الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقْفٌ للهِ تَعَالَى
تَأْلِيفُ الفَقِير إلى عَفْوِ رَبِّهِ
عَبدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ السّلمانِ
المدرس في معهد إمام الدعوة بالرياض
سابقاً
الجزء الرابع
بسم الله الرحمن الرحيم
وَبِهِ نَستَعِيْنْ
شعراً:
…
إذَا شئت أَنْ تَلْقَى عَدُوَّكَ رَاغِماً
…
فَتُحْرِقَهُ حُزُنْاً وَتَقْتُلَهُ غَمًّا
فَعَلَيْكَ بالإِخْلَاصِ وَالزُّهْدِ والتُّقَى
…
فَمَنْ فَازَ فِيْهَا مَاتَ حُسَّادُهُ هَمًّا
فائدة: وقَفَ قَوْمٌ علَى عَالمٍ فَقَالُوا: إنَّا سَائِلُوكَ أَفَمُجِيْبُنَا أَنْتَ؟ قَالَ: سَلُوْا وَلَا تُكْثِرُوْا، فَإِنَّ النَّهارَ لَنْ يَعُوْدَ، والطَّالِبَ حَثِيْث في طَلبِه. قَالُوْا: فأَوْصِنَا. قال: تَزَوَّدُوْا عَلَى قَدْر سَفَرِكُمْ فإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ مَا أَبْلَغَ البُغْيَةَ. ثُمّ قَالَ: الأيامُ صحائفُ الأَعْمَارِ فَخَلِّدُوْهَا أَحْسَنَ الأَعْمال، فإِنَّ الفُرَصَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ، وَالتَّوَاني مِنْ أَخْلَاقِ الكُسَالَى والخَوالِفِ، وَمَن اسْتَوْطَنَ مَرْكَبَ العَجْز عَثرَ بِه، وتَزَوَّجَ التَّواني بالكَسَل فَوُلِدَ بيَنْهُما الخُسَرْان أ.هـ. قال بَعْضُهُم:
شعراً:
…
تَزَوَجَتِ البَطَالَةُ بالتَّواني
…
فأَوْلَدَهَا غُلَاماً مَعْ غُلامَهْ
فأَمَّا الإِبْنُ سَمَّوْهُ بِفَقْرِ
…
وَأَمَّا البنْتُ سَمَّوْهَا نَدَمَهْ
آخر:
…
يَا سَاكِنَ الدُنْيَا تَأَهَّبْ
…
وَانْتظِرْ يَوْمَ الفِرَاقْ
وَأَعِدَّ زَاداً لِلرَّحِيْلْ
…
فَسَوْفَ يُحْدَى بِالرّفُاقْ
وابْكِ الذُنوُبَ بأَدْمُعٍ
…
تَنْهَلُّ مِنْ سُحْبِ المَآقْ
يا مَنْ أَضَاعَ زَمَانَهُ
…
أَرَضِيْتَ مَا يَفْنَى بِبَاقْ
ِبسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمْ
مُلاحظة:
لا يسمح لأي إنسان أنْ يَخْتَصرَهُ أوْ يَتَعَرَّضَ له بما يُسَمُونَه تَحقِيقاً لأَنْ الإِختصار سَبَبٌ لتعطيل الأصْل والتحقيق أرَى أنَّهُ إتهام للمؤلف، ولا يُطبع إلا وقفاً لله تعالى على من ينتفع به من المسلمين.
(فائدةٌ عَظِيمَةُ النَّفَعْ لِمَنْ وَفَّقَهُ الله)
مَا أنْعَمَ اللهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً أَفْضَلَ مِنْ أنْ عَرَّفَه لَا إلهَ إِلا الله، وفهَّمَهُ معناها، ووفقه للعمَلِ بِمُقْتَضَاهَا، والدَّعْوَةِ إليْهَا.
إِصِرِفْ هُمُومَكَ لِلقُرآنِ تَفْهَمَهُ
…
واعْملَ بِهِ كيْ تَنَالَ الأجْرَ والشَّرَفَا
آخر:
…
الذكرُ أصْدَقُ قَوْلٍ فافْهَم الخَبَرَا
…
لأنهُ قَوْلُ مَنْ قَدْ أنْشأ البَشَرَا
فاعْمَلْ بِهِ إنْ تُرِدْ فهْماً ومَعْرِفَةً
…
يَا ذَا النُّهَى كيْ تَنَال العِزَّ والفَخَرَا
وتحْمد الله في يوْمِ المَعَادَ إذَا
…
جَاءَ الحِسَابُ وعَمَّ الخَوفُ وانْتَشَرَا
لله دَرُّ رَجالٍ عَامِليْنَ بِهِ
…
فِيمَا يَدِقُ وَمَا قَدْ جَلَّ واشْتَهَرَا
…
آخر:
…
جَمِيْعُ الكُتْبِ يُدْرِك مَنْ قَراهَا
…
مِلالٌ أو فتُورٌ أوْ سَآمَه
سِوى القُرْآن فافْهَمْ وَاسْتمِعْ لي
…
وقَوْلِ المُصْطَفَى يا ذَا الشَّهَامَه
بسم الله الرحمن الرحيم
آخر:
…
هِيَ الكُنُوزُ التِّي تنْمُو ذَخَائِرهَا
…
ولا يُخَافِ عَلَيها حَادث الغِيرَ
الناسُ إثْنَانِ ذُوْ عِلْمٍ ومُسْتَمِعٌ
…
وَاعٍ وغيرُهُما كَاللَّغْوِ والهَذَرِ
(1)
اللَّيلُ والنهارُ يَعْمَلان فِيْكَ فاعْمَلْ فيهما أَعمَالاً صَالحِةً تَرْبَح وتحمَد العَاقِبةَ الحَمِيْدة إن شاء الله تعالى.
وَلَيْلُكَ شَطْرُ عُمْرِكَ فَاغْتَنِمْهُ
…
ولا تَذْهَبْ بِشطْر العُمْرِ نَوْمَاً
آخر:
…
أَلَا لَيْتَ أَنّي يَوْمَ تَدْنُو مَنِيَّتيْ
…
ألازِمُ ذِكْرَ الله في كُلّ لحَظَةِ
(2)
الملائكةُ يَكْتُبَانِ مَا تَلفَّظَ به فاحْرَصْ عَلَى أنْ لا تَنْطِقَ إِلَاّ بِمَا يَسُرُّكَ يَوم القِيَامَةْ أَشرَف الأشيَاء قَلبُكَ وَوَقْتُكَ، فَإِذَا أَهْمَلْتَ قَلْبَكَ وَضَيَّعْتَ وَقْتَكَ، فَمَاذَا يبقى مَعَكَ، كُلُّ الفَوَائِدِ ذَهَبَتْ.
شِعْراً:
…
أمَّا بُيُوْتُكَ فِي الدُنْيَا فَوَاسِعَةٌ
…
فَلَيْتَ قَبْرَكَ بَعْدَ الَمْوتِ يَتَّسِعُ
(3)
إعْلَم أنَّ قِصَرِ الأمَل عليه مَدَارٌ عظيم، وحِصَنُ الأمَل ذِكْرُ الموتِ، وحِصَنُ حِصْنه ذكر فجأة الموتِ وأخْذُ الإنسان على غِرَّةٍ وغَفِلةٍ، وهو في غِررٍ وفُتُورٍ عن العمل لْلآخِرَةِ. نَسْأَلُ الله أنْ يُوقِضَ قُلُوبَنَا إِنَهُ علي كل شيء قدير. اللهُم صلي علي محمد وآله وسلم.
آخر:
…
إذا كان رأسُ المال ِعُمْرُكَ فَاحْتِرزْ
…
عَليه من الإِنْفَاقِ في غيرِ وَاجِبِ
ِبسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(فَصْلٌ)
" فيِ نماذج مِنْ الفِرَاسَةِ "
وكانَ عُمَرُ رضي الله عنه لَهُ فِرَاسَةٌ مِنْ ذَلَكَ أَنَّهُ أُتيَ يَوماً بِفَتىً أمردٍ قد وُجِدَ قَتِيلاً مُلقىً علي الأرضِ فسأل عُمَرُ عن أَمْرِهِ واجتهدِ فَلَمْ يَقِفْ لَهُ عَلَى خَبَرٍ فشقَّ ذلكَ عَليه.
فَقَالَ: اللهُمَّ أَظْفِرنيِ بقَاتله حَتَّى إذا كان علي رأس الحَوْل وُجِدَ صَبِيٌّ مولودٌ مُلقىً بِمَوْضَع القتيل فأتي به عُمَرُ فَقَالَ: ظَفرتُ بِدَم القَتيْل إِنْ شَاءَ الله تَعَالَى فدفع الصبي إلي امرأة ترضعه وتقوم بشأنه، وقَالَ: خُذِي مِنا نفقتهُ وانْظُريْ من يَأُخُذُهُ مِنكِ فإذا وجدتِ امرأةً تُقَبِلُهُ وتضمهُ إلي صدرِهَا فأعلِمينيْ بِمَكَانهِا.
فلما شبَّ الصَّبيُّ جَاءتْ جَاريةٌ فَقَالتْ للمرأةِ: إنَّ سَيَّدَتي بَعَثتنيْ إليكَ لتَبعثي بالصَّبيّ لتراهُ وترُدُّهُ إليْكِ. قَالَتْ: نَعَمْ إذهبي بِه إليهَا وَأنا مَعَكِ فَذَهَبتْ بالصبيَّ والمرأةُ مَعَهُ حتَّى دَخَلَتْ علي سيَّدتِهَا فلمَّا رَأتْهُ أخَذَتْهُ فَقَبَّلتْهُ وَضَمَّتْهُ إليْهَا.
فإذَا هِيَ ابنةُ شَيخٍ منْ الأَنْصَارِ مِنْ أصحابِ النبيّ ? فأتت عُمَرَ فخبَّرَتهُ فاشتملَ عَلى سيفِهِ ثُمَّ أقبَلَ إلى منزل المرأة فوجد أباها متكئاً علي البابِ فقالَ: يا فُلانُ ما فَعَلتْ ابنتُكَ فُلَانَةُ؟ قَالَ: جَزَاهَا الله خَيراً يا أَمِيرَ المُؤمنينَ هِيَ مِنْ أَعْرَفِ النَّاس بحقَّ اللهِ وحَقَّ أبِيهَا مَعَ حُسْنِ صَلَاتِهَا وَصيَامِهَا وَالقِيَام بِدينِها.
فقالَ عُمرُ: قَدْ أحْببْتُ أن أَدْخُلَ إليْهَا فَأَزِيدَهَا رَغبةً في الخَير وأحُثَّهَا عَليهِ فَدَخَل أَبُوها وَدَخَلَ عُمَرُ معهُ فَأَمَر مَنْ عِنْدَهَا فخَرجَ وَبَقِيَ هُوَ وَالمرأةُ في البيْتِ فَكَشَفَ عُمَرُ عَن السَّيْفِ وَقَالَ لَتَصْدُقِيْني وإلَاّ ضربْتُ عُنُقَكِ وَكَانَ لا يَكْذِبُ.
فَقَالَتْ: على رِسْلِكَ فَوَاللهِ لأَصْدُقَنَّ، إنَّ عَجُوْزاً كَانَتْ تَدْخُلُ عَلَيَّ فاتَّخذَتْهُا أماً وَكَانَتْ تَقُومُ مِنْ أَمْرِيْ كَمَا تَقُومُ بِهِ الوَالِدَةُ وَكُنْتُ لَهَا بِمَنْزِلَةِ البِنْتِ فَمَضَي لِذَلِكَ حِيْنٌ ثمَّ إِنَّها قَالَتْ: يَا بُنَيَّةُ إنّهُ قَد عرضَ ليْ سَفَرٌ وَلِيْ ابْنَةٌ فِي مَوِضِعٍ أتخوفُ عَلَيْهَا فِيهِ أَنْ تضِيْعَ وَقَدْ أحْبَبْتُ أَنْ أَضُمَّهَا إلَيْكِ حَتَّي أرْجِعِ مِنْ سَفِرَيْ.
فَعَمَدَتْ إلي ابْنٍ لَهَا شَابٍ أمردٍ فَهَيَّئتْهُ كَهَيْئَةِ الجَارِيَةِ وَأَتَتْنِيْ بِهِ وَلَا أَشُكَّ أَنَّهُ جَارِيةٌ فَكَانَ يَرَي مِني مَا تَرَي الجَارِيَةُ مِن الجَارِيَةِ حَتَّى اغْتَفَلَني يَوْماً وَأَنَا نَائِمَةٌ فَمَا شَعَرْتُ حَتَّى عَلَانِيْ وَخَالَطَنِيْ َفمَدَدْتُ يَدٍيْ إلى شَفْرَةٍ كَانَتْ إلي جَنْبِيْ فَقَتَلْتُهُ.
ثُمَّ أَمَرْتُ بِهِ فَأُلْقِيَ حَيْثُ رَأيْت فاشْتَمَلْتُ مِنْه عَلَى هَذَا الصَّبِيّ فَلَمَّا وَضَعْتُهُ ألْقَيْتُهُ في مَوْضِعِ َأبِيهِ فَهَذَا واللهِ خَبَرُهُمَا عَلَى مَا أعْلَمْتُكَ.
فَقَالتْ: صَدَقْتِ ثُمَّ أَوْصَاهَا وَدَعَا لَهَا وَخَرجَ وقَالَ لأَبِيْها: نِعْمَ الابْنَةُ ابْنَتُكَ ثُمَّ انْصَرَفَ.
وَقَالَ نَافِعُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: بَيْنَمَا عُمَرُ جَالِسٌ إذْ رَأَى رَجُلاً فَقَالَ: لَسْتُ ذا دِرَايةٍ إنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الرَّجُلُ قّدْ كَانَ يَنْظُرُ في الكِهَانَةِ ادْعُوْهُ لِي. فَدَعَوْهُ فَقَالَ: هَلْ كُنْتَ تَنْظُرُ وَتَقُوْلُ في الكِهَانةِ شَيْئاً؟ قَالَ: نَعَمْ.
وَقَالَ مَالِكُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيْدٍ إنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ قَالَ لِرَجُلٍ: ما اسْمُكَ؟ قَالَ: جَمْرَةُ. قَالَ: ابْنُ مَنْ؟ قَالَ: ابنُ شِهَابٍ. قَالَ مِمَّنْ؟ قَالَ: مِنْ الحُرْقَةِ. قَال: أيْنَ
مَسْكَنُكَ. قَالَ: بِحَرَّةِ النَّارِ. قَالَ: أيُّهَا. قاَلَ: بِذَاتِ لَظَى. فَقَالَ عُمَرُ: أدْرِكْ أهْلَكَ فَقَدْ احْتَرَقُوا. فَكَانَ كَمَا قَالَ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ لَوْ اتَّخَذْتَ مِنْ مَقَامِ ابْرَاهِيْمَ مُصَلَّى فَنَزَلَتْ الآية (وَاتَّخِذُوْا مِنْ مَقَام إبْرَاهٍيْمَ مُصَلَّى) وَقَالَ: يَا رَسُولُ اللهِ لَوْ أَمَرْتَ نِسَائَكَ أَنْ يَحْتَجِبْنَ فَنَزَلَتْ آيَةُ الحِجَابِ َواجْتَمَعَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ? نِسَاؤُهُ في الغَيْرَةِ فَقَالَ لَهُنَّ: عُمَرُ عَسَى رَبُهُ إنْ طَلقَكُنَّ أنْ يُبْدِلَهُ أزْوَاجَاً خَيْرَاً مِنْكُنَّ فَنَزَلَتْ كَذَلِكَ.
وَشَاوَرَهُ رَسُولُ الله ? في الأُسْرَى يَوْمَ بَدْرٍ فَأَشَارَ بِقَتْلِهِمْ، ونَزَلَ القُرآنُ بِمُوَافقتِهِ. وَرَوَى زَيدُ بْنُ أسْلمَ عن أَبِيْهِ، قَالَ: قَدِمَتْ عَلَى عُمَرَ بن الخطَّابِ رضي الله عنه حُلَلٌ مِنْ اليَمَنِ فَقَسَمَها بَيْنَ النّاسِ فَرَأى فيها حُلَّةً رَدِيئةً فَقَالَ: كَيْفَ أَصْنَعُ بِهَذِهِ إنَّ أحَدَاً لَمْ يَقْبَلْهَا فَطَوَاهَا وَجَعَلَهَا تَحْتَ مَجْلِسِهِ وَأخْرَجَ طَرَفَهَا وَوَضَعَ الحُلَلَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَقسِمُ بَيْنَ النَّاسِ.
فَدَخَلَ الزُّبَيْرُ وَهُو عَلَى تِلْكَ الحال فجعلَ يَنظُُرُ إلى تِلكَ الحُلةُ، فَقَالَ: ما هذه الحُلةُ؟ فقالَ: عُمَرُ دَعهَا عَنْكَ؟ قَالَ: مَا شَأنُهَا؟ قالَ: دَعْهَا. قَالَ: فَأعْطِنيْهَا. قَالَ: إنَّكَ لا تَرْضَاهَا. قَالَ: بَلَى قَدْ رَضِيتُهَا. فلَمَّا تَوَثَّقَ منه واشترَطَ عليه أن لا يَرُدهَا رَمَى بهَا إليه فَلَمَّا نَظَرَ إليها إذا هِي رِدِيْئةٌُ. قَالَ: لا أُرِيدُهَا. قالَ عُمَرُ: هَيْهَاتَ قَدْ فَرَغْتُ مِنها. فَأَجَازَهَا عليهِ وَلَمْ يَقْبَلْهَا.
اللهُمَّ وَفَّقْنّا للهدَايَةِ وأبعِدْنَا عَنْ أَسْبَابِ الجَهَالَةِ وَالغَوايَةِ، اللهُمَّ ثَبّتْنَا عَلَى الإسْلامِ وِالسُّنَّةِ وَلا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إذْ هَديتنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إنَّكَ الوَهَّابُ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنا وجميعِ المُسلمينِ برحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَاحِمين. وَصَلى اللهُ علَى مُحَمَّدٍ وَعَلى آلهِ وصحبِهِ أجْمَعِيْنَ.
(فَصْلٌ)
وَمِنْ ذَلٍكَ أنَّهُ خَاصَمَ غُلامٌ منْ الأنْصَارِ أُمَّهُ إلى عُمَرَ بْنِ الخطَّابِ رضي الله عنه فجَحَدتْهُ فسألهُ البَيَّنَةَ فَلَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ وَجَاءتْ المَرأةُ بِنفَرٍ فَشَهِدُوا أنَّها لمْ تتَزوَّجْ وَأنَّ الغُلام كَاذبٌ عَليهَا وقَد قَذَفَها فَأمَرَ عُمَرُ بِضَربِهِ.
فَلَقِيَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِىْ طَالِبٍ فَسَأَلَهُ عَنْ أَمِرِهِم فَأخْبَرَهُ فَدَعَاهُم ثُمَّ قَعَدَ في مسْجِدِ النبيّ صلي اللهُ عليه وسلم وسَألَ المَرأة فَجَحَدَتْ فَقَالَ للغُلامِ: اجحدْهَا كَمَا جَحَدَتْكَ. فَقَالَ: يَا ابْنَ عمَّ رَسُولِ الله صلي الله عليه وسلم إنها أمي. قال: اجْحَدْهَا وأنا أبُوكَ وَالحَسَنُ وَالحُسيْنُ أخَوَاكَ.
قَالَ: قَدْ جَحَدْتُهَا وَأنكَرْتُهَا. فَقَالَ عَلِىُّ لأولياءِ المرأةِ أَمْريْ في هَذِهَ المَرأةِ جَائِزٌ. قَالُوا: نَعَمْ وَفِينَا أَيْضاً. فقَالَ: أُشِهِدُ مَنْ حَضَرَ أنّيْ قَدْ زَوَّجْتُ هذا الغُلامَ مِنْ هَذِهِ المَرْأةِ الغَرِيبةِ مِنْهُ يا قَنْبَرُ ائْتِنِيْ بِدَراهِمَ فأتاهُ فَعَدَّ أرْبَعْمَائةٍ وَثَمَانِيْنَ دِرْهَماً فَقَذَفَهَا مَهْراً لَهَا.
وَقَالَ للغُلامِ خُذْ بَيَدِ امْرأَتِكَ ولا تَأْتِنَا إلَاّ وَعَلَيْك أثرُ العُرسِ فَلَمَّا وَلى قَالتْ المَرأةُ: يَا أبَا الحَسَنِ الله الله هُو النَّارُ هُوَ والله ابْنيْ.
قَالَ: وكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالتْ: إنَّ أَبَاهُ كَانَ هَجِيناً – الهَجِيْنُ عَرَبيّ وُلدَ من أمةٍ أوْ مِنْ أبُوهُ خَيْرٌ مِنْ أُمَّهِ – وإنَّ إِخوِتي زَوَّجُونِي مِنهُ فَحَمَلْتُ بِهَذا الغُلام وخرجَ الرَّجُل غَازِيَاً فَقُتِلَ وَبَعَثْتُ بِهَذا إلي حَيّ بَنِي فُلانٍ فَنَشَأَ فِيهمْ وَأنِفْتُ أنْ يَكُونَ ابْنِيْ فَقَالَ عَلِيُّ: أنا أبُو الحَسَنِ وَأَلْحَقَهُ بِهَا وَثَبَّتَ نَسَبَهُ.
وَمِنْ ذَلك أنَّ عُمرَ بن الخطَّابِ سَألَ رَجُلاً كيْفَ أَنْتَ؟ فَقَالَ: مِمَّنْ يُحِبُّ
الفِتنةَ ويَكْرَهُ الحَقَّ وَيَشْهَدُ عَلَى مَا لَمْ يَرَهُ. فأَمَرَ بِهِ إلى السَّجْنِ فأمَرَ عَلِيٌّ بِرَدَّهِ. فَقَالَ: صَدقَ. فَقَالَ: كَيْفَ صَدَّقتَهُ. قَالَ: يُحِبُّ المالَ والوَلدَ وَقَدْ قَالَ الله تعالى (إنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) ، ويكرهُ الموتَ وَهُوَ الحَقُّ وَيَشْهَدُ أنّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ ولم يرهُ فَأَمَرَ عُمَرُ بِإطْلَاقِهِ وَقَالَ {اللهُ أعْلَمُ حيثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} .
وَشَكَا شَابٌ إلى عَلي نَفَراً فَقَالَ: إنَّ هَؤلاء خَرَجُوا مَعَ أبي في سَفَرٍ فَعادُوا وَلم يَعُد أبِي فَسَألتُهُم عنهُ فَقَالُوا: ماتَ. فَسَألتُهُم عنْ مالِهِ فَقَالُوا: مَا تَرَكَ شَيْئاً وَكَانَ معهُ مالٌ كثيرٌ وَترافعْنا إلي شُرَيْحٍ فاَسْتَحْلَفَهُم وَخَلَّى سبيلهُم.
فَدَعَا عَلِىُّ بالشُّرطِ فَوَكَّلَ بِكُلَّ رَجُلٍ مِنهُم رَجُلينِ وَأَوْصَاهُمْ أنْ لا يُمْكِِنُوا بَعْضَهُمْ أنْ يَدْنُو مِنْ بَعْضٍ وَلا يُمَكِّنُوا أحَدَاً يُكلمُهُمْ وَدَعَا كَاتِبَهُ وَدَعَا أَحَدَهُمْ فَقَالَ: أخْبِرْنِي عَنْ أَبِ هَذَا الفَتَى أيَّ يوم خَرجَ مَعَكُمْ وَفي أي منزلٍ نَزَلتُمْ وَكيْفَ كَانَ سَيْرُكُمْ وَبِأَيَّ عِلَّةٍ مَاتَ وَكَيْفَ أُصِيبَ بِمَالِهِ وَسألَهُ عَمَّنْ غَسَّلَهُ وَدَفَنَهُ وَمَنْ تَوَلَّى الصَّلَاةَ عَلَيْهِ وَأَيْنَ دُفِنَ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالكَاتِبُ يَكْتُبُ. فَكَبَّرَ عَلِيٌّ وَكَبَّرَ الحَاضِرُونَ وَالمُتَّهَمُونَ لَا عِِلْمَ لَهُمْ إِلا أنهُمْ ظَنُّوا أنَّ صَاحِبَهُم قَدْ أَقَرَّ عَلَيْهِم.
ثُمَّ دَعَا آخَرَ بَعْدَ أنْ غَيَّبَ الأوَّلَ عَنْ مَجْلِسِهِ فَسَألَهُ كَمَا سَأَلَ صَاحِبَهُ ثُمَّ الآخَرَ كَذَلِكَ حَتَّى عَرَفَ ما عِنْدَ الجَميعِ فَوَجَدَ كُلَّ واحدٍ يُخبِرُ بِضِدَّ مَا أخبرَ به صَاحِبَهُ ثم أمرَ برَدَّ الأول فقالَ يَا عَدُوَّ اللهِ قَدْ عَرَفْتُ غَدْرَتُكَ وكَذِبَكَ بِمَا سَمِعتُ مِنْ أصْحَابِكَ ومَا يُنْجِيْكَ من العُقُوبَةِ إلا الصَّدقُ ثم أمَرَ بِهِ إلى السجنِ وَكَبَّرَ وَكَبَّرَ مَعَهُ الحاَضِرُونَ.
فَلَمَّا أبْصَرَ القَوْمُ الحَالَ لم يشُكُّوا أنَّ صَاحِبَهُمْ أَقَرَّ عَليهِم فَدَعَا آخَرَ مِنْهم فَهَدَّدَهُ فَقَالَ: يَا أمِيَر المؤمنينَ واللهِ لقد كُنتُ كَارِهاً لما صَنَعُوا ثُم دعَا الجَمِيعَ
فَأقرُّوا بالقِصَّةِ وَاستدْعى الذِي في السَّجْنِ وَقَالَ لَهُ: قَدْ أقرَّ أصحَابكَ وَلَا يُنْجِيكَ سِوَى الصَّّدق فأقرَّ بكُل مَا أقرَّ بِهِ القَوْمُ فَأغْرَمَهُمْ المَالُ وَأقَادَ مِنْهُمْ بالقَتِيْلِ.
اللهُمَّ أرْحَمْ غُرْبَتَنَا في القُبُورِ وَآمِنَّا يَوْمَ البَعْثِ والنُّشُورِ واغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيع المُسْلمِينَ بِرَحْمتَكَ يَا أرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ وَصَلى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصْحبِهِ أَجْمَعِين.
(فصلٌ)
وَمِنْ ذَلِكَ أنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ دَفَعَا إلى امرأةٍ مِائَةَ دِيْنَارٍ وَدِيْعَة وَقَالا: لا تَدْفَعِيْهَا إلى وَاحِدٍ مِنا إلا وَمَعَهُ صَاحِبهُ، فَلَبَثَا حَوْلاً فَجَاءَ أَحَدُهُمَا فقالَ: إنَّ صَاحِبيْ قَدْ مَاتَ فَادْفَعِيْ إليَّ الدَّنَانِيرَ فَأَبَتْ، وَقَالَتْ: إِنَّكُمَا قُلتُمَا لا تَدفِعِيْهَا إلى واحِدٍ مِنّا دُوْنَ صَاحِبِه فَلَسْتُ بِدَافِعَتِهَا إلَيْكَ، فَثَقَّلَ عَلَيْهَا بِأهْلِهَا وَجِيْرَانِهَا حَتَّى دَفَعْتَهَا إلَيهِ.
ثُمَّ لَبِثَتْ حَوْلاً آخَرَ فَجَاءَ الآخَرُ فَقَالَ: ادْفَعِيْ إلَيَّ الدَّنَانِيْرَ. فَقَالَتْ: إنّ صَاحِبَكَ جَاءَنيْ فَزَعَمَ أنكَ قَدْ مُتَّ فَدَفعْتُها إليهِ. فَاخْتَصَمَا إلَى عُمَرَ رضي الله عنه فَأَرادَ أنْ يَقْضيَ عَليْهَا فقالَتْ: ادْفَعْنَا إلَى عَلِيّ بْنِ أبِيْ طَالبٍ رضي الله عنه فَعَرفَ عَلِيّ أَنَّهُمَا قَدْ مَكَرا بِهَا.
فَقَالَ: أَليْسَ قُلتُمَا لا تَدْفَعِيْهَا إلَى وَاحِدٍ مِنَّا دُوْنَ صَاحِبِه. قَالَ: بَلَىَ. قَالَ: مَالُكَ عِنْدَها فَاذْهَبْ فَجِئْ بِصَاحِبَكَ حَتَّى تَدْفَعهُ إليْكُما.
وَاخْتَصَمَ إلَى إيَاسِ بْنِ مُعاويةَ رجُلانِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا إنَّهُ بَاعِنِيْ جَارِيَة رَعْنَا فَقَالَ إيَاسٌ: وَما عَسَى أنْ تَكُونَ هَذِهِ الرُّعُوْنَةُ؟ قَالَ: شِبْهُ الجُنونُ. فَقَالَ إيَاسٌ: لِلجَارِيَةِ أتَذْكُرِينَ مَتَى وُلِدْتِيْ؟ قَالتَ: نَعَمْ. قَالَ: فأيُّ رِجْليْكِ أطوَلُ؟ قَالَتْ: هَذِهِ. فقالَ إيَاسٌ: رُدَّهَا فَانَّهَا مَجْنُونَةٌ.
وتَقََدَّمَ إلى إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فَقالَ إيَاسٌ: أَمَّا احدَاهُنَّ فَحامِلٌ وَالأخَرى مُرْضِعٌ والأخَرى ثيّبٌ والأخْرى بِكرٌ فَنَظَرُوا فَوَجَدَوا الأمْرَ كَما قَالَ. قَالُوا: كَيْفَ عَرَفْتَ؟ فَقَالَ: أمَّا الحامِلُ فَتْرَفُع ثَوْبَها عَنْ بَطْنِهَا وَهِيَ تُكَلمّنُيْ فَعلِمْتَ أنَّها حَامِلٌ، وأمَّا المُرضِعُ فَكانَتْ تَضْرِبُ ثدْيَها فَعلِمْتُ أنَها مُرضِعٌ، وأمَّا الثَّيَّبُ فكانتْ تُكلِمُنِيْ وَعينُها في عَيْنِيْ فَعلِمتُ أنَّها ثيَّبٌ.
وَأمَّا البِكْرُ فَكَانَتْ تُكلمنِيْ وَعَينُهَا في الأَرضِ فَعَلِمْتَ أنَّهَا بِكْرٌ، وقَالَ المدَائِنِيّ عَنْ رَوْح اسْتَوْدَعَ رَجُلٌ رَجُلاً مِنْ أبْنَاءِ النَّاسِ مالاً ثُمَّ رَجَعَ فَطلَبَهُ فَجَحَدَ فَأتَا إيَاساً فَأخْبَرَهُ فَقَالَ لهُ إيَاسُ: انْصَرِفْ فَاكْتُمْ أمْرَكَ وَلا تُعْلِمْهُ أنَّكَ أتَيْتَنِيْ ثم عُدْ إليَّ بَعْدَ يَوْميْنِ.
