعُ
وَلَكِنْ فَتَى الفِتْيَانِ مِنْ كَانَ هَمُّهُ
…
قِرَاءَةُ قُرْآنٍ فَيَتْلُو وَيَسْمَعُ
وَلِشَيْخِ الإِسْلامِ فِي ذَلِكَ دُعَاءٌ جَامِعٌ شَامِلٌ. وَقَالَ: رُوِيَ أَنَّ عِنْدَ كُلِّ خَتْمَةٍ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ.
وَقَالَ العُلَمَاءُ: يُسْتَحَبُّ لِقَارِئِ القُرآنِ إِذَا خَتَمَهُ أَنْ يَجْمَعَ أَهْلَه فَإِنَّهُ روي عن أنسِ بن مالكٍ أنه كان يَجْمَعُ أَهْلَهُ عند خَتْمِ القُرآنِ. وعنه أنه إذا أشْفَى على خَتْمِ القُرآن بالليل بَقِيَ أَرْبَعُ سُورٍ أَوْ خَمْس فَإِذَا أَصَبَحَ جَمَعَ أَهْلَهُ فَخَتمه ودعا، وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ عَلِمَ بالخَتْمِ أَنْ يَحْضُرَهُ.
ورُوِي عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّ رَجُلاً كَانَ يَقْرأ في مَسْجِدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان ابنُ عباسٍ يجعَلُ عليه رَقيبًا. فإذا أَرادَ أن يختمَ قال لِجُلَسَائِهِ: قُومُوا بنا حتى نَحْضُرَ الخاتِمَةِ. وعن مجاهد: كانوا يَجْتَمِعُونَ عند خَتْمِ القُرآن وَيَقُولُونَ: الرحمةُ تنزل.
وعن الحَكَمِ بن عُتَيْبَةَ قَالَ: كَانَ مُجَاهِدُ وعنده ابْنُ أَبي لُبَابَةَ وَأُنَاسٌ يَعْرِضُونَ القُرْآنَ فَإِذَا أَرَادُوا أَنْ يَخْتِمُوهُ أَرْسَلُوا إِلَيْنَا وَقَالُوا: إِنَّا نُرِيدُ أَنْ نَخْتِمَ فَأَحْبَبْنَا أَنْ تَشْهَدُونَا فَإِنَّهُ يُقَالُ: إِذَا خُتِمَ القُرآن نَزَلَتِ الرَّحْمَةُ عند خَتْمِهِ، أو حَضَرَتِ الرحمةُ عند خَتْمِهِ.
وقال وُهَيْبُ بنُ الوَرْد: قال لي عَطَاءٌ: بَلَغَنِي أَنَّ حُمَيْدَ الأَعْرجَ يُرِيدُ أَنْ يَخْتِمَ القُرآنَ فَانْظُرْ إِذَا أَرَادَ أن يَخْتِمَ فَأخْبِرْنِي حَتَّى أَحْضُرَ الْخَتْمَةَ.
وقال في المغني:
(فَصْلٌ) : فِي خَتْمِ القُرْآنِ: قَالَ الفَضْلُ بن زِيَادٍ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ فُقُلْتُ أَخْتمُ القُرْآنِ أَجْعَلُهُ في الوِتْرِ أَوْ فِي التَّرَاوِيحِ؟ قَالَ: اجْعَلْهُ فِي التَّرَاوِيحِ حَتَّى يَكُونَ لَنَا دُعَائَيْن. قُلْتُ: كَيْفُ أَصْنَعُ؟ قَالَ إِذَا فَرِغْتَ مِنْ آخِرِ القُرْآنِ فَارْفَعْ يَدَيْكَ قَبْلَ أَنْ تَرْكَعَ وادُعْ بِنَا وَنَحْنُ في الصَّلاةِ وَأَطِلِ القِيَامِ. قُلْتُ: بِمَا أَدْعُو؟
قَالَ: بِمَا شِئْتَ. قَالَ: فَفَعَلْتُ بِمَا أَمَرَنِي وَهُوَ خَلْفِي يَدْعُو قَائِمًا وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ. قَالَ حَنْبَلُ: سَمِعْتُ أَحْمَدُ يَقُولُ في خَتمِ القُرْآنِ: إِذَا فَرَغْتَ مِنْ قِرَاءِة: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} فَارْفَعْ يَدَيْكَ فِي الدُّعَاء قَبْلَ الرُّكُوعِ. قُلْتُ: إِلى أَيُّ شَيْءٍ تَذْهَبُ فِي هَذَا؟ قَالَ: رَأَيْتُ أَهْلَ مَكَّةَ يَفْعَلُونَهُ، وَكَانَ سُفْيَانُ بَنْ عُيَيْنَةَ يَفْعَلْهُ مَعْهُم بِمَكَّةَ. قَالَ العَبَّاسُ بنُ عَبْدِ العظيم وَكَذَلِكَ أَدْرَكْنَا الناسَ بالبَصْرَةِ وَبِمَكَّةِ. وَيَرْوِي أَهْلُ المدينةِ فِي هَذَا شَيْئًا وَذَكَر عَنْ عُثْمَانَ بنِ عفان. وقالَ في الشرح الكبير مِثْلَ مَا قال في الْمُغْنِي، وقال في الأذكار: وَيُسْتَحَّبُ حُضُورُ مَجْلِسِ الْختمِ لِمَنْ يَقْرَأ وَلِمَنْ لا يُحْسِنُ أَنْ يَقرأ فَقَد رُوِينَا في الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ الحُيَّضَ بالخروج يومَ العِيدِ فلْيَشْهَدْنَ الخيرَ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِين. وَوَرَدَ: لا يَجْتَمعُ مَلاءٌ فَيَدْعُو بَعْضُهم ويُؤمِّنُ بَعْضُهُمْ إلا أجَابَهمُ الله. (طب، ك، ق) .
تَمَسَّكَ بِحَبَّلِ اللهِ وَاتَّبِعِ الْهُدَى
…
وَلا تَكُ بِدْعيًا لَعَلَّكَ تَفْلِحُ
وَدِنْ بِكِتَابِ اللهِ وَالسُّنَنِ التِي
…
أَتَتْ عَنْ رَسُولِ اللهِ تَنْجُو وَتَرْبَحُ
وَقُلْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ كَلامُ مَلِيكِنَا
…
بِذَلِكَ دَانَ الأَتْقِيَاءُ وَأَفْصَحُوا
وَقُلْ يَتَجَلَّى اللهُ لِلْخَلْقِ جَهْرَةٍ
…
كَمَا البَدْوُ لا يَخْفَى وَرَبُّكَ أَوْضَحُ
وَلَيْسَ بِمَوْلُودٍ وَلَيْسَ بِوَالِدٍ
…
وَلَيْسَ لَهُ شِبْهُ تَعَالى الْمُسَبَّحُ
وَقَدْ يُنْكِرُ الْجَهْمِيُّ هَذَا وَعِنْدَنَا
…
بِمِصْدَاقِ مَا قُلْنَا حَدِيثٌ مُصَحَّحُ
رَوَاهُ جَرِيرٌ عَنْ مَقَالِ مُحَمَّدٍ
…
فَقُلْ مِثْلَ مَا قَدْ قَالَ في ذَلِكَ تَنْجَحُ
وَقَدْ يُنْكِرُ الْجَهْمِيُّ أَيْضًا يَمِينَهُ
…
وَكِلْتَا يَدَيْهِ بِالفَوَاضِلِ تُفْتَحُ
وَقُلْ يَنْزِلُ الْجَبَّارُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ
…
بِلا كَيْفٍ جَلَّ الوَاحِدُ الْمُتَمَدِّحُ
إِلى طَبَقِ الدُّنْيَا يَمُنُّ بِفَضْلِهِ
…
فَتُفْرَجُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَتُفْتَحُ
يَقُولُ أَلا مُسْتَغْفِرًا يَلْقَ غَافِرًا
…
وَمُسْتَمْحِنًا خَيْرًا وَرَزِقًا فَيَمْنَحُ
رَوَى ذَاكَ قَوْمٌ لا يُرَدُّ حَدِيثُهُمْ
…
أَلا خَابَ قَوْمٌ كَذَبُوهُم وَقُبِّحُوا
وَقُلْ إِنَّ خَيْرَ النَّاسِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ
…
وَزِيْرَاهُ قِدْمًا ثُمَّ عُثْمَانَ الأَرْجَحُ
وَرَابِعْهُمْ خَيْرُ البَرِيَّةِ بَعْدَهُمْ
…
عَلَيّ حَلِيفُ الْخَيْرِ بِالْخَيْرِ مُمْنَحُ
وَإِنَّهُمُوا وَالرَّهْطُ لا شَكَّ فِيهِمْ
…
عَلَى نُجَبِ الفِرْدَوْسِ بِالْخُلْدِ تَسْرَحُ
سَعِيدٌ وَسَعْدٌ وَابنُ عَوْفٍ وَطَلْحَةٌ
…
وَعَامِرُ فَهْرٍ وَالزُّبَيْرُ الْمُمَدَّحُ
وَقُلْ خَيْرُ قَوْلٍ فِي الصَّحَابَةِ كُلِّهِمْ
…
وَلا تَكُ طَعَّانًا تَعِيبُ وَتَجْرَحُ
فَقَدْ نَطَقَ الوَحْيُ الْمُبِينُ بِفَضْلِهِمْ
…
وَفِي الفَتْحِ آيٌ لِلصَّحَابَةِ تَمْدَحُ
وَبِالقَدَرِ الْمَقْدُورِ أَيْقَنْ فَإِنَّهُ
…
دَعَامَةِ عَقْدَ الدِّينِ وَالدِّينُ أَفْيَحُ
وَلا تُنْكِرنَ جَهْلاً نَكِيرًا وَمُنْكَرًا
…
وَلا الْحَوْضِ وَالْمِيزَانَ إِنَّكَ تُنْصَحُ
وَقُلْ يُخْرِجُ اللهُ العَظِيمُ بِفَضْلِهِ
…
مِنَ النَّارِ أَجْسَادًا مِنْ الفَحْمِ تُطْرَحُ
عَلَى النَّهْرِ فِي الفِرْدَوْسِ تَحْيَا بِمَائِهِ
…
كَحَبِّ حَمِيلِ السَّيُلِ إذْ جَاءَ يَطْفَحُ
وَأَنَّ رَسُولَ اللهِ لِلْخَلْقِ شَافِعٌ
…
وَأَنَّ عَذَابَ القَبْرِ بِالْحَقِّ مُوْضَحُ
وَلا تُكْفِرَنْ أَهْلَ الصَّلاةِ وَإِنْ عَصَوا
…
فَكُلُّهُمْ يَعْصِي وَذُو العَرْشِ يَصْفَحُ
وَلا تَعْتَقِدْ رَأَيْ الْخَوَارِجْ إِنَّهُ
…
مَقَالٌ لِمَنْ يَهْوَاهُ يُرْدِي وَيَفْضَحُ
وَلا تَكُ مُرْجِيًّا لَعُوبًا بِدِينِهِ
…
أَلا إِنَّمَا الْمُرْجِي بِالدِّينِ يَمْزَحُ
وَقُلْ إِنَّمَا الإِيْمَانُ قَوْلٌ وَنِيَّةً
…
وَفِعْل عَلَى قَوْلِ النَّبِي مُصَرَّحُ
وَيَنْقُصُ طَوْرًا بِالْمَعَاصِي وَتَارَةً
…
بِطَاعَتِهِ يَنْمَى وَفِي الوَزْنِ يَرْجَحُ
وَدَعْ عَنْكَ آرَاءَ الرِّجَالِ وَقَوْلَهُمْ
…
فَقَوْلُ رَسُولِ اللهِ أَزْكَى وَأَرْجَحُ
وَلا تَكُ مِنْ قَوْمٍ تَلَهَّوا بِدِينِهِمْ
…
فَتَطْعَنَ فِي أَهْلِ الْحَدِيثِ وَتَقْدَحُ
إِذَا مَا اعْتَقَدْتَ الدَّهْرَ يَا صَاحِ هَذِهِ
…
فَأَنْتَ عَلَى خَيْرٍ تَبِيتُ وَتُصْبِحُ
اللَّهُمَّ هَبْ لَنَا مَا وَهَبْتَهُ لِعَبَادِكَ الأَخْيَارِ وَانْظُمْنَا فِي سِلْكِ الْمُقَرِّبِينَ وَالأَبْرَارِ وَآتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وَاغْفِرَ لَنَا
وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
موعظة
عباد الله: تَصَرَّمَت الأَعْوامُ عَامًا بَعْدَ عَام، وأنتم في غَفْلَتِكمُ ساهون نيام. أما تُشَاهِدُونَ مَواقِع المنايا، وحلولَ الآفاتِ والرَّزَايَا. وَكيفَ فاز وأفلحَ المتقون، وكيفَ خَابَ وخَسرَ المبطلون المفرطون، فياليتَ شِعْرِي على أي شيءٍ تُطْوَى صَحَائِفُ الأعمال. أعَلىَ أعْمالٍ صَالِحَةٍ وتوبةٍ نَصُوح تُمْحَى بها الآثامْ؟ أم علىَ ضِدهَا فَلْيَتُبِ الجاني إلى رَبِّه فالعملُ بالخِتام. فاتقوا الله عبادَ اللهِ واستدِركُوا عُمُرًا ضيعتمُ أَوَّلَهُ، فإنَّ بَقَيِةَ عُمُرِ الْمُؤْمِنِ لا قيمة له. فرحِمَ اللهُ عَبْدًا اغتنمَ أيامَ القُوةِ والشبابِ وأسرعَ بالتوبةِ والإنابةِ قَبلَ طي الكِتابْ، وأخَذَ نَصِيبًا مِن الباقياتِ الصالحات قَبْلَ أن يَتَمَنَّى سَاعةً وَاحِدَةً مِنْ سَاعَاتِ الْحَيَاةِ. أينَ مَنَ كان قَبْلَكُم في الأوقاتِ الماضيةِ؟ أما وَافَتْهَمُ المنايا وَقَضَتْ عَليهم القَاضيَةُ، أين آباؤُنَا؟ وأينَ أمهَاتنا؟ أينَ أقارِبُنَا؟ وأينَ جِيرَانُنا؟ أَيْنَ مَعَارفُنا؟ وأينَ أصْدِقَاؤنَا؟ رَحَلُوا إلى القُبور وقلَّ واللهِ بَعدهَم بقَاؤُنا. هَذِهِ دُورُهَمُ فِيهَا سِوَاهمُ، هَذا صَدِيقُهم قَد نَسِيَهَمْ وَجَفَاهمُ. أخبارهُم السَّالَفةُ تُزعجُ الأَلْبَابْ، وادِّكَارِهُم يَصْدَعُ قُلُوبَ الأحباب. وأَحْوَالَهُم عِبرةٌ لِلْمُعْتَبِرينَ. فتأملوا أَحْوال الراحلين، واتعظُوا بالأمَمِ الماضِين، لعل القلبَ القاسيَ يلين. وانْظُرُوا لأَنْفُسِكم ما دُمْتُمْ في زَمَنِ الإمهالِ، واغْتَنِمُوا فِي حَيَاتِكمُ صَالحَ الأعمالِ، قَبلَ أن تقولَ نفسٌ: يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ، فيقالُ: هَيْهَاتَ فَاتَ زَمَنُ الإِمْكَانِ، وَحَصَلَ الإِنْسَانُ على عَمَلِهِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ عِصْيَان. فَنَسْأَلُكَ اللَّهُمَّ يَا كَرِيمُ يَا مَنَّان أن تختم أعمالنا بالعفو والغفران، والرحمة، والجود والامتنان، وأن تجعل وقتنا مباركًا حميدًا، وَتَرْزُقَنَا فِيهِ رِزْقًا واسِعًا وتَوفيقًا وَتَسْدِيدًا. اللَّهُمَّ اخْتمُ بالصالحاتِ أعمالنا، وأصلح لنا جميع أحوالنا.
أَفي كُلَّ يَوْمِ لي مُنَىً أَسْتَجدُّهَا
…
وَأَسْبَابُ دُنْيًا بِالغرورُ أَوَدُّهَا؟
وَنَفْسٌ تَزَيَّا لَيْتَهَا في جَوَانِحٍ
…
لِذِي قُوَّةٍ يَسْطِيعُهَا فَيَرُدُّهَا
تَعَامَهُ عَمْدًا وَهِيَ جِدُّ بَصيرَةً
…
كَمَا ضَلَّ عَنْ عَشَواءَ باللّيلِ رًشْدُهَا
إِذَا قُلْتُ يَوْمًا: قَدْ تَنَاهَى جِمَاحُهَا
…
تَجَانَف لي عَنْ مَنْهَج الحَقِّ بُعْدُهَا
وَأَحسَبُ مَولاهَا كَما يَنْبَغي لَهَا
…
وَإِنِّي مِنْ فَرْطِ الإِطَاعَةِ عَبْدُهَا
وَأْهَوَى سَبِيلاً لا أُرَى سَالِكًا بِهَا
…
كَأَنِّي أَقْلاهَا وَغَيرِي يَوَدُّهَا
وَأَنْسَى ذُنُوبًا لِي أَتَتْ فَاتَ حَصْرُهَا
…
حِسَابِي وَرَبِّي لِلْجَزَاءِ يَعُدُّهَا
أُقرُّ بِهَا رَغْمًا وَلَيْسَ بِنَافعِي
…
-وَقَدْ طُوِيَتْ صُحْفُ المَعَاذِيرُ- جَحْدُهَا
وَلَمْ أَرَ كَالدُّنْيا تَصُدُّ عَنِ الذي
…
يَوَدُّ مُحِبُّوهَا فَيَحْسُنُ صَدُّهَا
وَتَسْقِيهُمُ منِهْاَ الأُجَاجَ مُصَرَّدًا
…
وَكَيْفَ بِهَا لَوْ طَابَ لِلْقَوم عدُّها؟
أَرَاهَا عَلَى كُلِّ العُيُوب حَبِيبَةً
…
فَيَا لِقُلُوبَ قَدْ حَشَاهُنَّ وُدُّهَا
وَحُبُّ َبني الدُّنيا الحياة مَسِيئَةً
…
بِهِمْ ثَلَمَةٌ بِالنَّفْسِ أَعْوزَ سَدُّها
سَقَى الله قَلْبًا لَمْ يَبِتْ فِي ضُلُوعِهِ
…
هَواهَا وَلَمْ يَطْرُقْ نَوَاحِيهِ وَجْدُهَا
تَخَفَّفَ مِن أَزْوَادِهَا مِلْءَ طَوْقِهِ
…
فَهَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ ذَلِكَ فَقدُها
اللَّهُمَّ يَا مَنْ عَمَّ البَرِيَّةِ جُودُهُ وَإِنْعَامِهُ نَسْأَلُكَ أَنْ تَتَفَضَّلَ عَلَيْنَا بِعَفْوِكَ وَغُفْرَانكِ، وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فصل في مَشْرُوعِ صَلاةِ الوِتْرَ، وَحُكْمَهَا.
وَوَقْتِ صَلاةِ الوِتْرَ.
وَالقِرَاءَةِ المُسْتَحَبَّةُ فِيهَا.
وَعَدَدِ رَكَعَاتِهَا.
وَدُعَاءِ القُنُوتِ في الوِتْرِ.
1-
مَشْرُوعِيَّةُ صَلاةِ الوِتْرِ، وَحُكْمُهَا:
الوِتْر سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ لِمُدَاوَمَتِهِ صلى الله عليه وسلم عليه في حَضْرِهِ وفي سَفَرِ، وَلِمَا وَرَدَ عَنْ
عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: (لَيْسَ الوِتْرُ بحَتْمِ كَهَيْئَةَ المَكْتُوبَةً، وَلَكِنْ سُنَّةٌ سَنَّهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، وَالنَّسَائِي وَحَسَّنَهُ، وَالحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَة) وَلَفْظُهُ: إِنَّ الوتْرَ لَيْسَ بحَتْم وَلا كَصَلاتِكُمْ، وَلَكِنَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَوْتَرَ، فَقَالَ:«يَا أَهْلَ القُرْآنِ أَوْتِرُوا فَإِنَّ اللهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الوِتْرَ» .
وَعَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ شَهْرَ رَمَضَانَ، ثُمَّ انْتَظَرُوهُ مِنَ القَابِلَةِ فَلَمْ يَخْرُجْ وَقَالَ:«خَشِيتُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْكُم الوتْرُ» . رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ.
وَعَنْ ابن عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَوْتَرَ عَلَى بَعِيرِهِ. رَوَاهُ الجَمَاعَةُ.
2-
وقت صلاة الوتر:
وَوَقْتَ الوِتْرِ بَعْدَ صَلاةِ العِشَاءِ وَسُنَّتِهَا لِمَا رَوَى خَاجَةُ بنُ حُذَافَةُ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ غَدَاةٍ، فَقَالَ:«لَقَدْ أَكْرَمَكُمْ اللهُ بِصَلاةٍ هِي خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ حُمُرِ النِّعَم» ، قُلْنَا: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «الوِتْرُ فَيمَا بِيْنَ صَلاةِ العِشَاءِ إِلَى طُلُوعِ الفَجْرِ» . رَوَاهُ الخَمْسَةُ إلا النِّسَائِي.
وَرَوَى أَبُو بَصْرَةَ: أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ اللهَ زَادَكُمْ صَلاةً فَصَلُّوَها مَا بَيْنَ صَلاةِ العِشَاءِ إلِى صَلاةِ الصُّبْحِ، الوِتْرُ» . رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ. وَلِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: «أَوْتِرُوا قَبْلَ أَنْ تُصْبِحُوا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «فَإِذَا خَشِيتَ الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَالأَفْضَلُ فِعْلُهُ سَحَرًا، لِقَوْلِ عَائِشَةَ: مِنْ كُلِّ الليلِ قَد أَوْتَرَ رَسُولُ
اللهِ صلى الله عليه وسلم فَانْتَهَى وِتْرُهُ إِلَى السَّحَرِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَمَنْ كَانَ لَهُ تَهَجُّدٌ جَعَلَ الوِتْرَ بَعْدَهُ، وَمَنْ خَشِي أَنْ لا يَقُومَ، أَوْتَرَ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ، لَمَا وَرَدْ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ خَافَ أَنْ لَا يَقُومَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ أَوَّلَهُ وَمَنْ طَمِعَ أَنْ يَقُومَ آخِرَهُ فَلْيُوتِرْ آخِرَهُ فَإِنَّ صَلَاةَ آخِرِ اللَّيْلِ مَشْهُودَةٌ وَذَلِكَ أَفْضَلُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَإِنَّ أَحَبَّ مَنْ لَهُ تَهَجُّدٌ مُتَابَعَةَ الإِمَامِ في وُتْرِهِ قَامِ إِذَا سَلَّمَ الإِمَامُ وَأَتَى بِرَكْعَةٍ بَعْدَ الوِتْرِ شَفَعَ بِهَا رَكْعَةَ الوِتْرِ. ثُمَّ إِذَا تَهَجَّدَ أَوْتَرَ فَينَالُ فَضِيلَةَ مُتَابَعَةِ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصِرَف، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ قَامَ مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ» . صَحَّحَهُ التِّرْمِذِي.
وَيَنَالُ فَضِيلَةَ جَعْلِ وِتْرِهِ آخِر صَلاتِهِ لِحَدِيثِ: «اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا» . مُتَفَّقٌ عَلَيْهِ. وَيَقْضِيهِ مَعَ شَفْعِهِ إِذَا فَاتَ وَقْتُهُ لِحَدِيثِ أبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ نَامَ عَنِ الوِتْرِ أَوْ نَسِيَهُ فَلْيُصَلِّ إِذَا أَصْبَحَ أَوْ ذَكَرَهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاودَ.
وَلا يَصِحُّ الوِتْرُ قَبْلَ صَلاةِ العِشَاءِ لِعَدَمِ دُخُولِ وَقْتِهِ، وَأَقَلَّ الوِتْرِ رَكْعَةٌ، وَلا يُكْرَهُ الإِتْيَانُ بِهَا مُفْرَدَة وَلَوْ بِلا عُذْرٍ مِنْ سَفَرٍ أَوْ مَرَضٍ وَنَحْوِهِمَا لِمَا ورد عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُمَا سَمِعَا النَّبي صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«الْوِتْرُ رَكْعَةٌ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمُ.
وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «الْوِتْرُ حَقٌّ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِخَمْسِ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِثَلَاثٍ فَلْيَفْعَلْ» . رَوَاهُ الخَمْسَةُ إلا التٍّرْمِذِي.
وَثَبَتَ عَنْ عَشَرَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ الوِتْرَ رَكْعَةٌ مِنْهُمْ: أَبُو بَكْرِ، وَعُمَرُ، وَعَائِشَةُ رضي الله عنهم وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ أَهْلِ العِلْمِ: مَالِكٍ، وَالشَّافِعِي وَغَيْرِهِمْ - رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى.
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّى مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إِلَى الْفَجْرِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، وَيُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ) .
وِفِي لَفْظٍ: كَانَ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِاللَّيْلِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةٍ وَيُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ. وَأَدْنَى الكَمَالِ فِي الوِتْرِ ثَلاثُ رَكَعَاتٍ بِسَلامَيْنِ، لِمَا رَوَى عَبْدُ اللهِ بِنُ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبي صلى الله عليه وسلم عَنِ الوِتْرِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«افْصِلْ بَيْنَ الوِاحِدَةِ وَالثِّنْتَيْنِ بِالتَّسْلِيمِ» . رَوَاهُ الأَثْرَمُ.
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ كَانَ يُسَلِّمُ بِيْنَ الرَّكْعَتَيْنِ وَالرَّكْعَةِ بِالتَّسْلِيمِ في الوِتْرِ، حَتَّى أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِبِعْضِ حَاجَتِهِ. رَوَاهُ البُخَارِي.
وَيَجُوزُ سَرْدُ الثَّلاثِ بِسَلامٍ وَاحِدٍ، فَلا يَجْلِسْ إلا فِي آخِرِهِنَّ، وَتَجُوزُ كَمَغْرِبِ. وَمَنْ أَدْرَكَ مَعَ الإِمَامِ رَكْعَةً مِنَ الثَّلاثِ فَإِنْ كَانَ الإِمَامُ يُسَلِّمُ مِن كُلِّ اثْنَتَيْنِ أَجْزَأَ لأَنَّ أَقَلَّ الوِتْرِ رَكْعَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الإِمَامُ يُسَلِّم مِنْ كُلِّ اثْنَتَينِ قَضَى، لِحَدِيثِ:«مَا أَدْرَكْتُمُوهُ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكم فَاقضُوا» . وَلأنَّ القَضَاءِ يَحْكِي الأَدَاءَ.
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِتَدَبُّرِ كِتَابِكَ وَإِطَالَةِ التَّأَمُّلِ فِيهِ وَجَمْعِ الفِكْرِ عَلَى مَعَانِي آيَاتِهِ اللَّهُمَّ ثَبِّتْ قَوَاعِدَ الإِيمَانِ فِي قُلُوبِنَا وَشَيِّدْ فِيهَا بُنْيَانَهُ وَوَطِّدْ فِيهَا أَرْكَانَهُ وَأَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ وَآتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الأُولى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ، وَفِي الثَّانِيَةِ:{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، وَفِي الثَّالِثَةِ:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} لِحَدِيثِ عَائِشَةَ: (كَانَ النبي صلى الله عليه وسلم يُوتِرُ بِثَلاثٍ لا يَفْصِلُ فِيهِنَّ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنِّسَائِي.
وَعَنْ أُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُوتِرُ بـ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى، وَقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنِّسَائِي، وَزَادَ: وَلا يُسَلِّمُ إلا فِي آخِرِهِنَّ، وَلأَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِي عَنْ عَائِشَةَ نَحْوُهُ، وَفِيهِ كُلُّ سُورَةٍ في رَكْعَةٍ، وَفِي الأَخِيرَةِ:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وَالمعَوِّذَتَينِ.
والسُّنَّةُ لِمَنْ أَوْتَرَ بِمَا زَادَ عَلى رَكْعَةٍ أَنْ يُسَلِّمَ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْصِلُ بَيْنَ الشَّفْعِ وَالوِتْرِ، وَيُسِنُّ فِعْلُ الرَّكْعَةِ عَقِبَ الشَّفْعِ بَلا تَأْخِيرٍ لَهَا عَنْهُ، وَإْنَ صَلَّى الإِحْدَى عَشْرَةَ كُلَّهَا بِسَلامٍ وَاحِدٍ بَأَنْ سَرَدَ عَشْرًا وَتَشَهَّدَ
التَّشَهُّدَ الأوَّلَ، ثُمَّ قَامَ فَأَتَى بِالرَّكْعَةِ حَازَ، أَوْ سَرَدَ الجَمِيعِ وَلَمْ يَجْلِسَ إِلا فِي الأَخِيرَةْ جَازَ لَكِنْ الصِّفَةُ الأُولَى أَوْلَى لأَنَّهَا فِعْلُهُ صلى الله عليه وسلم.
4-
عدد ركعاتها:
يَجُوزُ الوِتْرُ بِخَمْسٍ وَبِسَبْعٍ وَبِتِسْعٍ، فَإِنْ أَوْتَرَ بِتِسْعٍ سَرَدَ تَمَامًا وَجَلَسَ وَتَشَهَّدَ التَّشَهُّد الأوَّلَ وَلَمْ يُسَلِّم، ثُمَّ إِذَا صَلَّى التَّاسِعَةَ وَتَشَهَّدَ سَلَّمَ، لِمَا وَرَدَ عَنْ سَعِيدِ بْنَ هِشَامِ قَالَ: انْطَلَقْتُ إِلَى عَائِشَةَ فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْبِئِينِي عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَتْ: أَلَسْتَ تَقْرَأَ الْقُرْآنَ؟ قلتُ: يَا أُمَّ الْمُؤمِنينَ أَنْبِئيني عَنْ وَتْرِ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقالت: كُنَّا نُعِدُّ لَهُ سِوَاكَهُ وَطَهُورَهُ فَيَبْعَثُهُ اللَّهُ مَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَهُ مِنَ اللَّيْلِ، فَيَبُولُ وَيَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّى تِسْعَ رَكَعَاتٍ لَا يَجْلِسُ فِيهَا إِلَاّ فِي الثَّامِنَةِ فَيَذْكُرُ اللَّهَ وَيَحْمَدُهُ وَيَدْعُوهُ ثُمَّ يَنْهَضُ وَلَا يُسَلِّمُ فَيُصَلِّى التَّاسِعَةَ ثُمَّ يَقْعُدُ فَيَذْكُرُ اللَّهَ وَيَحْمَدُهُ وَيَدْعُوهُ ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمًا فَيُسْمِعُنَا ثُمَّ يُصَلِّى رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ مَا يُسَلِّمُ وَهُوَ قَاعِدٌ فَتِلْكَ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يَا بُنَيَّ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَأَنْ أَوْتَرَ بِسَبْعٍ أَوْ بِخَمْسٍ لَمْ يَجْلِسْ إِلا فِي آخِرِِهَا لِمَا وَرَدَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُوتِرُ بِسَبْعٍ وَبِخَمْسٍ لا يَفْصِلُ بَيْنَهُنَّ سَلامٌ وَلا كَلامٌ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنِّسَائِي، وَابْنُ مَاجَة.
وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّى مِنَ اللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً يُوتِرُ مِنْ ذَلِكَ بِخَمْسٍ ولَا يَجْلِسُ فِي شَيْءٍ إِلَاّ فِي آخِرِهِنَّ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. واللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.
فصل في دعاء القنوت في الوتر:
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْنُتَ في الرَّكْعَةِ الأَخِيرَةِ بَعْدَ الرُّكُوعِ لأَنَّهُ صَحَّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَنَسٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَعَنْ عَمْرُو، وَعَلي: أَنَّهُمَا كَانَا يَقْنُتَانِ بَعْدَ الرُّكُوعِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالأَثْرَمُ. وَلَوْ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيِهِ ثُمَّ قَنَتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ جَازَ لِحَديث أبي بن كَعْبٍ: أَنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْنُتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَرَوَى الأَثْرَمُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ كَانَ يَقْنُتُ في الوِتْرِ، وَكَانَ إِذَا فَرَغَ مِنَ القِرَاءَةِ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَنَتَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ ابْنِ الخَطِيبِ: وَالقُنُوتُ: الدَّعَاءُ وَهُوَ مَا رُوِي عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه: أَنَّهُ قَنَتَ فَقَالَ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَعِينُكَ وَنَسْتَهْدِيكَ وَنَسْتَغْفِرُكَ وَنَتُوبُ إِلَيْكَ، وَنُؤْمِنُ بِكَ وَنَتَوَكَّلُ عَلَيْكَ، وَنُثْنِي عَلَيْكَ الخَيْرَ كُلَّهُ وَنَشْكُرُكَ وَلا نَكْفُرَكَ وَنَخْلَعُ وَنَتْرُكُ مَنْ يَفْجُرُكَ. اللَّهُمَّ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَلَكَ نُصَلِّي وَنَسْجُدُ وَإِلَيْكَ نَسْعَى وَنَحْفِدُ نَرْجُو رَحْمَتَكَ وَنَخْشَى عَذَابَكَ إِنَّ عَذَابَكَ الجِدَّ بِالكُفَّارِ مُلْحِقٌ.
وَرَوَى الحَسَنُ بنُ عَلِي رضي الله عنهما قَالَ: عَلَّمَنِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَلِمَاتٌ أَقُولُهُنَّ في قُنُوتِ الوِتْرِ وَهُنَّ: «اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنِي شِرَّ مَا قَضَيْتَ، فَإْنَّكَ تَقْضِي وَلا يُقْضَى عَلَيْكَ إِنَّهُ لا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، وَلا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ» .
وَعَنْ عَلِي بِنْ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ فِي وِتْرِهِ: «اللَّهُمَّ إِنِي أَعُوذُ بِرَِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِعَفْوِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَبِكَ مِنْكِ، لا نُحْصِي ثََنَاءٌ عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا
أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ» . رَوَاهُ الخَمْسَةُ ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبي صلى الله عليه وسلم، لِحَدِيثِ الحَسَنِ بِنْ عَلِي رضي الله عنه وَفي آخِرِهِ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ. رَوَاهُ النِّسَائِي.
وَعَنْ عُمَرَ: (الدُّعَاءُ مَوْقُوفٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، لا يَصْعَدُ مِنْهُ شَيْءٌ حَتَّى تُصَلِّي عَلَى نَبِيَّكَ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِي. ثُمَّ يَمْسَحُ وَجْهَهُ بِيَدَيْهِ هُنَا، وَخَارِجَ الصَّلاةِ إِذَا دَعَا. لِعُمُومِ حَدِيثَ ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: كَانَ النبي صلى الله عليه وسلم إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ فِي الدُّعَاءِ، لا يَحُطُّهُمَا حَتَّى يَمْسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ. رَوَاهُ التِّرْمِذِي.
وَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم في حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «فَإِذَا فَرَغْتَ فَامْسَحْ بِهِمَا وَجْهَكَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَة. وَيُؤَمِّنُ المُنْفَرِدُ الضَّمِيرَ، وَإِذَا سَلَّمَ مِنَ الوِتْرِ سُنَّ قَوْلُهُ:«سُبْحَانَ المَلِكِ القُدُّوسِ» - ثَلاثَ مَرَّاتٍ - يَرْفَعُ صَوْتَهُ فِي الثَّالِثَةِ، لِمَا رَوَى أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذِا سَلَّمَ فِي الوِتْرِ قَالَ: «سُبْحَانَ المَلِكِ القُدُّوسِ» . وَزَادَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ يُطِيلُ في آخِرِهِنَّ.
وَفِي رِوَايةٍ لِلنِّسَائِي عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِنْ أَبْزَى عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ يَقُولُ إِذَا سَلَّمَ: «سُبْحَانَ الملكِ القُدُّوسِ» ثَلاثًا، وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالثَّالِثَةِ.
وَصَلِّ بِشَهْرِ الصَّوْمِ عَشْرِينَ رَكْعَةً
…
تَرَوِايحَ فِي جَمْعٍ وَبِالوِتْرِ شَيِّدِ
وَقُمْ بَعْدَهَا وَاشْفَعْ هُدِيتَ بِرَكْعَةٍ
…
لِتُوتِرَ إِمَّا شِئْتَ بَعْدَ التَّجَهُّدِ
وَأَفْضَلُ نَفْلِ المَرْءِ لَيْلاً بِبَيْتِهِ
…
فَقُمْ تِلْوَ نِصْفٍ مِثْلِ دَاوُدَ فَاسْجُدِ
وَإِنْ شِئْتَ اجْهَرْ فِيهَ مَا لَمْ تَخَفْ أَذَى
…
لإِبْعَادِ شَيْطَانٍ وَإِيقَاظِ رُقَّدِ
وَخُذْ قَدْرَ طَوْقِ النَّفْسِ لا تَسْأَمَنَّهُ
…
وَقِلْ تَسْتَعِنْ بِالنَّوْمِ عِنْدَ التَّجَهُّدِ
فَإِنْ لَمْ تُصَلِّ فَاذْكُرِ اللهِ جَاهِدًا
…
وَتُبْ وَاسْتَقِلْ مِمَّا جَنَيْتَ وَسَدِّدِ
فَلا خَيْرَ فِي عَبْدٍ نَؤُومٍ إِلَى الضُّحَى
…
أَمَا يَسْتَحِي مَوْلاً رَقِيبًا بِمَرْصَدِ
يُنَادِيهُ هَلْ مِنْ سَائِلٍ يُعْطَ سُؤْلَهُ
…
وَمُسْتَغْفِرٍ يُغْفَرْ لَهُ وَيُؤَيَّدِ
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا تَوْفِيقًا يَقِينًا عَنْ مَعَاصِيكَ وَأَرْشِدْنَا إِلَى السَّعْي فَيمَا يُرْضِيكَ وَأَجِرْنَا يَا مَوْلانَا مِنْ خِزْيِكَ وَعَذَابِكَ وَهْبَ لَنَا مَا وَهَبْتَهُ لأَوْلِيَائِكَ وَأَحْبَابِكَ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، اللَّهُمَّ انْظِمْنَا فِي سِلْكِ حِزْبِكَ المُفْلِحِينَ، وَاجْعَلنا مِنْ عِبَادِكَ المُخْلَصِينْ وَأَمِّنَا يَوْمَ الفَزَعِ الأَكْبَرِ يَوْمَ الدِّينْ، وَاحْشُرْنَا مَعَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) : وَيَبْحَثُ فِي:
1-
مَا وَرَدَ مِنَ الحَثِّ عَلَى الاجْتِهَادِ فِي العَشْرِ الأَخِيرِ مِنْ رَمَضَان، وَالحَثِّ عَلَى القِيَامِ عُمُومًا.
2-
مَا وَرَدَ في فَضْلِ هَذَا العَشْرِ الأَخِيرِ، وَالحَثِّ عَلَى القِيَامِ عُمُومًا.
3 -
مَا وَرَدَ في لَيْلَةِ القَدْرِ مِنَ الفَضْلِ وَذِكْرِ عَلامَتِهَا.
1-
مَا وَرَدَ مِنَ الحَثِّ عَلَى الاجْتِهَادِ في العَشْرِ الأَخِيرَةِ مِنْ رَمَضَانَ:
يُسْتَحَبُّ الاجْتِهَادُ وَالحِرْصُ عَلَى مُدَاوَمَةِ القَيَامِ في العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَان وَإِحْيَاؤُهَا بِالعِبَادِةِ وَاعْتِزَالُ النِّسَاءِ وَأَمْرُ الأَهْلِ بِالاسْتِكْثَارِ مِنَ الطَّاعَةِ فِيهَا، لِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها:(أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ الأوَاخِرُ أَحْيَا اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَشَدَّ الْمِئْزَرَ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعْنَهَا قَالَتْ: (كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَجْتَهِدُ فِي العَشْرِ الأَوِاخِرِ مِنْهُ مَالا يَجْتَهْدُ فِي غَيْرِهِ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِي مِنْ حَدِيثِ عَلِي رضي الله عنه: (أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُوقِظُ أَهْلَهُ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ يُطِيقُ الصَلاةَ) .
وَفِي التِّرمِذِيُّ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: (لَمْ يَكُن النَّبي صلى الله عليه وسلم إِذَا بَقِيَ مِنْ رَمَضَانَ عَشْرَةُ أَيَّامٍ يَدَعُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِهِ يُطِيقُ القِيَام إِلا أَقَامَهُ) .
2-
مَا وَرَدَ فِي فَضْلِ هَذَا العَشْرِ الأَخِيرِ:
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» . رَوَاهُ الجَمَاعَةُ إِلا ابْن مَاجَة.
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ القَدرِ مَا أَقُولُ فِيهَا؟ قَالَ: «قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُّوٌ تُحِبُّ العَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
قَالَ ابنُ جَرِيرٍ: كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَغْتَسِلُ، وَيَتَطَيَّبُ فِي اللَّيَالِي التِّي تَكُونُ أَرْجَى لِلَيْلَةِ القَدْرِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَنْسٍ رضي الله عنه أَنَّهُ إِذَا كَانَ لَيْلَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ اغْتَسَلَ وَتَطَيَّبَ وَلَبِسَ حُلَّةً وَأْزَرَارًا وَرِدَاءً، فَإِذَا أَصْبَحَ طَوَاهُمَا فَلْمَ يَلْبَسْهُمَا إِلَى مِثلِهَا مِنْ قَابِلَ.
وَقَالَ حَمَّادُ بنُ سَلََمَةَ: كَانَ ثَابِتٌ وَحُمَيْدٌ يَلْبِسَانِ أَحْسَنَ ثِيَابِهِمَا
وَيَتَطَيَّبَانِ وَيُطَيِّبَانِ المَسْجِدَ بِالنُّضُوحِ وَالدُّخْنَةٍ فِي اللَّيْلَةِ التي تُرْجَى فِيهَا لَيْلَةُ القَدْرِ فَيُسْتَحَبُّ فِي اللَّيَالِي التي تُرْجَى فِيهَا لَيْلَة القَدْرِ التَّنَظُّفُ وَالتَّطَيُّبُ وَالتَّزَيُّنِ بِالغُسْلِ وَالطِّيبِ وَاللبَاسِ الحَسَن كَمَا شُرِعَ ذَلِكَ فِي الجُمَعِ وَالأَعْيَادِ، وَكَذَلِكَ يُشْرِعُ أَخْذَ الزِّينَةِ مِنَ الثِّيَابِ في سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى:{يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} .
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: (اللهُ أَحَقُّ أَنْ يُتَزَيَّنَ لَهُ) .
وَرُوِيَ عَنْهُ مَرْفُوعًا عَنِ النَّبي صلى الله عليه وسلم: «وَلا يَكْمُلُ التَّزَينُ الظَّاهِرُ إِلا بِتَزْيينِ البَاطِنِ بِالتَّوْبَةِ وَالإِنَابَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَتَطْهِيرِهِ مِنْ أَدْنَاسِ الذُّنُوبِ، وَاللهُ سُبْحَانُهُ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَجْسَامِكُمْ، وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ» .
شِعْرًا:
إِذَا صَدَرَتْ مِنْكَ الذُّنُوبِ فَدَاوِهَا
…
بِرَفْعِ يَِد فِي اللَّيْلِ وَاللَّيْلُ مُظْلِمُ
وَلا تَقْنَطَنَّ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّمَا
…
قُنُوطُكَ مِنْهَا مِنْ خَطَايَاكَ أَعْظَمُ
فَرَحْمَتُهُ لِلْمُحْسِنِينَ كَرَامَةٌ
…
وَرَحْمَتُهُ لِلْمُذْنِبِينَ تَكَرُّمُ
آخر:
عَلَيْكَ بِإِخْلاصِ العِبَادَةِ لِلَّذِي
…
لَهُ نِعَمٌ لا تَنْحَصِي وَفضَائِلُ
فَمَنْ وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلْيُزَيّنْ ظَاهِرَهُ بِاللِّبَاسِ، وَبَاطِنَهُ بِلِبَاسِ التَّقْوَى، وَقَالَ اللهُ تَعَالَى:{يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ} .
عِبَادَ اللهِ: إِنَّ عَشْرَكُمْ هَذَا هُوَ العَشْرُ الأَخِيرُ، وَفِيهِ الخَيْراتُ وَالأجُورُ الكَثِيرَةُ تَكْمُلَ فِيهَ الفَضَائِلُ، وَتَتِمُّ فِيهِ المَفَاخِرُ، وَيَطَّلَعُ عَلَى عِبَادِهِ الرَّبُ العَظِيمُ الغَافِرُ وَيُنِيلُهُمْ الثَّوَابَ الجَزِيلَ الوَافِرَ فِيهِ تَزْكُو الأَعْمَالُ وَتَنَالُ الآمَالُ، وَقَدْ ذَكَرَ جَلَّ وَعَلا مِنْ مَحَاسِنِ أَهْلِ الإِيمَانِ، أَنَّهُم تَتَجَافى جُنُوبُهُم عَنِ المَضَاجِعِ، عَنْ مُعَاذِ بنِ جَبَل عَنِ النبي صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} ، قَالَ: هِيَ قِيَامُ العَبْدِ أَوَّلَ اللَّيْلِ.
وَرَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النّبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ رَجُلَين: رَجُلٌ ثَارَ مِن وَطَائِهِ وَلِحَافِهِ مِنْ بِيْنِ حِبِّهِ وَأَهْلِهِ إِلَى صَلاتِهِ رَغبَةً فِيمَا عِنْدِي وَشَفَقَةً مِمَّا عِنْدِي» . الحَدِيث.
وَقَالَ الحَسَنُ، وَمُجَاهِدُ، وُمالِكُ، وَالأَوْزَاعِي وَغَيرُهُم:(إِنَّ المُرَادَ بِالتَّجَافِي القِيَامُ لِصَلاةِ النَّوَافِلِ بِاللَّيْلِ)، وِفِي آيَةِ سُورَةِ الذَّارِيَاتِ أَخْبَرَ جَلَّ وَعَلا أَنَّهُم كَانُوا يَنَامُونَ القَلِيلَ مِنَ اللَّيْلِ وَيَتَهَجَّدُونَ مُعْظَمَهُ قَالَ تَعَالَى:{كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} .
قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: مَا تَأْتِي عَلَيْهِمْ لَيْلةٌ يَنَامُوا حَتَّى يُصْبِحُوا إِلا يُصَلُّونَ فِيهَا شَيْئًا، إِمَّا مِنْ أَوَّلِهَا أَوْ مِنْ أَوْسَطْهَا. وَقَالَ الحَسَنُ: كَابَدُوا قِيَامَ اللَّيلِ فَلا يَنَامُوا مِنَ اللَّيْلِ إِلا قَلِيلَهُ.
شِعْرًا:
خُضُوعٌ وَخَوْفٌ وَاحْتِشَامٌ وَذِلَّةٌ
…
وَهَذَا لِمَنْ يَرُجو النَّجَاةَ قَلِيلُ
فَهَلْ لِي مِن الأَحْزَانِ حَظُّ مُوَفَّرٌ
…
وَهَلْ لِي إِلَى طُولِ البُكَاءِ سَبِيلُ
لَعَلِّي أَنْ أُحْظَى بِقُرْبٍ وَلَذَّةٍ
…
وَيَحْصُلُ لِي بَعْدَ الفِرَاقِ وُصُولُ
آخر:
يَا عَاشِقَ العَيْشِ فِي الدُّنْيَا وَزُخْرُفِهَا
…
هَلْ أَخْلَدِ النَّاسَ مَا حَازَوْا وَمَا عَمَرُوا
عَلَيْكَ بِاللَّيْلَ فِي الأَذْكَارِ تُعمرهُ
…
وَدَعْ مَلذَّاتِهِ الأخْرَى لِمَنْ كَفَرُوا
لَغَمْسَة في جِنَانِ الخُلْدِ خَاطِفَةً
…
تُنْسِيكَ مَا مَرَّ مِنْ بُؤْسٍ لَهُ خَطَرُ
آخر:
…
وَأَهْوَى مِنَ الفِتْيَانِ كُلَّ مُوَحَّدٍ
…
يُلازِمَ ذِكْرَ اللهِ يَهوى التَّعَبُّدَا
نَفَى النَّومَ عَنْ عَيْنَيْهِ نَفْسٌ تَقِيَّةٌ
…
لَهَا فِي ظَلامِ اللَّيْلِ طُولُ تَهَجَّدِ
وَاللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمِ.
