الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَالَ شَيْخُ الإِسْلام: وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنّ أَفْضَلَ القِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالصَّلاةِ وَغَيْرَ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ حَالَ الرجل فالقراءةُ بِتَدَبُّرٍ أَفْضَلُ مِنْ القِرَاءَةِ بِلا تَدَبّرٍ، وَالصَّلاةُ بِخُشُوعٍ وَحُضُورِ قَلْبِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّلاةِ بِدُونِ ذَلِكَ.
6-
اسْتِحْبَابُ تَحْسِينِ الصَّوْتِ في التِّلاوَةْ:
يُسْتَحَبّ لِقَارِئ القُرْآنِ أَنْ يُحْسِّنَ صَوْتَهُ بِالقِرَاءَةِ، لأَنَّ تَحْسِينَ الصّوتِ بالقِرَاءَةِ مُعِينٌ عَلَى حُضُورِ الْقَلْبِ وَخُشُوعِهِ وَبَاعِثٌ عَلَى حُسْنِ الاسْتِمَاعِ وَالإِصْغَاءِ إِلى القُرْآنِ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالقُرْآنِ» . رواهُ البخاري. وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَا أَذِنَ اللهُ لِشَيْءٍ كَمَا أَذِنَ لِنَبِيٍ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالقُرآنِ وَيَجْهَرُ بِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
شِعْرًا:
وَلَيْسَ فَتَى الفِتْيَانِ مَنْ كَانَ هَمُّهُ
…
جَرَائِدَ يَقْرأها وَتَلْفَاز يَنْظُرُ
وَلَكِنْ فَتَى الفِتْيَانِ مَنْ كَانَ هَمَّهٌ
…
قِرَاءةُ القُرْآنِ وَلِلْقَلْبِ يَحْظِرُ
آخر:
اصْرِفْ هُمُومَكَ لِلْقُرْآنِ تَفَهَمَهُ
…
وَاعْمَلْ بِهِ كَيْ تَنَالَ الأَجْرَ وَالشَّرَفَا
قَالَ جُمهُورُ العُلماءِ: مَعْنَى (لَمْ يَتَغَنَّ)، أَيْ لَمْ يُحْسِّنْ صَوْتَهُ. وَعَنْ البَراءِ بِنْ عَازِب رضي الله عنه أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ:«زَيّنُوا القُرْآنَ بأصْوَاتِكُمْ» . رواهُ أحمدُ، وأبُو دَاودَ، وابن ماجة، والدَّارِمي.
وعنه أيضًا قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «حَسِّنُوا القرآن بَأصْوَاتِكُم فَإِنَّ الصَّوتَ الْحَسَنَ يَزِيدُ القرآنَ حُسْنًا» . رواه الدارمي.
وَرَوَى مُسْلَمٌ في صَحِيحَهِ عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِي - رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُ - قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأبي موسى: «لَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا أَسْتَمِعُ لِقَرَاءَتكَ
البَارحَة، لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِير آلِ داودْ» . قال العلماءُ: الْمُرادُ بالْمِزْمَارِ هُنَا: الصَّوتُ الْحَسَنُ.
اللَّهُمَّ قَابِلَ سَيْئَاتِنَا بِإحْسَانِكَ، وَاسْتُرْ خَطِيئَتِنَا بِغُفْرَانِكَ وَأذْهِبْ ظُلْمَةَ ظُلْمِنَا بِنُورِ رِضْوَانِكَ وَاقْهَر عَدُوَّنَا بِعِزِّ سُلْطَانِكَ فَمَا تَعَوَّدَنَا مِنْكَ إِلا الْجَمِيلْ، اللَّهُمَّ اسْلكْ بِنَا مَسْلَكَ الصَّادِقِينِ الأَبْرَارَ وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الْمُصْطَفِينَ الأخْيَارِ وَآتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فصل)
7-
يَنْبَغِي الْخُشُوعُ وَالْخَشْيَةُ وَالبُكَاءُ عِنْدَ تِلاوَةِ كِتَابِ اللهِ تعالى:
وَيُسْتَحَبُّ البكاءُ عِنْدَ تلاوَةِ القرآن، وَهُوَ صِفَةُ العَارِفِينَ وَشِعَارُ عِبادِ اللهِ الصالحين، قَالَ اللهُ تَعَالَى في وَصفِ الخاشِعينَ مِنْ عِبادِه عِنْدَ تلاوةِ كِتَابِهِ:{إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} سورةَ الإِسْرَاء.
شِعْرًا:
وَكُلُّ تِلاوَةٍ فَتُمَلُّ إِلا
…
كَلامُ اللهِ مَعَ قَوْلِ الرَّسُولِ
وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالى الأَنْبِيَاءَ الْمُكْرَمِينَ وَخَوَاصَّ الْمُرْسَلِين، وَذَكَرَ فَضَائِلَهُمْ وَمَرَاتِبَهُمْ أَخْبَرَ إِنَّهُمْ كَانُوَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن (خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً)، وَقَال اللهُ تعالى:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} .
وَقَدْ وَرَدَتْ فِيهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ. وَآثَارٌ لِلسَّلَف فَمِنْ ذَلِكَ مَا وَرَدَ
عَنْ النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «اقْرَءُوا القُرْآنَ وَابْكُوا، فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكُوا» . وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بن مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ لِي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقْرَأْ عَلَيَّ» . قُلْتُ: أأقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ ! قَالَ: «فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي» . فَقَرَأْتُ مِنْ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى أَتَيْتُ إِلى هَذِهِ الآية: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} ، قَالَ:«حَسْبُكَ الآنَ» . فالْتَفَتُ إَلِيْهِ فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ مُطْرِفِ بن عَبْدُ اللهِ بن الشَّخِّيرِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي وَفِي صَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمُرْجَلِ مِن البُكاءِ. أَخْرَجَهُ الْخَمْسَةُ إلا ابنَ ماجة، وصَحَّحَهُ ابنُ حِبَّان.
وَلَمَّا اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَجَعَهُ قِيلَ لَهُ: الصَّلاةَ، فَقَالَ:«مُرُوا أَبَا بَكْرِ فَلْيُصَلِّ بالناسِ» . قَالَتْ عَائِشَةَ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ رَقيقٌ إِذَا قَرَأ غَلَبهُ البُكاء، قَالَ:«مُرُوهُ فَلْيُصَلِّ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
شِعْرًا:
وَأَهوى مِنَ الفِتيانِ كُلَّ مُحَافِظٍ
…
عَلَى طَاعَةِ الرَّحْمَن في كُلِّ سَاعَةِ
وَيَتْلُو كِتَابَ اللهِ سِرًا وَجَهْرَةً
…
وَبِاللَّيْلِ قَوَّامًا بِسَجْدٍ وَرَكْعَةِ
آخر:
يُحْيِي اللَّيَالِي إِذَا الْمَغْرُورُ أَغْفَلَهَا
…
كَأَنَّ شُهْبَ الدَّيَاجِي أَعْيُنٌ نُجُلُ
آخر:
إِذا شامَ الفَتى بَرقَ المَعالي
…
فَأَهوَنُ فائِتٍ طيبُ الرُقادِ
آخر:
وَباَدِرِ الَّلْيَل بِدَرْسِ العُلوم
…
فَإِنَّمَا اللَّيْلُ نهار الأَرِيبْ
وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ صَلَّى بِالْجَمَاعَةِ الصُّبْحَ فَقَرَأَ سُورَةَ يُوسُفَ فَبَكَى حَتَّى سَالَتْ دُمُوعُهُ. وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُ كَانَ في صَلاةِ العِشَاءِ. وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُ بَكَى حَتَّى سَمِعُوا بُكَاءَهُ مِنْ وَرَاءِ الصُّفُوفِ.
وَقَرَأَ عُمَرَ بنُ عَبْدِ العَزِيزِ بِالنَّاسِ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَاللَّيْل إِذَا يَغْشَى فَلَمَّا بَلَغَ: {فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى} خَنَقَتْهُ العَبْرَةُ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَنْفُذَهَا فَرَجَعَ حَتَّى إِذَا بَلَغَهَا خَنَقَتْهُ العِبْرَةُ فَلَمْ يَسْتَطِع أَنْ يَنْفُذَهَا فَقَرَأَ غَيْرَهَا.
وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حَالُ العُلَمَاءِ فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرِهُمَا عَنْ عَبْدِ الأَعْلَى التَّيْمِي أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ مَنْ أُوتِيَ مِنْ الِعْلِمِ مَا لا يَبْكِيهِ لَخَلِيقٌ أَنْ قَدْ أُوتِيَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لا يَنْفَعَهُ، لأَنَّ اللهَ تَعَالى نَعَتَ أَهْلَ العِلْمِ فَقَالَ:{وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ} وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «لا يَلِجُ النَّارِ مَنْ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللهِ حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ» . الْحَدِيثِ رواه الترمذي. وقال صلى الله عليه وسلم: «عَيْنَانِ لا تَمَسَّهُمَا النَّارِ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرِسُ فِي سَبِيلِ اللهِ» . رواه الترمذي.
وَيُسْتَحَبُّ إِذَا مَرَّ بآيةِ رَحْمَةٍ أَنْ يَسْأَلَ اللهَ مِنْ فَضْلِهِ وَإِذَا مَرَّ بآيةِ عَذَابٍ أَنْ يَسْتَعِيذَ باللهِ مِنْ الشَّرِّ أَوْ مِنْ العَذَابِ أَوْ يَقُولَ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ العَافِيَةِ) أَوْ يَقُولَ: (أَسْأَلُكَ الْمُعَافَاةِ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ) أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ.
وَإِذَا مَرَّ بِآيةِ تَنْزِيهِ نَزَّهَ اللهَ تَعالى فَقَال: سبحانه وتعالى أَوْ: تبارك وتعالى أَوْ: (جَلَّتْ عَظَمَةُ رَبَّنَا) فَقَدْ صَحَّ عَنْ حُذَيْفَةَ بن اليَمَانِ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ فَافْتَتَحَ البَقَرَةِ، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ عِنْدَ المائِةْ ثُمَّ مَضَى، فَقُلْتُ: يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ فَمَضَى، ثُمَّ افْتَتَحَ آلِ عِمْرَانِ فَقَرَأَهَا ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا يَقْرُأَ مُتَرَسِّلاً إِذَا مَرَّ فِيهَا بِتَسْبِيحِ سََبَّحَ، وَإِذَا مَرَّ بِسُؤالِ سَأَلَ وَإِذَا مَرَّ بِتَعْوَّذِ تَعَوَّذْ ثُمَّ رَكَعَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَاللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
(موعظة) : عِبَادَ اللهِ إِنَّ مِنْ تَعْظِيمِ رَبِّنَا جَلَّ وَعَلا تَعْظِيمَ كُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَذَلِكَ مِنْ أُصُولِ الإِيمَانِ فَمَنِ اسْتَخَفَّ بِكِتَابِ اللهِ أَوْ آيَةٍ مِنْهُ أَوْ اسْتَخَفَّ بِرُسُلِهِ خَسِرَ كُلَّ الْخُسْرَانِ. عِبَادَ اللهِ أَيْنَ الغِيرَةُ الدِّينِيَّةُ كُلَّ يَوْمٍ نَجِدُ الكُتَبَ
التِي تَحْتَوِي عَلَى التَّوْحِيدِ وَعَلى الآيَاتِ مِنْ كِتَابِ اللهِ وَعَلَى الأحَادِيثِ الشَّرِيفَةِ مُلْقَاتٍ مَعَ القَمَائِمِ وَفِي الْحُفَرِ القَذِرَةِ تُدَاسُ بِالنِّعَالِ وَتُلَوَّثُ بالأَقْذَارِ تُلَوَّثُ تَلْوِيثًا مِنْهُ العَوَاظِفُ الإِيمَانِيَّةِ أَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْمُنْكَرَاتِ لِمَاذَا لا تُصَانُ وَتُرْفَعُ أَوْ تُقْبَرُ في مَحِّلٍ طَاهِرٍ.
قُولُوا لِمَنْ يُلْقِيهَا وَلِمَنْ يَقْدِرُ عَلى مِنْعِهِمْ مِنْ إِلْقَائِهَا: اتَّقُوا اللهَ هَذِهِ حَالَةٌ وَاللهِ تُؤْلِمَ النُّفوسَ، وَتُشْمِتُ بِنَا الأَعْدَاءِ قُولُوا لَهُمْ: كَيْفَ تَسْمَح نُفُوسُكُمْ تَلْقُونَهَا هَذَا الإلْقَاءِ الْحَقِيرَ وَكَذَلِكَ كُتُبُ فَقْهٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا آيَاتٌ وَلا أَحَادِيثٌ يَنْبَغِي احْتِرَامِهَا وَرَفْعُهَا.
وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي التَّنْبِيهِ عَلَى بَعْضِ الكُتُبِ التِي جُمِعَ وَالعِيَاذُ باللهِ بِهَا مَعَ الآيَاتِ القُرْآنِيةِ والأحاديثِ النبويةِ صُوَرٌ ذَوَاتِ الأَرْوَاحِ وَقَدْ تَكُونُ فَوْقَ الآيَةِ خُصُوصًا إِذَا أطْبِقَ الكِتَابُ وَهَذَا وَاللهِ اسْتَهَانَةٌ عَظِيمَةٌ وَاسْتِخْفَافٌ بالآيَاتِ وَالأَحَادِيثِ وَالكُتُبِ الدِّينِّيةِ لا يَجُوزُ السّكوتُ عَلَى هَذِهِ الْحَالةِ الْمُزْرِيَةِ.
وَمِمَّا يَنْبَغِي التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ هُو عَدَمُ وَضْع الآيَاتِ وَالأحَادِيثِ فِي الْجَرَائِدِ بَلْ يُشَارُ إِلى مَحَلاتِهَا وَأَرْقَامِهَا لأَنَّ الْجَرَائِدَ صَارَتْ قِسْمٌ كبيرٌ مِنْ قِمَامَةِ الْمَحِلاتِ وَفِيهَا صُورُ ذَواتِ الأَرْوَاحِ وَهَذِهِ حَالَةُ مُخِيفَة إِنْ دَامَتْ مَعَ مَا انْتَشَرَ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ والْمَعَاصِي التِي مَلأتِ البرِّ والبَحْرَ يُخْشَى أَنْ تُحِيطَ بِهِمْ عُقُوبَتُهَا.
نَسْأَلُ الله أَنْ يُنَجِّينَا مِنْ عُقُوبَتِهَا وَأَنْ يُوقِضَ وَلاتَنَا وَيُنَبِّهَهَمْ لإِزَالتِهَا وَتَطْهيرِ الأَرْضِ مِنْهَا إِنَّهُ القَادِرُ عَلَى ذَلِكَ وَلا أَرَى مَخْلِصًا لِلإنْسَانِ الذِي قَدْ ابْتُلِيَ بِشِراءِ الْجَرِيدَةِ حَمَّالَةِ الْكَذِبِ قَتَّالةِ الَوْقتِ إلا أَنَّهُ يُحْرِقُهَا مِنْ حِينَ يَخْلَصُ مِنْ قِرَاءتِهَا لِيَسْلَمَ مِنْ بَاقِي شُرُورِهَا وَأَوْزَارِهَا.
وَسَوْفَ يُنَاقَشُ عَنْهَا يَومَ القِيامَةِ عَنْ الوَقْتِ الذِي ضَيَّعَهُ فِيهَا وَالْمَالُ الذي أَنْفَقهُ فِيهَا وَمَا حَصَلَ بِسَبَبِهِ عَلَى الآيَاتِ وَالأَحَادِيثِ التِي فِيهَا مِنْ الاسْتِهَانَةِ وَالامْتِهَانِ وَإِخْرَاجِ الْمَلائِكَةِ عَنْ الْمَحَلِّ التِي وَضَعَهَا فِيهِ إِذَا كَانَ فِيهَا صُوَرِ ذَوَاتِ الأَرْوَاحِ حَيْثُ أَنَّ الْمَلائِكَةَ لا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةَ.
قَالَ بَعْضُهُمْ:
شِعْرًا:
أَلا ارْعِوَاءَ لِمَنْ كَانَتْ إِقَامَتُهُ
عِنْدَ الْمَذَايِيعِ وَالتَّلْفَازِ وَالطَّربِ
مُضَيِّعًا فِيهَا عُمْرًا مَا لَهُ عِوَضٌ
إِذَا تَصْرَّمَ وَقْتٌ مِنْهُ لَمْ يَؤُبِ
أَيَحْسِبُ العُمْرَ مَرْدُودًا تَصَرّمُهُ
هَيْهَاتَ أَنْ يَرْجِعَ الْمَاضِي مِنْ الْحُقُبِ
أَمْ يَحْسَبُ العُمْرَ مَا وَلَّتْ أَوَائِلُهُ
يَنَالُ بَعْدَ ذَهَابِ الْعُمْرِ بِالذَّهَبِ
فَبَادِرِ العُمْرَ قَبْلَ الفَوْتِ مُغْتَنِمًا ِ
مَا دُمْتُ حَيًّا فَإِنَّ الْمُوتَ فِي الطَّلَبِ
وَأَحْرِصْ وَبَادِرْ إِذَا مَا أَمْكَنَتْ فُرَصٌ
في كَسْبِ مَا تُحْمَدَنْ عُقْبَاهُ عَنْ رَغَبِ
مِنْ نَفْعِ ذِي فَاقَةٍ أَوْ غَوْثِ ذِي لَهَفٍ
أَوْ فِعْلِ بِرِّ وَإِصْلاحٍ لِذي شَغَبِ
فالْعُمْرُ مُنْصَرِمٌ وَالوَقتُ مُغْتَنَمٌ
وَالدَّهْرُ ذُو غَيْرَ فَأجْهَدْ بِهِ تُصِبِ
فاعْمَلْ بِقَوْلِي وَلا تَجْنَحْ إِلى فَدَمٍ
مُخَادِعِ مُدَّعٍ لِلْعِلْمِ وَالأَدَبِ
يَرَى السَّعَادَةَ فِي كَسْبِ الْحُطَامِ وَلَوْ
حَوَاهُ مَعَ نَصَبٍ مِنْ سُوءِ مُكْتَسَبِ
فَالرَّأْيُ مَا قُلْتُهُ فَاعْمَلْ بِهِ عَجَلاً
وَلا تَصِخْ نَحْوَ فَدْمٍ غَيْرِ ذِي حَدَبِ
فَغَفْلَةُ الْمَرْءَ مَعَ عِلْمٍ وَمَعْرِفَةٍ
عَنْ وَاضِحٍ بَيْنَ مِنْ أَعْجَب العَجَبِ
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ مَحَبَّتَكَ فِي قُلُوبِنَا وَقَوِّهَا وَارْزُقْنَا مَحَبَّةُ أَوْلِيَائِكَ وَأَصْفِيَائِكَ، وَاجْمَعْنَا وَإِيَّاهُمْ فِي دَارِ كَرَامَتِكَ يَا أَكْرَمَ الأَكْرَمِينَ وَأَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا لِكِتَابِكَ مِنَ التَّالِينَ وَلَكَ بِهِ مِنْ العَامِلِينَ وَبِمَا صَرَّفْتَ فِيهِ مِنْ الآيَاتِ مُنْتَفِعين وإلى لَذِيذِ خِطَابِهِ مُسْتَمِعينَ وَلأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ خَاضِعِينَ وبالأعمالِ مُخْلِصِينَ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فصل) : وقال مُحمدُ بن الحسين: يَنْبَغِي لِمَنْ عَلَّمَهُ اللهُ القُرْآن وَفَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ لَمْ يَحْمِلْهُ.
وَأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ القُرْآنِ وَأَهْلُ اللهِ وَخَاصَّتِهِ.
وَمِمَّن وَعَدَهُ اللهُ مِنْ الفَضْل العظيم.
وَمِمَّن قَالَ اللهُ عز وجل: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} قِيلَ: يَعْملون به حَقَّ العَمَل.
وَمِمَّنْ قَالَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «الذي يَقْرأ القُرْآن وهو مَاهِرٌ بِهِ مَعَ السَّفَرةِ الكرام
البَرَرَةِ وَالذِي يَقْرَأ القرآن وهو يَتَتَعْتَعُ فيه عليه شاقٌ لَهُ أجْرَان» . رواه البخاري.
وقال بِشْرُ بنُ الحارث الزاهدُ المعروف سَمِعْتُ عيسى بن يُونُسَ يَقُولُ: إذا خَتَمَ العَبْدُ القرآن قَبَّل الملَكَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ.
فَيَنْبَغِي لِلإنسان الموفق أنْ يَجْعَلَ القُرآنَ كَلامَ رَبِّ العزَّةِ وَالْجَلالِ رَبِيعًا لِقَلْبهِ يَعْمُرُ بِهِ مَا خَرَّبَ مِنْ قَلْبِهِ يَحْرِصُ كُلَّ الْحِرْصِ على تِلاوَتِهِ وَتَفَهُّمِهِ وَالعَمَل به.
فَيَتَأَدَّبُ بآدابهِ وَيَتَخَلَّقُ بِأخْلاقِ شَرِيفَةٍ يَتَمَيَّزُ بِهَا عَنْ سَائِرِ الناس مِمَّنْ لا يَقْرَؤُونَ القُرْآنَ.
فَأَوَّلَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَعْمِل تَقْوَى اللهِ فِي السِّرِ وَالعَلانِيَةِ بِاسْتِعْمَالِ الوَرَعَ فِي مَطْعَمِهِ، وَمَشْرَبِهِ، وَمَلْبَسِهِ، وَمَسْكَنِهِ، ومُعَامَلَتِهِ، وَبَيْعِهِ، وَشِرَائِهِ.
وَأَنْ يَكُونَ بَصِيرًا بِزَمَانِهِ وَفَسَادَ أَهْلِهِ، فَيَحْذَرهم عَلى دِينِهِ مُقْبِلاً عَلَى شَأنه مُهْتَمًا بإصْلاحِ مَا فَسَدَ مِنْ أَمْرِهِ، حَافِظًا لِلسَانِهِ، مُمَيّزًا لِكَلامِهِ.
إِنْ تَكلَّمَ تَكَلَّمَ بِعِلْم إِذَا رَأَى الكلامَ صَوَابًا يَخَافُ مِنْ لِسَانِهِ أَشَدَّ مِمَّا يَخَافُ مِنْ عَدّوِهِ قَالَ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ» .
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ وُقِيَ شَرَّ قَبْقَبِهِ وَذَبْذَبِهِ وَلَقْلَقِهِ فقد وَجَبَتْ لَهُ الجنة»
أخرجه الديلمي من حَديث أنس رضي الله عنه.
القَبْقَبُ: البطن، والذَّبَذبُ: الفرج، وَاللَّقْلَقُ: اللِّسَان.
وَأَنْ يَكُونَ قَلِيلَ الضَّحِك مِمَّا يَضْحَكُ منه النَّاسُ لِسُوءِ عَاقِبَةِ الضَّحِكِ، فَإِنْ سُرَّ بِشَيْءٍ مِمَّا يُوَافِقُ الحَقَ تَبَسَّمَ.
وَيَتَجَنَّبُ كثرة المزاح (لأَنَّهُ فِي الغَالب لِلْعَدَاوَةِ مِفْتَاح) فَإِنْ مَزَحَ قَالَ حَقًّا، بَاسِطَ الوَجْهِ طَيْبَ الكَلامِ، لا يَمْدَحُ نَفْسَهِ بِمَا فِيهِ فَكَيْفَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ.
وَمَا حَسَنٌ أَنْ يَمْدَحَ الْمَرْءُ نَفْسَهُ
…
وَلَكِنَّ أَخْلاقًا تَذُمُّ وَتَمْدَحُ
آخر:
(وَدَعْوَةَ الْمَرْءِ تُطْفِئ نُورَ بَهْجَتِهِ
…
هَذَا بِحَقٍّ فَكَيْفَ الْمُدَّعِي زَللا)
وَأَنْ يَحْذَرَ نَفْسَهُ أَنْ تَغْلِبَهُ عَلَى مَا تَهْوَى مِمَّا يُسْخِطُ مَوْلاه.
وَلا يَغْتَابُ أَحَدًا، وَلا يُحَقِّرُ أَحَدًا، وَلا يَسُبُّ أَحَدًا، وَلا يَشْمُتُ بِمُصِيبَةٍ، وَلا يَبْغِي على أحَد، وَلا يَحْسِدُ أَحَدًا، وَلا يُسِيءُ الظَّنَّ إِلا بِمَنْ يَسْتَحِقَ ذَلِكَ.
وَيَجْعَلَ الكتاب والسُنَّة والفِقْهَ فِيهما دَلِيلَهُ إِلى كُلَّ خُلُقٍ حَسَن جَمِيل وَأَنْ يَكُونَ حَافِظًا لِجَوَارِحِهِ عَمَّا نَهَى اللهُ عَنْهُ.
إِنْ مَشَى بِعِلْمٍ وَإِنْ قَعَدَ بِعِلْم، حَافِظًا لِلِسَانِهُ وَيده عما لا يعْنِيه، ولا يَجْهَل فَإِن جُهل عليه حَلُم.
وَلا يَظْلِمُ، وَإِنْ ظُلِمَ عَفَا عَمَلاً بقوله تعالى:{وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} ولا يَبْغِي وَإِنْ بُغِيَ عَلَيْهِ صَبَرَ، يَكْظِم غَيْظَهُ لِيُرضِي رَبَّهُ عز وجل (وَيغِيظَ عَدُّوهُ الذي لا يَأْلُو جُهْدًا في السَّعِي في هَلاكِهِ) .
اللَّهُمَّ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ يَا بَدِيعَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، نَسْأَلُكَ أَنْ تَكْفِينَا مَا أَهْمَّنَا وَمَا لا نَهْتَمُّ بِهِ، وَأَنْ تَرْزُقَنَا الاسْتَعْدَادِ لِمَا أَمَامَنَا، اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ الْمُتَّقِينَ الأبْرَارِ وَأَسْكِنَّا مَعَهمُ في دَارِ القَرَارَ، اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا بِحُسْن الإقْبَالِ عَلَيْكَ وَالإِصْغَاءِ إِلَيْكَ وَوَفَّقَنَا لِلتَّعَاوُنِ فِي طَاعَتِكَ والْمُبَادَرَةِ إلى خِدْمَتكَ وَحُسْن الآدَاب في مُعَامَلَتِكَ وَالتَّسْلِيم لأَمْرِك والرِّضَا بِقَضَائِكَ والصَّبْر عَلى بَلائِك والشّكْر لِنَعْمَائِكَ، اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإيمَانِ وَثَبِّتْهَا عَلَى قَوْلِكَ الثَّابِتْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وَألْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ يَا أَكْرَامَ الأَكْرَمِينَ وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فصل) : وَقَالَ رحمه الله: وَأَنْ يَكُونُ (أَيْ مِنْ عَلَّمَهُ اللهُ القُرْآنِ وَفَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّنَ لَمْ يَحْمِلْهُ) مُتَوَاضِعًا في نَفْسِهِ إِذَا قِيلَ لَهُ الْحَقَّ قَبِلَهُ مِن صَغِيرٍ أَوْ كَبِير يَطْلُبُ الرّفْعَة مِن اللهِ لا مِن المخلُوقين.
مَاقِتٌ لِلْكِبْرِ خَائفِ عَلَى نَفْسِهِ مِنْهُ، لا يَتَأَكَّلُ بالقُرْآنِ ولا يُحِبُّ أَنْ يَقْضِي بِهِ الْحَوَائِجَ.
وَلا يَسْعَى إِلى أَبْنَاءِ الْمُلُوكِ، وَلا يُجَالِسُ بِهِ الأَغْنِياءَ لِيُكْرمُوه.
إِنْ كَسَبَ النَّاسُ مِن الدنيا الكَثِيرِ بَلا فِقْهٍ وَلا بَصِيرَةٍ كَسَبَ هُو القَلِيل بِفِقْهٍ وَعِلْمٍ.
إِنَّ لََبِسَ النَّاسُ اللَّيِّنَ الفَاخِرَ لَبِسَ هُوَ مِنْ الْحَلالِ مَا يَسْتُرُ بِهِ عَوْرَتَهُ، إِنْ وُسّعَ عَلَيْهِ وَسَّعَ، وَإِنْ أُمْسِكَ عَلَيْهِ أَمْسَك.
يَقْنَعُ بالقَلِيل فَيْكَفِيهِ، وَيَحْذَرُ عَلَى نَفْسِهِ مِن الدُّنْيَا مَا يُطْغِيه، يَتْبَعُ وَاجِبَاتَ القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ.
يَأَكُلُ الطَّعَامِ بِعْلمٍ، وَيَشْرَبُ بِعِلْمٍ، وَيَلْبَسُ بِعِلْمٍ، وَيُجَامِعُ أَهْلَهُ بِعِلْمٍ، وَيَصْطَحِبُ الإِخْوَانَ بِعِلْمٍ، وَيَزْوُرهُم بِعِلْمٍ، وَيَسْتَأَذِنُ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ، وَيُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ، وَيُجَاورُ جَارَهُ بِعلم.
يُلْزِمُ نَفْسَهِ بِرَّ وَالِدَيْهِ فَيخَفِضْ لَهُمَا جَنَاحَهُ، وَيَخْفَضُ لِصَوْتِهَما صَوْتَه وَيَبْذِلُ لَهُمَا مَالَهُ، وَيَنْظُرُ إِلِيْهِمَا بِعَيْنِ الرَّحْمَةِ والوَقَارِ، يَدْعُو لَهُمَا بالرَّحْمَةِ وَالبَقَاءِ وَيَشْكرُ لَهُمَا عِنْدَ الكِبر، ولا يضجر منهما، ولا يَحْقِرُهُمَا.
إِنْ اسْتَعَانَا بِهِ عَلَى مَعْصِيَةٍ لَمْ يُطعْهُمَا لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ» .
وَإِنْ اسْتَعَانَا بِهِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ أَعَانَهُمَا وَيَرْفُقُ بِهِمَا فِي مَعْصِيَتهِ إِيَّاهُمَا حَيْثُ لَمْ يُعِنهمَا عَلَى الْمَعْصِيَةِ.
وَيَكُونُ ذَلِكَ بحُسْنِ الأَدَب لِيَرْجِعَا عَنْ قَبِيحِ مَا أَرَادَ مِمَّا لا يَحْسُنُ بِهِمَا فِعْلُه.
ويَصِلُ رَحِمَهُ، وَيَكْرَهُ القَطِيعَةِ، وَمِنْ قَطَعَهُ لَمْ يَقْطَعَهُ، وَمَنْ عَصَى اللهَ فِيهِ أَطَاعَ اللهَ فِيهِ، يَصْحَبُ الْمُؤْمِنِينَ بِعِلمٍ، وَيُجَالِسُهُم بِعلمٍ، ومَن صَحِبَهُ نَفَعَهُ.
حَسَنُ الْمُجَالَسَةِ لِمَنْ جَالَسَ، إِنْ عَلَّمَ غَيْرَهُ رَفقَ بِهِ، وَلا يُعَنِّفُ مَن أَخْطَأَ وَلا يُخْجِلُهُ.
رَفِيقٌ فِي أُمُوره صَبُورٌ عَلَى تَعْلِيم الْخَيْر، يَأْنَسُ بِهِ الْمُتَعَلِّمُ، وَيَفْرحُ بِهِ الْمُجَالِسُ، مُجَالَسَتُهُ تُفِيدُ خَيْرًا.
مُؤدِّبٌ لِمَنْ جَالَسَهُ بآدَابِ القُرآن والسُّنَّةِ إِنْ أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ، فالقُرْآنُ والسُّنَّةُ مُؤدِّبَانِ لَهُ.
يَحْزَنُ بِعِلْمٍ وَيَبْكِي بِعِلْم، وَيَتصَدَّقُ بِعِلم، وَيَصُومُ بِعِلم، ويحجُّ بِعِلْمٍ، ويُجَاهِدُ بِعِلم.
وَيَكْتَسِبْ بعلمٍ، ويُنفِقُ بِعلمٍ، وَيَنبَسِطُ في الأُمُورِ بِعِلْمٍ، وَينقبض عَنْها بعِلمٍ.
قَدْ أَدَّبَهُ القُرْآنِ والسُّنَّةِ يَتَصَفَحُ القُرْآنَ لِيُؤدِّبَ بِهِ نَفْسَهُ، وَلا يَرْضَى مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يُؤَدِّيَ مَا فَرضَ اللهُ عليه بِجَهْلٍ.
قَدْ جَعَلَ العِلْمَ والفِقْهَ دَلِيلَهُ إِلى كل خيرَ إذا دَرَسَ القُرْآنَ فَبِحُضُورِ فِهْمٍ وَعَقْل.
همَّتُهُ إِيقَاعُ الفَهْمِ لِمَا ألْزَمَهُ اللهُ مِنْ إتِّبَاع ما أَمَرَ وَالانْتِهَاءِ عَمَّا نَهَى.
لَيْسَ هِمَّتُهُ مَتَى أَخْتِمُ السُّورَةَ، هِمَّتُهُ مَتَى أسْتَغْنِي بالله عن غَيرِهِ، مَتَى أكُونُ مِنْ الْمُتَّقِين.
مَتَى أَكُونُ مِنْ المحسنين، مَتَى أَكُونُ مِنْ الْمُتَوَكِّلِين، مَتَى أَكُونُ مِنْ الْخَاشِعِينَ، مَتَى أَكُونُ مِنْ الصَّابِرِينَ.
مَتَى أَكُونُ مِنْ الصَّادِقِين، مَتَى أَكُونُ مِنْ الْخَائِفِينَ، مَتَى أَكُونُ مِن الرَّاجين، مَتَى أَزْهَدُ في الدنيا، مَتَى أَرْغَبُ في الآخرة.
مَتَى أَتُوبُ مِنَ الذُّنُوبِ، مَتَى أَعْرِفُ النِّعَمَ المُتَوَاتِرَةِ، مَتَى أَشْكُرُ اللهِ عَلَيْهَا، مَتَى أَحْفَظُ لِسَانِي.
مَتَى أَسْتَحِي مِنْ اللهِ حَقَّ الحَيَاء، مَتَى أشْتَغِلُ بَعْيبي، مَتَى أُصْلِحُ مَا فَسَدَ مِنْ أَمْرِي، مَتَى أُحَاسِبُ نَفْسِي.
مَتَى أَتَزَوَّدُ لَيْوَمِ مَعَادِي، مَتَى أَكُونُ عن اللهِ رَاضِيَا، مَتَى أَكُونُ بِلَقَائِهِ وَاثِقًا، مَتَى أَكُونُ بَزَجْرِ القُرْآنِ مُتَّعِظًا، مَتَى أَنْصَحُ للهِ.
مَتَى أَخْلِصُ له عَمَلي، مَتَى أُقِصِّرُ أَمَلِي، مَتَى أَتَأَهَّبُ لِيَوْمِ مَوْتِي وَقَدْ غُيِّبَ عَنِّي أَجَلي.
مَتَى أَعْمُر قَبْرِي، مَتَى أَفكِّرُ في الموقفِ وَشِدَّتِهِ، مَتَى أَفَكِّرُ فِي خَلْوَتِي مَعَ رَبِّي.
مَتَى أَحْذَرِ مِمَّا حَذَّرني منه ربي من نار حَرُّهَا شَدِيدٌ وَقَعْرُهَا بَعِيد لا يَمُوتُ أَهْلُها فَيَسْتَرِيحُوا وَلا تُقَال عَثْرتُهم، ولا تُرْحَمُ عَبْرتهم.
طَعَامُهُم الزقُومُ وشرابُهم الحَميم، قال تعالى:{إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} ، وقال:{كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا} الآية.
نَدِمُوا حَيْث لا يَنْفعُ النَّدمُ وَعضُّوا عَلَى الأيْدِي أَسَفًا على تَقْصِيرهم في طَاعَةَ اللهِ وَرَكُونهمِ لِمَعاصي الله.
فقال قائلٌ منهم: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} ، وقال قائل:{رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} .
وقال قائل: {أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} .
وقال قائل: {يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} .
وقال قائل: {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً} .
شِعْرًا:
أمَا سَمِعْتَ بَأكْبَادٍ لَهُمْ صَعَدْت
…
خَوْفًا مِنْ النَّارِ فَانْحَطَّتْ إِلى النَّارِ
أمَا سَمِعْتَ بِضَيْقٍ في مَكَانِهِمُوا
…
وَلا فِرَارَ لَهُمْ مِنْ صَالِي النَّارِ
أمَا سَمِعْتَ بِحِيَّاتٍ تَدِبُّ بِهَا
…
إِلِيْهُمُوا خُلِقَتْ مِنْ مَارَجِ النَّارِ
فِيهَا إِلَهِي بَأَحْكَامٍ وَمَا سَبَقَتْ
…
بِهِ قَدِيمًا مِنْ الجناتِ والنَّارِ
أَدْعُوكَ أَنْ تَحْمِي الَعَبْدَ الضَّعِيفَ فما
…
لِلْعَبْدِ مِنْ جَسَدٍ يَقْوَى عَلَى النَّارِ
وَالشَّمْسُ مَا لِي عَلَيْهَا قَطُّ مِنْ جَلدٍ
…
فَكَيْفَ يَصْبُر ذُو ضَعْفٍ عَلَى النَّارِ
اللَّهُمَّ اخْتِمْ بالأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ أَعْمَارِنَا وَحَقِّقْ بِفَضْلِكَ آمَالِنَا وَسَهِّلْ لِبُلُوغِ رِضَاكَ سُبُلَنَا وَحَسِّنْ في جَمِيعِ الأَحْوَالِ أَعْمَالِنَا يَا مُنْقِذُ الغَرْقَى وَيَا مُنْجِي الْهَلْكَى وَيَا دَائِمَ الإِحْسَانِ أَذِقْنَا بُرْدَ عَفْوِكَ وَأَنِلْنَا مِنْ كَرَمِكَ وَجُودِكَ مَا تَقَرُّ بِهِ عُيُونَنَا مِنْ رُؤْيَتِكَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فصل) : وقال رحمَهُ اللهُ تَعَالى: فَأَمَّا مَن قَرَأَ القُرْآنِ لِلدُّنْيَا، فَإِنَّ مِن أَخْلاقِهِ أَنْ يَكُونَ حَافِظًا لِحُرُوفِ القُرْآن مُضَيِّعًا لِحُدُودِهِ مُتُعَظِّمًا في نَفْسِهِ مُتكَبِّرًا عَلَى غَيْرِهِ.
قَد اتَّخَذَ القُرْآنَ بِضَاعَةً يَتَأَكَّلُ بِهِ الأَغْنِيَاءِ، وَيَسْتَقْضِي بِهِ الْحَوَائج، يُعْظِّمُ أبْنَاءَ الدُّنْيَا، وَيحْقِّرُ الفُقَرَاءِ.
إِنْ عَلَّمَ الغَنِيِّ رَفَقَ بِهِ طَمْعًا في دُنْيَاه، وإِنْ عَلَّمَ الفَقِيرَ زَجَرَهُ وَعَنَّفَهُ لأَنَّهُ لا دُنْيَا لَهُ يَطْمَعُ فِيهَا.
يسْتَخْدُم به الفُقَراءَ، وَيَتْيهُ بِهِ عَلَى الأَغْنِيَاء إنْ كَانَ حَسَنَ الصَّوْتِ أَحَبَّ أَنْ يَقْرَأَ لِلْمُلُوكِ وَيُصَلِّي بِهِمْ طَمَعًا في دُنْيَاهُم.
وَإِنْ سَأَلَهُ الفُقَراءُ الصَّلاةَ بِهمِ ثَقُلَ ذَلِكَ عَلَيْهِ لِقِلَّةِ الدنيا في أيديهم وَإِنَّما طَلَبُهُ الدنيا حَيْثُ كَانَتْ رَبَضَ عِنْدَهَا.
يَفْخَرَ على الناسِ بالقرآن وَيَحْتَجُّ عَلَى مَنْ دُونِهُ فِي الْحِفْظِ بِفَضْلِ مَا مَعَهُ مِنْ القِرَاءَاتِ.
فَتَرَاهُ تَائِهًا مُتَكَبّرًا كَثِيرَ الكَلامِ يَعِيبُ كُلِّ مَنْ لَمْ يَحْفَظْ كَحِفْظِهِ.
وَمَنْ عَلِم أَنَّهُ يَحْفَظُ كَحِفْظِهِ طَلَبَ عَيْبَه، مُتَكبَرًا في جَلْسَتِهِ، مُتَعَاظِمًا في تَعْلِيمِهِ لِغَيْرِهِ، لَيْسَ لِلْخُشُوعِ فِي قَلْبِهِ مَوْضِعٌ، كَثِيرُ الضَّحِكِ والخَوض فيما لا يَعْنِيهِ.
يَشْتَغِلُ عَمَّنْ يأخُذُ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ مَنْ جَالَسَهُ.
هو إلى اسْتَمَاع حَدِيثِ جَلِيسِهِ أَصْغَى مِنْهُ إِلَى اسْتِمَاعِ مَن يَجِبُ عَلَيْهِ أنْ يَسْتَمِعَ لَهُ.
يُوري أنَّهُ لَمْ يَسْتَمِعْ حَافِظًا فَهُوَ إِلى كَلامِ النَّاسِ أَشْهَى مِنْهُ إلى كلام الله عز وجل.
لا يَخْشَعُ عند اسْتِمَاعِ القُرْآن، ولا يَبْكِي وَلا يَحْزَنْ وَلا يَأْخُذُ نَفْسَه بالفِكر فيما يُتْلَى عَليه وقد نُدِبَ إلى ذلك.
رَاغِبٌ في الدنيا وما قَرَّبَ مِنْهَا لَهَا يَغْضَبُ وَيَرْضَى إِنْ قَصَّرَ رَجُلٌ فِي حَقِّهِ قَالَ أَهْلُ القرآن: لا يُقَصَّرُ في حُقُوقِهِم وَأهْل القرآن تُقْضَى حَوَائِجُهُم.
يَسْتَقْضِي من الناس حَقَ نَفْسِهِ وَلا يَسْتَقْضِي مِنْ نَفْسِهِ مَا للهِ عَليها يَغْضَبُ عَلى غَيْرِهِ ولا يَغْضَبُ على نَفْسِهِ للهِ.
لا يُبَالِى مَنْ أَيْنَ اكْتَسَبَ مِنْ حَرَامٍ أَوْ مِنْ حَلال قد عَظُمَتِ الدنيا في قلبه إن فاته شيءٌ منها لا يَحِلُ لَهُ أَخْذُهُ حَزنَ على فَوْتِهِ.
لا يَتَأَدَّبُ بآدابِ القُرْآنِ ولا يَزْجُزُ نَفْسَهُ عَنْ الوَعْدِ وَالوَعِيد لاهٍ غَافِل عَمَّا يَتْلُو أَوْ يُتْلَى عَليه.
همَّتُهُ حِفْظُ الحُرُوفِ إِنْ أَخْطَأَ في حَرْفٍ سَاءَهُ ذلك لِئلا يَنْقُصُ جَاهُهُ عِنْدَ المَخْلُوقِينْ فَتَنْقُصُ رُتْبَتُهُ عندهم.
فَتَرَاهُ مَحْزُونًا مَغْمُومًا بِذَلِكَ وَمَا قَدْ ضَيَّعَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهُ مِمَّا أَمَرَ اللهُ بِهِ فِي القُرْآنِ أَوْ نَهَى عَنْهُ غَيْرَ مُكْتَرِثٍ بِهِ.
أخْلاقُهُ في كثير من أموره أخْلاقُ الجُهَّالِ الذين لا يَعْلَمُون لا يأخُذُ نَفْسَهُ بالعَمل بما أوْجَبَ اللهُ عَلَيْهِ فِي القُرْآن إذا سَمِعَ اللهَ عز وجل قال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} .
فَكَان من الواجب عليه أن يُلْزمَ نَفْسَهُ طَلَبَ العِلْمِ لِمَعْرَفَةِ مَا نَهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم فينتهِي عنه إلى أن قال رحمه الله تعالى:
فأَمَّا العَاقِلُ إِذَا تَلَى القُرآن اسْتَعْرَضَ القُرآنَ فَكَان كَالمرآة يَرَى بِهَا مَا حَسُنَ مِن فِعْلِهِ وَمَا قَبُحَ مِنْهُ.
فَمَا حَذَّرَهُ مَوْلاهُ حَذِرَهُ وَمَا خَوَّفَهُ بِهِ مِنْ عِقَابِهِ خَافَهُ وَمَا رَغَّبَهُ فِيهِ مَوْلاهُ رَغِبَ فِيهِ وَرَجَاهُ.
فَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتُهُ أَوْ مَا قَارَبَ هَذِهِ الصِّفَةِ فَقَدْ تَلاهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ وَرَعَاهُ حَقَّ رِعَايتِهِ وَكَانَ لَهُ القُرْآنُ شَاهِدًا وَشَفِيعًا وَأَنِيسا وَحِرْزَا.
ومَنْ كانَ هَذا وصْفه نَفَعَ نَفْسَهُ وَنَفَعَ أَهْلَهُ وعَاد على وَالِدَيْهِ وعَلى ولَدِهِ كُلُّ خَيْرٍ في الدنيا والآخرة. انتهى كلامه باخْتِصَار وتصَرُّف يسير.
فَطُوبَى لِمَنْ أَرْضَى الإِلَهَ مُسَارعًا
…
إلى سُبُلٍ تَهْدِيه لِلرِّحْلَةِ الأُخْرَى
وَقَامَ وَصَلَّى فِي الدَّيَاجِي وَدَمْعُهُ
…
عَلى خَدِّهِ تَجْرِي بِمُقْلَتِهِ العَبْرَا
وَأَخْلَصَ للهِ الَعِظيمِ قِيامَهُ
…
وَرَاقَبَهُ سِرًا وَرَاقَبَهُ جَهْرَا
وأَحْيَا لَيَالِي عُمْرِهِ بِقِيَامِهِ
…
إلى رَبِّهِ في اللَّيْلِ وَامْتَثَلَ الأَمْرَا
فَذَاكَ بِحَمْدِ اللهِ في طَيْب عيشَةٍ
…
يَفُوزُ بِهَا صَومًا وَيُحْظَى بِهَا فِطْرَا
اللَّهُمَّ قَابِلْ سَيِّئَاتِنَا بِإحْسَانِكَ، وَاسْتُر خَطِيئَتِنَا بِغُفْرَانِكَ وَاذْهبْ ظُلَمَةَ ظُلْمِنَا بِنُور رِضْوَانِكْ، وَاقْهَر عَدُوَّنَا بِعِزِّ سُلْطَانِكَ، فَمَا تَعُودَنَا مِنْكَ إِلا الْجَمِيل، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) : 8- مَا وَرَدَ فِي تَعَاهُدِ القُرْآنِ الكريمْ، والتَّرْهِيبِ مِنْ نِسْيَانِهِ، واَلإعْرَاضِ عَنْه:
يُسَنُّ خَتْمُهُ في كُلِّ أُسْبُوع لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِعَبْدِ اللهِ بن عَمْرو رضي الله عنها: «وَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ سَبْعٍ لَيَالٍ وَلَا تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ أَحْمَدَ بن حَنْبَل - رَحِمَهمَا الله - كَانَ أَبِي يَخْتِمُ القُرآنَ في النَّهَارِ فِي كُلِّ أُسْبُوع، يَقْرأُ كُلَّ يَوْمِ سُبْعًا لا يكادُ يَتْرَكَهُ نَظَرًا لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لَعَبدِ اللهِ بن عَمْرو رضي الله عنهما:«واقْرَأْهُ فِي كُلِّ سَبْعٍ» . وَإِنْ قَرَأَ فِي ثَلاثٍ فَحَسَنْ، لِمَا وَرَدَ عَنْ عَبدِ اللهِ بن عَمْرو رضي الله عنهما قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي قُوَّةً، قَالَ:«اقْرَأْ في كُلِّ ثَلاثٍ» . رواهُ أبُو داودْ. ولا بَأسَ فِيمَا دُونَها أَحْيَانًا، وَفِي الأَوْقَات الفَاضِلِةِ كَرَمَضَانَ، خُصُوصًا اللَّيَالِي التِي تُطْلَبُ فِيهَا لَيْلَةُ القدر.