فَدَعَا إيَاسٌ الْمُودَعَ فَقَالَ: قَدْ حَضَرَ مَالٌ كَثيرٌ وَأرِيْدُ أنْ أُسَلمَه إلَيكَ أفحَصِيْنٌ منزِلُكَ؟ قالَ: نَعَمْ. قَالَ: فأَعِدَّ لهُ مَوضِعَاً وَحَمَّالينَ وَعادَ الرَّجُلُ صَاحِبُ الوَديعَةِ إلي إيَاسٍ.
فَقَالَ انطلقْ إلي صَاحِبَكَ فاطْلُبْ المَالَ فَإنْ أعْطَاكَ فَذَاكَ وَإنْ جَحَدَكَ فَقُلْ لَهُ إنَّيْ أخبِرُ القاضِي فَأتى الرَّجُلُ صَاحِبُه فَقالَ: مَالِي وَإلا أَتَيْتُ القَاضِيْ وَشَكْوتُ إِليهِ وَأخبَرتُه بِأمْري، فَدَفَعَ إِلَيهِ مَالَهُ فَرَجَعَ الرَّجُلُ إلي إِيَاسٍ فَقَالَ: قَدْ أعْطَانِيْ المالَ.
وَجَاءَ الأَمِيْنُ إلَي إيَاسٍ لِوَعْدِهِ فَزَجَرَهَ وَانْتَهَرَهُ وَخَجَّلَهُ وَقَالَ: لَا تَقْرَبْنيْ يَا خَائِنُ. وَتَقَلَدَ القَضَاء َبِوَاسَطَ رَجُلٌ ثِقَةٌ فَأَوْدَعَ رَجُلٌ بَعْضَ شُهودِهِ كِيساً مَختُومَاً ذَكَر أنَّ فِيْهِ ألفَ دِينَارٍ.
فَلَمَّا طَالَتْ غَيْبَةُ الرَّجُلِ فَتَقَ الشَّاهِدُ الكِيسَ مِنْ أَسفَلِهِ وَأَخَذَ الدَّنانِيْرَ وَجَعَلَ مَكانَها دَرَاهِمَ وأعَادَ الخِيَاطَةَ كَمَا كَانَتْ.
وَجَاءَ صَاحِبُ الكِيْسِ فَطَلَبَ وَدِيْعَتَهُ فَدَفَعَ إلَيْهِ الكِيْسَ بِخَتْمِهِ لَمْ يَتَغَيّر فلمَّا فَتحهُ وَشَاهَدَ الحَالَ رَجَعَ إليهِ وقَالَ: إنّيْ أوْدَعْتُكَ دَنَانْيِرَ وَالتِيْ دَفَعْتَ إليَّ دَرَاهِم. فَقَالَ: هُوَ كِيسُكَ بِخَاتَمِكَ فاسْتَعْدَي عَليهِ القَاضِيْ فَأَمرَ بِإحضَارِ المُودَعِ فلمَّا صَارَ بَيْنَ يَدَيهِ قَالَ القَاضِيْ: مُنْذُ كَمْ أوْدَعَكَ هَذَا الكٍيسُ فقالَ: مُنْذُ خمَسَة عَشَر سَنَةً.
فَأَخَذَ القَاضِيْ تِلْكَ الدَّراهِمَ وَقَرَأَ سِكَّتَها فَاذا فِيْهَا مَا قد ضُرب مِنْ سَنَتَينِ وَثَلاثٍ فَأمَرهُ بِدَفْعِ الدَّنَانِيْر إلَيهِ وَأسْقَطَهُ وَنَادَى عَلَيْهِ، وَاسْتَوْدَعَ رَجُلٌ لِغَيرهِ مَالاً فَجَحَدهُ فَرفعَهُ إِلى إيَاسِ فَسَألهُ فَأنكَرَ.
فَقَالَ لِلمُدَّعِيْ أَيْنَ دَفَعْتَ إِلَيهٍ فَقَالَ في مَكَانِ كَذا في البَرَّيَّةِ. فَقَالَ: وَمَا كانَ هُنَاكَ؟ قَالَ: شَجَرةٌ. قَالَ: اذْهَبْ إلَيْهَا فَلعَلَّكَ دَفَنْتَ المَالَ عِنْدَها وَنَسِيْتَ فَتَذكُرَ إذَا رَأيْتَ الشَّجَرَةَ فَمَضَى وَقَالَ لِلْخَصٍمِ: اجْلِسْ حَتَّى يَرْجِعَ صَاحِبُكَ وَإيَاسٌ يَقْضِيْ وَينظُرُ إليهٍ سَاعَةً بَعْدَ سَاعَةً.
ثُمَّ قَالَ: يا هَذَا أتَرَى صَاحِبَكَ بَلَغَ مَكَانَ الشَّجَرَةِ قَالَ: لَا. قَالَ: يا عَدُوَّ اللهِ إنَّكَ خائِنٌ. قَالَ أقِلنِي قَالَ أقَالَكَ اللهُ فَأمَرَ مَنْ يَحْتَفِظُ بِهِ حَتَّى جَاءَ الرَّجُلُ فَقَالَ لهُ إيَاسٌ اذْهَبْ مَعَهُ فَخُذْ حَقَّكَ.
وَتَقَدَّمَ رَجُلٌ شَيْخٌ أَيْ كَبِيرُ السَّنَّ ومَعَهُ غُلام حَدَثٌ أيْ صَغِيرٌ إلي القَاضِيْ أبِي حَازِمٍٍٍ فَادّعَى الشَّيْخُ على الغُلامِ بألٍفْ دِينارٍ دَيناً فَقَالَ مَا تَقُولَ قَال نَعَمْ فقَالَ القَاضِيْ للشَيخِ مَا تُرِيْدُ قالَ احِبْسُه قَال لا.
فَقَالَ الشَّيْخُ إنْ رَأَى القاضِيْ أنْ يَحبِسَهُ فَهُوَ أرْجَى لِحُصُولِ مَالِي فَتَفَرَّس أبُو حَازِمٍ فِيْهَما سَاعَةً ثم قالَ تَلَازَما حَتّى أنْظُرَ في أمْرِكُمَا في مَجلِسٍ آخرَ فقَالَ لهُ مُكرِمُ بْنُ أحْمَدٍ لمَاذَا أخَرَّتَ حَبْسَهُ فَقَالَ وَيْحَكَ إنَّي أعرِف في
أكثَرِ الأَحْوَالِ في وُجُوْهِ الخُصُوْمِ وَجْهَ المُحِقَّ مِن المُبطلِ وَقد صَارَتْ لِيْ بذلِكَ دِرَاية لا تكادُ تُخْطِئ.
وَقَدْ وَقَعَ لِيْ أنَّ سَمَاحَهُ هَذا بالإقرَارِ عَيْنُ كَذِبِه وَلعلهُ يَنكَشِفُ لِي من أمْرهِمَا مَا أكُوْنُ مَعَهُ عَلى بَصِيرةٍ أمَا رَأَيْتَ قِلَّةَ تَعَاصِيهِمَا في المُناكَرَةِ وقلَّةِ اختلافِهِمَا وَسُكْون طِبَاعِهِمَا مَعَ عِظَمِ المالِ ومَا جَرَتْ عَادَاتُ الأحْدَاثِ بِفرطِ التَّورُّع حَتَّى يُقِرَّ بمِثلِهِ طَوْعاً عَجِلاً مُنْشَرِحَ الصَّدْرِ عَلى هَذَا المالِ.
قَالَ ونحن عَلى ذَلِكَ نَتَحَدَّثُ إذْ أتَي الآذِنُ يَسْتَأذِنُ عَلى القَاضِي لِبَعضِ التُجَّارِ فَأذِنَ لَهُ فَلَمَّا دَخَل قَالَ أصْلَحَ القَاضِيْ إني بُلِيتُ بوَلدٍ حَدَثٍ صغِيرٍ يُتْلِفُ كُلَّ مَا يَظفَرُ بِهِ مِنْ مَاليْ في القِنَانِ عِنْدَ فُلانٍ فَإذَا مَنَعْتُهُ احْتَالَ بِحيَلٍ تَضْطَرُّنيْ إلي الْتِزَام العُزْمِ عنهُ.
وَقَدْ نَصَبَ اليَومَ صاحِبُ القِنَانِ يُطَالِبُ بِأَلْفَ دِينارٍ حالاً وبَلَغَنيْ أنَّهُ تَقَدَّمَ إلي القَاضِيْ لِيُقِرَّ لَهُ فَيَسْجُنَهُ وَأقَعُ مَعَ أمَّهُ فِيمَا يُنكد عَيشَنَا إلي أن أقْضِيَ عنهُ فَلَمَّا سَمِعتُ بِذلِكَ بَادَرْتُ إلى القَاضِيْ لأشْرَحَ لَهُ أمْرَهُ.
فَتَبَسَّمَ القَاضِي وقَالَ كَيْفَ رَأَيْتَ فَقُلتُ هَذَا مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلى القَاضِيْ فَقَالَ عَلَيَّ بالغُلامِ والشَّيخِ وَوَعَظَ الغُلامَ فَأَقَرَّ فَأَخَذَ الرَّجُلُ ابْنَهُ وانْصرَفَا.
قال عَمْرو بن نُجِيْد كان شَاهُ الكَرْمَاني حَادٌ الفِراسَةِ لا يُخْطِي ويَقُولُ مَن غَضَّ بَصَرَهُ عَن المَحَارِم وَأَمْسَكَ نَفَسَهُ عَن الشهوات وَعَمَرَ بَاطِنَهُ بالمُرَاقَبَةِ وظَاهِرَهُ باتباع السُنة وتعَوَّدَ أَكْلَ الحَلالِ لم تُخُطِئ فِرَاسَتُه.
واللهُ أعْلَمُ وَصَلى اللهُ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. . .
مَوعظة: عِبَادَ اللهِ تيَقَّظُوا فَالعِبَرُ مِنْكُم بِمَرْأَى وَمَسْمَعٍ، وطَاَلمَا نادَاكُم لِسانُ الزَّوَاجر عَن الانْهمَاكِ في الدُّنيا وَحُطَامِهَا والتَّهَالُكِ عَلَيْهَا فَاسْمْعَ.
عِبَادَ اللهِ احذَرُوا أنْ تَكُونُوا مِثْلَ مَنْ قَدْ مَحَّضُوْا لِلْدُّنْيَا كُلَّ مَا لهُم مِنْ أَعمَالٍ وَأَصْبَحُوا لا يَقْصِدُونَ بِتَصَرُّفَاتِهِم إلَاّ الدُنيَا وأمّا الآخِرة فلا تخطُرُ لهُم عَلى بَالٍ.
أخَذَتْ الدُّنيَا أسمَاعَهُم وأبصَارَهُم وعُقُولهَمُ بِمَا فِيهَا مِن الزَّخارِفِ الوَهْمِيَّةِ التيْ هِيَ مَرَاقِدَ الفَنَاءِ وَمَرَابِضُ الزَّوَال وَقَواتِلُ الأوْقَاتِ.
وَهَلَ هِيَ إلا الأَلْعَابُ والمَلاهِي المُشَاُر إلَيْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالى {اعْلَمُوا إنما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الامْوَالِ وَالأولَادِ} الآية وقوله {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الأخرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} وقوله {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إلا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} الآية، عِبَادَ اللهِ، كُلُّ مَا تَرَوْنَ مِن البَلَايَا وَالمِحَنِ مِنْ أجْلِ الدُّنيا وَمَا لَهَا مِن مَتَاعٍ حَقيرٍ.
عَجَبٌ أنْ يَكُونَ كُلُّ هَذَا الاهْتِمَامِ مِنْ أجْلِ دارِ الغُرُوْرِ وأيَّامِهَا المَعْدُودْةِ، وَكُلُّ مَا فِيهَا مِنْ لذائذَ مَعلُومٌ أنَّهَا مُنَغَّصَات ثُمَّ مْنُتَهِيَاتٍ ذَلِكَ فَوْقَ أنَّ الأرزاقَ فِيهَا قَدْ ضمِنَهَا اللَّطِيفُ الخَبيُر خَالِقُ كُلُّ شَيءٍ الذِي مَا من دابةٍ في الأرض إلا عليه رِزقُهَا.
وَهَل يَشُكُّ مُؤمِنٌ عاقِلٌُ في مَا ضَمِنَهُ مَوْلَاهُ الغَنِيُّ الحَميدُ لقدْ كانَ الأجدَرُ والأولَي بِهَذا الإهتمام حَياتَنَا الثَانِيَة لإنهَا دارُ القَرَارِ ولأنَّهَا إذا فاتتكَ فِيهَا دَارُ الكَرَامَةِ هَوَيْتَ في الهَاوِيَةِ وأنتَ لا تَدْرِي هَلْ أنتَ مِنْ فرِيقِ الجَنَّةِ أمْ مِنْ فَرِيقِ السَّعِيرِ.
فَتَيَقَّظَ يَا من ضَاعَ عُمرُهُ في الغَفََلات! انْتَبِهْ يَا مَنْ يَقْتُلُ أوقاتهُ عند الملاهِي والمنكراتِ.
يَا أسَفىَ على أوقاتٍ لا تُباعُ بملءَ الأرضِ ذهَباً تُضَيَّعُ عِنْدَ التَّلفْزْيُونِ والفِديُو والسِيْنَمَاَت والبكمات ولَعِبِ الأوَرَاقِ المحُرّمَات.
شِعْراً:
…
أَحْذِرْك أحَذِرْك لا أحْذرك واحِدَةً
…
عن المَذاَييعِ والتَّلفَازِ والصُّحُفِ
كَمْ عِنْدَهَا ضاعَ مِن وقْتٍ بلا ثَمَنٍ
…
لو كان في طاعَةِ أَحْرَزْتَ لِلشَّرَفِ
آهٍ على أوقاتٍ تُقتلُ عِنْدَ المَذيَاعِ وَاسْتِمَاعِ أَغَانِيهِ وَمَلاهِيهِ الْمُهْلِكَاتِ.
آهٍ عَلَى سَاعَاتٍ تمضي عِنْدَ الكُرةِ والمُطْرِبينَ والمُطْرِبَاتِ.
آهٍ على أوقاتٍ وتفكيراتٍ تذهبُ في قِراءة الكُتُبِ الخليعةِ والجَرائدِ والمَجلاتِ.
آهٍ على أوقاتٍ تنقضي في الإقامةِ بين أعدِاء اللهِ ورسولِه.
آهٍ على أوقاتٍ تقتل في الغِيبةِ والبُهتِ والتملقِ والنفاقِ والمدَاهَنَاتِ.
آهٍ على أوقاتٍ تقتل في الجلوس في الأسواق لا لمصلحة دنيا ولا دينٍ بل لأمورٍ عند أهل الضياع معلومات.
آهٍ على أوقاتٍ تُقضى في بلادِ الحُرَّيةِ والفِسقِ والفُجُوْرِ والأمور المهلكات.
آهٍ على أوقاتٍ تقتل بالحكايات المضحكاتِ والتَّمْثِيليَاتْ.
آهٍ على أوقاتٍ تَنقضي بِلَغو الكلامَ والمُغَازَلات لأهل المعاصي والمنكرات.
آهٍ على أوقاتٍ تَنقَضي في الاستماع لِلأغَاني الخَلِيعَاتِ.
آهٍ على أوقاتٍ تَمضِيْ في السُّكْرِ وَشُربِ أبي الخَبَائِثِ الدُّخَانْ.
آهٍ على أوقاتٍ تُقتلُ في ذِكرِ الحَوَادثِ والأمُورِ المَاضِيَاتِ التي لا تَعُودُ عَليهم بنفعٍ بل ربما عادتْ بالضررِ والنّكباتِ.
آهٍ على أوقاتٍ تذهب سُدَى في النَّومِ والغَفَلاتِ.
ومن يَقْطَعِ الأوقاتَ في غيرِ طاعةٍ
…
سَيندَمُ وقَتاً لا يُفيدُ التَّنَدُّمُ
آهٍ عَلى أمْوال تْنَفقُ فْيمَا يُغْضِبُ فَاطَر الأرض والسَّمَوَات وعلى أمْوَال تُبذَلُ للخَدَّامِينَ والخدّمات الكَافِرينَ والكافِرات.
آهٍ على ألسنةٍ لا تفترُ عَن الكَلامِ فِيمَا يَضُرُّ وَلمْ تَسْتبدِلْهُ بِتَمْجِيْد وَتَسْبِيْحِ وَتَكْبِير وَتَهْلِيلِ بَديع ِالأرضِ والسَّمواتِ.
آهٍ على أفكارٍ وأذهانٍ مَصْرُوفةٍ ومُشْتَغِلةٍ طوْل لَيلِهَا وَنَهارِهَا فَيْمَا في الدُّنيا مِنْ مَتَاعٍ وعَقَاراتٍ وَلَمْ تُفكَّرْ وَتَلْتَفِتْ وتَسْتعِدّ إلى مَا في أمامهَا مِنْ أهْوْالٍ وشدائِدَ وعَقَباتٍ ومَا في الآخِرةِ لِمنْ أَطَاعَ اللهَ مِن أنهارٍ وثمارٍ وحُورٍ حِسانٍ طَاهِراتٍ.
تاللهِ لقد فَسَدَتْ أمزِجَةُ أكْثَر النَّاسِ حَتَّى أثَّر فَسَادُهَا عَلي الأفهَامِ لذَلكَ رَجَّحُوا فانياً مُكدراً مُنَغَّصًا عَلى باقٍ ضَمِنَ صَفوهُ مُوْلي الأنعَامِ وَهَاهُم أولاءِ كَمَا تَرَى لا هَمَّ لَهُمْ وَلا عَمَل إلا للدُّنيَا ومَا لها مِنْ حُطامٍ قَالَ تَعَالى {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالأخرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَي} .
عِبَادَ اللهِ أما سَمِعتُمْ قَوْلَ نَبِيَّكُمْ ?: " أبشُروا وَأمَّلُوا ما يسُرُّكم فَوَاللهِ مَا الفَقرَ أخْشَى عَليْكُم، وَلَكِنْ أخْشَى أن تُبْسَطَ الدُنيا عَلَيْكُم كَمَا بُسِطَتْ عَلى من كانَ قَبْلََكُمْ فَتَنَافَسُوْهَا كَما تَنافَسُوهَا فَتُهَلِككم كَما أهلكتْهُم ". رَوَاهُ البُخَارِىّ ومُسلِمٌ. وَخِتَاماً:
فَيْنَبَغِيْ لِلعَاقِل أنْ يَعْرفَ شَرَفَ زَمَانِهِ وَقَدْرَ وَقْتِهِ فَلا يُضِيْعُ مِنْهُ لحظةً في غير قُربةٍ وَيُقَدَّمَ الأفضَلَ فالأفْضَلَ مِنْ القَوْلِ والعَمَل.
فوائد: كُلُ مَا يقومُ به غَيْرُكَ ويحصَلُ بذَلِكَ غَرضُكَ فإن تَشَاغِلك به غَبْنٌ فاحِش لأنَّ إحتياجُكَ إلى التشاغل بما لا يقوم به غيرُكَ مِن العلم والعمل والذِكر والفِكر آكدُ والْزَمَ وأنْفَع.
أعلم أن ما احْتَجْتَ إلى مفارقته وتركه للناس فَلَيْسَ لَكَ والشُغْلُ بما لَيَس لَكَ عَبَث.
وما المرءُ إلَّا رَاكبٌ ظَهْرَ عُمرِه
…
عَلى سَفَرٍ يُفْنِيهِ في اليوم والشهرِ
يَبيْتُ ويضحي كلَّ يَومٍ وليْلَةٍ
…
بَعِيْداً عن الدُّنيَا قَريباً إلى القبرِ
آخر:
…
آنَ الرّحِيْلُ فَكَنْ على حذَرٍ
…
ما قَدْ تَرىَ يُغنِي عن الحَذَرِ
لا تَغتِرَرْ باليَومِ أوْ بِغَدٍ
…
قُلوُبُ المَغْرُورِيْنَ عَلىَ خَطَرِ
آخر:
…
دَخَلَ الدُنيَا أُنَاسٌ قبْلَنَا
…
رَحَلُوْا عَنْهَا وَخلوْهَا لَنَا
ونَزَلْنَاهَا كما قدْ نَزلَوا
…
ونُخَلّيِهَا لِقَوْمٍ بَعْدَنَا
آخر:
…
إذَا كَانَ رأس المالِ عُمْرُكَ فَاحْتَرِزْ
…
عَليهِ مِن الإنفاقِ في غَيْرِ واجبِ
آخر:
…
عِلمِي بِعَاقبة الأيامِ تَكْفِينِي
…
وما قَضَى الله لَيْ لابُدَّ يَأتِينِيْ
ولا خلافَ بأنَّ الناسَ مُذُ خُلقُوْا
…
فيما يَرمُونَ مَعْكُوسَ القَوَانِيْنِ
إذْ يُنْفِقُوْا العُمْرَ في الدُنيَا مُجازفةً
…
والمالُ يُنفقُ فيهَا بالموازينِ
آخر:
…
ستَبكي رجالٌ في القيامةِ حسرةً
…
عَلى فوتِ أوقَات زَمَان حَيَاتِهَا
اللهُم نوّرْ قُلُوبَنَا بنُور الإيمانِ وأعنَّا على أنفَسِنَا والشَّيطان وأيّسْهُ مِنا كما أيَّستَهُ مِن رَحمتِكَ يا رَحْمَان وآتِنَا في الدُّنيَا حَسنةً وفي الأخرةِ حسنةً وَقِنَا عَذابَ النَّار، واغفِر لَنَا وَلَجَمِيِع الُمسلمينَ بِرحمتكَ يَا أرحَمَ الرَّاحِمينَ وصلي الله علي محمدٍ وعَلى آلِهِ وصَحبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
أَتَتْ عُمَرَ امرَأَةٌ فَشَكَتْ عِنَدهُ زَوْجَهَا وَقَالتْ هُوَ مِنْ خَيْرَ أَهْلِ الدُّنيَا يَقُومُ اللَيلَ حَتَّى الصَّباحِ وَيَصَوم النَّهار حتي يُمسي ثُمّ أدرَكهَا الحَيَاء فقال عُمَرُ: جَزَاكِ اللهُ خَيْراً فَقَدْ أَحْسَنْتِ الثَّنَاءَ.
فَلَمَّا وَلَّتْ قَالَ لَهُ كَعْبُ بْنُ سُوْرٍ: يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ لَقَدْ أَبْلغَتْ إليكَ في الشَّكوَى، فَقَالَ وَمَا اشْتَكَتْ قَالَ زوْجَهَا، قَال عَلَيَّ بِهَا فَقَالَ لِكعْب: اقْضِ بَيْنَهُمَا، قَالَ أَقْضِ وَأَنتَ حَاضِرٌ، قَالَ إنَّكَ قَدْ فَطِنْتَ لِمَا لَمْ أفْطَنْ لَهْ.
قال كعب إن الله يقول {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} صُمْ ثلاثَةَ أيّامٍ وَافْطِرْ عِنْدَهَا يَوْماً وَقُمْ ثَلاثَ لَيَالٍ وَبِتْ عِنْدَها لَيْلَةً. فَقَالَ عُمَرُ هَذَا أَعْجَبُ إلَيَّ مِِن الأوَّل فَبَعَثَهُ قَاضياً لأهلِ البَصْرةِ فكَانَ يَقَعُ لَهُ مِنْ الفِرَاسَةِ أُمُوْرٌ عَجِيْبَةٌ.
قَالَ رحمه الله وَمِنْ دَقِيْقِ الفِرَاسَةِ أنَّ المَنصُورَ جَاءَهُ رَجُلٌ فَأَخْبَرَهُ أنّهُ
خَرَجَ فِي تِجَارَةٍ فَكَسِبَ مَالاً فَدفَعهُ إلى امْرَأَتِهِ ثُمَّ طَلبَهُ فَذَكرَتْ أنَّهُ سُرِقَ مِنْ البَيْتِ وَلَمْ يَرَ نَقْبَاً وَلا أَمَارَةً فَقَالَ لهُ المَنْصُوْرُ: مُنْذُ كَمْ تَزَوَّجْتَهَا؟ قَالَ: مُنْذُ سَنَةٍ، قَالَ: بِكْراً أو ثَيَّباً؟ قَالَ: ثَيَّباً؟ قَالَ: فَلَهَا وَلَدٌ مِنْ غَيْرِكَ؟ قَالَ: لا.
فَدَعَا لَهُ المَنْصُوْرُ بِقَارُوْرَةٍ طِيْبٍ يَتَّخذُهُ لَهُ حَادُّ الرَّائِحَةِ غَرِيْبُ النَّوعِ فَدَفَعَهُ إِليْهِ وَقَالَ تَطَيَّبْ مِنْ هَذَا الطَّيْبِ فَإنَّهُ يُذْهِبُ غَمَّكَ فَلمَّا خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْ عِنْدِهِ قالً المنصُورُ لأربَعَةٍ مِنْ ثِقَاتِهِ لِيقْعُدْ مِنْكُمْ كُلُّ واحِدٍ عَلى بَابٍ مِن أبْوَابِ المَدِينَةِ فَمَنْ شَمَّ مِنْكُمْ رَائِحَةَ هَذا الطَّيْبِ مِنْ أحدٍ فَليَأتِ بِهِ، وَخَرَجَ الرَّجُلُ بالطيبِ ودَفَعَهُ إلى امرأتهِ فَلَمَّا شَمَّتْهُ بَعَثَتْ مِنْهُ إلى رَجُلٍ كَانَتْ تُحِبُهُ وقدْ كَانَتْ دَفَعَتْ إليهِ المَالَ.
فَتَطَيَّبَ مِنْهُ وَمَرَّ مُجْتَازاً بِبَعْض أَبْوَابِ المَدِيْنَةِ فَشَمَّ المُوَكَّلُ بِالبَابِ رَائِحةً طيَّبَةً فَأتى به المَنصُورَ فَسَألهُ مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذا الطَّيْبِ؟ فَلَجْلَجَ في كَلامِهِ فَبعَثَ بِه إلى وَالِيْ الشُّرطَةِ فقال: إنْ أَحْضَرَ لك كَذا وكَذا مِنْ المالٍ فَخَلَّ عَنْهُ وَإلا اضْرِبْهُ ألْفَ سَوْطٍ.
فَلَمَّا جُردَ لِلضربِ أَحضَرَ المال على هَيئَتِهِ فدعَا المَنصُورُ صَاحِبَ المَالِ فقالَ " إنْ رَدَدْتُ إليْكَ مالَك تُحَكِمَنِيْ في امْرَأَتِكَ قَالَ: نَعَمْ؟ قالَ: هَذا مَالُكَ وَقَدْ طَلَّقْتُ المَرأَةَ مِنْكَ.
قَالَ وَمِن عَجِيْبِ الفِرَاسَةِ مَا ذُكِرَ عَنْ أَحْمَدِ بْنِ طُوْلُوْنَ أنَّهُ بَيْنَما هُوَ جَالِسٌ في مَجْلِسٍ لَهُ يَتَنَزَّهُ فَيْهِ إذْ رَأى سائلاً في ثَوْبٍ خَلِقِ فَوضعَ لهُ دَجَاجَةً عَلى رَغِيْفٍ وَحَلْوَى وأَمَرَ بَعَضْ الغِلْمَانِ فَأَعْطَاهُ إيَّاهُ فَلَمَّا وَقَعَ في يَدِهِ وَأخذهُ لمْ يَفْرَحْ بِهِ وَلَمْ يَهُشَّ لَهُ وَلَمْ يَعْبَأْ بِهِ.
فَقَالَ لِلغُلامِ: ائْتِنِيْ بالسَّائِلِ. فلمَّا وقَفَ قُدَّامَهُ اسْتَنْطَقَهُ فَأَحْسَنَ الجَوَابَ
وَلَمْ يَخفْ وَلَمْ يَضْطَرِبَ مِنْ هَيْبَتِهِ فَقَالَ له: هَاتِ الكُتُبَ التِيْ مَعَكَ واصْدُقْنِىْ مِنْ بَعثَكَ فَقَدْ صَحَّ عِنَديْ أنَّكَ صَاحِبَ خَبَرِ وَأحْضَرَ السَّيَاطَ فاعْتَرَفَ.
فَقَالَ بَعْضُ جُلَسَائِهِ: هَذا وَاللهِ السَّحْرُ! قَالَ: مَا هُو بِسِحْرٍ ولَكِنْ فِرَاسَةٌ صَادِقَةٌ رأَيْتُ سُوْءَ حَالِهِ، فَوجَّهْتُ إليهِ بِطعَامٍ يرْغَبُ أكْلَهُ الشَّبْعَانُ فمَا هَشَّ لَهُ وَلا فَرِحَ وَلا مَدَّ يَدَهُ إِلَيْهِ فَأَحْضَرْتُه فَتَلَقَّاني بِقُوَّةِ جَأْشٍ فَلَمَّا رَأيتُ رَثَاثَة حَالِهِ وَقُوَّةَ جَأْشِهِ عَلِمْتُ أنّه صَاحِبُ خَبَرٍ فَكَانَ كَمَا قَالَ.
وَرَأَى يَوْماً حَمَّالاً يَحْمِل صَنّاً – أيْ صُندُوقاً مِنْ خَشَبٍ – وَالحَمَّالُ تَضطرِبُ رجْلاهُ تَحْتَهُ فَقَالَ لَوْ كَانَ هَذا الاضطِرَابُ مِن الثَّقلِ لغَاصَتْ عُنُقُ الحَمَّالِ وَهَذِهِ عُنُقُهُ أُرَاهَا بَارِزَةً وَما أرَى الأَمْرَ إلَاّ مِنْ خَوْفٍ.
فَأَمَرَ بحَطَّ الصَّنَّ فَإذَا فِيْهِ أُنْثَى مَقْتُولَةٌ وَقَدْ قُطّعَتْ فقالَ لِلحَمَّالِ اصْدُقْنِيْ عَنْ حاَلِهَا فَقَالَ هُنَاكَ في الدَّارِ الفُلانِيَّةِ أَرْبَعَةُ نَفَر أَعْطَونِيْ هَذهِ الدَّنانِيرَ وَأَمَرُونِي بحَمْلِ هَذِهِ المَقْتُولَةِ فَضَرَبَهُ لأنَّهُ لَمْ يُخْبِرْهُ رَأْساً وَأمَرَ بِقَتْلِ الأرْبَعَةِ.