فصل
وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «عَلَيْكُمِ بِقِيَامِ اللَّيْلِ، فَإِنَّهُ دَأْبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُم، وَهُوَ قُرْبُكُم مِنْ رَبِّكم وَمَغْفِرَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ وَمَنْهَاةٌ عَنِ الإِثْمِ» .
وَقَالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ: كَانَ الأَحْنَفُ بنُ قَيسٍ يَقُولُ: عَرَضْتُ عَمَلِي عَلَى عَمَلِ أَهْل الجَنَّةِ، فَإِذَا قَوْمٌ قَدْ بَايَنُونُا بَوْناً بَعِيدَا، وَإِذَا قَوْمٌ لا تُبْلَغُ أَعْمَالُهُمْ، كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ، وَعَرضْتُ عَمَلِي عَلَى عَمِلِ أَهْلِ النَّارِ، فَإِذَا قَوْمٌ لا خَيْرَ فِيهِمْ مُكَذِّبُون بِكِتَابِ اللهِ وَلرُسُلِ اللهِ، مُكَذِّبُون بِالبَعْثِ بَعْدَ المَوْتِ، فَقْدَ وَجَدْتُ مِن خَيْرِنَا مَنْزِلةٌ قَوْماً خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِنْ زَيْدٍ بِنْ أَسْلَمَ: قَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِِي تَمِيمٍ لأَبِي: يَا أَبَا أُسَامَةَ صِفَة لا أَجْدُهَا فِينَا، ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى قَوْمًا فَقَالَ:{كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} وَنَحْنُ واللهِ قَلِيلاً مَا نَقُومُ، فَقَالَ لَهُ أَبِي رضي الله عنه: طُوبَى لَمَنْ رَقَدَ إِذَا نَعَسَ، وَاتَّقَى اللهُ إِذَا اسْتَيْقَظَ.
وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بنِ سَلامٍ رضي الله عنه: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم المدينةَ انْجَفَلَ النَّاسُ عَنْهُ، فَكُنْتُ فِيمَنْ انْجَفَلَ، فَلَمَّا رَأَيْتُ وَجْهَهُ صلى الله عليه وسلم عَرِفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّاب، فَكَانَ أَوَّلَ مَا سَمِعْتُ مَنْهُ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الأَرْحَامَ، وَأَفْشُوا السَّلامِ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلُوا الجَنَّةْ بِسَلامٍ» .
لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ آيَاتٌ مُبَيِّنَةٌ
…
كَانَتْ بَدِيهَتُهُ تَأْتِيكَ يَا الخَبَرَ
اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإِيمَانِ وَثَبِّتْ مَحَبَّتَكَ فِيهَا وَقَوِّهَا وَأَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ وَارْزُقْنَا حُبَّ أَوْلِيَائِكَ وَبُغْضَ أَعْدِائِكَ وَآتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي
الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
موعظة
إِخْوَانِي: إِنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ كَمَا عَلِمْتُمْ فِيهِ فَضْلٌ عَظِيمٌ وَثَوَابٌ جَزِيلٌ لِمَنْ وَفَّقَهُ اللهُ جَلَّ وَعَلا، وَهُوَ مِنْ أَثْقَلِ شَيْءٍ عَلَى النَّفْسِ وَلا سِيَّمَا بَعْدَ أَنْ يَرْقُدَ الإِنْسَانُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ خَفِيفًا بِالاعْتِيَادِ، وَتْوطِينِ النَّفْسِ وَتَمْرِينِهِا عَلَيْهِ وَالمُدَاوَمَةِ وَالصَّبْرِ عَلَى المَشَقَّةِ وَالمُجَاهَدَةْ في الابْتِدَاءِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَنْشَرِحُ وَيَنْفَتِحُ بَابُ الأُنْسِ بِاللهِ وَتَلَذُّ لَهُ المُنَاجَاةُ وَالخَلْوَةُ، وَعِنْدَ ذَلِكَ لا يَشْبَعُ الإِنْسان مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ، فَضْلاً عَنْ أَنْ يَسْتَثْقِلَهُ أَوْ يَكْسَلَ عَنْهُ كَمَا وَقَعَ لِكَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ. قَالَ بَعْضُهُم: أَهْلُ اللَّيْلِ فِي لَيْلِهِم أَلَذُّ مِنْ أَهْلِ اللَّهْوِ فِي لَهْوِهِمْ وَيَا بُعْدَ مَا بَيْنَ الحَالَتَينَ، فَسُبْحَانَ مَنْ وَفَّقَ أَقْوَامًا فَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِالنَّوَافِل، وَأَبْعَدَ بِحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ آخَرِينَ فَهُمْ عَنْ مَا يَنْفَعهم فِي حَاضِرِهم وَمَآلِهِم غَافِلُونَ.
شِعْرًا:
ذُنُوبُكَ يَا مَغْرُورُ تُحْصَى وَتُحْسَبُ
وَتَجْمَعُ فِي لَوْحٍ حَفِيظٍ وَتُكْتَبُ
وَقَلْبُكَ فِي سَهْوٍ وَلَهْوٍ وَغَفْلَةٍ
وَأَنْتَ عَلَى الدُّنْيَا حَرِيصٌ مُعَذَّبُ
تُبَاهِي بِجَمْعِ المَالِ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ
وَتَسْعَى حَثِيثًا فِي المَعَاصِي وَتُذْنِبُ
أَمَا تَذْكُرُ المَوْتَ المُفَاجِيكَ فِي غَدٍ
أَمَا أَنْتَ مِن بَعْدِ السَّلامَةِ تَعْطَبُ
أَمَا تَذْكُرُ القَبْرَ الوَحِيشَ وَلَحْدَهُ
بِهِ الجِسْمُ مِنْ بَعْدِ العَمَارَةِ يَخْرُبُ
أَمَا تَذْكُرُ اليَوْمَ الطَّوِيلَ وَهُوَ لَهُ
وِمِيزَانَ قَسْطٍ لِلْوَفَاءِ سَيُنْصَبُ
تُرُوحُ وَتَغْدُو فِي مَرَاحِكَ لاهِيًا
وَسَوْفَ بِأَشْرَاكِ المَنِيَّةِ تَنْشَبُ
تُعَالِجُ نَزْعَ الرُّوحِ مِنْ كُلِّ مَفْصِلٍ
فَلا رَاحِمٍ يُنْجِى وَلا ثَمَّ مَهْرَبُ
وَغُمضَتِ العَيْنَانِ بَعْدَ خُرُوجِهَا
وَبُسِّطَتْ الرِّجْلانِ وَالرَّأْسُ يُعْصَبُ
وَقَامُوا سِرَاعًا فِي جِهَازَكَ أَحْضَرُوا
حَنُوطًا وَأَكْفَانًا وَلِلْمَاءِ قَرَّبُوا
وَغَاِسُلَك المَحْزُونُ تَبْكِي عُيُونُهُ
بِدَمْعٍ غَزِيرٍ وَاكِفٍ يَتَصَبَّبُ
وَكُلُّ حَبِيبٍ لُبُّهُ مُتَحَرِّقٌ
يُحَرِّكُ كَفَّيْهِ عَلَيْكَ وَيَنْدُبُ
وَقَدْ نَشَرُوا الأَكْفَانَ مِنْ بَعْدِ طَيِّهَا
وَقَدْ بَخَّرُوا مَنْشُورَهُنَّ وَطَيَّبُوا
وَأَلْقُوكَ فِيمَا بَيْنَهُنَّ وَأَدْرَجُوا
عَلَيْكَ مَثَانِي طَيِّهُنَّ وَعَصَّبُوا
وَفِي حُفْرَةٍ أَلْقَوْكَ حَيْرانَ مُفْرَدًا
تَضُمَّكَ بَيِدَاءٌ مِنَ الأَرْضِ سَبْسَبُ
إِذَا كَانَ هَذَا حَالُنَا بَعْدَ مَوْتِنَا
فَكَيْف يَطِيبُ اليَومَ أَكْلٌ وَمَشْرَبُ؟!
وَكَيْفَ يَطِيبُ العَيْشُ وَالقَبْرُ مَسْكنٌ
بِهِ ظُلُمَاتٌ غَيْهَبٌ ثُمَّ غَيْهَبُ
وَهَوْلٌ وَدِيدَانٌ وَرَوْعٌ وَوَحْشَةٌ
وَكُلُّ جَدِيدٍ سَوْفَ يَبْلَى وَيذْهَبُ
فَيَا نَفْسُ خَافِي اللهَ وَارْجِي ثَوَابَهُ
فَهَادِمُ لَذَّاتِ الفَتَى سَوْفَ يَقْرُبُ
وَقُولِي إِلَهِي أَوْلِنِي مِنْكَ رَحْمَةً
وَعَفْوًا فَإِنَّ اللهَ لِلذَّنْبِ يُذْهِبُ
وَلا تُحْرِقَنْ جِسْمِي بِنَارِكَ سَيِّدِي
فَجِسْمِي ضَعِيفٌ وَالرَّجَا مِنْكَ أَقْرَبُ
فَمَا لِي إَلا أَنْتَ يَا خَالِقَ الوَرَى
عَلَيْكَ اتِّكَالِِي أَنْتَ لِلْخَلْقِ مَهْرَبُ
وَصَلِّي إَلَهِي كُلَّمَا ذَرَّ شَارِقٌ
عَلَى أَحْمَدَ المُخْتَارِ مَا لاحَ كَوْكَبُ
اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّكِ بَعْدَ اليَقِينِ، وَمِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، وَمِنْ شَدَائِدِ يَوْمِ الدِّينِ، وَنَسْأَلكَ رِضَاكَ وَالجَنَّةَ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ سَخَطِكَ واَلنَّارِ، اللَّهُمَّ ارْحَمْنَا إِذَا عَرِقَ الجَبِينُ وَاشْتَدَّ الكَرْبُ وَالأَنِينُ، اللَّهُمَّ عَافِنَا مِنْ مَكْرِكَ وَزَيِّنَّا بِذِكْرَكَ وَاسْتَعْمِلْنَا بَأَمْرِكَ وَلا تَهْتِكَ عَلَيْنَا جَمِيلَ سِتْرِكَ وَامْنُن عَلَيْنَا بِلُطْفِكَ وَبِرِّكَ وَأَعِنَّا عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ، اللَّهُمَّ سَلَّمْنَا مِنْ عَذَابِكَ وَآمِنَّا مِنْ عَقَابِكَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
ليلة القدر
فضائلها وعلاماتها
عن ابن عمر رضي الله عنها قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ كَانَ مُتَحَرِّيًا فَلْيَتَحَرَّهَا لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ - أَوْ قَالَ -: تَحَرُّوهَا لَيْلةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ» . يَعْنِي لَيْلَةَ القَدْرِ. رواه أحمد بإسناد صحيح.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أَنَّ رَجُلاً أَتَى نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، إِنِّي شَيْخُ كَبِيرٌ عَلِيلٌ يَشُقُّ عَلَيّ القِيامُ فَأْمُرْنِي بِلَيلةٍ لَعَلَّ اللهَ يُوَفِقُنِي فيِهَا لِلَيْلةِ القَدْرِ، فَقَالَ:«عَلَيْكَ بالسَّابِعَةِ» رواه أحمد.
وَعَنْ زِرِّ بِن حُبَيْشٍ قَالَ: سَمِعْتُ أُبَيَّ بنَ كَعْبٍ يَقُولُ: وَقِيلَ لَهُ إِنَّ عَبْدَ اللهِ بن مَسْعُودٍ رضي الله عنه يقولُ: مَنْ قَامَ السَّنَةَ أَصَابَ لَيْلَةَ القَدْرِ، فَقَالَ أُبَيّ: واللهِ الذي لا إله إلا هُو إِنَّهَا لَفِي رَمَضَانَ يَحْلِفُ مَا يَسْتَثْنِي، وَاللهِ إِنِّي لأَعْلَمُ أَيَّ لَيْلَةٍ هِيَ، هِيَ اللَّيْلَةُ التي أَمَرَنَا رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِقِيَامِهَا هِيَ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعْشرِينَ، وَأَمَارَتُهَا أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ في صَبِيحَةِ يَوْمِهَا لا شُعَاعَ لَهَا. رواه أحمد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي وصححه.
وَرَوَى البُخَارِيُّ عن أبي سَعِيدٍ رضي الله عنه – قَالَ: اعْتَكَفْنَا مَعَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم العَشْرَ الأَوْسَطَ مِنْ رَمَضانَ، فَخَرَجَ صَبِيحَةَ عِشْرِينَ فَخَطَبَنَا وَقَالَ:«إِنِّي رَأَيْتُ لَيْلَةَ القَدْرِ ثم أنسِيتُهَا أَوْ نَسَيْتُهَا، فالتَمسُوهَا في العَشْرِ الأوَاخِرِ في الوِتْرِ، إني رَأَيْت ُأَنِّي أَسْجُدُ في مَاءٍ وَطِينٍ فَمَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَلْيَرْجِعْ» . فَرَجَعْنَا وَمَا نَرَى فِي السَّمَاءِ قَزَعَةٌ، فَجَاءَتْ سَحَابَةٌ فَمَطَرَتْ حتى سَالَ
سَقْفُ الْمَسْجِدِ وَكَانَ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ - وَأُقِيمَتِ الصَّلاةُ فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسْجُدُ في الْمَاءِ وَالطِّينِ، حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ الطِينِ فِي جَبْهَتِهِ.
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بن أَنِيس: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «رَأَيْتُ لَيْلَةَ القَدْرِ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا وَإِذَا بِي أَسْجُدُ صَبِيحَتهَا فِي مَاءٍ وَطِينٍ» . قَالَ: فَمُطِرْنَا في لَيْلَةِ ثلاثٍ وَعِشْرِينَ فَصَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَانْصَرفَ، وَإنَّ أَثَرَ الْمَاءِ وَالطِّينِ عَلَى جَبْهَتِهِ وَأَنْفِهِ. رواه أحمد، ومسلم وزاد.
وَعن أبي بكرةَ: أنه سَمِعَ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُول: «التَمِسُوهَا في تِسْعٍ بَقِينَ أَوْ سَبْعٍ بَقِينَ، أَوْ خَمْسٍ بَقِينَ، أَوْ ثَلاثٍ بَقِينَ، أَوْ آخرَ لَيْلةٍ» . قَالَ: وَكَانَ أُبُو بَكْرَةَ يُصَلِّي في العِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ صَلاتَهُ في سَائِرِ السَّنَةِ فَإِذَا دَخَلَ العَشْرُ اجْتَهد. رواه أحمد، والترمذي وصححه.
وعن أبي نَضْرَةَ عن أبي سعيدٍ في حديث لَهُ: أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم خَرَجَ على الناس فَقال: «يا أيُّهَا النَّاسُ إنها كانَتْ أُبِينَت لي ليلةُ القَدْرِ، وَإني خَرَجْتُ لأُخْبِرَكُم بِهَا فَجَاءَ رَجُلانِ يَحْتَقَّانِ مَعْهُمَا الشَّيْطَانُ فَنَسِيتُهَا، فالتَمِسُوهَا في العَشْرِ الأواخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، التَمِسُوهَا في التَّاسِعَةِ، وَالْخَامِسَةِ، وَالسَّابِعَةِ» . قَالَ: قُلْتُ يَا أَبَا سَعِيدٍ: إنكم أَعْلَمُ بِالعَدَدِ مِنَّا، فقال! أَجَل نَحْنُ أَحَقُ بِذَلِكَ مِنْكُمْ، قَالَ: قُلْتُ: مَا التَّاسعةُ، والسابعةُ، والخامسةُ؟ قَالَ: إِذَا مَضَتْ وَاحِدَةٌ وَعِشْرُونَ فَالتِي تَلِيهَا اثْنَانِ وَعِشْرُونَ فَهِيَ التَّاسِعَةُ، فإذا مَضَتْ ثَلاثٌ وَعِشْرُونَ فَالتِي تَلِيهَا السَّابِعَةُ، فإذا مَضَتْ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ فَالتِي تَلِيهَا الْخَامِسَةُ. رواه أحمد، ومسلم.
وعن ابن عباس رضي الله عنه: أنَّ النبيَ صلى الله عليه وسلم قال: «التَمِسُوهَا في العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ لَيْلَةَ القَدْرِ في تَاسِعَةٍ تَبْقَى، فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى، فِي خَامِسَةٍ تَبْقَى» . رواه أحمد، والبخاري، وأبو داود.
وَفِي رِوَايَة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هِي فِي العَشْر الأخِيرِ، سَبْعٌ يَمْضِينَ، أَوْ تِسْعٌ يَبْقِينَ، يَعْنِي لَيْلَةَ القَدرِ» . رواه البخاري.
وعن ابن عُمَرَ رضي الله عنهما – أَنَّ رِجَالاً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم أُرُوا لَيْلَةَ القَدْرِ فِي المنامِ في السَّبْعِ الأَوَاخِرِ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ في السَّبْعِ الأَوَاخِرِ، فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيًا فَلْيَتْحَرَّهَا في السَّبْعِ الأَوَاخِرِ» .
وَلِمُسْلِمٍ قَالَ: أُرِيَ رَجُلٌ أّنَّ لَيْلَةَ القَدْرِ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ في الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ فَاطْلُبُوهَا في الوِتْرِ مِنْهَا» .
وعن عائشة رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «تَحَرُّوا لَيْلَةَ القَدْرِ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِن رمضان» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالبُخَارِيُّ.
وَعَنْ عُبَادَةَ بن الصَّامِتِ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِيُخْبِرَنَا بِلَيْلَةِ القَدْرِ فَتَلاحَى رَجُلانِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ:«خَرَجْتُ لأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ القَدْرِ فَتَلاحَى فلانٌ وَفلانٌ فَرُفِعَتْ وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ فَالتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ» . رَوَاهُ البخاري.
وَعن عبدِ الله بن أُنَيْسٍ رضي الله عنه قال: قُلْتُ يَا رسولَ اللهِ، إنَّ لِي بَادِيةً أَكُونُ فيها وأنا أُصَلِّي فِيهَا بِحَمْدِ اللهِ، فَمُرْنِي بِلَيْلَةٍ أَنْزِلُها إِلى هَذَا الْمَسْجِدِ فَقَالَ:«انْزِلْ ثَلاثَ وَعِشْرِين» . رواه أبو داود.
قِيلَ لابْنِهِ: كَيْفَ كَانَ أَبُوكَ يَصْنَعُ؟ قَالَ: كَانَ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ إِذَا صَلَّى العَصْرَ فَلا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلا لِحَاجَةٍ حَتَّى يُصَلِّي الصُّبْحَ، فَإِذَا صَلَّى الصُّبْحَ، وَجَدَ دَابَّتَهُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، فَجَلَسَ عَلَيْهَا وَلَحِقَ بِبَادِيَتِهِ.
قَالَ البَغَوِي: وَفِي الْجُمْلَةِ: أَبْهَمَ اللهُ هذِهِ اللَّيْلَةَ عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ لِيَجْتَهِدُوا بِالعِبَادَة لَيَالِي رَمَضَانَ طَمَعًا في إِدْرَاكِهَا، كَمَا أَخْفَى سَاعَةَ الإِجَابَةِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَأَخْفَى الصَّلاةَ الوُسْطَى في الصلواتِ، الْخَمْسِ، واسْمَهُ الأَعْظَمَ فِي الأَسْمَاءِ، وَرِضَاهُ في الطَّاعاتِ لِيَرْغَبُوا في جَمِيعِهَا وَسَخَطَهُ فِي الْمَعَاصِي لِيَنْتَهُوا عَنْ جَمِيعِهَا وَأَخْفَى قِيَامَ السَّاعَةِ لِيَجْتَهِدُوا في الطاعاتِ حَذَرًا مِن قِيَامِهَا.
إِذَا تَقَرَّرَ هَذَا وَعَلِمْتَ مَا وَرَدَ مِنْ الحَثِ عَلَيْهَا، فَاعْلَمْ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِكُلِّ مُوَفَّقٍ مُرِيدٍ لِلْكَمَالِ وَالسَّعَادَةِ الأَبَدِيَّةِ أَنْ يَبْذِلَ وُسْعَهُ وَيَسْتَفْرِغَ جُهْدَهُ فِي إِحْيَاءِ لَيَالِي العَشْرِ الأَخِيرِ وَقِيَامِهَا لَعَلَّهُ أَنْ يُصَادِفَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ الْجَلِيلَةَ التِي اخْتَصَّ اللهُ تَعَالى بِهَا هَذِهِ الأُمَّةَ، وَآتَاهُمْ فِيهَا مِنْ الفَضْلِ مَا لا يَحْصُرُهُ العَدَدُ.
فَيَا عِبَادَ اللهِ إِنَّ هَذَا عَشْرُ. شَهْرٍ. مُبَارَكِ اللَّيَالِي وَالأَيَّامِ وَهُوَ سَبَبٌ لِمَحْوِ الذُّنُوبِ وَالآثامِ، وَفِيهِ يَتَوَفَّرُ جَزِيلُ الشُّكْرِ وَالإِنْعَامِ، فَاعْتَذِرُوا فِيهِ إلى الْمَوْلَى الكَرِيمِ، وَأَقْبَلُوا بِقُلُوبِكُمْ إِلَيْهِ وَقِفُوا بِالْخُضُوعِ لَدَيْهِ، وَانْكَسِرُوا بَيْنَ يَدِيْهِ فَإِنَّهُ رَحِيم كريم.
عِبَادَ اللهِ: إِنَّكُمْ الآنَ في رَمَضَانَ، وَهُوَ وَحْدَهُ عُمُرٌ طَوِيلٌ لِمَنْ رَامَ الثَّوَابَ الجَزِيلَ، فَإِنَّ فِي لَيَالِيْهِ لَيْلَةً وَاحِدةً خَيْرًا مِن أَلفِ شَهْرٍ، قَالَ الله تعالى:{لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} فاجْتَهِدُوا رَحِمَكُم اللهُ بِإخْلاصِ الأَعْمَالِ للهِ جَلَّ وَعَلا وَبَادِرُوا بِالتَّوْبَةِ وِالاستغفارِ وَالابتهالِ إِلَى ذِي الجلالِ وَالإِكرامِ.
واعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللهُ أَنَّ المَوْتَى في قُبُورِهِمْ يَتَحَسَّرُونَ عَلَى زِيَادَةٍ فِي أَعْمَالِهِم بِتَسْبِيحَةٍ أَوْ تَحْمِيدَةٍ أَوْ رَكْعَةٍ، رُئِيَ بَعْضُهُمْ فِي المَنَامِ فَقَالَ: مَا عِنْدَنَا أَكْثَرَ مِنَ النَّدَامةِ، وَمَا عِندكُم أَكْثَرَ مِنَ الغْفَلَةِ، وَرُئِيَ بَعْضُهُم فََقَالَ: قَدِمْنَا عَلَى أَمْرٍ عَظْيمْ نَعْلَمْ وَلا نَعْمَل، وأنتم تَعْلَمُونَ وَلا تَعْمَلُون واللهِ لَتَسْبِيحَةٌ أَوْ تَسْبِيحَتَانِ، أَوْ رَكْعَةٌ أَوْ رَكْعَتَانِ فِي صَحِيفَةِ أَحَدِنَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا.
وفي الترمذي: مَا مِنْ مَيِّتٍ يَمُوتُ إِلا نَدِمَ، إِنْ كَانَ مُحْسِنًا نَدِمَ أن لا يكونَ ازْدَادَ، وَإن كان مُسِيئًا نَدِمَ أَن لا يَكونَ اسْتَعْتَبَ.