وَيَنْبَغِي لِقَارِئِ القُرْآنِ أنْ يَتَعَّهدَهُ بالْحِفْظِ وَالْمُدَاوَمَةِ عَلَى تِلاوَتِهِ، وَلَيْحَذَرْ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ هُجْرَانِهِ وَتَرْكِ التَّعَهُّدِ لَهُ، فَيَتَعَّرضَ بِذَلِك لِنِسْيَانِهِ وَتَرْكِ العَمَلِ بِهِ الذِي هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ.
قالَ ابنُ القَيِّمِ رحمه الله: هَجْرُ الْقُرْآنِ أَنْوَاع:
أَحَدُهُمَا: هَجْرُ سَمَاعِهِ، والإيمانِ بِهِ، وَالإِصْغَاءِ إِلَيْهِ.
والثَّاني: هَجْرُ العَمَلِ بِهِ والوُقُوفِ عِندَ حَلالِهِ وَحَرَامِهِ، وَإِنْ قَرَأَهُ وَآمَنَ بِهِ.
شِعْرًا:
لا شَيْءَ مِثْلَ كَلامَ اللهِ تَحْفَظُهُ
…
حِفْظًا قَوِيًّا وَتَعْمَلْ فِيهِ مُجْتَهِدَا
وَالثَّالثْ: هَجْرُ تَحْكِيمِهِ وَالتَّحَاكُمْ إِلَيْهِ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ وَاعْتِقَادِ أَنَّهُ لا يُفِيدُ اليَقِينِ وَأَنَّ أَدَلَّتَهُ لَفْظِيةَ لا تُحَصِّلُ العِلمَ.
والرَّابِعْ: هَجْرُ الاسْتِشْفَاءِ وَالتَّدَاوِي بِهِ في جَمِيعِ أَمْرَاضِ القُلُوبِ وَأَدْوَائِهَا، فَيَطْلُب شِفَاءَ دَائِهِ مِنْ غَيْرِهِ وَيَهْجُرُ التَّدَاوِي بِهِ.
وَالْخَامِسُ: هَجْر تَدَبُّرِهِ وَتَفَهُّمِهِ وَمَعْرِفَةِ مَا أَرَادَ الْمُتَكَلِّمِ مِنْهُ.
وَكُلُّ هَذَا دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} .
وَرَوَى الإِمَامُ أَحْمِدْ رضي الله عنه مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةْ: أَنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلاً مُسْتَلْقِيًا عَلَى قَفَاهُ، وَرَجُلاً قَائِمًا بِيَدِهِ فَهْرٌ أَوْ صَخْرَةٌ فَيَشْدَخُ بِهَا رَأْسَهُ: فَيَتَدَهْدَهْ، فَإِذَا ذَهَبَ لِيَأْخُذَهُ عَادَ رَأْسَهُ كَمَا كَانَ فَيَصْنَعُ بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقِيلَ لَهُ: رَجُلٌ أَتَاهُ اللهُ القُرْآنَ فَنَامَ عَنْهُ بَاللَّيْلِ وَلَمْ يَعْمَل بِهِ بِالنَّهَارْ، فَهُوَ يَفْعَلُ بِهِ ذَلِكَ إِلى يومِ القِيامَ.
وَفي حدِيثِ عَمْرو بن شُعَيْب مَرْفُوعًا: «يُمَثَّلُ القُرآنُ يَومَ القِيَامَةِ رَجُلاً فَيُؤْتَى بالرَّجُلِ قَدْ حَمَلَهُ فَخَالَفَ أَمْرَهُ فَيَتَمَثَّلُ لَهُ خَصْمًا، فَيقُولُ: يَا رَبْ، حَمَّلْتَهُ إِيَّاي فَبِئْسَ حَامِلٌ تَعَدَّى حُدُودِي، وَضَيَّعَ فَرَائِضِي، وَرَكَبَ مَعْصِيَتِي وَتَرَكَ طَاعَتِي، فَمَا يَزَالُ يَقْذِفُ عَلَيْهِ بالْحُجَجِ حَتَّى يُقَالُ
شَأنَكَ بِهِ فَيأخُذُ بِيَدِهِ فَمَا يُرْسِلَهُ حَتَّى يُكِبَّهُ على مِنْخِرِهِ في النَّارِ» . الحديث.
شِعْرًا:
ثلاثَةُ أَسْفَارٍ هَنِيئًا لِمَنْ لَهَا
…
يُلازِمُهَا حِفْظًا وَدَرْسًا وَيَفْهَمُ
كِتَابَ إِلهِ الْخَلْقِ جل جلاله
…
كَذَاكَ البُخَارِي ثُمَّ يَتْلُوهُ مِسْلِمُ
وَعَنْ سَعْدِ بِنْ عُبَادَةِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ امْرِئِ يَقْرَأُ القرآن ثُمَّ يَنْسَاهُ إلا لَقِيَ اللهَ يَوْمَ القِيَامَةِ أَجْذَمْ» . رواهُ أبو داود.
وَعَنْ أَبِي مَوْسىَ الأَشْعَرِي رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «تَعَاهَدُوا هَذَا القُرْآنْ - فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِه - لَهُوْ أَشَدَّ تَفَلُّتًا مِنْ الإِبْلِ مِنْ عُقُلِهَا» . رَوَاهُ البخاري، ومسلم. وَعَنْ ابن عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّمَا مَثَلُ صَاحِبِ القُرآنِ كَمَثَلِ الإِبلِ الْمُعَلَّقَةْ إِنْ عَاهَدَ عَلَيْهَا أَمْسَكَهَا وَإِنْ أَطَلْقَهَا ذَهَبَتْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
قَالَ ابْنُ عباس رضي الله عنهما تَكَفَّلَ الله لِمَنْ قَرَأ القُرْآنَ وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ أَنْ لا يَضِلَّ في الدُّنْيَا وَلا يَشْقَى في الآخرة، ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالى:{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} . أ. هـ.
وَرَوَى أَنَسٌ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «عُرضَتْ عَلَيَّ أَجُورَ أُمَّتِي حَتَّى القِذَاةَ يُخْرِجُهَا الرَّجُلُ مِنْ المسجدِ وَعُرِضَتْ عَلَيَّ ذُنُوبَ أمتي فلمْ أَرَ ذَنْبًا أَعْظَمَ مِنْ سُورَة منِ القرآنِ أَوْ آيَةٍ أَوُتيِهَا الرَّجُلَ ثُمَّ نَسِيَهَا» . وَيَا لِلأَسفِ اسْتَبْدَلُوا الْخَبِيثَ بالطَّيِّبِ أَكَبَّوا عَلَى الجَرَائِدِ وَالمَجَّلاتِ وَالكُتُبِ الْخَلِيعَاتِ بَدَل تِلاوَةِ كِتَابِ الله فَلا حَوْلَ ولا قُوةَ إلا باللهِ العَلي العظيم، وهو حَسْبُنَا ونَعْمَ الوَكِيل.
شِعْرًا:
قَدْ بَلَوْتُ النَّاسَ حَتَّى
…
لَمْ أَجِدْ شَخْصًا أَمِينَا
وَانْتَهَتْ حَالِي إِلى أَن
…
صِرْتُ في البَيْتِ حَزِينَا
أَمْدَحُ الوَحْدَةَ حِينًا
…
وَأَذُّمُ الْجَمْعَ حِينَا
إِنَّمَا السَّالِمُ مَنْ لَمْ
…
يَتَّخِذْ خَلْقًا قَرِينَا
وَفِي الْحَدِيثِ الذي رَوَاهُ التِّرْمِذِي وَغَيْرُه عَنْ عَلَيَّ رضي الله عنه
قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنٌ» . قُلْتُ: فمَا الْمَخْرَجُ مِنْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ نَبَأُ مَا قَبْلَكُمْ وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، هُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللهُ، وَمَنِ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللهُ، وَهُوَ حَبْلُ اللهِ الْمَتِينُ وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، هُوَ الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الأَهْوَاءُ وَلَا تَلْتَبِسُ بِهِ الأَلْسُنُ، وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ وَلَا تَشْبَعُ مِنْهُ العُلَماءُ، مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» . وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
(فَصْلٌ) : إِذَا فَهِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ القُرْآنِ قَدْ بُيِّنَ فِيهِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ العِبَادِ مِنْ أَصُولِ الدِّينِ وَفُروعِهِ وأحكام الدَّارِينِ حَتَّى أَنَّهُ تَعَالى يُثَنِّي الأُمُورَ الكِبَارَ التِي يَحْتَاجُ القَلْبُ لِمُرُورِهَا عَلَيْهِ كُلَّ وَقِتِ وَإِعَادَتِهَا فِي كُلِّ سَاعَةِ بَألفاظٍ مُخْتَلِفَةٍ وَأَدلةٍ مُتَنَزِّعَةٍ لِتَسْتَقِرَّ في القلوبْ.
قَالَ تَعَالى لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} ، وَقَالَ:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ} ، وَقَالَ تَعَالى:{وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} فَفِيهِ بَيَانُ الحلالِ والحرامِ وَالثَّوَابِ والعِقَابِ وَهُدىً مِنْ الضَّلالَةِ، رَحْمَةً لِمَنْ صَدَّقَ بِهِ وَعَمِلَ فِيهِ وَحَكَّمَهُ في الدَّقِيقِ وَالجَلِيلِ وَالوَيْلُ لِمَنْ رَجَعَ إلى القَوَانِينِ وَتَرَكَهُ فَكُلُّ حُكْمٍ سِوَى حُكْمِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ مَرْدُودُ، وَكُلُّ حَاكِمٍ بَغْيِرِ حُكْمِهِ وَحُكْمِ رَسُولِهِ فَهُو طَاغُوتُ
كَافِرِ باللهِ وَمَا أكْثَرَهم في هذا الزَمَنِ الْمُحَكِّمِينَ لِلْقَوَانِينِ الوَضْعِيَّةِ وَالأَنْظِمَةِ الْحَالِيَّةِ.
قَالَ اللهُ تَعَالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} وَهَذَا عَامٌ شَامِلٌ فَمَا مِنْ قَضِيَّةٍ إِلا وَللهِ فِيهَا حُكْم، قَالَ اللهُ تَعَالى:{مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} وَقَالَ تَعَالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} فَهَذِه الآيةُ الْجَلِيلَةُ القَدْرِ عَظِيمَةُ الموقِعْ كَبِيرَةُ الفَائِدَةِ حَسَنَةُ الْمَغْزَى اخْتَارَهَا الرَّبُّ سبحانه وتعالى لِيَخْتِمَ بِهَا كِتَابَهُ الكَرِيمَ وَوَحْيَهُ المعْجِزَ وَأَحْكَامَ شَرِيعَتِهِ السَّمْحَةِ وَدِينَهُ الْحَنِيفْ.
وَمِنْ مَزَايَا هَذِهِ الآيةِ الكَرِيمَةِ التِي انْفَرَدَتْ بِهَا عَمَّا بَقِيَ مِنْ السِّورُ والآياتِ أَنَّ الله أَكْمَلَ بِهَا الدِّينَ بِمَعْرِفَةِ الأَحْكَامِ الشَّرعِيَةِ مِنْ الفَرَائِض وَالسُّنَنِ وَالحُدُودِ وَالأحكامِ وَالحلالِ وَالحرامِ وَلَمْ يَنْزِلُ بَعْدَهَا حَلالٌ وَلا حَرَامٌ وَلا شَيْءٌ مِنَ الفَرَائِض وَأَتمّ بِهَا النّعمَةُ على عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِدَايَتِهِمْ لأَحْكَامِهِ وَتَوْفِيقِهِم لِمَعْرِفَةِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَحَلالِهِ وَحَرَامِهِ وَإنجازِهِ سُبْحَانَهُ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ فِي قَوْلِهِ: {وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} .
فَكَانَ مِنْ تَمَامِ نِعْمَتِهِ أَنْ دَخَلُوا مَكَّةَ آمِنِينَ مُطْمَئِنِينَ لَمْ يُخَالِطُهُمْ أَحَدٌ مِن المشْرِكِينَ وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ اخْتَارِ لِهَذِهِ الأُمَّةَ دِينِ الإِسْلامِ وَمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام عَنْ الأَدْيَانِ كُلِّهَا بَيَانًا لِشَرَفِ هَذَا الدِّينِ وَاعْتِنَاءِ بِأَمَّةِ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم وَحَسْبُنَا مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلَامُ} ، وَقَوْلُهُ تَعَالى:{وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} .
وَهَذَا مَا دَعَا كَعْبُ الأحبارُ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ وَكَانَ مَعَهُ نَفَرٌ مِنْ اليهودِ أَنْ يَقُولَ لِخَلِيفَةِ الْمُسْلِمِينَ عُمُرَ بنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: يَا أَمِيرَ المؤمنينَ آيةٌ في كِتَابِكم تَقْرءُونَهَا لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ اليهودِ نَزَلَتْ لاتَّخَذْنَاهَا عِيَا وَأَقْمَنَا لَهَا مُحْتَفَلاً في كُلِّ عَامِ نُجَدِّدُ ذِكْرَاهَا وَنَتَدَارَسُ فَضَائِلَهَا الكثيرةِ وَذِكْرَيَاتِهَا العَطِرَةِ.
فَيَبْتَدِرُ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رضي الله عنه قَائِلاً: أيُ آيةِ هِيَ؟ قَالَ كَعْب: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِيناً} فَيُجِيبُهُ أَمِيرُ المؤمنينَ بِكُلِّ تَؤُدَةٍ وَسَكِينَةِ قَائِلاً: قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ اليَوْمَ وَالْمَكَانَ الذي نَزَلَت فيهِ على النبيّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ. وَفِي رِوَايةِ إسحاقَ بنِ قبيصَة: نَزَلَتْ يَوْمَ جُمُعَةٍ يَوْمَ عَرَفَةَ وَكِلاهُمَا بِحَمْدَ اللهِ لَنَا عِيدًا. أ. هـ.
وَمِنَ الأدلَةِ على وُجُوبِ الرُّجُوعِ إلى الكِتَابِ وَالسَّنةِ عِندَ التَّحَاكُمِ مَا يَلِي:
قَالَ تَعَالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ} .
وَقَالَ تَعَالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ} الآية.
وَقَالَ تَعَالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية.
وَقَالَ تَعَالى: {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء} الآية.
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «تَرَكْتُكُمْ عَلى الْمَحَجَّةِ البَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلا هَالِكٌ» . وَقَالَ فِيمَا صَحَّ عَنْهُ: «مَا بُعِثَ مِنْ نَبِيَّ إِلا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أَمَّتَهُ على خَيْرِ مَا يَعْلَمَهُ لَهُمْ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ شَرِّ مَا يَعْلَمَهُ لَهُمُ» . وَقَالَ أَبُو ذَرْ: لَقَدْ تُوُفِّي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا طَائُرٌ يُقَلِّبُ جِنَاحَيْهِ في السَّمَاءِ إِلا ذَكَرَ لَنَا مِنْهُ عِلْمًا.
وَلا شَكَّ أَنَّ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ كِتَابِ اللهِ وَسَنَّةَ رَسُولِهِ وَاعْتَاضَ عَنْهُمَا بالقَوَانِينِ الوَضْعِيَّةِ أَنَّهُ كافرٌ كُفْرٌ نَاقِلٌ عَنِ الْمِلَّةِ الإِسْلامِيَّةِ وَكَذَا مَنِ اسْتَهْزَأَ بالقُرْآنِ أَوْ طَلَبَ تَنَاقُضَهُ أَوْ دَعْوَى أَنَّهُ مُخْتَلِفٌ أَوْ مُخْتَلِقٌ أَوْ أَثْبَتَ شَيْئًا نَفَاهُ القُرْآنُ أَوْ نَفَا مَا أَثْبَتَهُ القُرْآنُ فَقَدْ كَفَرَ. قَالَ تَعَالى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} ، وَقَالَ:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً} ،
وَلا خِلافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَنَّ مَنْ جَحَدَ مِنْ القُرْآنِ سُورَةً أَوْ آيَةً أَوْ كَلِمَةً أَوْ حَرْفًا مُتَّفَقًا عَلَيْهِ أَنَّهُ كَافِرٌ، وَقَالَ عَلِيٌّ: مَنْ كَفَرَ بِحَرْفٍ مِنْهُ فَقَدْ كَفَرَ بِهِ كُلِّهِ.
وَكَذَا مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَسَعُهُ الْخُروجُ عَنْ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، كَمَا وَسِعَ الخَضْرُ الخروجُ عن شَرِيعَةِ مُوسى، أَوْ زَعَمَ أَنَّ هَدْيَ غَيْرِ مُحَمَّدٍ أَفْضَلُ مِنْ هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ أَحْسَنْ؛ أَوْ زَعَمَ أَنَّهُ لا يَسَعُ النَّاسَ في مِثْلِ هَذِهِ العُصُورِ إلا الخِروجُ عن الشريعةِ، وَأَنَّهَا كَانَتْ كافيةٌ في الزَّمَانِ الأَوَّلِ فَقَطْ وَأَمَّا في هَذِهِ الأزْمِنَةِ فَالشَّرِيعَةِ لا تُسَايِرُ الزَّمَنَ ولا بُدَّ مِنْ تَنْظِيمِ قَوَانِينِ بِمَا يُنَاسِبُ الزَّمَنُ، فَلا شَكَّ أَنَّ هَذا الاعْتِقَادِ إِذَا صَدَرَ مِنْ إِنْسَانٍ فَإِنَّهُ قَدْ اسْتَهَانَ بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَتَنَقَّصَهُمَا وَلا شَكَّ في كُفْرِهِ وَخُروجِهِ مِنْ الدِّينِ الإسْلامِي بالكُلِّيَّةِ.
وَكَذَلِكَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُحْتَاج لِلشَّرِيعَةِ فِي عِلْمِ الظَّاهِرِ دَوُنَ البَاطِنْ، أَوْ فِي عِلْمِ البَاطِنِ فَقَطْ أَوْ فِي عِلْمِ الشَّرِيعَةِ دُونَ عِلْمِ الْحَقِيقَةِ أَوْ أَنَّ هَذِهِ الشَّرَائِعِ غَيْرَ مَنْسُوخَةٍ بِدِينِ مُحَمَّدٍ، أَوْ اسْتَهَانَ بِدِينِ الإِسْلامِ، أَوْ تَنَقَّصَهُ أَوْ هَزَلَ بِهِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ شَرَائِعِهِ أَوْ بِمَنْ جَاءَ بِهِ وَكَذَلِكَ أَلْحَقَ بَعْضُ العُلَمَاءِ الاسْتِهَانَةِ بِحَمَلَِتهِ لأَجْلِ حَمْلِهِ فَهَذِهِ الأمورُ كُلُّهَا كُفْر. قَالَ تَعَالَى:{قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} .
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَا وَفَّقْتَ إِلَيْهِ القَوْم وَأَيْقِظْنَا مِنْ سِنَةِ الغَفْلَةِ وَالنَّوْم وَارْزُقْنَا الاسْتِعْدَادَ لِذَلِكَ اليَوْمِ الذِي يَرْبَحُ فِيهِ الْمُتَّقُونَ، اللَّهُمَّ عَامِلْنَا بِإحْسَانِكَ وَجُدْ عَلَيْنَا بِفَضْلِكَ وَامْتِنَانِكَ وَاجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الذِينَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِم وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، اللَّهُمَّ ارْحَمْ ذُلَّنَا بَيْنَ يَدَيْكَ وَاجْعَلْ رَغْبَتَنَا فِيمَا لَدَيْكَ وَلا تَحْرِمْنَا بِذُنُوبِنَا، وَلا تَطْرُدْنَا بِعُيوبِنَا، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ
مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فصل)
وَقَالَ فِي تَحْذِيرِ أَهْلِ الإِيمَانِ عَنِ الحُكْمِ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ بَعْدَ سِيَاقِهِ لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} الآيتين. ثُمَّ لَوْ لَمْ يَكُنْ في القُرْآنِ الْمَجِيدِ فِي الزِّجْرِ عَنِ إتِّبَاعَ القَوَانِينِ البَشَرِيَّةِ غَيْرُ هَذِهِ الآيةِ الكَرِيمَةِ لَكَفَتْ العَاقِلَ اللَّبِيبَ الذي أُوتِيَ رُشْدَهُ وَأَهَمَّهُ صَلاحُ قَلْبِهِ عَنْ تَطَلُّبِ غَيْرِهَا فَكِيفَ وَالقُرْآنِ كُلَّهُ يَدْعُو إِلى تَحْكِيمِ مَا أَنْزَلَ اللهُ وَعَدَمِ تَحْكِيمِ مَا عَدَاهُ، إِمَّا تَصْرِيحًا وَإِمَّا تَلْوِيحًا وَلَهُ جَاهَدَ وَيُجَاهِدُ مِنْ عِبَادِ اللهِ الْمُتَّقِينَ مِنْ لَدُنْ بُعِثَ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم إلى يومِ تَقُومُ السَّاعَةِ.
وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «لا تَزَالُ طَائِفَةُ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرينَ عَلَى الْحَقِّ لا يَضُرَّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلا خِلافُ مَن خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأتِيَ أَمْرُ اللهِ» . وَأَنَّهُ قَالَ: «لا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلى ضَلالَةٍ» . فعَلَمِنْاَ بِذَلِكَ أَنَّ مِنَ الْمُمْتَنِعُ بِالسَّمْعِ أَنْ يَتَمَالأ العَالَمُ كُلَّهُمْ شَرْقًا مِنْ أُمَّةِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم عَلَى إتِّبَاعِ القَوَانِينِ البَشَرِيَّةِ وَعَدَمِ الْمُبَالاةِ بالْحُكْمِ الشَّرْعِي بَلْ لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ وَلَوْ وَاحدٌ يُنْكِرُ عَلَى هَؤلاءِ الكُلِّ إِمَّا بِلِسَانِهِ إِنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَفْتِكُوا بِهِ وَإِمَّا بِقَلْبِهِ وَظَنَّ الفَتْكَ بِهِ كَمَا قَدْ كَانَ أَيَّامَ الاسْتِبْدَادِ.
وَالغَرَضُ بَيَانُ أَنَّ طَائِفَةً عَلَى الْحَقِّ لا تَزَالُ تُقَاتِلُ وَتُجَاهِدُ عَلَى تَحْكِيمِ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِاللِّسَانِ وَالبَيَانِ وَالبَدَنِ وَالسِّنَانِ وَالمالِ وَكلِّ مُمْكِنٍ لِنَوْعِ الإِنْسَانِ وَأَنَّ بِهِ يتِمُّ نِظَامُ العَدْلِ وَالْمُلْكِ وَالدِّينِ وَالدُّنْيَا وَبِهِ يَسْتَقِيمُ أَمْرُ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ وَتَكْمُلَ لَهُمُ الرَّاحَةُ وَالأَمْنُ وَالْحُرِّيَةُ التَّامَةُ وَالسِّيَاسَةُ العَامةُ لِجَمِيعِ الْمِلَلِ والرِّعَايَا الْمُخْتَلِفَةِ الأَصْنَافِ وَالألْسِنَةِ وَالأَمزِحَةِ.
وَمَنْ شَكَّ فِي هَذَا فَلْيَنْظُرِ الفَرْقَ بَيْنَ حَالِ الإِسْلامِ في هذه القُرُونِ الْمُتَأَخّرَةِ التِي عُطَّلَتْ فِيهَا حُدُودُ الشَّريعَةِ وَأَحْكَامُهَا وَحَالِهِ فِي القُرُونِ الْمُتَقَدِّمَةَ التِي مَا كَانَتْ عَلَى شَيءٍ أَحْفَظُ مِنْهَا عَلَى أَحْكامِ الشَّريعَةِ وَأَرْعَى لَهَا يَجِدِ الْفَرقَ كَمَا بَيْنَ الثَّرَى وَالثُّرَيَّا، وَكَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرضِ وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
نَزَلُوا بِمَكَّةَ في قِبَائِلِ هَاشِمٍ
…
وَنَزَلْتُ بِالْبَيْدَاءِ أَبْعَدَ مَنْزِل
أَلا تَرَى أَنَّ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم بَعْدَ وَفَاةِ نَبِيِّهَمْ صلى الله عليه وسلم فَتَحُوا مَا فَتَحُوا مِنْ أَقَالِيم البُلْدَانِ وَنَشَرُوا الإِسْلامَ وَالإيمان والقُرآنِ في مُدَّةِ نَحْوِ مائِةِ سَنَةٍ مَعَ قِلَِّة عَدَدِ الْمُسْلِمِين وَعُدَدِهِمْ وَضِيقِ ذَاتِ يدِهمْ وَنَحْنُ مَعَ كَثْرَةِ عُدَدِنَا وَوَفْرَةِ عَدَدِنَا وَهَائِلِ ثَرْوَتِنَا وَطَائِلِ قَوَّتِنَا لا نَزْدَادُ إلا ضُعْفًا وَتَقَهْقُرًا إلى الوَرَى وَذُلاً وَحَقَارَةً في عيُونِ الأَعْدَاءِ ذَلِكَ لأَن مَنْ لا يَنْصُرُ دِينَ الله لا يَنْصُرُهُ اللهُ قَالَ اللهُ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} فَرَتَّب نَصْرَهم على نَصْرِهِ بِإقَامَةِ طَاعَتهِ وَطَاعَةِ رَسُولِه.
وَقَالَ شَيْخُ الإِسْلامَ رحمه الله عَلَى قَوْلِهِ تَعَالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} .
فَمَنْ لَمْ يَلْتَزِمُ تَحْكِيمِ اللهِ وَرَسُولِهِ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهم فَقَدْ أَقْسَمَ سُبْحَانَهُ بِنَفْسِهِ أَنْ لا يُؤْمِنُوا. وَأَمَّا مَنْ كَانَ مُلْتَزِمًا لِحُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا لِكَنْ عَصَى وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَهذَا بِمَنْزِلَةِ أَمْثَالِهِ مِنْ العُصَاة فَمَنْ لَمْ يَلْتَزِمُ حُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ فَهُوَ كَافرُ وَهَذَا وَاجِبٌ عَلَى الأُمَّةِ في كلِّ مَا تَنَازَعَا فِيهِ مِنْ الأُمُورِ الاعْتِقَادِيَّةِ وَالعَمَليّةِ.
فالأُمُورُ الْمُشْتَرِكَةُ بَيْنَ الأُمَّةِ لا يُحْكَمُ فِيهَا إِلا بالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَيْسَ لأحَدٍ
أَنْ يُلْزِمَ النَّاسَ بِقَوْلِ عَالِم ولا أَمِيرٍ ولا شَيخٍ ولا مَلِكٍ وَحُكَّامُ المسلمينَ في الأمُورِ المُعَيَّنَةِ لا يَحْكُمونَ في الأمورِ الكُلِّيَةِ وَإِذَا حَكمَوا في الْمُعِينَاتِ فَعَليهِمْ أَنْ يَحْكُمُوا بِمَا في كِتَابِ اللهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبِمَا في سُنَّة َرسولِ اللهِ فَإِنْ لَمْ يَجِدُوا اجْتَهَدَ الْحَاكمُ بِرأيه. انتهى.
لأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لِمَا بَعَثَ مُعَاذًا إلى اليمنِ قَالَ: «بِمَ تَحْكُمْ» ؟ قَالَ بِكِتَابِ اللهِ «فَإِنْ لَمْ تَجِدْ» ؟ قَالَ: بِسنةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «فَإِنْ لَمْ تَجِدْ» ؟ قَالَ: أجْتَهِدُ رَأَيِي. قَالَ: «الْحَمْدُ اللهِ الذي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِمَا يُرْضِي رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم» .
وفي كِتَابِ عُمْرَ بِنْ عَبْدِ العزيزِ إلى عُرْوَة كَتَبْتَ إليَّ تَسْأَلَنِي عَنْ القضاءِ بَيْنَ النَّاسِ وَإِنَّ رَأَسَ القَضَاءِ إِتَّبَاعُ مَا فِي كِتَابِ اللهِ ثُمَّ القَضَاءُ بِسُنَّةِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ بِحُكمِ أَئِمَّة الْهُدَى ثُمَّ اسْتِشَارَةِ ذَوِي العلمِ وَالرَّأيِ وَذُكِرَ عَنْ سُفْيَانَ ابنُ عُيَينَةِ قَالَ: كَانَ ابنُ شُبْرَمَةَ يَقُولَ:
مَا في القَضَاءِِ شَفَاعَةٌ لِمُخَاصِمٍ
…
عِنْد اللَّبِيبِ ولا الفَقِيهِ العَالِمِ
هَوِنْ عَلَيَّ إِذَا قَضَيْتُ بِسُنَّةٍ
…
أَوْ بالكِتَابِ بِرَغْمِ أَنْفِ الرَّاغِمِ
وَقَضَيْتُ فِيمَا لَمْ أَجِدْ أَثَرًا بِهِ
…
بِنَظَائِرِ مَعْرُوفَةٍ وَمَعَالِمٍ
وَعَنْ بن وَهْبِ قَالَ: قَالَ مَالِكُ: الْحُكْمُ حُكْمَانِ حُكْمٌ جَاءَ بِهِ كِتَابَ اللهَ، وَحُكْمُ أَحْكَمَتَّهُ السُّنَة، قَالَ: وَمُجْتَهِدٌ رَأْيَهُ فَلَعَلَّهُ يُوَفقْ.
وَقَالَ ابنُ القَيِّمِ رحمه الله عَلى قَوْلِهِ تَعَالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} الآية: فَأَقْسَمَ سُبْحَانَه بَأَجلِّ مُقْسَمٍ بِهِ وَهُو بِنَفْسِهِ عز وجل عَلَى أَنَّهُ لا يَثْبُتُ لَهُمُ إيمَانَ ولا يَكُونُونَ مِنْ أَهْلِِهِ حَتَّى يُحَكِّمُوا الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم في جميعِ مَوَارِدِ النِّزَاعِ في جميعِ أَبْوَابِ الدِّينَ فَإِنَّ لَفْظَةَ (مَا) مِنْ صِيغِ العُمُوم تَقْتَضِي نَفْيَ الإِيمَانِ أَوْ يُوجَدَ تَحْكِيمُهُ في جميعِ مَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ.
وَلَمْ يَقْتَصِر عَلَى هَذا حَتَّى ضَمَّ إليه انْشِرَاحُ صُدِورِهم بِحُكْمِهِ حَيْثُ لا
يَجِدُونَ فِي أَنْفُسِهم حَرَجًا وَهُو الضيقُ وَالحَصْرُ مِنْ حُكْمِه بَلْ يَقْبَلُوا حُكْمَهُ بالانْشِرَاحِ وَيُقَابِلُوهُ بِالتَّسْلِيمِ لا أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَهُ على إغْمَاضِ وَيَشْرَبُونَ عَلى قَذَيّ فَإِنَّ هَذَا مُنَافٍ للإيمَان بَلْ لا بدُ أَنْ يَكُونَ أَخْذُهُ بِقُبولٍ وَرِضَا وانْشِرَاحِ صُدُورٍ.
وَمَتَى أَرَادَ العَبْدُ أَنْ يَعْلَم هَذَا فَلْيَنْظُر في حالِهِ وَيُطَالِعُهُ في قَلْبِهِ عِنْدَ وُرُودِ حُكْمِهِ عَلَى خِلافِ هَواهُ وَغَرضِهِ فَسُبْحَانَ اللهِ كَمْ مِنْ حَزَازَةِ فِي نُفُوسِ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ مِنْ كَثِيرٍ النُّصُوصِ وَبِودِّهِمْ أَنْ لَوْ لَمْ يَرِدْوَكَمْ مِنْ حَرَارَةٍ في أَكْبَادِهِم مِنْهَا وَكَمْ مَنْ شَجَى فِي حُلُوقِهِم مِنْهَا وَمِنْ مُوْرِدَهَا سَتَبْدُوا لَهَمْ تِلَكَ السَّرَائِرُ بالذي يَسُوءُ وَيُخْزِي يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرِ.
ثُمَّ لَمْ يَقْتَصرُ سُبْحَانَهُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى ضَمَّ إليهِ قَوْلَه تعالى: {وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} فذكرَ الفِعْلَ مُؤَكَّدًا بِمَصْدَرِهِ القَائِم مَقَامَ ذِكْرُهِ مَرَّتِين وَهُوَ الخُضُوعُ لَهُ والانقيادُ لِمَا حَكَمَ بِهِ طَوْعًا وَرِضًا وَتَسْلِيمًا لا قَهْرًا وَمُصَابَرَةً كَمَا يُسْلِمُ المقهُورُ لِمَنْ قَهَرَهُ كُرْهًا بَلْ تَسْلِيمَ عَبْدٍ مُطِيعٍ لِمَوْلاهُ وَسَيِّدِِهِ الذِي هُوَ أَحَبُّ شيء إليهِ يَعْلَمُ أنّ سَعَادَتَهُ وَفَلاحهَ في تَسْلِيمهِ إِلَيْهِ وَيَعْلَمُ بأنَّهُ أَوْلى بِهِ مِنْ نَفْسِهِ وَأَبَرَّ بِهِ مِنْهَا وأرْحَمُ بِهِ مِنْهَا وَأَنْصَحَ لَهُ مِنْهَا وَأَعْلَمُ بِمَصَالِحِهِ مِنْهَا وَأَقْدَرَ على تَخْلِيصِهَا.
وَأمَّلْ لِهَذَا الْمَعْنَى المذكُورِ في الآيةِ بوجُوهٍ عَدِيدَةٍ مِنْ التَّأَكِيدِ أولها تصديرُها بالقسم يَتضَّمَّن الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُه: لا يظمنون، وثانيها: تأكيده بنفس القسم، وثالثها: تأكيده بالمُقْسَمِ بِهِ وَهُوَ إقْسَامهُ بِنَفْسِهِ لا بشيَءٍ من مَخْلُوقَاتِهِ، ورَابعًا: تأكِيدُه بانتِفاءِ الحَرَجِ وَهُوَ وُجُودُ التَّسْلِيم، وخامُسُها: تأكيدُ الفِعْل بالْمَصْدَرِ ومَا هَذا إلا لِشِدَّة الحاجةِ إلى هذا الأمْرِ العَظِيمِ وَأَنَّهُ مِمَّا يُعْتَنَى بِهِ وَيُقَرَّرُ في نُفُوسِ العِبَادِ. وَاللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمِ.
(فصل)
وَقال رحمه الله: لَمَّا أَعْرَض النَّاسُ عَنْ تَحْكِيمِ الكِتَابِ وَالسُّنةِ وَالْمُحَاكَمَةِ إِلَيْهِمَا وَاعْتَقَدُوا عَدَمَ الاكْتِفَاءِ بِهِمَا وَعَدلوا إلى الآرَاءِ وَالقياسِ وَالاسْتِحْسَانِ وَأَقْوَالِ أَهْلِ الآرَاءِ عَرَضَ لَهَمْ مِنْ ذَلِكَ فَسَادٌ في فِطَرِهِمْ وَظُلْمَةٌ في قُلُوبِهم وَكَدَرٍ في أفْهَامِهِمْ وَمَحْقٍ في عُقُولِهِم فَعَمَّتْهمُ هَذِهِ الأُمُورُ وَغَلَبَتْ عَلَيْهِمْ حَتَّى رَبَّى فِيهَا الصَّغِيرُ وَهَرِمَ عَلَيْهَا الكَبِيرُ فَلَمْ يَرَوْهَا مُنْكَرًا.
فَجَاءَتهمْ دَوْلَةٌ أُخْرَى أَقَامَتْ فِيهَا البِدَعَ مَقَامَ السُّنَن، والْهَوى مَقَامَ الرُّشْدِ، وَالضَّلالَ مَقَامَ الْهِدَايَةِ، والْمُنْكَرَ مَقَامَ الْمَعْرُوفِ، وَالْجَهْلَ مَقَامَ العِلْمِ، وَالرِّيَاءِ مَقَاَم النَّصِيحَةِ، وَالظُلْمَ مَقامَ العَدْلِ، فَصَارَتْ الدَّولَةُ وَالْغَلَبَةُ لِهَذِهِ الأُمُور وَأَهْلُها هُمُ الْمُشَارُ إليهم.
فَإِذَا رَأَيْتَ هَذِهِ الأُمُورَ قَدْ أَقْبَلَت وَرَايَاتِهَا قَدْ نُصِبَتْ وَجُيُوشَهَا قَدْ رَكِبَت فَبْطنُ الأَرْضِ واللهِ خَيْرٌ مِنْ ظَهْرها وَقُلل الجبالِ خَيْرٌ مِنْ السُّهولِ وَمُخَالَطَة الوَحْش أسْلَمُ مِنْ مُخَالَطَةِ النَّاسِ.
اقْشَعْرَّتِ الأَرْضُ وَأظْلَمَتِ السَّمَاءُ وَظَهَرَ الفَسَادُ في البرِّ وَالبَحْرِ مِنْ ظُلْمِ الفَجَرَةِ، وَذَهَبَتْ البَرَكَاتُ وَقلّتِ الْخَيْرَاتُ، وَهَزلَتِ الوحْشُ وَتَكَدَّرْتِ الْحَيَاةُ مِنْ فِسْقِ الظَّلَمةِ وَبَكَى ضُوءُ النَّهَارِ وَظُلْةُ اللَّيْل مِنْ الأَعْمَالِ الْخَبِيثَةِ والأَفْعَالِ الفَظِيعَةِ، وَشَكَا الكِرَامُ الكَتابُونَ وَالْمُعَقَّباتُ إلى رَبِّهم مِنْ كَثْرَةِ الفَواحِشِ وَغَلَبَةِ الْمُنْكَرَاتِ وَالقَبَائِحْ.
وَهَذَا وَالله مُنْذِرُ بِسَيْلِ عَذَابٍ قَدْ انْعَقَدَ غَمَامُهُ وَمُؤذِنٌ بَلِيْلِ قَدْ ادْلَهَمَّ ظَلامُهُ فَاعْزِلوا عَنْ طَرِيق هذا السَّيلُ بِتَوْبَةٍ نَصُوحٍ مَا دَامتِ التَّوبَةُ مُمْكِنَةٌ وَبَابُها مَفْتُوحًا وَكَأَنَّكُمُ بِالْبَابِ وَقَدْ أَغُلِقُ وَبالرَّهْنِ وَقَدْ غَلِقَ وَبِالْجِنَاحِ وَقَدْ عَلِقَ وَسَيَعْلَمُ الذِين ظَلَمُوا أيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُون.
وَقَالْ:
واللهِ مَا خَوْفِي الذُّنُوبَ فَإِنَّها
…
لَعَلَى سَبِيلِ الْعَفْوِ وَالغُفْرَانِ
لَكِنَّمَا أَخْشَى انْسِلاخَ القَلْبِ مِنْ
…
تَحْكِيمِ هَذَا الوحْي والقُرْآنِ
وَرِضَا بآرَاءَ الرِّجَالِ وَخُرْصِهَا
…
لا كَانَ ذَاكَ بِمِنَّةِ الْمَنَّانِ
فَبأيّ وَجْهٍ أَلْتَقِي رَبِّي إِذَا
…
أَعْرَضْتُ عَنْ ذَا الوَحْي طُولَ زَمَانِ
وَعَزْلتُهُ عَمَّا أُرِيدُ لأَجْلِهِ
…
عَزْلاً حَقِيقِيًا بلا كِتْمَانِ
اللَّهُمَّ ألْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَوَفِّقْنَا لِلْقِيَامِ بِحَقِّكَ وَبَارِكْ لَنَا فِي الْحلال مِنْ رِزْقَكَ وَلا تَفْضَحْنَا بَيْنَ خَلْقِكَ، يَا خَيْرَ مَنْ دَعَاهُ دَاعٍ وَأَفْضَلَ مَنْ رَجَاهُ رَاجٍ، يَا قَاضِيَ الْحَاجَاتِ وَمُجِيب الدّعَواتِ هَبْ لَنَا مَا سَأَلْنَاهُ وَحَقِّقْ رَجَاءَنَا فِيمَا تَمَنَّيْنَاهُ يَا مِنْ يَمْلِكُ حَوائِجَ السَّائِلين وَيَعْلَمُ مَا فِي ضَمَائِر الصَّامِتِينَ أَذِقْنَا بِرْدَ عَفْوِكَ وَحَلاوَةَ مَغْفِرَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ أَجْمَعِينَ.
(فصل في ذكر طرق مما حدث في بعض السنين من الأزبية والأمراض)
أْجْدَبَتِ الأَرضُ في سنةِ ثماني عشرة فكانت الريحُ تسقِي تُرابًا كالرماد فسُمِّي عامَ الرمادة وجعلتِ الوحُوشُ تَأْوِي إلى الإنس، فآلىَ عُمَرُ ألا يذوق سمنًا ولا لبنًا ولا لحمًا حتى يحيى الناسُ واستسقَى بالعباس فَسُقُوا.
وفيها كان طاعون عَمَواسٍ مات فيه أبُو عُبيدةَ، ومُعَاذُ، وأَنسُ وفي سنة أربع وستين وقع طاعون بالبصرة وماتَتْ أُمُ أمِيرِهِم فما وَجَدُوا من يَحْمِلَها.
وفي سنة ست وتسعين كان طاعون الجارفُ هَلكَ في ثلاثة أيامٍ سَبْعُونَ ألْفًا وماتَ فيه لأَنَسٍ ثَمَانُون ولَدًَا وكانَ يموتُ أهلُ الدارِ فَيُطَيَّنُ البابُ عليهم.
وفي سنة إحدى وثلاثين ومائة ماتَ أول يوم في الطاعون سَبْعُونَ ألْفًا في الثاني نَيِّفٌ وسبعون ألفًا وفي الثالث خمد الناس.
وفي سنة أربع وثلاثين وثلاث مائة ذُبِحَ الأطفالُ وأُكِلَتُ الجيفُ وبيعَ العَقَارُ بِرُغْفَان واشْتَرى لِمُعِزِّ الدَّوْلَة كَرُّ بِعَشْرِينَ أَلفٍ دَرهم.
وفي سنة أربع وأربعين وثلاثمائة أصابَ أهل البصرةِ حَرٌّ فكانوا يتساقطون مَوْتَى في الطُّرقَاتِ.
وفي سنة ثمان وأربعين وأربعمائة عَمَّ القُحْفُط فأُكِلتِ الميتةُ وبلغ المكوك من برز البقلة سَبْعَ دَنَانِير، والسفر جَلَةُ، والرمانةُ دِينَارًا، والخيارةُ واللينوفرةُ دينارًا، وَوَرَدَ الخبرُ من مِصر بأن ثلاثةً مِن اللُّصُوص نَقَبُوا دَارًا فوُجِدُوا عندَ الصباح مَوْتَى أحَدُهم على بابِ النقبِ، والثاني على رَأْسِ الدَّرَجَةِ، والثالثُ على الثياب الْمُكَوَّرَةِ.
وفي السنة التي تليها وقعَ وَبَاءٌ فكان تُحْفَرُ زِيبةٍ لِعَشْرِينَ وَثَلاثِينِ فَيُلْقَونَ فِيها وتابَ الناسُ كُلُّهم وَأَرَاقُوا الخمورَ وَلزِمُوا المساجدَ.
وفي سنة ستٍ وخمسينَ وأرْبِعِمِائةٍ وَقَعَ الوَبَاءُ وَبَلَغَ الرطلُ من التمرِ الهِندي أربعةَ دَنانير وفي سنة اثنتين وستين وأربعمائة اشتد الجُوعُ والوَبَاءُ بِمِصْرِ حتى أَكلَ النَّاسُ بَعضُهم بَعْضًا وبيع اللَّوزُ وَالسُّكَّر بِوَزْنِ الدَّرَاهِم والبيضةُ بِعَشْرَةِ قَراريط وَخَرَجَ وَزِيرُ صَاحِب مَصْر إليه فنزلَ عَنْ بَغْلَتِهِ فأخَذَهَا ثَلاثَة فأَكَلُوها فَصُلَبُوا فأَصْبَحَ الناسُ لا يَرَوْنَ إلا عِظَامَهُمَ تَحْتَ خَشَبِهِم وَقَدْ أُكِلُوا، وَفِي سَنة أربع وستين وأربعمِائة وقعَ الموتُ في الدوابِ حَتَّى إِنَّ رَاعِيًا قامَ الغنمِ وَقْتَ الصباحِ لِيَسُوقَهَا فَوَجَدوهَا كُلَّها مَوْتَى. ذكر ذلك ابن الجوزي رحمه الله.
وفي سنة أربع وثلاثين وثلاثمائةٍ وَقَعَ غَلاءٌ شَدِيدِ ببغداد حتى أَكَلُوا الميتةَ وَالسَّنَانيرَ والكلابَ، وَكَان مِن النَّاس مَنْ يَسْرِقُ الأولادَ فَيَشْوِيهِم ويأَكْلُهُم.
وَكَثُرَ الوَبَاءُ في الناس حتى كان لا يَدْفُنُ أحَدٌ أَحَدًا بَلْ يُتْركُونَ على الطرق فَيَأَكلُ كَثِيرًا منهم الكلاب.
وبِيعَةُ الدُّور بالخُبْزِ وانْتَجَع الناسُ إلى البَصْرة فكان منهم من ماتَ في الطريق.
وذَكَرَ رحمه الله أن في سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة في جماد الأولى غَلَتِ الأسعارُ ببغداد جِدًا وكَثُرت الأمطارُ حَتى تهدم البناء ومات كَثيرٌ مِن الناس تحتَ الهدم وتَعَطَّلَت أكثرُ المساجد مِن قلة الناس.
وَنَقَضَتْ قيمةُ العقار حتى بيع منه بالدرهم ما يُسَاوي الدينار وخَلَت الدُّور وكان الدَّلالُون يُعْطُونَ مَنْ يَسْكنُها أُجْرَةً لَيَحْفَظَها مِن الداخلين إليها ليُخَرِّبُوهَا.
وكَثُرَتِ الكَبَسَاتُ مِن اللَّصُوص بالليل حتى كان الناس يَتَحَارسُون وكُثرتِ الفِتنُ مِن كُلِّ جِهة فإِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ. أ. هـ.