وَكَانَ يَتَنَكَّرُ - أَيْ يُغَيَّرُ لِبْسَتهُ وَهَيْئَتَهُ - وَيَدُوْرُ وَيَسْمَعُ قِرَاءَةَ أَئِمَّةَ المسَاجِدِ فَدَعَا ثِقَةً وَقَالَ خُذْ هَذِه الدَّنَانِيْرَ وَأَعْطِهَا إمَامَ المَسْجِدِ الفُلَانِيَّ فَإنَّهُ فَقِيرٌ مَشْغُولُ القَلْبِ فَفَعلَ وَجَلَسَ مَعَ إمَامَ المَسْجِدِ وَبَاسَطهُ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ زَوْجَتَهُ قَدْ أَخَذَهَا الطَّلْقُ وَلَيْسَ مَعَهُ مَا يَحْتَاجُ إليهِ فَأخبرهُ فَقَالَ: صَدَقَ عَرَفْتُ شُغْلَ قَلِبهِ بِكَثْرةِ غَلَطِهِ في القراءة.
وكَانَ يَرْكَبُ وحدهُ وَيَطُوفُ ليلاً ونهاراً يُفَتَّشُ ويتفقدُ الرَّعيةَ إلي أنْ مَرَّ يوماً في سُوْقٍ مَسْدُودٍ في بَعْضِ أطرافِ البَلَدِ فَدَخَله فَوَجَدَ مُنْكراً ووَجَدَهُ لا يَنْفُذُ فَرَآى عَلى أحَدِ أَبْوَابِهِ شَوْك سَمَكٍ كَثيرٍ وعِظَام الصُّلبِ.
فَقَالَ لِشَخْصِ: كَمْ يُقَوَّمُ تَقْدِيُر ثمَنَ هَذَا السَّمَكِ الذِيْ هَذِهِ عِظَامُهُ؟ قَالَ:
دِينارٌ قَالَ أَهْلُ هَذَا الزُقَاقِ – أَىْ السُّوقِ لا تَحْتَمِلُ أَحْوَالُهُمْ مُشْتَرَى مِثْلِ هَذا لأَنَّهُ زُقاقٌ بَيّنُ الاختِلالِ إلى جَانِبِ الصَّحْراءِ لا يَنْزِلُهُ مَنْ مَعَه شَئٌ يَخَافُ عَليهِ أَوْ لَهُ مَالٌ يُنْفِقُ مِنْهُ هذِه النَّفَقَة وَمَا هِي إلاّ بَليَّةٌ يَنْبَغِيْ أنْ يُكْشَفَ عَنْهَا فَاسْتَبعَدَ الرَّجُلُ هَذا وقَالَ هَذا فِكْرٌ بَعِيدٌ.
فَقَالَ: اطْلَبُوُا لِي امْرأةً مِنْ الدَّربِ أُكَلَّمُهَا فَدَقَّ بَاباً غَيْرَ الذي عليهِ الشوكُ وَطَلَبَ مَاء فَخَرجَت عَجُوزٌ ضعيفةٌ فما زالَ يَطْلُبُ شَرْبَةً بَعْدَ شَرْبَةٍ وَهِيَ تَسْقِيهِ وَهُوَ في خِلالِ ذَلِكَ يَسْأَلُ عَن الدَّرْبِ وَأهْلِهِ وَهِي تُخِبرُهُ غَيْرَ عَارِفَةٍ بِعَوَاقِبِ ذَلكَ.
إلى أنْ قَالَ لَها: وَهَذهِ الداُر مَنْ يَسْكُنُهَا؟ وَأشَارَ إلَى التي عِنْدَ بابِها عِظامُ السَّمَكِ فقالَتْ فِيها خَمْسَةُ شَبَابٌ أعفَارٌ كأَنَّهُم تُجَّارٌ وَقَدْ نَزَلُوا مُنْذُ شَهرٍ لَا نَراهُمْ نَهَاراً إلا فِي مُدّةً طَويلةٍ وَنَري الواحِدَ مِنْهُم يَخرُجُ لِلحَاجَةِ ويعُودُ سَريعاً.
وَهُمْ في طُوْلِ النَّهَارِ يَجْتَمِعُونَ فَيأكُلونَ وَيشْرَبُونَ وَيَلْعَبُونَ بِالشَّطْرَنْجِ وَالنَّرْدِ وَلَهُم صَبِيٌّ يَخْدِمَهُم فإذَا كَانَ اللَّيلُ انْصَرفُوا إلى دَارٍِ لَهُم بالكَرْخِ وَيَدَعُوْنَ الصَّبِيَّ في الدَّارِ يَحْفَظُهَا فَإذَا كَانَ سَحَراً جَاؤا وَنَحْن نِيَامٌ لا نَشْعُرُ بِهِم.
فَقَالَ لِلرَّجُلِ هَذِهِ صِفَةُ لُصُوصٍ أَمْ لَا قَالَ: بَلَى. فَأَنْفَذَ في الحَالِ فَاسْتَدْعَى عَشَرةً مِنْ الشُّرطِ وَأدْخَلَهُم إلي سَطْحِ الجِيْرَانِ وَدَقَّ هو البَابَ فَجَاءَ الصَّبِيَ فَفَتَحَ فَدَخَلَ الشُّرطُ مَعَهُ فَمَا فَاتَهُ مِن القَومِ أحَدٌ فَكانُوا هُمْ أصْحَابُ الخِيَانَةِ بِعَينهِمْ.
وَمِنْ ذَلِكَ أنَّ بَعْضَ الوُلَاةِ سَمعَ في بَعْضِ لَيالِىْ الشَّتَاءِ صَوْتاً بِدَارٍ
يَطْلُبُ مَاءً بَارِداً فَأمَرَ بِكَبْسِ الدَّارِ فَأخْرَجُوا رَجُلاً وَامْرَأةً فَقِيْلَ لهُ مِنْ أيْنَ عَلِمْتَ قَالَ الماءُ لا يُبَرَّدُ في الشّتَاءِ إنَّمَا ذَلِكَ عَلامَةٌ بينَ هَذيْنِ.
وَأَحْضَرَ بَعْضُ الوُلاةِ شَخْصَيْن مُتَّهَمَيْنِ بِسَرِقَةٍ فَأَمَرَ أَنْ يُؤْتَى بكُوزٍ مِنْ مَاءٍ فَأَخَذَهُ وَأَلقَاهُ في الأرضِ عَمْدَاً فانْكَسَر فَارْتاعَ أحَدُهُمَا وَثَبَتَ الآخِرُ فَلَمْ يَتَغَيَّرْ فَقَالَ للذِيْ انْزَعَجَ اذهَبْ وَقَالَ للآخَرِ أَحْضِرْ العُمْلَةَ.
فَقاَلَ لَهُ مِنْ أَيْنَ عَرَفتَ ذَلِكَ فَقَالَ اللصُّ قَويُ القَلبِ لا يَنْزَعِجُ وَالبَريءُ يُرَي أنّهُ لوْ نَزَلَتْ فِيْ البَيْتِ فَأْرَهُ لأزْعَجَتْه وَمَنَعَتُه مِنَ السَّرِقَةِ.
شِعْراً:
…
يَا نَفْسُ قَدْ طَابَ في امْهَالِكِ العَمَلُ
فاسْتدْرِكِي قَبْلَ أنْ يَدْنُو لَكِ الأَجَلُ
إلى مَتَى أنْتِ في لَهْوٍ وفي لَعِبٍ
يَغُرُّكِ الخَادِعَانِ الحِرْصُ وَالأمَلُ
وَأنتِ في سُكر لَهْوٍ لَيْسَ يَدْفَعُهُ
عَنْ قَلْبِكِ النَّاصِحَانِ العُتْبُ وَالْعَذَلُ
فَزَوَّدِيْ لِطَرِيْقٍ أَنْتِ سَالِكه
فِيْهَا فَعَمَّا قليْلٌ يَأْتِكَ المَثَلُ
وَلا يَغُرُّكِ أيَامُ الشَّبَابِ فَفِي
أَعْقَابِهَا المُوبِقَانِ الشَّيْبُ وَالأَجَلُ
يَا نَفْسُ تُوْبِيْ مِنْ العِصْيَانِ واجْتَهِدي
وَلا يَغُرَّنَّكِ الأبْعَادُ وَالمللُ
ثُمَّ احْذَرِيْ مَوْقِفَاً صَعباً لِشِدَّتِهِ
يَغْشَى الوَرَى المُتْلِِفَانِ الحُزْنُ وَالوَجَلُ
شِعْراً:
…
وَيَخْتَمُ الفَمُ وَالأَعْضَاءُ نَاطِقَةٌ
وَيَظْهَرُ المُفْصِحَانِ الخَطُّ وَالخَطَلُ
وَيَحْكُمُ اللهُ بَيْنَ الخَلْقِ مَعْدِلَةً
فتُذْكَرُ الحَالتَانِ البِرُّ وَالزَّلَلُ
اللهُمَّ قَوَّ، إيْمَانَنَا بِكَ وبِمَلائِكَتِكَ وَبِكُتُبِكَ وَبِرُسُلِكَ وَباليَوْمِ الآخِرِ وَبالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِهِ رَبَّنَا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الأخرة حسنةً وقنا عذابَ النّارِ، رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوَبَنا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنا وهَبْ لنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ وصَلَّى اللهُ على مُحمدٍ وَآلِهِ وَصَحبِه وَسَلَّمَ.
مَوْعِظَةٌ
عِبَادَ اللهِ كُلُّنَا نَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَّا مَنْ لا يُخْطِيْ وَلا يَنْحَرِفُ عَنْ طَرِيقِ الحَقَّ بَلْ إنَّ فِيْنَا مِن الغَرائِزِ وَالطّبَاعِ مَا يَمِيْلُ بِنَا إلى الرُّشْدِ وَالغَيّ وَالخَيرِ وَالشَّرَّ وَلَيْسَ كُلُّ إنْسانٍ يَعْرِفُ خَطَأَهُ أو يَهْتَدْيْ إليْهِ.
وَبِذَلِكَ كانَ مِنْ حَقَّ المُسْلِمِ عَلى أَخِيْهِ أَنْ يُبَصَّرَهُ بِعُيُوْبِهِ وَيَنْصَحَ لهُ في أَمْرِهِ وَهَذا مِن التَّواصٍيْ بِالحَقَّ. وَكَما يَجِبُ عَلي مَنْ رَأى الظُّلمَ مِنْ حاكِم ومسئول أنْ يُنْكِرَ عَليْهِ ظُلْمَهُ وَبغْيَهَ وَجَبَ عَلى مَنْ رَأى مُؤْمِناً يَظلِمُ غيرَهُ أوْ يَظْلِمُ نَفْسَهُ أنْ يَحُولَ بَيْنَهُ وَبْينَ مَنْ يَظْلِمْ إبْقَاءً عَلى حَقَّ الأُخُوَّةِ ودفعاً لِلأَذَي عَنْ المظْلُومِ وَعَن المُجْتمعِ.
قال بَعْضُ العُِلَمَاءِ
النَّصِيْحَةُ عَلى مَرَاتِبَ أولاً أنْ لا يُبَادِرَ الانسَانُ إلَى تَصْدِيْقِ مَا يُقَالُ لَهُ عَنْ قَرِيْبِ أوْ صَدِيقٍ أَوْ جَارٍ أوْ زَمِيْلٍ أو أحدٍ مِنْ النَّاس بَلْ يَتَثَبَّتُ في ذَلِك حتَّى يَسْتَيْقٍنَ لأنّ أكَثَرَ الناس في وَقْتِنَا اعتادُوا إِشَاعَةَ السُّوءَ وَأَكْثَرُ النَّاس إلى الإسَاءَةِ يُسْرِعُونَ، وَيَنْدُرُ مِنْهُم مَنْ يُحْسِنُ الظَّنَّ، فَلا تُصَدَّقْ فَوْراً بكل مَا سَمِعْتَهُ.
حَتّى تَسْمَعَهُ مِمَّنْ حَضَرَهُ وَشَاهَدَهُ وَتَتَأكّدَ مِنْ ثُبُوتِهِ وَبَراءَتَهِ وَخُلُوّهِ مِنْ الهوَى والأَغْرَاضِ.
وَإذَا رَأَيْتَ أَمْرَاً أَو بَلَغَكَ عَنْ صَدِيقَكَ كَلامٌ يَحْتَمِلُ وَجْهَينْ فاحْمِلْهُ مَحْمَلاً حَسَناً، قَالَتْ بِنْتُ عَبْدِ اللهِ بن مُطِيْعٍ لِزوْجِهَا طَلْحَةَ بْن عَبْدِ الرَّحْمَن بْنِ عَوْفٍ وَكانَ أجْوَدَ الناسِ في زَمَانِهِ مَا رَأَيْتُ قَوْماً ألأمَ مِنْ إخَوانِكَ قَالَ لَهَا وَلَمَ ذَلِكَ قَالتْ أَرَاهُمْ إِذَ أيْسَرْتَ لَزِمُوْكَ وَإذا أعْسَرْتَ تَرَكُوْكَ فَقالَ لَها هَذَا واللهِ مِنْ كَرَم أخْلاقِهم يَأتُوننا في حَالِ قُدْرَتِنَا عَلى إكْرَامِهِمْ وَيَترُكُوْنَنَا في حَالِ عَجْزَنَا عَنْ القِيَام بِحَقّهِمْ.
فَانْظُرْ كَيْفَ حَمَلَ فِعْلَهُم عَلى هَذَا المَحْمَلِ الحَسَنِ، وثَانِياً أنْ يَكُونَ عَلى بَالِكَ مُسْتَحْضَرَاً أنَّ الناسَ ليسُوا مَعْصُومِينَ بَلْ لهُم هَفَواتٌ وَأَخْطَاءٌ وَتَصوَّرْ ذَلِكَ في نفْسِكَ لِتَعْذُرَهُم وَلقَدْ أحْسَنَ القَائِلُ:
مَن الذِى مَا سَاءَ قَطَّ
…
وَمَنْ لَهُ الحُسْنَى فَقَطْ
آخر:
…
أرَدْتَ لِكَيْمَا لَا تَرى لِىَ عَثْرَةً
…
ومَنْ ذَا الذِي يُعْطَى الكَمالَ فَيَكْمُلُ
آخر:
…
وَمَنْ الذِيْ تُرْضى سَجَايَاهُ كُلَّهَا
…
كَفَى المَرْءَ نُبْلاً أَنْ تُعَدَّ مَعَائِبُهُ
آخر:
…
إِنْ كُنْتَ تَطْلُبُ في الزمانِ مُهَذَّباً
…
فَنِيَ الزمانُ وأنْتَ في الطَّلَبَاتِ
خُذْ صَفْوَ أَخْلاقِ الصَّدِيقِ وأعْطِهِ
…
صَفْواً ودَعْ أخْلَاقَهُ الكَدٍرَاتِ
ثَالِثاً: أَنْ تَنْظُرَ إلى الأَمْرِ مِنْ وِجْهَةِ نَظَركَ وَمِنْ وِجْهَةِ نَظَر صَاحِبه أَيْضَاً، فَقَدْ يَكُونُ مُجْتَهِداً فِيْمَا أعْتَقَدهُ مِنْ رَأيْ مُتَحَرَّياً لِلْخَيْر فِيْمَا سَلَكَهُ مِنْ سَبِيْلٍ، فَلا تُسَارِعْ إلي الانْكَارِ عَلَيْهِ وَتَخْطِئَتِهِ مَا دَامَ مِنْ المحُتمَل أنْ يَكُونَ لَهُ وَجْهٌ مِن الحقَّ فَإنْ تَأَكَّدْتَ مِنْ الخَطأ والانْحِرَافِ فَتَقَدَّمْ بالنَّصِيْحَة سِرّاً بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، لا عِنْدَ ملأٍ مِنْ الناسِ كَمَا يَفْعَلهُ بَعضُ النَّاسِ، فَإنه أحرى لِقَبُولِ النَّصِيْحَةِ، رَابِعَاً: لَا يَتَرَتَّبُ عَلى النَّصِيْحَةِ مَا هُوَ شَرٌ مِنْهَا.
شِعْراً:
…
تَعَمَّدِني بِنُصْحٍ في انْفِرَادِ
…
وجَنِبّنِي النَّصِيْحَةَ فى الجَمَاعَةْ
فإِنْ النُّصْحَ بين الناسِ ضَرْبَ
…
من التَّوْبْيخ لا أَرْضَى اسْتمَاعَهْ
فإِنْ خَالَفْتنِي لِتُرِيْدَ نَقْصِيْ
…
فلا تَغْضَبْ إِذا لم تُعطَ طَاعَةْ
وَعِنْدَمَا يُهْمِلُ الصَّدِيْقُ صَدِيْقَهُ وَيُهْمِلُ الأَخُ حَقَّ أَخِيْهِ عَلَيْهِ في النُّصْحِ وَالارْشَادِ تَسُوء عَلائِقُ بَعْضِهمْ مَعَ بَعْضٍ وَتَنْقَلِب الصَّدَاقَةُ عَدَاوَةً وَيُصْبحُ أَمْرُ المجَتمَعِ فَوْضَى يَمُوْجُ بِالشَّرَّ وَالاثْمِ.
وَلَقَدْ أخْبَرَنَا اللهُ في القُرْآنِ الكَريْمِ أنَّ بَنيْ اسْرَائِيلَ اسْتَحَقُّوا اللَّعْنَةَ وَالحِرْمَاَن وَالتَّشْرِيدِ لأَنَّهُمَ كَانُوا لا يَتَناصَحُونَ، قَالَ تَعَالى {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَي لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَي ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}
وَلَيْسَ أَدَلَّ علي رُقِيّ الأمَّةِ وَاستِقَامَةِ ضَمَائِرهَا مِنْ تَمَسُّكِهَا بِخُلُقِ التَّنَاصُحِ فِيْمَا بَيْنِهَا وَالتَّوَاصِيْ بِالحَق، قاَل تَعَالى {وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنسان لَفِي خُسْرٍ إلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} .
رُويَ عَنْ الشَّافِعِيّ رحمه الله أنّهُ قَالَ لَوْ لَمْ يَنْزِلْ غَيرَ هَذِهِ السُّورَةِ لَكَفَتِ النَّاسِ.
وَكانَ الرَّجُلانِ مِنْ أَصْحَابِ النّبيِ ? إِذَا الْتَقَيا لَمْ يَتَفَرَّقَا حَتّى يَقْرَأَ أَحَدُهُمَا عَلى الآخِر سُوْرَةَ العَصْرِ ثمَّ يُسَلَّمُ أَحَدُهُمَا عَلى الآخَرِ.
قُلْتُ: وَذَلِكَ أَنَّ الأَوَامِرَ وَالنَّوَاهِي كُلُّهَا تَدُوْرُ عَلى التَّوَاصِيْ بِالحَقَّ وَالتّواصِيْ بالصَّبْرِ، فَالتَّواصِيْ بالحَقَّ مِثلُ الايْصَاءِ بِتَوْحِيْدِ اللهِ والإيمَانِ بِهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ واليَوْمِ الآخِرِ وَالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرّهِ.
وَالإيصَاءِ بالصَّلاةِ والزَّكَاةِ وَالصَّيام وَالحَجَّ وبرَّ الوَالِدَيْنَ وَصِلَةِ الأرْحَامِ والإحسَانِ إلى اليَتِيْمِ وَالمِسْكِينِ وَالجَارِ وَابْنِ السَّبِيْلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَالتَّواصِي بالابتِعَادِ عَنْ مَا نَهى اللهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ مِن المَعَاصِيْ كُلِّهَا الصَّغَائِر وَالكبَائِر.
وَالتَّواصِي الصَّبْر عَلى الطَّاعَاتِ حَتّى المْمَاتِ، وَالتّواصِيْ بِالصَّبْرِ عَلى المَصَائِبِ، وَالتّوَاصِيْ بِالصَّبر عَن المَعاصِيْ.
وَلكِنْ يَا لَلأَسَفِ صَارَ التَّوَاصِيْ عِنْدَ هَذَا الجِيلِ فِيْمَا يَتَعَلَّقُ بِالدُنْيَا وَحُطَامِهَا فَتَجِدُ الوَاحِدَ يَحُثُّ صَدِيْقَهُ على التَّعَلُّقِ بِهَا وَعِمَارَتِهَا وَكُلَّ مَا يَشْغَلُهُ ويُلهِيْهِ عَن الآخِرَةِ مِنْ مَشاركِة وسلفةٍ ونحو ذلك.
وإذا انتقص بشيء مِما يتعلَّق بها أَقَامَ النّاسَ وَأقْعَدَهُمْ حَتَّى المُنْتَسِبيِنَ إلَى طَلَبِ العِلْمِ.
فَتَجِدُ الوَاحِدَ مِنْهُمْ إِذَا خُصِمَ عَلَيْهِ بَعْضُ الدَّرَجَاتِ أو بَعْضُ الفُلُوس انْفَعَلَ وَتَغَيّرَ مِزَاجُهُ وَصَارَ يَتَكَلَّمُ بِكَلام غَيْر مُتَّزِنٍ.
عَكْس أُمُوْرِ الآخِرةَ فإنَّهُ لا يَهْتَمُّ لها، فَتَفُوتُه تكْبِيرَةُ الإحرَامِ مع الإِمَامِ بل تَفُوتُهُ الصلاةُ مَعَ الجَمَاعَةِ وَلا يُبالىْ بِنَقْصِ خَمْسٍ وَعِشْرِيْنَ دَرَجَةٍ.
وَتَجِدُ الوَاحِد مِنْهُمْ يُوْصِيْ زَمِيْلَهُ بالدَّرَاسَةِ لِأجْلِ الحُصُوْلِ عَلى شَهَادةٍ في زَعْمِهِ أنّهَا تَأمِينٌ لِلحَيَاةِ مِنْ الفَقْر.
وَهَذا يَدُلُّ عَلى ضَعْفِ التَّوكُّلِ عَلى اللهِ.
وَأمَّا الصَّلاةُ وَسَائِرُ الطَّاعَاتِ وَتَرْكُ المَعاصِيْ التيْ بِهَا بإِذْنِ اللهِ تأمِينُ الحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ والسَّلامَةُ مِنْ جَهَنّمَ لِمَنْ وَفَّقَهُ اللهُ فَلا تَجِدُهُ يُوْصِيهِ بِهَا، وَلا يَهْتَمُّ مِنْهَا.
حَتَّى الآبَاءُ دَخل عَلَيْهِمْ النَّقْصُ فَتَجِدُ الأبَ وَالأمَّ يَحْرِصُوْنَ عَلى إيْقَاظ أوْلادِهِمْ للاخْتِبَار يَتَرَدّوُنَ عَليهِم وَلو شَقَّ ذَلِكَ عَليهِم.
أمَّا لِصَلاةِ الفَجْرِ وَسَائِرِ الصَّلوات وَسَاِئِر الطَّاعَاتِ وَالإبتِعَادِ عَن الملَاهِيْ وَالمُنْكَراتِ فلا.
نَسألُ اللهِ العَظِيمَ أنْ يُوْقَظَ قُلُوبَنا وَيَمْلأَهَا بِالغَيرةِ وَالنَّصِيحَةِ وَأَنْ يُصْلحَ قُلْوبَنَا وَأَوْلَادَنا وَأَحْوَالَنَا وَجَمْيِعَ المُسلمِينَ.
وَإِذَا خَلَا المُجْتَمعُ مِن التَّواصِيْ بالحَقَّ وَالصَّبْرِ والتَّناصُحِ أَوْ ضَعُفَ مَظْهرُ العَمَل بِهِ فَقَدْ انتهَت الأمّةُ أسْوءِ حَالاتِا مِن الفَوْضَي وفَسَادِ الأخْلاقِ وَالتَّقَاطُعِ وَالتَّدَابُرِ وَالعُدْوَانِ وفشُوَّ الشُّرُورِ مِن المُنافِقْينَ والنَّمامِينَ والكَذَّابِينَ وأعوانهم.
وانْظُرَ كَيْفَ تَكُوْنُ الحَالُ فِيْمَا إذَا عُدِمَ الأَمْرُ بِالمَعروفِ وَالنَّهْي عَن المُنْكَرِ وَتَرْكِ التَّواصِيْ بالحَقَّ وَالتَّوَاصِيْ بِالصَّبْرِ وَأُهْمِلتْ النَّصِيْحَةُ.
وَكْيفَ يَجْترئُ الفُسَّاقُ عَلى المعَاصِيْ وَيَصِلُوْنَ فِيْهَا إلَى مَا تَضِجُّ لَهُ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَا فِيْهِمَا مِنْ أَنوَاعِ الشُّرُورِ.
آخر:
…
لا شَئَ أبْلَغَ من ذُلّ يُجَرّعُهُ
…
أَهلُ الخَسِيسةِ أَهْلَ الدِينِ والحَسَبِ
القائِميْنَ بما جَاء الرَّسُوْلُ به
…
والمُبْغِضِينْ لأَهْلِ الزَّيغِ والرَّيبِ
وَإنْ شِئْتَ فَزُرْ أيَّ جَهَةٍ مِن جِهَاتِ العَالَمِ تَري مَا يَتَقَطَّعُ لَهُ قَلبُكَ حَسَراتٍ انْظُرْ آكَدَ أرْكَانِ الإِسلَامِ بَعْدَ الشَّهَادَتَيْنِ الصَّلاّةَ كَيْفَ تَرَكَهَا الكثيرُ مِن النَّاسِ.
وَانْظُرْ إلَى الزَّكَاةِ التِيْ لَوْ أُخرِجَتْ لَمْ يَبْقَ فَقِيْرٌ وانْظُرْ صِيَامَ رَمَضَانَ كَيْفَ لَمْ يُبَالِ بِهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاس.
وَانْظُرْ كَيْفَ تَهَاوَنَ النَّاسُ بِالرَّبَا وَالغِشَّ وَسَائِر المُحَرَّمَاتِ كُلّ هَذَا نَتِيجَةُ اهْمَالِ التَواصِيْ بِالحَقَّ واَلتَواصِيْ بِالصَّبِرْ وَإهْمَالِ النّصِيحَةِ وَالأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنّهي عَن المُنْكَرِ.
وَمَا قِيْمَةُ الأَوْطَانِ إِنْ لَمْ يَكُنْ بِهَا
…
رِجَالٌ بِدِيْنِ اللهِ قَامُوْا لِيَنْفَعُوْا
آخر:
…
وَقَعَنا في الخَطَايا والبَلَايَا
…
وفي زَمَن انْتِقَاضِ واشْتِبَاهِ
تَفَانَى الخَيرُ والصُّلَحَاءُ ذَلُّوْا
…
وَعَزَّ بِذُلَّهِمْ أَهْلُ السَّفَاهِ
وبَاءَ الآمِرُوُنَ بِكُلَّ عُرْفٍ
…
فَمَا عَنْ مُنكَرٍ في الناس نَاهِ
فَصَارَ الحُرُ لِلْمَمْلوَكِ عبداً
…
فَمَا لِلْحُرَّ مِنْ قَدْرٍ وجَاهِ
فَهَذَا شُغْلُهُ طَمَعٌ وجَمْعٌ
…
وَهَذا غَافِلٌ سَكْرانُ لَاهِ
لأَنّ التَّسَاهُلَ بِهَذِهِ الأُمُورِ يَفْتَحُ لِلنُّفُوسِ الخَبِيْثَةِ أبْوَابَ المعاصِىْ فَتَنَفُذُ إلى مَا تَشْتَهِي مِنْ خَبَائِثَ وَتَرى مَوْقِعَ ذلِكَ سَهْلاً عَلى النَّاسِ فَتَنْدَفِعُ إلي كلَّ مَا يَحْلُو لَها مَهْمَا كَانَ عَرِيقاً في بَابِ الرَّذِيْلةِ آمِنَةً مِنْ تَغَيُّرِ وَجْهٍ أوْ انْقِبَاضِ قَلْبٍِ لمَا تَفْعَلُ.
وإِذاً تَنْتَعِشُ الرَذِيلَةُ وَتَشْتَدُّ وَتَزْدَادُ وَيَقْوَي أَهْلُهَا وَهُم الفَسَقَةُ لأنَّ أَهْلَ الجَهْرِ بِالفَاحِشَةِ يَكُونُونَ قُدْوَةً سَيَّئَةً لِغَيْرِهِمْ. وَالنُّفُوسُ مِنْ طَبِيْعَتِهَا التَّقْلِيْدُ وَالمُحَاكَاةِ لِمَا تَرى وتسْمَعُ خُصُوصاً إِذا كَانَ مَا تَراهُ أو تَسْمَعُهُ لَذَّةً وَاطْلَاقَاً.
وَإذَا كَثُرَ جَيْشُ الرَّذِيْلَةِ في قُوَّةِ قَلَّ جَيْشُ الفَضِيْلَةِ في ضَعْفٍ، وَلا تَسْتَبْعِدَ أنْ يَتَغَلَّبَ جَيْشُ الرَّذِيْلةِ فَيُبِيْدَ جَيْشُ الفَضِيْلَةِ أوْ يَجْعَلَه في حُكْمِ المبُادِ وإنْ كَانَ لا يَزالُ بَاقٍ مِنْهُ أَفْرَادٌ.
وإذَا كانَ غَضِبَ اللهُ جَلَّ وَعَلا عَلى عِبَادِهِ فَعَاقَبَهُمْ في الدُّنيَا قَبْلَ الآخِرَةِ ولا يَنْجُوْ مِنْ بَطْشِ الله وَعَذابِهِ إلا مَنْ كَانَ في جانِبِ دِيْنهِ يَتَألَّّمُ لَهُ وَيَغضبُ عَلى مَخالِفيْهِ آمِراً لَهُمْ وَنَاهِياَ مَهْمَا نَالَهُ في سَبِيْلِ ذَلِكَ مِنْ إِيْذَاءٍ.
عَلَّمَنَا ذَلِكَ رَبُّنَا بِقَولِهِ {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} ، {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} .
قَالَ تَعَالى {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} وقال في الآية الأخري {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}
إذاً عَاقِبَةُ التَّساهُلِ في الأَمْرِ بالمعَرُوف وَالنَّهْي عَن المُنكرِ شَقَاءُ الدُّنْيَا بما يَنْزِلُ مِنْ آلامٍ لِمَعاصِيهِمْ التِيْ يَقْتَرِفُوْنَها آمِنِيْنَ مِنْ زَجْرٍ عَليهَا وَمَلامٍ وَشَقاءِ الآخِرَةِ بِمَا أعَدّ رَبُّنَا لِلّعُصَاةِ مِنْ عَذَابٍ.