يا أيُّها العَبْدُ قُمْ لِلَّهِ مُجْتَهِدًا
وَانْهَضْ كَما نَهَضَتْ مِنْ قَبْلِكَ السُّعَدَا
هَذِي لَيالِي الرِّضَا وَافَتْ وَأَنْتَ عَلَى
فِعْلِ القَبِيحِ مُصِرًّا مَا جَلَوْتَ صَدَا
قُمْ فَاغْتَنِمْ لَيْلَةً تَحْيَا النُّفُوسُ بِهَا
وَمِثْلُهَا لَمْ يَكُنْ في فَضْلِهَا أَبَدَا
طُوبَى لِمَنْ مَرَّةً فِي العُمْرِ أَدْرَكَهَا
وَنَالَ مِنْهَا الذي يَبْغِيهِ مُجْتَهِدَا
فَلَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ قَالَ خَالِقُنَا
مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ هَنِيئًا مَنْ لَهَا شَهِدَا
وَيَنْزِلُ الرُّوحُ فِيها والملائِكُ مِنْ
عِنْدَ المُهَيْمِنِ لا نُحْصِي لَهُم عَدَدَا
يا فَوْزَ عَبْدٍ حُظِي فِيها فَوَفَّقَهُ
رَبِّي قَبُولاً فَعَاشَ عِيشَةَ السُّعَدَا
وَفَازَ بِالأَمْنِ وَالغُفَرَانِ مُغْتَبِطًا
وَنَالَ مَا يَرْتَجِي مِنْ رَبِّهِ أَبَدَا
فَاطلبْ مِن الله إنْ وَافَيْتَهَا سَحَرًا
جَنَّاتِ عَدْنٍ تَكُنْ مِنْ جُمْلَة السُّعَدا
وَابكِ ونحْ وَتَضرعْ فِي الدُّجَا أَسَفًا
عَلَى كَبَائِرَ لا تُحْصِي لَهَا عَدَدَا
ثُمَّ الصَّلاة على المُخْتَارِ مَا طَلُعَتْ
شَمْسٌ وَمَا سَارَ سَارٍ فِي الفَلا وَحَدَا
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَا وَفَّقْتَ إليه القَوْم وأَيْقِضْنَا من سِنة الغَفْلَةِ والنَّوم وارزقْنَا الاستعدادَ لِذَلِكَ اليَوْمِ الذي يَرْبَحُ فيه المُتَّقُونَ، اللَّهُمَّ وعامِلنَا بإحْسَانِكَ وَجُدْ علينا بِفَضْلِكَ وامْتِنانِكَ واجعلنا من عِبادِكَ الذينَ لا خَوفٌ عليهم ولا هُمْ يَحْزَنُون.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلَك التَّوبَةَ وَدَوامَها، وَنَعُوذُ بِكَ مِن المَعْصِيَةِ وأَسْبَابها، اللَّهُمَّ أفِضِ علينا مِن بَحْرِ كَرَمِكَ وَعَوْنِك حَتَى نَخْرُجَ مِنَ الدُّنْيَا على السّلامَةِ مِن وَبَالِها وَارْأُفْ بِنَا رَأْفَةَ الحَبِيبِ بِحَبِيبِهِ عِنْدَ الشّدَائِدِ وَنُزُولِها، وارْحَمْنا مِن هُمُومِ الدّنْيَا وَغُمومِها بالرَّوْحِ والرّيْحانِ إِلى الجنةِ وَنَعِيمِها، اللَّهُمَّ ارحَمْ ذُلَّنَا بَيْنَ يَدَيْكَ واجعلْ رَغْبَتَنَا فِيما لَدَيْكَ، ولا تحرمنا بِذُنوبنا، ولا تَطْرُدْنَا بعُيوبنا،
وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
موعظة
خَطَبَ أَحَدُ الصَّالِحِينَ فَقَالَ: أَيُّهَا اللاهِي المَغْرُورِ بِنَفْسِهِ كَأَنِي بِكَ وَقَدْ أَتَاكَ رَسُولُ رَبِّكَ لا يَقْرَعُ لَكَ بَابًا وَلا يَهَابُ صَحَابًا وَلا يَقْبَلُ مِنْكَ بَدِيلاً وَلا يَأْخُذُ مِنْكَ كَفِيلاً وَلا يَرْحَمُ لَكَ صَغِيرًا وَلا يُوَقِّرُ فِيكَ كَبِيرًا حَتَّى يُؤَدِّيكَ إِلَى قَبْرٍ مُظْلِمَةٍ أَرْجَاؤُهُ كَفِعْلِهِ بِالأُمَمِ الخَالِيَةْ وَالقُرُونِ المَاضِيَةِ.
أَيْنَ مَنْ سَعَى وَاجْتَهَدَ وَجَمَعَ وَعَدَّدَ وَبَنَى وَشَيَّدَ، وَزَخْرَفَ وَنجَّدَ، وبالقليل لَمْ يَقْنَعْ، وَبالكثير لَمْ يُمَتَّعْ.
أَيْنَ مَنْ شَيَّدَ القُصُورَ، وَنَسَى القُبُورَ، أَيْنَ مَنْ قَادَ الجُنُودَ ونشر البُنُودَ، أَضْحُوا رُفَاتًا تَحْتَ أَطْبَاقَ الثَّرى وَأَنْتُم عن قَرِيبٍ بكأسهِمِ شَارِبُون ولِسَبِيلِهم سَالِكُونَ.
يُحَوَّلُ عَن قَريبٍ مِن قُصورٍ
…
مُزَخرَفَةٍ إِلى بَيتِ التُرابِ
فَيُسْلَمَ فيهِ مَهجوراً فَريداً
…
أَحاطَ بِهِ شُحوبُ الاِغتِرابِ
وَهَولُ الحَشرِ أَفظَعُ كُلِّ أَمرٍ
…
إِذا دُعِيَ اِبنُ آدَمَ لِلحِسابِ
وَأَلفى كُلَّ صالِحَةٍ أَتاها
…
وَسَيِّئَةٍ جَناها في الكِتابِ
لَقَد آنَ التَزَوُّدُ إِن عَقِلنا
…
وَأَخذُ الحَظِّ مِن باقي الشَبابِ
آخر:
قَدْ نَادَتِ الدُّنْيَا عَلَى نَفْسِهَا
…
لَوْ كانَ في العَالَمِ مَنْ يَسْمَعُ
كَمْ وَاثِقٍ بالعُمْرِ أَفْنَيْتُهُ
…
وَجَامِعٍ بَدَّدْتُ مَا يَجْمَعُ
آخر:
وَالعُمْرُ أَنْفَسُ مَا الإِنْسَان مُنْفِقُهُ
…
فَاجْعَلْهُ فِي طَاعَةِ الرَّحْمِنِ مَصْرُوفَا
قال ابن الجوزي رحمه الله:
ينبغي للإنسان أن يعرف شرفَ زمانِهِ، وقدر وَقتهِ، فلا يضيع منه لحظةً في غير قربه.
ويُقَدّمُ الأفضلَ فالأفضلَ مِن القول والعمل. ولتكن نيتُهُ في الخير قائمةً مِن غير فُتور.
(وقد كان جماعة من السلف يُبَادِرون اللحظات) فَنُقل عن عامر ابن عبد قيس: أَنَّ رَجُلاً قال له: (كَلّمْنِي) فقال له: (أَمْسِكِ الشمسَ) .
ودخلوا على بعض السلف عند موتهِ، وهو يُصلي، فقيل له، فقال:(الآن تُطوىَ صَحِيفَتِي) . فإذا علم الإنسان أنه وإن بالغ في الجد بأن الموتَ يقطعه عن العمل، عَمِلَ في حَيَاتِهِ مَا يَدُومُ لَهُ أَجْرُهُ بَعدَ مَوتِهِ.
فإن كان له شيء في الدنيا، وقَّف وَقْفًا، وغرسَ غرسًا، وأجرى نهرًا، ويَسْعَى في تحصيل ذُريةٍ تذكر الله بعدهُ، فيكون لَهُ أَجر، أو أن يصنف كتابًا في العلم.
فإن تَصنيفُ العالم ولدُهُ المخلد وأن يكون عاملاً بالخير عالمًا فيه فينقلُ مِن فِعْلِهِ ما يقتدي به الغيرُ فذلك الذي لم يمتْ. واللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وِسَلَّمَ.
تَذَكَّر وَلا تَنْسَ المَعادَ وَلا تَكُن
كَأَنَّكَ مُخْلىً لِلمَلاعِبِ مُمْرَجُ
وَلا تَنْسَ إِذْ أَنْتَ المُوَلْوَلُ حَوْلَهُ
وَنَفْسُكَ مِنْ بَيْنِ الجَوانِحِ تَخْرُجُ
وَلا تَنْسَ إِذ أَنْتَ المُسَجَّى بِثَوبِهِ
وَإِذ أَنتَ في كَربِ السِّيَاقِ تُحَشْرجُ
وَلا تَنْسَ إِذْ أَنْتَ المُعَزَّى قَرِيبُه
وَإِذْ أَنْتَ في بَيْضٍ مِنَ الرَّيْطِ مُدْرَجُ
وَلا تَنْسَ إِذْ يَهْدِيكَ قَوْمٌ إِلَى الثَّرَى
إِذَا مَا هَدَوْكَاهُ انْثَنَوْا لَمْ يُعَرِّجُوا
وَلا تَنْسَ إِذْ قَبْرٌ وَإِذْ مِنْ تُرَابِهِ
عَلَيكَ بِهِ رَدْمٌ وَلِبْنٌ مُشَرَّجُ
وَلا تَنْسَ إِذْ تُكْسَى غَدًا مِنْهُ وَحْشَةً
مَجَالِسُ فيهِنَّ العَناكِبُ تَنْسِجُ
وَلا بُدَّ مِنْ بَيْتِ انْقِطَاعٍ وَوَحْدَةٍ
وَإِنْ سَرَّكَ البَيْتُ العَتِيقُ المُدَبَّجُ
أَلا رُبَّ ذي طِمْرٍ غَدًا في كَرَامَةٍ
وَمَلكٍ بِتِيجَانِ الهَوانِ مُتَوَّجُ
لَعَمْرُكَ مَا الدُّنْيَا بِدارِ إِقامَةٍ
وَإِنْ زَخْرَفَ الغَاوُونَ فِيهَا وَزَبْرَجُوا
اللَّهُمَّ طَيِّبْنَا لِلَقَائِكْ، وَأَهِّلْنَا لَوَلائِكَ وَأَدْخِلْنَا مَعَ المَرْحُومِينَ مِنْ أَوْلِيَائِكَ، وَتَوفَّنَا مُسْلِمِينَ وَأَلْحِقْنِا بِالصَّالِحِينَ.
اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ، وَتِلاوَةِ كِتَابك، واجْعَلْنَا مِنْ حِزْبِكَ المُفْلِحِينَ، وَأَيِّدْنَا بِجُنْدِكِ المَنْصُورِينِ، وَارْزُقْنَا مُرَافَقَةَ الذينَ أَنْعَمْتَ عليهم من النبيينَ والصِّدِيقين والشهداء والصَّالحين.
اللَّهُمَّ يَا فَالِقَ الحَبِّ وَالنَّوَى، يا مُنْشِئَ الأَجْسَادِ بَعْدَ البَلَى يَا مُؤْوي المُنْقَطِعِينَ إِلَيْهِ، يَا كَافِي المُتَوكِّلِينَ عَليه، انْقطَعَ الرِّجَاءُ إِلا مِنْكَ، وَخَابَتِ الظُّنُونُ إلا فِيكَ، وَضَعُفَ الاعْتِمَادُ إلا عَلَيْكَ، نَسْأَلُكُ أَنْ تُمْطِرَ مَحْلَ قُلُوبِنَا
مِنْ سَحَائِبَ بِرَّكَ وَإِحْسَانِكَ وَأَنْ توفقنا لِمُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ وَعَزَائِم مَغْفِرَتِكَ إِنَّكَ جَوادٌ كريم رَؤوفٌ رَحِيم. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فصل
في ذكر بعض الأدعية الواردة
عباد الله اغتنموا هذه الأوقات الشريفة وأكثروا فيها من الدعاء فإن الدعاء له أثر عظيم وموقع جسيم.
وهو مخ العبادة ولا سيما إذا كان بقلب حاضر وصادفا إخباتًا وخشوعًا وانكسارًا وتضرعًا ورقة وخشية واستقبل القبلة حال دعائه وكان على طهارة.
وجدد توبة وأكثر من الاستغفار وبدأ بحمد الله وتنزيهه وتمجيده وتقديسه والثناء عليه وشكره ثم صلى على النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك.
ودعا بدعاء مشروع باسم من أسماء الله الحسنى مناسب لمطلوبه.
فإن كان يريد علمًا قال: يا عليم علمني.
وإن كان يطلب رحمة قال: يا رحمن ارحمني.
وإن كان يطلب رزقًا قال: يا رزاق ارزقني ونحو ذلك.
ولم يمنع من الدعاء مانع كأكل الحرام وقطيعة رحم وعقوق ونحو ذلك.
وتحرَّى أوقات الإجابة وأتى بأسبابها وهي الاستجابة لله تعالى بالانقياد لأوامره والانتهاء عن ما نهى عنه.
فالله أصدق القائلين وأوفى الواعدين قال تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} .
وقال عز من قال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} .
وقال جل وعلا: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} .
وقال تبارك وتعالى: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} .
وقال تعالى: {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} .
وقال: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً} .
ومن أوقات إجابة الدعاء إذا اجتمعت الشروط وانتفت الموانع ثلث الليل الأخير.
ويوم الجمعة عند صعود الإمام المنبر أو في آخر ساعة من يومها وعند الآذان.
وبين الآذان والإقامة.
وعند نزول الغيث.
وعند فطر الصائم.
وعشية عرفة.
وفي حالة السجود.
وفي ليلة القدر.
وفي أدبار الصلوات.
وفي أدبار النوافل.
وعند ختم القرآن.
وعند البكاء والخشية من الله.
وفي جَوْفِ الليل.
وعِنْدَ دعاءِ المُسْلم لأَخِيهِ بِظَهْرِ الغَيْبِ.
وَبَعْدَ زَوَالَ الشَّمسِ عَن كَبِدِ السَّمَاءِ.
قال بعضهم:
قالوا شرُوطُ الدُّعاءِ المُسْتَجَابِ لَنَا
…
عَشْرٌ بِهَا بَشِّرِ الدَّاعِي بِأَفْلاحِ
طَهَارَةٌ وَصَلاةٌ مَعْهُمَا نَدَمٌ
…
وَقْتٌ خُشُوعٌ وَحُسْنُ الظَّنِ يَا صَاحِ
وَحِلُّ قُوتٍ وَلا يُدْعَى بِمَعْصِيَةٍ
…
وَاسْمٌ يُنَاسِبُ مَقْرُونٌ بألْحَاحِ
وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) : في الأَدِلَّةِ لِمَا تَقَدَّمَ عَنْ ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في ثلثِ الليلِ الأخِير: «إِنَّها ساعةٌ مَشْهُودَةُ وَالدُّعَاءُ فيها مُسْتَجَاب» . أخرجه الحاكمِ، والترمذي.
وعن ابن عمر قال: نادى رَجُلٌ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الليلِ أَجْوَب دعوةً. قال: «جَوْف الليلِ الأخِيرِ» . أخرجه البزار، والطبراني بسند صحيح.
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ يومَ الجمعةِ.
فقال: «فيه ساعةٌ لا يُوافِقُهَا عبد مسلمٌ وهو قَائِمُ يُصَلِّي يَسْألُ الله شَيْئًا إلا أعطَاهُ» . أخرجه الشيخان.
وعن عثمان بن أبي العاص الثَّقَفِي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تُفْتَحُ أبوابُ السماء نصِفَ الليل فينادي مُنَادٍ: هَلْ مِنْ دَاع فَيُسْتَجَابَ له، هَلْ مِنْ سائل فَيُعْطَى، هَلْ مِنْ مَكْرُوبٍ فَيُفَرَّجَ عَنْهُ، فَلا يَبْقَى مُسْلم فَيَدْعُو بِدَعْوَة إلا اسْتَجَابَ لَهُ إلا زَانِيَةً تَسْعَى بفرجها أو عَشَّارًا» . أخرجه الطبراني بسند صحيح.
وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثُ ساعات لِلْعَبْدِ الْمُسْلِمِ ما دَعَا فيهن إلا اسْتُجِيبَ لَهُ ما لم يَسْأَلْ قَطِيعَةَ رَحمِ أَوْ مَأْثمًا» .
وعن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يَقُول: «دَعْوَةُ الْمُسْلِمِ لأخِيهِ بِظهر الغَيْبَ مُسْتَجَابَةٌ عِند رَأَسِهِ مَلَكُ مُوكَلٌ كُلَما دَعَى لأخِيهِ بِخَيْرٍ قَالَ الملكُ الْمُوكلُ به: آمِينَ وَلَكَ بِمِثْل» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
حِينَ يَؤَذَّنُ لِلصَّلاة حتى يسكت وحينَ يَلْتَقِي الصَّفَان حتى يحكم اللهُ بينهما وحينَ يَنزلُ المطرُ حتى يسكن. أخرجه أبو نُعَيْم في الحلية.
وعن سهل بن سعد: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا مالت الشمس عن كبد السماء قَدْرَ شِرَاكٍ قامَ فَصَلَّى أربعَ ركعات قلتُ: يا رسول الله ما هذه الصلاة.
قال: «مَن صَلاهُنَّ فقد أحْيَا لَيْلَتَه هذه ساعة تُفْتَح فيها أبوابُ السَّمَاءِ وَيُسْتَجَابُ فِيهَا الدعاء» . أخرجه أبو نعيم في الحلية.
وعن عبد الله بن أبي أوفى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا فاءَتِ الأفْيَاءُ وَهَبَّتِ الأَرواحُ فارْفَعُوا إلى الله حَوَائِجَكُم فَإِنَّها سَاعَةُ الأَوَّابِينَ» . أخرجه أبو نعيم في الحلية.
وعن عطاء قال: (ثلاثُ خِلالٍ تُفْتَحُ عِندهُنَّ أَبْوابُ السَّماء فَتَحَرَّوْا الدُّعاءَ عندهن:
عند الأذانِ، وعند نُزُولِ الغَيث، وعندَ التقاءِ الزَّحْفَين) . أخرجه سعيد بن منصور.
وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لِلصَّائِمِ عند فِطْرِهِ دعوةٌ مُسْتَجَابَة» . أخرجه النسائي.
وعن أبي هريرة عن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثٌ حَقٌّ على الله أن لا يَرُدُّ لهم دعوة الصائم حتى يُفْطِر، والمظلومُ حتى يَنْتَصِر، والمسافر حتى يرجع» . أخرجه البزار.
وعن عبد المطلب بن عبد الله بن حَنْطَت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مِن أفضل الدعاء الدعَاء يوم عرفة» . أخرجه سعيد بن منصور في سننه.
وعن جابر قال: سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول: «إن في الليل لساعة لا يوافقها رَجُلٌ مسلم يسأل الله خَيْرًا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إِيَّاهُ وذلك كُلَّ لَيْلَةٍ» . أخرجه مسلم.
وعن سهل بن سعد مرفوعًا قال: «سَاعَتَانِ تُفْتَح لَهُمَا أبوابُ السماء وقَلَّ دَاعٍ تُردُّ دَعْوته: حين يحضر النداء، والصف في سبيل الله» . أخرجه البخاري في الأدب.
وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اثْنَتَانِ لا تُرَدَّان: الدعاء عند النداء، وحينَ البأس حينَ يُلْحِمُ بَعْضُهُم بَعْضًا» . أي يَنْشَب بَعْضُهم بِبَعْضٍ في الحَرْب. أخرجه الحاكم في المستدرك.
وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الدُّعَاءُ مُسْتَجَابٌ مَا بَيْنَ النِّدَاءِ وَالإِقَامَةِ» . أخرجه أبو داود، والترمذي، والحاكم.
وعن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا نَادَى المنادى فُتَّحَتِ أبواب السماء واسْتُجِيبَ الدُّعَاءُ فَمَنْ نَزَلَ بِهِ كَرْبٌ أَوْ شدةٌ فَلْيَتَحَرَّ الْمُنَادِي فَيُجِيبُه.
ثم يقول: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ الصاَّدقةِ المستجابة المستجاب لها دعوة الحق وكلمة التقوى أحْينَا وأمِتْنَا عليها واجْعَلْنَا مِنْ خِيَار أهلها أحياءً وأمواتا ثم يسأل الله حاجَتهَ» . أخرجه الحاكم.
عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لِلصَّائِمِ عند فِطْهرهِ دعوةٌ مستجابة» . أخرجه النسائي.
وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إني نُهِيتُ أن أقرأَ القرآن رَاكعًا وسَاجِدًا، فأما الركوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الربَّ وأما السجودُ فاجْتَهدُوا فِيهِ مِن الدعاءِ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لكم» . أخرجه مسلم.
وعن عبادة بن الصَّامِتِ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمًا وَحَضَر رَمَضَانُ: «أتاكم شهرُ بَركَةٍ فِيهِ تَنزلُ الرحمةُ وَتُحَطُ الْخَطَايَا وَيُسْتَجَابُ الدُّعَاء» .
وأخرج في الأوسط عن عمرَ بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذَاكرُ الله في رمضان مغفورٌ لَهُ، وسَائلُ الله فيه لا يَخِيب» . أخرجه الطبراني.
ورُوِي أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء.
ورُوِي مَن صلى فريضة فله دعوة مستجابة.
ومَن ختم القرآن فله دعوة مُستجابة.
وعن رَبِيعَة بن وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثُ مواطن لا تُرَدُّ فيها دعوةُ عَبد، رجلٌ يكون في بَرِيَّةٍ حَيْثُ لا يراه إلا اللهُ.
ورجلٌ يكون معه فِئَةٌ فيفر عنه أصحابهُ فَيَثْبُتُ.
ورجلٌ يَقُومُ مِن آخر الليل» . أخرجه أبو نعيم في أخبار الصحابة.
وعن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا فُتِحَ على العبد الدُّعَاءُ فَلْيَدْعُ رَبَّهُ فإن الله تعالى يستجيب» . أخرجه الترمذي.
وعن خالد الحذَّاء قال: (كان عيسى عليه السلام يقول: إذا وجدتم قَشْعَرِيرَةً ودمعة فادعوا عند ذلك) . أخرجه أحمد في الزهد.
ورُوِي: (اغْتَنِمُوا الدعاء عند الرِّقَّةِ فَإِنَّها رَحْمَة) .
ورُوِي: (الدعاء بين الأذان والإقامة مستجاب) .
ورُوِي: (عند أذَان المؤذن يستجاب الدعاء، فإذا كان الإقامة لا ترد دعوته) .
وعن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كانت له إلى الله حاجة فليدع بها دُبُرَ صلاة مفروضة» . أخرجه بن عساكر.
وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مع كل ختمة دعوة مستجابة» .
وأخرجه من وجه آخر بلفظ آخر: «عند ختم القرآن دعوة مستجابة وشجرة في الجنة» . أخرجه البيهقي في شعيب الإيمان.
فعليكُم عِبَادَ اللهِ بالاجتهادِ بالدعاءِ، وَعَلَيْكُمْ بِجَوامِعِ الدُّعَاءِ التي تَجْمَعُ خيرَ الدُّنْيَا وَالآخرةِ، وفي الصحيحين: كان أَكْثَرُ دُعَاءِ النبي صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ آتِنَا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار» .
ومِن دعائهِ صلى الله عليه وسلم إذا سَافَرَ: (أنه كانَ يَتَعَوَّذُ مِن وَعْثَاءِ السَّفرِ وكآبةِ الْمَنْظَرِ، والحَورِ بَعْدَ الكَوْرِ، وَدَعْوَةِ الْمَظْلُومِ، وَسَوءِ الْمَنْظَرِ في الأَهْلِ وَالْمَالِ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ومِن مَا وَرَدَ عن أبي بكرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «دَعَوَاتِ الْمَكْرُوبِ اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو فلا تَكِلْنِي إِلى نَفْسِي طَرْفةَ عَيْنٍ وأصلِحْ لي شَأْنِي كُلَّهُ لا إلهَ إِلا أَنْتَ» . رواه أبو داود. وعن أبي سَعِيد الخُدَري قال: قال رَجُلٌ لَزِمَتْنِي هُمُومٌ وَدُيُونٌ يا رسولَ اللهِ، قَالَ:«أَفَلا أُعَلِّمُكَ كَلامًا إِذَا قُلْتَهُ أَذْهَبَ اللهُ هَمَّكَ وَقَضَى عَنْكَ دِينَكَ» . قَالَ: قُلْتُ بَلَى، قَالَ: «قُلْ إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ العَجْزِ وَالكَسَلِ، وَأَعُوذُ
بِكَ مِن البُخْلِ والْجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ» . قَالَ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَ هَمِّي وَقَضَى عَنِّي دَيْنِي. رواه أبو داود.
وقالت أُمُّ سَلَمَةَ رضي الله عنها: كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم ((يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ)) .
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «تَعَوّذُوا بِاللهِ مِنْ جَهْدِ البَلاءِ وَدَرَكِ الشَّقَاءِ وَسُوءِ القَضَاءِ وَشَمَاتَةِ الأعداءِ» .