وفي سنة ثلاثٍ وثلاثين وخمسمائة كانت زَلْزَلَةٌ عظيمةٌ بمدينةِ جَبْرَتْ فماتَ بِسَبَبِهَا مائتا ألف وثلاثون ألفًا وصَار مكانها ماءً أسودَ عَشَرَةَ فَرَاسِخَ فِي مثلها.
وزُلْزلَ أَهلُ حَلَب في لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ ثَمانينَ مَرَّة فوضعَ السلطانُ مَحْمُودُ مُكُوسًا كثيرةً على الناس وكَثُرِت الأدعيةُ لَهُ.
قال: وفي سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة كانت زلزلةٌ عظيمةٌ بالشام هَلَكَ بسببها خَلْقٌ كثير لا يَعلَمُهم إلا الله.
وتَهدَّمَ أكثرُ حَلَب وحَماة وشِيرز وحِمص وكَفَر طَابَ وَحِصْن الأكراد والْمَعَرَّة وقَامِيَة واللاذقِيَّة وأنطاكية وطَرَابُلس.
قال: وقال ابنُ الجوزي: وأما قَامِية فَسَاخَت قَلْعَتُهَا، وتل حران انقسم قسمين فأبْدَى نَوَاوِيسَ وبُيوت كثيرة في وسطه.
وتَهَدَّمَتْ أَسْوَارُ أكثرِ مُدُنِ الشَّامِ حتى أن مَكْتبًا مِن مدينة حَماة انْهدم على مَن فِيهِ مِنْ الصغار فَهَلَكُوا عن آخِرهم.
وفي سنة أربع وعشرين ومائتين زلزلة فرغانة فمات فيها خمسة عشر ألفًا.
وفي السنة التي تليها رجفت الأهوازُ وَتَصَدَّعَتِ الجبالُ وهَرَبَ أَهْلُ البلد إلى البحر والسفن ودامت ستة عشر يومًا.
وفي السنة التي تليها مطر أهل تيما مطرًا وبردًا كالبيض فقتل به 370 إنسانًا. وسمع في ذلك صوت يقول: ارحم عبادك، اعف عن عبادك. ونظروا إلى أثر قَدِمٍ طولها ذراعٌ بلا أصابع وعَرْضُهَا شِبْرٌ وبين الخطوتين خمسة أذرع أو ستة. فاتبعوا الصوت فجعلوا يسمعون صوتًا ولا يرون شخصًا.
وفي سنة 233 رجفت دمشق رجفة انقضت منها البيوت وسقطت على من فيها فمات خلق كثير. وأنكفأت قرية في الغوطة على أهلها فلم ينج منهم إلا رجل واحد. وزلزلت أنطاكية فمات منها عشرون ألفًا.
وفي السنة التي تليها هبت ريح شديدة لم يعهد مثلها فاتصلت نيفًا وخمسين يومًا. وشملت بغداد والبصرة والكوفة وواسط وعبادان والأهواز، ثم ذهبت إلى همدان فأحرقت الزرع، ثم ذهبت إلى الموصل فمنعت الناس من السعي وتعطلت الأسواق، وزلزلت هراة فوقعت الدور.
وذكروا أشياء كثيرة غريبة عجيبة يطول ذكرها اقتصرنا منها على هذا الطرف اليسير الذي ربما يكون سببًا للاعتبار والتيقظ والرجوع إلى الله.
نسأل الله الحي القيوم العلي العظيم الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد أن يوقظ قلوبنا ويستر عيوبنا ويغفر ذنوبنا ويثبتنا على قوله الثابت في الحياة الدنيا والآخرة إنه سميع قريب على كل شيء قدير.
شِعْرًا:
صَرَفْتُ إلى رَبِّ الأَنَامِ مَطَالِبِي
…
وَوَجَّهْتُ وَجْهِي نَحْوَهُ وَمَآرِبِي
إلى الْمَلِكِ الأَعْلَى الذِي لَيْسَ فَوْقَهُ
…
مَلِيكٌ يُرَجَّى سَيْبُهُ في الْمَتَاعِبِ
إلى الصَّمَدِ البَرِّ الذِي فَاضَ جُودُهُ
…
وَعَمَّ الوَرَى طُرًا بِجَزْلِ الْمَوَاهِبِ
مُقِيلفْي إِذَا زَلَّتْ بِي النَّعْلُ عَاثِرًا
…
وَأَسْمَحَ غَفَّارٍ وَأَكْرَمْ وَاهِبِ
فَمَا زَالَ يُولِينِي الْجَمِيلَ تَلَطُّفًا
…
وَيَدْفَعُ عَنِّي فِي صُدُورِ النَّوَائِبِ
وَيَرْزُقْنِي طِفْلاً وَكَهْلاً وَقَبْلَهَا
…
جَنِينًا وَيَحْمِينِي وِبِيَّ الْمَكَاسِبِ
إِذَا أَغْلَقَ الأَمْلاكُ دُونِي قُصُورَهُمْ
…
وَنَهْنَهَ عَنْ غِشيانِهِمْ زَخْرُ حَاجِبِ
فَزِعْتُ إلى بَابِ الْمُهَيمِنِ طَارِقًا
…
مُدِلاً أُنَادِي باسْمِهِ غَيْرَ هَائِبِ
فَلَمْ أَلَفِ حُجَّابًا وَلَمْ أَخْشَ مِنْعَةً
…
وَلَوْ كَانَ سُؤلِي فَوْقَ هَامِ الكَوَاكِبِ
كَرِيمٌ يُلَبِّي عَبْدَهُ كُلَّمَا دَعَا
…
نَهَارًا وَلَيْلاً في الدُّجَى وَالغَيَاهِبِ
سَأسْألَهُ مَا شِئْتُ إِنَّ يَمِينَهُ
…
تَسِحُّ دِفَاقًا بِاللُّهَيِّ وَالرَّغَائِبِ
فَحَسْبِي رَبِّي الْهَرَّاهِزِ مَلْجًأ
…
وَحِرْزًا إِذَا خِيفَتْ سِهَامُ النَّوَائِبِ
اللَّهُمَّ انْفَعْنَا بِمَا عَلَّمْتَنَا وَعَلِّمْنَا مَا يَنْفَعْنَا وَوَفِّقْنَا لِلْعَمَلِ بِمَا فَهَّمْتَنَا اللَّهُمَّ إِنْ كُنَّا مُقَصِّرينَ فِي حِفْظِ حَقِّكَ وَالوَفَاءِ بِعَهْدِكَ فَأَنْتَ تَعْلَمُ صِدْقَنَا فِي رَجَاءِ رِفْدِكَ، وَخَالِص وُدِّكَ، اللَّهُمَّ أَنْتَ أَعْلَمُ بِنَا مِنَّا فَبِكَمَالِ جُودِكَ تَجَاوَزْ عَنَّا، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ. اللَّهُمَّ وَفِقنا لِمَا وَفَّقْتَ إِلَيْهِ القَوْم وأيْقِظْنَا مِن سِنةِ الغَفْلَةِ وَالنَّوْم وَارزِقْنَا الاستعدادَ لذَلِكَ اليَوْم الذي يَرْبَحُ فيه المُتَّقُونَ، اللَّهُمَّ وعامِلنَا بإِحْسَانِكَ وَجُدْ علينا بِفَضْلِكَ وامْتِنَانِكَ واجعلنا مِن عِبادِكَ الذين لا خَوفٌ عليهم ولا هُمْ يَحْزَنُون، اللَّهُمَّ ارحَمْ ذُلَّنَا بَيْنَ يَدَيْكَ واجعلْ رَغْبَتَنَا فِيما لَدَيْكَ، ولا تَحرِمِنَا بِذُنوبنا، ولا تَطْرُدْنَا بعُيوبِنا، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْياءِ مِنْهُمْ وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فصل)
وقَالَ الشَّيخُ مُحَمَّدٌ بن إبْرَاهِيمَ في رَدّه على مُحَكِّمِي القَوَانِين: إنَّ مِنَ الكُفْر الأكْبَرَ الْمُسْتَبِينِ تَنْزيلُ القَانُونِ اللَّعِينِ مَنْزِلَةَ مَا نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ عَلَى قَلْبِ محمدِ صلى الله عليه وسلم لِيَكُونَ مِنْ الْمُنْذِرِين بلسانٍ عَربي مبينٍ في الحُكْمِ بِهِ بَيْنَ العالمين والرَّدِ إلَيْهِ عِنْدَ تَنَازُع المتنازعين مَنَاقَضَةً وَمُعَانَدَةً لِقَوْلِ الله عز وجل: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} .
وَقَدْ نَفى اللهُ سبحانه وتعالى الإيمانَ عَنْ مَنْ لَمْ يُحَكِّمُ النَّبِيَ صلى الله عليه وسلم فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهِمْ نَفْيًا مُؤكَّدًا بِتَكَرُّرِ أَدَاةَ النَّفْيِ وَبِالقَسَم قالَ تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} .
قَالَ: وَتَأَمَّلْ مَا في الآية الأولى وَهِيَ قوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} الآية، كَيْفَ ذَكَرَ النَّكِرَةَ وَهِيَ قَوْلُه:{شَيْءٍ} في سِيَاق الشَّرطِ وَهو قوله جَلَّ شَأْنُهُ: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ} المفيدُ العُمُومِ فِيمَا يُتَصَوَّرُ التَّنَازُع فيه جِنْسًا وَقَدْرًا.
ثُمَّ تَأَمَّلْ كَيْفَ جَعَلَ ذَلِكَ شَرْطًا في حُصُولِ الإيمانِ بِاللهِ واليومِ الآخر بقولهِ: {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} ثُمَّ قَالَ جَلَّ شَأْنه: {ذَلِكَ خَيْرٌ} فَشَيْءُ يُطْلِقُ اللهُ عَلَيْهِ أَنَّهُ خَيْرٌ لا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ شَرٌّ أَبَدًا بَلْ هُوَ خَيْرٌ مَحْضٌ عَاجِلاً وَآجِلاً.
ثُمَّ قَالَ: {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} ، أي: عَاقِبةً في الدُّنْيَا والآخرةِ فَيُفِيدُ أَنَّ الرَّدَ إلى غَيْرَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ التَّنَازُع شَرٌّ مَحْضٌ وَأسْوأ عَاقِبةً في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ عَكْسَ مَا يَقُولُهُ الْمُنَافِقُونَ: {إِنْ أَرَدْنَا إِلَاّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} وَقَوْلِهِمْ: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} .
وَلِهَذَا رَدَّ اللهُ عليهم قَائِلاً: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لَاّ يَشْعُرُونَ} وَعَكْسُ مَا يَقُولُهُ القَانُونِيُّونَ مِنْ حُكْمِهِم عَلَى القَانُونِ بِحَاجَة العَالَم بَلْ ضَرُورَتِهم إلى التَّحَاكُمْ إِلَيْهِ وَهَذَا سُوءُ ظَن صِرْفٌ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وَمَحْضُ اسْتنِقاصٍ لِبَيان الله ورَسوله والحكم عليه بعدم الكِفَايَةِ للنَّاسِ عِنْدَ التَّنَازِعُ وَسُوءِ العَاقِبَةِ في الدُّنْيَا والآخِرَةِ إِن هَذَا لازِمٌ لَهُمْ.
قالَ: وَقَدْ نَفَى اللهُ الإيمانَ عَنْ مَنْ أَرَادَ التحاكُم إلى غَيرِ مَا جَاء بهِ الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم -
مِنْ المنافقينَ كَمَا قالَ تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالاً بَعِيداً} .
فإنَّ قَوْله: (يَزْعُمُونَ تَكْذِيبِ لَهُمْ فِيمَا ادَّعَوهُ مِنْ الإيمَانِ) فَإِنَّهُ لا يَجْتَمِعُ التَّحَاكُمِ إلى غَيرِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُ صلى الله عليه وسلم مَعَ الإِيمَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ أَصْلاً بَلْ أَحَدهُمَا يُنَافِي الآخَرَ وَالطَّاغُوتُ مُشْتَقٌ مِنْ الطُّغْيَانِ وَهُوَ مُجَاوَزَةُ الحَدِّ فَكُلُّ مَنْ حَكَمَ بِغَيْرِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم أَوْ حَاكَمَ إلَى غَيْرِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَقَدْ حَكَمَ بالطَّاغُوتِ وَحَاكَمَ إِلَيْهِ وَذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ حَقَّ كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَكُونَ إلى خِلافِهِ فَقَدْ طَغَى وَجَاوَزَ حَدَّهُ حُكْمًا أَوْ تَحْكِيمًا فَصَارَ بِذَلِكَ طَاغُوتًا لِتَجَاوُزِهِ حَدّه.
قَالْ: وَتَأَمَّلْ قَوْلُهُ عز وجل: {وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ} تَعْرِفُ مِنْهُن مُعَاندةَ القَانُونِيّينَ وَإِرَادَتَهُمْ خِلافَ مُرادِ اللهِ مِنْهُم حَوْلَ هَذَا الصَّدَدِ فَالْمُرَادُ مِنْهُمْ شَرْعًا وَالذِي تُعِبِّدوا بِهِ هُوَ الكُفْرُ بالطَّاغِوتِ لا تَحْكِيمُهْ {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} .
ثُمَّ تَأَمَّلْ قَوْلِهُ: {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالاً بَعِيداً} كَيْفَ دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ ضَلالٌ وَهَؤلاِء القَانُونِيُّون يَرْوَنَه مِن الْهُدى كَمَا دَلّتِ الآيَةُ على أَنَّهُ مِنْ إِرَادَةِ الشَّيْطَانِ هِيَ عَكْسُ مَا يَتَصَوَّرَهُ القَانُونِيُّونَ فَتَكُونُ عَلَى زَعمِهم مُرَادَاتُ الشَّيْطَانِ هِيَ صَلاحُ الإِنْسَانَ وَمُرَادُ الرَّحْمَنِ وَمَا بَعَثَ بِهِ سَيِّدَ وَلَدِ عَدْنَانَ مَعْزولاً مِنْ هَذَا الوصفِ وَمُنَحَّىً عن هَذَا الشَّأن.
وَقَدْ قَالَ تَعَالى مُنْكِرًا عَلَى هَذَا الضَّرْبَ مِنَ النَّاسِ وَمُقَرِّرًا ابْتِغَاءَهم أَحْكَامَ الْجَاهِليةِ وَمُوَضِّحًا أَنَّهُ لا حُكْمَ أَحْسَنُ مِنْ حُكمِهِ: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} .
فَتَأَمَّلْ هَذِهِ الآيةُ الكريمة وَكَيفَ دَلَّتْ أَنْ قِسْمَةَ الْحُكْمِ ثُنَائِيَّةْ وَأَنَّهُ لَيْسَ
بَعْدَ حَكْمِ اللهِ تَعَالى إلا حُكْمَ الْجَاهِليةَ الْمُوضِّحُ أَنَّ القَانُونِيُّينَ في زُمْرَةِ أَهْلِ الْجَاهِلَيةَ شَاءوُا أَمْ أَبَوا بَلْ هُمْ أَسْوَأُ حَالاً مِنْهُمْ وَأَكْذَبُ مِنْهُم مَقَالاً ذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِليةِ لا تَنَافُسَ لَدَيْهم حَولَ هَذَا الصَّدَدْ.
وَأَمَّا القَانُونِيُّونَ فَمُتَنَاقِضُونَ حَيْثُ يَزْعُمُونَ الإِيمَانَ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم وَيُنَاقِضُونَ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً، وَقَدْ قَالَ اللهُ في أمْثَالِ هَؤُلاءِ:{أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً} .
ثُمَّ انْظُر كَيْفَ رَدَّتْ هَذِهِ الآيَةُ الكريمةُ على القَانُونِيَّينَ ما زَعَمُوُهُ مِنْ حُسْنِ زُبَالةِ أَذْهَانِهِمْ وَنُحَاتَةِ أَفْكَارِهِمْ بِقَوْلِهِ عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} .
قَال الحَافِظُ بن كَثِيرٍ في تَفْسِيرِ هَذِين الآية: يُنْكِرُ تَعَالى عَلى مَنْ خَرَجَ مِنْ حُكْمِ اللهِ الْمُشْتَمِلُ عَلَى كُلِّ خَيْرٍ النَّاهِي عَنْ كُلِّ شَرٍّ وَعَدلَ إلى مَا سِوَاهُ في الآرَاءِ وَالأَهْوَاءِ وَالاصْطِلاحَاتِ التِي وَضَعَها الرِّجَالُ بِلا مُسْتَنَدٍ مِنْ شَرِيعَةِ اللهِ كَمَا كَانَ أَهْلُ الجاهِليةَ يَحْكُمونَ بِهِ مِنَ الضَّلالاتِ وَالْجَهَالاتِ مِمَّا يَضَعُونَهُ بآرَائِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ وَكَمَا يَحْكُمُ بِهِ التَّتَارُ مِنْ السِّيَاسَاتِ الْمَلَكِيّةِ التِي يُقَدّمُونَها عَلَى الْحُكْمِ بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّة رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم.
فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ يَجِبُ قِتَالَهُ حَتَّى يَرْجَعُ إلى حُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ فَلا يُحَكِّمُ سِوَاهُ في قَلِيلٍ وَلا كَثيرٍ قَالَ تَعَالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} وَعَنْ حُكْمِ اللهِ يَعْدِلُونُ {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} ، أيْ: وَمَنَ أَعْدَلُ مِن اللهِ في حُكْمِهِ لِمَنْ عَقَلَ مِنْ اللهِ شَرْعَهُ وآمَنَ بِهِ وَأَيقَنَ وَعَلِمَ أَنَّ اللهَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ وَأَرْحَمُ مِنْ الوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا فَإِنَّهُ تَعَالى العَالِمُ بِكُلِّ شَيْءٍ القَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ العَادِلُ فِي كُلِّ شَيْءٍ.
وَقَالَ تَعَالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} ،
{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ، {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} .
فَانْظُرْ كَيْفَ سَجَّلَ تَعَالى عَلَى الحَاكِمِينَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهِ بالْكُفْرِ وَالظُّلْمِ وَالفِسْقِ وَمِنَ الْمُمْتَنَعِ أَنْ يُسَمِّي اللهُ سُبْحَانَهُ الحاكِمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ كَافِرًا وَلا يَكُونُ كَافِرًا بَلْ هُوَ كَافر مُطْلَقًا إِمَّا كُفْرُ عَمَلٍ وَإِمَّا كُفْرُ اعْتِقَاد.
وَمَا جَاءَ عَنْ ابنِ عَبَّاسٍ في تَفْسِير هَذِهِ الآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الحَاكِمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ كَافِرٌ إِمَّا كُفْرُ اعْتِقَادٍ نَاقِلٍ عَنْ الْمِلَّةِ وَإِمَّا كُفْرُ عَمَلٍ لا يَنْقُلِ عَنْ الْمِلَّةِ.
قَالَ: وَهَذِهِ الْمَحَاكِمُ الآن في كَثِيرٍ من أَمْصَارِ الإسْلامِ مُهَيَّأةٌ مَفْتُوحَةُ الأبْوَابِ وَالنَّاسُ إليها أَسْرَابٍ إثْرَ أَسْرَابٍ يَحْكُم حُكَّامُهَا بَيْنَهُمْ فِيمَا يُخَالِف حُكْمَ الكِتَابِ وَالسُّنةِ مِنْ أَحْكَامِ ذَلِكَ القَانُونِ وَتُلْزِمُهُمْ بِهِ وَتَحْتمهُ عَلَيْهم فأيُّ كُفْرٍ فَوقَ هَذا الكُفْرِ وَأيُّ مُنَاقَضَةٍ لِلشَّهَادَةِ بَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسَولُ الله بعدَ هَذِهِ الْمُنَاقَضَةِ نَسْأَلُ الله العِصْمَةَ عَنْ جَمِيعِ الْمَعَاصِي وَأَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَى قَوْلِهِ الثَّابِتُ في الحياة الدُّنْيَا وفي الآخِرَةِ. أهـ.
وَمِمَّا قِيلَ فِي الحَثِّ عَلَى التَمَسُّكِ بِالقُرآنِ الكَرِيمِ مَا قَالَهُ الصَّنْعَاني:
وَلَيْسَ اغْتِرَابُ الدِّينِ إلا كَمَا تَرَى
…
فَهَلْ بَعْدَ هَذا الاغْتِرَابُ إِيَابُ
وَلَمْ يَبْقَ لِلرَّاجِي سَلامَةَ دَينِهِ
…
سِوَى عُزْلَةٍ فِيهَا الْجَلِيسُ كِتَابُ
كِتَابٌ حَوَى كُلَّ العُلومِ وَكُلَّمَا
…
حَوَاهُ مِنْ العلمِ الشَّريفِ صَوابُ
فَإِنْ رُمْتَ تَارِيخًا رَأَيْتُ عَجَائِبًا
…
تَرَى آدَماً إذْ كَانَ وَهُوَ تُرَابُ
وَلاقِيتَ هَابِيلاً قَتِيلَ شَقِيقَهِ
…
يُوَارِيهِ لَمَّا أَنْ رَآهُ غُرَابُ
وَتَنْظُرُ نُوحًا وَهُوَ في الفُلْكِ قَدْ طَغَى
…
عَلَى الأَرْضِ مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ عُبَابُ
وَإِنْ شِئْتَ كُلَّ الأَنْبِيَاءِ وَقَوْمَهُمْ
…
وما قَالَ كُلُّ مِنْهُمُوا وَأَجَابُوا
وَجَنَّاتِ عَدْنٍ حُورَهَا وَنَعِيمَا
…
وَنَارًا بِهَا لِلْمُشْرِكِينِ عَذَابُ
فَتِلْكَ لأَرْبَابِ التُّقَاءِ وَهَذِهِ
…
لِكُلِّ شَقِي قَدْ حَوَاه عِقَابُ
وَإِنْ تُرِدِ الوَعْظَ الذِي إِنْ عَقَلْتَه
…
فَإِنَّ دُموعَ العَينِ عَنْهُ جَوَابُ
تَجِدْهُ وَمَا تَهْوَاهُ مِنْ كُلِّ مَشْرَبٍ
…
وَلِلرُّوحَ مِنْهُ مَطْعَمٌ وَشَرَابُ
وَإِنْ رُمْتَ إبْرَازَ الأَدِلَّةِ في الذِي
…
تُرِيدُ فَمَا تَدْعُو إِلَيْهِ تُجَابُ
تَدُلُّ عَلَى التَّوْحِيدِ فِيهِ قَوَاطِعٌ
…
بِهَا قُطِّعَتْ لِلْمُلْحِدِينَ رِقَابُ
وَمَا مَطْلَبٌ إِلا وَفِيهِ دَلِيلُهُ
…
وَلَيْسَ عَلَيْهِ لِلذَّكِي حِجَابُ
وَفِيهِ الدَّوَاءُ مِنْ كُلَّ دَاءٍ فَثِقْ بِهِ
…
فَوَالله ما عَنْهُ يَنُوبُ كِتَابُ
يُرِيكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَغَيْرُه
…
مَفَاوِزُ جَهْلٍ كُلَّهَا وَشِعَابُ
يَزِيدُ عَلى مَرِّ الجَدِيدِينِ جِدَّةً
…
فَأَلْفَاظُهُ مَهْمَا تَلَوتَ عَذَابُ
وَآيَاتِهِ فِي كُلِّ حِينٍ طَرِيَّةٌ
…
وَتَبْلَغُ أَقْصَى العُمْرِ وَهِيَ كِعَابُ
وَفِيهِ هُدَىً لِلْعَالَمِينَ وَرَحْمَةٌ
…
وَفِيهِ عُلُومٌ جَمَّةٌ وَثَوَابُ
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا لِكِتَابِكَ مِنْ التَّالِينِ وَلكَ بِهِ مِنْ العاملينَ وَبِمَا صَرَّفْتَ فِيهِ مِنْ الآيات مُنْتَفِعينِ وَإلى لَذِيذِ خِطَابِه مُسْتَمِعينَ وَلأوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ خَاضِعين وَالأَعْمَالِ مُخْلِصِين، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) فِي فَضَائِلِ ذِكْرِ اللهِ
يُسْتَحَبُّ الإِكْثَارُ مِنْ ذِكْرِ اللهِ تَعَالى فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَلاسَيَّمَا في رَمَضَانَ قَالَ اللهُ تعالى:{وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} ، وقال:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} ، وقال:{وَاذْكُرُواْ اللهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ} ، وقال:{وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} ، وقال:{وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً} الآية، وقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ} . وَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «كَلِمَتَانِ
خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
شِعْرًا:
اذْكُرْ إِلَه العَالَمِينَ جَهْرًا
…
فَإِنْ خَشِيتَ سُمْعَةً فَسِرَّا
وَاخْتَرْ مِنْ الأَذْكَارِ مَا قَدْ أُثِرَا
…
عن النَّبِيّ الْمُصْطَفَى وَاشْتَهَرَا
وَادْعُ لَدَى الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ
…
بِمَا دَعَى الْمُخْتَارُ مِنْ دُعَاءِ
فَكُلُ مَأْثُورٍ مِنْ الأَذْكَارِ
…
أَوْ مِنْ دُعَاءٍ صَحَّ في الأخبارِ
فَاحْرِصْ عليه والْزَمْ الْمُتَابَعَةْ
…
فَإِنَّها مِنْ الْمَزَايَا النَّافعَةْ
وَسِرْ عَلَى نَهْجِ النَّبِيّ وَسَيْرِهِ
…
وَلا تُتَابِعْ مِنْ رَضِي بِغَيْرِهِ
وَعَنْهُ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لأَنْ أَقُولُ سُبْحَانَ اللهِ وَالحمدُ للهِ، وَلا إله إلا الله، واللهُ أَكْبَرْ، أَحَبَّ إلي مِمَّا طَلَعْت عليهِ الشَّمْسَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وعنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ. فِي كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلةٍ مِائَةَ مَرَّةٍ كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ وَكُتِبَ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِي وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بَأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلَاّ رَجُلٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْهُ» . وقال: «مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ عَنْهُ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ» . مُتَّفُقٌ عَلَيْهِ.
شِعْرًا:
ما أَنعَمَ العيشَةَ لَو أَنَّ الفَتى
…
يُلْهَمُ تَسْبِيحًا لِخَلاقِ الوَرَى
وَقَدْ تَحَلّى بِالسَّخَاءِ والتُّقَى
…
لَيَقْتَدِي مَنْ قَصْدُهُ سُبلُ الْهُدَى
وَعَنْ أَبِي أَيْوُبِ الأنْصَارِي رضي الله عنه عَنِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، عَشْرَ مِرَاتٍ كَانَ كَمَنْ أَعْتَقَ أَرْبَعَةَ أَنْفُسٍ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ» . مُتَّفَقٌّ عَلَيْهِ.
وَعَنْ أَبِى ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَلَا أُخْبِرُكَ بِأَحَبِّ الْكَلَامِ إِلَى اللَّهِ» ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ أَخْبِرْنِي بِأَحَبِّ الْكَلَامِ إِلَى اللهِ. فَقَالَ: «إِنَّ أَحَبَّ الْكَلَامِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَبَّحَ اللهَ مِائَةً بِالْغَدَاةِ وَمِائَةً بِالْعَشِيِّ كَانَ كَمَنْ حَجَّ مِائَةَ حَجَّةٍ، وَمَنْ حَمِدَ اللَّهَ مِائَةً بِالْغَدَاةِ وَمِائَةً بِالْعَشِيِّ كَانَ كَمَنْ حَمَلَ عَلَى مِائَةِ فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . أَوْ قَالَ: «غَزَا مِائَةَ غَزْوَةٍ، وَمَنْ هَلَّلَ اللهَ مِائَةً بِالْغَدَاةِ وَمِائَةً بِالْعَشِيِّ كَانَ كَمَنْ أَعْتَقَ مِائَةَ رَقَبَةٍ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَمَنْ كَبَّرَ اللهَ مِائَةً بِالْغَدَاةِ وَمِائَةً بِالْعَشِيِّ لَمْ يَأْتِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَحَدٌ بِأَكْثَرَ مِمَّا أَتَى بِهِ إِلَاّ مَنْ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ أَوْ زَادَ عَلَى مَا قَالَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذي، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وَفِي الصَّحِيحَينِ عَنْ عَلِيٌ أَنَّ فَاطِمَةَ أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَشْكُو إِلَيْهِ مَا تَلْقَى فِي يَدِهَا مِنَ الرَّحَى، وَبَلَغَهَا أَنَّهُ جَاءَ رَقِيقٌ فَلَمْ تُصَادِفْهُ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ، فَذَهَبْنَا نَقُومُ فَقَالَ:«عَلَى مَكَانِكُمَا» . فَجَاءَ وَقَعَدَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى بَطْنِي فَقَالَ: «أَلَا أَدُلُّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَا، إِذَا أَخَذْتُمَا مَضْجِعَكُمَا فَسَبِّحَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَاحْمَدَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَكَبِّرَا أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ، فَهْوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ» .
وَجَاءَ عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: أَعُوذُ بِاللهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ وَقَرَأَ ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْحَشْرِ وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ حَتَّى يُمْسِي وَإِنْ مَاتَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مَاتَ شَهِيدًا، وَمَنْ قَالَهَا حِينَ يُمْسِى كَانَ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ» . حَسَّنَهُ التِّرِمذي وغرَّبه.
شِعْرًا:
الذّكْرُ بالْمَأثِور نِعْمَ القُرْبَةَ
…
وَرُتْبَةُ الذَّاكِرِ أَعْلَى رُتْبَةْ
لأَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الرَّغَائِبِ
…
كَمَا عَلِمْتَ بَعْدَ فِعْلِ الوَاجِبِ
وَأَفْضَلُ الذِّكْر كَلامُ الله
…
كَمَا أَتَانَا عَنْ رَسُولِ اللهِ
وَبَعْدُ هَذَا الذِّكِرِ بالْمَأثُورِ
…
عَنِ النَّبِيّ الْمُصْطَفَى البَشِيرِ
كَالْحَمْدِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ
…
كَمَا أَتَى فِي الْخَبَر الْمَشْهُورِ
أَمَا لَدَى الإِطْلاقِ فَالتَّهْلِيلِ
…
أَفْضَلُ مَا قَدْ قُلْتَ أَوْ تَقُولُ
كَذَاكَ الاسْتِغْفَار ثُمَّ الْحَوْقَلَة
…
كَمَا رَوَتْهُ السُّنَّةُ الْمُفَضَّلَةْ
فاذْكُرْ إِلهَ العَالَمِينَ دَائِمًا
…
وَدُمْ عَلَى أَذْكَارِهِ مُلازِمًا
وَاللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.
(فَصْلٌ)
وَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسِيرُ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ فَمَرَّ عَلَى جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ: (جُمْدَانُ) فَقَالَ: «سِيرُوا هَذَا جُمْدَانُ سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ» . قَالُوا: وَمَا الْمُفَرِّدُونَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «الذَّاكِرُونَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
عَنْ أَبِى مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم «مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُهُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللهِ: «يَقُولُ اللهُ أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
عَلَيكَ بِذِكرِ اللَهِ في كُلِّ سَاعَةٍ
…
تجد نَفْعَهُ يوم الجزاءِ مَوَفَّرَا
وَعَنْ أَبِى مُوسَى الأشعري رضي الله عنه قَالَ: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَا عَبْدَ اللهِ ابْنَ قَيْسٍ أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَاّ بِاللَّهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
شِعْرًا:
لَو قيلَ لي ما تَمَنّى قُلتُ مُبْتَدِرًا
…
دَوَامَ ذِكْرً لِخلاقَ السَّمَاوَاتِ
وَأَن أُلازِم في الدُنيا لِطَاعَتِهِ
…
وَأنْ أَوَفّقْ لإِتْقَانِ الْعِبَادَاتِ
آخر:
وَعُدَّ مِن الرحمن فَضْلاً وَنِعْمَةً
…
عَلَيْكَ إِذَا مَا جُزْتَ عُمْرَ مُحَمَّدِ
وَأَكْثِرْ مِنْ التَّهْلِيلِ في كُلّ سَاعَةٍ
…
فَإِنَّك لا تَدْرِي مَتَى العُمْرُ يَنْفَدُ
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الله تعالى يَقُولُ: أَنَا مَعَ عَبْدِي إِذَا ذَكَرَنِي، وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ» . رَوَاهُ البُخَارِي.
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُسْرٍ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ شَرَائِعَ الإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ فَأَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ. قَالَ: «لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِي وَحَسَّنَهُ، وابن ماجة، وصححه ابن حبان، والحاكم. وَرَوَى عُمَرُ بن الخطابِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «ذَاكِرُ الله في رَمَضَانَ مَغْفُورٌ لَهُ، وسائلُ الله فِيهِ لا يَخِيبُ» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِي في (الأَوْسَطِ) ، والبيهقي، والأصبهاني.
وَعَنْ أَبِي سَعِيدِ الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «البَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ: لا إِلهَ إلا اللهُ، وسبحانُ اللهِ، واللهُ أكْبَرُ، والْحَمْدُ للهِ، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلا باللهِ» . أخرجه النسائي، وصححه ابن حبان، والحاكم.
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَلا أَخبِرُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٌ لَكَمْ مِنْ إنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالوَرَقِ، وَخَيْرٌ لَكم مِنْ أَنْ تلْقُوا عَدُوَّكُم فَتَضْرُبُوا أَعْنَاقَكُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُْم» ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ:«ذِكُرُ اللهِ» .
وعَنْ عَبْدِ الله بن بُسْرٍ قال: جَاءَ أَعْرَابِي إلى النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَيُّ الناس خَيْرٌ؟ فَقَالَ: «طُوبَى لِمَنْ طَالَ عُمْرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ» . قَالَ: يَا رَسُولَ الله أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «أَنْ تُفَارِقَ الدُّنْيَا وَلِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْر الله» .
شِعْرًا:
إِذَا أَلْهِمَ الإنْسَان ذِكرا لِرَّبِهِ
…
وَكَانَ بَأَرْكَانَ العِبَادَاتِ آتِيَا
فَذَاكَ الفَتَى لا مَنْ يَكُونَ مُضَيِّعًا
…
لأَمْرِ الذي فَوْقَ السَّمَاوَاتِ عَالِيَا
آخر:
فَوَائِدُ في ذِكْرِ الإِلَهِ كَثِيرَةٌ
…
وَإِنْ كَانَ مَنْ يَعْبَأ بِهِنَّ قَلِيلُ
فَكُنْ يَا أَخَا اللبُّ الكَرِيمِ مُحَافِظًا
…
عَلَيْهَا تَفُزْ بَالأجْرِ وَهُوَ جَزِيلُ
آخر:
…
لا يَبْلَغُ الْمَجْدَ أَقْوَامٌ وَإِنْ كَرَمُوا
…
حَتَّى يُطِعُوا لِخَلاقِ السَّمَاوَاتِ
وَيَسْتَقِيمُوَا عَلَى مَا يَرْتَضِيهِ لَهُمْ
…
وَيُكْثِرُوا ذِكْرَهُ في كُلِّ أَوْقَاتِ
وَاللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
(فَصْلٌ) : قال ابنُ القَيم رحمه الله: قراءة القُرْآنِ أفضلُ مِن الذِّكْرُ وَالذِّكْرُ أَفْضَلُ مِنْ الدُّعَاءِ، هَذَا مِنْ حَيْثُ النَّظَرِ لِكُلِّ مِنْهُمَا مُجَرَّدًا وَقَدْ يَعْرُضُ لِلْمَفْضُولِ مَا يَجْعَلَهُ أَوْلَى بَلْ يُعَيَّنُهُ فَلا يَجُوزُ أَنْ يَعْدَلَ عَنْه إلى الفَاضِلِ وهذَا كَالتَّسْبِيحِ في الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَإِنَّهُ أَفْضَل مِنْ قِرَاءَةِ القرْآنِ فِيهِمَا بَلْ مَنْهِيٌّ عَنْهَا نَهَي تَحْرِيمٍ أَوْ كَرَاهَةٍ.
لما ورد عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَشَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم السِّتَارَةَ وَالنَّاسُ صُفُوفٌ خَلْفَ أَبِى بَكْرٍ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إِلَاّ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ، أَلَا وَإِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا أَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ» . رواه أحمد، ومسلم، والنسائي، وأبو داوُد.
وكذا التسبيحُ والتحميدُ في مَحَلِهِمَا أَفْضَلُ من القِرَاءَةِ وَكَذَا التَّشهدُ وَكذلكَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي واهْدِنِي وَعَافِنِي وَارْزُقْنِي بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ أَفْضَلُ من القراءَةِ وكذلك الذكُر عقِبَ السَّلام من الصلاةِ ذِكْرُ التَّهْلِيلِ والتسبيحِ والتكبيرِ والتحميدِ أَفْضَلُ من الاشتغالِ عنه بالقِرَاءَةِ.
وَكَذَلِكَ إِجَابَةُ الْمُؤَذِّنِ وَالقَولُ كَمَا يَقُولُ أَفْضَلُ مِنْ القِرَاءَةِ وَإِنْ كَانَ فَضْلُ القُرْآنِ عَلى كُلِ كَلامٍ كَفَضْلِ اللهِ تَعَالى عَلَى خَلْقِهِ لَكِن لِكُلِ مَقَامٍ مَقَالٍ مَتَى فَاتَ مَقَالَهُ فِيهِ وَعَدَلَ عَنْه إلى غيرِهِ اخْتَلَّتْ الْحَكِمةُ وَفُقِدَتِ الْمَصْلَحَةُ مِنْهُ.
عَلَيْكَ بِذِكْرِ الله دَوْمًا فَإِنَّهُ
…
بِهِ يَطْمَئِنُّ القَلْبُ فألْزَمْهُ تَسْعَدِ
آخر:
جَمْعُ الكُتْبِ يُدْرِك مَنْ قَرَاهَا
…
مَلالٌ أَوْ فُتُورٌ أَوْ سَآمَةْ
سِوَى القُرْآنِ فَافْهَمْ وَاسْتَمِعْ لِي
…
وَقَولِ الْمُصْطَفَى يَا ذَا الشَّهَامَةْ
وَهَكَذَا الأَذْكَارُ الْمُقَيَّدَةُ بِمَحَالٍ مَخْصُوصَةٍ أَفْضَلُ مِنْ القِرَاءَةِ الْمُطْلَقَةُ، وَالقِرَاءَةُ الْمُطْلَقَةُ أَفْضَلُ مِن الأَذْكَارِ الْمُقَيَّدَةِ بِمَحَالٍ مَخْصُوصَةٍ وَالقِرَاءَةُ الْمُطْلَقَةُ أَفْضَلُ مِن الأَذْكَارِ الْمُطْلَقَةِ، اللَّهُمَّ إِلا أَنْ يَعْرُضَ لِلْعَبْدِ مَا يَجْعَلَ الذِّكْرَ أَوْ الدُّعَاءِ أَنْفَعَ لَهُ مِنْ القُرْآنِ مِثَالُهُ أَنْ يَتَفَكَّرَ في ذُنُوبِهِ فَيُحْدِثُ لَهُ تَوْبَةً مِنْ اسْتِغْفَارٍ أَوْ يَعْرُضُ لَهُ مَا يَخَافُ أذَاهُ مِنْ شَيَاطِين الإنْسِ وَالْجِنِ فَيَعْدِلَ إِلى الأَذْكَارِ وَالدَّعَوَاتِ التِي تُحَصِّنُهُ وَتَحُوطُه.
وَكَذَلِكَ أَيْضًا قَدْ يَعْرِضُ لِلْعَبْدِ حَاجَةٌ ضَرُورِيَّةٌ إِذَا اشْتَغَلَ عَنْ سُؤَالِهَا بِقَرَاءً وَذَكْرٍ لَمْ يَحْضُرْ قَلْبُهُ فِيهَا وَإِذَا أَقْبَلَ عَلَى سُؤَالِهَا وَالدُّعَاءِ إِلَيْهَا اجْتَمَعَ قَلْبُهُ كُلُهُ عَلَى اللهِ تَعَالى وَأَحْدَثَ لَهُ تَضَرُّعًا وَخُشُوعًا وَابْتِهَالاً فَهَذَا قَدْ يَكُونُ اشْتِغَالُهُ بالدُّعَاءِ وَالْحَالَةِ هَذِهِ أَنْفَعُ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْ القِرَاءَةِ وَالذِّكِرْ أَفْضَلُ وَأَعْظَمُ أَجْرًا.
شِعْرًا:
وَمَن يُنْفِقُ السَّاعَاتِ في ذِكْرِ رَبِّهِ
…
يَعِيشُ حَمِيدًا وَهُوَ في الْحَشْرِ مُكْرَمُ
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: «إن للهِ مَلائكةٌ يَطُوفُونَ في الطُّرُق يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللهِ تَنَادُوا: هَلِمُّوا إلى حَاجَتِكُمْ.
قَالَ: فَيَحُفُونَهُم بأجنِحَتِهِم إلى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَسْأَلُهُم رَبُّهُمْ وَهُوَ أَعْلمُ بِهِم مَا يَقُولُ عِبَادِي؟ قَالَ: يَقُولونَ: يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ
ويُمَجِّدُونَكَ، قَالَ: فَيَقُولُ: هَلْ رَأَوْن؟ قَالَ: فَيَقُولُون: لا واللهِ ما رَأَوْكَ قَالَ: فَيَقُولُ: كَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي.
قَالَ: فَيَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا وَأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحًا. قَالَ: فَيَقُولُ: فَمَا يَسْأَلُونَ؟ قَالُوا: يَسْأَلُونَكَ الْجَنَّةَ. قَالَ: فَيَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ فَيَقُولُونَ: لا وَاللهِ يَا رَبُّ مَا رَأَوْهَا. قَالَ: يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا.
قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا لَكَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا وَأَشَدَّ لَهَا طَلَبًا وَأَعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً. قَالَ: فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ؟ قَالَ: يَقُولُونَ: مِن النارِ. قَالَ: فَهَلْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لا واللهِ يَا رَبُّ مَا رَأَوْهَا. قَالَ: يَقُول: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْهَا كَانُوَا أَشَدَّ فِرَارًا وَأَشَدَّ لَهَا مَخَافَةً.
قَالَ: فَيَقُولُ: فأُشْهِدُكُمْ أَنِّي غَفَرْتُ لَهُمْ. قَالَ: يَقُولُ مَلَكٌ مِنْ الْمَلائِكَةِ: فِيهِمْ فُلانٌ لَيْسَ مِنْهم إِنَّما جَاءَ لِحَاجَةٍ، قَالَ: هُمُ الْجُلَسَاءُ لا يَشْقَى جَلِيسُهُمْ» . وَلِذَلِكَ حَثَّ صلى الله عليه وسلم على الْجُلُوسِ في مَجَالِسِ الذِّكْرِ وَشَبَّهَهُ بِرَوْضَةِ الْجَنَّةِ.
وَرَوَى التِّرمذُي عَنْ أَنَسِ رضي الله عنه قال: قال رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا» . قَالُوا: وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: «حِلَقُ الذِّكْرِ» . وروى أبو داود عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ قَوْمٍ يَقُومُونَ مِنْ مَجْلِسٍ لَا يَذْكُرُونَ اللهَ فِيهِ إِلَاّ قَامُوا عَنْ مِثْلِ جِيفَةِ حِمَارٍ وَكَانَ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً» .
وروى مسلم عَنْ حَنْظَلَةَ بن الربيع الأَسَدِي قَالَ: لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ؟ قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ. قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ مَا تَقُولُ، قُلْتُ: نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ كَأَنَّا رَأْيَ عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرًا.
قَالَ: أَبُو بَكْرٍ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ ذَلك. فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى
رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللهِ نَكُونُ عِنْدَكَ وَتُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ كَأَنَّا رَأْيَ عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرًا.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِى الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِى طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً» . ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
قَالَ أَحَدُ العُلَمَاءِ: إِذَا حَصَلَ الأُنْسِ بِذِكْرِ اللهِ انْقَطَعَ عَنْ ذِكْرِ مَا سِوَى اللهِ ومَا سِوَى الله عز وجل هُوَ الذِي يُفَارِقُ عِنْدَ الْمَوْتَ فَلا يَبْقَى مَعَهُ في القَبْرِ أَهْلٌ، وَلا مَالٌ، وَلا وَلَدٌ، ولا وِلايَةٌ، وَلا يَبْقَى إِلا عَمَلُهُ الصَّالِحُ ذِكْرُ الله وَمَا وَلاهُ.
فَإِنْ كَانَ قَدْ أَنِسَ تَمَتَّعَ بِهِ وَتَلَذَّذَ بِانْقِطَاعِ العَوَائِقِ الصَّارَفَةِ عَنْهُ إِذْ ضَرُورَاتُ الحَاجَاتِ في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا تَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنْ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ ولا يَبْقَى بَعْدَ الْمَوْتِ عَائِقٌ فَكَأَنَّهُ جُلِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَحْبُوبِهِ فَعَظُمَتْ غِبْطَتُهُ وَتَخَلَّصَ مِنْ السِّجْنِ الذي كان مَمْنُوعًا بِهِ عَمَّا أُنْسُهُ.
وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ رُوحَ القُدُسِ نَفَثَ فِي رَوْعَتِي أَحْبِبْ مَا أَحْبَبْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ» . أَرَادَ بِهِ كُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا فَإِنَّ ذَلِكَ يَفْنِى بالموتِ في حَقِّهِ فَكُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالإِكْرَامِ. أهـ.
اللَّهُمَّ ألْهِمْنَا مَا أَلْهَمْتَ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ، وَأَيْقِظْنَا مِنْ رُقْدَةِ الغَافِلِينَ إِنَّكَ أَكْرَمُ مُنْعِمٍ وَأَعَزُّ مُعِين، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ الإِيمَانَ هَادِمًا لِلسيئات كَمَا جَعَلْتَ الكُفْرَ عَادِمًا للحَسَنَاتِ وَوَفِّقْنَا للأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ، وَاجْعَلْنَا مِمَّنْ تَوَكَّلَ عَلْيَكَ فَكَفيتَهُ، واسْتَهْدَاكَ فَهَدَيْتَهُ وَدَعَاكَ فَأحَبْتَهُ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(نصيحة)
اسْمَعْ يَا مُضَيَّعَ الزَّمَانَ فِيمَا يَنْقُصُ الإِيمَان مُعْرضًا عن الأرباح وَمُتَعَرِضٌ للخُسْران لقد سُرَّ بِفِعْلِكَ الشامِتْ.
يَا مَنْ يَفْرحُ بالعِيدِ لِتَحْسِين لِبَاسِهِ، وَيُوقِنُ بالموتِ وما اسْتَعَدَّ لِبَأسهِ ويَغْتَر بإخوانهِ وَأَقْرانِه وَجُلاسِه، وكأنه قد أمِنَ سُرْعَةَ اخْتِلاسِهْ.