قَالَ بَعْضُهُم:
مَضَي الزَّمَانُ وَعَيْشِيْ عَيْشُ تنكِيدْ
وَالعُمْرُ وَلّى وَلَمْ أَظْفَرْ بِمَقْصُوْدِ
وَالِ اليَقْينَ وَعَادِ الشَّكَ أجْمَعَهُ
عَظِمْ إلَهَكَ لا تَرْكَنْ لِمَنْقودِ
فَالخَطْبُ عَمَّ وَصَارَ النَّاسُ كُلُّهُم
مُعَظّمِيْنَ لِبِدْعِيٍّ وَمَرْدُوْدِ
هَذَا الزَّمَانُ الذِي كُنَّا نُحَاذِرُهُ
في قَوْلِ كَعْبٍ وفي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودِ
فَصَاحِبُ الدَّيْنِ مَمْقُوتٌ وَمُنْكَتِمٌ
وَصَاحِبُ الفِسْقِ فِيْهِم غَيْرُ مَظْهُودِ
كُلٌّ يُقلد في الأهْوَاءِ صَاحِبَهُ
حَتَّى الْبِلادَ لَهَا شَأْنٌ بِتَقْلِيدِ
وَالأَمْرُ بِالعُرْفِ ثمَّ النَّهْيُ عَنْ نُكُرٍ
صَارَا لَدَيْنَا بِلا شَكٍ كَمَفْقُوْدِ
إِذَا نَصَحْتَ لِشَخْصٍ قَالَ أنْتَ كَذَا
فِيْكَ العُيُوْبَ لَدَيْنَا غَيْرُ مَحْمُوْدٍ
أَضْحَى تَفَاخُرُهُمْ في حُسْنِ بِزَّتِهِمْ
وَمَنْزِلٍ حَسَنٍ عَالٍ بِتَشْيِيْدِ
وَجَمْعِ حُلْيٍ وَخُدَّامٍ وأَمْتِعَةٍ
أيَّامُهمْ فَنِيْتَ في جَمْعِ مَنْقُوْدِ
تَلْقَى الأَمِيْرَ مَعَ المَأمُوْرِ في وَهَنٍ
عَنْ رَفْعِ مَظلَمَةٍ أَوْ نَفْعِ مَنْكُوْدٍ
لِنَيْلِ دُنْيَاهُمُ كَالأُسْدِ ضَارِيَةٍ
وَكُلُّهُم في الهَوَى مُبْدٍ لِمَجْهُودِ
إذَا رَأَوْا صَالَحاً يَدْعُو لِنَيْلِ هُدَي
تَأنَّبُوُهُ بِإيْذَاءٍ وَتَبَعَيْدِ
حُكْمُ القَوَانِيْنِ قَالُوا فِيْهِ مَصْلَحَةٌ
وَفي الرَّبَا سَاعَدَتْ شِيْبٌ لِمَوْلُوْدِ
أَهْلَ الحِجَى وَالنُّهىَ مَالُوا لِمُحْدَثَةٍ
قَالُوا الشَّرِيْعَةَ لا تَكْفِيْ لِمَقْصُودِ
أَبْدَوْا لنَا بِدَعَاً مَا كُنّا نَعْرِفُهَا
وَجَانَبُوا نَهْجٍ تَوْفِيْقٍ وَتَسْدِيدٍ
تَلْقَى الهَوى وَالرَّبَا وَالجَوْرَ مُرْتَكَباً
وَالعِلْم وَالنُّصْحَ فِيْهِمْ غَيْرَ مَوْجُوْدِ
وَالهَرْجَ وَالمَرجَ تَلَقَاهَا مَرُوَّجَةً
وَالدَّيْنَ وَالسَّمْتَ في جِلْبَابِ مَرْدُوْدِ
وَقُلَّدَ الأَمْرَ لِكْعِيُّ أخُو بِدَعٍ
لِجَلِبِ أمْرٍ وَفِكْرٍ غَيْرِ مَحْمُوْدِ
.. مُحَالِفُ الشَّرَّ لَمْ يَظْفَرْ بِحَاجَتِهِ
لَوْ نَالَ خَيْرَاً قُصَارَاهُ لِتَبْدِيْدِ
البُهْتْ وَالذَّمُّ وَالايْذاءُ قَدْ وُجَدَتْ
لِكُلَّ مُنْتَسِبٍ يَوماً لِتَوْحِيْدِ
فَالدَّيْنُ في غُرْبةٍ وَالنَّاسُ أَكْثَرُهُمْ
بِخُبْثِ طَبعٍ يُوَالي كُلَّ مَطْرُوْدِ
صَارَ الذِيْ كَانَ تَأتَمُّ الهُدَاةُ بِهِ
وَتَقْتَفِيْهِ بأَمْرٍ غَيْرِ مَعْهُوْدِ
مَنْ كَانَ يَهْجُرُ ذَا بِدْعٍ وَمَظْلَمَةٍ
أَمْسَى يُبَاشِرُهَا مِنْ غَيْرِ تَرْدِيدِ
فَالكُلُّ يَسْرِيْ لِمَا يَهْوَاهُ خَاطِرُهُ
لَمْ يَلْتَفِتْ لِمَرَاضِيْ خَيْرِ مَعْبُودِ
حَقُّ القَرِيْبِ وَحَقُّ الجَارِ أَهْمَلَهُ
مَنْ كَانَ نَعْرِفَهُ بِالدَّيْنِ وَالجُوْدِ
تُجَّارُهُمْ لَمْ تُزَكَّ وَيْلُ أُمَّهِمُ
مِنْ شَرَّ عَاقِبَةٍ في يَوْمِ مَوْعُوْدِ
لَا يَرْبُ سُحْتٌ كَمَا قَالَ الإِلَهُ لَكُمْ
كَسْبُ الحَرامِ طَرِيْقٌ غَيْرُ مَحْمُودِ
أَيْنَ الفِرَارُ وكَمْ مِنْ بِدْعَةٍ حَدَثَتْ
وَسُنَّةٍ دَرَسَتْ مِنْ غَيْرِ تَعْدِيْدِ
كَمْ مِنْ طَرِائِقِ سُوْءٍ بَانَ مُنْكَرُهَا
وَمَنْهَلُ الحَق أضْحَى غَيْرَ مَوْرُوْدِ
.. فَمَا الطَّرِيْقَةُ إِلَاّ نَهْجُ أحْمَدَ مَعْ
أَصْحَابِهِ السَّادَةِ الغُرَّ الصَّنَادِيْدِ
فَأَخْلِصْ لِرَبَّكَ وَاتبْعْ نَهْجَ سَيَّدِنا
قَوْلاً وَفِعْلاً تَنَلْ فَوْزاً بِتَسْدِيْدِ
ثَعَالِبُ السُّوْءِ نَادَتْ في أرَانِبِهَا
هَذَا زَمَانُكِ عِيْشِيْ عَيْشَ مَحْمُوْدِ
مَا في الأَنَامِ حمُاَةٌ غَيْرَ مَنْ رَحَلُوا
وَمَنْ بَقِيَ عِنْدَنَا في زِيَّ مَلْحُوْدِ
وَاغُرْبَةَ الدَّيْنِ وَالإيْمَانِ في زَمنٍ
أَهْلُ الهُدى بَيْنَ مَقْهُوْرٍ وَمَظْهُوْدِ
إنْ دَامَ هَذَا وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ غَيْرٌ
لمْ يُبْكَ مَيْتٌ وَلَمْ يُفْرَحْ بِمَوْلُوْدِ
وَفَارِقِ الكُلَّ لا تَلْوِ عَلى أَحَدٍ
أَرضاً بِأَرْضٍ وَخِلَاناً بِمَوْجُوْدِ
مَنْ كَانَ نَأْمَلُهُ في كَشْفِ مُعْضِلةٍ
أَبْدَى بِعُذرٍ وَلا أَجْدَي بِمَقْصُوْدِ
فَأَيُّ أَرْضٍ بِهَا الاسْلامُ في شَرَفٍ
وَسُنَّةُ المُصْطَفَى تَزْهُوْ بِتَجْدِيْدِ
أَيْنَ الفِرَارُ وَأَيُّ الدَّارِ نَلْقَى بِهَا
وُلاتَهَا كُلَّ مَيْمُوْنٍ وَمَحْمُوْدِ
عُمْرِيْ غَدَا بَيْنَ وَاشٍ ثُمَّ مُبْتَدِعٍ
يَا رَبِّ يَسَّرْ بِأنصَارٍ لِتَوْحِيْدِ
.. يَا صَاحِ مَنْ رَامَ فَوْزاً يَمْشِيَنَ عَلى
طَرِيْقَةِ المُصْطَفَى يُحْظَى بِتَسْعِيْدِ
وَآلِهِ ثُمَّ أَصْحَابٍ لَهُ تَبَعٌ
فَازُوا بِسَبِقٍ وَفَاقُوْنَا بِتَسْدِيدِ
وَقَادَةِ الخَيْرِ كَالنُّعْمَانِ أولِهمْ
وَأَحْمَدَ وَابْنِ ادْرِيسٍ أَخَا الجُوْدِ
وَمَالِكٍ كُلِّهِمْ كَانُوا أَئِمَّتَنَا
أَئِمَّةُ النّاسِ قَدْ جَاؤُوا بِمَقْصُوْدِ
نَوَاقِضُ الدَّيْنِ عَشْرٌ تِلْكَ فَافْهَمَهَا
لِكَيْ تَنَالَ نَعيْماً غَيْرَ مَحْدُوْدِ
وَحُبَّ في اللهِ لا تَرْكَنْ لِمُبتَدِعٍ
وَاهْجُرْ رِجَالَ الخنَا حُبّاً لِمَعْبُودِ
وَلَازِمِ السُّنةَ الغَرَّاءَ تَنْجُ بِهَا
عِنْدَ الِلّقَاءِ بِفَوْزٍ غَيْرِ مَحْدُوْدِ
وَلَا تُوَافِقْ لأَهْوَاءٍ تُلَفَّقُهَا
أَقْوَامُ سُوْءٍ بِلَا شَك وَتَرْدِيْدِ
خَيْرُ الأُمُورِ أَخِيْ مَا كَانَ مَرْجِعُهُ
إلى الرَّسُولِ بِلَا شَك وَتَرْدِيْدِ
فَامْسِكْ عَلَيْهِ وَجَانِبْ كُل مُنْحَرِفٍ
لِكَيْ تَفُوزَ بِدَارِ الخُلْدِ وَالجُوْدِ
اللهُم افْتَحْ لِدُعَائِنَا بَابَ القَبُولِ وَالإجَابَةِ وَارْزُقْنَا صِدْقَ التَّوْبَةِ وَحُسْنَ الانَابةِ وَيَسَّرْنَا لِلْيُسْرَى وَجَنَّبْنَا العُسْرَى وَآتِنَا في الدُّنيا حَسَنةً وفي
الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذابَ النَّارِ وَاغْفِرْ لنا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيْعِ المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ وَصَلَّّى اللهُ عَلى نَبِيَّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ.
(فَصْلٌ)
وَأَمَّا عَلِيّ بْنُ أَبي طاَلِبٍ فَإلَيْكَ نَمَاذِجُ مِنْ عَدْلِهِ وَزُهْدِهِ وَوَرَعِهِ، قَالَ رضي الله عنه في خُطْبِتِهِ عَقِبَ البَيْعَةِ لَهُ: أيُّها النَّاسُ إنَّمَا أنَا رَجُلٌ مِنْكُم لِيْ مَا لَكُمْ وَعَلَيَّ مَا عَلَيْكُم، وإِنّي حَامِلُكُم عَلى مَنْهج نَبِيَّكُمْ وَمُنَفَّذٌ فِيْكُم مَا أُمِرْتُ بِهِ، ألَا إنَّ كُلَّ قَطِيْعَةٍ أَقْطَعَهَا عُثْمَانُ. وَكُلُّ مَالٍ أَعْطَاهُ مِنْ مَالِ اللهِ فَهُوَ مَرْدُودٌ في بَيْتِ المَالِ، فإنَّ الحَقَّ لا يُبْطِلُهِ شَئٌ وَلَوْ وَجَدْتُه قَدْ تُزُوَجَ بهِ النَّسَاء وَمُلِكَ الإمَاء وَفُرَّقَ في البُلدَانِ لرَدَدْتُه فإنَّ العَدْلَ سَعَةٌ.
وَمَنْ ضَاقَ عَلَيْهِ الحَقُّ فَالجَوْرُ عَلَيْهِ أَضْيَقُ، أَيُّهَا النَّاسُ أَلا لَا يَقُولَنَّ رِجَالٌ مِنْكُم غَداً قَدْ غَمَرَتْهُم الدُّنْيَا فامْتَلَكُوا العَقَارَ وَفَجَّرُوا الأَنْهارَ وَرَكِبُوا الخَيْلَ وَاتَّخَذُوا الوَصَائِفَ المُرَقَّعَةَ إذَا مَا مَنَعْتُهم مَا كَانُوا يَخُوضُون فِيْهِ وَأَصَرْتُهم إلى حُقُوْقهِمْ التِيْ يَعْلَمُونَ ((حَرَمَنَا ابْنُ أَبِي طَالِبٍ حُقُوقَنَا)) .
أَلَا وَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ المُهَاجِرينَ وَالأَنْصَارِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَرى أَنَّ الفَضْلَ لَهُ عَلى سِوَاهُ بِصُحْبَتِهِ فإنَّ الفَضْلَ غَداً عِنْدَ اللهِ وَثَوَابُه وَأَجْرُهُ عَلى اللهِ، ألَا وَأَيُّمَا رَجُلٍ اسْتَجَابَ لِلّهِ وَلِرَسُوْلِهِ فَصَدَّقَ مِلَّتَنَا وَدَخَلَ دِيْنَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا فَقَد اسْتَوْجَبَ حُقُوقَ الاسْلامِ وَحُدُوْدَهُ.
فَأَنْتُمْ عِبَادُ اللهِ، وَالمَالُ مَالُ اللهِ، يُقْسَمُ بَيْنَكُمْ بالسَّوِيَّةِ وَلا فَضْل فِيهِ لأَحَدٍ عَلى أَحَدٍ وَلِلْمُتَّقِيْنَ عِنْدَ اللهِ أَحْسَنُ الجَزَاءِ. وَأَخْرَج أَبُو نُعَيْمٍ في الحلْية عَنْ عَلِيّ بْنِ رَبِيْعَة الوَالِى عَنْ عَلِيّ بْنِ أَبي طَالِبٍ قَالَ جَاءَ ابْنُ النَّبَّاجِ فقالَ يَا أمِيرَ المُؤْمنينَ امْتَلأَ بَيْتُ مَالِ المُسْلِمينَ مِنْ صَفْرَاءَ وَبَيْضَاءَ فَقالَ اللهُ أكْبَرُ فَقَامَ مُتَوَكِئاً على ابْنِ النَّباجِ حَتَّى قَامَ عَلى بَيْتِ مَالِ المُسلِمِيْنَ فَقَالَ:
…
...
هَذا جَنَايَ وَخِيَارُهُ فِيْهِ
وَكُلُّ جَانٍ يَدُهُ إلى فِيْهِ
يَا ابْنَ النَّباجِ عَلَيَّ بأَشْيَاعِ الكُوْفَةِ قَال: فَنُوديَ في النَّاسِ فَأَعْطَى جَمِيْعَ مَا فِيْ بَيْتِ المُسْلِمِين وَهُوَ يَقُوْلُ: يَا صَفْرَاءُ وَيَا بَيْضَاءُ غُرِيْ غَيْرِي هَا وَهَا حَتَّى مَا بَقيَ مِنْهُ دِيْنَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ ثُمَّ أَمَرَ بِنَضْحِِهِ وَصَلي فِيْهِ رَكْعَتَينِ وَعَنْ مَجْمَع التَّيْمِي قَالَ كَانَ عَلِيّ رضي الله عنه يَكْنِسُ بَيْتَ الَمالِ وَيُصَلَّي فِيْهِ وَيَتَّخِذُهُ مَسْجِداً رَجَاءَ أنْ يَشْهَدَ لهُ يَوْمَ القِيَامَةِ.
وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ العَلا عَنْ أَبِيْهِ عَنْ جَدَّهِ قَالَ سَمِعْتُ عَلِيّ بْنَ أَبِيْ طَالبِ رضي الله عنه يَقْوُلُ مَا أصَبْتُ مِنْ فَيْئِكُم غَيْرَ هَذِهِ القَارُوْرَةِ أهْدَاهَا إلَيَّ الدَّهْقَانُ، ثُمَّ نَزَلَ إلى بَيْتِ المال فَفرَّقَ كُلَّ مَا فِيْهِ، وَلَمَّا قَرَّرَ رَسُولُ اللهِ ? الهِجْرَةَ مِنْ بَيْتِهِ الذِيْ أحَاطَ بِهِ المُشْرِكُوْنَ لِيَقتُلُوهُ إثْرَ مَكْرِهمْ بهِ في دَارِ النَّدْوَة وَضَعَ مَكَانَهُ في فِرَاشِهِ ابْن عَمَّهِ أبَا الحَسَنِ عَلِيّاً رضي الله عنه.
وَآثَرَ عَلِيٌّ أَنْ يَكُوْنَ الفِدَا لِرَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنْ
يُعَرَّضَ نَفْسَهُ لِلسُّيوْفِ سُيُوْفِ المُشْرِكِيْنَ تُقَطَّعُ لَحْمَهُ وَتُزْهِقُ رُوْحَهُ وَبِذَلِكَ فَدَى بِنَفْسِهِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَفِيْهِ يَقُولُ النّاظِمُ لِلعَقِيْدَةِ:
…
...
وَلَا تَنْسَ صِهْرَ المُصْطَفَى وَابْنَ عَمَّهِ
فَقَدْ كَانَ حَبْراً لِلْعُلُومِ وَسَيَّدَا
وَفَادَى رَسُولَ اللهِ طَوْعاً بِنَفْسِهِ
عَشِيَّةَ لمَّا بالفِرَاشِ تَوَسَّدَا
وَمَنْ كَانَ مَوْلَاهُ النَّبِيّ فَقَدْ غَدَى
عَلِيُّ لَهُ بِالحَقَّ مَوْلَىً وَمُنْجِدَا
اللَّهُمَّ نَوَّرْ قُلُوْبَنَا بِطَاعَتِكَ وَأَلْهِمْنَا ذكْرَكَ وَشُكْرَكَ وَارْزُقْنَا الانَابَةَ إليْكَ وَحُسْنَ التَّوَكُّلِ عَلَيْكَ وَآتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيْعِ المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمينَ وصَلى اللهُ عَلى مُحَمَدٍ وَعَلى آلِهِ وَصَحْبِهِ أجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
وَرُوِيَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عَلِيَّ بَنِ أَبْي طَالِبٍ رضي الله عنه جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَوْمَاً فَقالُوا لهُ لَوْ أعْطَيْتَ هَذِهِ الأمْوَالَ، وَصَلْتَ بِهَا هَؤُلاءِ الأشْرَافَ، وَمَنْ تَخَافُ فِرَاقَهُ، حَتَّى إذَا اسْتَتَبَّ لَكَ مَا تُرْيدُه عُدْتَ إلى مَا عَوَّدَكَ اللهُ مِن العَدْلِ في الرَّعِيَّةِ وَالقِسْمَة بِالسَّوِيَّةِ.
فَقَالَ أَتَأْمُرُوْنِيْ أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالجَوْرِ فِيْمَنْ وَلّيْتُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ
الاسْلَامِ وَاللهِ لَا أَفْعَلُ ذَلكَ لَوْ كَانَ هَذَا المالُ لِيْ لَسَوَّيْتُ بَيْنَهُم فِيْهِ كَيْفَ وَإِنَّمَا هِيَ أَمْوَالُهُم.
وَرُوِيَ أنَّ أخَاهُ عَقِيْلاً سَأَلَهُ شَيْئاً مِنْ بَيْتِ المَالِ فَقَالَ إذَا كَانَ يَوْمُ الجُمُعَةِ فَأتِنِيْ، فَأَتَاهُ يَومَ الجُمُعَةِ إلى المَسْجِدِ، وَقَدْ اجْتَمَع فِيْهِ النَّاسُ فَقَالَ رضي الله عنه مَا تَقُوْلُ فِيْمَنْ خَانَ هَؤُلاءِ، فَقَالَ أَقُوْلُ إِنَّهُ رَجُلُ سُوْءٍ، فَقَالَ إنَّكَ سَأَلْتَنِيْ أَنْ أَخُونَهم أوْ كَمَا قَالَ.
وَرْوِيَ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفْلَةَ قَالَ دَخَلْتُ عَلى أَمِيْرِ المُؤمِنينَ عَلِيٍّ بْنِ أَبِيْ طَالِبٍ بَعْدَ مَا صَارَ إلََيْهِ الأَمْرُ فَإذَا هُوَ جَالِسٌ عَلى مُصَلى لَيْسَ في دَارِهِ سِوَاهُ فَقُلْتُ يَا أمِيرَ المُؤمِنينَ أَنْتَ مَلِكُ الاسْلامِ، وَلا أرَى في بَيْتكَ أَثاثاً وَلا مَتَاعاً، سِوَى مُصَلّى أنْتَ جَالِسٌ عَليه فَقالَ يا ابْنَ غَفْلَةَ إنَّ اللَّبِيْبَ لا يَتَأثَّثُ في دَارِ النُّقْلَةِ، وَأمَامَنَا دارٌ هِيَ دَارُ المُقَامِ، وقَدَ نَقْلْنَا إلَيْهَا خَيْرَ مَتَاعٍ وَنَحْنُ إلَيْهَا مُنْتَقِلُونَ.
وَعَنْ بَعْضِهِمْ قَالَ رَأَيْتُ عَلِيّاً يَطُوْفُ وَبِيَدِهِ الدُّرَّةُ وَعَلَيْهِ إزَارٌ فِيْهِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ رُقْعَةً بَعْضُهَا مِنْ جِلْدٍ.
وَمِنْ كَلامِهِ رضي الله عنه ألا وَإن إمَامَكُمْ قَدْ اكْتَفى مِن الدُّنْيَا بِطِمْريْهِ وَمِنْ طَعَامِهِ بِقُرْصَيْهِ، ألا وَإنَّكُمْ لا تَقْوَوْنَ عَلى ذَلِكَ وَلَكِنْ أَعِيْنُونِيْ بِوَرَعٍ وَاجْتِهَادٍ، فَوَ اللهِ مَا كَنَزْتُ مِنْ دُنْيَاكُمْ تِبراً، وَلا أحْرَزْتُ مِنْ غَنَائِمِهَا وَفْرَاً.
إلَى أنْ قَالَ: وَلَوْ شِئْتُ لاهْتَدَيتُ الطَّرِيْقَ إلَى مُصَفَّى هَذَا العَسَلِ، وَلُبَابِ هَذَا القَمْحِ، وَنَسَائِجِ هَذَا القَزَّ، وَلَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِيْ هَوَايَ،
وَيَقُوْدُنِي جَشَعِي إلَى تَخَيُّرِ الأَطْعِمَةِ.
وَلَعَلَّ بِالحِجَاز وَاليَمَامَةِ مَنْ لَا يُدْرِكُ القُرْصَ، وَلَا عَهْدَ لَهُ بِالشَّبَع، أوَ أَبِيْتُ مِبْطَاناً وَحَوْلِي بُطُوْنٌ غَرْثَى مِن الجُوْعِ، وَأَكْبُدٌ حَرَّاءُ، فأكُونُ كَمَا
قَالَ القائِلُ:
…
وَحَسْبُكَ عَاراً أَنْ تَبِيْتَ بِبِطْنَةٍ
وَحَوْلَكَ أَكْبَادٌ تَحِنُّ إِلى القِدَّ
وَمِنْ كَلامِ عَلِيٍّ رضي الله عنه في كِتَابِ العَهدِ لِلأَشْتَرِحِيْن وَلاهُ مِصُرَ وَلْيَكُنْ أَحَبُّ الذَّخَائِرِ إلَيْكَ ذَخِيْرَةَ العَمَل الصَّالِحِ فَامْلِكْ هَوَاكَ وَشُحَّ بِنَفْسِكَ عَنْ مَا لا يَحِلُّ لَكَ، فإنَّ الشُّحَّ بالنَّفْسِ بالانْصَافِ مِنْهَا فِيْمَا أَحَبَّتْ وَكَرٍهَتْ. أ. هـ
وَقال غيره: الهوى والنفسُ يُنَتِجَانِ مِن الأخلاقِ قَبائِحَها ويُظْهِرانِ مِن الأفعالِ فضائحها.
إذا ما رَأَيْتَ المَرْءَ يَقْتَاده الهوَى
…
فَقَدْ ثَكِلَتُه عِندَ ذَاكَ ثَواكِلُهْ
وما يَرْدَعُ النَفْسُ الحَرُوْنَ عن الهَوَى
…
مِن الناسِ إلاّ حازِمُ الرأْيِ كَامِلُهْ
وقد أَشْمَتَ الأعْدَاءَ جَهْلاً بِنفَسهِ
…
وقَدْ وَجَدَتْ فِيه مَقَالاً عَوَاذِلُهْ
إذا اشْتَبَهَ الأَمْرَانِ فالخَيرُ في الذي
تَراهُ إذا كَلَّفْتَه النَّفْسَ يَثْقُلُ
فَجَانِبْ هَوَاهَا واطَّرِحْ ما تُرِيْدُهُ
مِن اللَّهْوِ واللذاتِ إنْ كُنْتَ تَعْقِلُ
…
...
…
...
وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ المَحَبَّةَ لِلرَّعِيَّةِ وَالرَّحْمَةِ بِهِمْ وَالرَّفْقَ بِهِمْ وَلَا تَكُوْنَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعَاً ضَارِيَاً يَغْتَنِمُ أكْلَهُمْ، فَإنَّمَا هُمْ صِنْفَانِ إمَّا أخٌ لَكَ فَي
الدَّيْنِ أَوْ نَظِيْرٌ لَكَ في الخُلُقِ، يَفْرُطُ مِنْهُم الزَّلَلُ وَتَعْرِضُ لَهُم العِلَلُ وَيَأْتِي عَلَى أَيْدِيْهِم العَمْدُ وَالخَطَأْ.
فأعْطِهُمْ مِنْ عَفْوِكَ، وَصَفْحِكَ، مِثْلَ الذِي تُحِبُّ أَنْ يُعْطِيْك اللهُ مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ فَإنَّكَ فَوْقَهُمْ، وَوَالِيَ الأَمْر عَلَيْكَ فَوْقَكَ وَاللهُ فَوْقَ مَنْ وَلَّاكَ، وَقَدْ اسْتَكْفَاكَ أَمْرَهُمْ، وَابْتَلَاك َبِهِمْ.
وَفِيْهِ لَا تَنْدَمَنَّ عَلَى عَفْوٍ وَلَا تَتَبَجَّحَنَّ بِعُقُوْبَةٍ وَلَا تَسْرِعَنَّ إلى بَادِرَةٍ وَجَدْتَ عَنْهَا مَندُوْحَةً.
وَلَا تَقُولَنَّ إِني امْرُؤٌ آمُرُ فَأُطَاعَ، فَإنَّ ذَلِكَ إدْغَالٌ في القَلْبِ وَمَنْهَكَةٌ لِلدَّيْنِ، وَتَقَرُّبٌ مِن الغَيْرِ.
فَإذَا أَحْدثَ لَكَ مَا فِيهِ مِنْ سُلْطَانِكَ أُبَّهَةٌ أو مَخْيَلَةٌ فَانْظُرْ إلى عِظَم مُلْكِ اللهِ فَوْقَكَ، وَقُدْرَتِهِ مِنْكَ عَلَى مَا لا تَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِكَ، فَإنَّ ذَلِكَ يُطَامِنُ إلَيْكَ مِنْ طِمَاحِكَ.
وَفِيْهِ إِيَّاكَ وَمُسَامَاتِ اللهِ في عَظَمَتِهِ، وَالتَّشَبُّه بِهِ في جَبَرُوتِهِ، فإنَّ اللهَ يُذِلُّ كُلَّ جَبَّارٍ وَيُهِيْنُ كُلَّ مُخْتَالٍ، أَنْصِف اللهَ، وَانْصِف النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ، وَمَنْ خَاصَّةَ أَهْلِكَ، وَمَنْ لكَ فِيْهِ هَوَىً مِنْ رَعِيَّتِكَ، فَإنَّكَ إنْ لَمْ تَفعَلْ ذَلِكَ تَظْلِمْ وَمَنْ ظَلَم عِبَادَ اللهِ كَانَ اللهُ خَصْمَهُ،دُوْنَ عِبَادِهِ، وَمَنْ خَاصَمَهُ اللهُ أَدْحَضَ حُجَّتَهُ.
وَلْيَكُنَ أَبْعَدُ رَعِيَّتِكَ عَنْكَ وَأَشْنَؤُهُمْ عِنْدَكَ، أَطْلَبَهُمْ لِمَعَائِبِ النَّاسِ فَإنَّ في النَّاس عُيُوبَاً الوَالِي أحَقُّ بِسَتْرِهَا، فَلَا تَكْشِفَنَّ عَنْ مَا غَابَ عَنْكَ مِنْهَا فَإنَّمَا عَلَيْكَ تَطْهِيْرُ مَا ظَهَر لَكَ، وَاللهُ يَحْكُمُ عَلَى مَا غَابَ عَنْكَ.
وفيهِ وَلَا تَعْجَلَنَّ بِتَصْدِيْقِ سَاعٍ فَإنَّ السَّاعِيْ غَاشٌّ وَإنْ تَشَبَّهَ بِالنَّاصِحِيْنَ وَلَا تُدْخِلَنَّ فِي مَشُوْرَتِكَ بَخِيْلاً يَعْدِلُ بِكَ عَن الفَضْلِ ويَعِدُكَ الفَقْرَ وَلَا جَبَانَاً يُضْعِفُكَ عَن الأمُورِ وَلَا حَرِيْصَاً يُزَيَّنُ لَكَ الشَّرَهَ بِالجَوْرِ وَلَا يَكُوْنُ المُحْسِنُ وَالمُسِيءُ عِنْدَكَ سَوَاءً بِمَنْزِلَةٍ وَاحدَةٍ فَإنَّ في ذَلِكَ تَزْهِيْدَاً لأَهْلِ الإِحْسَانِ في الإِحْسَانِ وَتَدْرِيْباً لأهْلِ الإسَاءَةِ وَألْزِمْ كُلاً مِنْهُمْ مَا ألْزَمَ نَفْسَهُ.
ثُمَّ اللهَ اللهَ في الطَّبَقَةِ السُّفْلَى مِنْ النَّاسِ الذِيْنَ لا حِيْلَةَ لَهُمْ وَالمَسَاكِينْ وَالمُحْتَاجِينَ وَالبُؤَسَاءِ وَالزَّمْنَى فَاحْفَظَ اللهَ فِيْهِمَا كَمَا اسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقِّهِ فِيْهِمْ وَاجْعَلْ لهُمْ قِسْمَاً مِنْ بَيْتِ مَالِكَ وَسهْمَاً مَنْ غَلَّاتِ صَوَافِي بَلَدِكَ.
وَتَفَقَّدْ أُمَورَ مَنْ لا يَصِلُ إِليْكَ مِنْهَمْ مِمَّنْ تَقْتَحِمُهُ العُيُوْنُ وَتَحْتَقُرُه الرِّجَالُ فَإنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ الرَّعِيَّةِ أَحّقُّ بالانْصَافِ مِنْ غَيْرِهِمْ وَتَعَهَّدْ أَهْلَ اليَتِيمِ وَأُولِي الرِّقَّةِ في السِّنِّ مِمَّنْ لا حِيلَةَ لَهُ ولا يَنْصِبُ نَفْسَهُ لِلْمَسْأَلَةِ وَذَلِكَ عَلَى الْوُلاةِ ثَقِيلٌ والْحَقُّ كُلُّهُ ثَقِيلٌ.