وَمِنْ دُعَائِهِ صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاهَا» .
وَمِنْ ذَلِكَ مَا وَرَدَ عَنْ ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: كَانَ يَقُولْ: «اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ وَبِكَ خَاصَمْتُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ لا إِله إلا أَنْتَ أَنْ تُضِلِّنِي، أَنْتَ الْحَيّ الذي لا يَمُوت وَالْجِنُّ وَالإِنْسُ يَمُوتُون» . واللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
فصل: وَمِنْ دُعَائِهِ صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ إِنّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الفَقْرِ وَالقِلَّةِ وَالذِّلّةِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ أَُظْلِمَ وَأُظْلَمْ» .
وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَعَوَّذُ مِنْ خَمْس: مِنَ الْجُبْنِ، وَالبُخْلِ، وَسُوءِ العُمُرْ، وَفِتْنَةِ الصّدْرِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ) . رواهُ أبو داودَ، والنَّسَائِي.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الِّشَقاقِ وَالنِّفَاقِ وَسُوءِ الأَخْلاقِ» . رواهُ أبو دَاود.
وَعَنْهُ رضي الله عنه أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُوعِ فَإِنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْخِيَانَةِ فَإِنَّهَا بِئْسَتْ البِطَانَة» . رَواهُ أبُو داودَ، والنِّسائي، وابن مَاجَةَ.
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ البَرَصِ وَالْجُذَامِ وَالْجُنُونِ وَمِنَ سِيّءِ الأَسْقَامِ» . رواهُ أبُو داودَ، والنِّسَائي.
وَعَنْ قُطْبَةَ بِنْ مَالِكٍ - رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ - قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولْ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ مُنْكِرَاتِ الأَخْلاقِ وَالأَعْمَالِ وَالأَهْوَاءِ وَالأَدْوَاءِ» . رواه الترمذي.
وَعَنْ شُتَيْرَ بْنَ شَكَل بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ عَلِّمْنِي تَعَوِيذًا أَتَعَوَّذُ بِهِ قَالَ: «قُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ سَمْعِي وَشَرِّ بَصَرِي وَشَرِّ لِسَانِي وَشَرِّ قَلْبِي وَشَرِّ عَيْنِي» . رواهُ أبو داودَ، والترمذي، والنِّسَائِي.
وَعَنْ أَبِى الْيَسَرِ أَنَّ رَسُولِ اللهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْعُو: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَدْمِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ التَّرَدِّي، وَمِنَ الْغَرَقِ، وَالْحَرَقِ، وَالْهَرَمِ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ يَتَخَبَّطَنِي الشَّيْطَانُ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ أَمُوتَ فِي سَبِيلِكَ مُدْبِرًا، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أَمُوتَ لَدِيغًا» . رواه أبو داود، والنسائي.
ومن دعائه صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي جِدِّي وَهَزْلِي وَخَطئِي وَعَمْدِي، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، ومَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ، وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا عَلّمهُ صلى الله عليه وسلم الصّدِيقَ قَالَ له: «قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَاّ أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ أنسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولِ اللهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إلْظوا بِيَا ذَا الجلالِ والإكرامْ» . أيْ: الزَمُوا هذِهِ وَألِحُّوا بِهَا وَدَاوِمُوا عَلَيْهَا.
وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الكَسَلِ وَالْهَرَمِ وَالْمَغْرَمِ وَالْمَأثَمِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ النارِ وَفِتْنَةِ النَّارِ وَفَتْنَةِ القَبْرِ وَعَذَابِ القَبْرِ وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الغِنَى وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الفَقْرِ وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَالِ اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَاي بِمَاءِ الثَّلْجِ وَالبَرَدِ وَنَقِّ قَلْبِي كَمَا يُنَقَّى الثوبُ الأبيضُ مِن الدَّنَسْ وباعدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ عَبْدُ اللهِ بن يَزِيدِ الْخَطْمِي عَنْ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أنَّهُ كَانَ يَقُولُ في دُعَائِهِ: «اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي حَبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يَنْفَعْنِي حُبُّه عِنْدَكَ اللَّهُمَّ مَا رَزَقْتَنِي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ قُوةً لِي فِيمَا تُحِبّ، اللَّهُمَّ مَا زَوَيْتَ عَنِّي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ فَرَاغًا فِيمَا تُحِبُّ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِي.
شِعْرًا:
إِلَهُ الوَرَى حَتْمٌ عَلَى النَّاسِ حَمْدُهُ
…
لِمَا جَادَ مِنْ فَضْلٍ عَلَيْهِمْ بِلا مَنِّ
آخر:
فلو كان يَسْتَغْنِي عَنْ الشُّكْرِ مَاجِدٌ
…
لِعَزَّةِ نَفْسٍ أَوْ عُلوٍ مَكَانَ
لَمَا أَمَرَ الله العِبَادَ بِشُكْرِهِ
…
فَقَالَ اشكرُوا لِي أَيُّهَا الثَّقَلانِ
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «كانَ مِنْ دُعَاءِ دَاودَ يَقُول: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ حُبُّكَ وَحُبِّ مَنْ يُحِبُّكَ والعَمَلُ الذي يُبَلِّغْنِي حُبُّكَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ حُبُّكَ أَحَبَّ إِليَّ مِنْ نَفْسِي وَمَالِي وَأَهْلِي وَمِنْ الْمَاءِ البَارِدِ» . الْحَديثْ رَوَاهُ التِّرْمِذِي. وَعَنْ أُمِّ مَعْبَدٍ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول: «اللَّهُمَّ طَهِّرْ قَلْبِي مِنَ النِّفَاقِ وَعَمِلِي مِن الرِّيَاءِ وَلِسَانِي مِنَ الكَذِبِ وَعَيْنِي مِن الْخِيَانَةِ فَإِنَّكَ تَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْينِ وَمَا تُخْفِي الصُّدورْ» . رواه البَيْهَقِي في الدَّعَواتِ الكبير.
وَعَنْ عَبْدُ اللهِ بِنْ عُمْرو قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولْ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الصِّحَةَ والْعِفِّةَ وَالأَمَانَةَ وَحُسْنَ الْخُلقْ والرِّضَى بَالقَدَرْ» . رواهُ البيهقِي في الدَّعَواتِ الكبيرْ.
جاء عن معقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «من قَالَ حينَ يُصبحُ ثلاثَ مراتٍ أَعُوذُ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وقرأ ثلاثَ آياتٍ من آخرِ سورةِ الحشرِ وكَلَّ الله بهِ سَبْعِينَ ألفَ مَلَكٍ يُصَلُون عليه حتى يُمْسِي وَإِنْ مَاتَ فِي ذَلِكَ اليوم ماتَ شَهِيدًا، وَمَنْ قَالَهَا حِينَ يُمْسِي كَانَ بِتلكَ المنزلةِ» . حَسَّنَةُ وغربَه الترمذي.
اللَّهُمَّ أعذْنَا بِمَعافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ وَبِرَضَاكَ مِنْ سَخْطِكَ واحْفَظ جَوارِحَنَا مِنْ مُخَالَفَة أمْرك وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
مَوْعِظَة
عِبَادَ اللهِ إِن النَّاسَ في هَذَا الزَّمَنْ لَمْ يَعْرِفُوا رَبَّهُمْ الْمَعْرِفَةَ التِي تَليقُ بِجَلالِهِ وَعَظَمَتِهِ وَلَوْ عَرَفُوهُ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ لَمْ يَكُونُوا بَهِذِهِ الْحَال لأنَّهُ مِنْ كَانْ باللهِ أَعْرَفْ كَانَ مِنْهُ أَخْوَفْ إِنَّ العَارِفَ باللهِ يَخْشَاهُ فَتَعْقلُهُ هَذِهِ الْخَشْيَةِ بإِذْن اللهِ عَمَّا لا يَنْبَغِي مِنْ الأَقْوَالِ وَالأَفْعَالِ قَالَ اللهُ تَعَالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} .
العارِفُ بِاللهِ لا يَجْرَؤُ أَنْ يُحَرّكَ لِسَانَهُ بِكَلِمَةٍ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ أَفْعَالٍ أَوْ أَقْوالٍ كالغيبةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالكَذِبِ وَالْقَذْفِ والْفِسْقِ وَالسُّخْرِيَةِ والاسْتِهْزاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلا يَسْتَعْمِلُ عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهِ في عَمَلٍ لَيْسَ بِحَلالِ بَلْ يَكُفُّ بَصَرَهُ وَسَمْعَهُ وَيَدَهُ وَرِجْلهُ عَنْ الْمُحَرَّمَاتْ لأنَّهُ يُؤمِنُ حَقَّ الإيمانِ بأنّ اللهَ جَلَّ وَعَلا مَهْمَا تَخَفَّى وَتَسَتَّرَ العَبْدُ عَنْهُ فإنَّهُ يَرَاهُ.
وَالْعَارِفُ باللهِ لا يَنْطَوِي عَلَى رَذِيلَةٍ كَالْكِبْرِ والْحِقْدِ وَالْحَسَدِ وَسُوءِ الظَّنِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الرَّذَائِلِ الْمَمْقُوتَاتِ لأنَّهُ يُصَدَّقُ أَنَّ اللهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْء في الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَأَنَّهُ يَعْلَمُ مَا تُكِنّهُ الصُّدورُ، كَمَا يَعْلَمُ العلانِيَة، فَلا يَسْتريحُ العَارِفُ حَتَّى يَكُونَ باطِنُهُ كَظَاهِرِهِ مُطَهّرًا مِنْ كُلِّ فَحْشَاءٍ وَكذلك لا تَسْمَعُ مِنْ فَمِ العَارِفِ عِنْدَ نُزُولِ الْمَصَائِبِ وَالبَلايَا وَالشَّدَائِدِ إلا الْحَسَنَ الْجميلٌ فَلا يَغْضَبُ لِمَوْتِ عزيزٍ أَوْ فَقْدِ مَالٍ أَوْ مَرَضٍ شَدِيدٍ طَوِيلٍ لأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنْ غَضَبَهُ وَتَسَخُّطُهُ يُفَوِّتُ عَلَيْهِ أَجْرَهُ وَلا يَرُدَّ مَا فَاتَ كَمَا قِيل:
لا تَلقَ وَقْتَكَ إِلا غَيرَ مُكتَرِثٍ
…
مادامَ يَصحَبُ فيهِ روحَكَ البَدَنُ
فَما يَدومُ سُرورُ ما سُرِرتَ بِهِ
…
وَلا يَرُدُّ عَلَيكَ الفائِتَ الحَزَنُ
وَلا يَيْأَسُ العَارِفُ مِنْ زَوَالِ شِدّةٍ مَهْمَا اسْتَحْكَمَتْ فَإِنَّ الْفَرَجَ بِيَدِ اللهِ الذي قَالَ وَقَوْلُهُ الْحَقْ: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} ولا يَيْأَسُ مِنْ حُصُولِ خَيْرٍ مَهْمَا سَمَا وَابْتَعَدَ لأنَّهُ يُؤْمِنُ أَنَّ الأَمْرَ بِيَدِ مَنْ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا قَالَ لَهُ: كُنْ فَكَانَ وَإِنْ بَدَا مُحَالاً في نَظَرِ الْجُهَلاءِ وَلا يَقْنَطُ العَارِفُ وَلا يُقَنِّطُ مُؤْمِنًا مِنْ رَحْمَةِ الله التي وَسِعَتْ كُلِّ شَيءٍ وَإِنْ كَانَتْ ذُنُوبُهُ أَمْثَالَ الْجَبَالِ وَالرِّمَالِ وَلا يُؤَمِّنُ العَارِفُ مُسْتَقِيمًا مِنْ العَذَابِ مَهْمَا كَانَ العَمَلُ مِنْ الصَّالِحَاتْ لأنَّهُ يَغْفِرُ الذّنُوب جَمِيعًا وَأَنَّهُ لََهُ الْحُجّةُ الْبَالِغَةُ وَأَنْ القُلُوبِ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِهِ جَلِّ وَعَلا فَلا تَغْفَل عَنْ ذَلِكَ وَإنْ أَهْمَلَهُ الكَثِيرُ مِنْ النَّاسِ. قَالَ أَحَدُ العُلِمَاء: الغمُومُ ثَلاثةٌ: غَمُّ الطَّاعةِ أَنْ لا تُقْبَل، وَغَمُّ الْمَعْصِيةِ أَنْ لا تَغْفَرْ، وَغَمُّ الْمَعْرِفَةِ أَنْ تُسْلبَ.
عَلَيكَ مِنَ الأُمورِ بِما يُؤَدّي
…
إِلى سُنَنِ السَلامَةِ وَالخَلاصِ
وَما تَرجو النَجاةَ بِهِ وَشيكاً
…
وَفَوزاً يَومَ يُؤخَذُ بِالنَواصي
فَلَيسَ تَنالُ عَفوَ اللَهِ إِلا
…
بِتَطهيرِ النُفوسِ مِنَ المَعاصي
وَبِرِّ المُؤمِنينَ بِكُلِّ رِفقٍ
…
وَنُصحٍ لِلأَداني وَالأَقاصي
وَإِن تَشدُد يَدًا بِالخَيرِ تُفلِح
…
وَإِن تَعدِل فَما لَكَ مِن مَناصِ
آخر:
اغْتَنِمْ في الْفَرَاغِ فَضْلَ رُكُوعٍ
…
فَعَسَى أَنْ يكُون مَوْتُكَ بَغْتَةْ
كَم صَحيحٍ رَأَيْتَ مِنْ غَيْرِ سُقْمٍ
…
ذَهَبَتْ نَفْسُهُ الْعَزِيزَةُ فَلْتَةْ
اللَّهُمَّ أَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكَرِكَ وَارْزُقْنَا الاسْتَقَامَةَ طَوْعَ أَمْرِكْ وَتَفْضَّلْ عَلَيْنَا بَعَافِيَتكَ وَجِزيلِ عَفْوِكَ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. اللَّهُمَّ أَلْهِمْنَا الْقِيَامِ بِحَقِّكْ وَبَارِكْ لِنَا فِي الْحَلالِ مِنْ رِزْقِكْ، وَلا تَفْضَحْنَا بَيْنَ خَلْقِكْ، يَا خَيْرَ مَنْ دَعَاهُ دَاعٍ وَأَفْضَلَ مَن رَجَاهُ رَاجٍ يا قَاضِيَ الْحَاجَاتِ وَيَا مُجِيبَ الدَّعَوَاتِ هَبْ لَنَا مَا سَأَلَنَاهُ وَحَقَّقْ
رَجَاءَنَا فِيمَا تَمْنَّيْنَاهُ وأُمّلْنا يَا مَنْ يَمْلِكُ حَوَائِجَ السَّائِلِينَ وَيَعْلَمُ مَا فِي ضَمَائِرِ الصَّامِتِينِ أَذِقْنَا بَرْدَ عَفْوِكَ وَحَلاوَةَ مَغْفِرِتكَ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
1-
زكاةُ الفِطِر ومَا وَرَدَ مِنْ الآثار في شَرْعِيَّتِهَا:
زكاةُ الفطِر واجِبةٌ بالفِطْرِ مِن رَمَضَانَ لِمَا رَوَى ابنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: (أن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرَضَ زَكَاةَ الفِطْرِ في رَمَضَانَ عَلَى النَّاس صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أو صَاعًا مِنْ أَقِطٍٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى كُلِّ حُرٍ وَعَبْدٍ ذَكَرٍ وأنثَى من المسلمين) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وعنهُ: (أن رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِزَكَاةِ الفطرِ أنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ الناسِ إلى الصلاة) .
وعنْ أبي سعيدِ الْخُدْري: كُنَّا نُخْرِّجُ زَكَاةَ الفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعام، أو صَاعًا من تَمْرٍ، أو صاعًا من أَقِطٍ، أو صاعًا مِن زَبِيبْ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
قَالَ سَعِيدُ بنُ الْمُسَيَّبْ وَعُمرُ بنُ عبدِ العزيز - رَحِمَهُمَا الله - في قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى} : هُوَ زكاةُ الْفِطْر.
وَأُضِيفَتْ هَذِهِ الزكاةُ إلى الفطرِ لأنَّهَا تَجِبُ بالفِطْرِ مِنْ رَمَضَان وهذِهِ يُرَادُ بها الصدقةُ عن البدنِ والنفسِ وَمَصْرَفُهَا كَزكاةِ الْمَالِ لِعُمُومُ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء
…
} الآية.
ولا يَمْنَعُ وُجُوبَهَا دَيْنٌ إِلا مَعَ طَلَبْ، وَهِيَ وَاجِبةً عَلَى كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ ذَكرٍ وأنْثى مِن المسلمين، فَضُلَ لَهُ عَنْ قوتِهِ، وَمَنْ تَلْزَمُهْ مَئُونَتِهِ يَوْمَ
العيدِ وَلَيْلَتِهِ صَاعُ لأنَّ النَّفقةَ أَهَمُّ فَيجِبُ البَدَاءَةُ بِهَا لقولِه صلى الله عليه وسلم: «ابْدأ بِنَفْسِكْ» . رَوَاهُ مُسْلمْ.
وفي رِوَاية: «.... وابْدأ بِمَنْ تَعُولْ» . رواه الترمذي.
وَيُعْتَبَرُ كونُ ذلكَ الصاعُ فاضلاً عمَّا يَحْتَاجُهُ لِنَفْسِهْ، وَمَنْ تَلْزمُهُ مَئُونَتِهِ مِنْ مَسْكَنٍ وَخَادِمٍ وَدَابةٍ وَثِيَابٍ بِذْلة ونَحوِهِ، وَكُتُبٍ يَحْتَاجُهَا لِنظْرٍ لأنَّ هَذِهِ حَوَائِجُ أصليةٌ يَحْتَاجُ إليها كالنفقةِ، وتَلْزَمُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ مَنْ يَمُونُهُ مِن المسلمِينْ كزوجةٍ وعبدٍ وولدٍ لِعُمُومِ حَدِيثِ ابنِ عُمرَ رضي الله عنهما:(أَمرَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بصدقةِ الفطرِ عن الصغيرِ والكبيرِ مِمَّنْ تَمُونُون) . رواه الدَّارقُطْنِي.
فَإِنْ لَمْ يَجْدهُ لِجميعهِمْ بدأ بِنَفْسِهْ، فَزَوَجَتِهِ، فَرَقِيقِهِ، فَأمّهِ، فَأبِيهِ، فَوَلَدِهِ، فأقْرَبَ في مِيراثٍ، وَيُقْرعُ مَعَ الاسْتواءِ.
أَمَّا دَليلُ البدّاءةِ بالنفسِ فَلِحَدِيثِ: «ابْدأ بِنفسكَ، ثُمَّ مَنْ تَعُولُ» .
وَأَمَّا الزَّوْجَةِ فلوجُوب نَفَقَتِهَا في حَالَهِ اليُسْرِ وَالعُسْرِ لأنِّهَا عَلَى سَبِيلِ الْمُعَاوَضَةِ.
وَأَمَّا الرَّقِيقِ فلوجُوبِ نَفَقَتِهِ مَعَ الإعْسَارِ بِخلافِ الأَقَارِبِ لأنَّها صِلةٌ تَجبُ مَعَ اليَسَارِ دُونَ الإِعْسَارِ.
وَأَمَّا الأُمَ فلقِولِه صلى الله عليه وسلم للأَعرابِّي حِيَنَ قَالَ لَهُ: مَنْ أَبَرُّ؟ قَالَ: «أُمَّكَ» . قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «أُمَّكَ» . قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «أُمَّكَ» . قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «أَبُوكَ» . ولأنَّها ضَعِيفةٌ عن الكَسْبِ.
وَأَمَّا الأَبِّ فَلَمَا سَبقْ وَحَدِيثْ: «أَنْتَ وَمَالُكَ لأَبِيكَ» .
وَأَمَّا الوَلدِ فَلِقُرْبِهِ وَوُجُوبِ نَفَقَتِهِ في الْجُمْلَةِ.
وَأَمَّا الأَقربِ في الْمِيرَاثِ فلأنهُ أولى مِنْ غَيْرِهِ كَالْمِيرَاُث.
وَتُسْتَحَبُّ عَنْ الجَنِين لِفِعْلِ عُثْمَانَ رضي الله عنه وَعَنْ أَبِي قُلابَةَ قَالَ: (يُعْجِبُهُمْ أَنْ يُعْطُوا زَكَاةَ الفطرِ عن الصغيرِ والكبيرِ حَتَّى عَنْ الْحَمْلِ في بَطْنِ أمِهِ) . رواهُ أبو بَكْرَ.
ولا تَجِبْ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِر: (كل من نَحْفَظُ عنهُ لا يُوجِبُهَا عَنْ الْجَنِينْ، وَتَجِبُ عَلَى اليتيم، وَيُخْرِجَ عنهُ وَليهُ مِنْ مَالِهِ) .
وَلا يَلْزَمُ الزَوجَ فِطرةُ زَوْجَةٍ نَاشِزٍ وَقْتَ الوجُوبِ، ولا تَلْزمُ الزوجَ فِطرةَ مَنْ لا تَلْزمهُ نَفْقَتُهَا كَغْيِر المدْخُولِ بِهَا إِذَا لَمْ تُسَلُّمْ إليه والصغيرةِ التِي لا يُمْكِنُ الاسْتِمْتَاعُ بِهَا.
وَمَنْ لَزِمَ غَيْرَهُ فطِرْتُهُ كَالزَّوْجَةِ، فأخرج عن نَفسِهِ بَغْير إذنِ مَنْ وَجَبتُ عَلَيْهِ أَجْزأَ. وَاللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمِ.
2-
فَصْلُ في وقتِ وجوبٍ صَدَقَةِ الفطرِ، والأفضل مِنْه:
وَتَجِبُ زكاةُ الفِطِر بغُرُوبِ شَمْسِ لَيْلَةِ الفِطْرِ لِقَولِ ابن عباس رضي الله عنهما: (فَرَضَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَدَقَةَ الفِطْرِ طُهْرةً لِلصَّائِمِ من اللَّغْوِ والرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينَ) . رواه أبو داود، والحاكم وقَالَ: على شرطِ البخاري فأضافَ الصدقةَ إلى الفطرِ فكَانَتْ وَاجِبَةً بِهِ لأنَّ الإِضَافَةَ تَقْتَضِي الاخْتِصَاصَ.
وأَوَّلْ فِطْرٍ يَقَعُ مِنْ جَمِيعِ رَمَضَانَ بِمَغِيبِ الشَّمْسِ مِنْ لَيْلَةِ الفِطْرِ، فَمْن أَسْلَمَ بَعْد الغُروبْ أَوْ تَزَوَّجَ بَعدَ الغُروبِ فَلا فِطرةَ وإنْ وُجِدَ ذلكَ قَبْلُ بَأَنْ أَسلمَ أو تَزَوَّجَ، أَوْ وُلِدَ لَهُ ولد، أَوْ مَلَكَ عَبْدًا، أَوْ أَيْسَر قَبْلَ الغُروبِ وَجَبَتِ الفِطْرَةُ لِوُجُودِ السَّبَبَ فالاعْتِبَارُ بِحَالِ الوُجُوبِ.
وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الغُرُوبِ هُوَ، أَوْ زَوْجَتَهِ، أَوْ رَقِيقُهُ، أَوْ قريبُه وَنَحوه، أَوْ أَعْسَرَ، أَوْ أبَانَ الزَّوجةَ، أَوْ أعتقَ العبدَ، أوْ بَاعَهُ أو وَهَبَهُ لَمْ تَجِبِ الفِطْرَةُ لِمَا تَقَدَّمْ.
وَلا تَسْقُطُ الفِطْرَةُ بَعْد وُجُوبِهَا بِموتٍ وَلا غِيْرُه، وَالأَفْضَلُ إِخْرَاجُهَا يومَ العيدِ قَبْلَ الصَّلاة لِمَا فِي الْمُتَّفَقِ عليهِ مِنْ حَدِيث ابنِ عُمر رضي الله عنهما مرفوعًا، وفي آخرِه:«وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إلى الصَّلاةِ» .
وفي حديثِ ابن عباسٍ رضي الله عنهما: (مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصلاةِ فَهِيَ زكاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَن أَدَّاهَا بَعْدَ الصلاةِ فَهِيَ صَدَقةٌ مِنْ الصَّدَقَاتِ) .