يَا غَافِلاً قَدْ طُلِبْ، وَيَا مُخَاصِمًا قَد غُلِبْ، ويا واثقًا قد سُلِبْ، إيَّاكَ والدُّنْيَا فما الدُّنْيَا بدَائِمة، لَقَدْ أبانَتْ لِلنَّوَاظِرِ عُيُوبَها وَكَشَفَتْ لِلْبصَائِرِ غُيُوبَها وَعَدَّدَتْ عَلَى المَسَامِهِ ذُنُوبَها، وَمَا مَرَّتْ حتى أَمَرَّتْ مَشْرُوبَهَا.
فلذاتُها مِثْلُ لمعَانِ البَرْق وَمُصِيبَتُهَا وَاسِعَةُ الْخَرْق، سَوَّتْ عَوَاقِبُهَا بَيْنَ سُلطانِ الغرب والشرق فما نجا منها ذو عَدَدْ ولا سلم فيها صاحبُ عُدَدْ مَزَّقَت الكُلَّ بكَفِّ البُدَدْ ثم وَلَّتْ فما أَلْوَتْ على أَحَدْ.
قال صلى الله عليه وسلم: «سبعة يُظِِلِّهُمْ الله في ظِلِّه» منهم: «رجل دَعَتْه امرأةٌ ذاتُ مَنْصِبٍ وجمال فقال: إنِّي أخافُ الله» .
اسْمَعْ يَا مَنْ أَجَابَ عَجُوزًا هَتْمَا عَمْيَا صَمًّا جَرْبَا سَودَاءَ شَوهَاء مُقْعَدة على مَزْبَلَةَ ولكن غَلَبَتْ عَليكَ مَحَبَّتُهَا عُرضَتْ على النبي صلى الله عليه وسلم بطحاء مكة ذَهَبَا فَأبَى أَنْ يَقْبَلهَا.
مَا هذه الدنيا بدَارِ مَسَرَةٍ
…
فَتَخَوَّفِي مَكْرًا لَهَا وَخِدَاعَا
بَيْنَا الفَتَى فيهَا يُسَرُّ بِنَفْسِهِ
…
وَبِمَالِهِ يَسْتَمْتِعُ اسْتِمْتَاعَا
حَتَّى سَقَتْهُ مِنْ الْمَنِيَّةِ شَرْبةً
…
وَحَمَتْهُ فيه بعدَ ذَاكَ رَضَاعَا
فَغَدًا بِمَا كَسَبَتْ يَداهُ رَهِينَةً
…
لا يَسْتَطِيعُ لِمَا عَرَتْهُ دِفَاعَا
لَوْ كَانَ يَنْطِقُ قال مِنْ تَحْتَ الثرى
…
فلْيُحْسِنِ العمَلَ الفَتَى مَا اسْتَطَاعَا
اللَّهُمَّ اجْعَلِ الإِيمَانَ هادِمًا لِلسيئات، كَمَا جَعَلْتَ الكُفْرَ هَادِمًا
لِلْحَسَنَاتِ وَوَفِّقْنَا للأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ وَاجْعَلْنَا مِمَّنْ تَوَكَّلَ عَلَيْكَ فَكَفيْتَهُ واسْتَهْدَاكَ فَهَدَيْتَهُ وَدَعَاكَ فَأجَبْتَهُ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فصل في فوائِدِ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى)
قال ابنُ القيم رحمه الله: وفي ذِكرِ اللهِ أَكْثَرُ مِنْ مائةِ فَائِدَةٍ يرْضِي الرَّحْمَنَ وَيَطْرُد الشَّيْطَانَ وَيُزِيلُ الْهَمَّ وَيَجْلِبُ الرزقَ وَيَكْسِبُ الْمَهَابَةَ وَالْحَلاوَةَ وَيُورِثُ مَحَبَّةَ اللهِ التي هِيَ رُوحُ الإسْلامِ.
وَيُورِثُ الْمَعْرِفَةَ وَالإِنَابَةَ وَالقُرْبَ وَحَيَاةَ القَلْبِ وَذِكْرُ اللهِ لِلْعَبْدِ هُوَ قُوتُ القَلْبِ وَرُوحُهُ وَيَجْلِي صَدَاهُ وَيَحُطُ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ الدَّرَجَاتِ وَيُحْدِثُ الأُنْسَ وَيُزِيلُ الوَحْشَةَ.
وَيُذَكِّرُ بِصَاحِبِهِ وَيُنْجِي مِنْ عَذَابِ اللهِ وَيُوجِبُ تَنَزُّلَ السَّكِينَةَ وَغَشَيَانَ الرَّحْمَةِ وَحُفُوفَ الْمَلائِكَةِ بالذاكِرِ وَيَشْغَلُ عن الكَلامِ الضَّارِ وَيُسْعِدُ الذاكِرَ وَيُسْعِدُ بِهِ جَلِيسَهُ مِنَ الْحَسْرَةِ يَوْمِ القِيَامَةِ وَهو مَعَ البُكَاءِ سَبَبُ لإِظلالِ اللهِ العبدَ يَوْمَ الْحَشْرِ الأَكْبَرِ في ظِلِ عَرْشِهِ.
وَأَنَّهُ سَبَبٌ لِعَطَاءِ الله لِلذَّاكِرِ أَفْضَلُ مَا يُعْطِي السَّائِلِينَ، وَأَنَّهُ أَيْسَرُ العِبَادَاتِ وَهُوَ مِنْ أَجَلِّهَا وَأَفْضَلِهَا؛ وَأَنَّهُ غِرَاسُ الْجَنَّةِ، وَأَنَّ العَطَاءَ وَالفضل الذِي رُبِّبَ عليه لم يُرَتَّبْ على غَيْرِهِ، وَأَن دَوَامَ الذِكْرِ لِلرَّبِّ تبارك وتعالى يُوجِبُ الأَمَانَ مِنْ نِسْيَانِهِ الذِي هو سَبَبُ شَقَاءِ العَبْدِ في مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ.
شِعْرًا:
لا شَيْء مِثْلَ كَلامِ اللهِ تَحْفَظُهُ
…
حِفْظًا رَصِينًا وَتَعْمَلْ فِيهِ مُجْتَهِدًا
شِعْرًا:
لَوْ يَعْلَم العَبْدُ مَا فِي الذِّكْرِ مِنْ شَرَفٍ
…
أَمْضَى الْحَيَاةَ بِتَسْبِيحٍ وَتَهْلِيلِ
آخر:
…
ما أَنعَمَ الْعِيشَةَ لَو أَنَّ الفَتَى
…
يُلْهَمْ تَسْبِيحًا لِخَلاقِ الوَرَى
وَأَن الذِكْرَ يُسَيِّرُ العَبْدَ وَهُوُ في فِرَاشِهِ وَفِي سُوقِهِ، وأن الذِكْرَ نُورُ الذَّكِرِ في الدُّنْيَا وَنُورٌ لَهُ في قَبْرِهِ وَنُورٌ لَهُ في مَعَادِهِ وأن في القَلْبِ خَلَّةٌ وَفَاقَةٌ لا يَسُدُهَا شَيْءٌ البَتَّةَ إلا ذِكْرُ اللهِ عز وجل.
وَأَن الذِكْرَ يَجْمَعُ مَا تَفَرَّق عَلَى العَبْدِ مِنْ قَلْبِهِ وَإِرَادَتِهِ وَهُمُومِهِ وَغَرْمِهِ وَالذِّكْرُ يُفَرِّقُ مَا اجْتَمَعَ عليه من الْهُمُومِ وَالغُمُومِ وَالأحزانِ وَالحَسَرَاتِ عَلى مَوْتِ حُظُوظِهِ وَمَطَالِبِه وَيُفَرِّقُ مَا اجْتَمَعَ عَلَى حَرْبِهِ مِنْ جُنْدِ الشَّيْطَانِ.
وَأَنْ الذِّكْرَ يُنَبَّهُ القَلْبَ مِنْ نَوْمِهِ وَيُوقِظْهُ، وَالْقَلْبُ إِذَا كَانَ نَائِمًا فَاتَتْهُ الأَرْبَاحُ وَالْمَتَاجِرُ، وَأَن الذِكْرَ شَجَرَةٌ تُثْمِرُ الْمَعَارِفَ وَالأَحْوَالِ التِي شَمَّرَ إليها السَّالِكُونَ فَلا سَبِيلَ إلى نَيْلِ ثِمَارِهَا إلا مِنْ شَجَرَةَ الذِّكْرِ.
وَأَنَّ الذَّاكِرَ قَرِيبٌ مِنْ مَذْكُورِهِ وَمَذْكُورِهِ مَعَهُ وَهَذِهِ الْمَعِيَّةُ مَعِيَّةٌ خَاصَةٌ، وَأَنَّ الذكرَ يَعْدِلُ عِتْقَ الرِّقَابِ وَنَفَقَةَ الأَمْوَالِ وَالْحَمْلَ عَلَى الْخَيْلِ في سَبِيلِ اللهِ عز وجل وَإِنَّ الذِّكْرَ رَأَسُ الشُّكْرِ وَأَنَّ أَكْرَمَ الْخَلْقِ على اللهِ من الْمُتَّقِينَ مَنْ لا يَزَالُ لِسَانُهُ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللهِ.
وَأَن في القَلْبِ قَسْوَةً لا يُذِيبُهَا إِلا ذِكْرُ اللهِ تعالى وَإِنّ الذِكْرَ شِفَاءُ القَلْبِ وَدَوَاؤُهُ وَالغَفْلَةَ مَرَضُهُ، وَأَن الذِكْرَ أَصْلُ مَوالاةِ اللهِ عز وجل وَأَنَّهُ مَا اسْتُجْلِبَتْ نِعمُ اللهِ وَاسْتُدْفِعَتْ نِقَمُهُ بِمِثْلِ ذِكرِ اللهِ.
شِعْرًا:
…
عَلَيْكَ بِذِكْرِ الله في كُلِّ لَحْظَةٍ
…
فما خَابَ عَبْدٌ لِلْمُهَيْمِنِ يَذْكُرُ
آخر:
فَجَالِسْ رِجَالَ العِلْمَ وَاحْفَظْ حَدِيثَهُمْ
…
ولاتَكُ للجُهَّالِ يَوْمًا مُوَاخِيَا
وَلازِم فَتَىً في كُلِّ وَقْتٍ مُلازِمٌ
…
لِذِكْرِ الذِي فَوْقَ السَّمَاوَاتِ عَالِيَا
لَعَلَّكَ أَنْ تَعْتَادَ لِلذِّكْرِ مِثْلَهُ
…
فَتُحْرِز غُفْرَانًا وَأَعْلَى الأَمَانَينَا
وَأن الذِكْرَ يُوجِبُ صَلاةَ اللهِ عز وجل وَمَلائِكَتِهِ عَلَى الذَّاكِرِ وَأَنَّ مَنْ شَاءَ أَنْ يَسْكُنَ رِيَاضَ الْجَنَّةِ في الدُّنْيَا فَلَيْسَتَوْطِنْ مَجَالِسِ الذِّكْرِ فَإِنَّهَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ،
وَأن مَجَالِسَ الذِّكْرِ مَجَالِسُ الملائِكَة.
وَأَنَّ اللهَ عز وجل يُبَاهِي بِالذَّاكِرِينَ مَلائِكَتَهُ وَأَنَّ مُدْمِنَ الذِّكْر يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَهُوَ يَضْحَكُ وَأَن جَمِيعَ الأَعْمَالِ إِنَّمَا شُرِعَتْ إِقَامَةً لِذِكْرِ اللهِ تعالى، وأن أَفْضَلَ أَهْلِ كلِ عَمَلٍ أَكْثَرُهُمْ فِيهِ ذِكْرًا للهِ عز وجل، فَأَفْضَلُ الصُّوَامِ أَكْثَرُهُمْ ذِكْرًا للهِ عز وجل.
وأنَّ ذِكْرَ اللهِ يُسَهِّلُ الصَّعْبَ وَيُيَسِرُ العَسِيرَ وَيُخَفَّفَ الْمَشَاقَ، وَأَنَّ ذِكْرَ اللهِ يَذْهَبُ عَنْ القلبِ مَخَاوِفَهُ كُلَّهَا، وَلَهُ تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ في حُصُولِ الأَمْنِ، وَأَن في الاشتغالِ بالذِكر اشْتِغَالاً عَنْ الكلام البَاطِلِ مِنْ الغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَاللَّغْوِ، وَأَنَّ عُمَّالَ الآخِرَةِ كُلُهُم في مَضْمَارِ السِّبَاقِ وَالذَّاكِرُونَ أَسْبَقُهُمْ فِي ذَلِكَ الْمَضْمَارِ وَلكِن الفَتَرَةُ وَالغُبَارُ يَمْنَعَانِ مِنْ رُوْيَةِ سَبْقِهِم.
فَإِذَا انْجَلَى الغُبَارُ وَانْكَشَفَ رَآهُمْ النَّاسُ، وَقَدْ حَازُوا قَصَبَ السَّبْقِ وَأَنْ الذِّكْرَ سَبَبٌ لِتَصْدِيقِ الرَّبِّ عز وجل عَبْدَهُ. فَإِنَّهُ أَخْبَرَ عن اللهِ بأَوْصَافِ كَمَالِهِ ونُعُوتِ جَلالِهِ فَإِذَا أَخْبَرَ بِهَا الْعَبْدُ صَدَّقَهُ رَبُّهُ وَمَنْ صَدَّقَهُ اللهُ لَمْ يُحْشَرَ مَعَ الكَاذِبِينَ وَرُجِي لَهُ أَنْ يُحْشَرَ مَعَ الصَّادِقِينَ.
شعرًا:
وَدَاوِمْ وَلازِمْ قَرْعَ بابٍ مُؤَمِّلاً
…
فَمَا خَيَّبَ الْمَوْلَى رَجَاءَ مُؤَمَّلِ
وَصَابِرْ فَمَا نَالَ العُلا غَيْرَ صَابِرٍ
…
وَقُلْ وَاعِظًَا لِلنَّفْسِ عِنْدَ التَّمَلْمُلِ
مَعَ الصَّبْرِ إحْدَى الْحُسْنَيين مُنَاكِ أَوْ
…
مُنَايَا كِرَامِ فَاصْبِري وَتَحَمَّلِ
وَدَاوِ لِسُقْمِ القَلْبِ واعْمُرْ خَرَابَهُ
…
بِذِكْرِ الذي نَعْمَاهُ لِلْخَلْقِ تَشْمَلُ
آخر:
لَوْ يَعْلَم النَّاسُ مَا في الذِّكرِ مِنْ شَرَفٍ
…
لَمْ يُلْهِهِمْ عَنْهُ تَجْمِيعُ الدَّنَانِيرِ
وَلَمْ يُبَالُوا بَأَوْرَاقٍ وَلا ذَهَبٍ
…
وَلَوْ تَحْصَّل آلافُ القَنَاطِيرِ
اللَّهُمَّ ألْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَوَفِّقْنَا لِلْقِيَامِ بِحَقِّكَ وَبَارِكْ لَنَا فِي الْحلال مِنْ رِزْقَكَ وَلا تَفْضَحْنَا بَيْنَ خَلْقِكَ يَا خَيْرَ مَنْ دَعَاهُ دَاعٍ وَأَفْضَلَ مَنْ رَجَاهُ رَاجٍ يَا قَاضِيَ
الْحَاجَاتِ وَمُجِيب الدّعَواتِ هَبْ لَنَا مَا سَأَلْنَاهُ وَحَقِّقْ رَجَاءَنَا فِيمَا تَمَنَّيْنَاهُ يَا مِنْ يَمْلِكُ حَوائِجَ السَّائِلين وَيَعْلَمُ مَا فِي ضَمَائِر الصَّامِتِينَ أَذِقْنَا بِرْدَ عَفْوِكَ وَحَلاوَةَ مَغْفِرَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فَصْلٌ وَمِنُ فَوَائِد الذِّكْر أَيْضًا مَا ذَكَرَهُ ابنُ القَيِّم رحمه الله:
أَنَّ دُورَ الْجَنَّةِ تُبْنَى بالذِّكْرِ، فَإِذَا أَمْسَكَ الذَّاكِرُ عَنْ الذِّكْرِ أَمْسَكت الملائِكَةُ عن البنَاء، وَأنَّ الذِكْرَ سَدٌّ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ جَهَنَّمَ فَإِذَا كَانَتْ لَهُ إلى جَهَنَّمَ طريقُ عَمَلٍ مِن الأَعْمَالِ، كان الذِكْرُ سَدًّا في تِلْكَ الطريقِ، وَأَنَّ الملائِكَةِ تَسْتَغْفِر لِلذَّاكِر كَمَا تَسْتَغْفِرُ لِلتَّائِبِ، وَأَنَّ الْجِبَالَ والقِفَارَ تَتَبَاهَى وَتَسْتَبْشَرُ بِمَنْ يَذْكُر اللهَ عز وجل عَلَيْهَا، وَأَنَّ كَثْرَةَ ذِكْرَ الله عز وجل أمانٌ مِنْ النِّفَاقِ، فإنّ الْمُنَافِقِينَ قَلِيلُوا الذِّكْرِ للهِ عز وجل.
قَالَ تبارك وتعالى في الْمُنَافِقِينَ: {وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَاّ قَلِيلاً} وَأَنَّ للذكْرَ مِنْ بَيْنَ الأعمَال لَذَّةً لا يُشْبِهُهَا شَيْءٌ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلعَبْدِ مِنْ ثَوَابِهِ إلا اللَذَّةِ الْحَاصِلَةِ لِلذَّاكِرَ وَأَنَّهُ يَكْسُو الوجْه نَضْرَةً في الدُّنْيَا وَنُورًا في الآخِرَةِ وَأَنْ في دَاوَمَ الذِّكْرِ في الطَّرِيق والبيتِ والْحَضَرِ وَالسَّفَرِ وَالبِقَاعِ تَكْثِيرًا لِشُهُودِ العَبْدِ يومَ القِيَامَةِ فَإِنَّ البُقْعَةَ وَالدَّارَ وَالْجَبَل والأَرْضَ تَشْهَدُ للذَّاكرِ يَوْمَ القيامَة. وَإِنّ الذِّكْرَ يُعْطِي الذَّاكِرَ قُوةً حَتَّى أَنَّهُ لِيفَعَلُ مَعْ الذكْرِ مَا لَمْ يَظنَّ فِعْلَهُ بِدونِهِ قالَ: وَقَدْ شَاهَدتُ من قُوَّةِ شَيْخ الإِسْلامِ ابنِ تَيْمِيَّةَ في سُنَنِه وَكَلامِهِ وَإِقْدَامِهِ وَكِتَابَتَه أمْرًا عَجِيبًا فَكَانَ يَكْتُبُ في اليومِ مِنْ التَّصْنِيفِ ما يَكْتُبُه النَّاسِخُ في جُمْعَةٍ وَأَكْثَرْ.
ما دُمْتَ تَقْدِرْ فأكْثِرْ ذِكْرِ خَالِقِنَا
…
وَأَدِّ وَاجِبَهُ نَحْوَ العِبَادَاتِ
فَسْوَفَ تَنْدَمُ إِنْ فَرطَّتَ في زَمنٍ
…
مَا فِيهِ ذِكْرٌ لِخَلاقِ السَّمَاوَاتِ
وَقَدْ عَلَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ابْنَتَهُ فاطمةَ وعليًّا رضي الله عنهما أن يُسَبِّحَا كلّ
لَيْلَةِ إِذَا أَخَذَ مَضَاجِعُهُمَا ثَلاثًا وَثَلاثِينَ، ويَحْمَدَا ثَلاثًا وَثَلاثِين، وَيُكَبِّرَا أَرْبَعًا وَثَلاثِين، لَمَّا سَأَلْتُهُ الْخَادِمَ وَشَكَتْ إِلَيْهِ مَا تُقَاسِيهِ مِنْ الطَّحْنِ وَالسَّعْي والْخِدْمَةَ فَعَلَّمَهَا ذَلِكَ، وَقَالَ:«إِنَّهُ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادَم» .
فَقِيلَ إِنَّ مَنْ دَاوَمَ عَلَى ذَلِكَ وجَد قُوةً في عَمَله مُغْنِيَةً عَنْ خَادِمْ، قَالَ: وَسَمِعْتُ شَيْخَ الإسْلامِ ابنُ تَيْمِيَّةِ - رَحِمَهُ الله تعالى - يَذْكُر أَثَرًا في هَذَا البَابِ، وَيَقُول: إنّ الملائكة لَمَّا أُمِروا بِحَمْلِ العَرْشِ، قَالُوا: يَا رَبَّنَا كَيْفَ نَحْمِلُ عَرْشَكَ وَعَلَيْهِ عَظَمَتُكَ وَجَلالَكْ، فَقَالَ قُولُوا: لا حَوْلَ ولا قوة إلا بالله.
فَلَمَّا قَالُوا حَمَلُوهُ حَتَّى رَأَيْتُ ابن أبي الدُّنْيَا قَدْ ذَكَر هَذَا الأَثَر بِعَيْنه عَنْ اللَّيْثِ بن سَعْد عَنْ مُعَاويةِ بن صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مَشْيَخَتُنَا أَنَّهُ بَلَغَهُم أنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ عز وجل حِين كانَ عَرْشُه على الماءِ حملة العَرْشِ قَالُوا: رَبَّنَا لِمَ خَلَقْتَنَا؟ قَالَ: خَلَقْتُكمْ لِحَمْلِ عَرْشِي. قَالُوا: رَبَّنَا وَمَنْ يَقْوَى عَلَى حَمْلِ عَرْشِكَ وَعَلْيِهِ عَظَمَتُكَ وَجَلالُكَ وَوَقَارِكَ؟ قَالَ: لِذَلِكَ خَلقْتكم، فَأَعادُوا عَلَيْهِ ذَلِكَ مِرَارًا فَقَالَ: قُولُوا: لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلا بالله فَحَمَلُوه.
قَالَ: وَهَذِهِ الكَلِمَةُ لَهَا تَأْثِيرٌ عَجِيب في مُعَانَاةِ الأَشْغَالِ الصَّعْبَةِ وَتَحَمُّلِ المشاقِّ والدُّخُولِ على الْمُلوكِ وَمَنْ يُخَافُ، وَرُكُوب الأَهْوَالِ، وَلَهَا أَيْضًا تَأْثِير في دَفْعِ الفَقْر، قَالَ: وَمَبْنَى الدِّينِ عَلَى قَاعِدَتَيْنَ: الذِّكْرِ، وَالشُّكْرِ.
إِذا رُمْتَ أَنْ تَحْظَى بِعِزِّ بِرِفعَةٍ
…
بِدُنْيَاكَ وَالأُخْرَى لِنَيْلَ السَّعَادَةِ
عَلَيْكَ بِذِكْرِ الله جل جلاله
…
وَإِيَّاكَ أَنْ تَغْفُلْ وَلَوْ قَدْرَ لَحْظَةِ
آخر:
إِلَهُ الوَرَى حَتْمٌ عَلَى النَّاسِ حَمْدُهُ
…
لِمَا جَادَ مِنْ فَضْلٍ عَلَيْهِمْ بِلا مَنِ
وَلَيْسَ الْمُرادُ بِالذِّكْرِ مُجَرّدَ ذِكْرِ اللسانِ بَلْ الذِّكْرُ لِقَلْبِي وَاللِّسَانِي وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ مَعْرِفَته وَالإيمانَ بِهِ وَبِصِفَاتِ كَمَالِهِ وَنُعُوتِ جَلالِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بأنواعِ اْلَمْدِح وَذَلِكَ لا يَتِمُّ إلا بِتَوْحِيدِهِ فَذِكْرُه الْحَقِيقِي يَسْتَلْزِمُ ذِكْرَ نِعَمِهِ وَآلائِهِ وَإِحْسَانِهِ إِلى خَلْقِهِ.
وَأَمَّا الشُّكْر فَهُو القِيَامُ بِطَاعَتِهْ فَذِكْرُهُ مُسْتَلْزِمٌ لِمَعْرِفَتِهِ وَشُكْرُهُ مُتَضِمّنٌ لِطَاعَتِهِ وَهُمَا الغَايةُ التِي خُلَقَ لأَجْلِهَا الْجِنُّ وَالإِنْس.
(فائدة) : قَالَ الشَّيْخُ تَقِي الدِّين: مَنْ ابْتُلِيَ بِبِلاءِ قَلْبٍ أَزْعَجَهُ فَأَعْظَمُ دَوَاءٍ لَهُ قُوّةُ الالْتِجَاءِ إلى اللهِ وَدَاومُ التَّضَرُّعِ وَالدُّعَاءِ فَإِنْ يَتَعَلمّ الأَدْعِيَةَ الْمَأْثُورَةَ وَيَتَوَخّى الدُّعاءِ في مَظَانِّ الإِجَابَةِ مِثْلُ آخِرَ اللَّيْلِ وَأَوْقَاتِ الآذَانِ وَالإِقَامَةِ وَفِي السُّجُودِ وَإدبارِ الصَّلَواتْ وَيَضُمُّ إِلى ذَلِكَ الاسْتِغْفَارِ.
وَلَيْتَخِّذُ وِرْدًا مِنْ الأَذْكَارِ طَرْفَي النَّهَارِ وَعِنْدَ النَّوْمِ وَلِيَصْبِرُ عَلَى مَا يَعْرِضُ لَهُ مِنْ الْمَوَانِع والصَّوَارِفِ فَإِنَّهُ لا بد أَنْ يُؤَيّدَهُ اللهُ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيَكْتُبَ الإيمَانَ في قَلْبِه وَلِيْحَرْصَ عَلى عَمُودُ الدِّينِ، وَلِيَكُنْ هُجَيْرَاهُ لا حَوْلَ وَلا قِوَّةَ إلا بِاللهِ العَلي العظيمْ.
فَإِنَّهُ بِهَا يَحْمِلُ الأَثْقَالَ وَيُكَابِدُ الأَهْوَالَ، وَيَنَالُ رَفِيعَ الأَحْوَالِ وَلا يَسْأَمُ مِن الدُّعَاءِ وَالطَّلَبْ، فَإِنَّ العَبْدَ يُسْتَجَابُ لَهُ مَا لَمْ يَعْجَل وَلِيَعْلَمَ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الفَرَج مَعَ الكَرْب وَأنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرَا، وَلَمْ يَنَلْ أَحَدٌ شَيْئًا مِنْ عَمِيمِ الْخَيْرِ إلا بِالصَّبْرِ والله الموفق.
شِعْرًا:
…
لا تَقْصُدِ النَّاسَ إِذَا أَدْبَرَتْ
…
دُنْيَاكَ وَاقْصُدْ مِنْ جَوَادٍ كَرِيم
كيفَ يُرَجى الرِّزْقُ مِنْ عِنْدِ مَنْ
…
يَطْلُبُ الرِّزْقَ مِنْ الرَّبِ الرَّحِيم
آخر:
يا أَيُّهَا الطَّالِبُ مِنْ مِثلِهِ
…
رِزْقًا لَهُ جُرْتَ عَنِ الحِكمَةِ
لا تَطلُبَنَّ الرِّزْقَ مِنْ طَالِبٍ
…
مِثْلُكَ مُحْتَاجُ إِلى الرَّحْمَةِ
وَاِرغَبْ إِلى اللهِ الَّذي لَمْ يَزَلْ
…
في يَدِهِ النِّعْمَةُ وَالنِّقْمَةِ
شِعْرًا:
بِذِكْرِكَ يَا مَوْلَى الوَرَى نَتَنَعَّمُ
…
وَقَدْ خَابَ قَوْمٌ عَنْ سَبِيلِكَ قَدْ عَمُوا
شَهِدْنَا يَقِينًا أَنَّ عِلْمَكُ وَاسِعٌ
…
فَأَنْتَ تَرى مَا في القُلوبِ وَتَعْلَمُ
إِلَهِي تَحَمَّلْنَا ذُنُوبًا عَظِيمَةً
…
أَسَأْنَا وَقَصَّرْنَا وَجُودُكَ أَعْظَمُ
وَحَقِّكَ مَا فِينَا مُسِيءٌ يَسُرُّهُ
…
صُدُودُكَ عَنْهُ بَلْ يَخَافُ وَيَنْدَمُ
سَكَتْنَا عَنْ الشَّكْوَى حَيَاءً وَهِيبَةً
…
وَحَاجَاتُنَا بِالْمُقْتَضَى تَتَكَلَّمُ
إِذَا كَانَ ذُلُّ العَبْدِ بالحال نَاطِقًا
…
فَهَلْ يَسْتَطِيع الصَّبْرَ عَنْهُ وَيَكْتُمُ
إِلَهِي فَجُدْ واصْفَحَ وَأَصْلِحْ قُلُوبَنَا
…
فَأَنْتَ الذِي تُولِي الْجَمِيلَ وَتُكْرِمُ
وَأَنْتَ الذِي قَرَّبْتَ قَوْمًا فَوَافَقُوا
…
وَوَفَّقْتَهُم حَتَّى أَنَابُوا وَأَسْلَمُوا
وَقُلْتَ اسْتَقَامُوا مِنَّةً وَتَكَرُّمًا
…
فَأَنْتَ الذِي قَوَّمْتَهُم فَتَقَوَّمُوا
لَهُمْ في الدُّجَى أُنْسٌ بِذِكْرِكَ دَائِمًا
…
فَهُمْ في اللَّيَالِي سَاجِدُونَ وَقُوَّمُ
نَظَرْتَ إِلَيْهِمْ نَظْرَةً بِتَعَطُفٍ
…
فَعَاشُوا بِهَا وَالنَّاسُ سَكْرَى وَنُوَّمُ
لَكَ الْحَمْدُ عَامِلْنَا بِمَا أَنْتَ أَهْلُهُ
…
وَسَامِح وَسَلِّمْنَا فَأَنْتَ الْمُسَلِّمُ
اللَّهُمَّ ألْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ وَوَفِّقْنَا لِمَا وَفِّقْتَ لَهُ الصَّالِحِينَ مِنْ خَلْقِكَ اللَّهُمَّ أحْي قُلُوبًا أَمَاتَهَا البُعْدُ عَنْ بَابِكَ، وَلا تُعَذّبْنَا بَأليمِ عِقَابِكَ يَا أَكْرَمَ مَنْ سَمَحَ بالنَّوَالِ وَجَادَ بَالأفْضَالِ، اللَّهُمَّ أَيْقَضْنَا مِنْ غَفْلَتِنَا بُلطْفِكَ وَإِحْسَانِكَ، وَتَجَاوَزْ عَنْ جَرَائِمِنَا بَعَفْوِكَ وَغُفْرَانِكَ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) : قالَ في حَادِي الأَرْوَاحِ: وَلِمَّا عَلِمَ الْمُوَفّقُونَ مَا خُلِقُوا لَهُ وَمَا إِيجَادُهُمْ لَهُ رَفَعُوا رُؤوسَهُمْ فَإِذَا عَلمُ الْجَنَّةِ قَدْ رُفِعَ لَهُمْ شَمَّرُوا إِلَيْهِ وَإِذَا صِرَاطُهَا الْمُسْتَقِيم قَدْ وَضَحَ لَهُمْ فاسْتَقَامُوا عَلَيْهِ وَرَأَوْا مِنْ أَعْظَمِ الغَبَنِ بَيْعُ مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ.
وَفِي أَبَدٍ لا يَزُول ولا يَنْفَذْ بِصُبَابهِ عَيْشٍ إِنَّمَا هُوَ أَضْغَاثُ أَحْلامٍ أَوْ كَطِيفٍ زَارَ في الْمَنَامِ مَشُوبٍ بِالنَّغْص مَمْزُوجٍ بَالغُصَصِ إِنْ أَضْحَكَ قَلِيلاً أَبْكَى كَثِيرًا وَإِنْ سَرَّ يَوْمًا أحزَنَ شُهُورًا آلامُهُ تَزِيدُ عَلَى لَذّاتِهِ وَأَحْزَانُهُ أَضْعَافُ مَسَّرَاتِهِ أَوَّلُهُ مَخَاوِِفُ وَآخِرُهُ مُتَألِفُ.
فَيَا عَجَبًا مِنْ سَفِيهٍ في صُورةِ حَكيم وَمَعْتُوهٍ في مِسْلاخِ عاقِل آثرَ الحَضَّ الفانِي الخَسِيسَ على الحضّ الْبَاقي النَّفِيس باعَ جَنَّةٍ عَرْضُها الأَرْضُ والسَّمَاوَاتُ بِسِجْنٍ ضَيِّقٍ بَيْنَ أَرْبَابَ الْعَاهَاتِ وَالْبَلِّيَاتِ وَمَسَاكِنَ طَيَّبَةً في جَنَّاتِ عَدْنٍ تَجْري مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَار بِأَعْطَانٍ ضَيِّقَةٍ آخِرُها الْخَرابُ وَالبَوارُ.
وأبكارَا عُرْبًا أَتْرابًا كَأنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ والْمَرْجَانُ بِقَذرَاتٍ دَنِسَاتٍ سَيِّئَاتِ الأخْلاقِ مُسَافِحَاتِ أَوْ مُتَّخِذَاتِ أَخْذانٍ وَحُورًا مقْصُوراتًا في الخِيامِ بِخَبْيثَاتِ مُسَيَّباتٍ بَيْنِ الأنام، وَأنْهَارًا مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبينَ بِشَرَابٍ نَجَسٍ مُذْهِبٍ لِلْعَقْلٍ مُفْسِدٍ لِلدُّنْيَا وَالدِّين، وَلَذَّةِ النَّظَرِ إِلى وَجْهِ العَزِيزِ الرَّحِيمِ بِالتَّمَتُّعِ بِرُؤْيَةِ الْوَجْهِ القَبِيحْ الذَّميم.
وَسَمَاعَ الخِطَابِ مِن الرحمن بِسَماعَ الْمَعازِفِ وَالْغِنَاءِ وَالألْحَانِ، والجُلُوسِ على مَنَابِرِ اللُّؤْلؤ واليَاقُوتِ وَالمُرْجَانِ وَالزَّبَرْجَدِ وَيَوْمَ المزيدِ بالجُلُوسِ في مَجَالِسِ الفُسُوقِ مَعَ كُلِّ شيطانٍ مَرِيدٍ.
وَإِنَّمَا يَظْهَرُ الْغَبْنُ الفاحِشُ في هَذَا البيع يومَ القِيَامَةِ وَيَتَبَيَّنَ سَفهُ بَائِعِهِ يَوْمَ الْحَسْرَةِ والنَّدَامَةِ إَذَا حُشِرَ المُتَّقُونَ إلى الرَّحْمَنِ وفْدًا وسِيقَ المُجْرِمُون إلى جَهَنَّم وِرْدًا وَنَادَى المُنَادِي عَلَى رُؤوس الأشْهادِ لِيَعْلَمَنَّ أَهْلُ المَوقف مَنْ أولى بِالكَرَمِ مِنْ بَيْنِ العَبَادْ.
فَلَوْ تَوَهَّمَ المُتَخَّلِّفُ عَنْ هَذِهِ الرِّفَقَةُ وَمَا أُعِدَّ لَهُم مِنَ الإكْرَامِ وَادُّخِرِ لَهُمْ مِنَ الفَضْلِ وَالإِنْعَامِ وَمَا أُخْفِى لَهُم مِنْ قُرَّةِ أَعْينٍ لَمْ يَقَعُ على مِثْلِها بَصَرٌ ولا سَمِعَتْهُ أُذنٌ وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ عَلِمَ أَيُّ بِضَاعَةٍ أَضَاعْ وَأَنَّهُ لا خَيْرَ لَهُ في حَيَاتِهِ وَهُوَ مَعْدُودٌ مِن سَقَطِ الْمَتَاعُ.
وَأنَّ الْقَوْمَ قَدْ تَوَسَّطُوا مُلْكًا كَبِيرًا لا تَعْتَرِيه الآفَاتُ وَلا يَلْحَقُه الزَّوَالُ وَفَازُوا بِالنَّعِيمِ المقيم في جِوَارِ الرَّبِ الكَبيرِ المُتَعَالِ فَهُمْ في رَوْضَاتِ الجَنَّاتِ
يَتَقَلَّبُونَ وَعَلى أَسِرَّتِهَا تَحْتَ الحِجَالِ يَجْلِسُونَ وعلى الفُرُشِ التي بَطَائِنُهَا مِن إسْتَبْرَقِ يَتَّكِئُونَ وبِالحُورِ العِينِ يَتَمَتَّعُونَ.
وبأنواع الثِّمارِ يَتَفَكَّهُونَ {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ * لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، {يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} تاللهِ لقَدْ نُودِي عليها في سُوقِ الْكَسَادِ فَمَا قَلَّبَ وَلا اسْتَامَ إِلا أَفْرَادٌ مِنَ العِبَادِ. وقال رحمه الله في النونية:
بِاللهِ ما عُذْرَ امْرِءٍ هُو مُؤْمِنٌ
…
حَقًا بِهَذَا لَيْسَ بِالْيَقْظَانِ
بَلْ قَلْبُهُ في رَقْدَةٍِ فَإِذَا اسْتَفا
…
ق فَلُبْسُهُ هُوَ حُلَّةُ الْكَسْلانِ
تَاللهِ لَوْ شَاقتْكَ جَنَّاتُ النَّعِيـ
…
ـمِ طَلَبْتَهَا بِنَفَائِسِ الأَثْمَانِ
وَسَعَيْتَ جُهْدَكَ في وَصَالِ نَوَاعِمٍ
…
وَكَوَاعِبٍ بِيضِ الوُجُوهِ حِسَانِ
جُلَيَتْ عَلَيْكَ عَرائسٌ والله َلْو
…
تُجْلَى عَلَى صَخْرٍ مِنَ الصُّوَّانِ
رَقَّتْ حَواشِيهِ وَعاد لَوَقْتِهِ
…
يَنْهَالُ مِثْلَ نَقَىً مِنَ الكُثْبَانِ
لَكِنَّ قَلْبَك في القَسَاوَةِ جَازَ حَدَّ
…
الصَّخْرَةِ وَالْحَصْبَاءِ في أَشْجَانِ
لَوْ هَزَّكَ الشَّوْقُ المُقِيمُ وَكُنْتَ ذَا
…
حِسٍّ لَمَا اسْتَبْدَلْتَ بِالأَدْوَانِ
أَوْ صَادَقَتْ مِنْكَ الصِّفَاتُ حَياةَ قَلْـ
…
ـب كُنْتَ ذَا طَلَبٍ لِهَذَا الشَّانِ
حُورٌ تُزَفُّ إلَى ضَرِيرٍ مُقْعَدٍ
…
يا مِحْنَةَ الحَسْنَاءِ بِالْعُمْيَانِ
شَمْسٌ لِعَنِّينٍ تَزَفُ إليه مَا
…
ذَا حِيلَةُ الْعِنّيْنِ في الْغَشَيَانِ
يَا سِلْعَةَ الرَّحْمَنِ لَسْتِ رَخِيصَةً
…
بَل أَنْتِ غَالية على الْكَسْلانِ
يا سِلْعَةَ الرَّحْمَنِ ليس يَنَالُهَا
…
بالألْف إلا واحدٌ لا اثْنَانِ
يا سِلْعَةَ الرَّحْمَنِ ماذا كَفُوهَا
…
إلا أَولُو التَّقْوَى مَعَ الإِيمَانِ
يا سِلْعَةَ الرَّحْمَنِ سُوقُكِ كَاسِدٌ
…
بِيْنَ الأَرَاذِلِ سَفْلَةِ الْحَيَوَانِ
يا سِلْعَةَ الرَّحْمَنِ أَيْنَ المُشْتَرِي
…
فَلَقَدْ عُرِضْتِ بِأَيْسَرِ الأَثْمَانِ
يا سِلْعَةَ الرَّحْمَنِ هَلْ مِنْ خَاطِبٍ
…
فَالْمَهْرُ قَبْلَ المَوْتِ ذُو إِمْكَانِ
يا سِلْعَةَ الرَّحْمَنِ كَيْفَ تَصَبُّرْ الْـ
…
خُطَّابُ عَنْكِ وَهُمْ ذُوُو إِيمَانِ
يا سِلْعَةَ الرَّحْمَنِ لَوْلا أَنَّهَا
…
حُجِبَتْ بَكُلِّ مَكَارِهِ الإِنْسَانِ
مَا كَانَ عَنْهَا قَطُ مِن مُتَخَلِّفٍ
…
وَتَعَطّلتْ دَارُ الجَزَاءِ الثَّانِي
لَكْنَّهَا حُجِبَتْ بِكُلِّ كَرَيهَةٍ
…
لِيَصُدَّ عَنْهَا المُبْطِلُ المُتَوْانِي
وَتَنَالُهَا الهِمَمُ التِي تَسْمُو إِلَى
…
رَبِّ العُلَى بِمَشِيئَةِ الرَّحْمَنِ
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنَ الْمُتَّقِينَ الأبْرَارِ وَأَسْكِنَّا مَعْهمُ في دَارِ القَرارِ، اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا بِحُسْن الإِقْبَالِ عَلَيْكَ وَالإِصْغَاءِ إِلَيْكَ وَوَفِّقْنَا لِلتَّعَاوُنِ فِي طَاعَتِكَ وَالْمُبَادَرَةِ إِلى خِدْمَتكَ وَحُسْن الآداب في مُعَامَلَتِكَ وَالتَّسْلِيم لأَمْرِكَ وَالرِّضَا بِقَضَائِكَ وَالصَّبْر على بَلائِكَ وَالشُّكْر لِنَعْمَائِكَ، اللَّهُمَّ طَهِّرْ قُلُوبَنَا مِنَ النِّفَاقِ وَأَخْلِصْ عَمَلَنَا مِنَ الرِّيَاء وَمَكْسَبَنَا مِنَ الرِّبَا وَنَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإِيمَانِ وَثَبِّتْهَا عَلَى طَاعَتِكْ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) في فَضَائِل الاسْتِغْفَار
يُسْتَحَبُّ الإِكْثَارُ مِن الاسْتِغْفَار في كُلِّ وَقْتٍ وَيتَأَكَّدُ في الزَّمَانِ الفَاضِل وَالمَكَانِ الفَاضِلْ، قال تَعالى:{وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} ، وقال:{أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ، وقال تعالى:{وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} ؛ وقال تعالى مُخْبِرًا عن نوح: {
…
فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ} الآيَةْ، وقَالَ تَعَالى:{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَاّ اللهُ} ،
وقَالَ تَعَالى: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَّحِيماً} .
وَعَنْ شَدَّادٍ بنُ أوسٍ – رضي الله عنه – عَنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَال: «سَيِّدُ الاسْتِغْفَارُ أَنْ يَقُولَ العَبْدُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي، لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْت، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلِي، وَأَبُوء بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي، إِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أَنْتَ» .
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ – رضي الله عنهما – قَال: إِنَّا كُنَّا لَنَعُدُّ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في المَجْلِسِ يَقُول: «رَبَّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَابُ الغَفُور» . مائةَ مَرَّةْ.
وَعَنْ عَبْدُ اللهِ بنْ بُسْرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «طٌوبَى لِمَنْ وُجِدَ في صَحِيفَتِهِ اسْتِغْفَارًا كَثِيرًا» .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ عز وجل لَيَرْفَعُ الدَّرَجَة لِلْعَبْدِ الصَّالِحِ في الجَنَّة فَيَقُولُ: يَا رِبِّ أَنَّى لِي هَذِهِ؟ فَيَقُولُ: بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكْ» .
شِعْرًا:
يِا ذَا المَعَارِجَ أَنْتَ الله أَسْألهُ
…
وَأَنْتَ يَا رَبِّ مَدْعوٌّ وَمَسْئُولُ
أَدْعُوكَ أَدعُوكَ يَا قَيُّومُ فِي ظُلَمَ
…
وَكُل دَعٍ بِحُلْوِ النَّوْمِ مَشْغُولُ
تُعْطِي لِمَنْ شِئْتَ مَنْ يَسْأَلُكَ مِنْ سَعَةٍ
…
وَالخَيْرُ مِنْكَ لِمَنْ ناَدَاكَ مَبْذُولُ
تَغْفِرْ ذُنُوبِي وَتَخْتُمُ لِي بَخَاتِمِةٍ
…
تُرْضِيكَ عَنِّي وَظَنِّي فِيكَ مَأمُولُ
وَعَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لَزِمَ الاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللهُ لَهُ مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَمِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِب» .
وَعَنِ الأَغَرَّ الْمُزْنِي – رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة» .
وَقَالَ حُذَيْفَةْ: كُنْتُ ذَرِبَ اللِّسَانِ عَلِى أَهْلِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يُدْخِلَنِي لِسَانِي النَّارْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«فَأَيْنَ أَنْتَ مِنَ الاسْتِغْفَار، فَإِنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللهُ في اليْوَمِ مِائَةَ مَرَّة» . أَخْرَجَهُ النِّسَائِي.
وَعَنْ زَيْدٍ مَوْلَى رَسول الله صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ قَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ غُفِرَ لَهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ فَرَّ مِنَ الزَّحْفِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدْ.
وَعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الخُدْرِي رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ قَالَ حِينَ يَأْوِي إِلَى فِرَاشِهِ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الْحَيَّ الْقَيُّومَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ - غُفِرَتْ لَهُ ذُنُوبَهُ وَإِنْ كَانَتْ عَدَدَ رَمْلِ عَالِجٍ وَإِنْ كَانَتْ عَدَدَ أَيَّامِ الدُّنْيَا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِي.
وعنْ أَنَسٍ رضي الله عنه سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «قَالَ اللَّهُ تَعَالى: يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ منك وَلَا أُبَالِى، يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِى يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً» . رَوَاهُ التِّرْمِذِي. وَاللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمِ.
(فَصْلٌ) : وَعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الخُدْرِي – رضي الله عنه – عَنِ النَّبِيَ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «قَالَ إِبْلِيسُ: وَعِزَّتِكَ لا أَبْرَحُ أَغْوي عِبادَكَ مَا دَامَتْ أَرْوَاحُهُمْ في أَجْسَادِهُم، فَقَالَ: وَعِزَّتِي وَجَلالِي لا أَزَالُ أَغْفِرُ لَهُمْ ما اسْتَغْفَرُونِي» .
وَعَنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ
تَسُرُّهُ صَحِيفَتُهُ فَلْيُكْثِر فِيهَا مِنَ الاسْتِغْفَارْ» .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – عَنِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم قَال: «إِنَّ العَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئةً نُكِتَتْ في قَلْبِهِ نُكْتَةٌ، فَإِنْ هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَتْ، فَإِنْ عَادْ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُو قَلْبَهُ، فَذَلِكَ الرَّانُ الذِي ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} » .
وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ – رضي الله عنه – أَنَّ رَسُول اللهُ صلى الله عليه وسلم قَال: «إِنَّ لِلْقُلُوبِ صَدَأٌ كَصَدَأ النُّحَاسِ، وَجَلاؤُهَا الاسْتِغْفَارُ» .
وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ بنُ مَالِكٍ – رضي الله عنه – قال: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في مَسِيرَةٍ فَقَالَ: «اسْتَغْفِرُوا الله» فَاسْتَغْفَرْنَا، فَقَالَ:«أَتِمُّوهَا سَبِعِينَ مَرَّة» . فَأَتْمَمْنَاهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«مَا مِنْ عَبْدٍ وَلا أَمَةٍ يَسْتَغِفِرُ اللهَ في يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةٌ إِلا غَفَرَ اللهُ لَهُ سَبْعُمِائَةَ ذَنْب، وَقَدْ خَابِ عَبْدُ أَوْ أَمَة عَمِلَ في يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَكْثَرُ مِنْ سَبْعِمائَةِ ذَنْبٍ» .
وَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ تَعَالَى فَيَغْفِرُ لَهُمْ» . رَوَاهُ مُسْلِم.
وَفِي حَدِيثِ سَلْمَانْ: «فاسْتَكْثِروا فِيهِ مِنْ خِصْلَتِيْنِ تُرْضُونَ بِهِمَا رَبَّكُمُ فَشَهَادَةُ أَنَّ لا إِلَهَ إَلا اللهَ، والاسْتِغْفَارُ، وَأَمَّا التِي لا غِنَى بِكُمْ عَنْهُمَا فَتَسْأَلُونَهُ الجَنَّةَ، وَتَعُوذُونَ بِهِ مِنَ النَّارْ» .
فَهَذِهِ الخِصَالُ الأَرْبَعُ المَذْكُورَةِ في الحَدِيثِ كُلٌّ مِنْهَا سَبَبٌ لِلْمَغْفِرَةِ وَالعْتقِ مِنَ النَّار فَأمَّا كَلِمَةُ الإِخْلاصِ فَإِنَّهَا تَهْدِمُ الذُّنُوبِ وَتَمْحُوهَا مَحْوًا وَلا تُبِقِي ذَنْبًا، وَلا يَسْبِِقُهَا عَمَلٌ، وَهِي تَعْدِلُُ عِتْقُ الرِّقَابِ الذِي يُوجِبُ العِتْقَ مِنَ النَّارِ، وَمَنْ أَتَى بِهَا حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي أَعْتَقَهُ اللهُ مِنَ النَّارِ، وَمَنْ قَالَهَا
خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ حَرَّمَهُ اللهُ عَلَى النَّارِ» .
وَأَمَّا كَلِمَةُ الاسْتِغْفَارُ فَمِنْ أَعْظَمُ أَسْبَابِ المَغْفِرَةْ. فَإِنَّ الاسْتِغْفَارَ دُعَاءٌ بِالمَغْفِرَةِ، وَدُعَاءُ الصَّائِمِ إِذَا اجْتَمَعَتْ لَهُ الشُّرُوطُ وَانَتَفَتْ المَوَانِعَ مُسْتَجَابٌ حَالَ صِيَامِهِ وَعِنْدَ فِطْرِهِ.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: (وَيَغْفِرُ اللهُ إِلا لِمَنْ أَبِى، قَالُوا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: يَأْبَى أَنْ يَسْتَغْفِرَ اللهُ) .
وَقَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ: يَا بُنَيَّ عَوِّدْ لِسَانِكَ الاسْتِغْفَارَ، فَإِنَّ لِلَّهِ سَاعَاتٍ لا يَرُدُّ فِيهِ سِائِلاً، وَقَدْ جَمَعَ اللهُ بَيْنَ التَّوْحِيدِ والاسْتِغْفَارِ في قَوْلِهِ:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ} .
وَفِي بَعْضِ الآثَارْ: أَنَّ إِبْلِيسَ قَالَ: أَهْلَكْتُ النَّاسَ بِالذُّنُوبِ وَأَهْلَكُونِي بِالاسْتِغْفَارِ، وَلا إِلَهَ إِلا اللهُ.
وَالاسْتِغْفَارُ خِتَامُ الأَعْمَال الصَّالِحَةِ كُلِّهَا فَيُخْتَمُ بِهِ الصَّلاةُ، والحَجُّ، وَالْقِيامُ في اللَّيْلِ، وَيُخْتَمُ بِهِ المَجَالِسُ، فَإِنْ كَانَتْ ذِكْرًا كَانَ كَالطَّابِعَ عَلَيْهَا وَإْنِ كَانَتْ لَغْوًا كَانَ كَفَّارَةٌ لَهَا، فَكَذَلِكَ يَنْبِغِي أَنْ يُخْتَتَم صِيَامُ رَمَضَانَ بالاسْتِغْفَارِ يُرَفِّعُ مَا تَخَرَّقَ مِنَ الصِّيَامِ بِاللَّغْوِ وَالرَّفَثِ (وَيَجْتَهِدُ في الإِكْثَارِ مِنَ الأَعْمَالِ وَالتَّقَلُّلِ مِنَ شَوَاغِلِ الدُّنْيَا وَالإِقْبَالِ عَلَى الآخِرَةِ مَا دَامَ في قَيْدِ الحَياَةِ) .
وَمِنْ عِظَةِ الحَسَنَ الْبَصْرِي لِعُمَرَ بنُ عَبْدِ العَزِيزِ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الدُّنْيَا دَارُ ظَعَنِ لَيْسَتْ بَدَارَ إِقَامَة، لَهَا فِي كُلِّ حِينٍ قَتِيلٍ تُذِلَّ مِنْ أَعَزَّهَا وَتُفْقِرُ مَنْ جَمَعَهَا هِيَ كَالسُّمِّ يَأْكُله مَنْ لا يَعرِفُهُ وَفِيهِ حَتْفُهُ فَكُنْ فِيهَا كَالمُدَاوِي جِرَاحُهُ يَحْتَمِي قَلِيلاً مَخَافَةَ مَا يَكْرَهُ طَوِيلاً وَيَصْبِرُ عَلَى شِدَّةِ الدَّوَاءِ مَخَافَةِ طُولِ الدَّاءِ، فَاحْذَرْ هَذِهِ الدُّنْيَا الخَدَّاعةَ الغَدَّارَةَ الخَتَّالَةَ التِي قَدْ تَزَيَّنَتْ بِخِدَعِهَا وَقَتَلَتْ بَغُرُورِهَا وَتَحَلَّتْ بِآمَالَهَا وَسَوَّفَتْ بِخُطَّابِهَا.
فَأَصْبَحَتْ كَالعَرُوسَ المَجْلِيَّةِ، العُيُونُ إِلَيْهَا نَاظِرَةٌ وَالْقُلُوبُ عَلَيْهَا وَالِهَةٌ وَهِي لأَزْوَاجِهَا كُلِّهِمْ قََالِيَة، فَلا الْبَاقِي بِالْمَاضِي مُعْتَبِرٌ وَلا الآخِرُ بِالأوَّلِ مُزْدَجِرٌ فَعَاشِقٌ لَهَا قَدْ ظَفِرَ مِنْهَا بِحَاجَتِهِ فَاغْتَرَّ وَطَغَى وَنَسِي المَعَادَ فَشَغَلَ فِيهَا لُبَّهُ حَتَّى زَلَّتْ بِهِ قَدَمُهُ فَعَظُمَتْ نَدَامَتُهُ وَكُثُرَتْ حَسْرَتُهُ وَاجْتَمَعْتَ عَلَيْهِ سَكَرَاتُ الْمَوْتِ وَتَأَلُمِهُ وَحَسَرَاتُ الفَوْتِ بِغُصَّتِهِ وَرَاغِبٌ فِيهَا لَمْ يُدْرِك مِنْهَا مَا طَلَبْ وَلَمْ يُرِجْ نَفْسَهُ مِنَ التَّعَبِ فَخَرَجَ بِغَيْرِ زَادٍ وَقَدَمَ عَلَى غَيْرِ مِهَادٍ.
فَاحْذَرْهَا يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ وَكُنْ أَسَرَّ مَا تَكُونُ فِيهَا أَحْذَرُ لَهَا فَإِنَّ صَاحِبَ الدُّنْيَا كُلَّمَا اطْمَأَنَّ فِيهَا إِلَى سُرُورٍ أَشْخَصَتْهُ إِلَى مَكْرُوهٍ وَضَارٍ وَقَدْ وَصَلَ الرَّخَاءُ مِنْهَا بِالْبَلاءِ وَجُعِلَ البَقَاء إلى فَناءِ فَسُرُورُهَا مُشُوبٌ بِالأَحْزَانْ، أَمَانِيهَا كَاذِبَةٌ وَآمَالُهَا بَاطِلَةٌ وَصَفْوهَا كَدَرٌ وَعَيْشُهَا نَكَدٌ وَابْنُ آدَمَ فِيهَا عَلَى خَطَرٍ. أ. هـ.
شِعْرًا:
فَيَا أَيُّهَا النَّاسِي لِيَوْمِ رَحِيلِهِ
…
أَرِاكَ عَنِ الموتِ المُفِرِّقِ لاهِيًا
أَلا تَعْتَبِرُ بِالرَّاحِلِينَ إِلَى الْبَلَى
…
وَتَرْكِهُمُ الدُّنْيَا جَمِيعًا كَمَا هَيَا
وَلَمْ يَخْرُجُوا إِلا بِقُطْنٍ وَخِرْقَةٍ
…
وَمَا عَمَّرُوا مِنْ مَنْزِلٍ ظَلَّ خَالِيَا
وَأَنْتَ غَدًا أَوْ بَعْدَهُ فِي جِوَارِهِمْ
…
وَحِيدًا فَرِيدًا فِي المَقَابِر ثَاوِيَا
اللَّهُمَّ يا مَنْ لا تَضُرَّهُ الْمَعْصِيةُ ولا تَنْفَعَهُ الطَّاعَةِ أَيْقِظْنَا مِنْ نَوْمِ الغَفْلَةِ وَنَبَّهْنَا لاغْتِنَامِ أَوْقَاتِ الْمُهْلَةِ وَوِفِّقْنَا لِمَصَالِحْنَا وَاعْصِمْنَا مِنْ قَبَائِحْنَا وَذُنُوبنَا وَلا تُؤاخِذْنَا بِمَا انْطَوَتَ عَلَيْهِ ضَمَائِرُنَا وَأَكَنَّتْهُ سَرائِرُنَا مِنْ أَنْوَاعِ القَبَائِحِ والْمَعَائِبِ التي تَعْلَمُهَا مِنَّا، وامنُنْ عَلَيْنَا يَا مَوْلانَا بِتَوْبَةٍ تمحو بها عنا كُلَّ ذَنْبٍ، اللَّهُمَّ أنْظُمْنَا فِي سِلْكِ الفَائِزِينَ بِرِضْوَانِكَ، وَاجْعَلْنَا مِنْ الْمُتَّقِينَ الذِينَ أَعْدَدْتَ لَهُمْ فَسِيحَ جِنَانِكَ، وَأَدْخِلْنَا بِرَحْمَتِكَ فِي دَارِ أَمَانِكَ وَعَافِنَا يَا مَوْلانَا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ مِنْ جَمِيعِ البَلايَا وَأَجْزِلْ لَنَا مِنْ مَوَاهِبِ فَضْلِكَ وَهِبَاتِكَ وَمَتِّعْنَا بَالنَّظَرِ إِلى وَجْهِكَ الكَرِيمِ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ
وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) في أَحْكَامِ الاعْتِكَافِ في المَسْجِدْ
الاعْتِكَافُ لُغَةً: لُزُومِ الشَّيْءِ، وَحَبْسُ النَّفْسِ عَلَيْهِ بِرًّا كَانَ أَوْ غَيْرُهُ، وَفِي الشَّرْعِ: لُزُومِ مُسْلِمٍ لا غُسْلَ عَلَيْهِ، عَاقِلٍ وَلَوْ مُمَيَّزًا مَسْجِدًا وَلَوْ سَاعَةً مِن لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ لِطَاعَةِ اللهِ.
وَهُوَ سُنَّةٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَفِي رَمَضَانَ آكَدَهُ، وَآكَدَهُ عَشْرهُ الأَخِيرُ لِمَا وَرَدْ عَنْ عَائِشَةَ – رضي الله عنها – قَالَتْ:(كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانْ) .
وَعَنْ أَنَسٍ – رضي الله عنه – قَالَ: (كَانَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانْ فَلَمْ يَعْتَكِفْ عَامًا، فَلَمَّا كَانَ فِي الْعَامِ المُقْبِلِ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ) .
أَمَّا كَوْنُهُ لا يَصِّحُ مِنَ الكَافِرْ، فَلأَنَّهُ مَنْ فُرُوعِ الإِيمَانِ، وَلا يَصِحّ مِنْهُ كَالصَّوْمِ، وَأَمَّا مَنْ زَالَ عَقْلُهُ كَالمَجْنُونِ فَلأنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلَِ العِبَادَاتِ فَلَمْ يَصِحّ مِنْهُ.
أَمَّا كَوْنُهُ لا غُسْلَ عَلَيْهِ فَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ – رضي الله عنها: «إِنّي لا أُحِلُّ المَسْجِدَ لِحَائِضٍٍ وَلا جُنُبْ» .
وَأَمَّا كَوْنُهُ فِي مَسْجِدٍ فَلِقَوْلِهِ تَعَالِى: {وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} وَلا يَصِحُّ إِلا فِي مَسْجِدٍ تُقَامُ فِيهِ الجَمَاعَةْ، لأَنَّ الاعْتِكَافَ في غَيْرِهِ يُفْضِي إِمَّا تَرْكِ الجَمَاعَةِ، أَوْ تَكَرُّرِ الخُرُوجِ إِلَيْهَا كَثِيرًا مَعَ إِمْكَانِ التَّحَرُّزِ مِنْهُ وَهُوَ مُنَافٍ لِلاعْتِكَاف.
والاعْتِكَافُ فِي مَسْجِدٍ تُقَامُ فِيهِ الجُمَعُ أَفْضَلُ، لِئَلا يَحْتَاجَ إَلَى الخُروجِ إِلَيْهَا، وَلأنَّ ثَوَابَ الجَمَاعَةِ فِي الجَامِعِ أَكْثَرُ وِلأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اعْتَكَفَ فِي المَسْجِدِ الجَامِعِ.
وَيَجِبُ الاعْتِكَافُ بِالنَّذْرِ، قَالَ ابْنُ المُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ العِلْمِ عَلَى أَنَّ الاعْتِكَافُ لا يَجِبُ عَلَى النَّاسِ فَرْضًا إِلا أَنْ يُوجِبَ المَرْءُ عَلىَ نَفْسِهِ الاعْتِكَافُ نُذْراً لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ الله فَلْيُطِعِهُ» .
وَالأَفْضَلُ أَنْ يَعْتَكِفَ بِصَوْمِ، وَلأَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتَكِفُ في شَهْرِ رَمَضَانَ، فَإِن اعْتَكَفَ بِغَيْرِ صَوْمٍ جَازَ، لِحَدِيثِ عُمَرَ رضي الله عنه – قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي نَذَرْتُ فِي الجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ، قَال:«فَأَوْفِ بِنَذْرِكَ» .
وَلَوْ كَانَ الصَّوْمُ شَرْطًا فِيهِ لَمَا صَحَّ اعْتِكَافُ اللَّيْلِ، وَكَالصَّلاةِ وَسَائِرِ العِبَادَاتِ.
وَلا يَصِحُّ اعْتِكَافُ الأَبْنَِيَةِ لأنَّهُ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ، وَلِحَدِيثِ:«إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَاتِ» .
وَمَنْ نَذَرَ الاعْتِكَافَ أَوْ الصَّلاةَ فِي مَسْجِدٍ غَيْرِ الثَّلاثَة، وَهِيَ: المَسْجِدُ الحَرَامُ، وَمَسْجِدُ المَدِينَةِ، وَالمَسْجِدُ الأَقْصَى، جَازَ لَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي غَيْرِهِ لأنَّهُ لا مَزِيَّةَ لِبَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ.
وَإِنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ لَزِمَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِيهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ – رضي الله عنه – أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كُنْتُ نَذَرْتُ فِي الجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ، قَالَ:«أَوْفِ بِنَذْرِكَ» .
وَلأنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ سَائِرِ المَسَاجِدُ، وَلا يَجُوزُ أَنْ يُسْقِطَ فَرْضَهُ بِمَا دُونَهُ.
وَإِنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدِ المَدِينَةِ جَازِ لَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ في المَسْجِدِ الحَرَامِ لأنَّهُ أَفْضَلَ مِنْهُ وَلِمْ يَجُزْ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي المَسْجِدِ الأَقْصَى لأنَّ مَسْجِدَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَفْضَلُ مِنْهُ.
وَإِنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي المَسْجِدَ الأَقْصَى جَازَ لَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي أَيِّ المَسْجِدَيْنِ أَحَبَّ لأنَّهُمَا أَفْضَلَ مِنْهُ. بِدَلِيل قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «صَلاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفَ صَلاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلا المَسْجِدَ الْحَرَامِ» .
وَلا يَجُوزُ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ المَسْجِدِ لِغَيْرِ عُذْرٍ لِمَا رَوْتَ عَائِشَةُ رضي الله عنها – قَالَتْ: (إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيُدْخِلُ عَلَيَّ رَأْسَهُ وَهُوَ فِي المَسْجِدِ فَأُرَجِّلُهُ، وَكَانَ لا يَدْخُلَ البَيْتَ إِلا لِحَاجَةٍ إِذَا كَانَ مُعْتَكِفًا» .
وَعَنْهَا رضي الله عنها – قَالَتْ: (السُّنَّةُ عَلَى المُعْتَكِفِ أَنْ لا يُعُودَ مَرِيضًا، وَلا يَشْهَدَ جَنَازَةً، وَلا يَمِسُّ امْرَأَةً وَلا يُبَاشِرَهَا، وَلا يَخْرُجَ لِحَاجِةِ إِنْسَانِ إِلا مِمَّا لا بُدَّ مِنْهُ، وَلا اعْتِكَافَ إِلا بِصَوْمٍ، وَلا اعْتِكَافُ إلا فِي مَسْجِدٍ جَامِعٍ) .
فَإِنْ خَرَجَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ بَطُلَ اعْتِكَافُهُ، لأنَّ الاعْتِكَافَ اللُّبْثُ في المَسْجِدِ فَإِذَا خَرَجَ فَقَدْ فَعَلَ مَا يُنَافِيهِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ كَمَا لَوْ أَكَلَ فِي الصَّوْمِ ذِاكِرًا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَخْرُجَ لِحَاجَةِ الإِنْسَانِ وَلا يَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ، وَكَذَا إِنْ خَرَجَ مِنَ المَسْجِدَ نَاسِيًا لِمْ يَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» .
وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُعْتَكِفِ التَّشَاغُلِ بِفعل القُرَبِ كَقِرَاءَةِ القُرْآنِ وَالأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةِ، وَالصَّلاةِ وَذِكْرُ اللهِ وَنَحْوَ ذَلِكْ.
وَسُنَّ لَهُ اجْتِنَابُ مَا لا يَعْنِيهِ مِنْ جَدَلٍ وَمِرَاءٍ وَكَثْرَةِ كَلامٍ لَمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ» .
(فائدة) : قيل للقمان: مَا بَلَغَ ما نَرى؟ يُرِيدُونَ الفَضْلَ، قال: صِدْقُ الحَدِيثِ، وَأَدَاءُ الأَمَانة، وَتركُ مَا لا يَعْنِي.
شِعْرًا:
عَلَى فِيكَ مِمَّا لَيْسَ يُغْنِيكَ شَأْنُهُ
…
بِقُفِلٍ وَثَيقٍ مَا اسْتَطْعَتْ فَاقْفِلِ
اللَّهُمَّ يَا خَالِقَ الخَلْقِ يَا قَيُّومُ نَسْألُكَ بِأَسْمائِكَ الحُسْنَى أَنْ تنصُرَ الإِسْلامِ وَالمُسْلِمِينَ وَأَنْ تُعْلِي بِفَضْلِكَ كَلِمَةَ الحَقِّ وَالدِّينِ وَأْن تَشْمَلَ بِعَنَايَتِكَ وَتَوْفِيقِكِ كُلَّ نَصَرَ الدِّينَ وَأَنْ تَمْلأ قُلُوبَنَا بِمَحَبِّتَكَ وَمَحَبَّةِ مِنْ يُحبُّكَ وَأَنْ تَأْخُذَ بِنَوَاصِينَا إِلَى مَا تَرْضَاهُ وَأَنْ تَرْزُقْنَا الاسْتِعْدَادَ لِمَا أَمَامَنَا وَأَنْ تُهَوِّنَ أَمْرَ الدُّنْيَا عَلَيْنَا، وَأَنْ تَغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) في بِنَاءِ المسَاجِدِ وَآدَابِهَا
وَيَبْحَثْ فِي:
1-
مَا وَرَدَ فِي الحَثِّ عَلَى بِنَاءِ المَسَاجِدِ وَثَوَابِهَا العَظِيم.
2-
مَا وَرَدَ فِي صِيَانَةِ المَسَاجِدِ عَنِ الأَقْذَارِ وَتَنْظِيفِهَا.
3-
مَا وَرَدَ فِي تَجَنُّبِ آكِلِ البَصَلِ وَالثَّوْمِ الصَّلاةِ في المَسَاجِدِ وَإِبْعَادِ الصَّغِيرِ والمجنون.
4-
يَنْبَغِي تَجْنِيبُ المَساجِدِ البيعَ وَالشِّرَاء وَرَفْعَ الصَّوْتِ وَنُشْدَانَ الضَّالَةِ فِيهَا.
5-
حُرْمَةُ المُبَالَغَةِ فِي زَخرَفَةِ المَسَاجِدِ.
6-
كَرَاهَةُ إلتْزَامُ مَوْضِعٍ مُعَيّنٍ مِنَ المَسْجَدِ لِلصَّلاةِ لِغَيْرِ الإمَامْ.
1-
مَا وَرَدَ في الحَثِّ عَلَى بِنَاءِ المساجِدِ وَثَوَابِهَا العظيمْ:
بِنَاءُ المَسَاجِدِ في الأَمْصَارِ وَالقُرَى وَالمَحَالِّ وَنَحْوِهَا حَسَبِ الحَاجَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَيُسْتَحَبُّ اتِّخَاذُ المَسَاجِدِ فِي الدَّورِ، وَتنْظِيفِهَا وَتَطْييبِهَا، قَالَ تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ
…
} الآية. لما روت عائشة رضي الله عنها – قالت: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المَسَاجِدِ فِي الدّورِ، وَأَنْ تُنَظِّفَ وَتُطَيَّبْ.
شِعْرًا:
وَلَمْ أَرَى لِلْخَلائِقِ مِنْ مُرَبٍّ
…
كَعْلْمِ الشَّرْعِ يُؤخَذُ عَنْ ثِقَاتِ
بِبَيْتِ اللهَ مَدْرَسَةِ الأَوَالَي
…
لِمَنْ يَهْوَى العُلُومُ الرَّاقِيَاتَ
وَعَنْ عُثْمَانَ بنُ عَفَّانٍ رضي الله عنه – قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُول: «مَنْ بِنْى لِلَّهِ مَسْجِدًا بَنَى اللهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الجَنَّة» .
وَعَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما – عَنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا وَلَوْ كَمَفْحِصَ قَطَاةٍٍ بَنَى لَهُ بَيْتًا فِي الجَنَّة» .
وَعَنْ عُمَرَ بنُ الخَطَّابِ رضي الله عنه – قَالَ: سَمِعْتُ رسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُول: «مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا يُذْكَرُ فِيهِ الله، بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا في الجنة» .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ بَنَى بَيْتًا يُعْبَدُ اللهُ فِيهِ مِنْ مَالٍ حَلالٍ بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا في الجَنَّة» .
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةٍ رضي الله عنها عَنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لا يُرِيدُ رِيَاءً وَلا سُمْعَةً بِنَى اللهُ لُهُ بَيْتًا فِي الجنة» .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مَمَّا يَلْحَقُ المُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ: عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، أَوْ وَلَدًا صَالِحًا تَرَكَه، أَوْ مُصْحَفًا وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صَحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ، تَلْحَقُهُ بَعْدِ مَوْتِهِ» .
وَأَحَبُّ البِلادِ إِلى اللهِ مَسَاجِدُهَا، وَأبغَضُ البلادِ إِلَى اللهِ أَسْوَاقُهَا، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«أَحَبُّ البلادِ إِلَى اللهِ مَسَاجِدُهَا وَأَبْغَضُ البِلادِ إِلَى اللهِ أَسْوَاقُهَا» .
اللَّهُمَّ أَتْمِمْ عَلَيْنَا نِعْمَتَكَ الوَافِيَةَ وَارْزُقْنَا الإخْلاصَ فِي أَعْمَالِنَا وَالصِّدْقَ في أَقْوَالِنَا وَعُدْ عَلَيْنَا بِإصْلاحِ قُلُوبِنَا، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) : 2- مَا وَرَدَ في صِيَانَةِ الْمَسَاجِدِ وَتَنْظِيفِهَا:
وَيُسَنُّ صِيَانَةُ المَسَاجِدِ عَنْ كُلِّ وَسَخٍ، وَقَذَرٍ، وَقَذَاةٍ، وَمُخَاطٍ، وَبُصَاقٍ، وَتَقْلِيمِ أَظْفَارٍ، وَقَصِّ شَارِبٍ، وَحَلْقِ رَأْسٍ، وَنَتْفِ إِبْطٍ لِمَا وَرَدَ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «عُرِضَتْ عَلَيّ أُجُورُ أَعْمَالِ أُمَّتِي حَتَّى الْقَذَاةَ يُخْرِجُهَا الرَّجُل مِنَ المَسْجِدِ» .
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «البُصَاقُ في المَسْجِدِ خَطِيئَة، وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا» .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه – أَنَّ امرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدِ فَفَقْدِهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَ عَنْهَا بَعْدَ أَيَّامٍ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهَا مَاتَتْ، فَقَالَ:«فَهَلا أَذَنْتُمُونِي» ؟ فَأَتَى قَبْرَهَا فَصَلَّى عَلَيْهَا.
وَعَنْ سُمْرَةَ بنُ جُنْدَبٍ رضي الله عنه – قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَتْخِذَ الْمَسَاجِدِ فِي دِيَارِنَا وَأَمَرَنَا أَنْ نُنَظِّفُهَا.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما – قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ يَوْمًا إِذَا رَأَى نُخَامَةً فِي قَبْلَةِ المَسْجِدِ فَتَغَيَّظَ عَلَى النَّاس ثُمّ حَكَّهَا - قَالَ: وَأَحْسِبْهُ قَالَ -: فَدَعَا بِزَعْفَران فَلَطَّخَهُ بِهِ، وَقَالَ: «إِنَّ اللهَ عز وجل قِبَلَ وَجْهِ
أَحِدِكُمْ إِذَا صَلَّى فَلا يُبْصُقُ بَيْنَ يَدَيْهِ» .
وَعَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَفَلَ تِجَاهَ الْقِبْلَةِ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَتَفْلُهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ» . وَعَنْ أَبِي سَهْلَةَ السَّائِبِ بنِ خَلادٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ رَجُلاً أَمَّ قَوْمًا فَبَصَقَ فِي القِبْلَةِ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَنْظُرُ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ فَرَغَ: «لا يُصَلِّي لَكُمْ هَذَا» . فَأَرَادَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُصَلِّي لَهُمْ فَمَنَعُوهُ وَأَخْبَرُوهُ بِقَوْلِ رِسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال: «نَعَمْ» . وَحَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّكَ آذَيْتَ اللهَ وَرَسُولَهُ» .
3-
مَا وَرَدَ فِي تَجَنُّبِ آكِلِ البَصَلِ وَالثَّوْمِ الصَّلاةَ فِي المَسَاجِدِ وإبعادِ الصَّغِيرِ وَالمجنونِ عنهما:
يُسَنُّ صِيانَةُ المَساجِدِ عَنْ رَائحةٍ كريهةٍ مِنْ بَصَلٍ وَثُومٍ وَكُرَّاتٍ وَنَحْوهَا لِمَا وَرَدَ عَنْ أَنْسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَكَلَ مِنْ هِذِهِ الشَّجَرَةِ فَلا يَقْرَبَنَا وَلا يُصَلّينَ مَعَنَا» .
وَعَنِ ابْنُ عُمَرِ رضي الله عنهما – أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مِنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ – يَعْنِي الثُّومَ – فَلا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا» .
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلاً فَلْيَعْتَزِلْنَا – أَوْ -: فَلْيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا» .
وَفِي رِوَايِةٍ لِمُسِلْمٍ: «مَنْ أَكَلَ البَصَلَ وَالثُّومَ وَالكُرَّاثَ، فَلا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا فَإِنَّ المَلائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا تَأَذّى مِنْهُ بَنُوا آدَمَ» .
وَعَنْ عُمَرَ بنُ الخَطَّاب رضي الله عنه – أَنَّهُ خَطَبَ يَوْمَ الجُمُعَة فَقَالَ في خُطْبَتِهِ: (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ تَأكُلُونَ شَجَرَتَيْنِ لا أَرَاهُمَا إِلا خَبِيثَتَيْنِ، الْبَصَلُ، وَالثّومُ وَلَقَدْ رَأيتُ رَسولَ اللهَ صلى الله عليه وسلم إِذَا وَجَدَ رِيحَهُمَا مِنَ الرَّجُل فِي الْمَسْجِدِ أَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ إِلَى البَقِيعِ فَمَنْ أَكَلَهُمَا فَلْيُمْتُهَا طَبْخا) .
اللَّهُمَّ أعْطِنا من الْخَيْرِ فَوقَ ما نَرْجُو، واصْرِفْ عنَّا مِن السُّوءِ فَوقَ ما نَحْذَرُ. اللَّهُمَّ عَلِّقْ قُلُوبَنَا بِرَجائِكَ واقْطَعْ رَجَاءَنَا عَمَّنْ سِوَاكَ اللَّهُمَّ إنَّكَ تَعْلَمُ عُيُوبَنَا فاسْتُرْهَا وتَعْلَمَ حَاجَاتِنَا فَاقْضِهَا كَفَى بِكَ وليًّا وكَفَى بِكَ نَصِيرًا يا رَبَّ العالمينَ. اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِسُلُوكِ سَبِيلِ عِبَادِكَ الأَخْيارِ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) : يُسَنُّ أَنْ يُصَانَ الْمَسجِدِ عَنْ صَغِيرٍ لا يُمَيّزُ لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ وَأَنْ يُصَانَ عَنْ مُجْنُونٍ حَالَ جُنُونِهِ، وَعَنْ لِغَطٍ، وَخُصُومَةٍ، وَكَثْرَةِ حَدِيثٍ لاغٍ، وَرَفْعِ صَوْتٍ بِمَكْرُوهٍ، وَعَنْ رَفْعِ الصِّبْيَانِ أَصْوَاتَهُمْ بِاللَّعِبِ وَغَيْرِهِ، وَيُمْنَعَ فِيهِ اخْتِلاطُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَإِيذَاءُ المُصَلّينَ وَغَيْرِهِم بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَيُمْنَعُ السَّكْرَانُ مِنْ دُخُولِهِ. وَعَنْ وَاثِلَةَ بنُ الأُسْقعِ: أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُم صِبْيَانِكُم وَمَجَانِينكَمْ وَسَلَّ سُيُوفِكُمْ، وَاتّخِذُوا عَلَى أَبْوَابِهَا المَطَاهِرَ وَجَمَّرُوهَا في الجُمَعِ» .
وَعَنْ عَبْدِ الله - يَعْنِي ابنُ مَسْعودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «سَيَكُونُ في آخرُ الزَّمَانِ قُوْمٌ يَكونُ حَدِيثُهُمْ في مَسَاجِدِهِمْ لَيْسَ لِلِّهِ فِيهم حَاجِةٌ» .
رَأَى أَبُو مُسْلِم الخَوَلانِي جَمَاعَةً فِي المَسْجِدِ فَمَالَ إِلَيْهِمِ لِيَجْلِسَ مَعَهُمْ وَظَنَّ أَنَّهُمْ فِي ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى فَوَجَدَهُمْ في ذِكْر الدُّنْيَا فَقَالَ: أَنْتُمْ في سُوقِ الدُّنْيَا وَحَسِبْتُ أَنكُم في سُوقِ الآخِرة وَأَعْرض عَنْهُمْ.
وَعَنْ حَكِيم بن حِزامٍ رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لا تُقَامُ الحدودُ في المَسَاجِدِ، وَلا يُسْتَقَادُ فِيهَا» .
وَعَنِ الحَسَنِ – رحمه الله – مُرْسَلاً قَالَ: قَالَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَأْتِي
عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَكُونُ حَدِيثُهُم في مَسَاجِدِهم في أَمْرِ دُنْيَاهُم فَلا تُجَالِسُوهُم فَلَيْسَ لِلَّهِ فِيهم حَاجَةْ» .
وَعَنْ السَّائِب بنُ يَزيدٍ قَالَ: (كُنْتُ نَائِمًا في الْمَسْجِدِ فَحَصَبَنِي رَجُلٌ فَنَظَرْتُ فَإِذَا هُوَ عُمَرُ بن الْخَطَّاب فقال: اذْهَبْ فَأْتِنِي بِهَذَيْن فَجِئْتُهُ بِهِمَا فَقَالَ: مِمَّنْ أنْتُمَا - أَوْ مِنْ أَيْنَ أَنْتُمَا؟ قَالا: مِنْ أَهْلِ الطَّائِفُ قَالَ: لَوْ كُنْتُمَا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لأَوْجَعْتُكُمَا تَرْفَعَانِ أَصْوَاتَكُمَا فِي مَسْجِدِ رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم) .
وَعَنْ مَالِكِ قَالَ: بَنَى عُمَرُ رضي الله عنه رَحَبَةٍ نَاحِيَةِ تُسَمَّى (البَطْحَاء) وَقَالَ: مَنْ كَانَ يُرِيدِ أَنْ يَلْغَطَ أَوْ يُنْشِدَ شِعْرًا، أَوْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ فَلْيَخْرُجْ إلى هَذِهِ الرَّحَبَةِ.
وَعَنْ أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا اتَّخَذَ الفَيء دُولاً وَالأمانةُ مُغْنَمَا وَالزكاةُ مَغْرمًا وَتُعلّمَ لِغَيْرِ الدِّينِ وَأطاعَ الرَّجُلٌ امْرَأتَهُ وَعَقَّ أُمَّهْ، وَأَدْنَى صَدِيقهُ وَأَقْصَى أَبَاهُ، وَظَهَرِتِ الأَصْواتُ في الْمَسَاجِدِ وَسَادَ القبيلةَ فَاسْقُهُمْ، وَكَانَ زَعِيمُ القَومِ أَرْذَلَهُمْ، وَأُكْرَمَ الرّجُلُ مَخَافَةِ شَرِّه وظَهرتِ القَيْنَاتُ والمعازفُ، وشُرِبَتِ الخمورُ، ولَعَنَ آخِرُ هَذِهِ الأُمَّةُ أَوْلَهَا فَارْتَقِبُوا عِنْدَ ذَلِكَ رِيحًا حَمْرَاءَ وَزَلْزَلَةَ وَخَسْفَا وَمَسَخَا، وَقَذْفَا وَآياتِ تَتَابَع كَنِظَامِ قُطِعَ سلْكه فَتَتَابَعْ» .
شِعْرًا:
قَدِّم لِنَفسِكَ تَوبَةً مَرجُوَّةً
…
قَبلَ المَماتِ وَقَبلَ حَبسِ الأَلسُنِ
بادِر بِها عُلَقَ النُفوسِ فَإِنَّها
…
ذُخرٌ وَغُنمٌ لِلمُنيبِ المُحسِنِ
4-
يَنْبَغِي تَجْنِيبُ الْمَسَاجِدِ البَيْع والشرّاء، ورَفْع الصّوتِ وَنَشْدَانْ الضَّالةِ فِيهَا. واللهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّم.
(فَصْلٌ) : وَيَحْرَمُ فِي الْمَسْجِد البيعُ وَالشِّرَاء، فَإِنْ فَعَلَ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ لِحَدِيثِ عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: (نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن
البيع والابتياعِ وعَنْ تَنَاشُدِ الأَشْعَار في المساجِدِ) . رواهُ أحْمد، وأبو داود، والنِّسَائي، والترمذي وحَسّنه.
وَيُسَنُّ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ بَاعَ أَوْ اشْتَرَى في المسجد: لا أَرْبَحَ اللهُ تِجَارَتَك، لِمَا وَرَدَ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ أَوْ يَبْتَاعُ فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا: لَا أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَكَ وَإِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَنْشُدُ ضَالَّةً فَقُولُوا: لَا رَدَّها اللَّهُ عَلَيْكَ» . رواهُ الترمذي، والدارمي.
وَمِمَّا يَنْبَغِي التَّفَطُّنُ لَهُ، والتحذيرُ عَنْهُ وَإِبْعَادُهُ عَنْ المساجدِ الكُتُبِ التِي فِيهَا صُورُ ذَوَاتِ الأَرْوَاحِ، كَالهِجَاءِ لِلسَّنَةِ الأولى الاِبْتِدَائِيَةِ، وَكَالمطالَعَةِ لِسَائِرِ السَّنَواتِ وَكالعلومِ، فإنَّ بَعْضَ التَّلامِيذِ يَأتُونَ بِهَا إِلى المسَاجدِ لِيُطَالِعوا فِيهَا وَإِذَا تَخَلَّقَتْ وَضَعَها في المسجد، وَقَدْ وَرَدَ عَنْ ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما – قَالَ: وَعَدَ رَسُولَ اللهِ جِبْرِيلُ أَن يَأْتِيَهُ فَرَاثَ عليهِ حَتَّى اشْتَدَّ عَلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فخرَج فَلَقِيهَ جِبْرِيلُ فَشَكا إليه فقال: (إنَّا لا نَدْخُلِ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ ولا سُورة) . رواهُ البُخَاري.
وَيُسَنُّ صَوْنُ المسجد عن إنْشَادِ شِعْرٍ قَبِيحٍ، وَإِنْشَادِ ضَالَّة وَنُشْدَانِهَا، وَيُسَنُّ لِسَامِع نُشْدَانِ الضَّالة أَنْ يَقُول: لا رَدّهَا الله عَلَيْكَ، لِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هريرة رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَمِعَ رَجُلاً يُنْشِدُ فِي المسجدِ ضَالَّةً فَلَيْقُلْ: لا أَدَّاهَا الله إليكَ، فَإِنَّ المساجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا» . رَواهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِم، وابن مَاجَة.
وَعَنْ بُرَيْدَةَ: أَنَّ رَجُلاً نَشَدَ في المسجِدِ فَقَال: مَنْ دَعَا إلى الجَمَل الأحْمَر؟ فقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لا وَجَدْتَ، إِنَّمَا بُنِيَتِ المساجِدُ لِمَا بُنِيَتْ لَهُ» . رواهُ أحْمَدُ، وَمُسْلِمُ، وابن ماجَة.
5-
حُرْمَةِ الْمُبَالَغةِ في زَخْرَفَةِ الْمَسَاجِدْ:
وَتَحْرُمُ زَخْرَفَتُهَا بِنَقْشٍ وَصِبْغٍ وَكِتَابَةٍ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُلْهِي الْمُصَلِّي عَنْ صَلاتِهِ غَالِبًا، وَإِنْ فُعِلَ ذَلِكَ مِنْ مَالِ الوقْفِ حَرُمَ فِعْلُه، وَوَجَبَ ضَمَانُ مَالِ الْمُوْقَفِ الذي صُرِفَ فِيهِ لا لِمَصْلَحةٍ فِيهِ.
عَنْ ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا أُمِرْتُ بِتَشيِدِ المساجد» . قَالَ ابن عَبَّاس رضي الله عنهما: (لَتُزَخْرِفُنَّها كَمَا زَخْرَفَتِ اليهودُ والنّصارى» . رواه أبو داود.
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَبَاهَى النَّاس في المساجد» . رواهُ الخمسةُ إلا الترمذي.
وقالَ البخارِي: رحمه الله قالَ أبو سَعيد: كَانَ سَقْفُ المسجدِ مِنْ جَريدِ النَّخل وأمَرَ عُمَرُ بِبِنَاءِ المسجِدِ وَقَال: أَكِنَّ الناسَ مِن المطر، وَإِيَّاكَ أن تُحَمِّرَ أَوْ تُصَفِّرَ فَتَفْتِنَ النَّاسَ. وَيَنْبَغِي أَنْ لا يَسْتَعْمِلَ النَّاسُ حُصُرَ المسجدِ وَقَنَادِيلَهُ وَسَجَاجِيدَهُ وَبُسَطَهُ وَسَائِرَ ما وُقِفَ لِمَصَالِحِه في مَصَالِّهِمْ، كالأعراسِ وَيَجِبُ صَرْفُ الوَقْفِ لِلْجِهَةِ التِي عَيَّنَهَا الواقِفْ.
6-
كَراهةُ التِزَامِ مَوْضِع مُعَيَّنٍ مِنَ الْمَسْجِدِ للصَّلاةِ لِغيرِ الإمام:
وَيَكْرَهُ لِغَيْرِ الإِمَامِ مُدَاوَمَةُ مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ مِن المَسجدِ لا يُصَلي إلا فِيه لِمَا وَرَدَ عَنْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن شبل قال: نَهَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَنْ: «نَقَرْةِ الغُرابْ، وَافْتِرَاشِ السَّبْع، وَأنْ يُوَطّنَ الرِّجلُ المكانَ في المسجد كَمَا يُوَطّنُ البَعِيرُ» . رواهُ أبو داود، والنِّسائي، والدّارمي. فَإِنْ دَاوَمَ عَلى الصلاة بموضعٍ فَلَيْسَ هو أَوْلَى مِنْ غَيْرهِ فَإِذَا قَامَ مِنْه فلغيره أجُلُوسُ فِيهِ لِحَدِيثِ:«مَنْ سَبَقَ إلى مباحٍ فَهُوَ لَه» . قالَ في الاختِيَارَاتِ الفقهيةِ وَإِذَا فَرَشَ مُصلى وَلَمْ يَجْلِس عليه لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَلِغَيْرِهِ رَفْعُهُ في أَظْهَرِ قَوْلَي العُلَماء قُلْتُ: وَمِثْلُهُ وَضْعُ خِرْقَة أوْ عَصَا أو نَعْل أوْ تَقْدِيم خَادِمٍ أَوْ وَلَدٍ ثُمَّ إِذَا حَضَرَ قامَ عَنْهُ وَجَلَسَ فِيهِ فَهَذَا لا يَجوزُ. والله أعلم.
وَقَالَ في إِغَاثَةِ اللَّهْفَانْ: وَلَمْ يُصَلِّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم على سُجَّادَةٍ قَطْ وَلا كَانَتْ السُّجّادَةُ تُفْرَشُ بَيْنَ يَدَيْهِ بَلْ كَانَ يُصَلّي عَلَى الأَرْض وَرُبَّمَا سَجَدَ على الطِّينِ وَكانَ يُصَلّي عَلى الْحَصِيرِ فَيُصَلي على ما اتَّفَقَ بَسْطُهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ صَلَّى على الأَرض.
قَالَ النَّاظِمُ لاخْتِيَارَاتِ شَيْخِ الإِسْلام بن تَيْمِيَّةَ رحمه الله:
وَوَضْعُ الْمُصَلّي في الْمَسَاجِدِ بِدْعَةٌ
…
وَلَيْسَ مِنَ الْهَدْي القَوِيمِ الْمُحَمَّدِ
وَتَقْدِيمُهُ في الصّفِ حَجْرٌ لِرَوْضِةٍ
…
وَغَصْبٌ لَهَا عَنْ دَاخِلٍ مُتَعَبِّدِ
وَيُشْبِهُهُ وَضْعُ العَصَاءِ وَحُكْمُهَا
…
كَحُكْم الْمُصَلَّى في ابْتِدَاعِ التَّعَبُّدِ
بَلَى مُسْتَحَبَّ أَنْ يُمَاطَا وَيُرْفَعَا
…
عَنْ الدَّاخِلينَ الرَّاكِعينَ بِمَسْجِدِ
لَئِنّ لَمْ يَكُنْ هَذَا بِنَص مُقَرَّرٍ
…
وَلا فِعْلُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ
فَخَيْرُ الأُمُورِ السَّالِفَاتُ عَلى الْهُدَى
…
وَشَرُّ الأمورِ الْمُحْدَثَاتُ فَبَعّدِ
اللَّهُمَّ أَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ الأَبْرَارْ، وَآتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) في الأيَّامِ التِي يُسَنّ أَوْ يَكْرَهُ صِيَامُها
وَيَبْحثُ في:
1-
مَا وَرَدَ مِنَ الثَّوَابِ العظيم في صَوْم بَعْضِ الأَيَّام.
2-
بَيَانُ الأَيَّامِ التِي يُكْرَهُ أَوْ يَحْرُمَ صِيَامُهَا، وَالنَّهْي عَنِ التَّشَبُّهِ بالغير.
1-
مَا وَرَدَ مِنَ الثَّوَابِ العظيم في صَوْم بَعْضِ الأَيَّام:
يُسَنُّ صِيَامُ أَيَّامِ البيضْ، وَهِيَ الثَّالثُ عَشَرَ وَالرَّابعُ عَشَرَ والخامِسُ عشر، لِمَا
وَرَدَ عَنْ أَبَي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا صُمْتَ مِنَ الشَّهْرِ ثَلَاثَا فَصُمْ: ثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَخَمْسَ عَشْرَةَ» . رواهُ الترمِذى.
وَعَنْ قَتَادَة بْنِ مِلْحَانُ رضي الله عنه قالَ: (كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يأمُرنا بِصِيَامِ أَيَّامِ الْبِيضِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَخَمْسَ عَشْرَةَ) . رواه أبو داود
وَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: (أَوْصَانِي خَلِيلِي صلى الله عليه وسلم بصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَكْعَتَيِ الضُّحَى، وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَنَامَ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
عَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ: (أَوْصَانِي خَلِيلِي صلى الله عليه وسلم بِثَلَاثٍ لَنْ أَدَعَهُنَّ مَا عِشْتُ: بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَصَلَاةِ الضُّحَى وَبِأَنْ لَا أَنَامَ حَتَّى أُوتِرَ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَيُسَنّ صِيامُ أَيَّامِ الاثنين والخَمِيسِ، وَسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ لِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه أنّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يومِ الاثْنِينِ فَقَالَ:«ذَلِكَ اليَوْمُ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَيَوْمٌ بُعِثْتُ فِيهِ، وَأَنْزِلَ عَليَّ فِيهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «تُعْرَضُ الأَعْمَالُ يَوْم الاثْنَيْنِ والخَمِيس فَأُحِبُّ أنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ» . رواهُ التّرمِذي، وَقَال: حَدِيثُ حَسَنٌ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ بِغَيْرِ صَوْم.
وَعَنْ أَبِي أَيُّوبٍ الأنْصَارِيّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمّ أتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيامِ الدَّهْرِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَاسْتَحَبَّ صِيَامُ سِتَّةٍ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالِ أَكْثَرُ العُلَمَاء وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَطَاوُوسٍ، والشَّعْبِي، وَمَيْمُونِ بْنِ مَهْرَان وَهُوَ قَوْلُ ابْنُ الْمُبَارَكْ رحمهم الله وأكْثَرُ العُلَمَاء: عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ صِيَامُها مُتَتَابَعة أولُ الشَّهْرِ ثَانِي الفُطْر وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ مَرْفُوع: «مَنْ صَامَ سِتَّةَ أَيَّامٍ بَعْدَ الفِطْرُ مُتَتَابِعَة فَكَأَنَّمَا صَامَ السَّنَة» . أخْرَجَهُ الطَّبَرَانِي وَغَيْرِهِ.