وَفِيهِ وَلا يَطُولَنَّ احْتِجَابُكَ عَنْ رَعِيَّتِكَ فَإِنَّ احْتِجَابَ الْوُلاةِ عَنِ الرَّعِيَّةِ شُعْبَةٌ مِن الضّيقِ وَقِلَّةُ عِلْمٍ بالأُمُورِ وَالاحْتِجَابُ مِنْهُمْ يَقْطَعُ عَنْهُمْ عِلْمَ مَا احْتَجَبُوا دُوْنَهُ فَيَصْغُرُ عِنْدَهُمْ الكَبِيْرُ وَيَعْظُمُ عِنْدَهُمْ الصَّغِيْرُ وَيَقْبُحُ الحَسَنُ وَيَحْسُنُ القَبِيْحُ وَيُشَابُ الحَقُّ بِالبَاطِلِ.
وَفِي كِتَابِهِ رحمه الله وَإيَّاكَ وَالدِّمَاءَ وَسَفْكِهَا بِغَيْرِ حِلِّها، فَإنَّهُ لَيْسَ شَئٌ أَدْعَى لِنَقْمَةٍ وَلا أعْظَمَ تَبِعَةٍ وَلَا أَحْرَى لِزَوَالِ نِعْمَةٍ وَانْقِطَاعِ مُدَّةٍ مِنْ سَفْكِ الدِمَاء بِغَيْرِ حَقِّهَا، فَلَا تُفَوِّتَنَّ سُلْطَانَكَ بِسَفْكِ دَمٍ حَرَامٍ، فَإنَّ
ذَلِكَ مِمَّا يُضْعِفُهُ وَيُوْهِنُهُ، بَلْ يُزِيْلُهُ وَيَنْقُلُهُ وَأخِّرْ السَّطْوَةَ حَتَّى يَسْكُنَ غَضَبُكَ فَتَمْلِكَ الخِيَارَ، وَلَنْ تُحْكِمَ ذَلِكَ حَتَّى تَكْثُرَ هُمُوْمُكَ بِذِكْرِ المَعَادِ إلى ربِّكَ وَالسَّلَامُ.
وَعَنْ الشَّعْبِيّ قَالَ: وَجَدَ عَليُّ بْنُ أَبي طَالِبٍ دِرْعَهُ عِنْدَ رَجُلٍ نَصْرَانِيّ فَأقْبَلَ بِهِ إلى شُرَيْحٍ يُخَاصِمُهُ قَالَ فَجَاءَ عَلِيُّ حَتَّى جَلَسَ إلى جَنْبِ شُرَيْحٍ قَالَ يَا شُرَيْحُ لَوْ كَانَ خَصْمِيْ مُسْلِمَاً مَا جَلَسْتُ إلا مَعَهُ وَلَكِنَّهُ نَصْرَانِيٌّ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا كُنْتُمْ وَإيَّاهُمْ في طَرِيْقٍ فَاضْطرُّوْهُمْ إلى مَضَايِقِهِِ وصَغِّرُوْا بِهِمْ كمَا صَغَّرَ اللهُ بِهِم مِنْ غَيْرِ أنْ تَطْغَوْا ثمَّ قَالَ: هَذَا الدِّرْعُ دِرْعِىْ وَلَمْ أَبعْ وَلَمْ أهَبْ.
فَقَالَ شُرَيْحٌ لِِلنَّصْرَانِيّ مَا تَقُولُ فِيمَا يَقُولُ أَمِيرُ المُؤمِنينَ فَقَالَ النَّصْرَانِيّ مَا الدِّرْعُ إلاّ دِرْعِيْ، وَمَا أميْرُ المُؤمِنينَ عِنْدِيْ بِكاذِبٍ فَالْتَفَتَ شُرَيْحٌ إلى أميْرِ المُؤمنينَ عَلَىّ بْنِ أِبيْ طَالِبٍ فَقَالَ لَهُ هَلْ مِنْ بَيِّنَةٍ فَضَحِكَ عَلِيٌّ رضي الله عنه، وَقَالَ أصَابَ شُرَيْحٌ مَالِي فَقَضَى شُرَيْحٌ بِهَا لِلنَّصْرَانِيّ.
قَالَ فَأَخَذَهُ النَّصْرَانِيّ وَمَشىَ خُطاً ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ أمَّا أَنَا فَأَشْهَدُ أنَّ هَذِهِ أَحْكَامُ الأنْبِيَاءِ، أمِيْرُ المُؤمِنِيْنَ يُدْنْيِنْي إلى قَاضِيْهِ يَقْضِيْ عَلَيْهِ.
أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَا اللهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُه، الدِّرْعُ وَاللهِ دِرْعُكَ يَا أَمِيْرَ المُؤمنْينَ اتَّبَعْتُ الجَيْشَ وأنْتَ مُنْطَلِقٌ إلى صِفِينَ فَخَرَجَتْ مِنْ بَعْيِركَ الأَوْرَقِ فَقَالَ أمَّا إذَا أسلَمْتَ فهِيَ لَكَ وَحَمَلَهُ عَلَى فَرَسٍ.
شِعْراً:
لَعَمْرُكَ مَا تُغْنِي المَغَانِي وَلَا الغِِنى
…
إذَا سَكَنَ المُثْرِي الثَّرَى وَثَوى بِهِ
فَجُدْ في مَرَاضِيْ اللهِ بالمالِ رَاضياً
…
بِمَا تَقْتَنِي مِنْ أجْرِهِ وَثَوَابِهِ
وَعَاصِ هَوَى النَّفْسِ الذِي مَا أَطَاعَهُ
…
أخُوْ ظَلّةٍ إلا هَوَى مِنْ عُقَابِهِ
وَحَافٍظْ عَلَى تَقْوى الآلَهِ وَخوْفِهِ
…
لِتَنْجُو مِمَّا يُتّقَي مِنْ عِقَابِهِ
وَلَا تَلْهُ عَنْ تِذْكَارِ ذَنْبِكَ وَابلُهُ
…
بِدَمْعٍ يُضَاهِيْ المُزْنَ حَالَ مُصَابِهِ
وَمَثِّل لِعَيْنَيْكَ الحِمَامَ وَوَقْعَهُ
…
وَرَوْعَةََ مُلْقَاهُ وَمَطْعَمَ صَابِهِ
وَإنَّ قُصَارَى مَنْزِلِ الحَىِّ حُفْرَةٌ
…
سَيَنْزِلُهَا مُسْتَنْزَلَا عَنْ قِبَابِه
فَواهًا لِعَبْدٍ سَاءَهُ سُوْءُ فِعْلِهِ
…
وَأَبْدَى التَّلَافِيْ قَبَلَ إغلَاقِ بَابِهِ
قَالَ عَلِيّ رضي الله عنه لِعَمَّارٍ عَلَامَ تَتَأَوَّهُ؟ إن ْكَانَ عَلَى الدُّنْيَا فَقَدْ خَسِرَتْ صَفْقَتُكَ، وإنْ كانَ علَى الآخِرَةِ فَقَدْ رَبِحَتْ تِجَارَتُكَ، يَا عَمَّارُ إنَّيْ وَجَدْتُ لَذّاتِ الدُّنْيَا في أَحْقَرِ الأشْيَاءِ:
الطَّعَامِ وَأَفْضَلُهُ العَسَلُ وَهُوَ مِنْ حَشَرَةِ،
المَشْرُوْبَاتِ، وَأَفْضَلْهَا سَائِرَةٌ في الهَوَاءِ.
المَلْبُوْسَاتُ، وَأَفْضلُهَا الحَرِيْرُ وَهُوَ مِنْ دُوْدِ القَزِّ،
المَشْمُوْمَاتُ وَأَفْضَلُهَا المِسْكُ وَهُوَ مِنْ فَأرَةٍ،
المَسْمُوْعَاتُ وَهِيَ أعْرَاضٌ سَائِرَةٌ في الهَوَاءِ.
النِّكَاحُ وَهُوَ مَبَالٌ في مَبَالٍ وَحَسْبُكَ أَنَّ المَرْأةَ تَتَزَيَّا بأَقْبَحِ شَئٍ فِيْهَا
هَذِهِ العِظَةُ تَكْشِفُ لَنَا عَنْ هَوَانِ الدُّنْيَا عَلَى اللهِ حَيْثُ جَعَلَ لَذَّاتِهَا في أحْقَرِ الأَشياء والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فَصْلٌ: ومِنَ الحِكَم المروية عنه ما يلي:
وقال رضي الله عنه: ((البخل عار والجبن منقصة والفقر يخرس الفطن عن حجته والمقل غريب في بلدته والعجز آفة والصبر شجاعة والزهد ثروة والورع جنة)) .
وقال: ((نعم القرين الرضى والعلم وراثة كريمة والآداب حلل مجددة والفكر مرآة صافية)) .
وقال: ((صدر العاقل صندوق سره والبشاشة حبل المودة والاحتمال قبر العيوب)) . وقال: ((إذا أقبلت الدنيا علي أحد أعارته محاسن غيره وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفوسه)) .
وقال: ((إذا قدرت علي عدوك فاجعل العفو عنه شكرا للقدرة عليه)) . وقال: ((إذا وصلت إليكم أطراف النعم فلا تنفروا قصاها بقلة الشكر)) .
وقال: ((من جري في عنان أمله عثر بأجله)) . وقال: ((من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه)) ويروي هذا عن رسول الله ? ((من كفارات الذنوب العظام إغاثة الملهوف والتنفيس عن المكروب)) .
وقال: ((يا ابن آدم إذا رأيت ربك سبحانه يتابع نعمه عليك وأنت تعصيه فاحذره)) . وقال: ((الحذر الحذر فوالله لقد ستر حتي كأنه غفر)) .
وقال: ((فاعل الخير خير منه وفاعل الشر شر منه)) . وقال: ((كن سمحاً ولا تكن مبذراً وكن مقدراً ولا تكن مقتراً))
وقال: ((من أسرع إلى الناس بما يكرهون قالوا فيه بما لا يعلمون)) .
وقال: طوبى لمن ذكر المعاد وعمل للحساب وقنع بالكفاف ورضي عنه الله)) .
وقال: احذروا صولة الكريم إذا جاع وصولة اللئيم إذا شبع)) . وقال: ((أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة)) . وقال: ((القناعة مال لا ينفذ)) .
وقال: ((اللسان سبع إن خلي عنه عقر)) . وقال: ((فوت الحاجة أهون من طلبها إلي غير أهلها)) . وقال: ((لا تستح من إعطاء القليل فإن الحرمان أقل منه)) .
وقال: ((إذا تم العقل نقص الكلام)) . وقال: ((من نصب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره وليكن تأدبيه بسيرته قبل تأديبه بلسانه ومعلم نفسه ومأدبها أحق بالاجلال من معلم الناس ومؤدبيهم)) . وقال: ((قيمة كل امرئ ما يحسنه)) .
وقال: (أوصيكم بخمس لو ضربتم إليها آباط الابل لكانت لذلك أهلاً لا يرجون أحد منكم إلا ربه ولا يخافن إلا ذنبه ولا يستحين أحد إذا سئل عما لا يعلم أن يقول لا أعلم ولا يستحين أحد إذا لم يعلم الشيء أن يتعلمه.
وعليكم بالصبر فان الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد ولا خير في جسد بغير رأس ولا في إيمان لا صبر معه)) .
وقال: ((من أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس ومن أصلح أمر آخرته أصلح الله له أمر دنياه ومن كان له من نفسه واعظ كان عليه من الله حافظ)) .
وقال: ((اعقلوا الخير عقل رعاية لا عقل رواية فإن رواة العلم كثير ولكن رعاته قليل)) . وقال: ((لا يترك الناس شيئًا من امر دينهم لاستصلاح دنياهم إلا فتح الله عليهم ما هو اضر منه)) . وقال: ((إضاعة الفرصة غصة)) .
وقال: ((عجبت للبخيل يستعجل الفقر الذي منه هرب ويفوته الغنى الذي إياه طلب فيعيش في الدنيا عيش الفقراء ويحاسب في الآخرة حساب الأغنياء.
وعجبت للمتكبر الذي كان بالامس نطفة ويكون غداً جيفة.
وعجبت لمن شك في الله وهو يرى خلق الله.
وعجبت لمن نسي الموت وهو يرى الموتى.
وعجبت لمن أنكر النشأة الأخرى وهو يرى النشأة الأولى.
وعجبت لعامر دار الفناء وتارك دار البقاء)) .
فيا عَجَباً مِمَّنْ يُضِيْعُ حَيَاتَهُ
…
عَلى حِفْظِ مالٍ وهو لِلْغَيْرِ يَدْخَرُ
ومَنْ تُتَوَفى نَفسُه كُلَّ ليلةٍ
…
وتَرْجِعُ فيه كَيْفَ لِلْبعْثِ يُنْكِرُ
بَلَى قَادِرٌ أنْشَأهٌ أَوَّلَ مَرَّةٍ
…
عَلَى رَدِّ رُوحٍ منه فى الجِسْمِ أَقْدَرُ
وقال: ((لا يكون الصديق صديقاً حتى يحفظ أخاه في ثلاث في نكبته وغيبته ووفاته)) . وقال: ((تنزل المعونة على قدر المؤنة)) .
وقال: ((المرء مخبوء تحت لسانه)) . وقال: ((لا يعدم الصبور الظفر وان طال به الزمان)) .
وقال: (الراضي بفعل قوم كالداخل معهم وعلى كل داخل في باطل اثمان إثم العمل به وإثم الرضى به)) .
وقال: ((من استبد برأيه هلك ومن شاور الرجال شاركها في عقولها)) .
وقال: ((من كتم سره كانت الخيرة بيده) وقال: ((الاعجاب يمنع الازدياد)) .
وقال: ((الناس أعداء ما جهلوا)) . وقال: ((زاجر المسيء بثواب المحسن)) . وقال: ((الطمع رق مؤبد)) . وقال: ((لم يذهب من مالك ما وعظك)) .
وقال: ((لا يزهدنك في المعروف من لا يشكر لك فقد يشكرك عليه من لا يستمع به وقد تدرك من شكر الشاكر اكثر مما أضاع الكافر والله يحب المحسنين)) .
وقال: ((بئس الزاد إلي المعاد العدوان على العباد)) . وقال: ((من كساه الحياء ثوبه لم ير الناس عيبه)) .
وقال: ((الكرم أعطف من الرحم)) . وقال: ((من ظن بك خيراً فصدق ظنه)) . وقال: ((الحدة ضرب من الجنون فان صاحبها يندم فان لم يندم فجنونه مستحكم)) . انتهى
اللهُم إِنَّك تَعْلَمُ سِرَّنَا وَعَلَانِيَتَنَا وتَسْمَعُ كَلَامَنَا وتَرَى مَكَانَنَا لَا يخَفْى عَليكَ شئُ مِنْ أَمْرنَا نَحْنُ البُؤَسَاءُ الفُقَراءُ إِليكَ المستغيثون المستجيرونَ بِكَ نَسْأَلُكَ أَنْ تُقَيِّظ لِدِينِكَ مَنْ يَنْصُرُهُ ويُزيلُ مَا حَدَثَ مِنْ البِدَع والمُنْكَراتِ ويُقِيْمُ عَلَمَ الجِهَادِ ويَقْمَعُ أَهلَ الزَّيْغِ والكُفْرِ والعِنَادِ ونَسْأَلُكَ أَنْ تَغْفِرَ لنَا ولِوَالِدِيْنَا وجميعِ الْمُسلمين برحمتِكَ يا أَرْحَم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
مواعظ ونصائح
وعن رجل مِن بني شيبان أن عليَّ بنَ أبِي طَالِبٍ عليه السلام خطب فقال ((الحمد لله أحمده وأستعٍينه، وأؤمِنُ بِهِ وأتوكلُ عَليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
وأن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودِين الحق لِيُزِيْحَ به
عِلَّتَكُمْ، ولِيُوقِظَ به غَفْلَتَكُم، واعلموا أنكم مَيِتّوُن ومَبْعُوثُون مِن بعد الموت ومَوْقُفُون على أعمالكم ومجَزّيُونَ بها.
فلا تَغُرنّكُم الحَياةُ الدنيا فإنها داٌر بالبلاء مَحفُوفةٌ، وبالفناء معروفة، وبِالغَدر مَوْصُوفَةٌ، كُلُ ما فيها زَوال وهي بينَ أهلِها دُوَلٌ وسِجَال، لا تَدُومُ أهوالُها.
ولن يَسْلَمَ مِن شرِها نُزَّالهُا، بينا أهلِها منها في رَخَاءٍ وسُرور، إِذا هم مِنها في بلاء وغُرُور، أَحْوَالٌ مُخْتَلِفة، وتاراتٌ مُتَصَرّفَةٌ.
العيشُ فيها مَذْمُوم، والرخاءُ فيها لا يَدُوم، وإنما أهلهُا فيها أغراضٌ مُسْتَهْدفَة تَرْمِيهم بسهامِها، وتقصِمُهم بِحِمامِها، حتفُه فيها مَقْدُور وحظُّه فيها مَوْفُور.
واعلموا عِبَادَ اللهِ وما أنتم فيه مِن زهرةِ الدُنيا على سبيل مَن قد مَضَى مِمَّنْ كان أطولَ منكم أعماراً، وأَشَدَّ مِنكم بَطْشاً، وأَعمَرَ دِياراً، وأبعدَ آثاراً.
فأصْبَحَتْ أموالُهم هامِدَةً مِن بعدِ نُقْلَتِهِم، وأَجْسَادُهُم بالِية وَدِيارُهُم خَالِية، وآثارُهُم عافِية.
فاستبدلُوا بالقُصور الْمُشَيَّدَةِ والنمارِقِ الْمُمَّهَدَةِ الصُّخُورَ والأحجارَ في القُبور التي قَدْ بُنيَ على الخراب فِناؤُهَا، وشُيِّدَ بالتراب بِنَاؤُهَا.
فَمَحَلُّهَا مُقْتَرب، وساكنها مُغْتَرب، بينَ أَهْلَ عِمَارَةٍ مُوْحِشِين، وأَهْلِ مَحَلَّةٍ مُتَشَاغِلِين، لا يَسْتأْنِسُونَ بالعُمْران، ولا يَتَواصَلُون تَواصُلَ الجِيران والإِخوان، على مَا بينهُم مِن قُرْبِ الجِوار، ودُّنُوّ الدار.
وكَيْفَ يكونُ بَيْنَهُم تَواصُلٌ وقد طَحَنَهُم بِكَلْكَلِهِ البِلَى وأَظَلَّتْهُمُ الجَنَادِلُ والثرَّى، فَأَصْبَحُوا بعد الحياة أَمْوَاتاً، وبَعْدَ غَضَارَةِ العَيشِ رُفَاتاً.
فُجِعَ بِهِم الأَحْبَاب، وسَكَنُوا التُراب، وظَعَنُوا فليسَ لهم إِياب، هَيْهَاتَ هَيْهاتَ، {كَلاّ إِنّها كَلمةٌ هو قائلها ومنِ وَرَائِهمْ بَرزَخٌ إلى يومِ يُبْعَثُون} .
وكأن قد صِرْتُم إلى مَا صَارُوا إِليه مِن البِلى، والوَحْدَةِ في دَارِ المَثْوَى، وارْتُهِنْتم في ذلك المَضْجَع، وضَمَّكُم ذلك الْمُسْتَودَع.
فكيف بكم لو قَدْ تَنَاهَت الأُمُور، وبُعثِرتِ القُبور، وحُصّلَ ما في الصُدور، وَوَقَفْتُم لِلَّتحْصِيل، بين يَدَي الملِكِ الجَليلِ.
فَطَارَتِ القُلُُُوبِ، لإِشْفَاقِها مِن سَالفِ الذُنُوبِ، وهُتَكَتْ عَنكُم الحُجُب والأَسْتَار، وظَهَرتْ مِنكم العُيوبُ والأَسْرَار.
هُنَالِكَ {تُجْزى كلُّ نَفْسٍ بِما كسَبتْ} إِن الله عز وجل يقول {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى}
وقال {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَي الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) .
جعلنا الله وإِياكم عاملين بكتابه، مُتّبعين لأوليائه، حتى يُحِلَّنا وإِياكم دَارَ المُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ، إِنه حميد مجيد.
عن الحسن، عن عليَّ عليه السلام، قال: طُوبى لِكُلِّ عبدٍ نُوَمَةٍ عَرَفَ الناسَ ولم يعرفه الناسُ، عَرَفَه اللهُ بِرِضوان.
أولئكَ مَصَابيحُ الهدى يَكْشِفُ اللهُ عنهم كُلَّ فِتنةٍ مُظْلِمة، سيدخلهم الله في رحمته منه، ليسوا بالمَذَايِيْعِ البُذُرِ ولا الجُفَاةِ الْمُرائِين. وعن عاصم بن ضَمْرة عن عليَّ عليه السلام: " ألا إن الفقيه الذي لا يُقنِّط مِن رحمةِ الله ولا يُؤَمِنُهُم مِن عذابِ الله، ولا يُرَخِّصُ لهم في مَعَاصِي الله.
ولا يَدَعُ القُرآن رَغْبَةً عنه إِلى غَيرِهِ ولا خَيْرَ في عِبَادَةٍ لا علْمَ فيها ولا خير في علم لا فَهْمَ فيه، ولا خَيْرَ في قِراءةٍ لا تَدَّبُّر فيها)) .
عن الشعبي، أَنَّ علياً عليه السلام قال (يا أيها الناس، خُذُوْا عني هؤلاء الكلمات، فلو رَكِبْتُم الْمَطِيَّ حتى تُنْضُوْهَا ما أَصبتمُ مِثْلَها) .
لا يَرْجُوَنَّ عَبْدٌ إِلا ربَّه، ولا يَخَافَنَّ إِلا ذَنْبَه، ولا يَستحِيي - إِذا لم يعَلْمَ - أن يَتَعَلمَّ، ولا يَسْتَحِيي - إِذا سُئل عما لا يعلم - أَنْ يقُولَ: لا أَعْلَم.
واعْلَمُوا أن الصَّبر مِن الإيمان بمنزلة الرأسِ مِن الجسد، ولا خَيْرَ في جَسَدٍ لا رأسَ له.
وعن أبي عبد الرحمن السُّلمَى، عن علي بن أبي طالب، قال: أوحى الله عز وجل إلى نبي من الأنبياء أنه ليس من أهل بيت ولا أهل دار ولا أهل قرية يكونون لي على ما أحب فيتحولون عن ذلك إلى ما أكره، إِلا تحولت لهم مما يحبونه إلى ما يكرهون.
وليس من أهل بيت ولا أهل دار ولا أهل قرية يكونون لي على ما أكره فيتحولون من ذلك إلى ما أحب إلا تحولت لهم مما يكرهون إلى ما يحبون.
وعن عبد الله بن عباس أنه قال: ما انتفعتُ بكلام أحد بعد رسول الله ? كانتفاعي بكتابٍ كَتَبَ عليّ بن أبى طَالبٍ، فإنه كتب إليَّّ:
((أما بعد فان المرءَ يسوءُهُ فَوْتُ ما لم يكن لِيُدْرِكَه، ويسَرَّه دَرْك ما لم يكن لِيَفُوتَه، فَلْيكُنْ سُرُوْرُكُ بما نِلتَ مِن أمرِ آخرَتكَ وليكُنْ أسَفُك على ما فَاتَكَ منها وما نِلْتَ مِن دُنْيَاكَ فَلا تُكِثرنَّ به فَرَحَاً، وما فَاتكَ مِنها فلا تأسَ عليه حَزَناً وليكن هَمُّكَ فيما بَعدَ الموت)) .
وعن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، أن علياً رضي الله عنه شيَّع جَنَازَةً، فلما وُضِعَتْ في لَحْدِهَا عَجَّ أهلُها وبَكوْها فقال: ((ما تبكون؟
أما واللهِ لو عَايَنُوا ما عَاينَ مَيِتُّهُم لأَذهَلَتْهُم مُعَاينَتَهُم عن مَيِّتِهم، وإِن له فيهم لَعَوْدَة، ثم عودة، حتي لا يُبقي منهم أحداً)) . ثم قام فقال:
أوصيكم عِبَادَ اللهِ بتقوى الله الذي ضرب لكم الأمثال، ووقَّتَ لكم الآجال، وجعل لكم أسماعاً تعي ما عَناها، وأبصاراً لتجلو عن غشاها، وأفئدة تَفْهَمُ ما دهاها.
إِن الله لم يخلقكم عبثاً، ولم يضرب عنكم الذكر صفحاً بل اكرمكم بالنعم السوابغ، وأرصد لكم الجزاء، فاتقوا الله عِبَادَ اللهِ وجُدُّوا في الطلب، وبادِروا بالعمل قَبْلَ هادم اللذات.
فان الدنيا لا يَدُوم نعِيمُها، ولا تُؤْمَنُ فَجَائِعهُا، غَرُورٌ حائِل، وسِنادٌ مائِلِ، اتَّعظوا عِبَادَ اللهِ بالعِبر، وازدَجِرُ بِالنُذُر، وانتفعُوا بالمواعظ.
فَكَأَنْ قَدْ عَلِقَتْكُم مَخَالبُ المنية، وضُمِّنْتُم بَيْتَ التُراب، ودهمتكُم مُفْظِعاتُ الأُمور بنفخةِ الصُوْر، وَبَعْثَرةِ القُبور، وسِياقِ المحشرِ، ومَوْقفِ الحساب، بِاحاطةِ قُدْرَةِ الجبار.
كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سَائِقٌ يَسُوقُها لِمَحْشَرِها، وشاهِدٌ يَشْهَد عَليها:
(وأشْرَقتِ الأَرْضُ بِنُورِ ربّها وَوُضِعَ الكتابُ وجئ بالنّبيِّينَ والشهداء وقُضِىَ بينهم بالحقّ وهم لا يُظْلَمون)
ارْتَجَّتْ لِذلك اليوم البِلاد، ونادَى المُنَادِي وحُشِرتِ الوحُوُشُ، وبَدَتِ الأَسْرار، وارتجَّتْ الأَفئِدةُ، وبُرّزتِ الجحيم قد تأجَّجَ جَحِيْمُهَا وغلا حمِيْمُهَا.
عِبَادَ اللهِ، اتقوا الله تُقْيَةَ مَنْ وَجِلَ وَحذرَ وأَبْصَرَ وازْدَجَرَ فاحْتَثَّ طَلَباً وَنَجا هَرَبَاً، وقَدَّمَ لِلْمَعَاد واسْتَظْهَرَ بالزاد.
وكفَى بالله مُنْتَقِماً ونَصِيراً، وكفَى بالكتاب خَصْماً وحَجِيْجاً، وكفَى بالجنة ثواباً، وكفَىَ بالنار وبالاً وعِقاباً، وأسْتَغْفِرُ اللهَ لي ولكم.
شِعْراً:
…
خُلِقَتَ جِسْماً ثَرِياً ثم زُرْتَ ثَرى
…
وصِرْتَ خطّاً فَطَالَتْ مُدَّةً فَمُحِيْ
قِفْ بالمنازِلِ من عَادٍ وغَيْرهِمُوا
…
فَمَا تَرَي ثَمَّ مِن شَخْصٍ ولا شَبَحِ
كُلٌ مُجَازَى بِما أسْدَاهُ مِن حَسَنٍ
…
وسَيِّئٍ فاهْجُرِ السَّؤْآت وَانْتَزِحِ
وعن كُمَيْل بن زياد قال: أخذ عليَّ بن أبي طالب بِيَدِي فأخرجني إِلى ناحية الجبّان، فلما أصْحَرنا جلس، ثم تنفس ثم قال: ((يا كُمَيْل بنَ زِياد، القلوبُ أَوْعِيةٌ فخَيْرُها أَوعَاهَا لِلْعِلْم، احْفَظْ ما أَقُولُ لَكَ.
الناس ثلاثةٌ: عَالِمٌ رباني، ومُتَعِلِّمٌ على سبيل نَجَاة، وهمَجٌ رَعَاعُ اَتْبَاعَ كلِّ نَاعِقٍ، يَميلونَ مَعَ كُلِّ رِيح، ولم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجؤوا إلى ركنٍ وثيق.
العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، العلم يزكو على العمل والمال تنقصه بالنفقة، العلم حاكم والمال محكوم عليه وصنيعة المال تزول بزواله.
ومحبة العالم دين يدان بها العلم يُكْسِبُه الطاعة في حَيَاته وجَمِيْل الأحدوثة بعد مماته، مات خُزّان المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة.
إن ها هنا وأومأ بيده إِلى صدره عِلماً لو أصبت له حَمَلَةً بلى أصبته لَقناً غير مأمون عليه، يستعمل آلة الدين للدنيا، يستظهر بنعم الله على عباده، وبحججه على كتابه.
أو معانداً لِأَهل الحق لا بصيرة له في إحيائه، ينقدح الشك في قلبه، عارض من شبهة. لا ذا ولا ذاك. أو منهوماً باللذات سلسِ القياد للشهوات، أو مُغْرىً بجمع الأموال والادّخار، ليسا من دعاة الدين في شئ، أقرب شبهاً بهم الأنعام السائمة.
كذلك يموت العلم بموت حامليه، اللهُم بلى، لن تخلو الأرض من قائم لله بحجة لكي لا تبطُل حُجَج الله وبيّناته أولئك هم الأقلون عدداً الأعظمون عند الله قدراً.
بهم يحفظ الله حججه حتى يُؤَدوْها إلى نظرائهم ويزرعونها في قلوب أشباههم، هَجم بهم العلم على حقيقة الأمر، فاستلانوا ما استوعر المتْرَفُون، وأنسِوا بما استوحش منه الجاهلون.
صحبوا الدنيا بأبدانٍ أروحها معلَّقة في المحلّ الأعلى آه آه شوقاً إلى رُؤيتهم، وأستغفر الله لي ولك إِذا شَئْتَ فَقُمْ))
وَعَنْ أَبِي أَراكة، قال: صليت مع عليّ بن أبِي طالب عليه السلام صلاة الفجر، فلما سلّم انفتل عن يمينه، ثم مكث كأن عليه كآبة، حتى إِذَا كانت الشمس على حائط المسجد قِيدَ رمح، قال وقلب يده:
((لقد رأيت أصحاب رسول الله ? فما أرى اليوم شيئاً يشبههم لقد كانوا يصبحون شُعْثاً صُفْراً غُبْراً بين أعينهم أمثال رُكَبِ المِعْزى، قد باتوا لله سُجّداً وقياماً، يتلون كتاب الله يراوحون بين جباههم وأقدامهم.
فإذا أصبحوا فذكروا الله مادَوْا كما تَميد الشجرة في يوم الريح، وهَملت أعينهم حتى تبلّ ثيابهم، والله لكأن القوم باتوا غافلين)) .
ثم نهض فما رئي مفتّرًا يضحك حتى ضربه ابن مُلْجَمٍ، والسلام.