وَتُكْرَهُ بَعْدَهَا خُرُوجَا مِن الْخِلافِ وِلِقَولِهِ صلى الله عليه وسلم: «أَغْنُوهُم عَنِ الطَّلبِ فِي هَذَا اليومِ» . رواه سعيدُ بنُ منصور.
فإذا أَخَّرَهَا بَعَدَ الصَّلاةِ لَمْ يَحْصُلِ الاغْنَاءِ لَهُمْ في هَذَا اليومِ كُلِّهِ.
ويَحْرُمُ تَأْخِيرُهَا عَنْ يَوْمِ العِيدِ مَعَ القُدْرَةِ، لأَنَّهُ تَأْخِيرٌ لِلْحَقِّ الوَاجبِ عَنْ وَقْتِهِ، وكان عليه الصلاة والسلام يَقْسِمُهَا بَيْنَ مُسْتَحِقِيهَا بَعدَ الصَّلاةِ فَدَلَّ على أَنَّ الأَمْرَ بِتَقْدِيمِهَا عَلَى الصَّلاةِ لِلاسْتِحْبَابِ.
وَيَقْضِيهَا مِنْ أَخَّرَهَا لأَنَّهُ حَقٌّ مَالِي وَجَبَ، فلا يَسْقُطُ بِفَوَاتِ وَقْتِهِ كَالدَّيْنِ، وَتُجْزِي قَبْلَ العِيدِ بَيوْمٍ أَوْ بِيَوْمَيِّنِ لِقَولِ ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما:(كَانُوا يُعْطُونَ قَبْلَ الفِطْرِ بَيَوْمٍ أَوْ يَوَمَينِ) . رواه البخاري.
وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلى جَمِيعِهم فَيَكُونُ إِجْمَاعًا، وَلأَنَّ ذَلِكَ لا يُخِلُّ بالْمَقْصُودِ، إذْ الظَّاهِرُ بَقَاؤُهَا أَوْ بَعْضُهَا إِلى يَومِ العيدِ.
وَمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ فَطْرَةُ غَيْرِهِ أَخْرَجَهَا مَعْ فِطْرَتِهِ مَكَانَ نَفْسِهِ، لأَنَّها طُهْرَةً لَهُ، وَفِطْرةُ مَنْ بَعْضُهُ حَرٌ وَبَعْضُهُ رَقِيقٌ، وَفَطْرَةِ قنٍّ مُشْتَرَك. وَفطْرَةٍ مَنْ لَهُ أَكْثَرُ منِ وَارثِ أَوْ مُلْحَقٌ بَأَكْثَرَ منِ وَاحد تُقُسَّطُ وَمَن عَجَز مِنْهُمْ لَمْ يَلْزَمِ الآخرَ سِوَى قِسْطِهِ. وَاللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمِ.
(فَصْلٌ)
3-
الوَاجِبُ في الفِطْرَةِ:
الواجِبُ عَلى كُلِّ شَخْصٍ صَاعُ بُرٍ، أَوْ مِثْلُ مَكِيلِهِ مِنْ تَمْرٍ، أَوْ زَبِيبٍ، أَوْ أَقطٍ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه:(كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الفِطْرِ، إِذْ كَانَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أقط) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَيُجزي دَقيقُ البُرِّ وَالشَّعِيرِ إِذَا كَانَ بِوَزْنِ الْحَبِّ، نَصَّ عَلَيْهِ، وَاحْتَجَّ بِزِيَادَةٍ تَفَرَّدَ بِهَا ابْنُ عُيَيْنَةَ: إِنْ أَحَدًا لَمْ يَذْكُرْهُ فِيهِ قَالَ: بَلْ هُوَ فِيهِ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِي.
قَالَ الْمَجْدُ: بَلْ هُوَ أَوْلَى بَالأَجْزَاءِ لأَنَّهُ كَفَى مُئُونَتَهُ كَتَمرٍ مَنْزُوعٍ نَوَاهُ وَيُخْرُجُ مَعْ عَدْمِ ذَلِكَ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ مِنْ حَبٍّ يُقْتَاتٍ كَذُرَّةٍ وَدُخنٍ وَباَقِلاءَ لأَنَّهُ أشْبَهُ بِالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، فَكَانَ أَوْلَى.
وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ الْجَمَاعَةٌ فِطْرَهُمْ لِوَاحِدٍ، وَأَنْ يُعْطِيَ الوَاحِدُ فِطْرَتَهُ لِجَمَاعَةٍ.
وَلا يُجْزِي إِخْرَاجُ القِيمَةِ لأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ.
وَيَحْرُمُ عَلَى الشَّخْصِ شِرَاءُ زَكَاتِهِ وَصَدَقَتِهِ مِمَّنْ صَارَتْ إِلَيْهِ لِحَدِيثِ عُمَرَ رضي الله عنه: (لا تَشْتِره ولا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ، وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ، فَإِنَّ الْعَائِدَ فِي صَدَقَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَحَسَمًا لِمَادّة اسْتِرْجَاعِ شَيْءٍ مِنْهَا حَيَاءً، أَوْ طَمْعًا فِي مِثْلِهَا، أَوْ خَوْفًا أَنْ لا يُعْطِيَهُ بَعْدُ فَإِنْ عَادَتْ إِلَيْهِ بِإرْثٍ أَوْ وَصِيَّةٍ، أَوْ هِبَةٍ، أَوْ أَخَذَهَا مِنْ دِينِهِ مِنْ غَيْرِ شرَطٍْ وَلا مُوَاطَأَةٍ طَابَتْ بِلا كَرَاهَةٍ لِعَدْمِ الْمَانِعِ وَلِحَدِيثِ بُرَيْرَة رضي الله عنها أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: إِنِّي تَصَدَّقْتُ عَلَى أُمِّي بِجَارِيَةٍ وَإِنَّهَا مَاتَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «وَجَبَ أَجْرُكِ وَرَدَّهَا عَلَيْكِ الْمِيرَاثُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. رَوَاهُ الجَمَاعَةُ إلا البُخَاريُّ، وَالنَّسَائِي.
وَيُجْزِي إخْرَاجُ صَاعٍ مَجْموعٍ مِنْ تَمْرٍ وَزَبِيبٍ وَبُرٍّ وَشَعِيرٍ وَأَقط كَمَا لَوْ كَانَ خَالِصًا مِنْ أَحَدَهَا.
وَلا يُجْزِي مُخْتَلِطُّ بَأكْثَرِ مِمَّا لا يُجْزِي.
وَلا يُجْزِي إخْرَاجُ مَعِيبٍ كَمُسَوِّسٍ، وَمَبْلُولٍ، وَقَدِيمٍ تَغَيَّرَ طَعْمُهْ.
وَالأَفْضَلُ تَمْرٌ لِفِعْلِ ابنِ عُمَرْ، قَالَ نَافِعُ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يُعْطِي التَّمْرَ إلا عَامًا وَاحِدًا أَعْوَزَ التَّمْرُ فَأَعْطَى شَعِيرًا. رواهُ أَحْمَدُ، والبُخَارِي.
وقَالَ لَهُ أَبُو مَجْلَز: إِنَّ اللهَ قَدْ أَوْسَعْ. وَالْبُرُّ أَفْضَلْ فقَالَ: إِنَّ أَصْحَابِي سَلَكُوا طَرِيقًا، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أُسْلُكَهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَاحْتَجَّ بِهِ.
وَظَاهِرُهُ أَنَّ جَمَاعَةَ الصَّحَابَةِ كَانُوا يُخْرِجُونَ التَّمُر وَلأَنَّهُ قُوتُ وَأَقْرَبُ تَنَاوُلاً وَأَقَلُّ كُلْفَةِ وَيَلِيهِ فِي الأَفْضَلِيَّةِ الزّبِيبُ لأَنَّ فِيهِ قَوْتًا وَحَلاوَةً وَقِلّةَ كُلْفَةِ، ثُمَّ البُرُّ لأَنَّ الْقِيَاسَ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْكُلْ لكِنْ تُركَ اقْتِدَاءً بالصَّحَابَةِ فِي التَّمْرِ وَمَا شَارَكَهُ فِي الْمَعْنَى وَهُوَ الزَّبِيبُ ثُمَّ الأَنْفَعُ فِي الاقتِياتِ وَدَفْعِ حَاجَةِ الْفَقِير، ثُمَّ شَعِيره ثُمَّ دَقِيقُ شَعِيرْ، ثُمَّ سَوْيقُهُمَا، ثُمَّ أقِطْ، والأفضَلُ أَنْ لا يُنْقَصَ مُعْطَى مِنْ فِطَرةٍ عَنْ مُدُّ بُرٍ أَوْ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ غَيْرِهِ لِيُغْنِيَهُ عَنِ السُّؤالِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:
«أَغْنُوهُمْ عَنْ السُّؤَالِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ» . وَيُسَنُّ التَّكْبِيرُ الْمُطْلَقُ وَهُوَ الذي لَمْ يُقَيَّدُ بَأَدْبَارِ الصَّلَواتْ والْجَهْرُ بِهِ فِي لَيْلَتَيْ العِيدَيْنِ إِلى فَرَاغِ الْخُطْبَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالى: {وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} وَعَنْ عَليَّ رضي الله عنه: أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ حَتَّى يُسْمِعَ أَهَلَ الطَّرِيق وَصِفَةُ التَّكْبِيرِ: اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ، لا إِلهَ إِلا اللهُ، الله أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ وَللهِ الْحَمْدِ. وَفِي كُلِّ عَشْرِ ذِي الْحِجّةِ.
قَالَ البُخَارِيُّ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ يَخْرُجَانِ إِلى السُّوقِ في أَيَّامِ العَشْرِ يُكَبِّرَانِ وَيُكَبّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهمَا، وَالتَّكْبِيرُ الْمُقَيّدُ في الأضْحَى عَقِبَ كُلِّ فَرِيضَةٍ صَلاهَا فِي جَمَاعَةِ مِنْ صَلاةِ الفَجْرِ يَوم عَرَفَة إِلى عَصْرِ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لِحَدِيثِ جَابِر أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الصُّبْحَ يَوْمَ عَرَفَةَ ثُمَّ أقْبَلَ عَلَيْنَا فَقَالَ:«اللهُ أَكْبَرُ» . وَمَدَّ التَّكْبِيرَ إلى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيق. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِي بِمَعْنَاهُ إِلا الْمُحْرِم فَيُكَبَّرُ مِنْ صَلاةِ ظُهْرِ يَوْمِ النَّحْرِ إلى آخرِ أيامِ التشريق.
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنَ الْمُتَّقِينَ الأبْرَارِ وَأَسْكِنَّا مَعْهمُ في دَارِ القَرارِ اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا بِحُسْن الإِقْبَالِ عَلَيْكَ وَالإِصْغَاءِ إِلَيْكَ وَوَفِّقْنَا لِلتَّعَاوُنِ فِي طَاعَتِكَ وَالْمُبَادَرَةِ إِلى خِدْمَتكَ وَحُسْن الآداب في مُعَامَلَتِكَ وَالتَّسْلِيم لأَمْرِكَ وَالرِّضَا بِقَضَائِكَ وَالصَّبْر على بَلائِكَ وَالشُّكْر لِنَعْمَائِكَ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ نَفْسًا مُطْمَئِنَّةٌ تُؤمِنُ بِلِقَائِكَ وَتَرْضَى بِقَضَائِكَ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ باسْمِكَ الطَّاهِرِ الطَّيبِ الْمُبَارَكِ الأَحَبِّ إليك الذي إذا دُعِيتَ بِهِ أَجَبْتَ وَإِذَا سُئِلْتَ بِهِ أَعْطَيْتَ وَإِذَا اسْتُرْحَمْتَ بِهِ رَحِمْتَ، وَإِذَا استفرجْتَ بِهِ فَرَّجَتْ أَنَ تَغْفِرَ سَيَّئاتنا وتُبدلها لَنَا بِحَسَنَاتِ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) : الْحَمْدُ للهِ غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ البَشِيرُ النَّذِيرُ صلى الله عليه وسلم أولي الْجِدِّ في العبادَةِ والتشْمِيرِ.
عِبَادَ اللهِ إِنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَى الرَّحِيلِ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَحْسَنَ فَعَلَيْهِ بالتَّمَامِ، وَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ فَرَّطَ فِيهِ فَلْيَخْتِمْهُ بالْحُسْنَى، فَالعَمَلُ بَالْخِتَامِ، وَبَادِرُوا رَحِمَكُمْ اللهُ أَوْقَاتَ شَهْركُم الباقِيَةَ وَاسْتَدْرِكُوا مَا مَضَى مِنْهُ بالْحَسْرَةِ وَالنَّدَمِ واخْتِمُوُه بالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ والرُّجُوعِ إِلى صَالِحِ العملْ.
عِبَادَ اللهُ كَمْ أُنَاسٍ صَلُّوا فِي هَذَا الشَّهْرِ صَلاةَ التَّرَاوِيحِ وَأَوْقَدُوا فِي الْمَسَاجِدِ طَلَبًا للأَجْرِ الْمَصَابِيحِ وَنَسَخُوا بِإِحْسَانِهمْ كُلَّ فِعْلٍ قَبِيحٍ، وَقَبْلَ التَّمَامِ سَكَنُوا الضَّرِيحَ، وَلَمْ يَنْفَعُهُمْ الْمَالُ والآمَالُ لِمَا نُقِلُوا، رَحَلُوا عَنِ الدُّنْيَا قِدْمًا قِدْمًا وَنُقِضَ مَا بَنَوْهُ هَدْمًا هَدْمَا أَدَارَتْ عَلَيْهِمْ الْمَنُونُ رَحَاهَا وَأَحَلَّتْ وُجُوهَهُمْ في الثَّرَى فَمَحَاهَا.
وَهَذَا حَالُكَ عَنْ قَرِيبِ فَتَيَقَّظْ يَا قَلِيلَ الزَّادِ، وَحَادِي رَحِيلِهِ قَدْ حَدَى تَأَهَّبْ لِلتَّلفِ وَتَهَيَّأ لِلرَّدَى ذَهَبَ عَنْكَ شَهْرُ الصِّيَامِ وَوَدَّعَكَ وَسَارَتْ فِيهِ قَوَافِلُ الصَّالِحِيَن وَجَهْلُكَ مَنَعَكَ والتَّوْبِيخُ مُتَوَفَّرٌ فَمَا أَرْجَعَكَ وَلا أَزْعَجَكَ وَأَنْتَ تُؤَمِّلُ مَنَازِلَ العَامِلِينَ بَأفْعَالِ الغَافِلِينَ فَمَا أَطْعَمَكَ.
يَا مَنْ أَصْبَحَ سَاعِيًا إِلى مَا يَضُرَّهُ سَتَعْلَمُ مَنْ يَأَتِي غَدًا حَزِينًا مُتَنَدِّمًا كَمْ مِنْ صَائِمٍ يَفْضَحُهُ الْحِسَابُ وَالعَرْضِ، وَكَمْ مِنْ عَاصٍ فِي هَذَا الشَّهْرُ تَسْتَغِيثُ مِنْهُ الأَرْضُ فَيَالَيْتَ شِعْرِي مِنْ الْمَقْبُولِ مِنَّا فَنُهَنِّيهِ عَلَى تَوْفِيقِ اللهِ لَهُ بِحُسْنِ عَمَلِهِ، وَيَا لَيْتَ شِْعْرِي مِنْ الْمَطْرُودُ فَنُعَزِّيهِ بِسوءِ عَمَلِهِ، فَيَا أَيُّهَا الْمَقْبُولُ هَنِيئًا لَكَ بِثَوابِ اللهِ عز وجل وَرِضْوَانِهِ وَرَحْمَتِهِ وَغُفْرَانِهِ وَقَبُولِهِ وَإِحْسَانِهِ وَعَفْوِهِ وَامْتِنَانِهِ.
وَيَا أَيُّهَا الْمَطْرُودُ بإصْرَارِهِ، وَطُغْيَانِهِ وَظُلْمِهِ وَغَفْلَتِهِ وَخُسْرَانِهِ وَتَمَادِيهِ فِي عِصْيَانِهِ لَقَدْ عَظُمَتْ مُصِيبَتُكَ وَخَسِرْتَ تِجَارَتكَ وَطَالَتُ نَدَامَتُكَ فَيَا لَهَا مِنْ خُسَارَةٍ لا تُشْبِهُهَا خَسَارَةً للهِ دُرَُّ أَقْوَامٍ حَرَسُوا بَالتُّقَى أَوْقَاتَهُمْ وَتَدَرْعُوا دُرُوعَ الْمُرَاقَبَةِ فِي صَبْرِهِمْ وَجَمَعُوا بَيْنَ الصِّدْقِ وَالإِخْلاصِ فِي ذِكْرِهِمْ صَبَرُوا بَاليَقِينِ عَلَى ظَمَأِ الْهَوَاجِرِ وَبَسَطُوا أَقْدَامَهُمْ عَلَى بِسَاطِ الدّيَاجِر وَعَمِلُوا لِيَوْمٍ فِيهِ القُلُوبُ لدَى الْحَنَاجِرِ.
أَقْبَلُوا على خِدْمَةِ رَبِّهِمْ إقْبَالَ عَالِمْ وَمَا سَلَكُوا إلا الطريقَ السَّالِمُ تَذَكَّرُوا ذُنُوبَهُمْ القَدَائِمَ فَجَدَّدُوا التَّوْبَةَ بِصِدْقِ العَزَائِمْ وَعَدُّوا التَّقْصِيرَ مِنْ العَظَائِمِ وَبَدَّلُوا الْمُهْجَ الكِرَائِمَ فَإِذَا أَجَنَّ اللَّيْلُ فَسَاجِدُ وَقَائِمُ، وَلا يَخَافُونَ فِي اللهِ لَوْمَةَ لائِم، أَيْنَ أَنْتَ وَهُمْ؟ فَهَلْ تَرَى السَّاهِرَ كَالنَّائِمْ؟ كَلا وَلا الْمُفْطِرَ كالصَّائِمْ.
قَالَ ابنُ القَيِّمِ رحمه الله: مَنْ أَرَادَ اللهُ بِهِ خَيْرًا فَتَحَ لَهُ بَابَ الذُّلِّ
والانْكِسَارِ وَدَوَامِ اللجُوءِ إِلى اللهِ تَعَالى وَالافْتِقَارِ إليه وَرُؤْيَةِ عُيُوبِ نَفْسِهِ وَجَهْلِهَا وَعُدْوَانِهَا وَمُشَاهَدَةِ فَضْلِ رَبِّهِ وَإِحْسَانِهِ وَرَحْمَتِهِ وَجُودِهِ وَبِرِّهِ وَغِنَاهُ وَحَمْدِهِ. فالعارفُ: سَائِرُ إلى اللهِ تَعَالى بَيْنَ هَذَيْنِ الْجِنَاحَيْنِ لا يُمْكِنَهُ أنْ يَسِيرَ إلا بِهِمَا فَمَتَى فَاتَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فَهُوَ كالطَّيْرِ الذي فُقِدَ أَحَدُ جِنَاحَيْهِ.
وقَالَ شَيْخُ الإِسْلامِ ابنُ تَيْمِيَّةِ رحمه الله: العَارِفُ يَسِيرُ إلى اللهِ بَيْنَ مُشَاهَدَةِ الْمِنَّةِ وَمُطَالَعَةِ عَيْبِ النَّفْسِ وَالعَمَلِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه: «سَيِّدُ الاسْتِغْفَارِ أَنْ يَقُولَ العَبْدُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ أَبُوءُ لَكَ بِنَعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي إِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أَنْتَ» . فَجَمَعَ فِي قولِهِ صلى الله عليه وسلم: «أَبُوءُ لَكَ بِنَعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي» . بَيْنَ مُشَاهَدَةِ الْمِنَّةِ وَمُطَالَعَةِ عَيْبِ النَّفْسِ وَالْعَمَلِ.
فَمُشَاهَدَةُ الْمِنَّةِ تُوجِبُ الْمَحَبَّةَ وَالْحَمْدَ والشُّكْرَ لِوَلِيّ النِّعَمِ وَالإِحْسَانِ وَمُطَالَعَة عَيْبِ النَّفْسِ وَالْعَمَلِ تُوجِبُ لَهُ الذُّلَّ وَالاِنْكِسَارَ وَالافْتِقَارَ وَالتَّوْبَةَ فِي كُلِّ وقت وَأَنْ لا يَرَى نَفْسَهُ إِلا مُفْلِسًا وَأَقْرَبُ بَابٍ يَدْخُلُ مِنْهُ العَبْدُ عَلَى الله تعالى هُوَ بَابُ الإِفْلاسِ فَلا يَرَى لِنَفْسِهِ حَالاً وَلا مَقَامًا وَلا سَبَبًا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَلا وَسِيلَة مِنْهُ يَمُنُّ بِها.
بَلْ يَدْخُلُ عَلَى اللهِ مِنْ بَابِ الافْتِقَارِ الصَّرْفِ وَالإِفْلاسِ الْمَحْضِ دُخُولَ مِنْ كَسَرَ الفَقْرُ وَالْمَسْكَنَةُ قَلْبَهُ حَتَّى وَصَلَتُ تِلْكَ الكَسْرَةُ إلى سُوَيْدَائِهِ فَانْصَدَعَ وَشَمَلَتْهُ الكَسْرَةُ مِنْ كُلِّ جِهَاتِهِ وَشَهِدَ ضَرُورَتَهُ إلى رَبِّهِ عز وجل وَكَمَالَ فَاقَتِهِ وَفَقْرِهِ إِلَيْهِ وَأَنَّ فِي كُلِّ ذَرَةٍ مِنْ ذَرَّاتِهِ الظَّاهِرَةِ فَاقةٌ تَامةٌ وَضَرُورَةً إلى رَبِّهِ تبارك وتعالى وَأَنَّهُ إِنْ تَخَلَّى عَنْهُ طَرْفَةَ عين هَلَكَ
وَخَسِرَ خسارَةَ لا تُجْبَرُ إلا أَنْ يَعُودَ إلى الله تعالى وَيَتَدَارَكَهُ بِرَحْمَتِهِ. انْتَهَى.