وَفِي حَدِيثِ عِمْرَان بنُ حُصَيْنٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال لِرَجُل: «إِذَا أَفْطَرْتَ فَصُمْ» . وَإِنَّمَا كَانَ صِيَامُ رَمَضَانَ وإتِّبَاعُهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوّالَ يَعْدِلُ صِيَامَ الدَّهْرِ لأَنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا.
وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ مُفْسَّرًا مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «صِيَامُ رَمَضَانَ بِعَشْرَةِ أَشْهُر، وَصِيَامُ سِتَّةِ أَيَّامٍ بِشَهْرَيْنِ، فَذَلِكَ صِيَامُ السَّنَةِ» . يَعْنِي صِيَام رَمَضَانَ وَسِتّةِ أَيَّامٍ بَعْدَهْ. أَخْرَجَه: الإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِي وَهَذَا لَفْظُ ْ. وَخَرَّجَهُ: ابنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، صَحَّحَهُ أَبُو حَاتِم الرَّازِي.
وَيُسَنُّ صِيَامُ يومِ عَرَفَة لِغَيْرِ حَاجٍّ بِهَا، وَشَهْرُ الْمُحَرَّمِ وَآكِدُهُ العَاشِرُ ثُمَّ التَّاسِعُ لِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانِ شَهْرُ اللهِ الْمُحَرَّمُ، وَأَفْضَلُ الصَّلاةِ بَعْدُ الفَرِيضَةِ صَلاةُ اللَّيْلِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وفي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ قَال: قال عمر رضي الله عنه: يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ مَنْ يَصُومُ الدَّهْرَ كلَّه؟ قَالَ: «لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ» . وقال: «لَمْ يَصُمْ وَلَمْ يُفْطِرْ» . قَالَ: كَيْفَ مَنْ يَصُومُ يَوْمَيْنِ وَيُفْطِرُ يَوْمًا؟ قَالَ: «وَيُطِيقُ أَحَدٌ» . قَالَ: كَيْفَ مَنْ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا؟ قَالَ: «ذَلِكَ صَوْمُ دَاوُدَ» . قَالَ: كَيْفَ مَنْ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمَيْنِ؟ قَالَ: «وَدِدْتُ أَنِّى طُوِّقْتُ ذَلِكَ» . ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثٌ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، فَهَذَا صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ، صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ، وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ احْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ ابن عَبّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَامَ يَوْمَ عَاشُورَاء وأَمَرَ بِصِيَامِهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْهُ رضي الله عنهما: «لَئِنْ بَقِيتُ إلى قَابِلٍ لأَصُومَنَّ التَّاسِعَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (نَهَى عَنْ صَوْم يومِ عَرَفَة بِعَرَفَةَ) . رَوَاهُ أَبُو دَاود، والنِّسَائِي، وابنُ خُزَيْمَةَ في صَحِيحِهِ.
وَيُسَنُّ صِيَامِ تَسْعُ ذِي الحِجَّةِ، لِمَا وَرَدَ عَنْ ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ أَيَّام العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إلى الله مِنْ هَذِهِ الأَيَّامْ» . يَعْنِي أَيَّامِ العَشْرِ قَالُوا: يَا رسولَ اللهِ وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ قَالَ: «وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ إِلا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعُ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ» . رَوَاهُ البُخَارِي.
شِعْرًا:
تَكَلَّمْ بِمَا يَنْفَعْكَ في الدِّينِ إِنَّمَا
…
كَلامُكَ حَيُّ وَالسُّكُوتُ جَمَادُ
وَدَاوِمْ عَلَى ذِكْرِ الإِلَهِ فَإِنَّهُ
…
شِفَاءُ لِقَلْبٍ قَدْ غَشَاهُ فَسَادُ
وَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ أَيَّامِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ أَنْ يُتَعَبَّدَ فِيهَا مِنْ أَيَّامِ الْعَشْرِ وَإِنَّ صِيَامَ يَوْمٍ فِيهَا لَيَعْدِلُ صِيَامَ سَنَةٍ، وَلَيْلَةٍ فِيهَا بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ» . رواهُ ابن ماجة، والتِّرْمِذِيُّ وقالَ: حديثٌ غريب.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلَك التَّوبَةَ وَدَوامَها، وَنَعُوذُ بِكَ مِن المَعْصِيَةِ وأَسْبَابها، اللَّهُمَّ أفِضِ علينا مِن بَحْرِ كَرَمِكَ وَعَوْنِك حَتَى نَخْرُجَ مِنَ الدُّنْيَا على السّلامَةِ مِن وَبَالِها وَارْأُفْ بِنَا رَأْفَةَ الحَبِيبِ بِحَبِيبِهِ عِنْدَ الشّدَائِدِ وَنُزُولِها، وارْحَمْنا مِن هُمُومِ الدّنْيَا وَغُمومِها بالرَّوْحِ والرّيْحانِ إِلى الجنةِ وَنَعِيمِها، وَمَتَّعْنا بالنَّظَرِ إِلى وَجْهكَ الكريم في جَنَّاتِ النَّعيمْ مَعَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ والصّدّيقينَ والشَّهداءِ والصّالِحين، واغْفِرْ لَنَا ولوالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ المُسْلِمينَ، الأَحياءِ منهم والميتينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصحبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) : في بَيَانِ الأَيَّامِ التِي يُكْرَه أَوْ يُحْرَم صِيَامُهَا وَالنَّهْيِ عَنْ التَّشَبُّه بالغَيْرِ
وَيُكْرَهُ إِفْرَادُ رَجَبَ بِالصَّوْمِ، وَالْجُمُعَةِ، وَالسَّبْتِ، أَمَّا رَجَبٌ: فَلما رَوى أَحْمد رحمه الله عَنْ خَرْشَةَ بِنْ الْحُرِّ قَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ يَضْرِبُ أَكُفَّ المُترِّجِبين حَتَّى يَضعُوها في الطَّعَامِ وَيَقُولُ: كُلُوا! فَإِنَّمَا هُوَ شَهْرٌ كَانَتْ تُعَظِمُهُ الْجَاهِلِيَّةُ.
وَبِإسْنَادِهِ عَنْ ابن عُمَرْ رضي الله عنهما أَنَّهُ كَانَ إِذَا رَأَى النَّاس وَمَا يَعِدّونَهُ لِرَجَبْ كَرِهَه وَقَالَ: (صُومُوا مِنْهُ وَأَفْطِرُوا) .
وَأَمَّا الْجُمُعَة: فَلِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لا تُخُصُّوا لَيْلَةَ الْجُمُعَةَ بِقِيَامٍ مِنْ بَيْنِ اللَّيَالِي، ولا تُخُصُّوا يَومَ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ من بَيْن الأَيَّامِ إِلا أَنْ يَكُونَ في صَوْمٍ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْهُ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لا يَصُومَنّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلا أَنْ يَصُومَ يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ يَوْمًا بَعْدَه» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا السَّبْتُ: لِمَا رَوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ عَنْ أُخْتِهِ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا تَصُومُوا يَوْمَ السَّبْتِ إِلَاّ فِيمَا افْتُرِضَ عَلَيْكُمْ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُكُمْ إِلَاّ لِحَاءَ عِنَبَةٍ، أَوْ عُودَ شَجَرَةٍ فَلْيَمْضُغْهُ» . رواهُ الخمسَةُ إِلا النِّسَائِي.
وَيُكْرَهُ تَقَدُّمِ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ لِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لا تَقْدِمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلا يَوْمَيْنِ إلا رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمًا فَلْيَصُمْهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَيُكْرَهُ صَوْمُ الدَّهْرِ لِحَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بنُ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لا صَامَ مَنْ صَامَ الأَبَدْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلِمُسْلِمْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَة رضي الله عنه بِلَفْظِ: «لا صَامَ وَلا أَفْطَرَ» .
وَيُكْرَهُ صَوْمِ النَّيْرُوزِ وَالْمَهْرَجَانِ وَكُلَّ عِيدٍِ لِلْكُفَّارَ، أَوْ يَوْمٍ يُفْرِدُونَهُ بِالتَّعْظِيمِ لِمَا فِيهِ مِنْ مُوَافَقَةِ الكُفَّار في تَعْظِيمِهَا قَالَ عَبْدُ اللهِ بن عُمَرَ رضي الله عنهما: مَنْ تَأَسَّى بِبِلادِ الأَعَاجِمِ نَيْرُوزِهِمْ وَمَهْرَجَانِهمْ وَتَشَبَّهَ بِهم حَتَّى يَمُوتُ حُشرَ مَعَهُمْ.
قَالَ الشَّيْخُ وَغَيْرِهِ: مَا لَمْ يُوافِقْ عَادَةً أَوْ يَصُمْهُ عَنْ نَذْرٍ وَنَحْوِهْ قَالَ: وَكَذَلِكَ يَوْمُ الْخَمِيسِ الذي يَكُونُ في آخِر صَوْمِهِمْ كَيَومِ (عيدِ المائِدَةِ) وَيَوْمِ الأَحد الذي يُسَمّونَهُ (عِيْدَ الفُصْحِ) و (عيد النُّورِ) و (العيدِ الكَبِيرِ) وَنَحْو ذَلِكَ لَيْسَ لِلْمُسْلِمْ أَنْ يُشَابِهَهُمْ في أَصْلِهِ وَلا فِي وَصْفِهِ.
وَقَالَ: لا يَحِلّ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَشَبَّهُوا في شَيْء مِمَّا يَخْتَصُّ بأعْيَادِهِم لا مِنْ طَعامٍ، وَلا مِنْ لِبَاسٍ، وَلا اغْتِسَالٍ، وَلا إِيقَادِ نِيْرَانٍ، ولا تَبْطِيلِ عَادَةٍ مِنْ مَعِيشَةٍ أَوْ عِبَادَةٍ أَوْ غَيْر ذَلِكَ، وَلا تُمَكَّنُ الصّبْيَانِ وَنَحْوِهِمْ مِن اللَّعِبَ التِي في الأَعْيَادِ، وَلا إِظْهَارِ زِينَةٍ.
وَبِالْجُمْلَةِ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَخُصُّوا أَعْيَادَهُمْ بِشَيءٍ مِنْ شَعَائِرِهِمْ بَلْ يَكُونُ يَوْمَ عِيدِهم عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ كَسَائِرِ الأَيَّامِ، لا يَخُصَّهُ الْمُسْلِمُونَ بِشَيءٍ مِنْ خَصَائِصَهِمْ.
وَتَخْصِيصُهُ بِمَا تَقَدَّمَ لا نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءْ، بَلْ قَدْ ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ العُلَمَاءَ إلى كُفْرِ مَنْ يَفْعَلُ هَذِهِ الأُمُورَ لِمَا فِيهَا مِنْ تَعْظِيمِ شَعَائِرِ الْكُفْرِ لأنهم أَعْدَاءٌ الله والمسلمين ولا يألون جهدًا فيما يَضُرُّ الْمُسْلِمِين.
شِعْرًا:
تَوق مُعَادَات الإلهِ فإنَّهَا
…
مُكَدِّرةٌ لِلصَّفْوِ في كُلِّ مَشْرَبِ
آخر:
إِذا وَتَرتَ أمرًا فَاِحذَر عَداوَتَهُ
…
مَن يَزرَعِ الشَوكَ لا يَحصُد بِهِ عِنَبا
إِنَّ العَدُوَّ وَإِن أَبدى مُسالَمَةً
…
إِذا رَأى مِنكَ يَوماً غِرَّةً وَثَبا
آخر:
وَمَا غُرْبَةُ الإنْسَانِ في شُقَّةِ النَّوى
…
وَلكنَّهَا وَاللهِ في بَلَدِ الكُفْر
وقَدْ اشْتَرَطَ عُمَرُ وَالصَّحَابَةُ وَسَائِرُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِين أَن لا يُظْهِرُوا أَعْيَادَهُمْ في دِيَارِ الْمُسْلِمِينْ فَكَيْفَ إِذَا أَظْهَرَها الْمُسْلِمُونَ؟ حَتَّى قَالَ عُمَرُ بن الخَطَّاب: لا تَتَعَلَّمُوا رِطَانةَ الأَعَاجِمِ، وَلا تَدْخُلُوا عَلَى المشركين في كَنَائِسِهمْ يَوْمَ عِيدِهِمْ، فَإِنَّ الشُّخْطَةَ تَنْزِلُ عَلَيْهِمْ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَكَيْفَ بِمَنْ يَفْعَلُ مَا يُسْخِطُ اللهِ بِهِ عَلَيْهِمْ مِمَّا هُوَ مِنْ شَعَائِرِهِمْ؟ وَقَالَ عُمَرُ: مَا تَعَلّمَ رَجُلٌ الفَارِسِيَّةَ إلا خَبَّ وَلا خَبَّ إلا نَقَضَتْ مَرُوءَتُهْ.
وَقَدْ قَالَ غَيْرُ واحد من السَّلَفِ في قَوْلِهِ تَعَالى: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} قَال: أَعْيَادُ الكُفَّارِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا في شُهُودِهَا مِنْ غَيْرِ فِعْل فَكَيْفَ بِالأَفْعَالِ التِي هِيَ مِنْ خَصَائِصِهَا؟!
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم في الْمُسْنَدِ وَالسُّنَنِ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ تَشَبّهَ بقومٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» . وَفِي لَفْظ: «لَيْسَ مِنّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا» . وَهُوَ حَدِيثٌ جَيّدٌ، فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي التَّشَبُّهِ - وَإِنْ كَانَ مِنْ العَادَاتِ فَكَيْفَ التَّشَبُّهِ بِهِمْ فِيمَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ؟
وَقَالَ شَيْخُ الإسْلامِ رحمه الله: اعْتِيَادُ اللّغَةِ يُؤَثِّر في العَقْلِ والخُلُقِ والدِّينِ تَأْثِيرًا قَوِيًّا بَيِّنًا بِحَسَبِ تِلْكَ اللُّغَةِ. وَقَالَ في اقْتِضَاءِ الصِّرَاطِ المستقيم: عن نافِع عَنْ ابنُ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يُحْسِنُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بالعَرَبِيّة فَلا يَتَكَلّمُ بالعُجْمَةِ فَإِنَّهُ يُوَرّثُ النِّفَاق» .
قَالَ ابنُ القيمِ رحمه الله عَلَى حَدِيث: «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» أَي بالانْدِمَاجِ وَتَلاشَتْ شَخْصِيَّتُه فِيهم فَمَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلا عَنْ تَعْظِيمٍ وَإِكْبَارٍ لَهُمْ فَهُوَ لِذَلِكَ يُلْغِي شَخْصِيَّتَهُ وَيَتَلاشَى في شَخْصِيَّةِ الآخَرين، فَمَنْ تَشَبَّهَ بالرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ بِإلْغَاءِ شَخْصِيَّةِ الجاهليةِ السَّفِيهَةِ وَانْدِمَجِ في مَعْنَوِيَّةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ عِلْمًا وَعَمَلاً وَاعْتِقَادًا وَأَدَبًا، فَهُوَ بِلا شَكٍ مِنْهُمْ.
وَمَنْ تَشَبَّعَ بالإِفْرِنْجِ فِي لِبَاسِهِم وَأَخْلاقِهِمْ وَنُظُمِهِمْ وَمُعَامَلَتِهِمْ فَهُوَ بِلا شَكّ إِفْرَنْجِي غَيْرُ مُسْلِمٍ، وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمْ، فَلِهَذَا التَّشَبُّهِ وَنَتَائِجِهِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ نَرَى الْمُعْظِّمِينَ للنَّصَارَى وَالوَثَنِيِّينَ الْحَرِيصِينَ عَلَى التَّشَبُّهِ بِهِمْ والانْدِمَاجِ فِيهِمْ يُعَاوِنُونَهُمْ على الضَّرَرِ بِدِينِهم وَبِلادِهِمْ وَأُمَمِهِم عَنْ قَصْد وَعَنْ غَيْرِ قَصْدٍ. أهـ.
وَيُكْرَهُ وصَالٌ إِلا مِنَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، لِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْوِصَالِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: فَإِنَّكَ تُوَاصِلُ يَا رَسُولَ اللهِ فَقَالَ: «وَأَيُّكُمْ مِثْلِي إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي» . فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا عَنِ الْوِصَالِ وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا ثُمَّ يَوْمًا، ثُمَّ رَأَوُا الْهِلَالَ، فَقَالَ:«لَوْ تَأَخَّرَ الْهِلالُ لَزِدْتُكُمْ» . كَالْمُنَكِّلِ لَهُمْ، حِينَ أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلا يَجُوزُ صَوْمُ العِيدَيْن عَنْ فَرْضٍ أَوْ تَطَوُّعٍ وَإِنْ قَصَدَ صِيَامَهَا كَانَ عَاصِيًا وَلا يُجْزءُ عَنْ الفَرْضِ.
وَلا يَجُوزُ صِيَامُ أَيَّام التَّشْرِيقِ إِلا عَنْ دَمِ مُتْعَةٍ وَقَرَانٍ لِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه عَنْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَنَّهُ نَهَى عَنْ صِيَامِ يَوْمَيْنِ: يَوْمِ الْفِطْرِ، وَيَوْمِ النَّحْرِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَرَوَى أَبُو عُبَيْد مَوْلَى أَزْهَرْ قَالَ: شَهِدْتُ العِيدَ مَعَ عُمَرَ ابنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَقَالَ: (هَذَانِ يَوْمَانِ نَهَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صِيَامِهِمَا: يَوْمُ فِطْرِكُمْ مِنْ صِيَامِكُمْ، وَاليَوْمُ الآخَرُ تَأْكُلُونَ فِيهِ مِنْ نُسْكُكُمْ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، فَلِمَا رُوِيَ عَنْ نُبَيْشَةِ الهُذَلِي رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرِ اللهِ عز وجل» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ عَائِشَةِ وابن عُمَرَ رضي الله عنهم أَنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: (نَهَى عَنْ صَوْمِ خَمْسَةِ أَيَّامٍ في السَّنَةِ: يَوْمِ الفِطْرِ، وَيَوْمِ النَّحْرِ، وَثَلاثَةِ أَيَّام التَّشْرِيق) . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِي.
اللَّهُمَّ نَجَّنَا بِرَحْمَتِكَ مِن النَّارِ وَعَافِينَا مِنْ دَارِ الْخِزْيِ وَالبَوَارِ وَأَدْخِلْنَا بِفَضْلِكَ الْجَنَّةَ دارَ القَرارِ وَعَامِلْنَا بِكَرَمِكَ وَجُودِكَ يَا كَرِيمُ يَا غَفَّارُ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَوَائِدْ) : مُجَالَسةُ العَارِفِ الزَّاهِدِ تَدْعُو مِنْ سَتٍّ إلى سِتْ:
مِنَ الشَّكِ إلى اليَقِينْ.
وَمِنْ الرِّيَاءِ إِلى الإِخْلاصِ.
وَمِنْ الغُفْلَةِ إِلى الذِّكْرِ.
وَمِنْ الرَّغْبَةِ في الدُّنْيَا إِلى الرَّغْبَةِ في الآخِرَةِ.
وَمِنْ الكِبْرِ إِلى التَّوَاضُعِ.
وَمِنْ سُوءِ الطَّوِيَّةِ إلى النَّصِيحَةْ.
الأَفْضَلُ في أَوْقَاتِ السَّحَرِ الاشْتِغَالُ بِقِرَاءَةِ القُرْآن وَالصَّلاةُ وَالاسْتِغْفَارِ.
وفي وقت الأذان إجابة المؤذن والدعاء لأنه وقت إجابة.
وفي وقت الصلوات الخمس الاستعداد لها والجد والاجتهاد والحرص على طرد الأفكار الصادة عن تأمل معاني الآيات والتسبيح والتكبير.
والنصح في إيقاعها على أكمل الوجوه، والمبادرة إلى تأديتها في أول وقتها والخروج إلى الجامع وإن بعد كان أفضل لكثرة الخطا.
والأفضلُ في أوقات ضرورة المحتاج إلى المساعدة بالمال أو الجاه أو البدن، الاشتغالُ بمساعدته وإغاثَتِهِ.
والأفضلُ في وقتِ قراءة القُرآن الحرص على تدبره وتفهمه حتى كأَنَّ اللهَ
تعالى يخاطبه به وَيَعزِمُ على تنفيذ أوامره واجتناب نواهيه.
والأفضلُ في عشر ذو الحجة الاجتهاد والحرص على الإكثار من الأعمال الصالحة والدعاء والتضرع والإكثار من قراءة القرآن وذكر الله.
والأفضل في الوقوف بعرفة الاجتهاد في الدعاء والتضرع والإكثار من قول: لا إله إلا الله.
والأفضل في العشر الأخير من رمضان لزوم المساجد والخلوة والاعتكاف وتلاوة القرآن.
والإكثار من الباقيات الصالحات والحرص على إخراج الزكاة في هذا الشهر المبارك وإفطار الصوام.
والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته عيادتهُ، وحُضُورُ جنازته وتشييعُه وتقديم ذلك على خلواتك وَجَمْعِيَّتِكَ.
والأفضل في وقت نزول النوازل وأذاةِ الناس لك أداءُ واجبِ الصبر مع خلطتك بهم دون الهرب منهم.
فإن المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضلُ مِن الذي لا يخالطهم ولا يؤذونه.
والأفضلُ خلطتهم في الخير فهي خَيرٌ من اعْتِزَالِهِم فيه واعتزالهُم في الشر أفضل فإنْ علم أنه إذا خالطهم أزالهُ أو قلَّلَهُ فخلطتهم حينئذٍ أفضلُ من اعْتِزَالِهِم.
شِعْرًا:
إِنّي أَرِقتُ وَذِكرُ المَوتِ أَرَّقَني
…
وَقُلتُ لِلدَّمْعِ أَسْعِدني فَأَسْعَدَني
يَا مَنْ يَمُوتُ فَلَمْ يَحْزَنْ لِمَيتَتِهِ
…
وَمَنْ يَمُوتُ فَمَا أَوْلاهُ بِالحَزَنِ
تَبغي النَجاةَ مِنَ الأَحْدَاثِ مُحتَرِسًا
…
وَإِنَّمَا أَنْتَ وَالعِلاتُ في قَرَنِ
يَا صَاحِبَ الرُّوحِ ذي الأَنْفَاسِ في البَدَنِ
…
بَينَ النَهارِ وَبَينَ اللَّيْلِ مُرتَهَنِ
لَقَلَّما يَتَخَطّاكَ اِختِلافُهُمَا
…
حَتّى يُفَرِّقَ بَينَ الرُّوحِ وَالبَدَنِ
طِيبُ الحَياةِ لِمَنْ خَفَّتْ مَئُونَتُهُ
…
وَلَمْ تَطِبْ لِذَوِي الأَثقالِ وَالمُؤَنِ
لَم يَبقَ مِمّن مَضَى إِلا تَوَهُّمُهُ
…
كَأَنَّ مَنْ قَدْ مَضَى بِالأَمْسِ لَمْ يَكُنِ
وَإِنَّمَا المَرءُ في الدُّنْيَا بِسَاعَتِهِ
…
سَائِلْ بِذلِكَ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالزَمَنِ
مَا أَوْضَحَ الأَمْرَ لِلْمُلْقِي بِعِبرَتِهِ
…
بَيْنَ التَفَكُّرِ وَالتَجْرِيبِ وَالفِطَنِ
أَلَسْتَ يَا ذَا تَرَى الدُّنْيَا مُوَلِّيَةً
…
فَمَا يَغُرُّكَ فِيهَا مِنْ هَنٍ وَهَنِ
لأَعْجَبَنَّ وَأَنّى يَنْقَضي عَجَبِي
…
النَّاسُ في غَفلَةٍ وَالْمَوْتُ في سَنَنِ
وَظاعِنٍ مِن بَياضِ الرَّيْطِ كُسْوَتُهُ
…
مُطَيَّبٍ لِلْمَنايا غَيْرِ مُدَّهِنِ
غادَرتُهُ بَعدَ تَشيِيعَيهِ مُنجَدِلاً
…
في قُربِ دارٍ وَفي بُعدٍ عَنِ الوَطَنِ
لا يَستَطيعُ اِنتِقاصاً في مَحَلَّتِهِ
…
مِنَ القَبيحِ وَلا يَزدادُ في الحَسَنِ
الحَمدُ لِلَّهِ شُكراً ما أَرى سَكَنًا
…
يَلوي بِبَحبوحَةِ المَوتى عَلى سَكَنِ
ما بالُ قَومٍ وَقَد صَحَّت عُقولُهُمُ
…
فيما اِدَّعوا يَشتَرونَ الغَيَّ بِالثَمَنِ
لِتَجذِبَنّي يَدُ الدُنيا بِقُوَّتِها
…
إِلى المَنايا وَإِن نازَعتُها رَسِني
وَأَيُّ يَومٍ لِمَن وافى مَنِيَّتَهُ
…
يَومٌ تَبَيَّنُ فيهِ صورَةُ الغَبَنِ
لِلَّهِ دُنيا أُناسٍ دائِبينَ لَها
…
قَدِ اِرتَعَوا في رِاضِ الغَيِّ وَالفِتَنِ
كَسائِماتٍ رَواعٍ تَبتَغي سِمنًا
…
وَحَتفُها لَو دَرَت في ذَلِكَ السِمَنِ
اللَّهُمَّ اسْلُكْ بِنَا مَسْلَكَ الصَّادِقِينَ الأَبْرَارْ، وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الْمُصْطَفِينَ الأَخْيَار، وَآتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
اللَّهُمَّ أحْي قُلُوبًا أَمَاتَهَا البُعْدُ عَنْ بَابِكَ، وَلا تُعَذّبْنَا بَأليمِ عِقَابِكَ يَا أَكْرَمَ مَنْ سَمَحَ بالنَّوَالِ وَجَادَ بَالإِفْضَالِ، اللَّهُمَّ أَيْقَظْنَا مِنْ غَفْلَتِنَا بُلطْفِكَ وَإِحْسَانِكَ، وَتَجَاوَزْ عَنْ جَرَائِمِنَا بَعَفْوِكَ وَغُفْرَانِكَ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) : في الْحَثِّ عَلَى تَقْوَى اللهِ عز وجل
عِبَادَ اللهِ عَلَيْكُمْ بِتَقْوَى اللهِ فَإِنَّهَا وَصِيَّةُ اللهِ لِلأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى:{وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللهَ} فَمَا مِنْ خَيْرٍ عَاجِلٍ وَلا آجِلٍ ظَاهِرٍ وَلا بَاطِنٍ إِلا وَتَقْوَى اللهِ سَبِيلٌ مُوصِلٌ إِلَيْهِ وَوَسِيلَةٌ مُبْلِغَةٌ لَهُ وَمَا مِنْ شَرٍّ عَاجِلٍ وَلا آجِلٍ ظَاهِرٍ وَلا بَاطِنٍ إلا وَتَقْوَى اللهِ عز وجل حِرْزٌ مَتِينٌ وَحُصْنٌ حَصِينٌ لِلسَّلامَةِ مِنْهُ وَالنَّجَاةِ مِنْ ضَرَرِهِ.
شِعْرًا:
خِصَالٌ إِذَا لَمْ يَحْوِهَا المرء لَمْ يَنَلْ
…
مَنَالاً مِنْ الأُخْرَى يَكُونُ لَهُ ذُخْرَا
يَكُونُ لَهُ تَقْوَى وَزُهْدٌ وَعِفَّة
…
وَإِكْثَارُ أَعْمَالٍ يَنَالُ بِهَا أَجْرَا
آخر:
لَيْسَ يَبْقَى عَلَى الْجَدِيدَيْنِ إِلا
…
عَمَلٌ صَالِحٌ وَذِكْرٌ جَمِيلْ
آخر:
…
وَمَا في النَّاس أَحْسَنُ مِنْ مُطِيعٍ
…
لِخَالِقِهِ إِذَا عُدَّ الرَّجَالُ
آخر:
لَنِعْمَ فَتَى التَّقْوَى فَتَى طَاهر الْخُطَا
…
خَمِيصٌ مِنْ الدُّنْيَا تقيُّ الْمَسَالِكِ
فَتَىً مَلَكَ الأَهْوَاءَ أَنْ يَعْتَبِدْنَهُ
…
وَمَا كُلُّ ذِي لُبٍّ لَهُنَّ بِمَالِكِ
وَكَمْ عَلَّقَ اللهُ العظيمُ في كِتَابِهِ العَزِيزِ عَلَى التَّقْوَى مِنْ خَيْرَاتٍ عَظِيمَةٍ وَسَعَادَاتٍ جَسِيمَةٍ مِنْ ذَلِكَ الْمَعِيَّةُ الخاصَّةُ الْمُقْتَضِيَةُ للحفظ والعِنَايَةِ والنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ، قَالَ تَعَالى:{وَاتَّقُواْ اللهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} وَمِنْ ذَلِكَ الْمَحَبَّةُ لَمِنَ اتَّقَى اللهَ، قال الله تعالى:{فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} .
وَمِنْ ذَلِكَ التَّوْفِيقُ لِلْعِلْمِ قَالَ تَعَالَى: {وَاتَّقُواْ اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ} وَمِنْ ذَلِكَ نَفْيُ الخَوْفِ والحُزْنِ عَنِ المُتَّقِي المُصْلِح قَالَ اللهُ تَعَالَى: {فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} وَمِنْ ذَلِكَ الفُرْقَانُ عِنْدَ الاشْتِبَاهِ وَوَقُوعِ الإشْكَالِ وَالكَفَّارَةِ لِلسَّيِّئَاتِ وَالمَغْفِرَةِ لِلذُّنُوبِ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} .
وَمِنْ ذَلِكَ النَّجَاةُ مِنَ النَّارِ قَالَ اللهُ تَعَالى: {وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا} ، وَقَالَ تَعَالى:{وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} ، وَمِنْ ذَلِكَ الْمَخْرَجُ مِنْ الشَّدَائِدِ وَالرِّزْقُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ، قَالَ تَعَالى:{وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} .
وَمِنْ ذَلِكَ اليُسْرُ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} ، وَمِنْ ذَلِكَ عِظَمُ الأَجْرِ، قَالَ تَعَالى:{وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} ، وَمِنْ ذَلِكَ الوَعْدُ مِنَ اللهِ بِالْجَنَّةِ، قَالَ تَعَالَى:{جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ} الآيَاتْ، إِلى قَوْلِهِ:{مَن كَانَ تَقِيّاً} .
شِعْرًا:
وَأَحْسَنُ وَجْهٍ في الوَرَى وَجْهُ مُتَّقٍ
…
وَأَقْبَحُ وَجْهٍ فِيهِمْ وَجْهُ كَافِرِ
آخر:
وَمِنْ أَضْيَعِ الأَشْيَاءِ مُهْجَةُ ذِي التُّقَى
…
يَجُوزُ عَلَى جَوْبَائِهَا حُكْمُ جَائِرِ
وَقَالَ تَعَالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} ، وَقَالَ تَعَالى:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} ، وَقَالَ تَعَالى:{إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} ، وَقَالَ تَعَالى:{الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} .
وَمِنْ ذَلِكَ الكَرَامَةُ عِنْدَ اللهِ بالتَّقْوَى، قَالَ تَعَالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ، إِذَا فَهِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ التَّقْوَى هِيَ امْتِثَالُ الأَوَامِرْ وَاجْتِنَابُ النَّوَاهِي، فَالْمُتَّقُونَ هُمُ الذِّينَ يَرَاهُم اللهُ حَيْثُ أَمْرَهُمْ وَلا يُقْدِمُونَ عَلَى مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ.
الْمُتَّقُونَ هُمُ الذين يَعْتَرِفُونَ بالْحَقِّ قَبْلَ أَنْ يُشْهَدَ عَلَيْهِمْ وَيَعْرِفُونَهُ وَيُؤَدُّونَهُ، وَيُنْكِرُونَ البَاطِلَ وَيَجْتَنِبُونَهُ وَيَخَافُونَ الرَّبَّ الْجَلِيلَ الذِي لا تُخْفَى عَلَيْهِ خَافِيةٌ، الْمُتَّقُونَ يَعْمَلُونَ بِكِتَابِ اللهِ فَيُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَهُ وَيُحِلُّونَ مَا أَحَلَّهُ.
وَلا يَخُونُونَ فِي أَمَانَةٍ، وَلا يَرْضُونَ بِالذُّلِّ وَالإِهَانَةِ، وَلا يَعْقُونَ وَلا يَقْطَعُونَ، وَلا يُؤْذُونَ جِيرَانَهُمْ، وَلا يَضْرِبُونَ إِخْوَانَهُمْ، يَصِلُونَ مَنْ قَطَعَهُمْ، وَيُعْطُونَ مَنْ حَرَّمَهُمْ، وَيَعْفُونَ عَمَّنْ ظَلَمَهُمْ، الْخَيْرُ عِنْدَهُمْ مَأْمُولٌ، وَالشَّرُّ مِنْ جَانِبِهِمْ مَأْمُونٌ، لا يَغْتَابُونَ، وَلا يَكَذِبُونَ، وَلا يُنَافِقُونَ.
وَلا يَنمُّونَ، وَلا يَحْسِدُونَ، وَلا يُرَاءُونَ، وَلا يُرَابُونَ، وَلا يَقْذِفُونَ، وَلا يَأْمُرُونَ بِمُنْكَرِ وَلا يَنْهَوْنَ عَنْ مَعْرُوفْ، بَلْ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهُونَ عَنِ الْمُنْكَرْ، تِلْكَ صِفَاتُ الْمُتَّقِينَ حَقًّا الذينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُون.
إِخْوَانِي لَوْ تَحَلَّى كُلِّ مِنَّا بِالتَّقْوَى لِحَسُنَ عَمَلُهُ، وَخَلُصَتْ نِيّتُه، وَاسْتَقَامَ عَلَى الْهُدَى، وَابْتَعَد عَنِ الْمَعَاصِي وَالرَّدَى، وَكَانَ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ النَّاجِينَ.
شعرًا:
لَحَى اللهُ قَلبًا باتَ خِلْوًا مِنَ التُّقَى
…
وَعَينًا عَلَى ذَنْبٍ مَضَى لَيْسَ تَذرِفُ
وَإِنّي أُحِبُّ كُلَّ مَنْ كَانَ ذَا تُقَى
…
وَيَزْدَادُ في عَيْنِي جَلالاً وَيَشْرُفُ
شِعْرًا:
يُرِيدُ الْمَرْءُ أَنْ يُؤْتَى مُنَاهُ
…
وَيَأْبَى الله إلا مَا أَرَادَا
يَقُولُ الْمَرْءُ فَائِدَتِي وَمَالِي
…
وَتَقْوَى الله أَفْضَلُ مَا اسْتَفَادَا
آخر:
عَلَيكَ بِتَقْوَى اللهَ في كُل حَالَةٍ
…
تَجِدْ نَفْعَهَا يَوْمَ الحِسَابِ الْمُطَوُّلِ
أَلا إِنَّ تَقْوَى الله خَيْرُ بِضَاعَةٍ
…
وَأَفْضَلُ زَادِ الظاعِنِ الْمُتَحَمِّلِ
وَلا خَيْرَ في طُولِ الْحَيَاةِ وَعَيْشِهَا
…
إِذِ أَنْتَ مِنْهَا بِالتُّقَى لَمْ تَزَوَّدِ
آخر:
لَعَمرُكَ مَا مَالُ الفَتَى بِذَخِيرَةٍ
…
وَلَكِنَّ تَقْوَى الله خَيْرُ الذَّخَائِرِ
وَأَنْفَعُ مَنْ صَافَيْتَ مِنْ كان مُخْلِصًا
…
لِمَنْ لَمْ تَغِبْ عَنْهُ خَفَايَا الظَّمَائِرِ
آخر:
وَمَا رَفَع النَّفْسَ الْحَقِيرَةَ كالتُّقَى
…
وَلا وَضَعَ النَّفْسَ الرَّفِيعَةِ كَالْكُفْرِ
(فَصْلٌ) : وَصْفُ المؤمنِ التَّقِي لِلإِمَامِ عَلَيَّ رضي الله عنه
الْمُتَّقُونَ هُمْ أَهْلُ الْفَضَائِلِ مَنْطِقُهُمْ الصَّوَابُ وَمَلْبَسُهُمْ الاقْتِصَادُ وَمَشْيُهُمْ التَّوَاضُعُ غَضُّوا أَبْصَارَهُمْ عَمَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَوَقَّفُوا أَسْمَاعَهُمْ عَلَى الْعِلْمِ النَّافِعِ لَهُمْ، نَزَلَتْ أَنْفُسهم مِنْهُمْ في البَلاءِ كَمَا نَزَلَتْ في الرَّخَاءِ وَلَوْلا الأَجَلُ الذي كَتَبَ اللهُ لَهُمْ لَمْ تَسْتَقِرَّ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ شَوْقًا إِلى الثَّوَابِ وَخَوْفًا مِنَ الْعِقَابِ.
عَظُمَ الْخَالِقَ فِي أَنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا دُونَهُ في أَعْيُنِهِمْ فَهُمْ وَالْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُنْعِمُونَ، وَهُمْ وَالنَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُون قُلُوبُهُمْ مَحْزُونَةٌ وَشُرُورَهُمْ مَأْمُونَةٌ وَأَجْسَادُهُمْ نَحِفَةٌ وَحَاجَاتُهُمْ خَفِيفَةٌ وَأَنْفُسُهُمْ عَفِيفَةٌ صَبَرُوا أَيَّامًا قَصِيرَةً أَعْقَبَتْهُمْ رَاحَةٌ طَوِيلَةٌ وَتِجَارَةٌ مُرِيحَةٌ يَسّرَهَا لَهُمْ رَبُّهُمْ.
آخر:
لَعَمْرِي مَا مَالُ الفَتَى بِذَخِيرَةً
…
وَلَكِنَّ تَقْوَى اللهِ خَيْرُ الذَّخَائِرِ
آخر:
وَمَا رَفَعَ النَّفْسَ الْحَقِيرَةَ كَالتَّقُىَ
…
وَلا وَضَعَ النَّفْسَ النَّفِيسَة كَالْكُفْرِ
أَرَادَتْهُمْ الدُّنْيَا فَلَمْ يُرِيدُوهَا وَأَسَرتْهُمْ فَفَدُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْهَا أَمَّا اللَّيْلُ فَصَافُونَ أَقْدَامَهُمْ تَالِين لأَجْزَاءِ القُرْآنِ يُرَتِّلُونَهُ تَرْتِيلاً يُحْزِنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ وَيَسْتَثِيرُونَ بِهِ دَائِهِمْ.
فَإِذَا مَرُّوا بِآيةٍ فِيهَا تَشْوِيقٌ رَكَنُوا إِلَيْهَا طَمَعًا وَتَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْهَا شَوْقًا وَظَنُّوا أَنَّهَا نَصْبَ أَعْيُنِهِمْ وَإِذَا مَرُّوا بِآيةٍ فِيهَا تَخْوِيفٌ أَصْغَوْا إِلَيْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ وَظَنُّوا أَنَّ زَئِيرَ جَهَنَّم وَشَهِيقَهَا فِي أُصُولِ آذَانِهِم فَهُم حَانُونَ عَلَى أَوْسَاطِهم مُفْتَرِشُونَ لِجِبَاهِهِم وَأَكُفِّهِم وَرُكَبِهِم وَأَطْرَافِ أَقْدَامِهِم يَطْلُبُونَ إِلى اللهِ تَعَالى في فَكَاكِ رِقَابِهم وَأَمَّا النَّهَارُ فَحُلَمَاءُ عُلَمَاءُ أَبْرَارُ أَتْقِيَاءُ.
قَدْ بَرَاهم الْخَوفٌ بَرْيَ القِدَاحِ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ النَّاظِرُ فَيَحْسَبُهُمْ مَرْضَى وَمَا
بالقَوْمِ مِن مَرَضٍ وَيَقُولُ قَدْ خُولِطُوا وَلَقَدْ خَالَطَهُم أَمْرٌ عَظِيمٌ؟ لا يَرْضَوْنَ مِنْ أَعْمَالِهم القَلِيلَ وَلا يَسْتَكْثِرُونَ الكَثِيرَ فَهُمْ لأَنْفُسِهِم مُتَّهَمُونَ وَمِن أَعْمَالِهِم مُشْفِقُونَ إِذَا زُكِيَ أَحَدُهُم خَافَ مِمَّا يُقَالُ فَيَقُولُ: أَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْ غَيْرِي وَرَبِي أَعْلَمُ بِي مِنْ نَفْسِي اللَّهُمَّ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ وَاجْعَلْنِي أَفْضَلَ مِمَّا يَظُنونَ، وَاغْفِرْ لِي مَا لا يَعْلَمُونَ.
فَمِنْ عَلامَةِ أَحَدِهِم أَنَّكَ تَرَى لَهُ قُوَّةً في دِينٍ وَحَزْمًا في لِيْنٍ وَإِيمَانًا فِي يَقِينٍ وَحَرْصًا في عِلْمٍ، وَعِلْمًا في حِلْمٍ وَقَصْدًا في غِنَى وَخُشُوعًا في عِبَادَةٍ وَتَحَمُّلاً في فَاقَةٍ وَصَبْرًا في شِدَّةٍ وَطَلبًا في حَلالٍ وَنَشَاطًا في هُدَى وَتَحَرُّجًا عن طَمَعٍ.
شِعْرًا:
وَإِذا بَحَثتُ عَنِ التَقِيِّ وَجَدتُهُ
…
رَجُلاً يُصَدِّقُ قَولَهُ بِفِعالِه
وَإِذا اِتَّقى اللَهَ اِمرُؤٌ وَأَطاعَهُ
…
فَيَدَاهُ بَينَ مَكارِمٍ وَمَعالِي
وَعَلى التَقِيِّ إِذا تَرَسَّخَ في التُقى
…
تاجانِ تاجُ سَكينَةٍ وَجَمَالِ
وَإِذَا تَنَاسَبَتِ الرِّجَالُ فَمَا أَرَى
…
نَسَبًا يَكُونُ كََصَالِحِ الأَعْمَالِ
آخر:
…
تَجَمَّل بالتَّقَى إِنْ رُمْتَ عِزًا
…
فَتَقْوَى اللهِ أَشْرَفُ ما اقْتَنَيْتَا
وَأَكْثِرْ ذِكْرَهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ
…
لِتَسْعَدَ في الْمَعَادٍ إِذَا أَتَيْتَا
آخر:
…
تَزَوَّدْ وَمَا زَادَ اللَّبِيبِ سَوَى التَّقْوَى
…
عَسَاكَ عَلَى الْهَوْلِ العَظِيم بِهَا تَقْوَى
فَمَنْ لَمْ يُعَمِّرْ بالتُّقَى جَدَثًا لَهُ
…
فَمَنْزِلُهُ فِي خُلْدِهِ مَنْزِلٌ أَوْهَى
آخر:
…
وَمَا لِبَسَ الإنْسَانُ أَبْهَى مِنْ التُّقَى
…
وَإِنْ هُوَ غَالَى فِي حِسَانِ الْمَلابِسِ
آخر:
…
يَقُولُونَ لي هَلْ للمكَارِمِ وَالعَلى
…
قِوَامٌ فَفِيهِ لَوْ عَلِمْتَ دَوَامُهَا
فَقُلْتُ لَهُمْ وَالصَّدْقُ خُلْقٌ أَلِفْتُهُ
…
عَلَيْكُمْ بِتَقْوَى اللهِ فَهِيَ قَوَامُهَا
(فَصْلٌ)
التَّقَيُّ يَعْمَلُ الأَعْمَالَ الصَّالِحَةِ وَهُوَ عَلَى وَجْلٍ يُمْسِي وَهْمُّهُ الشُّكْرُ، وَيُصْبِحُ وَهَمُّهُ الذِّكْرُ يَبِيتُ حَذِرًا وَيُصْبِحُ فَرِحًا، حَذِرًا لِمَا حَذِرَ مِن الغَفْلَةِ
وَفَرِحًا بِمَا أَصَابَ مِنْ الفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ، إِنْ اسْتَصْعَبَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِيمَا تَكْرَهُ، لَمْ يُعْطِهَا سُؤلَهَا فِيمَا تُحِبُّ.
قُرَّةُ عَيْنِهِ فِيمَا لا يَزُولُ، وَزَهَادَتُه فِيمَا لا يَبْقَى، يَمْزِجُ الْحِلْم بالعِلْم، وَالقَولَ بالعَمَلَ، تَرَاهُ قَرِيبًا أَمَلُهُ، قَلِيلاً زَلَلُهُ، خَاشِعًا قَلْبُهُ، قَانِعَةً نَفْسُه، مَنْزُورًا أَكْلُهُ سَهْلاً أَمْرُهُ، حَرِيزًا دِينُهُ، مَيَّتَةً شَهْوَتُهُ مَكْظُومًا غَيْظُهُ، الْخَيْرُ مِنْهُ مَأْمُولٌ وَالشَّرُ مِنْهُ مَأْمُونٌ.
إِنْ كَانَ فِي الغَافِلِينَ كُتِبَ فِي الذَّاكِرِينَ وَإِنْ كَانَ فِي الذَّاكِرِينَ لَمْ يُكْتَبْ مِنْ الْغَافِلِينَ يَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَهُ وَيُعْطِي مِنْ حَرَمَهُ وَيَصِلُ مَنْ قَطَعَهُ، بَعِيدًا فُحْشَهُ، لِينًا قَوْلُهُ، غَائِبًا مُنْكَرُهُ، حَاضِرًا مَعْرُوفُهُ، مُقْبِلاً خَيْرُهُ، مُدْبِرًا شَرُّهُ، في الزَّلازِلِ وَقُورٌ، وَفِي الْمَكَارِهِ صَبُورٌ وَفِي الرَّخَاءِ شَكُورٌ.
لا يَحِيفُ عَلَى مَنْ يُبْغِضُ، وَلا يَأْثَمُ فِيمَنْ يُحِبُّ، يَعْتَرِفُ بالْحَقِّ قََبْلَ أَنْ يُشْهَدَ عَلَيْهِ، لا يُضَيّعُ مَا اسْتُحْفِظَ، وَلا يَنْسَى مَا ذُكِرَ، وَلا يُنَابِزْ بِالأَلْقَابِ، وَلا يُضَارَّ بِالْجَارِ، وَلا يَشْمُتُ بِالْمُصَابِ، وَلا يَدْخُلُ في البَاطِلِ، وَلا يَخْرُجُ مِنْ الْحَقِّ.
إِنْ صَمَتَ لَمْ يَغُمُّه صَمْتُهُ، وَإِنْ ضَحَكَ لَمْ يَعْلُ صَوْتُهُ، وَإِنْ بُغِيَ عَلَيْهِ صَبَرَ حَتَّى يَكُونَ اللهُ هَوْ الذي يَنْتَقِمُ لَهُ، نَفْسُهُ مِنْهُ فِي عَنَاءٍ وَالنَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ، أَتْعَبَ نَفْسَهُ لآخِرَتِهِ وَأَرَاحَ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ.