ولا غُرْوَ بالأَشْرَافِ إِنْ ظَفِرتْ بِهِمْ
…
كِلَاب الأَعادِىْ مِن فَصِيْحٍ وأَعْجَمِ
فَحَرْبَةُ وَحْشِيٍ سَقَتْ حَمْزةَ الرَّدَى
…
ومَوْتُ عَلي مِن حُسَام ابْنِ مُلْجِمِ
شِعْراً:
…
وكيف قَرْتْ لأهل العلم أعينُهم
…
أو اسْتَلَذُوا لَذٍيِذَ النومِ أو هَجَهُوا
والموتُ يُنْذِرِهُم جَهْراً عَلانِيَةً
…
لَوْ كَان لِلْقَومِ أسْمَاعٌ لَقَدْ سَمِعُوا
والنارُ ضَاحِيةُ لا بُدَّ مَوْرِدُهُمْ
…
ولَيِس يَدْرُونَ مَن يَنْجُو ومَنْ يَقَعُ
قَدْ أمْسَتِ الطيرُ والأنعامُ آمِنةً
…
والنونُ في البَحْرِ لَنْ يَغْتَالُهَا فَزَعُ
والْأَدَمِيُّ بِهَذا الكَسْبِ مُرْتَهنٌ
…
لَهُ رَقيبٌ على الأشْرارِ يَطَّلِعُ
حَتَّى يُوافِيهِ يَوْمَ الجَمْعِ مُنْفَرداً
…
وخَصْمُهَ الجِلْدُ والأبْصَارُ والسَّمَعُ
إذَا النَّبِيونَ والأشهادُ قَائِمةٌ
…
والجنُ والإِنسُ والأَمْلاكُ قد خَشَعُوا
وطارَتِ الصُحْفُ في الأيديْ مُنشَّرةً
…
فِيهَا السَّرَائِرُ وَالأخبارُ تُطَّلعُ
فِكيفَ سَهْوُكَ والأَنباءُ وَاقِعةٌ
…
عَمَّا قَلِيْلِ ولا تَدْرِيْ بِمَا يَقَعُ
أَفِي الجِنانِ وفَوْزٍ لا انْقِطَاعَ لَهُ
…
أَمِ الجَحِيْم فلا تُبْقِيْ ولا تَدَعُ
تَهْوِيْ بِسَاكِنَهِا طَوْراً وتَرْفَعُهُمْ
…
إذا رَجَوْا مَخْرَجاً مِن غَمَّهَا قُمِعُوا
طَالَ البُكَاءُ فَلَمْ يُرْحَمْ تَضَرَعَهَمْ
…
هَيْهَاتَ لا رِقَةُ تَغِيْ ولا جَزَعَ
لِيَنْفَع العِلمُ قَبْلَ الموتِ عَالِمُهُ
…
قَدْ سَالَ قَومٌ بِهَا الرُجْعَي فما رُجِعُوا
اللهُم ارزقنا أنْفُسًا تَقْنَعُ بِعَطَائِكْ، وتَرْضَى بقَضَائِكْ، وتَصْبِرُ عَلى بَلائِكْ، وتُوْقِنُ بِلقَائكَ وتَشْكُرُ لِنعْمَائِكْ وتحَِبُ أَوْلِيائَكْ وتُبْغِضُ أعْداءَكْ واغفِرْ لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
فَصْل: ضَرَبَ ابنُ رَجَب رحمه الله مثلاً جامعاً لأحوالِ الخلقِ كُلِّهم بالنسبةِ إلى دَعوِة الرسول ? وانقسامهم في إجابةِ دعْوَتِه إلى سَابِقٍ، ومُقْتَصِدٍ، وظَالمٍ لِنَفْسِه، وبه يَظْهَر فَضْلُ العُلماءِ الربانيين على غيرهم مِن الناس أَجمعين.
فنقولُ: مَثَلُ ذلك كمثل رَسُولٍ قَدِمَ مِن بَلدِ الملِكِ الأَعظمِ فأدّى رِسالة الملِكِ إلى سَائِر البُلْدانِ، وظَهَرَ لهمِ صِدْقُه في رِسَالتِهِ.
فكانَ مَضَمُونُ الرِسالِة التي أدَّاهَا مِن الملِكِ إلى رَعِيتهِ أنَّ هَذا الملك لا إحْسَانَ أَتَمَّ مِن إحسانِهِ، ولا عَدْلَ أكملَ مِن عَدْلِهِ، ولا بَطْشَ أشدَّ مِن بَطْشِهِ.
وأنه لا بُدَّ أنْ يَستدعِي الرعيةَ كُلَّهم إليه ليُقِيمُوا عنده. فمَن قَدِمَ بإحسانٍ جَزَاهُ بإحسانه أَتَمَّ الجزاءِ، ومَن قَدِمَ عليه بإساءَةٍ جَزَاهُ بإساءَتِهِ أشدَ الجَزَاءِ.
وأنه يُحبُ كَذَا وكَذا، ويَكْرَهُ كَذا وكذا لم يَدَعْ شَيئاً مِمَّا تعْمَلُهُ الرَّعِيةُ إلَاّ أَخْبَرَهَمُ بِما يُحِبُهُ المَلِك منه وما يَكْرَهُ، وأَمَرَهُم بالتَّجَهُز والسير إلى دَارِ الملِكِ، التي فيها الإقامةُ.
وأَخْبَرَهَمُ بِخَرابِ جمْيِعِ البِلادِ سِوىَ ذلك البلدِ.
وأنَّ مَن لم يَتَجَهزْ لِلسَّيْرِ بَعَثَ إليه الملِكُ مَن يُزْعِجُهُ عن وطنِهِ وَينقلُه مِنْهُ على أَسْوَأِ حَال.
وجعَلَ يَصِفُ صِفاتِ هذا الملك الْحُسنى مِن الجَمَالِ والكَمَالِ والجَلالِ والإِفْضَالِ.
فانقسمَ الناسُ في إِجَابَةِ هذا الرسُولِ الدَّاعِي إلى الملِكِ أَقساماً عَدِيْدَةً فمِنهُم مَن صَدَّقَهُ ولم يَكُنْ لَهُ هَمٌّ إِلَّا السُؤال عَمَّا يُحِبُ هذا الملِكُ مِن الرعِيَة استصحابَه إلى دارِه عندَ السير إليه.
فاشتغلَ بتَخْلِيصِهِ لِنَفْسِهِ وبِدُعَاءِ مَن يُمكِنُهُ دُعَاؤُهُ مِن الخَلِقْ إلى ذلك، وعَمَّا يَكْرَهُهُ هَذَا الملِكُ فاجْتَنَبَهُ.
وأَمَر الناسَ باجتنابِهِ وجَعَل هَمَّهُ الأَعظَمُ السُؤال عن صِفَاتِ الملِكِ وعَظَمَتِهِ وإفْضَالِهِ، فَزَادَ بِذَلِكَ مَحبةً لِهذا الملِكِ وإجلالِهِ والشوقِ إلى لِقائِهِ.
فارتحل إِلى الملِكِ مُسْتَصْحِباً لأَنْفَس ما قَدِرَ عليه مِمَّا يُحبِه الملِكُ ويَرْتَضَيِهْ، واسْتَصْحَبَ مَعَهُ رَكْباً عَظِيْماً على مِثْلِ حَالِهِ سَارَ بهم إلى دَارِ الملِكِ.
وقَدْ عرفَ مِن جِهَةِ ذلكَ الدليلُ الذي هو الرسولُ الصادِقُ أقربَ الطرقِ التي يتوصَّلُ بالسير فِيها إلى الملِكِ، وما يَنْفَعُ مِن التزوُدِ لِلمَسِيرِ فيها. وعَمِلَ بمقتضَى ذلك في السَيْرِ هو ومَن اتبعَهُ.
فهذه صفةُ العُلماءِ الربانيين الذين اهتدوا وهدوا الخلقَ مَعَهُم إلى طريقِ اللهِ.
وهؤلاءِ يَقْدَمُونَ على الملِكِ قُدوم الغائبِ على أهلِهِ المنتظرِين لِقُدومِهِ المشتاقينَ إليه أشدَّ الشوق.
شِعْراً:
…
إِذَا خَدَمَ السُّلْطَانَ قَوْمٌ لِيَشْرفُوْا
…
بِهِ وَيَنَالُوْا كُلَّ مَا يَتَشَوَّفُوْا
خَدَمْتُ إِلهِي وَاعْتَصَمْتُ بِحَبْلِهِ
…
لِيَعْصِمِنَيْ مِنْ كُلِّ مَا أَتَخَوَّفُ
وَيُكْرِمَنِيْ بالعِلْم والحِلْمِ وَالتُّقَى
…
وَيُؤْتِينَي ما لَيْسَ يَفْنَى وَيَتْلَفُ
فَخِدْمَتُ مَنْ يُعْطِي السَّلَاطِيْنَ مُلْكَهُمْ
…
وَيَنْزَعَهُ عَنْهُمْ أَجَلُّ وأشْرَفُ
…
وقِسْمُ آخَرُونَ اشتغَلُوا بالتأهّبِ بمسيرِهِم بأنفُسِهِم إلى الملِكِ ولم يَتَفَرَّغُوا لِاسْتِصْحَابِ غَيْرهِمْ مَعَهُم.
وهذهِ صِفَةُ العُبّادِ الذين تَعَلَّموُا ما يَنفعُهُم في خاصةِ أَنفسِهِم واشتغلُوا بالعَمَلِ بمُقْتضَاه.
وقِسْمٌ آخَرُونَ تَشَبهَّوُا بأَحَدِ القِسْمَين وأَظْهَروُا لِلنَّاسِ أَنَّهُم مِنْهُم وأَنَّ قَصدَهُم التَّزوُدَ للِرَّحِيل، وإنما كان قَصدُهم استيطان دارِهِم التي هُمُ بها مُسْتَوطِنُون.
وحَالُ هؤلاءِ عند الملِكِ إذا قدمُوا عليه شَرّ حالٍ، ويقالُ لهم اطْلبُوا جِزَاءَ أَعْمَالِكم مِمَّنْ عَمِلْتُم لهَم، فليسَ لكَم عندنا مِن خَلاقٍ. وهُم أولُ مَن تُسعَّرُ بهُم مِن أهل التوحيد.
وقِسْمٌ آخَرُونَ فَهِمُوا ما أَرَادَهُ الرسولُ مِن رسالةِ الملِكِ لَكِنَّهُم غَلَبَ عَليهم الكَسَلُ والتقاعدُ عن التزود للسفر واستصحاب ما يُحِبُ الملِكِ واجتنابِ ما يَكْرَه.
وهؤلاء العُلماء الذين لا يَعْمَلُونَ بِعِلْمِهِم، وهُمْ على شَفَا هَلكَةٍ، وربما انتفعَ غيرُهُم بمعرفِتهم وَوَصْفِهم لِطَريقِ السَّيرِ، فسارَ المتعلِمُونَ فنجَوَا وانقطعَ مَن تَعلَّموا مِنهم فهلكوا.
وقِسْمٌ آخَرُونَ صَدَّقُوا الرسولَ فِيما دَعَا إليه مِن دعوة الملِكِ لَكِنَّهُم لم يَتَعَلَّمُوا منه طَرِيْقَ السير، ولا مَعْرِفة تفاصيل ما يُحبُه الملِكِ وما يَكَرَهُهُ، فساروا بأنفسِهم وَرَمَوْا أنفسَهم في طَريْقٍ شَاقَّةٍ، ومَخَاوُفَ، وقِفَارٍ وعْرَةٍ فَهَلَكَ أَكْثُرهُم، وانقطعُوا في الطريقِ، ولم يَصِلُوا إلى دَارِ الملِكِ. وهؤلاءِ الذين يَعْمَلُون بِغَير عِلْمٍ.
وقِسْمٌ لم يَهْتَمُّوا بهذِه الرِسالةِ، ولا رَفَعُوا بها رَأْساً، واشتَغَلُوا بمصَالح إقامَتِهم في أوطانِهِم التي أَخبر الرسولُ بخَرابها.
وهَؤلاءِ منهم مَن كَذَّبَ الرسولَ بالكَلية، ومنهم من صدَّقَه بالقول ولكنَهُ لم يَشْتَغِلْ بمعرفةِ مَا دَلَّ عليه ولا بالعمل بِهِ. وهَؤلاءِ عُمُومُ الخلق المعرِضُونَ عن العِلم والعَمَلِ.
ومنهم الكُفارُ والمنافقونَ ومنهم العُصَاةُ الظالمون لأَنفسِهِم فلا يَشعُرون إِلا وقد طرقَهُم داعِي الملِكِ فأجْلاهم عن أوطانِهمِ واسْتَدعَاهُم إلى الملِكِ فقَدِمُوا عَليهِ قُدُوْمَ الآبقِ على سيدِهِ الغضبانِ عليه.
فإذا تَأَملَّتَ أقسامَ الناسِ المذكوُرة لَم تَجدْ أَشَرفَ ولا أَقْربَ عندَ الملِكِ مِن العُلماء الرَّبانيين. فَهُم أفضَلُ الخلقِ بعد المَرُسَلِين صلواتُ الله وسلامُه عليهِم أجمعين أ. هـ.
خُزَّانُ وَحْي اللهِ لَمْ يُرَى غَيْرُهُم
…
أَهْلاً لِحِفْظَ كَلامِهِ المُخْتارِ
لَكِنْ عَلَيْهم أَنْ يَقُومُوْا بالذِي
…
فيهِ مِن المَشْرُوْع لِلْأَبْرَار
صِدْقٌ وإِخْلَاصٌ وحُسْنُ عِبَادَةٍ
…
وقِيَامُ لَيْلٍ مَعْ صِيَامِ نَهَارِ
وتَوَرُّعٍ وتَزَهُّدٍ وتَعَفُفٍ
…
وتَشَبُّهٍ بِخَلائِقِ الأَخْيَارِ
ودِيَانَةٍ وصِيَانَة وأَمَانَةٍ
…
وتَجَنُّبٍ لِخَلائِقِ الأَشْرارِ
وأَدَاءِ فَرْضٍ واجْتِنَاب مَحَارِمٍ
…
وإِدَامَةٍ لِلْحَمْدِ والأَذْكارِ
يَا حَامِل القُرآنِ إنْ تَكُ هَكَذا
…
فَلَكَ الهَنَاءُ بِفوْزِ عُقْبَى الدَّارِ
وَمَتَى أَضَعْتَ حُدُوْدَهُ لم تَنْتَفَِعْ
…
بحُرُوْفِهِ وسَكَنْتَ دَارَ بَوَارِ
اللهُمَّ عَلِمّنَا ما يَنْفَعُنَا وانفَعْنَا بما علَّمْتَنَا وَبَارِكْ لنا في عُلُومِنَا وأَعمالِنا وأَعمارِنا وأَصْلحْ نِياتِنَا وذُرّيَاتِنا واغفِرْ لنا ولِوَالِدينا ولجِميع المسلمين برحمْتَِك يا أرحمَ الراحمينَ وصلى اللهُ على محمدٍ وعلى آلِهِ وصحْبِهِ أجمعين.
(فَصْلٌ)
وقال ابن القيم رحمه الله في الكلام على مَرَاحِل العالِمَين وكيفيةِ قَطْعِهمِ إياَّها فْلَنْرجِعْ إليه فنقول أمَّا الأَشْقَياءُ فقطعُوا تِلكَ المراحلَ سَائِرين إلى دارِ الشقاء مُتزودين غضَبَ الربِ سُبْحَانِهِ.
ومُعَاداةَ كُتُبِهِ ورُسُلِهِ، وما بُعِثُوا به ومُعَادَاةَ أوليائِهِ والصَّدَّ عن سبيلِهِ ومحاربةَ مَن يدعو إِلى دينه ومقاتلةَ الذين يأمرون بالقسط من الناس وإقامة دعوة غير دعوة الله التي بَعَثَ بها رُسَلَه لِتَكُونَ الدعوةُ لَهُ وَحْده.
فقطعَ هؤلاءِ الأَشقياءُ مَرَاحِلَ أعمارِهِم في ضِدّ ما يُحِبه اللهُ ويُرَضاه: وأَمَّا السائِرونَ إليه فظالِمُهُم قَطَعَ مَراحِلَ عُمُرِهِ في غفلاتِهِ وايثار شهواته ولَذَّاتِهِ على مَراضِ الرب سبحانه وأوامِرِه مع ايمانه بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر.
لكن نفسه مغلوبة معه مأسورة مع حظه وهواه يعلم سوء حاله ويعترف بتفريطه ويعزم على الرجوع إلى الله فهذا حال المسلم.
وأما من زين له سوء عمله فرآه حسناً وهو غير معترف ولا مقر ولا عازم على الرجوع إلى الله والإِنابة إليه أصلاً.
فهذا لا يكاد إسلامه أن يكون صحيحاً أبداً ولا يكون هذا إلا منسلخ القلب من الإيمان ونعوذ بالله من الخذلان.
وأَما الأَبرار المقتصدون فقَطَعوا مَرَاحِلَ سَفَرهم بالاهتمام بإقامةِ أمْرِ اللهِ وعقدِ القلبِ على تَرْكِ مُخَالَفَتِهِ ومَعَاصِيه فَهمهُم مصرْوُفْةٌ إلى القيامِ بالأَعمالِ الصالحةِ واجتنابِ الأَعمالِ القبيحةِ.
فأَولُ مَا يَسْتَيقِظُ أَحَدُهُم مِن مَنامِهِ يَسْبِقُ إِلى لُبِهِ القِيامُ إلى الوُضُوءِ والصلاة كما أَمَرَهُ اللهُ فإِذا أَدّى فَرْضَ وقْتِهِ اشْتَغَلَ بالتلاوةِ والَاذكارِ إلى حِينِ تطلعُ الشمسُ فيركَعُ الضُحِى.
ثم يَذْهَبُ إلى ما أقامَهُ اللهُ فيه مِن الأسبابِ فإِذا حَضرَ فرْضُ الظُهرِ بادَرَ إلى التَّطََهُّر والسعي إلى الصف الأولِ مِن المسجدِ فَأدّى فَريْضَتَهُ كما أُمِرَ مُكَمِّلاً لها بِشَرَائِطِهَا وأركانِهِا وسُنَنِها وحَقَائِقِهَا الباطِنةِ مِن الخشوعِ والمُرَاقبةِ والحُضُورِ بين يَدَي الرب.
فَيَنْصرِفُ مِن الصلاةِ وقد أَثَّرَتْ في قلْبه وبَدَنِهِ وسائر أحْوَالِهِ آثاراً تَبْدُو على صَفَحَاتِهِ وِلِسِانِهِ وجَوارِحِهِ ويجَدُ ثَمَرتَهَا في قلبهِ من الإنابة إلى دارِ الخُلود والتجافي عن دار الغرور وقِلَّةِ التكَالبِ والحِرص على الدنيا وعَاجِلها.
قَد نهَتهُ صَلاتُه عَن الفحشاءِ والمنكر وَحَبَّبَتْ إليه لِقاءَ اللهِ ونَفَّرتْهُ عن كُلِّ قَاطِعٍ يَقْطَعُه عن اللهِ فَهُو مَغْمُومٌ مَهْمُومٌ كَأَنَّهُ في سِجْنٍ حتى تحْضُرَ الصلاةُ.
فإِذا حَضَرَتْ قَام إلى نعَيْمِهِ وسُرُورِه وقُرةِ عينه وحَيَاةِ قلبهِ فهو لا تطيبُ له الحياة إلا بالصلاةِ هذا وهُم في ذلك كُلِّهِ مُرَاعُونَ لِحْفِظِ السُنن لا يُخِلُّونَ منها بِشئٍ ما أَمكَنَهُم.
فَيَقْصُدُوْنَ مِن الوُضوءِ أكمله ومِن الوقتِ أَوَّلَه ومِن الصفوف أوَّلَهَا عن يمينِ الإمامِ أو خلفَ ظهره.
ويأتونَ بعد الفريضة بالاذكارِ المشروعةِ كالاستغفارَ ثلاثاً وقولِ اللهُم أنت السلامُ ومنكَ السلامُ تَباركتَ يا ذا الجلالِ والإِكرامِ.
وقول لا إلهَ إلا الله وحدَهُ لا شريكَ لَهُ لَهُ المُلكُ ولَهُ الحمدُ وهو على كل شئ قدير اللهُم لا مانعَ لما أَعْطَيْتَ ولا معطي لما مَنَعتَ ولا ينفعُ ذا الجدِ منكَ الجدُ لا إلهَ إلا اللهُ ولا نعبدُ إلا اياهُ له النعمةُ وله الفضلُ وله الثناءُ الحَسَنُ لا إِله إلا اللهُ مخلصينَ له الدينَ ولو كره الكافرون.
ثم يُسبِحُونَ ويحَمدُون ويُكَبِرونَ تِسعاً وتِسعينَ ويَخْتِمُونَ المائةَ بلا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، لَهُ الملكُ وله الحمدُ وهو علي كل شئٍ قدير.
ومَن أَرَادَ المزيدَ قَرأَ آيةَ الكُرسيِ والمُعَوِذَتين عَقِبَ كل صلاةٍ فإن فيها أحَادِيْث رواها النسائي وغيرهُ.
ثم يَركَعُونَ السنة على أحْسَنِ الوُجُوهِ هذا دَأبُهُم في كُلّ فَرِيْضَةٍ.
فإذا كان قِبلَ غُروبِ الشمس تَوَفَّرُوْا على أذَكارِ المسَاءِ الوَارِدةِ في السُنَةِ نَظِيْرُ أَذكارِ الصَّباحِ الوَارِدَةِ في أَوَّلِ النهارِ لا يُخِلُّونَ بِها أَبَدَاً.
فإِذا جَاءَ اللَيلُ كَانُوا فِيه على مَنازِلهِم مِن مَواهِبِ الربِ سُبْحَانَهُ التي قَسَّمَها بينَ عِبادِهِ.
فإِذا أَخَذُوا مَضَاجِعَهُم أَتَوا بِأَذْكارِ النَّوْمِ الوَارِدَةِ في السُنةِ وهي كَثيرةٌ تبلغُ نَحْواً من أَربَعِينِ.
فيأتونَ مِنها ما عَلمُوْهُ وما يَقْدِرُوْنَ عليه مِن قِراءَةِ سُوْرَةِ الاخلاص والمُعَوذَتَينِ ثلاثاً ثم يَمْسَحُوْنَ بها رُؤُوسَهُمْ وَوُجُوهَهُم وأجْسَادَهُم ثلاثاً ويَقْرَؤُونَ آيةَ الكُرْسِي وخَوَاتِيم سُورةِ البَقَرةِ ويُسَبّحُونَ ثلاثاً وثلاثين ويَحْمِدُونَ ثلاثاً وثلاثين ويُكَبرُونَ أَرْبعاً وثلاثين.
ثم يَقولُ أَحَدُهم اللَّهُمَّ إِني أسْلَمْتُ نَفِسيْ إليكَ وَوَجَّهْتُ وَجْهِي إليكَ وفَوَّضْتُ أمْرِى إِليكَ وأَلجأتُ ظَهْرِيْ إِليكَ رَغْبِةً ورَهْبَةً إليك لا مَلْجَأَ وَلا مَنْجَا مِنكَ إِلا إِليكَ. آمنْتُ بِكتَابِك الذِي أَنْزَلتَ ونَبّيكَ الذي أَرْسَلْتَ.
وإِنْ شَاءِ قَال باسمك ربِي وَضَعْتُ جنْبِي وبِكَ أرفْعَهُ فإِنْ أَمْسَكْتَ نفسِي فاغْفِرْ لَها وإِنْ أَرْسَلْتَهَا فاحْفَظْها بما تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصالِحين.
وإِن شَاءَ قَال: اللهُمَّ رَبَّ السموات السبع وَرَبَّ العَرشِ العظيمِ رَبي وَرَبَّ كُل شَئِ فالِقَ الحب والنَّوى مُنَزّلَ التوراةِ والانجيل والقرآن أعوُذ بِكَ مِن شركُلَ دابةِ أَنْتَ آخذٌ بِناصِيتِهَا.
أنْتَ الأوَّلُ فليس قَبْلَكَ شئٌ وأنتَ الآخرُ فليْسَ بَعْدَكَ شَئٌ وأَنْتَ
الظاهِرُ فَليْسَ فَوقَكَ شَئٌ وأنْتَ الباطنُ فَلَيْسَ دُوْنَكَ شَئٌ إقض عني الدينَ وأَغْنِني مِن الفقرِ.
وبالجُملَة فَلا يَزَالُ يَذْكُر الله على فراشِهِ حتى يَغْلِبَهُ النومُ فهذا نَوْمُهُ عِبَادَةٌ وزَيادَةٌ لَه مِن قُربِهِ مِن اللهِ.
فإِذا اسْتَيْقَظَ عاد إِلى عَادتِهِ الأُوْلَى وَمَعَ هذا فَهُوَ قائمٌ بِحقُوقُ العِبادِ مِن عِيادَةِ المَرْضَى وتَشْيِيْعٍ الجنائِز وإِجَابةِ الدَّعْوَةِ والمُعَاوَنَة لهم بالجاه والبدن والنفس والمال وزِيارَتِهِم وتفَقُدِهِم. وقائمٌ بِحِقُوقِ أَهْلِهِ وعِيالِه.
فَهُوَ مُنَتَقلٌ في مَنَازِلِ العُبُودِيةِ كَيفَ نقلَهُ فِيها الأَمْرُ فإِذا وَقَعَ مِنه تَفِرْيطٌ في حَقٍ مِن حُقُوقِ اللهِ بادَرَ إِلى الاعتذارِ والتوبةِ والاستغفارِ ومَحْوِهِ ومُدَاوَاتِهِ بِعَمَلٍ صَالحٍ يُزيلُ أَثَرَهُ فهذا وَظِيفَتُهُ دَائِما.أهـ.
وقال إنَ شُرورَ الدُنْيَا والآخِرَة إِنما هُو الجهلُ بما جاء به الرسول ? والخروجُ عنه.
وهذا بُرهانُ قاطع على أنْ لا نجاةَ لِلْعَبدِ ولا سَعادةَ إلا بالاجتهاد في مَعْرِفَةِ ما جَاءَ به الرسول ? علْماً والقيامِ به عَمَلاً.
وكمالُ هذه السَّعَادَةِ بأَمْرَين أَحَدُهما دعوة الخلق إليه، والثاني صَبْرُهُ واجتهادُهُ عَلى تِلكَ الدعوة.
فانحصَرَ الكمالُ لِلإِنسان على هذه المراتب الأربع.
أَحَدُهَا العلمُ بما جاء به النَّبي ?.
والثانيةُ العملُ به.
والثالثةُ نَشْرُهُ في الناس والدعوة إليه.
والرابعةُ صَبْرُهُ وجهادُهُ في أدَائِهِ ونتنفِيْذهُ ومَن طَلَعَتْ هِمَّتُهُ إلى مَعْرفَةِ ما كان عليه الصحابةُ رضي الله عنهم وأرَادَ اتِبَاعهمُ فهذِهِ طريقتُهُم حَقَا.
اللهُم إنا نسألكَ فِعْلَ الخَيْرَاتِ، وتَرْك المنكرات وحُبَّ المسَاكِيْنِ وإذا أرَدْتَ فِتْنَةً في قوم فَتَوَفَّنَا غَيْرَ مَفْتُنْونِيْنَ.
وقال رحمه الله الهجرةُ هِجْرتان: هِجرةٌ بالجسم مِن بلد إلى بلد وهذه أحكامُها معلومةٌ وليس المرادُ الكلامُ فيها.
والهجرةُ الثانيةُ الهجرةُ بالقلب إلى اللهِ ورسوِله وهذِه هِيَ المقصودُ هُنا وهذِهِ الهِجرةُ هِي الهِجرةُ الحِقيقيةُ وهي الأَصل.
وهجرةُ الجسدِ تابعةٌ لها لله وهي هِجرة تتضمنُ (مِن) و (إلىَ) فيها جسرٌ بِقَلْبِهِ مِن مَحبَةِ غير اللهِ إلى مَحَبَّتِهِ، ومِن عُبوديه غيرهِ إلى عُبوديتِهِ ومِن خَوْفِ غَيرهِ ورَجَائِهِ، والتوكَّلِ عليه إلى خوفِ اللهِ ورَجائِهِ والتوكلِ عليه ومن دعاءِ غيرهِ وسؤالِهِ، والخضوعِ له والذل له والاستكانة له إلى دعاء الله وسؤال الله والخضوع له والذل له والاستكانة له.
وهذَا بعَيِنِهِ مَعْنَى الفِرار إليه قال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} والتوحيدُ المطلوبُ مِن العبد هُو الفِرَارُ مِن الله إليه.
وتَحْتَ (مِن) و (إلى) في هذا سِرٌّ عظيمٍ من أسرار التوحيد فإنّ الفرارَ إليه سُبْحَانَهُ يَتَضَمَّنُ إِفْرادَهُ بالطلبِ والعبوديةِ فَهُو مُتَضَمِّنٌ لِتَوحِيدِ الإِلهيَّةِ التي اتّفَقَتْ عليها دَعوةُ الرسلِ صلواتُ اللهِ وسلامهُ عليهم أجمعين.
وأمَا الفِرارُ مِنه إليه فَهُو مُتَضَمّنٌ لِتَوحِيدِ الرُبُوبيةِ وإثباتِ القَدَرِ وأنَّ كُلَّ ما في الكونِ مِن المكروهِ والمَحْذُورِ الذي يَفِرُّ مِنْه العبدُ فإنما أَوْجَبَتْهُ مشِيْئةُ اللهِ وحْدَهُ.
فإن ما شاءَ كانَ وَوَجَبَ وجُودُهُ بمشيئتِهِ وما لم يَشأْ لم يَكُن وامتنعَ وجُودُهُ لِعَدمِ مَشِيئتِهِ.
فإذا فَرَّ العبدُ إلى اللهِ فإنمَا يَفِرُّ مِن شئٍ إلي شَئٍ وُجِدَ بمشيئة اللهِ وقَدِرِه فهو في الحقيقةِ فارٌ مِن اللهِ إليه.
ومِنْ تصوَّرَ هذا حَقَّ تَصَوُرِه فَهِمَ مَعْنى قولِهِ ?: ((وأعُوذُ بِكَ مِنكَ)) وقوله: ((لا مَلْجأَ ولا مَنْجَى مِنكَ إلَاّ إليكَ)) . فإنه ليسَ في الوُجُودِ شئٌ يَفرُّ مِنه ويُسْتَعَاذُ مِنه ويُلَتجأَ مِنه إِلَاّ هُوَ مِن اللهِ خَلْقاً وإِبْدَاعاً.