شِعْرًا:
يا رَبِّ عَفوَكَ عَن ذي تَوبَةٍ وَجلٍ
…
كَأَنَّهُ مِن حذارِ النَّارِ مَجنونُ
قَد كانَ قَدَّمَ أَعمالاً مَقارِفَةً
…
أَيّامَ لَيسَ لَهُ عَقلٌ وَلا دينُ
آخر
…
دَعِ البُكَاءَ عَلى الأطْلالِ وَالدَّارِ
وَاذْكُرْ لِمَنْ بَانَ مِنْ خِلِّ وَمِنْ جَارِ
وَأَذْرِ الدُّمُوعَ نَحِيبًا وَابْكِ مِنْ أَسَفٍ
عَلَى فِرَاقِ لِيَالٍ ذَاتَ أَنْوَارِ
عَلَى لَيَالٍ لِشَهْرِ الصَّوْمِ مَا جُعِلَتْ
إِلا لِتَمْحِيصِ آثَامِ وَأَوْزَارِ
يَا لائِمِي في البُكَاءِ زِدْنِي بِهِ كَلَفًا
وَاسْمَعْ غَرِيبَ أَحَادِيثِي وَأَخْبَارِي
مَا كَانَ أَحْسَنَنَا وَالشَّمْلُ مُجْتَمِعٌ
مِنَّا الْمُصَلِّي وَمِنَّا القَانِتُ الْقَارِي
وَفِي التَّرَاوِيحِ للرَّاحَاتِ جَامِعَةٌ
فِيهَا الْمَصَابِيحُ تَزْهُو مِثْلَ أَزْهَارِي
فِي لَيْلِهِ لَيْلَةُ القَدْرِ التِي شَرُفَتْ
حَقًّا عَلَى كُلِّ شَهْرٍ ذَاتَ أَسْرَارِ
تَتَنَزَّلُ الرُّوحُ وَالأَمْلاكُ قَاطِبَةً
بِإِذْنِ رَبٍّ غَفُورٍ خالقٍ بَارِي
شَهْرٌ بِهِ يُعْتِقُ اللهُ العُصَاةَ وَقَدْ
أَشْفُوا عَلَى جُرُفٍ مِنْ خُطَّةِ النَّارِ
نَرْجُوا الإِلَهَ مُحِبَ العَفْوِ يَعْتِقُنَا
وَيَحْفَظُ الكُلَّ مِنْ شَرٍّ وَأَكْدَارِ
وَيَشْمَلُ العَفْوُ وَالرِّضْوَانِ أَجْمَعْنَا
بِفَضْلِكَ الْجَمِّ لا تَهْتِكْ لأَسْتَارِ
فَابْكُوا عَلَى مَا مَضَى فِي الشَّهْرِ وَاغْتَنِمُوا
مَا قَدْ بَقِي فَهُو حَقٌّ عَنْكُمُ جَارِي
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامِ وَالْمُسْلِمِينَ وَانْصُرْ الإِسْلامَ وَالْمُسْلِمِينَ وَاجْعَلْ كَلِمَتِكَ هَيِ العُلْيَا إِلى يَوْمِ الدِّينِ وَاخْذِلْ الكَفَرَةَ وَأَعْوَانَهُمْ وَالْمُلْحِدِينَ وَالْمُبْتَدِعِينَ وَأَصْلِحْ مَنْ فِي صَلاحِهِ صَلاحُ الإِسْلامَ وَالْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِكْ مَنْ كَانَ فِي هَلاكِهِ هَلاكٌ للإسْلامِ وَالْمُسْلِمِينَ وَوَلِّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ خِيَارَهُمْ يَا رَبَّ العَالَمِينِ وَلَمَّ شَعْثَهُم واجْمَعْ شَمْلَهُمْ وَوَحِّدْ كَلِمَتَهُمْ وَانْصُرْهُمْ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ وَاَحْفَظْ بِلادَنَا مِنْ الفَسَقَةِ وَالْمُجْرِمِينِ وَأَصْلِحْ أَوْلادَنَا وَاشْفِ مَرْضَانَا وَعَافِ مُبْتَلانَا وَارْحَمْ مَوْتَانَا وَخُذْ بَأَيْدِنَا إِلى كُلِّ خَيْرٍ وَاعْصِمْنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ وَاحْفَظْنَا مِنْ كُلِّ ضُرّ واغْفِرْ اللَّهُمَّ للمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ إِنَّكَ قَرِيبٌ مُجِيبٍ اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا وَلا مَبْلَغَ عِلْمِنَا وَلا إِلى النَّارِ مَصِيرَنَا وَلا تُسَلِّطْ عَلَيْنَا بِذُنُوبِنَا مَنْ لا يُخَافُكَ فِينَا وَلا يَرْحَمْنَا وَلا تُؤاخِذْنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا وَلا تَسْلِبْ نِعْمَتَكَ عَنَّا وَكُنْ مَعَنَا حَيْثُمَا كُنَّا يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) : وَيَبْحَثُ فِي:
1-
مَا وَرَدَ مِنْ الْحَثِّ عَلَى قِرَاءَةِ القُرْآنِ الْكَرِيمِ.
2-
مَا جَاءَ فِي فَصْلِ حَمْلِ القُرْآنِ وَتِلاوَتِهِ.
3-
مَا وَرَدَ فِي فَصْلِ تَدَبُّرِ القُرْآنِ وتَفَهُّمِهِ.
4-
مَا وَرَدَ فِي اسْتِحْبَابِ تَرْتِيلِ القرآنِ الْكَرِيمِ.
5-
مَا وَرَدَ فِي بَيَانِ عِظَمِ بَعْضِ السِّوَر.
6-
اسْتِحْبَابُ تَحْسِينِ الصَّوْتِ في التِّلاوَة.
7-
يَنْبَغِي الْخُشُوعُ والْخَشْيَةُ وَالبُكَاءُ عِنْدَ تِلاوَةِ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى.
8-
مَا وَرَدَ فِي تَعَاهُدِ الْقُرْآنِ وَالتَّرْهِيبِ مِنْ نِسْيَانِهِ.
1-
مَا وَرَدَ مِنْ الْحَثِّ عَلَى قِرَاءَةِ القُرْآنِ الْكَرِيمِ:
يُسْتَحَبُّ حِفْظُ القُرْآنِ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ، وَالإِكْثَارُ مِنْ تِلاوَتِهِ كُلَّ وَقْتُ لأَنَّ تِلاوَتَهُ مِنْ أَفْضَلِ العِبَادَاتِ وَأَعْظَمِ القُرُبَاتِ وَأَجَلِّ الطَّاعَاتِ وَفِيهَا أَجْرٌ عَظِيمٌ وَثَوَابُ جَسِيمٌ مِنْ الْمَوْلَى الكَرِيمْ وَلاسِيَّمَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ قَالَ الله تَعَالى آمِرًا رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم بِتِلاوَةِ كِتَابِهِ العَزِيزِ وإبْلاغِهِ إلى النَّاسِ:{وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ} .
وَأَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الذين يَتْلُونَ كِتَابِهِ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَعْمَلُونَ بِمَا فِيهِ مِنْ إِقَامِ الصَّلاةِ وَالإِنْفَاقُ مِمَّا رَزَقَهُمْ اللهُ تَعَالى فِي الأَوْقَاتِ الْمَشْرُوعَةِ لَيْلاً وَنَهَارًا سِرًّا وَعَلانِيَّةً فقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} .
وَعَنْ عُثْمَانٍ بنِ عَفَّانٍ رضي الله عنه عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ، وَمُسْلِم.
2-
مَا جَاءَ فِي فَضْلِ حَمْلِ القُرْآن:
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَت: قَالَ رَسُولِ اللهُ صلى الله عليه وسلم: «الذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ مَاهِرٌ بِهِ مَعَ السَّفَرَةِ الكِرَامِ البَرَرَة،
وَالذي يَقْرَأُ القُرْآنَ وَهُوَ يَتَتَعْتَعُ فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌ لَهُ أَجْرَانِ» . رَوَاهُ البُخَارِي.
وَعَنْ أََبِي أُمَامَةَ البَاهِليُّ - رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولِ اللهُ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «اقْرَءُوا القرآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لأَصْحَابِهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمْ.
وَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولِ اللهُ صلى الله عليه وسلم: «تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ فَاقْرَءُوهُ فَإِنَّ مَثَلَ الْقُرْآنِ لَمَنْ تَعَلَّمَهُ فَقَرأَهُ وَقَامَ بِهِ كَمَثَلِ جِرَابٍ مَحْشُوٍّ مِسْكًا تَفُوحُ رِيحُهُ فِي كُلَّ مَكَانٍ وَمَثَلُ مَنْ تَعَلَّمَهُ فَرَقَدَ وَهُوَ فِي جَوْفِهِ كَمَثَلِ جِرَابٍ أُوكِي عَلَى مِسْكٍ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِي، وَالنَّسَائِي، وَابْنُ مَاجَة.
وَعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشعَرِي رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولِ اللهُ صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ الْمُؤْمِنُ الذي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الأَتْرُجَّةِ رِيحُهَا طَيّبٌ وَطَعْمُهَا طَيِّبٌ، وَمَثَلُ الْمُؤْمِنُ الذي لا يَقْرَأُ القُرْآنَ مَثَلُ التَّمْرَةِ لا رِيحَ لَهَا وَطَعْمُهَا طَيِّبٌ حُلْوٌ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الذي يَقْرَأُ القُرْآن مَثَلُ الرَِّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ، وَمَثَلُ الْمُنَافِق الذي لا يَقْرَأ القُرْآنَ كَمَثِلِ الحَنْظَلَةِ لَيْسَ لَهَا رِيحُ وَطَعُمْهَا مُرٌّ» . رَوَاهُ البُخَارِي، وَمُسْلِم.
وَعَنْ ابن عُمر رضي الله عنهما عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لا حَسَدَ إلا في اثْنَتينِ: رَجُلٍ آتَاهُ اللهُ القرآنْ فَهُوَ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَرَجُلٍ تَعَلَّمَ عِلْمًا فَهُوَ يُعَلِّمُ النَّاسَ مِنْهُ» . رَوَاهُ البُخَارِي، وَمُسْلِم.
وَعَنْ ابن عباس رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الذي لَيْسَ فِي جَوْفِهِ شَيْءٌ مِنْ القُرْآنِ كالبَيْتِ الْخَرب» . رواهُ الترمذي، وقَالَ: حديثٌ حَسَنْ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولِ اللهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ في بَيْتٍ من بُيُوتِ اللهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ إِلا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ، وَغَشَيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدِهِ» . أخرج البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَمَا هُوَ يَقْرَأُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَفَرَسُهُ مَرْبُوطة عِنْدَهُ إِذْ جَالَتِ الْفَرَسُ فَسَكَتَ فَسَكَنَتْ فَقَرَأَ فَجَالَتِ الْفَرَسُ، فَسَكَتَ وَسَكَنَتِ الْفَرَسُ فَقَرَأَ فَجَالَتِ الْفَرَسُ ثُمَّ قَرَأَ فَجَالَتِ الْفَرَسُ فَانْصَرَفَ.
وَكَانَ ابْنُهُ يَحْيَى قَرِيبًا مِنْهَا فَأَشْفَقَ أَنْ تُصِيبَهُ فَلَمَّا أَخَذَهُ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ حَتَّى يَرَاهَا فَلَمَّا أَصْبَحَ حَدَّثَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ: «اقْرَأْ يَا ابْنَ حُضَيْرٍ، اقْرَأْ يَا ابْنَ حُضَيْرٍ» . قَالَ: فَأَشْفَقْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ تَطَأَ يَحْيَى وَكَانَ مِنْهَا قَرِيبًا فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَانْصَرَفْتُ إِلَيْهِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي إِلَى السَّمَاءِ فَإِذَا مِثْلُ الظُّلَّةِ فِيهَا أَمْثَالُ الْمَصَابِيحِ فَخَرَجَتْ حَتَّى لَا أَرَاهَا. قَالَ «وَتَدْرُونَ مَا ذَاكَ» ؟ قَلْتُ: لَا. قَالَ: «تِلْكَ الْمَلَائِكَةُ دَنَتْ لِصَوْتِكَ وَلَوْ قَرَأْتَ لأَصْبَحَتْ يَنْظُرُ النَّاسُ إِلَيْهَا لَا تَتَوَارَى» .
فالْعَاقِلُ مَنْ يُكْثِرُ تَلاوتهُ وَاسْتِذْكَارِهِ للاهْتِدَاءِ بِهَدْيهِ وَالاسْتِرْشَادِ بِمَواعِظِهِ وَالاعْتِبَارِ بِقَصَصِهِ وَالالْتِقَاطِ مِنْ دُرَرِهِ وَحِكَمِهِ وَالاسْتِضَاءَةِ بِنُورِهِ كَيْفَ لا وَهُوَ أَسَاسُ الفَصَاحَةِ وَيَنْبُوعُ البلاغَةِ وَالبَرَاعَةِ فَتَجِدُ الْخَطِيبَ الْمُصْقِعَ وَالشَّاعِرَ البَلِيغَ يَقْتَبِسَانِ مِنْ آيَاتِهِ وَيَسْتَمِدَّانِ مِنْ عُذُوبَةِ أَلْفَاظِهِ وَمَعَانِيهِ مَا يُزَيْنَانِ بِهِ كَلامَهُمَا وَيُحَسِّنَانِ بِهِ مَقَامَهَُا.
شِعْرًا:
سَأَصْرِفُ وَقْتِي فِي قَرَاءَةِ مَا أَتَى
…
عَنْ اللهِ مَعْ مَا جَاءَنَا مِنْ رَسُوله
فَإِنَّ الْهُدَى وَالْفَوْزَ وَالْخَيْرَ كُلَّهُ
…
بِمَا جَاءَ عَنْ رَبِّ العِبَادِ وَرُسْلِهِ
وَهُوَ أَسَاسُ الشَّرِيعَةِ الإِسْلامَيةِ وَمِنْهُ تُسْتَمَدَّ الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةُ وَالْمَسَائِلُ الفقْهيةُ وَالْحَقُّ أنهُ عِمَادُنَا فِي أَمْر دِينِنَا وَدُنْيَانَا.
القُرْآنُ أَصْلُ أُصُولِ الدين قَاطِبَةً
…
فَكُنْ هُدِيتَ بِهِ مُسْتَمْسِكًا وَثِقَا
قَالَ يحيى بن أكثم: كان للمأمون وهو أمير إذْ ذَاكَ مجلس نظر فدخل في جملة الناس رجل يهودي حسن الثوب الوجه طيب الرائحة قال: فتكلم فأحسن الكلام والعبارة.
فلما تقوض المجلس دعاه المأمون فقَالَ له: إسْرَائيلِي؟ قال: نعم. قال: أَسْلِمْ حتى أفعل بك وأصنع ووعده فقال: ديني ودين آبائي وانصرف.
قال: فلما كان بعد سنة جاء مُسْلِمًا فتكلم على الفقه فأحسن الكلام فلما تفوض المجلس دعاه المأمون وقال: أَلَسْتَ صَاحِبَنا بالأمس؟ قَالَ: بلى.
قال: فما كان سَبَبُ إسلامك؟ قال: انصَرفْتُ مِن حَضْرتِكَ فأحْبَبْتُ أن أمْتَحِنَ هذه الأديانَ وأنت تراني حَسَنُ الخط فَعَمَدْتُ إلى التوراة فكتبتُ ثلاثَ نُسَخ فَزِدْتُ فِيهَا وَنَقَصْتُ وأدْخَلْتُها الكَنِيسَةَ فاشتريت مني. (المعنى مَا بَارَتْ تَصَرَّفَت وَطَافَت ما حُقِّقَ فيها ولا انتبه لِتَحْرِيفِهَا) .
وعمدت إلى الإنجيل فكتبتُ ثلاث نسخ فَزِدْتُ فيها وَنَقَصْتُ وأدخلُتها البَيَعَةَ فاشتريت مني.
وعمدت إلى القرآن فَعَمِلْتُ ثلاثَ نسخ وَزِدْتُ فِيها وَنَقَصْتُ وأدْخَلْتُهَا الوَرَّاقِيَن فَتَصَفَّحُوهَا.
فلما وَجَدُوا فيها الزِّيَادَةِ وَالنُقِصانَ رَمُوا بها فلم يَشْتَرُوهَا فَعَلمْتُ أنَّ هذا كتابٌ مَحْفُوظ فكان هذا سَبَبُ إسلامي.
قال يحيى بنُ أكثم: فَحَجَبْتُ تِلكَ السنةَ فَلَقِيتُ سُفيانَ بن عُيَيْنَةَ فَذكرتُ له الخَبَر فقال لي: مِصْدَاقُ هذا في كتاب الله قال: قُلْتُ في أيِّ مَوْضعٍ؟ قال: في قوله تعالى في التوراة والإنجيل: {بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللهِ} فَجَعَلَ حِفْظَهُ إليهم فَضَاع وقال عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} فحفظه الله جل وعلا علينا فلم يضع.
شِعْرًا:
عَلَيْكَ بِقَوْلِ اللهِ حِفْظًا فَإِنَّهُ
…
هُوَ الذُّخْرُ فِي يَومٍ تَشِيبُ الذَّوَائِبْ
وَقَولِ رسول الله أيضًا فإنَّه
…
بِهِ مَعْ كِتَابِ الله تُؤْتى الْمَطَالِبُ
وفَّقَنَا اللهُ وَجِميعَ المسلمِينَ لِلتَّمَسُّكِ بكِتَابِهِ والْمُسَارَعَةِ إلى امْتِثَالِ أَمْرِهِ واجْتِنَاب نَهْيه والوُقُوفِ عِنْدَ حَدَّهِ والتَّفكر في أمثالِهِ وَمُعْجِزهْ والتَّبصَّرُ في نُور حِكمهِ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
وَعَنْ عَبْدُ اللهِ بِنْ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولِ اللهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدمَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ، اعْتَزَلَ الشَّيْطَانَ يَبْكِي وَيَقُولُ: يَا وَيْلَهُ!» .
وَفِي رِوَايَة: «يَا وَيْلي! أُمِرَ ابنُ آدمَ بالسِّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةِ وَأُمِرْتُ بالسجودِ فَأَبَيْتُ فَلِيَ النارُ» . رَوَاهُ مُسْلِمُ، وَأَبُو دَاود.
وَعَنْ النَّوَاسِ بِنْ سِمْعَان رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «يُؤْتَى بالقرآنِ يَوْمَ القِيَامَةِ وَأَهْلِهِ الذين كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا تَقْدُمُهُ سُورَةُ البَقَرةِ، وَآلِ عمرانَ» وَضَرَبَ لَهُمَا رَسُولِ اللهُ صلى الله عليه وسلم ثَلاثةَ أَمْثَالٍ مَا نَسِيتُهُنَّ بَعْدُ قَالَ: «كَأَنَّهَما غَمَامَتَاِن أَوْ ظُلَّتَانِ سَوْدَوَانِ بَيْنَهُمَا شَرَقٌ، أَوْ كَأَنَّهُمَا فُرْقَانٌ مِنْ طَيْرٍ صَوَافٍ يُحَاجَّانِ عَنْ صَاحِبِهما» . رواه مسلم.
وَعَنْ عَبْدُ اللهِ بن مَسْعُودٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولِ اللهُ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتابِ اللهِ تَعَالى فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ وَالْحَسَنَةُ بَعَشْرِ أَمْثَالِهَا لا أَقُولُ: ألَم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلامٌ حَرْف، وَمِيمٌ حَرْفٌ» . رواه أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي.
وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ أَوْصِنِي قَالَ: «عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللهِ فَإِنَّهُ رَأْسُ الأَمْرِ كُلِّهِ» . قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ زِدْنِي، قَالَ:«عَلَيْكَ بِتَلاوَةِ القُرْآنَ فَإِنَّهُ نُورٌ لَكَ فِي الأرْضِ، وَذُخْرٌ لك في السماء» . رواه ابن حبان.
شعرًا:
مَنْ يُرِدْ مُلْكَ الْجِنَانِ
…
فَلْيَدَعِ عَنْهُ التَّوَانِي
وَليَقُمْ في ظَلَمَةِ الْـ
…
لَيْلِ إلى نُورِ القُرْآنِ
وَليَصِلْ صَوْمًا بِصَوْمٍ
…
إِنَّ هَذَا الْعَيْشَ فَانِ
إِنَّمَا العَيْشَ جِوَرُ الْـ
…
ـلَهِ فِي دَارِ الأَمَانِ
آخر:
اقْطَعْ زَمَانِكَ بالْقُرْآنِ تَفْهَمُهُ
…
وَمَا أَتَى عَنْ رَسُولِ الله مِنْ كَلمِ
وَاتْرُكْ مَجَالِسَ قَومٍ لَيْسَ عِنْدَهُمْ
…
سِوَى الْمَآثِمِ مِنْ فِعْلٍ وَمِنْ كَلِمِ
آخر:
إِذَا شِئْتَ أَنْ تُخْطَى بِجَنَّةِ رَبِّنَا
…
وَتَفُوزَ بالفَضْلِ العَظِيمِ الدَّائِمِ
فَاعْمَلْ بِمَا قَالَ الإِلهُ وَقَوْلِ مَنْ
…
خَتَمَ الإِلهُ بِهِ النُّبُوةَ فَاعْلَمِ
وَعَنْ عَبْدُ اللهِ بِنْ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولِ اللهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ فَقَدْ اسْتَدْرَجَ النُّبُوَّةِ بَيْنَ جَنْبَيْهِ غَيْرَ أَنَّهُ لا يُوحَى إِلِيْهِ، لا يَنْبَغِي لِصَاحِبِ القُرْآنِ أَنْ يَجِدَ مَعَ مَنْ وَجَدَ، وَلا يَجْهَلَ مَعَ مَنْ جَهِلَ وَفِي جَوْفِه كلامُ اللهِ» . رواه الحاكم.
وروى عن علي بن أَبي طالبٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ فَاسْتَظْهَرَهُ فَأَحَلَّ حَلالَهُ وَحَرَّمَ حَرَامَهُ أَدْخَلَهُ اللهَ الْجَنَّةَ وَشَفَّعَهُ فِي عَشْرَةٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ كُلُّهمُ قَدْ وَجَبَتْ لَهُمْ النارُ» . رواه ابن ماجة، والترمذي.
وعن أبي ذَرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولِ اللهُ صلى الله عليه وسلم: «يَا أَبَا ذَرٍ لأَنْ تَغْدُوَ فَتَتَعَلَّمَ آيَةً مِنْ كِتَابِ الله خيرٌ لَكَ مِنْ أَنْ
تُصَلِّي مائَةَ رَكْعَةٍ، وَلأَنْ تَغْدُوا فَتَتَعَلَّمَ بَابًا مِنْ العِلْمِ عُمِلَ بِهِ أَوْ لَمْ يَعْمَل بِهِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تُصَلِّي أَلَفَ رَكْعَةٍ» . رواه ابن ماجة.
اللَّهُمَّ اهْدِنَا إلى سَوَاءِ السَّبِيلْ وَوَفِّقْنَا لِلْفِقْهِ في دِينَكَ القَوِيمِ وَاجْعَلْنَا مِنْ العَامِلينَ بِهِ قَوْلاً وَفِعْلاً الدَّاعينَ إليه، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
مَا وَرَدَ فِي فَضْلِ تَدَبُّرِ القُرْآنِ وتَفَهُّمِهِ
يُسْتَحَبُ التَّعَوُذَ لِمَنْ أَرَادَ الشُّرُوعَ في القِرَاءَةِ بَأَن يَقُولَ: (أُعُوذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) لِقَولِهِ تَعَالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} .
وَكَانَ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ يَقُولُونَ: أعوذُ بِاللهِ السَّمِيعِ العليمِ مِنْ الشيطانِ الرَّجِيمِ، فَإِنْ قَطَعَ القِرَاءَة قَطَعَ تَرْكٍ عَلَى أَنْ لا يَعُودَ قَرِيبًا إِلَيْهَا أَعَادَ التَّعَوُذَ الأَوَّلَ، وَإِنْ تَرَكَهُ قَبْل القِرَاءَةِ فَيَتَوَجَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا ثُمَّ يَقْرَأُ لأَنَّ وَقْتَهَا قَبْلَ القِرَاءَةِ للاسْتِحْبَابِ فَلا يَسْقُطُ تَرْكَهَا إِذًا وَلأَنَّ الْمَعْنَى يَقْتَضِي ذَلِكَ.
فَإِذَا شَرَعَ فِي القِرَاءَةِ فَلَيَكُنْ شَأْنُهُ التَّدْبُرَ وَلِيَحْذَرْ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ بَعْضِ الْهَمَجِ يَقْرَأَ القُرْآنَ وَعُيُونُهُ تَجُولُ فِيمَا حَوْلَهُ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ يَتَلاعَبُ بالقُرْآنِ وَلا يَهْتَمُ لَهُ قَالَ تَعَالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} ، وَقَالَ تَعَالى في مَعْرَضِ الإِنْكَارِ:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} .
فالمؤمنُ العاقلُ المُحُب للهِ وَرَسولِهِ تِلاوةُ القرآنِ وَتَفَهُّمُهُ عِنده أَلَذُّ الأَشْيَاءِ وَأَنْفَعَهَا لِقَلْبِهِ.
ولا يَملُ من تِلاوته ولا يقنعُ بتلاوته دُونَ أن يَطْلُبَ فَهْمَ مَعَاني ما أرادَ الله عز وجل من تَعْظِيمِهِ وَتَبْجِيلِهِ وَتَقْدِيسِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَأَمْرِهِِ وَنَهْيِهِ وَإِرْشَادِهِ وَآدَابِهِ وَوَعَدِهِ وَوَعِيدِهِ.
وَيَعْلَم أنه لا ينال مَنَافِعَ آخِرَتِهِ وَلا الفَوْزَ بِهَا وَالنَّجَاةَ مِنْ هُلْكَتِهَا إِلا بإتباع القرآن الدَّال على كل نَجاة والْمُنْجِي لَهُ مِن كُلِّ هَلَكَةٍ.
قَالَ الله جل وعلا: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} الآية أَنْزَلَهُ اللهُ جَلَّ وَعَلا عَلَى عباده لِيُعُرِّفَهُم بِهِ نَفْسَه وَيُذَكِّرهُمْ بِهِ أَيَادِيَهُ وَيُنَبِّههم به من رَقدَاتِ الغَافِلين.
وَيُحْيِيَ قُلُوبَهُم ويُنَوِّرَ أَبْصَارَهُم وَيَشْفِي صُدُورَهُم وَيزُيلَ جَهْلَهَا وَيُنْفِي شُكُوكَهَا وَدَنَسَهَا وَزَيْفَهَا وَيُوضِحَ سَبِيلَ الْهُدَى وَيكْشِفَ بِهِ العَمَى وَالشُّبُهَاتِ.