شِعْرًا:
لا خَيْرَ فِيمَنْ لا يُرَاقِبُ رَبَّهُ
…
عِنْدَ الْهَوَى وَيُحَاذِرُ النِّسْيَانَا
إِنَّ الذِي يَبْغِي الْهَوَى وَيُريدُهُ
…
كَمُواخِي شَيْطَانُهُ شَيْطَانَا
حَجَبَ التُّقَى بَابَ الْهَوَى فَأَخ التُّقَى
…
عَفُّ الْخَلِيقَةِ زَائِدٌ إِيْمَانَا
آخر:
عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللهِ أَسْنَى الفَضَائِل
…
تُعَدُ مِنْ القَومَ الكِرَام الأَمَاثِلِ
فَمَا الْمَرءُ إلا بالتُّقَى يَرْتَقِي إِلى
…
سَنَامِ الْمَعَالِي فِي مَقَامِ الأَفَاضِلِ
آخر:
…
الْعِلْمُ وَالتَّقْوَى وَطَاعَة رَبّنَا
…
تَكْسُ الرِّجَال مَهَابَةً وَجَلالا
وَهيَ الطَّرِيقُ لِمَنْ أَرَادَ السَّلامَة
…
وَهِيَ السَّلاحُ لِمَنْ أَرَادَ جِدَالا
بُعْدُهُ عَمَّنْ تَبَاعَدَ عَنْهُ وَنَزَاهَةً، وَدُنُوُّهُ مِمَّنْ دَنَا مِنْهُ لِينٌ وَرَحْمَةٌ، لَيْسَ تَبَاعُدُه بِكبْرٍ وَعَظَمَةٍ، وَلا دُنُوُّهُ بِمَكْرٍ وَخَدِيعَةٍ.
قَالَ: فَصَعَقَ هَمَّامُ صَعْقَةً كَانْتَ نَفْسُهُ فِيهَا. فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام: أَمَّا وَاللهِ لَقَدْ كُنْتُ أَخَافُهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا تَصْنَهُ الْمَوَاعِظُ البَالِغَةُ بِأَهْلِهَا فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: فَمَا بَالُكَ يَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: وَيْحَكَ إِنْ لِكِلِّ أَجَلٍ وَقْتًا لا يَعْدُوهُ وَسَبَبًا لا يَتَجَاوَزُه. أ. هـ.
شِعْرًا:
عَلَيْكُمْ بِتَقْوَى اللهِ لا تَتْرُكُونَهَا
…
فَإِنَّ التُّقَى أَقْوَى وَأَوْلَى وَأَعْدَلُ
لِبَاسُ التُّقَى خَيْرُ الْمَلابس كُلِّهَا
…
وَأَبْهَى لِبَاسًا في الوُجُودِ وَأَجْمَلُ
فَمَا أَحْسَنَ التَّقْوَى وَأَهْدَى سَبِيلَها
…
بِهَا يَنْفَعُ الإِنْسَانَ مَا كَانَ يَعْمَلُ
فَيَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ بادِر إلى التُّقَى
…
وَسَارِعْ إلى الْخَيْرَاتِ مَا دُمْتَ مُمْهَلُ
وَأَكْثِرْ مِن التَّقْوَى لِتَحْمِدَ غِبَّهَا
…
بِدَارِ الْجَزَاء دَارٍ بِهَا سَوْفَ تَنْزِلُ
وَقَدِّمْ لِمَا تَقْدَمْ عَلَيْهِ فَإِنَّمَا
…
غَدًا سَوْفَ تُجْزَى بالذِي سَوْفَ تَفْعَلُ
وَأَحْسِنْ وَلا تُهْمِلْ إِذَا كُنْتُ قَادِرًا
…
فَأَنْتَ عَنْ الدُّنْيَا قَرِيبًا سَتَرْحَلُ
وَأَدِّ فُرُوضَ الدِّينِ وَأتْقِنْ أَدَاءَهَا
…
كَوَامِلَ في أَوْقَاتِهَا وَالتَّنفل
وَسَارِعْ إِلى الْخَيْرَاتِ لا تَهْمِلنَّهَا
…
فَإِنَّكَ إِنْ أَهْمَلْتَ مَا أَنْتَ مُهْمَلُ
وَلَكِنْ سَتُجْزَى بالذي أَنْتَ عَامِلٌ
…
وَعَنْ مَا مَضَى عَنْ كُلِّ شَيْءٍ سَتُسْأَلُ
وَلا تُلْهِكَ الدُّنْيَا فَرَبُّكَ ظَامِنٌ
…
لِرِزْقِ البَرَايَا ظَامِنٌ مُتَكَفِلُ
وَدُنْيَاكَ فَاعْبُرْهَا وَأخْرَاكَ زِدْ لَهَا
…
عَمَارًا وَإِيثَارًا إِذَا كُنْتَ تَعْقِلُ
فَمَنْ آثرَ الدُّنْيَا جَهُولٌ وَمَنْ يَبِعْ
…
لأُخْرَاهُ بِالدُّنْيَا أَضَلُّ وَأَجْهَلُ
وَلَذَّاتُهَا وَالْجَاهُ وَالعِزُ وَالغِنَى
…
بَأَضْدَادِهَا عَمَّا قَلِيلٍ تَبَدَّلُ
فمَنْ عَاشَ في الدُّنْيَا وَأَطَالَ عُمْرُهُ
…
فَلا بُدَّ عَنْهَا رَاغِمًا سَوْفَ يُنْقَلُ
وَيَنْزِلُ دَارًا لا أَنِيسَ لَهُ بِهَا
…
لِكُلِ الوَرَى مِنْهُمْ مَعَادٌ وَمَوْئِلُ
وَيَبْقَى رَهِينًا بالترابِ بِمَا جَنَى
…
إلى بَعْثِهِ مِنْ أَرْضِهِ حِينَ يَنْسِلُ
يُهَالُ بَأَهْوَالٍ يَشِيبُ بِبِعْضِهَا
…
وَلا هَوْلَ إلا بَعْدَهُ الْهَوْلَ أَهْوَلُ
وَفِي البَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ نَشْرُ صَحَائِفِ
…
وَمِيزَانُ قِسْطٍ طَائِشٍ أَوْ مُثَقَّلُ
وَحَشْرٌ يَشِيبٌ الطفْلُ مِنْهُ لِهَوْلِهِ
…
وَمِنْهُ الْجِبَالِ الرَّاسِيَاتُ تَزَلْزَلُ
وَنَارٌ تَلَظَّى في لَظَاهَا سَلاسِلٌ
…
يُغَلُّ بِهَا الفُجَارُ ثُمَّ يُسَلْسَلُ
شَرَابُ ذَوِي الإِجْرَامِ فِيهَا حَمِيمُهَا
…
وَزقُومُهَا مَطْعُومُهُمْ حَيْنَ يُؤَكَلُ
حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِثْلُهُ
…
مِنْ الْمُهْلِ يَغْلِي في البُطُونِ وَيَشْعَلُ
يَزِيدُ هَوْانًا مِنْ هَوَاهَا وَلا يَزَلْ
…
إِلى قَعْرِهَا يَهْوِي دَوَامًا وَيَنْزِلُ
وَفِي نَارِهِ يَبْقَى دَوَامًا مُعَذَّبًا
…
يَصِيحُ ثُبُورًا وَيْحَهُ يَتَوَلْوَلُ
عَلَيْهَا صِرَاطٌ مَدْحَضٌ وَمَزَلَّةٌ
…
عَلَيْهِ البَرَايَا فِي القِيَامَةِ تُحْمَلُ
وَفِيهِ كَلالِيبٌ تَعَلَّقُ بالوَرَى
…
فَهَذَا نَجَا مِنْهَا وَهَذَا مُخْرَدَلُ
فَلا مُذِيبٌ يَفْدِيهِ مَا يَفْتَدِي بِهِ
…
وَإِنْ يَعْتَذِرْ يَوْمًا فَلا الْعُذْرُ يُقْبَلُ
فَهَذَا جَزَاءُ الْمُجْرِمِينَ عَلَى الرَّدَى
…
وَهَذَا الذِي يَوْمَ القِيَامَةِ يَحْصُلُ
أَعُوذُ بِرَبِّي مِن لَظَى وَعَذَابِهَا
…
وَمِنْ حَالِ مَنْ يَهْوي بِهَا يَتَجَلْجَلُ
وَمَنِ حَالِ مَنْ فِي زَمْهَرِيرٍ مُعَذَّبٍ
…
وَمِن كَانَ في الأَغْلالِ فِيهَا مُكَبَّلُ
وَجَنَّاتُ عَدْنٍ زُخْرِفَتْ ثُمَّ أُزْلِفَتْ
…
لِقَوْمٍ عَلَى التَّقْوَى دَوَامًا تَبَتَّلُ
بِهَا كُلُّ مَا تَهْوَى النُّفُوسُ وَتَشْتَهِي
…
وَقُرَّةُ عَيْنٍ لَيْسَ عَنْهَا تَرَحَّلُ
مَلابِسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَسُنْدُسٌ
…
وَإِسْتَبْرَقٌ لا يَعْتَرِيهِ التَّحَلُّلُ
وَمَأْكُولُهم مِنْ كُلِّ مَا يَشْتَهُونَهُ
…
وَمِنْ سَلْسَبِيلٍ شُرْبُهُم يَتَسَلْسَلُ
وَأَزْوَاجُهُم حُورٌ حِسَانٌ كَوَاعِبٌ
…
عَلَى مِثْلِ شَكْلِ الشَّمْسِ بَلْ هُوَ أَشْكَلُ
يُطَافُ عَلَيْهِم بِالذِي يَشْتَهُونَهُ
…
إِذَا أَكَلُوا نَوْعًا بآخَرَ بُدِّلُوا
فَوَاكِهُهَا تَدْنُوا إلى مَنْ يُريدُهَا
…
وَسُكَّانِهَا مَهْمَا تَمَنُّوهُ يَحْصُلُ
وَأَنْهَارِهَا الأَلْبَانِ تَجْرِي وَأَعْسَلٌ
…
تَنَاوُلُهَا عِنْدَ الإِرَادَةِ يَسْهُلُ
بِهَا كُلَّ أَنْوَاعِ الفَوَاكِهِ كُلَّهَا
…
وَخَمْرٌ وَمَاءٌ سَلْسَبِيلٌ مُعَسَّلُ
يُقَالُ لَهُمْ طِبْتُمْ سَلِمْتُمْ مِن الأَذَى
…
سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِالسَّلامَةِ فَادْخُلُوا
بَأَسْبَابِ تَقْوَى اللهِ والعَمَلِ الذِي
…
يُحِبُّ إلى جَنَّاتِ عَدْنٍ تَوَصَّلُوا
إِذَا كَانَ هَذَا وَالذِي قَبْلَهُ الْجَزَاء
…
فَحَقٌّ عَلَى العَيْنَيْنِ بِالدَّمْعِ تُهْمِلُ
وَحَقٌّ عَلَى مَنْ كَانَ بِاللهِ مُؤْمِنًا
…
يُقَدِّمْ لَهُ خَيْرًا وَلا يَتَعَلَّلُ
وَأَنْ يَأْخُذَ الإِنْسَانُ زَادًا التُّقَى
…
وَلا يَسْأَمِ التَّقْوَى وَلا يَتَمَلْمَلُ
وَإِنَّ أَمَامَ النَّاسِ حَشْرٌ وَمَوْقِفٌ
…
وَيَوْمٌ طَوِيلٌ أَلْفُ عَامٍ وَأَطْوَلُ
يَا لَكَ من يَوْمٍ عَلَى كُلَّ مُبْطِلٍ
…
فَضِيعٍ وَأَهْوَالُ القِيَامَةِ تُعْضِلُ
تَكُونُ به الأَطْوَادُ كَالعِهْنِ أَوْ تَكُنْ
…
كَثِيبًا مَهِيلاً أَهْيلاً يَتَهَلْهَلُ
بِهِ مِلَّةُ الإِسْلامِ تُقْبَلُ وَحْدَهَا
…
وَلا غَيْرَهَا مِنْ أَي فَيَبْطُلُ
بِهِ يَسْأَلُونَ النَّاسُ مَاذَا عَبَدْتُمُوا
…
وَمَاذَا أَجَبْتُم مَن دَعَا وَهُوَ مُرْسَلُ
حِسَابُ الذي يَنْقَادُ عَرْضٌ مُخَفَّفٌ
…
وَمَن لَيْسَ مُنْقَادًا حِسَابٌ مُثَقَّلُ
وَمِنْ قَبْلِ ذَاكَ الْمَوْتُ يَأْتِيكَ بَغْتَةً
…
وَهَيْهَاتَ لا تَدْرِي مَتَى الْمَوْتُ يَنْزِلُ
كُؤُسُ الْمَنَايَا سَوْفَ يَشْرَبُهَا الوَرَى
…
عَلَى الرَّغْمِ شُبَّانٌ وَشِيبٌ وَأَكْهُلُ
حَنَانَيْكَ بَادِرْهَا بِخَيْرٍ فَإِنَّمَا
…
عَلَى الآلةِ الْحَدْبَا سَرِيعًا سَتُحْمَلُ
إِذَا كُنْتَ قَدْ أَيْقَنْتَ بِالْمَوْتِ وَالْفَنَا
…
وَبِالْبَعْثِ عَمَّا بَعْدَهُ تَغْفُلُ
أَيَصْلُحُ إِيمَانُ الْمَعَادِ لِمُنْصِفٍ
…
وَيَنْسَى مَقَامَ الْحَشْرِ مَنْ كَانَ يَعْقِلُ
إِذَا أَنْتَ لَمْ تَرْحَلْ بِزَادٍ مِنْ التُّقَى
…
ابن لِي ابن يَوْمَ الْجَزَا كَيْفَ تَفْعَلُ
أَتَرْضَى بأَنْ تَأْتِي القِيَامَةَ مُفْلِسًا
…
عَلَى ظَهْرِكَ الأَوْزَارُ بِالْحَشْرِ تَجْمِلُ
إِلَهِي لَكَ الفَضْلُ الذي عَمَّمَ الوَرَى
…
وَجُودٌ عَلَى كُلِ الْخَلِقْيَةِ مُسْبَلُ
وَغَيْرُكَ لَوْ يَمْلِكْ خَزَائِنَكَ التِي
…
تَزِيدُ مَعَ الإِنْفَاقِ لا بُدَّ يَبْخَلُ
.. وَإِنِّي بِكَ اللَّهُمَّ رَبِّي لَوَاثِقٌ
…
وَمَا لِي بِبَابٍ غَيْرِ بَابِكَ مَدْخَلُ
وَإِنِّي اللَّهُمَّ لَكَ بِالدِّينِ مُخْلِصًا
…
وَهَمِّي وَحَاجَاتِي بِجُودِكَ أُنْزِلُ
أُعوذُ بِكَ اللَّهُمَّ مِن سُوءِ صُنْعِنَا
…
وَأَسْأَلُكَ التَّثْبِيتَ أُخْرَى وَأَوَّلُ
إِلَهِي فَثَبِّتْنِي عَلَى دِينكَ الذِي
…
رَضِيتَ بِهِ دِينًا وَإِيَّاهُ تَقْبَلُ
وَهَبْ لِي مِنْ الفِرْدَوْسِ قَصْرًا مُشَيَّدًا
…
وَمُنَّ بِخَيْرَاتٍ بِهَا أَتَعَجَّلُ
وَللهِ حَمْدٌ دَائِمٌ بِدَاوَمِهِ
…
مَدَى الدَّهْرِ لا يَفْنَى وَلا الْحَمْدُ يَكْمُلُ
يَزِيدُ على وَزْنِ الْخَلائِقِ كُلِّهَا
…
وَأَرْجَحُ مِن وَزْنِ الْجَمِيعِ وَأَثْقَلُ
وَإِنِّي بِحَمْدِ اللهِ في الْحَمْدِ أَبْتَدِي
…
وَأَنْهِي بِحَمْدِ اللهِ قَوْلِي وَأَبْتَدِي
صَلاةً وَتَسْلِيمًا وَأَزْكَى تَحِيَّةً
…
تَعُمُّ جَمِيعَ الْمُرْسِلِينَ وَتَشْمَلُ
وَأَزْكَى صَلاة اللهِ ثُمَّ سَلامُهُ
…
عَلَى الْمُصْطَفَى أَزْكَى البَرِيَّةِ تَنْزِلُ
آخر:
…
مَطَالبُ النَّاسِ في دُنْيَاكَ أَجْنَاسُ
…
فَاقْصُدْ فَلا مَطْلَبٌ يَبْقَى وَلا نَاسُ
وَارْضَى القَنَاعَةَ مَالاً وَالتُّقَى حَسَبًا
…
فَمَا عَلَى ذِي تُقىً مِنْ دَهْرِه بَاسُ
وَإِنْ عَلَتْكَ رُؤُوْسٌ وَازْدَرَتْكَ فِفِي
…
بِطْنِ الثَّرَى يَتَسَاوَى الرِّجْلُ وَالرَّاسُ
آخر:
…
عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللهِ واقْتَنَعْ بِرِزْقِهِ
…
فَخَيْرُ عِبَادِ اللهِ مِنْ هُوَ قَانِعُ
وَلا تُلْهِكَ الدُّنْيَا وَلا طَمَعٌ لَهَا
…
فَقَدْ يُهْلِكُ الْمُغْرُورَ فِيهَا الْمَطَامِعُ
وَصَبْرًا عَلَى نَوْبَاتِ مَا نَابَ وَاعْتَرِفُ
…
فَمَا يَسْتَوِي حُرٌ صَبُورٌ وَجَازِعُ
أَعَاذلُ مَا يُغْنِي الثَّرَاءُ عَنْ الفَتَى
…
إِذَا حَشْرَجَتْ بِالنَّفْسِ مِنْهُ الأَضَالعَ
آخر:
للهِ قَوْمٌ أَطَاعُوا اللهِ خَالِقَهُمْ
…
فَآمَنُوا وَاسْتَقَامُوا مِثْلَ مَا أَمُرُوا
وَالوَجْدُ وَالشَّوقُ وَالأَفْكَارُ قُوتُهُمُوا
…
وَلازَمُوا الْجِدَّ وَالإِدْلاجَ في البُكَرِ
وَبَادِرُوا لِرِضَا مَوْلاهُمُوا وَسَعَوْا
…
قَصْدَ السَّبِيل إِليهِ سَعْيَ مُؤْثمِرِ
وَشَمَّرُوا وَاسْتَعَدُّوا وِفْقَ مَا طُلِبُوا
…
وَاسْتَغْرُقُوا وَقْتَهُمْ فِي الصَّوْمِ وَالسَّهَرِ
وَجَاهَدُوا وَانْتَهَوْا عَمَّا يُبَاعِدُهُمْ
…
عَنْ بَابِهِ وَاسْتَلانُوا كُلَّ ذِي وَعَرِ
.. جَنَّاتُ عَدْنٍ لَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ بِهَا
…
فِي مَقْعَدِ الصِّدْقِ بَيْنَ الرَّوْضِ وَالزَّهَرِ
لَهُمْ مِنَ اللهِ مَالا شَيْءَ يَعْدِلُهُ
…
سَمَاعُ تَسْلِيمِهِ وَالفَوْزُ بِالنَّظَرِ
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا تَوْفِيقًا يَقِينًا عَنْ مَعَاصِيكَ وَأَرْشِدْنَا إِلى السَّعْيِ فِيمَا يُرْضِيكَ، وَأَجِرْنَا يَا مَوْلانَا مِنْ خِزْيكَ وَعَذَابِكَ وَهَبْ لَنَا مَا وَهَبْتَهُ لأَوْلِيَائِكَ وَأَحْبَابِكَ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
قال اللهُ تبارك وتعالى وَتَقَدَّس: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} .
قال بعض أهل العلم: في هذه الآية فوائد منها: أنَّ أصْل أَمْرِ المتَّقِين السَّلامَةُ وَإِنْ عَرِضَ طَيْفٌ بَعْضِ الأَحْيَان.
ومنها: إذَا مَسَّهم والْمَسَّ مُلامَسَة مِن غيرِ تمكُنٍ كالكفار فإن الشيطان يَتَجَرَّد عليهم ويَخْتَلس مِن قُلُوب المتَّقِينِ المؤمنين حِينَ تَنَامُ العُقُولُ الْحَارِسَةِ لِلْقُلُوب.
فإذا اسْتَيْقَظُوا انْبَعَثَ مِن قلوبهم جُيُوشُ الاسْتِغْفَار والذلَةِ إلى اللهِ تعالى والافتقار فاْسَترجَعُوا مِن الشيطان ما اختلسَهُ وأخذوا منه ما افَترِسَه.
ومنها: أَنَّهُ أشارَ بالطيف إلى أَنَّهُ لا يُمْكِنُهُ أَنْ يأتي القلوبَ الدائمة الْمُسْتَيْقِظَةِ إنما يأتِي القُلُوبَ في حِينَ منامِها يَرْجُو غَفْلَتَهَا ومن لا نوم لَهُ فَلا طَيف يَردُ عليه.
ومنها: أنَّ الطَيْفِ الذي في مَنَامِكَ فإذا اسْتَيْقَظْتَ فلا وُجُودَ لَهُ.
ومنها: أَنَّهُ قال: تَذَكَّرُوا ولم يَقلْ ذَكَرُوا إِشَارَةً إِلى أَنَّ الغَفْلَةَ لا يَطْرُدُهَا الذكر مِن غَفْلَةِ القلب إِنَّمَا يَطْرُدُهَا التذكر والاعتبار لأَنَّ الذكر مَيْدَانُه اللسان والتذكر مَيْدَانُه القلب.
ومنها أنه قال: تذكروا فحذف مُتَعَلَّقِةِ ولم يَقُلْ تذكَّرُوا الجنةَ والنار والعقوبة لأن التذكر الماحي لِطَيف الْهَوى مِن قلوب المتقين على حساب مَرَاتِبِ المتقين.
وَمَرْتَبَة التَّقوى يَدْخُلُ فيها الرسُل والأنبياء والصِّديقُونَ والأولياء والصالحون والمسلمون فتقوى كل أحد على حسب مقامه.
لذلك يَذْكَرُ كُلُ واحِدٍ على حَسَب مَقَامِهِ فلو ذكر قِسْمًا مِن أَقْسَام التَّذَكْرِ لم يدخُلْ فيه إلا أَهْلُ ذَلِكَ القِسْم.
شِعْرًا:
أَعْلَى الْمَمَالِكِ مَا التَّقْوَى لَهُ أُسُسٌ
…
وَطَاعَةُ الله في سِرٍ وَإِعْلانِ
وَالعَدْلُ بَيْنَ عِبَادِ اللهِ كُلِّهمُوا
…
لا فَرْقَ بَيْنَ شَرِيفٍ مِنْهُمْ أَوْ أَنِي
ومنها: قولُه سُبْحَانَهُ: {فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} كَأَنَّهُ لم يَذْكُر أَعْلَى ذَلِكَ مِنَّا مِنْه سُبْحَانَه عليهم كَأَنَّهُم لَمَّا اسْتَيْقَظُوا ذَهَبَتْ سَحَابَةُ الغَفْلَةِ فأَشْرَقَتْ شمسُ البَصِيرَةِ.
ومنها التَّوْسِيعُ عَلَى المتقين لأنه لو قال إنَّ الذِينَ اتَّقَوْا لا يَمَسُّهُم طَيْفٌ من الشيطان خَرَجَ كل أَحَدٍ إِلا أَهْل العِصْمَةِ فَأَرَادَ سُبْحَانَهُ أَنْ يُوَسِّعَ دَائَرَة رَحْمَتِهِ. انتهى.
ثم اعلم وفقنا اللهُ وَإِيَّاك وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه أَنَّ التقوى التي أَعَدَّ اللهُ الجنة لأهلها قيلَ: إِنَّهَا امْتثالُ الأوامر واجتنابُ النواهي.
وقيل: هِيَ اتقاءُ الشَّركِ فَمَا دُونَهُ مِنْ ذَنْبٍ مِنْ كُلَّ مَا نَهَى الله عنه واتقاءَ تَضْيِيعِ وَاجِبٍ مِمَّا افْتَرَضَ الله.
وهي وَصِيَّةُ لِلأوَّلين والآخِرِين، قَالَ الله جل وعلا:{وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللهَ} .
وقال جل وعلا: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} .
وقد روى في الحديث إن المنادي يُنَادِي يوم القيامة: {يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} فَتَرْفَعُ الْخَلائِقُ رؤوْسَهم يَقُولُونَ: نَحْنُ عِبَادُ الله عز وجل.
ثم يُنَادِي الَّثانية: {الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} فَيُنَكِسُ الكُفَّارُ رَؤُوْسَهُمِ، وَيَبْقَى الْمُوَحِدُون رَافِعِي رُؤوسَهُم.
وَيَبْقَى أَهْلُ التَّقْوَى رَافِعِي رُؤُوْسَهُمْ قَدْ أَزَالَ عَنْهُمْ الرِّبُ الكَرِيمُ الْخَوِفَ والْحَزَنَ كَمَا وَعَدَهُمْ وَهُوَ أَصْدَقُ القائِلِينَ وَأَوْفَى الْوَاعِدِين وَأَكْرَمُ الأَكْرَمِين لا يَخْذُلُ وَلِيَّهُ ولا يُسْلِمُهُ عِنْدَ الْهَلَكَة.
شِعْرًا:
لَوْ أَنَّنِي خُيّرتُ كُلَّ فَضِيلَةٍ
…
ما اخْتَرْتُ إِلا طَاعَةَ الرَّحْمَنِ
كَُلُّ الأُمُورِ تَزُول عَنْكَ وَتَنْقَضِي
…
إلا التُّقَى وَفَضَائِلُ الإيمَانِ
آخر:
حَقُّ التُّقَى وَإِنْ لَمْ يُدْنِهِ نَسَبٌ
…
فَرَضٌ عَلى كُلِّ مَنْ لِلدِّينَ يَنْتَسِبُ
(مَوْعِظَةٌ) : عِبَادَ اللهِ لَقَدْ ضَاعَتْ أَعْمَارِنَا فِي الْقِيلِ وَالْقَالِ، وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ، والْمُدَاهَنَةِ، وَالانْهِمَاكِ في الدُّنْيَا، إِلى أَنْ اسْتَلْحَقَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ جُزْءًا مِنْ اللَّيْلِ مُضَافًا إِلى النَّهَارِ، وَكَأَنَّنَا لَمْ نُخْلَقْ إِلا لِهَذِهِ الأَعْمَالِ، أَفَلا نَسْتَيْقِظُ مِنْ غَفْلَتِنَا، وَنَحْفَظُ أَلْسِنَتِنَا عَنْ نَهْشِ أَعْرَاضِ الغَوَافِلِ، وَالطَّعْنِ فِي الأَحْسَابِ وَالأَنْسَابِ، وَنَصْرِفَ جُلَّ الأَوْقَاتِ، إِلى البَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، التِي هِيَ خَيْرٌ عِنْدَ رِبِّنَا ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدا، وَنَذْكُرَ مَوْلانَا الذِي فَضْلُهُ عَلَيْنَا مِدْرَارٌ، فَإِنَّ الذِّكْرَ عَاقِبَتُهُ الْجَنَّةُ دَارُ الكَرَامَةِ وَالْقَرَارِ، مَعَ رِضَى رَبِّنَا الذِي دُونُهُ كُلُّ ثَوَابٍ، تَاللهِ لَوْ عَرَفْتُم قِيمَةِ هَذِهِ النَّصِيحَةِ لَبَادَرْتُمْ إِلى الْعَمَلِ بِهَا كُلَّ البِدَارِ فَإِنَّكَ وَأَنْتَ تَذْكُرُ الله أَفْضَلِ مِمَّنْ يُفَرِّقُ الذَّهَبَ وَالفِضَّةِ وَسَائِرَ الأَمْوَالِ
وَأَفْضَلُ مِنْ أَنْ تُجَاهِدَ العَدُو فَيَضْرِبَ عُنُقَكَ، أَوْ تَضْرِبَ عُنُقَهُ، وَتَكُونَ مِنْ الشُّهَدَاءِ الأَبْرَارِ، كَيْفَ لا وَالذِّكْرُ خَيْرِ الأَعْمَالِ وَأَزْكَاهَا، وَأَرْفَعَهَا لِلدَّرَجَاتِ عِنْدَ مَوْلانَا الوَّهَّابُ حَسْبُ الذَّاكِرِ أَنْ تَحُفَّهُ الْمَلائِكَةُ، وَتَنْزِلُ عَلَيْهِ السَّكِينَةُ، وَتَغْشَاهُ الرَّحماتُ، وَمَنْ في الوُجُودِ مِثْلُ الذَّاكِرُ، وَهُوَ وَقْتُ ذِكْرِهِ للهِ بَارِي الكَائِنَاتِ، وَمَنْ مِثْلُهُ في الدُّنْيَا وَهُوَ بالذِّكْرِ في حِصْنٍ يَحْفَظَهُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَوَسَاوِسَهِ الفَاتِنَاتِ، وَمَنْزِلَةُ الذَّاكر بَيْنَ الغَافِلِينَ كَمَنْزِلَةِ الْحَيّ بَيْنَ الْمَيِّتِينَ، ذِكْرُ الله يُنِيرُ القلبَ، وَيُوقِظَهُ وَيُحْييهِ وَيُزِيلُ رَانَهُ وَيَهْدِيهِ إِلى الْحَقِّ، قَالَ تَعَالَى:{أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} .
شِعْرًا:
مَا مَاتَ مَنْ يَتْلُوا الْقُرْآنَ دَوَامَهُ
…
يَعْمَلْ بِمَا فِيهِ مِنْ الأَحْكَامِ
آخر:
يَا لَيْتَ أَلْفُ لِسَانٍ أَسْتَعِينُ بِهَا
…
عَلَى قِرَاءَةِ قُرْآنٍ وَتَهْلِيلِ
بسم الله الرحمن الرحيم
خَاتِمَةٌ، وَصِيَّةٌ، نَصِيحَةْ
اعْلَمْ وَفَّقَنَا اللهُ وَإِيَّاكَ وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ لِمَا يُحِبَّهُ الله وَيَرْضَاهُ أَنَّ مِمَّا يَجِبُ الاعْتِنَاءُ بِهِ حِفْظًا وَعَمَلاً كلام الله جَلَّ وَعَلا وَكَلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وَأَنَّهُ يَنْبَغِي لِمَنْ وَفَّقَهُ الله تعالى أَنْ يَحُثَّ أَوْلادَه عَلَى حِفْظ القُرآن وما تَيَسَّرَ مِن أَحَادِيث النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم الْمُتَّفَق على صحَّتِها عنه كَالبُخَارِي وَمُسْلِم.
وَمِنْ الفقه مُخْتصرَ المقنِع لِيَيسَّرَ لَهُ اسْتِخْرَاجُ المسائل وَيَجْعَلُ لأَوْلادِهِ مَا يَحُثُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ.
فَمَثلاً يَجْعَلُ لِمَنْ يَحْفَظُ القُرآنَ على صَدْرِهِ حِفْظًا صَحِيحًا عَشَرَةَ آلافِ أَوْ أَزْيَد أَوْ أَقَلْ حَسَبَ حَالِهِ في الغِنَى.
ومِن الأحَادِيث عُقُودَ اللُؤلؤ والمرجَان فيما اتفق عَلَيْهِ الإِمَامَان البُخَارِي ومسلم، يَجْعَلُ لِمَنْ يَحْفَظٌ ذَلِكَ سِتَّة آلاف.
فَإِنْ عَجَزُوا عَنْ حِفْظِهَا فالعُمدة في الحديث يَجْعَلُ لِمَنْ حَفِظَها ثلاثة آلاف، أَوْ الأربعين النَّوَوِيَّةِ وَيَجْعَل لمن يَحْفَظْهَا أَلْفًا.
وَيَجْعَلُ لِمَنْ يَحْفَظُ مُخْتَصَرَ المقنع في الفقه أَلْفَيْن مِن الرَّيَالاتِ فالغَيْبُ سَبَبٌ لِحِفِظِ المسائل وَسَبَبٌ لِسُرعَةِ اسْتِخْرَاج ما أُرِيدَ مَن ذَلِكَ وَمَا أَشْكَلَ مَعْنَاه أَوْ يُدَخِّلُهُم في مَدَارِسِ تَحْفِيظِ القُرْآنِ فَمَدَارِسُ تَعْلِيمِ القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ هَيِ مَدَارِسُ التَّعْلِيم العَالي الْمُمْتَازِ البَاقِي النَّافِعِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ أَوْ يُدْخلهم في حَلَقَاتِ تَحْفِيظِ القُرْآن الكرِيم الموجودة في الْمَسَاجِد.
شِعْرًا:
وَلَمْ أَرَى لِلْخَلائقِ مِنْ مُرْبٍّ
…
كَعِلْمٍ الشَّرْعِ يُؤخَذُ عَنْ ثِقَاتِ
بِبَيْتِ اللهِ مَدْرَسَةِ الأَوَالِي
…
لِمَنْ يَهْوَى الْعُلُومَ الرَّاقِيَاتِ
فَمَنْ وَفَّقَهُ الله لِذَلِكَ وَعَمِلَ أَوْلادُهُ بِذَلِكَ كَانَ سَبَبًا لِحُصُولِ الأَجْرِ مِنْ الله وَسَببًا لِبِرِّهِم بِهِ وَدُعَائِهِم لَهُ إِذَا ذَكَرُوا ذَلِكَ مِنْهُ وَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ سَببًا مُبَارَكًا يَعْملُ بِهِ أَوْلادُهُ مَعَ أولادهم فَيزيدُ الأَجْرُ لَهُ وَلَهم. نَسَأْل اللهُ أَنْ يُوَفِّق الْجَمِيع لِحُسْنِ النَّيَة.
(فَائِدَةٌ) : وَاعْلَمْ أَنَّ الأَوْلادَ يَتَفَاوَتُونَ فِي الذَّكَاءَ وَعُلوِّا الْهِمَّةِ فيُعْطَى كُلِّ وَاحِدٍ مَنْزِلَتَه، وَيَتَبَيَّنُ ذَلِكَ بِاخْتَياراتِهِ لِنَفْسِهِ، فَإِنْ الصِّبْيَانَ يَجْتِمَعُونَ لِلَّعِبِ فَيَقُولُ عَالِي الْهِمَّةِ: مَنْ يَكُونُ مَعِي؟ وَيَقُولُ: قَاصِر الْهِمَّةِ: مَنْ أَنَا مَعَهْ؟
شِعْرًا:
الْعِلْمُ أَعْلَى وَأَحْلَى مَالَهُ اسْتَمَعَتْ
…
أُذْنٌ وَأَعْرَبَ عَنْهُ نَاطِقٌ بِفَمِ
الْعِلْمُ غَايَتُه القُصْوَى وَرُتْبَتُهُ
…
الْعُلْيَاءُ فَاسْعَوا إِلَيْهِ يَا ذَوِيْ الْهِمَمِ
لَلْعِلْمُ أَشْرَفُ مَطْلُوبٍ وَطَالَبُهُ
…
للهِ أَكْرَمُ مَن يَمْشِي عَلَى قَدَمِ
الْعِلْمُ نُورٌ مُبِينٌ يَسْتَضِيءُ بِهِ
…
أَهْلُ السَّعَادَةِ وَالْجُهَالُ في الظُلَمِ
الْعِلْمُ أَعْلَى حَيَاةٍ لِلْعِبَادِ كَمَا
…
أَهْلُ الْجَهَالَةِ أَمْوَاتٌ بَجَهْلِهم
الْعِلْمُ وَاللهِ مَيراثُ النُّبُوةِ لا
…
مِيراثَ يُشْبِهُهُ طَوْبَى لِمُتْسَمِ
لأَنَّهُ إِرْثُ حَقٍ دَائِمٍ أَبَدًا
…
وَمَا سَوَاهُ إِلى الإِفْنَاءِ وَالْعَدَمِ
الْعِلْمُ مِيزَانُ شَرْعُ اللهِ حَيْثُ بِهِ
…
قِوَامُهُ وَبِدُونِ الْعِلْمِ لَمْ يَقُمِ
وَسُلْطَةُ الْعِلْمِ تَنْقَادُ الْقُلُوبُ لَهَا
…
إلى الْهُدَى وَإلى مَرْضَاةِ رَبِهِم
وَيَذْهَبُ الدِّينُ وَالدُّنْيَا إِذَا ذَهَبَ العِـ
…
ـلْمُ الذِي فِيهِ مَنْجَاةٌ لِمُعْتَصِمِ
الْعِلْمُ يَا صَاحِ يَسْتَغْفِرْ لِصَاحِبِهِ
…
أَهْلُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِينَ مِن لمَمِ
كَذَاكَ تَسْتَغْفِرُ الْحِيتَانُ في لِجَجٍ
…
مَنْ البِحَارِ لَهُ فِي الضَّوءِ وَالظُّلَمِ
وخارجَ في طِلابَ العِلْمِ مُحْتَسِبًا
…
مُجَاهدٌ في سَبِيلِ اللهِ أَيَّ كَمِي
وأَنَّ أَجْنِحَةَ الأَمْلاكِ تَبْسُطُها
…
لِطَالِبِيهِ رَضِىً مِنْهُمْ بِصُنْعِهِمْ
وَالسَّالِكُونَ طَرِيقَ الْعِلْمِ يُسْلِكُهُمْ
…
إِلى الْجِنَانِ طَرِيقًا بَارِئَ النَّسَمِ
وَالسَّامِعُ الْعِلْمَ وَالوَاعِي لِيَحْفَظهُ
…
مُؤْذِيا نَاشِرًا إِيَّاهُ في الأُمَمِ
فَيَا نَضَارَتَهُ إِذَا كَانَ مُتصفًا
…
بِذَا بِدَعْوَةِ خَيْرِ الْخَلْقِ كُلِّهْمُ
كَفَاكَ فِي فَضْلِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ رُفِعُوا
…
مِنْ أَجْلِهِ دَرَجَاتٍ فَوْقَ غَيْرِهِمُ
وَكَانَ فَضْلِ أَهْلِ أَبِينَا في القَدِيمِ عَلَى
…
الأَمْلاكِ بالْعِلْمِ مِنْ تَعْلِيمِ رَبِهمُ
كَذَالِكَ يُوسُفُ لَمْ تَظْهَرْ فَضِيلَتُهُ
…
لِلْعَالِمِينَ بِغَيْرِ الْعِلْمِ وَالْحِكم
وَقَدَّمَ الْمُصْطَفَى بِالْعِلْمِ حَامِلَهُ
…
أَعْظَمْ بِذَلِكَ تَقْدِيمًا لِذِي قَدم
كَفَاهُمُوا أَنْ غَدَوْا لِلْوَجى أَوْعِيَةُ
…
وَاضْحَتِ الآي مِنْهُ فِي صُدُورِهِم
وَأَنْ غَدَوْا وُكلاءٌ في القِيَامِ بِهِ
…
قَوْلاً وَفِعْلاً وَتَعْلِيمًا لِغَيْرِهِم
وَخَصَّهُم رَبُّنَا قَصْرًا بِخَشْيَتِهِ
…
وَعَقْلِ أَمْثَالِهِ فِي أَصْدَقِ الْكَلِمِ
وَمَعْ شَهَادَتِهِ جَاءَتْ شَهَادَتُهُمْ
…
حَيْثُ اسْتَجَابُوا وَأَهْلُ الْجَهْلِ فِي صَمَمِ
وَالعَالِمُونَ عَلَى العُبَّادِ فَضْلِهِمُ
…
كَالْبَدْرِ فَضْلاً عَلَى الدُّرِي فَاغْتَنِمِ
.. وَبَالْمِهُمِّ الْمُهِمِّ ابْدَأْ لِتَدْرِكَهُ
…
وَقَدِّمِ النَّصَ عَلَى الآرَاءِ فَافْتَهِمِ
قَدِّمْ وُجُوبًا عُلُومَ الدِّينِ إِنْ رِهَا
…
يَبْيِنُ نَهْجُ الْهُدَى مِنْ مُوجِبِ النَّقْمِ
وَكُلُّ كَسْرِ الفَتَى فَالدِّينُ جَابُرهُ
…
وَالْكَسْرُ في الدِّينِ صَعْبٌ غَيْرُ مُلْتَئِمِ
مَا الْعِلْمِ إلا كِتَابُ اللهِ أَوْ أَثَرٌ
…
يَجْلُوا بِنُورِ هُدَاهُ كُلَّ مُنْبِهِمِ
مَا ثَمَّ عِلْمٌ سِوَى الوَحْيِ الْمُبِينِ وَمَا
…
مِنْهُ اسْتُمِدَّ إِلا طُوبَى لِمُغْتَنِمِ
وَالكَتْمُ لِلِعِلْمِ فَاحْذَرْ إِنَّ كَاتِمَهُ
…
فِي لَعْنَةِ اللهِ وَالأَقْوَامِ كُلِّهُمِ
وَمِنْ عُقُوبَتِهِ أَنْ في الْمَعَادِ لَهُ
…
مِنْ الْجَحِيمِ لِجَامًا لَيْسَ كَاللُّجُمِ
وَكَاتِمُ العِلْمِ عَمَّنْ لَيْسَ يَحْمِلُهُ
…
مَاذَا بِكِتْمَانْ بِلا صَوْنٌ فَلا تُلمِ
وَإِنَّمَا الْكَتْمُ مَنْعُ العِلْمِ طَالِبُهُ
…
مِن مُسْتَحِقٍ لَهُ فَافْهَمْ ولا تَهِمِ
وَاتْبِعِ الْعِلْمِ بِالأَعْمَالِ وَادْعُ إِلى
…
سَبِيلِ رَبَّكَ بِالتِّبْيَانِ وَالْحِكَمِ
وَأَصْبَره عَلَى لاحِقٍ مِنْ فِتْنَةٍ وَأَذَى
…
فِيهِ وَفِي الرُّسْلِ ذِكْرَى فَاقْتَدِهْ بِهِم
لِوَاحَدٌ بِكَ يَهْدِيهِ الإِلِهُ لِذا
…
خَيْرٌ غَدًا لَكَ مِن حُمْرٍ مِن النَّعَمِ
وَاسْلُكْ سَواءَ الصَّراطِ الْمُسْتَقِيمِ وَلا
…
تَعْدلْ وَقُلْ رَبِّي الرَّحْمَنُ وَاسْتِقمِ
يَا طَالبَ الْعِلْمِ لا تَبْغِي بِهِ بَدَلاً
…
فَقد ظِفْرت وربِّ اللوحِ والقلمِ
وَقَدِّسِ الْعِلْمَ وَاعْرِفْ قَدْرَ حُرْمَتِهِ
…
في القَوالِ وَالفِعل والآدابِ فالتَزمِ
وَاجْهَدْ بِعَزْمٍ قَوي لا انِثنَاءَ لَهُ
…
لَوْ يَعَلْمَ ُالمرءُ قَدْرَ الْعِلْمِ لَمْ يَنَمِ
وَالنُّصْحَ فابْذِلْهُ لِلطُّلابِ مُحْتَسِبًا
…
فِي السِّرِ وَالْجَهْرِ وَالأَسْتَاذَ فَاحْتَرِمِ
ومَرْحَبًا قُلْ لِمَنْ يَأْتِيكَ يَطْلُبِهُ
…
وَفِيهِمْ احْفَظْ وَصَايَا الْمُصْطَفَى بِهِم
وَالنِّيَةُ اجْعَلْ لِوَجْه اللهِ خَالِصَةٌ
…
إِنْ البِنَاءُ بِدُونِ الأَصْلِ لَمْ يَقُمِ
وَمَنْ يَكُنْ لِيَقُولُ الناسُ يَطْلُبِهُ
…
أَخْسِرْ بِصَفُقُتِهِ فِي مَوْقِفِ النَّدَمِ
وَمَنْ بِهِ يَبْتَغِي الدُّنْيَا فَلَيْسَ لَهُ
…
يَوْمَ القِيَامَةِ مِن حَظ ولا قِسمِ
إِيَّاكَ وَاحْذَرْ مماراتِ السَّفِيهِ بِهِ
…
كَذَا مُبَاهَاتٍ أَهْلِ العِلْمِ لا ترم
فَإِنْ أَبْغَضَ كُلِّ الْخُلْقِ أَجْمَعُهُمْ
…
إِلى الإِلهِ أَلَدَّ النَّاسِ في الْخِصَمِ
.. وَالعُجْبَ فَاحْذَرْهُ إِنَّ العُجْبَ مُجْتَرِفٌ
…
أَعْمَالَ صَاحِبِهِ فِي سُيْلِهِ العَرِمِ
آخر:
ضَيَّعْتَ عُمْرِكَ يَا مَغْرُورُ في غَفَلِ
…
قُمْ لِلتَّلاقِي فَأَنْتَ اليَوْمَ فِي مَهَلِ
وَاسْتَفْرِغِ الدَّمْعَ مِمَّا فَاتَ مِنْ زَمَنٍ
…
وانْدُبْ بِتَوْبَة عَلَى أَيَّامِكَ الأُولِ
بَادِرْ إِلى صَالِحِ الأَعْمَالِ مُجْتَهِدًا
…
فَالنُّجْعُ فِي الْجِدِّ وَالحِرْمَانُ فِي الكَسَلِ
كُنْ لا محالةَ في الدُّنْيَا كَمُغْتَرِب
…
عَلَى رَحِيلِ دَنَى أَوْ عَابِرِ السُّبُلِ
دَارُ الْخُلُودِ مَقَامًا دَارُ آخِرَةٍ
…
إِنَّ الإقَامةَ في الدُّنْيَا إِلى أَجَلِ
وَكُلُّ مِن حَلَّ في الدُّنْيَا فَمُرْتَحِلٌ
…
يَوْمًا لِمَنْزِلَةٍ في إثْرِ مُرْتَحِلِ
هَلا اعْتَبَرْتُ فَكَمْ حَلُّوا وكَمْ رَحَلُوا
…
وَإِنَّما النَّاسُ في حِلٍّ وَمُرْتَحِلِ
إِذَا تَجَهَّمَ أَمْرٌ لا مَرَدَّ لَهُ
…
لَمْ يُغْنِ عَنْكَ اقْتِنَاءُ الْمَللِ وَالْحُلَلِ
يَقُومُ عَنْكَ الأطِبَّاءِ وَالصِّدِيقُ إِذًا
…
وَقَدْ طَوَوْا صُحُفَ التَّدْبِيرِ وَالْخُيَلِ
فَيُدْرِجُونَكَ في الأَكْفَانِ مُنْتَزِعًا
…
عَنْكَ الثِّيَابُ مِنْ الأَبْرَادِ وَالْحُلَلِ
وَيُودِِعُونَكَ تَحْتَ الأَرْضِ مُنْفَرِدًا
…
وَيَتْركُونَكَ مَحْجُوبًا مِنْ الْمُقَلِ
وَقَائِلٌ مِنْهُمْ قَدْ كَانَ خَيْرَ أَبٍ
…
وَقَائِلٌ مِنْهُمُ قَدْ كَانَ خَيْرُ وُلِي
فَبَعْدَ ذَلِكَ لا يَدْرُونَ مَا فَقَدُوا
…
وَهَمُّهُمْ في اقْتِسَامِ الإِرْثِ بِالْجَدَلِ
وَبَعضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ مُخَاصَمَةٍ
…
وَإِنَّهُمْ بَيْنَ مَنْصُورٍ وَمُنْخَذِلِ
وَيَأْخُذُونَ قَرِيبًا فِي مَعَايِشِهِمْ
…
لا يَذْكُرونَكَ في خِلْوٍ وَمُحْتَفَلِ
يَا أَيُّهَا الغِرُّ لا تَغْرُرْكَ صُحْبَتُهُمْ
…
خَيْرُ الْمَصَاحِبِ عِنْدي صَالِحُ العَمَلِ
فِيمَ التَّغَافُلُ وَالأَيَّامُ دَائِرَةٌ
…
فِيمَ التَّكَاسُلْ وَالأَحْوَالُ في حِوَلِ
فِيمَ العَوِيلُ لَدَى دَارٍ خَلَتْ وَعَفَتْ
…
فِيمَ البُكَاءُ عَلَى الآثَارِ وَالطُّلَل
وَفِيمَ التَّصَابِي وَأَيَّامُ الصِبَا غَبَرَتْ
…
فِيمَ النَّسِيبُ وَلا إِبَانُ لِلْغَزَلِ
فَكَيْفَ تَلْعَبُ وَالْخَمْسُونَ قَدْ كَمُلَتْ
…
وَكَيْفَ تَلْهُو وَنَارُ الشَّيْبِ في شُعَلِ
دَعْ ذِكْرَ لَيْلَى وَلُبْنَة وَازْدِيَادِهِمَا
…
ثُم ارتَحِالهما من هَذِهِ الْحُلَلِ
.. تِلْكَ الْعَوَانِي وَإِنْ أَخْلَصْنَ خُلَّتَها
…
وَاللهِ لَسْنَ بَرِيئَاتٍ مِنْ الدَّخَلِ
طحُبُّ الأَحِبَّةِ حُرْمَانٌ وَمَنْدَمَةٌ
…
فَالْغُولُ عَاقَبَةٌٌ لِلشَّارِبِ الثَّمِلِ
يَا رَبِّ صَلِّ وَسَلِّمْ دَائِمًا أَبَدًا
…
عَلَى نَبِيِّكَ طه سَيّدِ الرُّسُلِ
(فَصْلٌ)
قال أحد العلماء: لا يكن هم أحدكم في كثرة العمل، ولكن ليكن همه في إحكامه وإتقانه وتحسينه، فإن العبد قد يُصَلي وهو يَعْصِي الله في صلاته، وقد يصوم وهو يَعْصِي الله في صيامه.