شِعْراً:
…
تَوَكَّلْ على الرحمنِ في كُلَّ حَاجةٍ
…
أرَدْتَ فإنَّ الله يَقْضِيْ وَيقَدِرُ
مَتَى ما يُردْ ذُو العَرشِ أَمْراً بِعَبْدَهَ
…
يُصِبْهُ، وما لِلْعَبِدِ ما يَتخَيَّرُ
وقد يَهلَكُ الإِنسانُ مِن وَجْهِ أمْنِهِ
…
وينجو بإذنِ الله مِن حَيْثُ يَحْذَرُ
فالفارُ والمُسْتَعِيْذُ فَارٌ مِمَّا أَوجَدَ قَدَرُ اللهِ ومشيئتهُ وخلقُه إلى ما تقضِيهِ رحمتُه وبرُّه ولُطفهُ واحسانُه، ففي الحقيقةِ هو هاربٌ مِن اللهِ إليه مُسْتَعْيذٌ باللهِ مِنه.
وتَصَوُّرُ هَذَيْنِ الأَمْرَيْنِ يُوجبُ لِلْعَبدِ انقطاعَ تَعَلقِ قَلْبِهِ عن غيرهِ بالَكُليةِ، خَوفاً ورَجَاءً، ومحَبةً.
فإنه إذا عَلِمَ أن الذي يفِرُ مِنه ويَسْتِعْيذُ منه إنما هو بِمَشِيئْتهِ اللهِ وقُدْرَتِهِ وخَلْقِهِ لم يَبْقَ في قلبه خَوفٌ مِن غير خالِقِه ومُوْجِدِهِ.
فَتَضَمَّنَ ذلكَ إفراد اللهِ وَحْدهُ بالخوفِ والحُب والرجاءِ. ولو كان فِرَارُهُ مِمَّا لم يَكُنْ بِمَشِيْئَتِهِ ولا قُدْرَتِهِ لكن ذلك موجباً لخوفه منه مثل ما يفر من مخلوق إلى مخلوق آخر أَقدر منه.
فإنه في حالِ فِرارِهِ من الأولِ خائِفٌ منه حَذِراً أن لا يكونَ الثاني يُفِيْدُهُ مِنه بخلاف مَا إذا كان الذي يفر إليه هُوَ الذي قَضَى وقَدَّرَ وشَاءَ ما يَفِرُ مِنه فإنهُ لا يَبْقَى في القلب التفاتُ إلى غيره.
فَتَفَطَنْ إلى هذا السِرّ العَجيْبِ في قَولِهِ ((أعُوذُ بِك مِنكَ)) و ((لا مَلْجَأَ ولا مَنْجَى منك إلا إليكَ)) فأَنَّ النَاس قد ذكروا في هذا أَقوالاً، وقُلَّ مَن تَعَرَّضَ منهم لهِذِهِ النُكْتةِ التي هِي لُبُّ الكلامِ ومقصودُه. وبالله التوفيق.
فتأمل كيفَ عادَ الأَمرُ كُلُّهُ إلى الفِرارِ مِن الله إليه وهو مَعنى الهِجرة إلى الله تعالى، ولهذا قال النبي ?، ((المهاجِرُ مَن هَجَرَ ما نهى اللهُ عنه)) .
ولهذا يَقْرنُ سبحانه وتعالى الإيمانَ والهجرةَ في غيرِ موضعٍ لِتلازُمِهمَا واقتضاءِ أحدهِمِا للآخرَ.
والمقصودُ أن الهجرةَ إلى اللهِ تتضمنُ هِجْرانَ ما يَكْرَهُهُ واتيانَ ما يُحبه ويرضاه وأصلُهُما الحبُ والبُغضُ.
فإِنّ المهاجرَ مِن شئٍ إلى شيءٍ لا بُدَّ أن يكونَ ما يُهاجِرُ إليه أحَبَّ مما هاجَرَ مِنه فَيؤثِرُ أَحَبَّ الأمَرينِ إليه على الآخر.
وإذا كان نفَسُ العبدِ وهَوَاهُ، وشيطانُه إنما يدعونَهُ إلى خِلاف ما يُحبهِ ويَرضَاهُ، وقد بُلي بِهَؤلآءِ الثلاث.
فلا يَزالُونَ يَدْعُونَه إلى غير مَرْضَاةِ رَبِهِ، وداعِي الإِيمانِ يدعُوه إلى مَرضاةِ ربِه، فعليه في كُلِ وقْتٍ أن يُهاجِرَ إلى اللهِ ولا يَنْفَكَ في هِجْرَتِه إلي الممات.
وهذِهِ الهِجِرةُ تَقْوىَ وتَضْعُفُ بحسَبَ دَاعِي المحبةِ في قلب العبدِ فإِن كان الداعِي أَقْوى كَانِتْ هذِهِ الهِجرة أَقْوَى وأَتَمُ واكملُ وإِذَا ضَعُفَ الدَاعِي ضعُفَتِ الهِجرةُ حتى لا يَكَادُ يَشْعُرَ بها عِلماً، ولا يَتَحَرَّكُ لها إرَادَةً.
والذي يَقْضِي مِنه العَجَبُ أَنَّ المرءَ يُوسِعُ الكلامَ وُيفَرِّعُ المسائلَ في الهِجرة مِن دارِ الكفر إلى دَارِ الإِسلام، وفي الهِجرة التي انْقَطَعت بالفَتْحِ، وهَذِهِ هِجْرَةٌُ عَارضَةُ. رُبَّمَا لا تَتَعَلقُ به في العُمْر أَصْلاً.
وأما هَذِهِ الهِجْرَةُ التي هِي واجبَةٌُ على مَدَى الأَنْفَاسِ لا يَحْصُلُ فِيها عِلْماً ولا إرَادَةً ومَا ذاكَ إِلَاّ لِلأَعْرَاضِ عَمَّا خُلِقَ لَهُ، والاشتغالُ بِما لا يُنْجِيْهِ وحْدَهُ عَمَّا لا يُنْجِيْه غَيْرُهُ قال تعالى:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} .
وهَذا حَالُ مَن عَشيْتَ بَصِيْرتُهُ وضَعُفَتْ مَعْرفتُه بمراتِبِ العُلُومِ والأَعْمَالِ والله المستعان. وبالله التوفيق لا إلهَ غَيْرُهُ ولا رَبَّ سِوَاهُ.
وأما الهِجْرَةُ إلى الرسُولِ ? فَعِلْمٌ لم يَبْقَ منه سِوَى اسْمُهُ ومَنْهَجٌ لم تَتْرُكْ بُنَيَّاتُ الطريقِ سِوى رَسْمَهُ، ومَحَجَّةٌ سفَتْ عليها السوافِي فَطَمَسَتْ رُسُومَهَا وغَارَتْ عليها الأَعَادِي فَغَوَّرَتْ مَنَاهِلَهَا وعُيونَها.
فسالِكُهَا غَرِيْبٌ بَينَ العِبَادِ فَرِيدٌ بَينَ كُلِّ حي وناد. بعيد على قرب المكان وحيد على كثرة الجيران.
مستوحش مما به يستأنسون، مستأنس مما به يستوحِشُوْن مقيم إذا ظعنوا، ظاعن إذا قطنوا، منفرد في طريق طلبه لا يقر قراره، حتى يظفر بإربه. فهو الكائن معهم بجسده البائن منهم بمقصده، نامت في طلب الهدى أعينهم، وما ليل مطيته بنائم، وقعدوا عن الهجرة النبوية، وهو في طلبها مشمر قائم.
يعيبونه بمخالفة أرائهم ويزرون عليه إزارءً على جهالاتهم واهوائهم، قد رجموا فيه الظنون وأحدقوا فيه العيون، وتربصوا به ريب المنون {فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ} {قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}
وقال رحمه الله الطلبُ لِقاحُ الإِيمان، فإذا اجتمعَ الإِيمانُ والطلبُ أَثْمَرَ العملَ الصالحَ.
وحسنُ الظنّ بالله لِقاحُ الافتقار والاضطرارِ إليهِ فإذا اجتمعا أَثمَرا إِجابةَ الدُعَاءِ.
والخشيةُ لقاحُ المحبةِ فإذا اجتمعا أَثْمَرا امتثالَ الأَوامِرِ، واجتنابَ النواهِي.
والصبرُ لِقاحُ اليقين، فإذا اجتمعا أَوْرَثَا الإِمامةَ في الدِيْنَ قال تعالى
وصحةُ الاقتداء بالرسول لِقاحُ الإِخلاصِ فإذا اجتمعا أَثمرَا قبولَ العملِ والاعتدادَ بِهِ.
والعملُ لِقَاحُ العِلَم فإذا اجتمعا كان الفلاحُ والسعادةُ، وإن انفردَ أَحَدَهُمَا عن الآخرِ لم يُفِد شيئاً.
والحلمُ لِقاحُ العِلم، وإنْ انفردَ أَحَدُهُمَا عن صاحبِهِ فِاتَ النفعُ والانتفاعُ.
والعزيمةُ لِقاحُ البصِيرةِ، فإذا اجتمعا نَالَ صَاحِبُهُمَا خَيْرَ الدنيا والآخِرة، وحصَل الانتفاعُ بِعلم العَالِمِ، وبَلَغَتْ بِهِ هِمتهُ مِن العلياء كُلَّ مكان وإِنْ انفردَ أَحَدُهُمَا عن صاحبِهِ فِات النفعُ والانتفاعُ.
فَتَخَلُّفُ الكَمَالاتِ إِمَّا مِن عَدَمِ البَصِيرةِ، وإِمَّا مِن عَدَمِ العَزِيمةِ، وحُسْنُ القَصْدِ لِقَاحُ لِصِحَّةِ الذُهْنِ، فإذا فُقِدَا فُقِدَا الخيرُ كَلُه، وإذا اجْتَمَعَا أثمرَا أنواعَ الخيرات.
وصِحةُ الرَّأْي لِقَاحُ الشجاعَةِ، فإِذا اجْتَمَعَا، كان النَّصْرُ والظَّفَرُ، وإِنْ فُقدَا فالخُذْلانُ والخيبة. وإن وُجدَ الرأيُ بلا شَجَاعَةٍ فالجُبنُ والعَجْزُ، وإن حَصَلتْ الشجاعةُ بلا رَأيٍ، فالتَّهَوُرُ والعَطَبُ.
والصَّبْرُ لِقَاحُ البصيرةِ، فإذا اجتمعا فالخَيرُ في اجْتِمَاعِهِمَا. قال الحسنُ: إذا شئتَ أَنْ تَرى بَصْيراً لَهُ رَأَيتَه، وإذا شئتَ أن ترى صَابراً لا بَصْيرَةَ لَه رَأَيتَه، فإذا رأَيتَ صابِراً بَصِيْراً فذاكَ.
والنصيحةُ لِقَاحُ العَقْل، فكُلما قَوِيَتِ النصيحةُ قَويَ العَقلُ واستنَارَ.
والتذكُرُ والتفكرُ كُلٌ منهما لِقَاحُ الآخَرَ، إذا اجتمعا أَنتجا الزُهْدَ في الدنيا. والرغبةَ في الآخِرةِ.
والتقوى لِقَاحُ التوكلِ، فإذا اجتمعا اسْتَقَامَ القلبُ.
ولِقَاحُ أَخْذِ أَهْبَةِ الاستعدادِ لِلِقّاءِ قِصَرُ الأَمِل، فإذا اجتمعا فالخير كله في اجتماعهما، والشر في فرقتهما.
ولِقَاحُ الهِمَّةِ العاليةِ، النيةُ الصحيحةُ فإذا اجتمعا بَلَغَ العبدُ غَايةَ المراد.
وقال لا يزال العبدُ مُنْقَطِعاً عن الله حتى تَتَّصِلَ إرَادَتُه ومحبتهُ بوجهه الأَعْلَى، والمرادُ بهذا الاتصالِ، أَن تُفْضِي المحبةُ إِليهِ، وتَتَعَّلقُ بِهِ وَحْدَهُ، فَلا يَحْجُبَها شَئٌ دُونَهُ.
وأَنَّ تَتَّصِلَ المعرفةُ بأسمائِهِ وصفاتِهِ وأفعالِهِ، فلا يَطْمِسْ نُورَها ظلمةُ التعطيل، كما لا يَطْمِسُ نُورَ المحبةِ ظُلْمَةُ الشركِ.
وأَنَّ يَتَصِل ذِكْرُهُ بِهِ سُبْحَانَهُ فَيَزُولُ بينَ الذاكر والمذكور حجَاب الغَفْلَة والتفاتُهَ في حَال الذِكْرِ إلى غيرِ مَذكُوره.
فحَيْنَئِذٍ يَتَّصِلُ الذكرُ بِهِ، ويَتصلَّ العَملُ بِأوامِرِهِ ونواهِيهِ، فيفعلُ الطاعةَ لأنه أَمَرَ بِها وأَحَبَّهَا، ويَتْركُ المَنَاهِيَ لِكَونِهِ نَهى عَنها، وأبْغَضَها.
فهذا مَعنى اتَّصالِ العملِ بأمره ونَهْيِهِ. وحَقِيْقَةُ زَوَالِ العِلَلِ البَاعِثَةِ على الفِعْل والتركِ مِن الأَعْراضِ والحُظُوظِ العاجِلةِ.
ويَتَّصِلُ التوكلُ والحبُ بِهِ بِحيْثُ يَصيْرُ وَاثِقاً بِه سُبْحَانَهُ، مُطْمَئِناً إليهِ، رَاضِياً بِحُسْن تَدْبيرِه لَه غَيْرَ مُتَّهِمٍ لَهُ في حالٍ مِن الأَحوالِ.
ويتصلُ فَقرُهُ وفاقَتُه به سُبْحَانَه دُونَ مَن سِواهُ.
ويتصلُ خَوفُه ورَجَاؤُهُ، وفَرحُه وسرُورُهُ، وابتهاجُه بِهِ وَحْدَهُ، فلا يخافُ غَيْرَهُ، ولا يَرجُوْهُ، ولا يَفْرَحُ بِهِ كلَّ الفَرَحِ ولا يُسَرُ بِهِ غايةَ السُرُوْرِ.
وإِنْ نَالَهُ بالمخلوق بعضُ الفَرَح والسُرَورِ، فَليسَ الفرحُ التامُ والسرورُ الكاملُ، والابتهاجُ والنعيمُ وقُرُةُ العين، وسُكونُ القلب إِلا بِهِ سُبْحَانَه. قَال تعالى:{الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} . الآيه
وما سِواهُ إِنْ أَعَانَ عَلَى هَذا المطلوبِ فَرح بِهِ وسُرَّ بِهِ. وإِنْ حُجبَ عنه فَهُو بالحُزْنِ بِهِ والوَحْشَةِ مِنهُ واضْطِرابِ القلَبِ بحُصُولِهِ لَهُ أَحقُ مِنه بأَنْ يَفْرَحَ بِهِ، فلا فَرْحَةَ ولا سُرُوْرَ إِلا بِهِ، أو بما أَوْصَلَ إِليهِ وأعانَ على مَرْضَاتِهِ. وقد أخبر سُبْحَانَه أنه لا يُحبُ الفَرِحِين بالدنيا وزِينَتها.
شِعْراً:
…
كَفِلْتُ لِطَالِبِ الدنيا بِهَمَّ
…
طَوْيلٍ لا يَؤُولُ إلى انْقِطَاعِ
وذُلٍّ في الحَياةِ بِغَيرِ عِزٍّ
…
وَفَقْرٍ لا يَدُلُّ عَلَى اتَّسِاعِ
وشُغْلٍ لَيْسَ يَعْقُبُهُ فَراغٌ
…
وسَعْي دَائمٍ مَعَ كُلِ سَاعِى
وحِرْصٍ لا يَزَالُ عَلَيهِ عَبْداً
…
وعَبْدُ الحِرْصِ لَيْسَ بِذِى ارْتِفَاعِ
2
وأما الفرحُ بِفَضْلِهِ ورَحَمتِهِ، وهُو الإِسلامُ والإِيمانُ والقرآنُ كما فَسَّرَهُ الصحابةُ والتابعونَ. والمقصودُ أَنَّ مَن اتَّصَلَتْ لَه هذِهِ الأمورُ باللهِ سبحانه فقد وَصَل، وإِلَاّ فَهُو مَقْطُوعٌ عَنْ رَبِّه مُتَّصَلٌ بحَظِهِ وَنفْسِهِ، فَلُبِّسَ عليه مَعْرفَتِهِ وإرَادَته وسُلُوْكِهِ.
(مَوْعِظَةٌ)
الإِخلاصُ مِسْكٌ مَصُونُ في القلبِ يُنِبّه رِيْحُهُ عَلى حَامِله، العَمَلُ صُوْرَةٌ والإِخلاصُ رُوح، إذا لم تُخْلِصْ العَملَ للهِ وحْدَهُ فلا تَتْعَب، لو قَطَعْتَ المنازِلَ لم تكن حَاجاً إلا بشُهُود الوقُوف بالموقف، ولا تَغْتَرَّ بِصُورة الطاعات.
كان أيوبُ السِختياني إذا تَحَدَّثَ فَرَقَّ قلبهُ وجَاءَ الدَّمْعُ قال ما أَشَدَّ الزُكام.
وكان إبْراهِيمُ بْنُ أدهم إذا مَرِضَ يَجْعَلُ عند رَأسِهِ ما يأكل الأَصِحَاء كَيْلَا يَتَشَّبهُ بالشاكِين.
وكان ابن أبي ليلي يصلي فإذا أحَسَّ بداخل نام على فراشه.
وكان النخعي يَقْرَأَ في المُصْحَفِ فإذا دَخل عليه أحَدُ غطاه.
وكان الواحدُ من السلف تأتيهِ العَبْرةُ والخشوعُ فيقوم خشيةَ أنْ يُفْطَنَ له.
وكان بعضُهم يُصَليِ ويبكي وإذا جاءه زائر غسَّل وَجْهَهُ عن الدموع لئلا يتنبه له.
كل هذا من الإخلاص بَلِّغْ يا أَخِى مَعْشَرَ المُرَائِينَ الذين إذا سَاهَمُوا في مَشْرُوْعٍ دِيْني نشروا أسْمَاءَهُم في الجرائد والمجلات والاذاعات والذين يُعَدِّدُوْنَ كَمْ حَجُّوْا من سَنَة وهم ما سُئِلُوْا ويَقُولون نَحنُ نعتمر كل سنة وأهلنا وأولادنا ويَجْلِس بالحرم.
ويُهْمِل عَائِلَتهُ ولا يُحَافِظ عليهم ولا يدري أَيْنَ يَذْهَبُون في الليل والنهار ورُبَّمَا حَصَل له بسببهم إثمٌ عظيم لأَن سَيئَةَ الحرم عَظيمة لَيْسَتْ كَغَيرها.
وربما كان مع ذلك المأكل والملبس والمركب حرام نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة.
وهذه المسائل قَلَّ مَن يَنَتَّبهُ لها مِن طلبة العلم فَضْلاً عن غيرهم.
فالرياءُ مِن أصْعَبِ الأَشياءِ وأخْفَاهَا وضرَرُهُ عَظِيم وقد يُحْبِطَ الأعمال.
فَيَنْبَغِي للإنسان أن يَجْعَلَهُ دَائماً نَصْبَ عَيْنَيْهِ في الصلاة والزكاة والصيام والحج وسائر الأعمال.
اللَّهُمَّ قَوِّنَا بالْيَقِينِ وَامْنَحْنَا التَّوْفِيْقَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِِدِيْنَا وَلجَمِيْعِ الْمُسْلِميْنَ بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمْينَ وَصَلَى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
شِعْراً:
…
تَبَارَكَ مَنْ شُكْرُ الوَرَى عَنْهُ يَقْصُرُ
…
لِكَوْنِ أَيَادِيْ جُوْدِهِ لَيْسَ تُحْصَرُ
وَشَاكِرُهَا يَحْتَاجُ شُكْرَاً لِشُكْرِهَا
…
كَذَلِكَ شُكْرُ الشُّكْرِ يَحْتَاجُ يُشْكَرُ
فَفِيْ كُلِّ شُكْرِ نِعْمَةٌ بَعْدَ نِعْمَةٍ
…
بغَيْر تَنَاءٍ دُوْنَهَا الشُّكْرُ يَصْغُرُ
فَمَنْ رَامَ يَقْضِيَ حَقَّ وَاجِبِ شُكْرهَا
…
تَحَمَّلَ ضِمْنَ الشُّكْرِ مَا هُو أَكْبَرُ
تُسَبِّحُهُ الحِيْتَانُ في الْمَا وفي الْفلَا
…
وُحُوْشٌ وَطَيْرٌ في الهَوَاىِ مُسَخَّرُ
وَفي الفُلْكِ وَالأَمْلَاكِ كُلٌ مُسَبَّحٌ
…
نَهَارَاً وَلَيْلاً دَائِمَاً لَيْسَ يَفْتُرُ
تُسَبَّحُ كُلُّ الكَائِنَاتِ بِحَمْدِهِ
…
سَمَاءٌ وَأَرْضٌ وَالجِبَالُ وَأَبْحُرُ
جَمْيعَاً وَمَنْ فِيْهنَّ وَالكُلُّ خَاشِعٌ
…
لِهَيْبَتِهِ العُظْمَى وَلَا يَتَكَبَّرُ
لَهُ كُلُّ ذرَّاتِ الوُجُوْدِ شَوَاهِدٌ
…
عَلَي أنهُ البَارِيْ الإِلَهُ المُصَوِّرُ
دَحَا الأَرْضَ وَالسَّبْعَ السَّمَاوَاتِ شَادَهَا
…
وَأَتْقَنَهَا لِلْعالمِيْنَ لِيَنْظُرُوا
وَأَبْدَعَ حُسْنَ الصُّنْعِ في مَلَكُوْتِهَا
…
وَفي مَلَكُوْتِ الأَرْضِ كَيْ يَتَفَكَّرُوا
وَأَوْتَدَهَا بِالرَّاسِيَاتِ فَلَمْ تَمِدْ
…
وَشقَّقَ أَنْهَارَاً بِهَا تَتَفَجَّرُ
وَأَخْرَجْ مَرْعَاهَا وَبَثَّ دَوَابَهَا
…
وَلِلْكُلَّ يَأَتِي مِنْهُ رِزْقٌ مُقَدَّرُ
مِنْ الحَبِّ ثُمَّ الأَبّ والقَضْبِ وَالكَلَا
…
وَنَخْلٍ وَأَعْنَابٍ فَوَاكِهُ تُثْمِرُ
فَأَضْحَتْ بِحُسْنِ الزَّهْرِ تَزْهُوْ رِيَاضُهَا
…
وَفِي حُلَلٍ نسْجُ الرَّبِيْع تَبَختَرُ
وَزَانَ سَمَاءً بِالمَصَابِيْحِ أَصْبَحَتْ
…
وأَمْسَتْ بِبَاهِيْ الحُسْن تَزْهُوْ وَتَزْهَرُ
تَرَاهَا إِذَا جَنَّ الدُّجَى قَدْ تَقَلَّدَتْ
…
قَلَائِدَ دُرِّيٍّ لِدُرٍّ تُحَقِّرُ
فَيَا نَاظِراً زَهْرَ البَسَاتِيْنَ دُوْنَهَا
…
أَظُنُّكَ أَعْمَى لَيْسَ لِلْحُسْنِ تُبْصِرُ
وَيَا مَنْ لَهَا إِنَّ المَحَاسِنَ كلَّهَا
…
بدَارٍ بِهَا ما لا عَلَى القَلْبِ يَخْطُرُ
وَلَا سمِعَتْ أُذْنٌ وَلَا الْعَيْنُ أَبْصَرَتْ
…
وَمَا تشْتَهِيْهِ النَّفْسُ في الحَالِ يَحْضُرُ
تَزيْدُ بَهَاءً كُلَّ حِيْنٍ وَعَيْشُهَا
…
يَزيْدُ صَفَاءً قطُّ لَا يَتَكَدَّرُ
مِنْ الدُّرَّ وَاليَاقُوْتِ تُبْنَى قُصُوْرُهَا
…
وَمِنْ ذَهَبٍ مَعْ فِضَّةٍ لَا تَغَيَّرُ
وَمَا يُشْتَهَى مِنْ لَحْمِ طَيْرٍ طَعَامُهَا
…
وَفَاكِهةٍ مِمَّا لَهُ يُتَخَيَّرُ
وَمَشْرُوْبُهَا كَافُوْرُهَا وَرَحِيْقُهَا
…
وَتَسْنِيْمُهَا والسَّلْسَبِيْلُ وَكَوْثَرُ
.. وَمِنْ عَسَلٍ وَالخَمْر نَهْرَانِ جَوْفُهَا
…
وَنَهْرَانِ أَلبَانٌ وَمَاءٌ يُفَجَّرُ
وَغَاليْ حَرِيْرٍ فُرْشُهَا وَلِبَاسُهَا
…
وَحَصْبَاؤُهَا والتُّرْبُ مِسْكٌ وَجَوْهَرُ
وَمِنْ زَعْفَرَانٍ نَبْتُهَا وَحَشِيْشُهَا
…
وَمِنْ جَوْهَرٍ أَشْجَارُهَا تِلْكَ تُثْمِرُ
فَوَاكِهُ تَكْفِيْ حَبَّةٌ لِقَبِيْلَةٍ
…
أُدِيْمَتْ أُبِيْحَتْ لا تُبَاعُ وَتُحْجَرُ
وَأَكْوَابُهَا مَنُ فِضَّةٍ لَا كَبِيْرَةٍ
…
عَلى شَارِبٍ مِنْهَا وَلا هِيَ تَصْغُرُ
وَمِنْ ذَهَبٍِ زَاهِيْ الجَمَالِ صِحَافُهَا
…
يَلِذُّ بِهَا عَيْشٌ بِهِ العَيْنُ تَقْرُرُ
وَأَزْوَاجُهُا حُوْرٌ حِسَانٌ كَوَاعِبٌ
…
رَعَابِيْبُ أَبْكَارٌ بِهَا النُّوْرُ يَزْهُرُ
هَرَاكِيْلُ خُوْدَاتٌ وَغِيْدٌ وخُرَّدٌ
…
مَدَى الدَّهْرِ لَا تَبْلَىَ وَلا تَتَغَيَّرُ
نَشَتْ عُرُباً أَتْرَاب سِنّ قََوَاصِرٍ
…
لِطَرْفٍ كَحِيْلٍ لِلْمَلاحَةِ يَفْتُرُ
عَوَالي الحُلَى وَالحَلْيُ عَيْنٌ فَوَاخِرٌ
…
زَكَتْ طَهُرَتْ مِنْ كُلِّ مَا يُتَقَذَّرُ
ثَوَتْ في خِيَامِ الدُّرِّ في رَوْضَةِ البَهَا
…
عَلى سُرُرِ اليَاقُوْتِ تَغْدُر وَتَحْضُرُ
مِلاحٌ زَهَتْ في رَوْنَق الحُسْن وَالبَهَا
…
وَكُلُّ جَمَالٍ دُوْنَهُ المَدْحُ يَقْصُرُ
وَمَا الْمَدَحُ فِيْمَنْ نَشَرُهَا وَابْتِسَامُهَا
…
يُضِيءُ الدَّيَاجِيْ وَالوُجُوْدَ يُعَطِرُ
وَمَنْ يَعْذُبُ البَحْرُ الأُجاجُ برْيقِهَا
…
وَمَنْ حُسْنَها لِلْعَالْمِينَ يُحَيَّرُ
وَمَنْ لَوْ بَدَتْ مِنْ مَشْرقٍ ضَاءَ مَغْرِبٌ
…
وَحَارَ الوَرى مِنْ حُسْنِهَا حِيْنَ تَظْهَرُ
وَمَنْ مُخُّهَا مِنْ تَحْتِ سَبْعِينَ حُلَّةً
…
يُرَى كَيْفَ مُوْفي المَدْحِ عَنْهَا يُعَبِّرُ
فَخَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا جَميعاً خِمَارُهَا
…
فأَحْسِنْ بِمَنْ تَحْتَ الخِمَارِ مُخَمَّرُ
وَأَحْقِرْ بِرَبَّاتِ المحَاسِن وَالتَّىِ
…
بِتَشْبِيْهِ أَوْصَافِ الجِنَانِ تُصَدَّرُ
فَمَا الفِضَّةُ البَيْضَاءُ شِيْبَتْ بِعَسْجِدٍ
…
وَمَا البَيْضُ مَكْنُونُ النَّعَامِ المُسَتَّرُ
بَهَاءً وَحُسْناً مَا الْيَوَاقِيْتُ في الصَّفَا
…
وفي رَوْنَقٍ مَا اللُّؤْلُؤ الرَّطْبُ يُنْثَرُ
وَمَا شَبَّهَ الرَّحْمَنُ مِنْ بَعْضِ وَصْفِها
…
بِبَيْضٍ وَيَاقُوتٍ فَذَلِكَ يُذْكَرُ
.. عَلى جِهَةِ التَّقْريْبِ لِلذُهْنِ إِذْ لَنَا
…
عُقُوْلٌ عَلَيْهَا فَهْمُ مَا يَتَعَسَّرُ
تَبَارَكَ مُنْشِيْ الخَلْقِ عَنْ سِرِّ حِكْمَةٍ
…
هُوَ اللهُ مَوْلانَا الحَكَيْمُ المُدَبّرُ
إِذَا مَا تَجَلَّى اللهُ لِلْخَلْقِ جَهْرَةً
…
تَعَالَى لِكلِّ المُؤْمِنِينَ لِيَنْظُرُوا
وَقَدْ زُيِّنَتْ جَنَّاتُ عَدْنٍ وَزُخْرِفَتْ
…
نَسُوا كلَّ مَا فِيْهَا لِمَا مِنْهُ أَبْصَرُوا
جَمَالاً وَوَصْفاً جَلَّ لَيْسَ كَمِثْلِهِ
…
وَفَضْلاً وَإِنْعَامَاً يَجِلُّ وَيكْبُرُ
نَعِيْمٌ وَلَذَّاتٌ وَعِزٌّ وَرِفْعَةٌ
…
وَقُرْبٌ وَرِضْوَانٌ وَمُلْكٌ وَمَتْجَرُ
بِمَقْعَدِ صِدْقٍ فِي جِوَارِ مَلِيْكِهِمْ
…
هَنْيئاً لِمَسْعُوْدٍ بِذَلِكَ يَظْفُر
أَيَا سَاعَةً فِيهَا السَّعَادَاتُ يُجْتَلَى
…
عَلى وَجْهِهَا دُرُّ العِنَايَاتِ يُنْثَرُ
وَيَا سَاعةً فِيْهَا المفَاخِرُ تُرْتَقَى
…
عُلاهَا وَخَلْعَاتُ الكِرَامِ تُنَشَّرُ
أَلَا بَائِعُ الفَانِيْ الحَقِيْر بِبَاقي
…
خَطيْرٍ وَمُلكٍِ لَيْسَ يَبْلَي وَيَدمُرُ
أَلَا مُفْتَدٍ مِنْ نَارَ حَرٍّ عَظِيْمَةٍ
…
أُلوْفُ سِنْين تِلْكَ تُحْمَى وَتُسْعَرُ
لهَا شَرَرٌ كَالقَصْر فِيْهَا سَلاسِلٌ
…
عِظامٌ وَأَغلالٌ فَغُلُّوْا وَجُرْجِرُوا
عُصَاةٌ وَفُجَّارٌ وَسَبْعٌ طِبَاقُهَا
…
وَسَبْعِينَ عَاماً عُمْقُهَا قَدْ تَهَوَّرُوا
وَحَيَّاتُها كَالبُخْتِ فِيْهَا عَقَارِبٌ
…
بِغَالٌ وضَرْبٌ وَالزَّبَانِيُ يَنْهَرُ
غَلِيْظٌ شَدِيْدٌ في يَدَيْهِ مَقَامِعٌ
…
إِذَا ضَرَب الصُّمَّ الجِبَالَ تَكَسَّرُ
وَمَطْعُومُهُمْ زَقُّوْمُهَا وَشَرَابُهُمْ
…
حَمِيْمٌ بِهَا أَمْعَاؤُهُمْ مِنْهُ تَنْدُرُ
وَيُسْقَونَ أَيضاً مِنْ صَدِيْدٍ وَجِيْفَة
…
تَفَجَّرُ مِنْ فَرْجِ الذِيْ كَانَ يَفْجُرُ
وَقَدْ شَابَ مِنْ يَوْمٍ عَبُوسٍ شَبَابُهُم
…
لِهَوْلٍ عَظِيْم لِلْخَلائِقِ يُسْكِرُ
فَيَا عَجَباً نَدْرِيْ بِنَارٍ وَجَنَّةٍ
…
وَلَيْسَ لِذَيْ نَشْتَاقُ أَوْ تِلْكَ نَحْذَرُ
إِذَا لَمْ يَكُنْ خَوْفٌ وشَوْقٌ وَلا حَيَا
…
فَمَاذَا بَقِيْ فِيْنَا مِنَ الخَيْر ُيذْكَرُ
وَلَيْسَ لِحرَّ صَابِرْينَ وَلا بَلَا
…
فَكَيْفَ عَلى النِّيْرَانِ يَا قَوْمُ نَصُبِرُ
.. وَفَوْتُ جِنَانِ الخُلْدِ أَعْظَمُ حَسْرَةً
…
عَلى تِلْكَ فَلْيَسَتَحْسِرِ المُتَحَسِّرُ
فَأُفًّ لَنَا أُفٍّ كِلابُ مَزَابِلٍ
…
إلى نَتْنِهَا نَغْدَوْا وَلا نَتَدَبَّرُ
نَبِيْعُ خَطيراً بالحقيرِ عِمَايَة
…
وَلَيْسَ لَنَا عَقْلٌ وَلُبٌّ مُنَوَّرُ
فَطُوْبَي لِمنْ يُؤْتَى القَنَاعَةَ وَالتُّقَى
…
وَأَوْقَاتُهُ في طَاعةِ اللهِ يَعْمُرُ
فَيَا أَيُّهَا الأَخْوَانُ مِنْ كُلِّ سَامعٍ
…
لَهُ فَهْمُ قَلبٍ حَاضرٍ يَتَذَكَّرُ
أَلَا إنَّ تَقْوَى اللهِ خَيْرُ بِضَاعَةٍ
…
لِصَاحِبها رِبْحٌ بِهَا لَيْسَ يَخْسَرُ
وَطَاعَتُهُ لِلْمُتَّقِى خَيْرُ حِرْفَةٍ
…
بِهَا يَكْسِبُ الخَيْرَاتِ وَالسَّعْيُ يُشْكَرُ
إِذَا أَصْبح البَطَّالُ في الحَشْرِ نَادِماً
…
يَعُضُّ عَلى كَفٍّ أَسىً يَتَحسَّرُ
فَطُوْبَى لِمَنْ يُمْسِيْ وَيُصْبحُ عَامِلاً
…
عَلى كُلُّ شَئٍ طَاعَة اللهِ يُؤْثِرُ
بِهَا يَعْمُرُ الأَوْقَاتَ أَيَّامَ عُمْرِهِ
…
يُصَلّيْ وَيَتْلُو لِلكِتَابِ وَيَذْكُرُ
وَيَأْنَسُ بِالمَوْلَى وَيَسْتَوْحِشُ الوَرَى
…
وَيَشْكُرُ في السَّرَّا وَفي الضَّرَّا يَصْبِرُ
وَيَسْلُوْ عَنَّ اللَّذَّاتٍ بِالدُّوْنِ قَانِعُ
…
عَفِيْفٌ لَهُ قَلبٌ نَقِيُّ مُنَوَّرُ
حَزِيْنٌ نَحِيْلٌ جِسْمُهُ ضَامِرُ الحَشَا
…
يَصُوْمُ عَنَّ الدُّنْيَا عَلى المَوْتِ يُفْطِرُ
إِذَا ذُكِرَتْ جَنَّاتُ عَدْنٍ وَأَهْلُهَا
…
يَذُوْبُ اشْتِيَاقاً نَحْوَاهَا وَيُشَمِّرُ
وَيَعْلُو جَوَادَ العَزْمِ أَدْهَمَ سَابِقاً
…
وَأَبْيَضَ مَجْنُوباً عَن النُّوْرِ يُسْفِرُ
فَأَدْهَمُ يَسْقِيْ مَاءَ عَيْنٍ وَأَبْيَضٌ
…
لِصَبْرٍ عَلى صَوْمِ الهَجِيْرِ يُضَمَّرُ
وَيَرْكُضُ في مَيْدَانِ سَبْقٍ إلى العُلا
…
وَيَسْرِىْ إلى نَيْلِ المَعَاليْ وَيَسْهَرُ
فَمَجْدُ العُلَا مَا نَالهُ غَيْرُ مَاجِدٍ
…
يُخَاطِرُ بِالرُّوْحِ الخَطِيْرِ فَيَظْفُرُ
سَأَلْتُ الذِيْ عَمَّ الوُجُوْدَ بِجُوْدِهِ
…
وَمَنْ مِنْهُ فَيْضُ الفَضْل لِلْخَلْقِ يَغْمُرُ
يَمُنُّ عَلَيْنَا فِي قَبُولِ دُعَائِنَا
…
وَيُلْحِقُنَا بِالصَّالِحِيْنَ وَيَغْفِرُ
وَأَزَكْى صَلاةِ اللهِ ثُمَّ سَلامِهِ
…
عَلى المُصْطَفَى مَا لَاحَ فِيْ الأُفْقِ نَيِّرُ
(فَصْلٌ)
في ذِكْرِ بَعْضِ سِيْرَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيْزِ
وَزُهْدِهِ وَوَرَعِهِ وَعَدْلِهِ
انْصَافُهُ مِنْ نَفْسِهِ وَأَقَارِبِه رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى فَعِنْدَمَا تَوَلَّى أَخَذَ جَوْاهَرَ زَوْجَتِهِ وَحُلِيّهَا فِيْمَا أَخَذَ فَأَوْدَعَهُ بَيْتَ المَالِ حَتَّى إِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِ المُسْلِمُونَ أَنْفَقَهُ عَلَيْهِمْ.