وَيُزيلَ نوازعَ الشَّيْطَانِ وَوَسَاوسَ الصُّدُورِ وَيُغْنِي بِهِ مِنْ فِهْمَهُ وَيَنْعَمَ بِهِ مَنْ كَرَّرَ تِلاوَتَهَ وَيَرْضَى بِهِ عَمَّنْ اتَّبَعَهُ.
هُوَ صِرَاطُ اللهِ الْمُسْتَقِيم الذي مَن سَلَكَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ أَوْقَفَهُ على الرغائب وَسَلَّمَهُ مِنْ جَمِيعِ الْمَهَالِكِ وَخَفَّفَ عَنْهُ أَهْوَالَ يومِ العَرْضِ والنُّشُورِ. وَأَوْرَدَهُ رِيَاضَ جَنَّاتِ النعيم.
هُوَ حَبْلُ اللهِ الْمَتِين الذي لا انقطاعَ لَهُ مَن تَمَسَّكَ بِهِ نَجَا قال الله جل وعلا وتقدس لرسوله صلى الله عليه وسلم: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} .
ومَن أَعْرضَ عنه عَطِبَ قال جل وعلا: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} .
ومَن ابتغى الهدى مِن غيره ضَل، ومَن فَهِمَهُ نَطَقَ بالحكم، وجَرَى على لسانه بحسنِ الموعظة، وكان مِن العلماء بالله جل وعلا.
ومَن عقل عن الله جَلَّ ذِكْرُه ما قال فقد اسْتَغْنَى به عن كل شيء وعَزَّ بِهِ مِنْ كلِ ذُل.
لا تَتَغَيَّر حَلاوَتُهُ ولا تُخْلِقُ جِدَّتُه في قلوب المؤمنين به على كثرة الترداد والتكرارِ لتلاوته.
لأنه كلام الحي القيوم، وكل كلام غير القرآن والأحاديث الصحيحة التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنها تُمَلُّ من كَثْرة تَرْدَادها.
أما القرآنُ وما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنَّ المؤمِن كُلَّ مَا كرره ازْدَادَ رَغْبةً وَنَشاطًا وَمَحَبَّةً لِلَكَلامِ وَلِمَنْ تَكَلَّم بِهِ وَهَذا مَوجُودٌ عندَنا في فِطَرِنَا فإنا نَسْمَعُ الكَلامَ مِمَّنْ نُحِبُّ مِنْ الْخَلْقِ. ومن نُعَظِّمُ قَدْرَهُ فَتَرْتَاحُ لِذَلِكَ قُلُوبُنَا.
فكيفَ بكلام ربنا رب العالمين الذي خَلَقَنَا وَرَزَقَنَا وَأَعْطَانَا وَآوَانَا وَعَافَانَا وَهَدَانَا.
شِعْرًا:
جَمِيعُ الكُتْبِ يُدْركُ مَنْ قَرَاهَا
…
فُتُورٌ أَوْ كَلالٌ أَوْ سَآمَةْ
سِوَى القُرآن فَافْهَمْ وَاسْتَمِعْ لِي
…
وَقَوْلِ الْمُصْطَفَى يَا ذَا الشَّهَامَةْ
وقد تكلم به حَقِيقة، وأنزله على محمد صلى الله عليه وسلم مع الأَمِين مِنْ ملائكته. فالواجب علينا الإصغاءُ وَالتَّفَهُّمُ لِمَا يُتْلَى مِنْ كَلام رَبَّنَا جَلَّ وَعَلا وتقدس.
وَأَنْتَ تعلم أَنَّهُ إِذَا كَان لِلذِّي يُحَدِّثُكَ عِنْدَكَ قَدْرٌ أَصْغَيْتَ إلى حَدِيْثِهِ باسْتِمَاعِ ما يَقُولُ وَتَفْهُم مَعَانِي مَا يَصِفُ.
ولو كان يَحْكِيهِ لَكَ عن حَاكِي لَفَعَلْتَ ذَلِكَ حُبًّا مِنْكَ لِقَائِلِهِ وَتَعْظِيمًا لِلْمُتَكَلِّم بهِ.
ولو أطلعَهُ اللهُ على قَلْبَكِ وَأَنْتَ غافلٌ مُتَشَاغِلٌ عَنْهُ لا تُلْقِي لَهُ بَالَكَ وَلا تَفْهَمِ عَنْهُ قَوْلَه.
لأبْغَضَكَ وَعَلِمَ إِنَّكَ مُسْتَهِينٌ بِهِ سَاهٍ عَنْ حَدِيثهِ وَلا تَهْتَمَّ بِهِ وَلَمْ تَعْبَأ بِفَهْمِ قوله لِقِلَّةِ قَدْرِهِ وَقَدْرِ حَدِيثِهِ عِندَكَ.
وَلو كَانَ عَنِدَكَ قَدْرٌ لأَصْغَيْتَ لِحَدِيثِهِ وَلَمْ تَلهَ عَنْ تَفَهُّمِهِ وَإِنَّمَا لَهَوْتَ عَنْ حَدِيثِ مِنْ حَدَّثَكَ مِنْ الْخَلْقِ لأَنَّهُ غَابَ عَنْهُمْ عِلْمُ ضَمِيرَكَ.
وَلَوْ كَانَ بَادِيًا وَظَاهِرًا لَهُمْ مَا فِيهِ لأَحْضَرْتَ عَقْلَكَ إِلَيْهم وإليهم وإلى كَلامِهم وَحَدِيثهم، وَلَمْ تَرْضَ لَهُم بالاستماعِ دُونَ الفَهْمِ لَهُ، ولا بالفَهْمِ له دُونَ تَحْبُّبِهمْ عَلَى قَدْرِ حَدِيثِهمِ.
لِتُعْلمَهُم أنَّكَ قد فِهَمْتَ عَنْهُمْ ولم تَرْضَ لَهُم بالجَوابَ دُون أَنْ تُوَافِقَهم فَتُعَظِّمَ ما عَظَّمُوا وَتَسْتَحَسَّنَ مَا اسْتَحْسَنُوا وَتَسْتَقْبِحَ مَا اسْتَقْبَحُوا.
هَذَا وَأَكْثَرُ حَدِيثهم لَغْوٌ وَلَهْوٌ وَليس فيه مَنْفَعَةَ ولا دُنْيَا وَلا حَقَّ لهم يُؤكدُوهُ عَلَيْكَ بِقَوْلِهم ولا يَرْضَون عَنْكَ بِفَهْمِهِ وَلا تُحِبُّ لَهُمْ أَنْ يَسْخَطُوا عَلَيْكَ إِنْ لَمْ تَكُنْ تَفْهَمُه وَتَقُومُ به.
فكيف بالرب العظيم الكريم الذي سَهَّلَ لَكَ مُنَاجَاتَه، وَلَمْ يتكلم به لَغْو ولا قالَهُ لَهْوًا وَلَعِبًا ولا عَبْثًا، ولا خَاطب به سَهْوًا ولا تَفَكُّهَا تعالى الله عز وجل عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا.
وَإِنَّمَا تَكَلَّم بِهِ مُخَاطِبُهُ قَصْدًا وَإِرَادَةً وتوكِيدًا لِلْحُجَّة عليكَ وعلى خَلْقِهِ إعْذَارًا إِلَيْهِمْ وَإِنْذَارًا.
فَعَرَّفَنَا بِهِ أَنْ لا إِلَه غَيْرُهُ وَأَمَرَنَا بِمَا يَرْضَى بِهِ عَنَّا وَيُقَرِّبُنَا مِنْهُ ويُوجِبُ لَنَا جِوَارَهُ والقُرْبَ مِنْهُ وَالنَّظَر إِلِيه.
ويُوجِبُ لَنَا بِهِ إِنْ رَكِبْنَا مَا يَسْخِطُهُ عَذَابَهُ الأَلِيمْ في خُلُودَ الأَبَدَ الذي لا انقطاعَ لَهُ وَلا زَوَالَ وَلا رَاحَة.
وَنَدَبَنَا فيه إلى الأَخْلاقِ الكَريمة والمنازِلِ الشَّريفَةِ وَقَدْ قَالَ أَصْدقُ القائلين وَأوفى الواعدين إنَّ مَا أَنْزَلَه مِن كَلامه شِفَاءٌ لِمَا في الصُّدُور وَهُدىً ورحمةِ للمؤمنين.
فما أَحَقُّ مِن غَفَل عن فَهْمِ كِتابهِ أنْ يَسْتَحِي مِن رَبِّهِ عز وجل ويأَسَفْ عَلَى مَا مَضَى مِن عُمُرهِ وَمَرَضِ قَلْبِهِ وَهو لا يَزْدَادُ إِلا سُقْمًا وَمَرَضًا وذلك لِقَلةِ مُبَالاتِهِ.
تَرَكَ طَلبَ شِفَائِهِ بِمَا قَالَ الله وتدَبُّرِ ما تكلم به خَالِقُه ومَولاه وَقَدْ رآه مَولاهُ وهو يَعْتَنِي بِفَهم كِتابِ مَخْلُوقٍ وَحَدِيثهِ.
وَلَيْسَ فِي كِتَابِ هذا المخلوق وَحَدِيثِهِ إِيَّاهُ خُلُودُ الأَبَدِ فِي النَّعِيم ولا النَّجَاةُ مِنْ العَذَابِ الأليم الذي لا يَنْقَطِعُ.
بل رُبَّمَا أَن فيه ما الاشتغالُ به ضَرَرٌ عليه وَمَسْخَطَةٌ لِرَبه عز وجل أَوْ لَعَلَّ فِيهِ مَا الاسْتِغْنَاءُ بِغَيرهِ أَولى أو حَاجَة لا قَدْرَ لَهَا أَوْ خبَرٌ تَافِه.
أَوْ حَاجَةٌ بكُلْفَةٍ لا يأْمَلُ لَهَا مُكَافَأةً ولا يحَثُهُ عَلَى القِيَام بِهَا إلا خَوفُ عَذْلِهِ وَلَوْمِهِ.
فَكيفَ تَكُونُ حَالُنا عند ربنا تبارك وتعالى وقد عَلِم مِنَّا أَنَّنَا قَلِيلٌ تَعْظِيمُنَا لَهُ.
ونَحْن لا نَعْبَأ بفَهْم كلامه وتَدَبُّر قوله فيما خاطب به كما نَعْبَأ بفهم كُتْبِ عَبِيده وحَدِيثهم الذين لا يَملكونَ لَنَا وَلا لأَنْفُسِهم ضَرًا وَلا نَفْعًا وَلا مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا.
فَتَبَارَكَ مَنْ يَمْلِكُ ذلك كُلَّهُ إلى أن قال رحمه الله: فغدًا نَقْدَمُ على الله عز وجل فَنَلْقَاهُ وَيُسَائِلُنَا عَنْ كتابه الذي أنزل إلينا مُخَاطِبًا لَنَا به وكيفَ فهِمنا عنه وكيفَ عَمِلْنَا بِهِ وَهَلْ أَجْللناهُ وَرَهِبْنَاهُ وَهَلْ قُمنا بِحَقِّهِ الذي أَمَرَنَا بهِ وَجَانبنا ما نهانا عنه.
ألم تَسْمَع مَسَائِلَهُ الجن والإنس جميعًا يوم القيامة بِمَا أَقَامَ عليهم به الحجة في الدنيا من تلاوة آياته عليهم من رُسُلِهِ وأنه قَطَعَ بذلك عُذْرَهُم وَأدْحَضَ به حُجَّتَهُم.
فقال جَل وعلا يَوْمَ العَرْضِ: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا} ، وقال جل وعلا:{أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} ، وقال تعالى:{وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلَاّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} انتهى باختصار وتصرف يسير.
شِعْرًا:
يا رَبِّ إِن عَظُمَن ذُنوبي كَثرَةً
…
فَلَقَد عَلِمتُ بِأَنَّ عَفوَكَ أَعظَمُ
إِن كانَ لا يَرجوكَ إِلا مُحسِنٌ
…
فَمَن ذَا الذِي يَرْجُو وَيَدْعُو المُجرِمُ
أَدعوكَ رَبِّ كَما أَمَرتَ تَضَرُّعًا
…
فَإِذا رَدَدتَ يَدي فَمَن ذا يَرحَمُ
مَالِي إِلَيْكَ وَسِيلَةٌ إِلا الرَّجَا
…
وَجَمِيلُ عَفْوِكَ ثُمَّ إِنِّي مُسْلِمُ
اللَّهُمَّ رَغِّبْنَا فِيمَا يَبْقَى، وَزَهِّدْنَا فِيمَا يَفْنَى، وَهَبْ لَنَا اليَقِينَ الذي لا تَسْكُنُ النُّفُوسُ إِلا إِلَيْهِ، وَلا يَعَوَّلُ فِي الدِّينِ إِلا عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ بِعِزِّكَ الذِي لا يُرَامْ ومُلْكِكَ الذِي لا يُضَامْ وَبِنُورِكَ الذِي مَلأَ أَرْكَانَ عَرْشِكَ أَنْ تَكْفِينَا شَرَّ مَا أَهْمَّنَا وَمَا لا نَهْتَمُ بِهِ وَأَنْ تُعِيذَنَا مِنْ شُرُورُ أَنْفُسْنَا وَمِنْ سَيَّئَات أَعْمَالِنَا،
اللَّهُمَّ يا عليمُ يا حَلِيمُ يَا قَوِيُ يَا عَزِيزُ يَا ذَا المنِ وَالعَطَا وَالعِزِ والكَبْرِيَا يَا مَنْ تَعْنُوا لَهُ الوُجُوه وَتَخْشَعُ لَهُ الأَصْوَاتْ، وَقِّفْنَا لِصَالِحِ الأَعْمَالِ وَاكْفِنَا بِحَلالِكَ عَنْ حَرَامِكَ وَبِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكْ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرِ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
4-
مَا وَرَدَ فِي اسْتِحْبَابِ تَرْتِيلِ القُرْآنِ الكَرِيم:
وَيُسْتَحَبُّ لِقَارِئِ القُرْآنِ أَنْ يُرَتِّلَ قِرَاءَتَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} .
وَثَبَتَ عَنْ أمّ سَلَمَةَ رضي الله عنها أَنَّها تَنْعَتُ قِرَاءَةَ مُفَسَّرَةً حَرْفًا حَرفًا. رواه أبو داود، والنسائي، والترمذي.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ اقْرَأْ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ مَنْزِلَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا» . رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود، والنسائي.
وَعَنْ قَتَادَةَ قَالَ: سُئِلَ أَنَسٌ كَيْفَ كَانَتْ قِرَاءَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: كَانَتْ مَدًّا مَدًّا. ثُمَّ قَرَأَ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، يَمُدُّ بِـ {بِسْمِ اللَّهِ} ، وَيَمُدُّ بِـ {الرَّحْمَنِ} ، وَيَمُدُّ بِـ {الرَّحِيمِ} . رواه البخاري.
وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ سُورَةَ الْفَتْحِ يُرَجِّعُ فِي قِرَاءتِهِ. رواه البخاري، ومسلم.
وَقَدْ رَوَى أَبُو ذَرٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَامَ لَيْلَةً بِآيةٍ
يُرَدِّدُهَا: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} وَقَامَ تَمِيمٌ الدَّارِي بآيةِ: {أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} وَقَالَ أَبُو سُلَيْمانَ: إِنِّي لأَقِيمُ فِي الآيةِ أَرْبَعَ لَيَالٍ أَوْ خَمْسَ. وَقَالَ ابنُ مَسْعُودٍ: مِنْ خَتَم القُرْآنَ نَهَارًا غُفِرَ لَهُ ذَلِكَ اليَوْمِ، وَمَن خَتَمَه لَيْلاً غُفِرَ لَهُ تِلكَ اللَّيْلِ. وَعَنْ طَلْحَةَ بن مُصَرِّفٍ قَالَ: مَنْ خَتَمَ القُرْآنَ فِي أَيِّ سَاعةٍ مِنْ النَّهَارِ كَانَتَ صَلَّتْ عليه الملائكةُ حَتَّى يُمْسِي أَوْ أي سَاعَةٍ مِنْ لَيل كَانَتْ صَلَّتْ عليه الْمَلائكةُ حَتَّى يُصْبحُ.
اللَّهُمَّ نَوّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإِيمَانِ وَأَعِنَّا عَلَى أَنْفُسِنَا وَالشَّيْطَان وَأيِّسْهُ مِنَّا كَمَا أَيَّسْتَهُ مِنْ رَحْمَتِكَ يَا رَحْمَنَ وَآتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(موعظة) : قَالَ ابن القَيْم رحمه الله: عَشَرَةُ أَشْيَاء ضَائِعَةٌ لا يُنْتَفَعُ بِهَا: عِلْمٌ لا يُعْمَلُ بِهِ، وَعَمَلٌ لا إِخْلاصَ فِيهِ وَلا إقْتِدَاءَ فِيهِ بِكِتَابِ اللهِ وَسنةِ رَسولِهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ لا يُوَفَّقُ لَهُمَا إِذَا لَمْ يُخْلِصِ العَمَلَ، وَمَالٌ لا يُنْفَقُ مِنْهَ فَلا يُسْتَمْتِعُ بِهِ جَامِعُهُ في الدُّنْيَا وَلا يُقَدِّمُهُ أَمَامَهُ لآخِرَتِهِ، وَقَلْبٌ فَارِغٌ مِنْ مَحَبَّةِ اللهِ وَالشَّوْقِ إلى لِقَائِهِ وَالأُنْسِ بِهِ، وَبَدَنٌ مُعَطَّلٌ مِنْ طَاعَةِ الله وَخَدْمَتِهِ، وَمَحَبَّةُ لا تَتَقَيّدُ بِرَضَا الْمَحْبُوب وامتثالِ أوامِرِهِ.
وَوَقْتٌ مُعَطَلٌ مِنْ اسْتِدْرَاكِ فَارِطٍ وَاغْتِنَامُ بِرٍ وَقُرْبَةٍ، وَفِكْرٌ يَجُولُ فِيمَا لا يَنْفَعُ وَخِدْمَةُ مَنْ لا يُقَرِّبُكَ خِدْمَتُهُ إِلى اللهِ وَلا تَعُودُ عَلَيْكَ بِصَلاحِ دُنْيَاكَ، وَخَوْفُكَ وَرَجاَؤُكَ مِمَّنْ نَاصِيَتُهُ بيدِ اللهِ وَهُوَ أَسِيرٌ في قَبْضَتِهِ وَلا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ نَفْعًا وَلا ضَرًّا وَلا مَوْتًا وَلا حَياةً وَلا نُشُورًا.
وَأَعْظَمُ هذِهِ الإِضَاعَاتِ: إِضَاعَةُ القَلْبِ، وَإِضَاعَةُ الوَقْتِ. فَإِضَاعَةُ القَلْب عن الله مِن إِيَثار الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَة، وإضَاعَةُ الوَقْتِ مِنْ طُولِ
الأمل، فَاجْتَمَعَ الفَسَادُ كَلُّهُ في إتِّبَاعِ الْهَوَى وَطُولِ الأَمَلِ وَالصَّلاحِ كُلُّهُ فِي إِتِّبَاعِ الْهُدَى وَالاسْتِعْدَادِ لِلقَاءِ اللهِ.
إلى أنْ قال: وللهِ عَلَى عَبْدِهِ أَمْرٌ أَمَرَهُ بِهِ وَقَضَاءٌ يَقْضِيهِ عَلَيْهِ وَنِعَمٌ يُنْعَمُ بِهَا عَلَيْهِ فَلا يَنْفَكُ مِنْ هَذِهِ الثَّلاثَةِ والقَضَاء نوعانِ إِمَّا مَصَائِبُ وَإِمَّا مَعَائِبُ وَلَهُ عَلَيْهِ عُبُودَيَّةَ في هَذِهِ الْمَرَاتِب كُلِّهَا فَأَحَبُّ الْخَلْقِ إِليهِ مِنْ عَرَفَ عَبُودَيتَهُ في هَذِهِ الْمَرَاتِبَ كُلِّهَا وَوَفَّاهَا حَقَّهَا فَهَذَا أَقَرَبُ الْخَلْقِ إِلَيْهِ وَأَبْعَدُهُمْ مِنْهُ مِنْ جَهْلَ عُبُودَيَتَهُ فَعَطَلهَا عِلْمًا وَعَمَلاً.
اللَّهُمَّ ثَبتنَا على قَولِكَ الثابِت في الحَيَاة وفي الآخِرَة وآتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابِ النَّارِ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ افْتَحْ لِدُعَائِنَا بَابَ القَبُولِ وَالإِجَابَةِ وَوَفِّقْنَا لِلتَّوْبَة النَّصُوحِ وَالإِنَابَةِ وَثَبَّتْ مَحَبَّتكَ في قُلُوبِنَا تَثْبِيتَ الْجِبَالِ الرَّاسِيَاتِ وَألْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَثَبِّتْنَا عَلَى قَوْلِكَ الثَّابِتَ في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
5-
مَا وَرَدَ فِي عِظَمِ فَضْلِ بَعْضِ السُّورِ:
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ فِي لَيْلَةٍ ثُلُثَ الْقُرْآنِ» . قَالُوا: وَكَيْفَ يَقْرَأُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ؟ قَالَ: « {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وعن عبد الله بن عُمَر رضي الله عنه أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: «لم
يَفْقَهْ مَن قَرَأَ القُرآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلاثٍ» . رواه الترمذي، وأبو داود، والدارمي.
وَعَنْ عَبْدِ الله بن عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَلا يَسْتَطِيعَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأ أَلْفَ آيَةٍ فِي كُلّ يَوْمِ» ؟ قَالُوا: وَمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقْرَأَ أَلْفَ آيَةٍ كُلَّ يَوْمِ؟ قَالَ: «أَمَا يَسْتَطِيعُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ ألْهَاكُمْ التَّكَاثُرْ» . رَوَاهُ البَيْهَقِي.
وَقَالَتْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: (وَلا أَعْلَمُ نَبِيَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ القُرْآنَ في لَيْلَةٍ
…
) . الْحَدِيثَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ ابن مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: (لا تَنْثِروُهُ نَثْرَ الرّمْلِ ولا تَهُذّوهُ هَذّا الشَّعْر قِفُوا عِنْدَ عَجَائِبِهِ وَحَرِّكُوا بِهِ القُلُوبَ وَلا يَكُنْ هَمُّ أَحَدُكُمْ آخَرَ السُّورَةِ) . رَوَاهُ البَغوي.
وَعَنْ ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: (لأَنْ أَقْرَأَ سُورَة أُرَتِّلهَا أحبُّ إِليَّ مِنْ القُرْآنِ كُلَّه) . وَقَدْ نُهي عَنْ الإِفْرَاطِ في الإِسْرَاعِ وَيُسَمَّى (الْهَذْرَمَةَ) فَثَبَتَ عَنِ ابن مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلاً قَالَ لَهُ: اقْرَأُ الْمُفَصّلَ في رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودْ: كَهَذَا الشِّعْر، إِنَّ قَوْمًا يَقْرَؤوُنَ القُرْآنَ لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيهِمْ وَلَكِنْ إِذَا وَقَعَ فِي الْقَلْبِ فَرَسَخَ نَفَعْ) . رواهُ البخارِي، وَمُسْلِم.
قَالَ ابنُ القَيّم رحمه الله: إِذَا أَرَدتَ الانْتِفَاعَ بالقُرْآنِ فَاجْمَعْ قَلْبَكَ عِنْدَ تِلاوَتِهِ وَسَمَاعِهِ وَأَلْقِ سَمْعَكَ وَاحْضَرْ حُضُورَ مَنْ يُخَاطِبَهُ بِهِ مَنْ يَتَكَلَّم بِهِ مِنْهُ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ خِطَابٌ مِنْهُ لِكَ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، قَالَ تَعَالى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} وَذَلِكَ أَنْ تَمَامَ التَّأْثِيرَ لَمَّا كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى مُؤَثّرٍ مُقْتَضِي وَمحل قابلٍ وَشُرِطَ لِحُصُولِ الأثر انْتِفَاءُ الْمَانع الذي يَمْنَعُ مِنْهُ تَضَمَّنَتِ الآية بَيَانِ ذَلِكَ كُلِّهِ بَأَوْجَزِ لَفْظِ وَأَبْيَنهِ عَلَى الْمُرَادْ.