وقيل لآخر: كيفَ أَصْبَحْتَ؟ فبكى، وقال: أصبحتُ في غَفْلَةٍ عَظِيمَةِ عن الموت مَعَ ذُنُوب كثيرة قد أحاطت بي، وأجلٌ يسرع كل يوم في عمري، ومَوْئِلِ لستُ أدري علامَا أهجم، ثم بكى.
وقال آخر: لا تَغْتَم إلا مِن شيء يَضُرك غدًا (أي في الآخرة) ولا تفرح بشيءٍ لا يَسُركَ غدًا، وأنفعُ الخوف ما حَجَزَكَ عن المعاصي، وأطال الْحُزْنَ مِنْكَ على ما فاتك من الطاعة، وَأَلْزَمَكَ الفِكْرَ في بَقِيةِ عُمرك.
وقال الآخر: عليك بصحبة من تُذَكِّرُك الله عز وجل رُؤيَتُه، وتقع هَيْبَتُه على باطنك، ويزيُدُ في عَملك مَنْطِقُه، ويُزْهِدُكَ في الدُّنْيَا عَمله، ولا تعصي الله ما دُمْتَ في قُربه، يَعِظكَ بِلِسَانِ فِعْلِهِ ولا يَعِظُكَ بِلِسَانِ قَوْلِهِ.
قال إِسرافيل: حضرتُ ذي النون المصري وهو في الحبس وقد دَخل الشُرطي بطعام له، فقام ذُو النون فنفض يده (أي قبضها عن الطعام) .
فقيل له: إن أخاك جَاءَ به فقال: إنه على يَدَيْ ظالم، قال: وسمعتُ رجلاً سأله ما الذي أتعبَ العبادَ وأضْعَفَهُم؟
فقال: ذكر المقام، وقلةُ الزاد، وخوفُ الحساب، ولم لا تذوبُ أبدانُ العمال وتذهلُ عُقولُهم، والعرضُ على الله جل وعلا أمامَهم، وقراءة كتبهم بين أيديهم.
والملائكة وقوفٌ بين يدي الجبار يَنْتَظِرونَ أَمْرَهُ في الأخبار والأشرار، ثم مَثَّلوا هذا في نفوسهم وَجَعَلُوه نُصْبَ أَعْيُنِهِم.
وقال: سَقَمُ الجسد في الأوجاع وسقم القلوب في الذنوب، فكما لا يجد الجسد لذة الطعام عند سقمه، كذلك لا يجد القلب حلاوة العبادة مع الذنوب.
وقال: مَن لم يعرف قدر النعم، سُلِبَهَا مِن حَيثُُ لا يعلم.
ما خلع الله على عبد خلعة أحسنَ ولا أشرفَ مِن العقل ولا قلده قلادة أجمل من العلم ولا زينه بزينة أفضل من الحلم وكمال ذلك التقوى.
وقال آخر: أدركتُ أقوامًا يَسْتَحْيُونَ مِن الله في سَوادِ الليل مِن طُول الْهَجْعَةِ، إِنَّمَا هو على الجنب فإذا تَحَرَّك قال لنفسه: لَيْسَ لك قومي خُذِي حَظَّكِ مِن الآخِرَةِ.
وقال أبو هاشم الزاهد: إن الله عز وجل وَسَمَ الدنيا بالوحشة، ليكن أنْسُ المريدين به دونها، وليُقْبل المطيعُونَ له بالإعراض عنها، وأهْلُ المعرفة بالله فيها مُسْتَوْحِشُون، إلى الآخرة مُشْتَاقُون.
ونظر أبو هاشم إلى شريك القَاضي يَخْرجُ مِن دَارِ يحيى بن خالد فبكى وقال: أعوذ بالله من عِلْمٍ لا ينفع.
وقال أسود بن سالم: ركعتان أصليهما أحب إلي من الجنة بما فيها. فقيل له: هذا خطأ، فقال: دَعُونَا من كلامكم، رَأَيْتُ الْجَنَّةَ رضا نَفْسِي، وركعتين أصليهما رضا رَبي، ورضاء ربي أَحَبُّ إِليَّ مِن رضا نفْسِي، تأمل يا أخي دقَّةَ هذا الفهم لله دره.
وقال وهيب: الإيمان قائد، والعمل سائق، والنفس بينهُما حَرون، فإذا قادَ القائدُ ولن يَسُقِ السَّائِقُ لم يُغن ذلك شيئًا.
وإذا سَاقَ السائقُ ولم يقد القائد لم يغن ذلك شيئًا، وإذا قادَ القَائِدُ وساقَ السائقُ اتَّبَعَتْهُ النفسُ طوعًا وكرهًا وطابَ العملَ.
قال بعضهم يوبخ نفسه ويعظها: يا نَفْسُ بادري بالأوقاتِ قبل انصرامها، واجتهدِ في حراسة لَيَالي الحياة وأيامها، فكأنكِ بالقبور قد تشَقَّقَتْ وبالأمور وقد تَحَقَّقَت، وبوجوه المتقين وقد أشرقت، وبرؤوس العصاة وقد أطرقت، قال تعالى وتقدس:{وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} ، يا نفس أما الوَرعُونَ فقد
جَدُّوا، وأما الخائفون فقد استعدوا، وأما الصالحون فقد فرحوا وراحوا وأما الواعظون فقد نصحوا وصاحوا.
العلم لا يحصل إلا بالنصب والمال لا يجمع إلا بالتعب، أيها العبد الحريص على تخليص نفسه إن عزمت فبادر وإن هممت فثابر واعلم أنه لا يدرك العز والمفاخر من كان في الصف الآخر.
اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإِيمَانِ وَثَبِّتْهَا عَلَى قَوْلِكَ الثَّابِتْ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينِ وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينِ يَا أَكْرَمَ الأَكْرَمِينَ. وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
قال ابن مسعودٍ رضي الله عنه الصراطُ المستقيمُ، تَرَكَنَا مُحمدٌ في أَدْنَاهُ وَطَرَفُه في الْجَنَّةِ، وعن يمينه جَوَادٌ وثَمّ رجالٌ يدعونَ مَنَ مَرَّ بِهم، فمَن أخذَ في تلك الْجَوادِ انتهتْ به إلى النار، ومَن أخذ على الصِّراطِ انتهى به إلى الجنة. ثم قرأ ابن مسعود:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} خرجه ابن جرير وغيره.
فالطريقُ الموصلُ إلى الله واحدٌ، وهو صراطهُ المستقيمُ، وبقيةُ السُّبُلِ كُلَّها سُبُل الشيطانِ، مَن سَلَكَها قَطَعَتْ بِهِ عن الله، وأوصَلَتْهُ دَارَ سَخَطِهِ وَغَضَبِهِ وَعِقَابِه، فربما سَلكَ الإنسانُ في أولِ أمرِهِ على الصراطِ المستقيم ثم يَنْحَرِفُ عَنه آخِرَ عُمُرِه فيسلكُ سُبُلَ الشيطانِ فيقطعُ عن الله فَيَهلكُ.
«إن أحدَكُم ليعملُ بعملِ أهل الجنةِ حتى ما يكونُ بينه وبينهَا إلا ذراعٌ أَوْ باعٌ فيعمُل بعملِ أَهل النار فَيَدخلُ النَّارَ» . وربما سلكَ بالرجل أولاً بعض سُبُلِ الشيطَان ثم تُدركُه السعادةُ فيسلكُ الصراطَ المستقيمَ في آخر عُمُرِهِ فيصلُ به إلى الله.
والشأنُ كُلَّ الشأنِ في الاستقامةِ على الصراطِ المستقيمِ مِن أول السير إلى الله {ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ} ، {وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} . ما أكثرَ مَن يَرْجِعُ أثناءَ الطريق وَيَنْقَطِعُ، فإن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن {يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} .
شِعْرًا:
خَلِيلِيَّ قُطَّاعٌ الطَّرِيقِ إِلى الْحِمَا
…
كَثِيرٌ وَأَمَّا الوَاصِلُونَ قَلِيلُ
وفي الحديث الصحيح الإلهي (القدسي) يقول الله عز وجل: (مَن تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَمَن تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَة) .
وفي المسند زيادة: (والله أعلا وأجل، والله أعلا وأجل) . وفيه أيضًا يقول الله: (ابنَ آدمَ قُمْ إِليَّ وَامْش إِليَّ أَهُرْوِلْ إِلَيْكَ) .
(فَصْلٌ)
وقال رحمه الله: الوصولُ إلى الله نَوعان: أحَدُهما: في الدنيا، والثاني: في الآخِرَةِ. فأما الوصولُ الدنيويُ فالمَرادُ به: أن القلوبَ تصلِ إلى مَعْرفَتِهِ، فإذا عَرَفَتْهُ أحبته، وأنِسَتْ به فوجَدْتُه منها قريبًا وَلِدُعَائِها مُجيبًا، كَما في بعض الآثار:(ابنَ آدمَ اطلبني تجدني فإن وجَدتني وجدتُ كُلَّ شيءٍ، وإن فِتُكَ فَاتكَ كُلّ شيءٍ) .
الصراطُ المستقيمُ في الدنيا يشتملُ على ثلاثِ درجاتٍ: درجةِ الإسلامِ، ودرجةِ الإيمان، ودرجةِ الإحسان. فمن سَلَكَ دَرَجَةَ الإِسلامِ إلى أن يَمُوتَ عليها مَنَّعتْهُ مِن الخلودِ في النارِ، ولم يَكُنْ له بُدُّ مِن دُخُولِ الجنة، وإن أصابَهُ قبلَ ذلكَ مَا أَصَابَهُ.
ومَن سَلَكَ على دَرَجَةِ الإيمانِ إلى أن يموتَ عليها مَنَعْتهُ مِن دخولِ النارِ بالكليةِ فإن الإيمانِ يُطْفِئُ لَهَبَ نارِ جهنم حتى تقولَ: يا مُؤْمَنُ جُزْ فَقَدْ أطفأ نُورُكَ لَهَبِي.
وفي المسند عن جابر رضي الله عنه مرفوعًا: «لا يَبْقى بَرٌ ولا فاجِرٌ إلا دَخَلها فتكونُ على المؤمنِ بَرْدًا وَسَلامًا كَمَا كانَتْ على إبراهيم، حَتَّى إن لِلنَّارِ ضَجِيجًا مِن بَرْدِهِم، هذَا مِيرَاثٌ وَرِثَه المحبون مِن حَالِ أبِيهم إبراهيم عليه السلام» .
ومَن سلك على درجة إحسان إلى أن يموت عليها وَصِلَ بعدَ الموتِ إلى الله: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} . وفي الحديث الصحيح: ((إذَا دخلَ أهلُ الجنةِ الجنةَ نادَى: يا أهل الجنةِ إن لكم عند الله مَوعدًا يُريدُ أن يُنْجِزَكُمُوهُ.
فيقولون ما هو: ألم يبيض وجوهنا؟ ألم يثقل موازيننا؟) . فوالله ما أعطاهُم الله شيئًا أَحَبَّ إليهم ولا أقرّ لأعينهم من النظر إليه)) ، وهو الزيادةُ ثم تلا:{لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} .
كُلُّ أهلِ الجنةِ يَشْتَرِكُونَ في الرُّوَايةِ ولكن يَتَفَاوتُون في القُربِ في حال الرؤيةِ. عُمُومُ أهلِ الجنةِ يَرَوْنَ رَبَّهم يومَ المزيدِ وهو يوم الجمعة، وخواصُهم يَنْظُرونَ إلى وجه الله في كُلَّ يَوْمٍ مَرتَين بكرةً وعَشِيًا. العارفونَ لا يُسَلِّيهِم عن مَحْبُوبِهم قَصْرٌ ولا يُرْويهمِ دونَه نَهْرٌ.
شِعْرًا:
وَيَرونَهُ سُبحانَهُ مِن فَوقِهم
…
نَظَر العِيانِ كَمَا يُرَى القَمَرانِ
هذا تَواتَر عن رسولِ اللهِ لم
…
يُنْكِرهُ إلا فَاسِدُ الإيمانِ
وأتى به القُرآنُ تَصْرِيحًا وَتَعْـ
…
ـريضًا هُمَا بِسِياقِهِ نَوْعانِ
وَهِيَ الزيادةُ قَدْ أَتَتْ في يُونُسٍ
…
تَفْسِيرَ مَنْ قَدْ جاءَ بالقرآن
وهو المزِيدُ كذاكَ فَسِّرِهُ أبو
…
بَكرٍ هو الصديقُ ذُو الإيمان
وعليه أصحابُ الرسول تَتَابَعُوا
…
هم بعدهم تَبِعِيّةَ الإحسان
وَاللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
(فَصْلٌ)
وفي المسند عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا: «أن أَدنَى أَهلِ الجنةِ مَنزلةً لَيَنْظُرُ في مُلْكه أَلفَي سنة يَرى أقصاه كما يرى أدناه، يَنْظرُ إلى أَزْوَاجِهِ وَخَدَمِهِ، وَإِنْ أفضَلهُم مَنزلةً لمن يَنْظُرْ إلى وجْهِ الله تبارك وتعالى كُلَّ يَومٍ مَرَّتين» . وخرجه الترمذي ولفظه: «إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً لَمَنْ يَنْظُرُ إِلَى أَزْوَاجِهِ ونَعِيمِهِ وَخَدَمِهِ وَسُرُرِهِ مَسِيرَةَ أَلْفِ سَنَةٍ» .
وأكرمُهم على الله من ينظرُ إلى وَجْههِ غُدْوَةً وَعَشِيًّا ثم قرأ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} . ولهذا المعنى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح حديث جرير بن عَبْدِ اللهِ البَجَلي: «إنكم سَتَرونَ رَبَّكُم يومَ القيامة كما ترونَ القمرَ ليلةَ البدرِ لا تُضَامُونَ في رُؤْيَتِه» ، قال:«فإن اسْتَطَعْتُم أَن لا تُغْلِبُوا على صلاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشمسِ وَصَلاةٍ قَبْل غُروبِها فَافْعَلُوا» ، ثم قرأ:{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} .
ولما كان هذانِ الوَقْتَانِ في الجنة وقتان للرؤية في خواصِ أهلِ الجنةِ، خَصَّ الرسول صلى الله عليه وسلم على المحافظة على الصلاة في هذين الوقتين في الدنيا فَمَنْ حَافَظَ على هاتين الصلاتين في الدنيا في هذين الوقت وصلاهُما على أكمل وُجُوهِمَا وخُشُوعِهِمَا وَحُضُورِهما وأدَبِهِما فإنه يُرْجَى له أن يكونَ مِمَّن يَرَى الله في هذين الوقتين في الجنة، لاسيما إن حافظ بعدَهُما على الذكر وأنواعِ العِبادات حتى تطلعَ الشمسُ أو تغربَ.
فإنَ وَصَلَ العبدُ ذَلِكَ بدُلجةِ آخر الليلِ فَقَدْ اجتمعَ له السيرُ في الأوقات الثلاثة وهي: الدُلْجَةُ، والغَدوةُ، والرَّوْحَةُ، فيوشكُ أن يَعْقِبَه الصِدقُ في هذا
السيرِ الوصول الأعظم إلى ما يطلبه في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
مَن لَزِمَ الصِّدق في طلبهِ أداهُ الصِّدْقُ إلى مَقْعَدِ الصِّدْق {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ} .
المحبُ لا يَقْطَعُ السؤالَ عَمَّنْ يُحِبُّ وَيَتَحَسَّس الأخبارَ وينْسِمُ الرِّيَاحَ وَيَسْتَدِلُ بآثار السلوكِ على الطريق إلى محبوبه.
لقد كَبُرتْ هِمَّةٌ الله مَطلوبُهَا وشرفَتْ نفسٌ الله مَحْبُوبُها {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} .
شِعْرًا:
ما للمحبِ سوى إرادة حِبه
…
إنّ المحبَّ بكُلِ بَرٍ يُصْرَعُ
قيمةُ كلِ امرئٍ ما يَطْلُبُ فَمَن كَانَ يَطْلُبُ الله فلا قِيمَةَ له من طَلَبَ الله فَهُو أَجَلّ مَنْ أن يُقَوَّمَ، ومن طَلَب غَيْرَهُ فهو أخَسُّ مِن أن يكونَ لهُ قِيمَة.
قال الشبلي: مَن ركن إلى الدُّنْيَا أحْرَقَتْهُ بِنَارِهَا فصارَ رمادًا تَذْرُوهُ الرياحُ، ومَن ركن إلى الآخرِة أحرقته بنورِها فصار سبيكةَ ذهبٍ ينتفعُ به، ومَن ركن إلى الله أحرقه نُورُ التوحيد فصارَ جَوْهَرًا لا قيمة لَهُ.
واللهُ أَعْلَم. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
(فَصْلٌ)
في قوله تعالى: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} هذه الآية كانت تَشْتَدُ على الخائفين من العارفين فإنها تَقْتَضِي أن من العباد مَن يَبْدُو له عندَ لِقَاء الله ما لم يكن يحتسب، مثل أن يكون غافلاً عما بين يديه مُعْرِضًا غير مُلتفتٍ إليه ولا يَحْتِسِبُ له ولهذا قال عمر رضي الله عنه: لو أن لِي مُلْكَ الأرض لافتديتُ به مِن هَوْلِ المطلعِ.
وفي الحديث: «لا تمنوا الموتَ فإن هولَ المطلعِ شديد، وإن مِن سعادةِ المرءِ أن يطَولَ عُمره ويَرزقه الله الإنابة» .
وقال بعضُ حكماء السلف: كم مَوقِفِ خِزيٍ يومَ القيامةِ لم يَخْطُر على بالك قط. ونظير هذا قوله تعالى: {لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} .
واشتملَ على ما هو أعم مِن ذلك وهو أن يكون له أعمالٌ يرجو بها الخيرَ فتصيرُ هباءً منثورًا وتبدلُ سيئات وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} .
وقال: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً} .
وقال الفضيلُ في هذه الآية: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} قال: عملوا أعمالاً وحسبوا أنها حسنات فإذا هي سيئات. وقَرِيبٌ من هذا أن يعملَ الإنسانُ ذنبًا يَحْتَقِرُهُ وَيَسْتَهوِنُ به فيكون هو سَبَبَ هلاكِهِ. كما قال تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ} .
وقال بعضُ الصحابةِ: إنكم تعملون أعمالاً هي في أعينكم أدقُ مِن الشعر، كنا نعهدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات، وأصعبُ مِن هذا من زُيّنَ له سوءُ عمله فرآه حسنًا. قال تعالى:{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} .
قال ابن عيينة: لَمَّا حَضَرَتْ مُحمدَ بنَ المنكدر الوفاةُ جَزِعَ فَدَعُوا له أبا حازم فجاءَ فقال له: ابن المنكدر: إن الله يقول: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} فأخاف أن يبدوَ لي من الله ما أكن أحتسب. فجعلا يبكيان جميعًا. خرجه ابن أبي حاتم، وزاد ابن أبي الدنيا. فقال له أهله: دعوناك لتخفف عليه فزدته فأخبرهم بما قال.
وقال الفضيلُ بنُ عياض: أُخبِرتُ عن سليمان التيمي أنه قِيلَ له: أنتَ أنت ومن مثلك؟ فقال: مه لا تقولوا هذا لا أدري ما يَبْدُو لي من الله. سمعتُ الله يقول: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} .
وكان سفيان الثوري يقول عند هذه الآية: ويلٌ لأَهْلِ الرياء من هذه الآية، وهذا كما في حديث الثلاثة الذين هم أولُ من تَسُعّرُ بهم النار، العالم، والمتصدق، والمجاهد. وكذلك من عَمِل أعمالاً صالحةً وكانت عليه مظالمِ فهو يظن أن أعماله تنجيه فيبدو له ما لم يكن يحتسب، فيقتسمُ الغرماءُ أعماله كلّها ثم يفضلُ لهم فضلٌ فيطرحُ من سيئَاتهم عليه ثم يطرح في النار.
وقد يناقش الحساب فيطلب منه شكرُ النعم فتقوم أصغر النعم فتستوعب أعماله كلها وتبقى بقيةٌ فيطالب بشكرها فيعذب. ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: «مَن نوقش الحساب عذب أو هلك» . وقد يكون له سيئات تحبط بعضَ أعماله أو أعمال جوارحه سوى التوحيد فيدخل النار.
وفي سنن ابن ماجة من رواية ثَوْبَانَ مَرْفُوعًا: «إِنَّ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَجِيءُ بَأَعْمَالٍ أَمْثَال الجِبَالْ فَيَجْعَلُهَا اللهُ هَبَاءً مَنْثُورًا» . وَفِيهِ: «وَهُمِ قَومٌ مِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ وَلَكِّنَهُمْ قَومٌ إِذَا خَلُوا بِمَحَارِمِ اللهِ انْتَهكُوهَا» .
وَخَرَّجَ يَعْقُوبُ بنُ أبي شُعْبَةِ، وابنُ أبي الدُّنْيَا في حَدِيثِ سَالِمٍ مَوْلى أبي حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا:«ليَجاءُ يَوْمَ القِيَامَةِ بَأَقْوَامٍ مَعَهُمْ مِن الْحَسَنَاتِ مِثْلُ جِبَالِ تِهَامَةَ حَتَّى إِذَا جِيءَ بِهِمْ جَعَلَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ هَبَاءً ثُمَّ أَكَبَّهُمْ في النَّارِ» .
قال سَالِمٌ: خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ مِنْهُمْ. فَقَالَ: «أَمَّا إِنَّهُمْ كَانُوا يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَأْخُذُونَ هُنَيْهةً من اللَّيْلِ، ولَعَلَّهُم كَانُوا إِذَا عَرَضَ لَهُمْ شَيْءٌ سِرًّا حَرَامًا أَخَذُوهُ فَأَدْحَضَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ» . وَقَدْ يُحْبِطُ العَمَلُ بآفِةٍ مِنْ رِيَاءٍ خَفِيٍّ أَوْ عُجْبٍ بِهِ ونحوِ ذَلِكَ ولا يَشْعُرُ بهِ صَاحِبُه.
قال ضَيْغَمُ العابِدُ: إن لم تأتِ الآخرةُ بالسرور لقد اجتمع عليه الأمران: هَمُّ الدُّنْيَا، وشَقَاءُ الآخِرَة. فقيل له: كيفَ لا تأتيه الآخرة بالسرور وهو يتعبُ في دار الدنيا ويدَأب؟ قال: كيف بالقَبُول، كيف بالسلامة.
ثم قال: كم مِن رجل يَرى أنه قد أصلحَ عَمَلَهُ يُجمَعُ ذلك كلّه يومَ القيامة ثم يضربُ به وَجْهَهُ ومِن هنا كان عامر بن عبد قيس وغيره يقلقون مِن هذه الآية: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} .
وقال ابنُ عَون: لا تثق بكثرةِ العملِ، فإنك لا تَدْرِي يُقْبَلُ منكَ أم لا؟ ولا تأمن ذُنوبَك فإنك لا تَدري هَلْ كفّرتْ عنكَ أم لا؟ لأن عَمَلَكَ عنكَ مُغَيَّب كُلُه لا تَدْرِي ما الذي صَانِع به. وبكَى النَّخعي عندَ الموتِ وقال: أنتظرُ رَسُولَ رَبي ما أدري أيُبَشِّرُني بالجنة أو النار.
اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإِيمَانِ وَثَبِّتْهَا عَلَى قَوْلِكَ الثَّابِتْ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينِ وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينِ يَا أَكْرَمَ الأَكْرَمِينَ. وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
وعن أنس رضي الله عنه قال: دعا رجل فقال: اللَّهُمَّ إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت الحنان المنان بديع السماوات والأرض ذو الجلال والإكرام يا حي يا قيوم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أتدرون بما دعا» ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «والذي نفسي بيده لقد دعا باسمه الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب وإذا سئل به أعطى» . أخرجه أصحاب السُّنَن.
عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعوة ذي النون إذْ
دَعَى وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سُبْحَانكَ إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب له» . رواه الترمذي، والنسائي، والحاكم وقال: صحيح الإسناد.
وعن معاوية بن أبي سُفيان قال: سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَن دَعَا بهؤلاء الكلمات الخمس لم يسأل الله شيئًا إلا أعطاه: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله» . رواه الطبراني بإسناد حسن.
وعن معاذ بن جبل قال: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً وهو يقول: يا ذا الجلال والإكرام. فقال: «قد اسْتُجِيبَ لَكَ فَسَلْ» . رواه الترمذي.
اللَّهُمَّ اجعلنا مُكْثِرينَ لِذِكرِك مُؤدِّينَ لِحَقِّك حافظين لأمرك راجين لِوَعْدِكَ راضين في جميع حالاتنا عَنك، راغبين في كُلِّ أمُورنا إليك مُؤمِّلِينَ لِفَضْلِك شاكرين لِنِعَمِك، يا مَن يحب العفو والإحسان، ويأمر بهما اعفُ عنا، وأحْسنْ إلينا، فإنكَ بالذي أنت له أهلٌ من عَفوك أحق منا بالذي نحن له أهل مِن عُقُوبتك.
اللَّهُمَّ ثَبّتْ رَجَاءَكَ في قلوبنا، واقطعه عَمَّنْ سِوَاك، حتى لا نَرْجُو غيرَكَ ولا نستعين إلا إياك، يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين.
اللَّهُمَّ هب لنا اليقين والعافية، وإخلاص التوكل عليك، والاستغناء عن خلقك، واجعل خير أعمالنا ما قارب آجالنا.
اللَّهُمَّ اغننا بما وفقتنا له من العلم، وزينا بالحلم وأكرمنا بالتقوى وجَمِّلْنَا بالعافية.
اللَّهُمَّ افتح مَسَامِعَ قلوبنا لِذِكرك وارزُقْنا طاعتك وطاعةَ رسولك ووفقنا للعمل بكتابك وسنة رسولك.
اللَّهُمَّ إنا نسألك الهدى، والتُّقَى والعَافِيَةَ وَالغِنَى، ونعوذ بكَ مِن دَرَكِ
الشقَاءِ ومن جهْدِ البَلاء ومن سُوءِ القَضَاء ومن شَمَاتَةِ الأعداء.
اللَّهُمَّ لك الْحَمْدُ كُلَّه، ولك الملك كُلَّه، وبِيدِكَ الخير كلّه، وإليك يَرْجِعُ الأمر كله عَلانِيتُه وسرِهُ، أهلُ الحمدِ والثناءِ أَنْتَ، لا إله إلا أنت سُبحانك إنك على كل شيء قدير.
اللَّهُمَّ اغفر لنا جميع ما سَلَف منا مِن الذنوب، واعْصِمْنَا فيما بَقى مِن أعمارنا، ووفقنا لِعَمَل صَالِحٍ تَرضَى به عنا.
اللَّهُمَّ يا سامعِ كل صوت ويا بارئ النفوس بعد الموت، يا مَن لا تشتَبهُ عليه الأصوات، يا عظيم الشأن، يا واضحِ البرهان، يا مَن هو كل يوم في شأن اغفر لنا ذنوبنا إنكَ أنت الغفور الرحيم.
اللَّهُمَّ يا عظيم العفو، يا واسع المغفرة، يا قريب الرحمة، يا ذا الجلال والإكرام هب لنا العافية في الدنيا والآخرة.
اللَّهُمَّ يا حيُّ ويا قيُّوم فَرِّغْنَا لِمَا خَلَقْتَنَا له، ولا تُشْغِلْنَا بِمَا تَكَفَّلْتَ لنا به، واجعلنا مِمَّنْ يُؤمِنُ بِلِقَائِك، ويَرْضَى بقَضَائِك، ويقنعُ بعطائك، ويخشاكَ حَقَّ خَشْيَتِك.
اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَنَا رَغَدَا، ولا تشمِتْ بِنَا أحَدَا.
اللَّهُمَّ رَغِّبْنَا فيما يبقى، وزهدنا فيما يَفْنَى، هب لنا اليقين الذي لا تسكن النفوس إلا إليه، ولا يُعَوَّلُ في الدين إلا عليه.
اللَّهُمَّ إنا نسألك بعزك الذي لا يرام وملكك الذي يضام وبنورك الذي ملأ أركان عرشك أن تكفينا شر ما أهمنا وما لا نهتم به وأن تعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.
اللهم يا عليم يا حليم يا قوي يا عزيز يا ذَا المن والعطا والعز والكبرياء يا من تَعْنُوا له الوجُوه وتخشع له الأصوات، وفقنا لصالح الأعمال واكفنا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك إنك على كل شيء قدير.
اللَّهُمَّ إنا نسألك رحمة من عندك تَهْدِي بها قُلُوبَنَا، وَتَجْمِعُ بها شَمْلَنَا، وتَلمُ بها شَعْثَنَا، وترفع بها شاهدنا، وتَحفَظُ بها غَائِبنًا، وتزكي بها أعمالنا، وتلهمنا بها رشدنا، وتعصمنا بها من كل سوء يا أرحم الراحمين.
اللَّهُمَّ ارزقنا من فضلك، واكفنا شر خلقك، واحفظ علينا دِينَنَا وصحةَ أبداننا.
اللَّهُمَّ يا هادِي المضلين ويا راحم المذنبين، وَمُقِيل عثراتِ العاثرين، نسألك أن تُلْحِقْنا بعبادك الصالحين الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين آمين يا رب العالمين.
اللَّهُمَّ يا عالم الخفيات، ويا رفيع الدرجات، ويا غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا أنت إليك المصير، نسألك أن تذيقنا برد عفوك، وحلاوة رحمتك، يا أرحم الراحمين، وأَرْأفَ الرائفين وأكرمَ الأكرمين.
اللَّهُمَّ اعْتِقْنَا مِن رِقِّ الذُّنُوب وَخَلِّصْنَا مِن أَشَرِّ النُّفُوسْ، وَأَذْهِبْ عَنَّا وَحْشَةَ الإِسَاءَةْ، وَطَهِّرْنا مِن دَنَسِ الذنوب، وباعِدْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْخَطَايَا وأجرْنا من الشيطان الرجيم.
اللَّهُمَّ طَيِّبْنَا لِلقَائِكَ، وأهِّلْنَا لِوَلائِكَ وَأَدْخِلْنَا مَعَ الْمَرْحُومِينَ مِن أَوْلِيَائِكَ، وَتَوفّنَا مُسْلِمِين وألحقنَا بالصالحين.
اللَّهُمَّ أعِنَّا على ذِكْرِكَ وشُكْرِكَ وحُسْنِ عِبَادَتِكْ، وتِلاوَةِ كِتَابِكَ، وَاجْعَلْنَا مِنْ حِزْبِكَ الْمُفْلِحِينَ، وَأَيِّدْنَا بِجُنْدِكَ المَنْصُورين، وارْزُقْنَا مُرافَقَةَ الذينَ أَنْعَمْتَ عليهم مِن النبيينَ والصِّدِيقين والشهداء والصَّالحين.
اللَّهُمَّ يا فالقَ الحب والنَّوَى، يا مُنْشِئ الأجْسَادِ بَعْدَ البلى يا مُؤْوي المنْقَطِعِينَ إليه، يا كافي المُتَوَكِّلينَ عليه، انقطَعَ الرَّجَاءُ إلا مِنْكَ، وخابَت الظُّنُون إلا فِيكْ، وضَعُفَ الاعْتِمَاد إلا عَلَيْكَ نَسْأَلُكَ أَنْ تُمْطِرَ مَحْل قُلُوبِنَا مِن سَحَائِبِ بِرِّكْ وإحْسَانِكَ وَأَنْ توفقنا لِموجِبَاتِ رحمتك وعَزَائِم مغفرتك إنكَ جواد كريم رؤوف غفور رحيم.
اللَّهُمَّ إنا نسألك قلبًا سليمًا، ولسانًا صادقًا، وعملاً متقبلاً، ونسألك بركة الحياة وخير الحياة، ونعوذ بك من شر الحياة، وشر الوفاة.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ باسْمِكَ الأَعْظَمَ الأَعَزَّ الأَجَلَّ الأَكْرمِ الذي إِذَا دُعِيتَ بِهِ أَجَبْتَ وَإِذَا سُئِلْتَ بهِ أَعْطَيْتَ.
ونَسْأَلُكَ بِوَجْهِكَ الكَرِيمِ أَكْرَمَ الوُجُوه، يا من عَنَتْ لَهُ الوجُوهُ وَخَضَعَتْ لَهُ الرِّقَابُ، وَخَشَعَتْ لَهُ الأَصْوَاتُ، يَا ذَا الْجَلالِ وَالإكْرَامِ.
يا حيُّ يَا قَيُّومُ، يا مَالكَ الملكِ، يَا مَنْ هُوَ على كُلِّ شيءٍ قَدِيرٌ، وَبِكُلِ شَيْءٍ عَلِيمِ لا إله إلا أَنْتَ، بِرَحْمَتِكَ نَسْتَغِيثْ، ومِن عَذَابِكَ نَسْتَجِير.
اللَّهُمَّ اجعلنا نَخْشَاكَ حَتَّى كَأَننا نَرَاك وَأسعِدْنَا بِتَقْوَاك، ولا تُشْقِنَا بِمِعْصِيَتك.
اللَّهُمَّ إِنك تسمعُ كلامَنَا، وترى مَكاننا، وَتَعْلم سِرِّنَا وَعَلانِيتَنَا لا يَخْفَى عَلَيْكَ شيءٌ من أمرنا نحن البؤساءُ الفُقراءُ إليك، المُسْتَغِيثُون الْمُسْتَجِيرُونَ الوجلُونَ المشفقُونَ المعترفُون بِذُنُوبنا، نَسْأَلُك مَسألةَ المسكين، وَنَبْتَهلُ إليك ابْتِهَالَ الْمُذْنبِ الذَّليِل ِ، وَنَدْعُوكَ دُعَاءَ الْخَائِف الضرير.
اللَّهُمَّ يا مَن خَضَعَتْ لَهُ رقَابنَا، وفاضَتْ لَهُ عبَارَاتُنَا، وَذَلَّت له أَجْسَامُنَا، وَرَغِمَتْ له أُنُوفُنَا، لا تَجْعَلْنَا بِدُعَائِكَ أَشْقِيَاء، وكن بنا رؤوفًا يا خَير المَسْؤُلِين.
اللَّهُمَّ إنا نَسْأَلُكَ نَفْسًا مُطْمَئِنَّةً، تُؤْمِنُ بِلِقَائِكْ وَتَرْضَى بِقَضَائِكَ، وَتَقْنَعُ بِعَطَائِكَ، يا أرأف الرائفين، وأرحم الراحمين.
اللَّهُمَّ إنا نَسْأَلُكَ التوفيق لِمَا تُحِبُّه مِن الأعمال، ونسألُكَ صِدْقَ التوكلِ عليكْ، وَحُسْنَ الظَّنْ بِكَ يَا رَبَّ العَالمين.
اللَّهُمَّ اجعلنا من عِبَادِكَ الْمُخْبِتِينَ، الغُرِّ الْمُحَجَّلِين الوَفْدِ الْمُتَقَبلِين.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ حَيَاةً طَيِّبةً، وَنَفْسًا تَقِيَّةً، وَعِيشَةٍ نَقِيَّةً، وَمَيَّتَةً سَويَّةً، وَمَرَدًا غَيْرَ مُخْزِي وَلا فاضح.
اللَّهُمَّ اجعلنا من أهل الصلاح والنجاح والفلاح، ومن المؤيدين بنصرك وتأييدك ورضاك يا رب العالمين.
(اللَّهُمَّ مَالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تَشَاء وتُعِز مَن تشاء وتُذِلُ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيرُ إِنّكَ على كل شيءٍ قدير) .
يا وَدُودُ يَا ذَا العرش المجيد يا مُبْدِئُ يَا مُعِيدِ يَا فَعَّالٌ لِمَا تُرِيدِ نسألك بنور وجهك الذي ملأ أركان عَرشك وبقُدرتك التي قدرت بها على جميع خلقكَ وبرحمتك التي وسِعَت كل شيء لا إله إلا أنت أن تغفر ذنوبنَا وَسَيئاتِنَا وَأَنْ تبدلها لنا بحسنات إنك جوادٌ كريم رؤوفٌ رحيم.
اللَّهُمَّ افتح لدعائنا باب القبول والإجابة، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
عبد العزيز بن محمد بن سلمان
شِعْرًا:
تَزَوَّجَت البَطَالةُ بالتَّوانِي
…
فَأَوْلَدَهَا غُلامًا مَع غُلامَهْ
فَأَمَّا الابْنُ سَمَّوْهُ بِفَقْرٍ
…
وَأَمَّا البِنْتُ سَمَّوْهَا نَدَامَةْ
آخر:
أُقِلِّبُ كُتُبًا طَالَما قَدْ جَمَعْتُهَا
…
وَأَفْنَيْتُ فيها العَيْنَ والعَيْنَ وَالْيَدَا
وَأَصْبَحْتُ ذَا ظَنٍ بِهَا وَتَمَسُّكٍ
…
لِعِلْمِي بِمَا قَدْ صُغْتُ فِيهَا مُنْضَّدَا
وَأحْذَرُ جُهْدِي أَنْ تَنَالَ بِنَائِلٍ
…
مَهِينٌ وَأَنْ يَغْتَالَهَا غَائِلُ الرَّدَى
وَاعْلَمْ حَقًّا أَنَّنِي لَسْتُ بَاقِيًا
…
فَيَالَيْتَ شِعْرِي مَنْ يُقَلِّبُهَا غَدَا
آخر:
…
نَصِيبكُ مِمَّا تَجْمَعَ الدَّهْرَ كُلَّهُ
…
رِدَاءانِ تُلْوَى فِيمَا وَحُنُوطُ
آخر:
…
تَجرّدْ مِنَ الدُّنْيَا فإنّك إنّما
…
خَرجْتَ إلى الدُّنيا وأنتَ مُجَرَّدُ
آخر:
…
فَمَا تَزَوَّدَ مِمَّا كَانَ يَجْمَعُهُ
…
سِوَى حَنُوطٍ غَداةَ البَيْن في خِرَقِ
وَغَيْرَ نَفْحَةِ أعوادٍ تُشَبُّ لَهُ
…
وقلَّ ذَلِكَ مِنْ زَادٍ لِمُنْطَلِقِ
ومن أراد طباعته ابتغاء وجه الله لا يريد به عرضًا من الدنيا فقد أُذِنَ له وجزى الله خيرًا من طبعه وقفًا أو أعان على طبعته أو تسبب لطبعه وتوزيعه على إخوانه من المسلمين فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله» وورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانعه يحتسب في صنعته الخير، والرامي به، ومنبله» الحديث رواه أبو داود، وورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:«إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعوا له» . الحديث. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
الجزء الأول: تَمَّ هَذَا الْجُزْءُ بِعَوْنِ اللهِ وَتَوْفِيقِهِ وَنَسْأَلُ اللهُ الْحَيَّ القَيَّومُ العَلِيُّ العَظِيمَ ذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ الوَاحِد الفَرْدَ الصَّمَدَ الذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفْوًا أَحَد أنْ يُعِزَّ الإِسْلامَ وَالْمُسْلِمِينَ وَأَنْ يَخْذُلَ الكَفَرَةَ والْمُشْرِكِينَ وَأَعْوَانَهُمْ وَأَنْ يُصْلِحَ مَنْ في صلاحه صَلاحٌ لِلإِسْلامِ وَالْمُسْلِمِينَ وَيُهْلِكَ منْ في هَلاكِهِ عز وصلاح للإِسْلامِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ يَلُمَّ شَعَثِ الْمُسْلِمِينَ وَيَجْمَعَ شَمْلَهُمْ وَيُوَحِّدَ كَلِمَتَهُمْ وَأَنْ يَحْفَظَ بِلادَهُمْ وَيُصْلِحَ أَوْلادَهُمْ وَيَشْفِ مَرْضَاهُمْ وَيُعَافِي مُبْتَلاهُمْ وَيَرْحَمَ مَوْتَاهُمْ وَيَأْخُذَ بَأَيْدِينَا إِلى كُلِّ خَيْرٍ وَيَعْصِمَنَا وَإِيَّاهُمْ مِنْ كُلِّ شَرٍّ وَيَحْفَظْنَا وَإِيَّاهم مِن كُلِّ ضُرٍ، وَأَنْ يَغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
والله المسئول أن يجعل عملنا هذا خالصًا لوجهه الكريم وأن ينفع به نفعًا عامًا إنه سميع قريب مجيب على كل شيء قدير.
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين. ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثرًا.
عبد العزيز المحمد السلمان
شِعْرًا
…
مَثِّلْ لِنَفْسِكَ أَيُّهَا الْمَغْرُورُ
…
يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّمَاءُ تَمُورُ
قَدْ كُوِّرَتْ شَمْسُ النَّهَارِ وَأُضْعِفَتْ
…
حَرَّا عَلَى رُؤوسِ العِبَاد تَفُورُ
وَإِذَا الْجِبَالَ تَعَلّقَتْ بِأُصُولِهَا
…
فَرَأََيْتَهَا مِثْلَ السَّحَابِ تَسِيرُ
وَإِذَا النُّجُومُ تَسَاقَطَتْ وَتَنَاثَرَتْ
…
وَتَبَدَّلَتْ بَعْدَ الضِّيَاءِ كُدُورُ
وَإِذَا الْعِشَارُ تَعَطَّلَتْ عَنْ أَهْلِهَا
…
خَلَتِ الدِّيَارُ فَمَا بِهَا مَعْمُورُ
وَإِذَا الْوُحُوشَ لَدَى القِيَامَةِ أُحْضِرَتْ
…
وَتَقُولُ للأَمْلاكِ أَيْنَ نَسِيرُ
فَيُقَالُ سِيرُوا تَشْهَدُونَ فَضَائِحًا
…
وَعَجَائِبًا قَدْ أُحْضِرَتْ وَأُمُورُ
وَإِذَا الْجَنِينُ بِأُمِّهِ مُتَعَلَّقٌ
…
خَوْفَ الْحِسَابِ وَقَلْبُهُ مَذْعُورُ
هَذَا بِلا ذَنْبٍ يَخَافُ لِهَوْلِهِ
…
كَيْفَ الْمُقِيمُ عَلَى الذُّنُوبِ دُهُورُ
وَخِتَامًا فَيَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ اللَّبِيبِ أَنْ لا يُضَيِّعَ أَيَّامَ صِحَّتِهِ وَفَرَاغَ وَقْتِهِ بِالتَّقْصِيرِ فِي طَاعَةِ اللهِ، وَأَنْ لا يَثِقَ بِسَالِفِ عَمَلٍ وَيَجْعَلَ الاجْتِهَادَ غَنِيمَةَ صِحَّتِهِ وَيَجْعَلَ العَمَلَ فُرْصَةَ فَرَاغِهِ. فَلَيْسَ الزَّمَانُ كُلُّهُ مُسْتَعِدًّا وَلا مَا فَاتَ مُسْتَدْرِكًا.
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين وَصِيَّةٌ مُفِيدَةٌ جدًا.
مَنْ عَلِم قُرْبَ الرَّحِيل اسْتَكْثَر من كَلِمةِ الإِخْلاص لا إله إلا اللهُ، وَقِرَاءة القُرْآن، والاسْتِغْفَار، والبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ للهِ، ولا إِله إلا اللهُ، خُصُوصًا إِذَا كَانَ قَدْ جَاوَزَ خَمْسِينَ سَنَة، لأَنَّهُ قَدْ قَارَبَ سَاحِلَ الأَجَلْ بِعُلُوّ سِنِّه، وكذالَكَ يَنْبَغِي أَنْ يُبَادِرَ اللَّحَظَاتِ، وَيَنْتَظَرَ الْهَاجِمَ بِمَا يَصْلَحُ لَهُ فَقَدْ كَانَ في قَوْسِ الأَجَلَ مَنْزَع زَمَانِ الشَّبَاب، واسْتَرْخَى الوَتَرُ بِالمشيب عن سِيَّةِ القوس، فانْحَدَرَ القَلْب، وَضَعُفَتِ القُوَى أن يُوتِر، وَمَا بقي إلا الاسْتِسْلامُ لِمُحَارِبِ التَّلَف، فالبِدَارَ البِدَارَ إلى التَّنْظُف، وَلِيَكُون القُدُوم عَلى طَهَارِةَ، فَوَا أَسَفًا لِمهُدَّدَ بِالْمَوْتِ في كل لحظة كيْفَ يَغْفُلُ وَيَهْمِِلِ وَكَيْفَ يَطِيبُ عَيْشُهُ.
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِصَالِحِ الأَعْمَالِ وَآتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.