وَعِنْدَمَا أَحَسَّ أَنَهَا لَمْ ترض أَوَّلَ الأَمْرِ كُلَّ الرِّضَا بِمَا فَعَلَ خَيَّرَهَا بَيْنَ أَنْ تُقِيْمَ عِنْدَهُ وَبَيْنَ أَنْ تَلْحَقَ بِأَهْلِهَا فَرضِيَتْ أَنْ تُقِيْمُ عِنْدَهُ وَأنْ تَدْفَعَ بِحُلِيَّهَا وَجَوَاهِرِهَا إلى بَيْتِ المَالِ ثُمَّ لا تَرُدُّهُ إِلَيْهَا أبَداً. وَمَا زَالَ عُمَرُ في زَوْجَتِهِ حَتَّى أَثَّرَ عَلَيْهَا وَاقْتَدَتْ بِهِ في الوَرَعِ وَالزُّهْدِ رضي الله عنهما. وَكَمَا فَعَل عُمَرُ مَعَ زَوْجَتِهِ فَاطِمَةَ فَعَلَ بِأَوْلَادِهِ مِنْ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ.
أَرْسَلَتْ إِلَيْهِ ابْنَتُهُ بلؤلوةٍ وَقَالَتْ لَهُ: إِنْ رَأَيْتَ أَنْْ تَبْعَثَ لِيْ بأخْتِهَا حَتْى أَجْعَلَها في أُذِنَيَّ فأرَسْلَ لَهَا بِجَمْرَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ لَها إن اسْتَطعْتِ أنْ تَجْعَلِي هَاتَينِ الجَمْرَتَيْنِ في أذُنَيكِ بَعثتُ إلَيْكِ بِأخْتِهَا.
وَبَلَغَ عُمَرَ أَنَّ ابْنَهُ اشْتَرَى فَصَّ خَاتَمٍ بِأَلْفِ درْهَمٍ فَكَتَبَ عَزِيْمَةٌ مِنِّيْ عَليْكَ إلا بِعْتَ هَذا الخَاتَمَ الذِي اشْتَرَيْتَهُ بِألْفِ درْهَمٍ وَتَصَدَّقْتَ بثَمَنِهِ اشْتَرَيْتَ آخَرَ بِدْرَهمٍ نَقَشَتْ عَلَيْهِ: رَحِمَ اللهُ امْرَأً عَرَفَ قَدْرَ نَفْسِهِ. وَالسَّلامُ.
وَجَمَعَ يَوْماً رُؤَسَاءِ النَّاسِ فَخَطَبَهُم فَقَالَ: إِنَّ فَدَكَ كَانَتْ بيَدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَضَعُهَا حَيْثُ أَرَاهُ اللهُ ثُمَّ وَليهَا أبو بَكرٍ وَعُمَرُ كَذلِكَ قالَ الأَصْمَعِيُّ وَمَا أدْرَي مَا قَال في عُثْمَانَ ثمْ قَال أَنَّ مَرْوَانَ أقْطَعَهَا فَحَصَل لِيْ مِنْهَا نَصِيْبٌ وَوَهَبَنِيْ الوَلِيْدِ وَسُلْيمَانُ نَصِيْبَهُما وَلمْ يَكُنْ من مالي شىء أرده أغلى منها وقد رددتها فى بيت المال على ما كانت عليه فى زَمانِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم.
قال فَيئِسَ النَّاسُ عِنْدَ ذَلِكَ مِنَ المَظَالِمَ ثُمَّ أَمَرَ بأمْوَالِ جَمَاعَةً مِنْ بَنِيْ أُمَيَّة فَرَدُّوْهَا إلى بَيْتِ المالِ وَسَمَّاهَا أمْوَالُ المظالِم فاسْتَشَْفعَ إِلْيهِ النَّاسُ وتَوَسَّلُوا إِلَيْهِ بعَمتِهِ فَاطِمَةِ بِنْتِ مَرْوانَ فَلمْ يَنْجَعْ فِيْهِ شَئٌ.
وَقَالَ لَهُم لَتَدَعُني وَإِلَاّ ذَهَبْتُ إلى مَكَّةَ فَنَزَلْتُ عَنْ هَذَا الأَمْرِ لِأَحَقِّ النَّاسِ بِهِ.
وَقَدْ اَجْتَهَدَ رحمه الله في مُدَّةِ وِلايَتِهِ مَعَ قِصَرِهَا حَتَّى رَدَّ المظَالِمَ وَصَرَفَ إلى كُلِّ ذِيْ حَقًّ حَقّهُ.
وَكَانَ مُنَادِيْهِ في كُلِّ يَوْمٍ يُنَادِيْ أَيْنَ الغَارِمُوْنَ أَيْنَ النَّاكِحُوْنَ أَيْنَ المسَاكِيْنُ أَيْنَ اليَتَامَى حَتَّى أَغَني كلاًّ مِنْ هَؤُلاءِ فَرَحْمَةُ اللهِ عَلى تِلْكَ الرُّوْحِ المَطْبُوعِ عَلى العَدْل والصدق والوَرَعِ والزُّهْدِ.
وقَالَتْ زَوْجَتُهُ فَاطِمَةُ دَخَلْتُ عَلَيْهِ يَوْماً وَهُوَ جَالِسٌ في مُصَلَاّهُ وَاضِعاً خَدَّهُ على يَدِهِ وَدُمُوُعُه تَسِيْلُ على خَدَّيْهِ فقُلتُ مَالَكَ فَقَالَ وَيْحَكِ يَا فَاطِمَة قد وُلِّيْتُ مِنْ أَمْرِ هذِهِ الأُمَّةِ مَا وُلِّيْتُ فَتَفَكَّرْتُ في الفَقِيْرِ الجَائِعِ وَالمظْلُوْمِ المَقْهُوْرِ وَالغَرِيْبِ وَالأَسِيْرِ وَالشَّيْخِ الكَبِيْرِ وذِي العِيَالِ الكَثِيْرِ وَالمرَيْض الضَّائِع والعَارِيْ المَجْهُودِ واليَتِيْمِ المكْسُوْرِ وَالأَرْمَلةِ الوَحِيْدَةِ والْمَالُ قَليْلٌ وَأَشْبَاهُهُم في أقطارِ الأرْضِ وَأَطْرَافِ البِلَادِ.
فعَلِمْتُ أَنَّ رَبَّيْ عز وجل سَيَسْأَلُنِي عَنْهُم يَوْمَ القِيَامَةِ وَأَنَّ خَصْمِيْ دُوْنَهُم محمد صلى الله عليه وسلم فخَشِيْتُ أنْ لا يَثْبُتَ لِيْ حُجِّةٌ عِنْدَ خُصُوْمَتِهِ فَرَحِمْتُ نَفْسِيْ فَبكيْتُ، قَالُوا: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ سِوَى ثَوْبٍ وَاحِدٍ فَكَانَ إِذا غَسَلُوهُ جَلَسَ فِي المَنْزِلِ حَتَّى يَيْبَسَ. قَالُوا: وَدَخَلَ مَرَّةً عَلَى امْرَأَتِهِ فسَألَها أَنْ تُقْرِضَهُ دِرْهَماً أو فُلُوساً يَشْتَرِيْ لهُ بِهَا عِنَباً فلَمْ يَجِدْ عِنْدَهَا شَيْئاً فَقَالَتْ لهُ أنتَ أمِيْرُ المؤمنينَ وَلَيْسَ في خِزَانَتِكَ ما تَشْتَرِيْ بِهِ عِنَباً.
فَقَالَ: هَذَا أَيسَرُ مِنْ مُعَالَجَةِ الأَغْلَالِ وَالانْكَالِ غَداً في جَهَّنَم. قَالَ وَكَانَ سِرَاجُه عَلى ثلاثِ قَصَبَاتٍ في رَأْسِهِنَّ طِينٌ وَبَعَثَ يَوْمَاً غُلامَهُ لِيشْوِيْ لهُ لَحْماً فَجَاءَ بِهَا سَرِيْعاً مَشْويَّةً فَقَالَ أَيْنَ شَوَيْتَهَا قَالَ في المَطْبخِ.
فَقَالَ: في مَطْبَخِ المُسْلِمْينَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: كُلْهَا فَإنِّْي لَمْ أرْزَقْهَا هِيَ رِزْقُكَ وَسَخَّنُوا لهُ المَاءَ في المطْبَخِ العَامِّ فَرَدَّ بدَلَ ذلكَ بدِرْهَمٍ حَطَباً.
وَكَانَ لَهُ سِرَاجٌ يَكْتُبُ عَلَيْهِ حَوَائِجَهُ وَسِراجٌ لِبَيْتِ المَالِ يَكْتُبُ عَلَيْهِ مَصَالِحُ المُسْلِمِيْنَ لا يَكْتُبُ عَلى ضَوْئِهِ لِنَفْسِهِ حَرْفاً وَبَلَغَ عُمَرُ أنَّ رَجلاً مِنْ أَصْحَابِهِ تُوُفِّى فَجَاءَ إلَى أَهْلِهِ يُعَزِّيْهِمْ فَصَرَخُوا في وَجْهِهِ بِالبُكَاءِ عَلَيْهِ فَقَالَ مَهْ إنَّ صَاحِبَكُمْ لَمْ يَكُنْ يَرْزُقكُم إنَ الذِي يَرْزُقُكُمْ حَيٌّ لا يَمُوْتُ وَإنَّ صَاحِبَكُمْ هَذَا لَمْ يَسُدَّ شيئًا مِنْ حُفَرِكِمْ، وَإِنَّمَا سَدَّ حُفْرَةَ نَفْسِهِ، أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْكُم حُفْرَةً لا بُدَّ وَاللهِ أَنْ يَسُدَّهَا.
إِنَّ اللهَ عز وجل لمَّا خَلَقَ الدُّنْيَا حَكَمَ عَلَيْهَا بِالخَرَابِ وَعَلى أَهْلِهَا بِالفَنَاءِ وَمَا امْتَلأَتْ دَارٌ حُبْرَةً إِلّا امْتَلأَتْ عِبْرَةً وَلَا اْجَتَمُعوا إلا تَفَرّقُوا حَتَّى يَكُوْنَ اللهُ هُوَ الذِي يَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ بَاكِياً فَلْيَبْكِ عَلى نَفْسِهِ فإنَّ الذِي صَارَ إلَيْهِ صَاحِبُكُمْ كُلَّ النَّاسِ يَصِيْرُونَ إلَيْهِ غَداً.
شِعْراً:
…
أَبْقَيْتَ مَالَكَ مِيْرَاثاً لِوَارِثِهِ
فَلَيْتَ شِعْرِيَ مَا أَبْقَى لَكَ المَالُ
القَوْمُ بَعْدَكَ في حَالٍ تَسُرُّهُمُ
فَكيْفَ بَعْدهُمُو صَارَتْ بِكَ الحَالُ
مَلُّوا البُكَاءَ فَمَا يَبْكِيْكَ مِنْ أَحَدٍ
وَاسْتَحْكَمَ القِيْلُ في المِيْرَاثِ وَالقَالُ
مَالَتْ بِهِمْ عَنْكَ دُنْيَا أَقْبَلَتْ لَهُمُوا
وَأدْبَرَتْ عَنْكَ وَالأَيَّامُ أَحوَالُ
وَكَان رَحِمَةُ اللهُ قَدْ رَزَقَهُ اللهُ العِلْمَ وَالحِكْمَةَ وَالأَدَبَ وَالعَدْلَ فَمَا
تَزَحْزَحَ قَيْدَ شِبْرٍ عَن طَرِيْقةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِيْنَ وَقَدْ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا ذُكِرَ عَنْهُ أنّهُ شَيَّعَ جَنَازَةً فَلمَّا انْصَرَفَ النّاسُ تَأخّرَ عُمَرُ وَتَأَخَّرَ مَعَهُ أُنَاسٌ وَجَلَسُوا نَاحِيَةً.
فَقاَلَ لَهُ بَعْضُ أَصَحَابِهِ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِيْنَ لِمَ تَأَخَّرْتَ وَتَرَكت الجَنَازَةَ وَأَنْتَ وَلِيُّهَا فَقَالَ نَعَمْ نَادَانِيْ القَبْرُ مِنْ خَلْفِيْ يَا عُمَرَ بْنَ عبد العَزِيْزِ ألا تَسْأَلُنِيْ مَا صَنَعْتُ بالأحِبَّةِ قُلتُ بَلى. قَالَ أَحْرَقْتُ الأَكْفَانَ وَمَزَّقْتُ الأبْدَانَ وَمَصَصْتُ الدَّمَ وَأَكَلْتُ اللَّحْمَ قَالَ أَلَّا تَسْأَلُنِيْ مَا صَنَعْتُ بِالأَوْصَالِ قُلتُ بَلى قَالَ نَزَعْتُ الكَفَّينِ مِنْ الذِّرَاعَيْنِ وَالذّرَاعَيْنِ مِنَ العَضُدَيْنِ وَالوَرْكَيْنِ مِن الفَخِذَيْنِ وَالفَخِذَيْنِ مِن الرُّكْبتينِ والرُّكْبتينِ مِن السَّاقَينِ والسَّاقَينِ مِن القَدَمَيْنِ. ثُمَّ بَكَى عُمَرُ وَقَالَ أَلَا إِنَّ الدُّنْيَا بَقَاؤُهَا قَلِيْلٌ وَعَزِيْزُهَا ذَلِيْلٌ وَغَنِيُّهَا فَقِيرٌ وَشَابُّها يَهْرَمُ وَحيُّهَا يَمُوتُ فَلا يَغُرَّنكُم إقبَالُهَا مَعَ سُرْعَةِ ادْبَارِهَا فَالمغْرُورُ مَنْ اغْتَرَّ بِمَا لا يَدُومُ والمفْتُونُ مَنْ أجْهَدَ نَفْسَهُ في طَلَبِ مَا لَيْسَ بِمَقْسُوْمٍ.
ثُمَّ قَالَ أَيْنَ سُكّانُهَا الذِيْنَ تَبَوَّؤُا مَدَائِنَها وَشَقُّوا أَنْهَارَهَا وَغَرَسُوا أَشْجَارَهَا لَقَدْ أَقَامُوا أَيّاماً يَسِيْرَةً فَتَنَتْهُم العَافِيَةُ وَغَرَّهُم النَّشَاطُ وَأَلْهَتْهُم الزَّخَارِفُ فرَكِبُوا المَعَاصِيْ حتَّى أنَاخَت بهِم مَطَايَاهَا عَلى حَافَاتِ الحُفَرِ.
وَالقَبْرُ إمَّا رَوْضَة مِنْ رِيَاضِ الجَنةِ أوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ
فَوَاخَيْبَةَ آمَالِهم ويَا حَسْرَةَ قلُوبِهِم لَقدْ كَانُوا مَغْبَوُطِيْنَ بِمَا صَنَعُوا
ومَحْسُودِيْنَ عَلى مَا جَمَعُوا وَلَقَدْ عَلِمْتُم مَا صَنَعَ التُّرَابُ بأبْدَانِهِم وَالديْدَانُ بِلُحُوْمِهِمْ.
وَأَطَالَ الكَلامُ في هَذَا الموْضُوعِ وَهُوَ يَبْكِيْ إلى أَنْ قَالَ يَا ساكِنَ القَبْرِ بَعْدَ أَيامٍ قَلائِلَ مَا غرَّكَ من الدنيا هَلْ ظَنَنَتْ أنّكَ تَبْقَى لهَا أَمَا رَأيْتَ مِنْ آبَائِكَ مَنْ قَدْ نَزَلَ بِهِ الأمْرُ وَجَاءَ الأَجَلُ فأصْبَحَ لا يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ مَا نَزَلَ بِهِ وَهُوَ يَرْشَحُ عَرَقَاً وَيَتَلظَّى عَطَشاً وَيَتَقَلَّب في غمَرَاتِ المَوْتِ وَسَكَرَاتِهِ.
ثُمَّ قَرَأَ {حَتَّى إِذَا بَلَغَت الحُلْقُوْمُ وَأَنْتُمُ حِيْنَئِذٍ تَنْظُرُوْنَ وَنَحْنُ أقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُم وَلكِنْ لا تُبْصِرُوْنَ فَلَوْلا أنْ كُنْتُم غَيرَ مَدِينِينَ تَرْجعُونَها إنْ كُنْتُم صَادِقِينَ} وَبَكَى طَويْلاً ثُمَّ قَالَ لَيْتَ شِعْرِيْ مَا الذِيْ يَلقَانِيْ بِهِ مَلَكُ الموْتِ عِنْدَ خُرُوْجِيْ مِن الدُّنْيَا وَما يَأَتِيْني بِهِ مِنْ رِسَالَةِ رَبِّيْ
رَثى بَعَضُهم عُمَرَ بن عَبد العزيز فقال:
كَمْ مِنْ شَريعَة حَقٍ قَدْ بَعَثْتَ لَهَا
…
كَادَتْ تَموُتُ وَأخْرىَ منْكَ تُنْتَظُر
يا لَهْفَ نَفْسي ولَهْفْ الواجدِيْن مَعَي
…
على الحَبيب الذى يُسْقَى بِهِ المَطَرُ
ثلاثة ما رَأتْ عَينى لهَا شَبَهاً
…
تَظمُ أَعْظُمُهُمْ في المسجدِ الحُفَرُ
وَأنْتَ رَابعُهم إذ كُنْتَ مُجتِهداً
…
لِلحق والأَمْرِ بالمَعْرُوفٍ تبْتَدِرُ
لو كُنْتَ أَمْلِكُ والأَقْدَارُ غَالبةُ
…
تَأْتِي رَوَاحاً وتِبْيَاناً وَتبْتَكرُ
صَرَفْتُ عن عُمَر المَرضِي مَصْرَعَهُ
…
بِدَير سِمْعَانِ لَكِنْ يَغْلِبُ القَدَرُ
وفي مُصَابِ رَسول الله تسْلِيَةَ
…
فِيْمَنْ يمُوت وفي أنْبَائه عِبَرُ
هو الرسولُ الذِي مَنّ الإِلَهُ به
…
على البريّةِ وازْدَادَتْ به السّيَرُ
وخير مَن وَلدَتْ عَدْنَانُ قاطِبةً
…
وخَير مَن شَرُفَتْ مِن أجْلِهِ مُضرُ
صلى عليه إلهُ العَرش ما طَلَعَتْ
…
شَمْسَ وما خَلَفَتْهَا الأنْجمُ الزّهرُ
اللهُمَّ انظِمْنَا في سِلْكِ أهِل السّعادَةْ، واجْعَلْنَا مِنْ عبادِك المُحْسنِينَ الذَينَ لهُم الحُسْنَى وزِيَادَةٌ، واغْفِر لنَا ولوالِديْنا ولجميع المُسْلِمينَ الأحياءِ مِنْهُم
والميتينَ بِرَحْمَتِك يا أرْحَمَ الراحَمين، وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ مُحَمَّدٍ المُرْوَزِيّ قَالَ أُخْبِرتُ أَنَّ عُمَرَ بنَ عبد العزيز رضي الله عنه لما دُفِنَ سُليمانُ بن عبدِ الملك وَخَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ سُمِعَ للأَرْضِ هَدَّةٌ أو رَجَّةٌ فَقَالَ مَا هَذِهِ فَقِيْلَ هَذِهِ مَرَاكِبُ الخِلافَةِ قُرِّبتْ إِلَيْكَ لِتَرْكَبَهَا فَقَالَ: مَا لِيْ وَلَهَا أَبْعِدُوْهَا عَنِّيْ وَقَرِّبُوا لِيْ دَابَّتِيْ فَقُرِّبَتْ إِلَيْهِ فَرَكِبَهَا فجَاءَ صَاحِبُ الشُرْطَةِ يَسِيْرُ بَيْنَ يَدَيْهِ بالحَرْبةِ جَرْياً عَلى عَادَةِ الخُلَفَاءِ قَبْلَهُ.
فَقَالَ تَنَحَّ عَنِّيْ مَا لِيْ وَلَكَ إنَّمَا أَنَا رَجُلٌ مِن المُسلمينَ ثُم سَارَ مُخْتَلَطاً بَيْنَ النَّاسِ حَتَّى دَخَلَ المَسْجِدَ وَصَعَدَ المِنْبَرَ وَاجْتَمَعَ النّاسُ إِلَيْهِ فَحَمِدَ اللهَ وَأثْنَى عَلَيْهِ وَذَكَرَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم ثمّ قالَ أيُّها النَّاسُ إِنَّمَا بُلِيْتُ بِهَذَا الأمْرِ مِنْ غَيْرِ رَأْىٍ مِنِّيْ وَلا طِلْبَةٍ وَلا مَشُوْرَةٍ وَإنِّيْ قَدْ خَلَعْتُ مَا فِي أَعْنَاقِكُمْ مِنْ بَيْعَةٍ فَاخْتَارُوا لِأنْفُسِكُمْ غَيْرِيْ فَصَاحَ المُسلِمُونَ صَيْحَةً وَاحِدَةً قَد اخْتَرْنَاكَ يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنينَ وَرَضَيْنَاكَ فَلِي أمْرَنَا بِاليُمْنِ وَالبَرَكَةِ.
فَلَمَّا سَكَتُوا حَمِدَ اللهَ تَعَالَى وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَصَلَّى على النَّبِيّ ? ثُمَّ قَالَ أُوْصِيْكُم بِتَقْوَى اللهِ فَإنّ تَقْوَى اللهِ خَلَفٌ مِنْ كُلِّ شىءٍ وليسَ من تقوى الله خلفٌ وَأَصْلِحُوا سَرَائِرَكُم يُصْلِح عَلانِيَتَكًُم وَأَكْثِرُوْا ذِكْرَ هَاذِمِ اللذّاتِ المَوْتَ وَأَحْسِنُوا لَهُ الاسْتِعْدَادَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ بِكُمْ.
وَإنَّ مَنْ لا يَذْكُرُ منْ آبَائِهِ الذِيْنَ لَيْسَ بَيْنَهُم وبينَ آدَمَ أباً حَيًّا لمعُرقٌ في المَوْتِ وَإنّ هَذِه الأُمّةِ لمْ تَخْتَلِفْ في رَبِّهَا وَلَا فِي نَبيِّهَا وَلا في كِتَابِهَا إِنَّمَا اخْتَلفُوا
في الدِّيْنَارِ والدِّرهَمْ وإنِّيْ وَاللهِ لا أَعْطِيْ أحَداً بَاطِلاً وَلا أَمْنَعُ أَحَداً حَقًّا.
أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ أَطَاعَ اللهَ تَعَالَى وَجَبَتْ طَاعَتُه وَمَنْ عَصَى اللهَ فلا طَاعَة لَهُ أَطِيْعُونِيْ مَا أَطَعْتُ اللهَ فَإذَا عَصَيْتُه فَلا طَاعَةَ لِيْ عَلَيْكُم ثُمَّ نَزَلَ وَدَخَلَ دَارَ الخِلَافَةِ وَأَمَرَ بِالسُّتُورِ فَهُتِكَتْ وبالبُسُطِ فَرُفِعتْ وَأَمَرَ بِبَيْعِ ذَلِكَ وَادْخَالِ أَثْمَانِهَا بَيْتَ مَالِ المُسْلِمِيْنَ.
ثُمَّ ذَهَبَ يَتَبَوَّءُ مَقِيْلاً فَأَتَاهُ ابْنُهُ عَبْد المَلِكَ فقَالَ مَا تُرِيْدُ أَنْ تَصنع يَا أَبَتيْ قاَلَ أَيْ بُنَيَّ أَقِيْلُ فَقَالَ تَقِيْلُ وَلا تَرُدُّ المظالِمَ فَقَالَ: أَيْ بُنَيّ قَدْ سَهِرْتُ البَارِحَةَ فِي أَمْرِ عَمِّكَ سُلَيْمَان فَإِذَا صَلَّيْتُ الظُّهْرَ رَدَدْتُ الْمَظَالِمَ. فقال: ياَ أمير المُؤمنينَ مِنْ أَيْنَ لَكَ أَنْ تَعِيْشَ إلى الظّهْر فقالَ: ادْنُ ِمنّيْ فدَنَا مِنْهُ فقَبّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ.
وَقَالَ: الحَمْدُ للهِ الذي أَخْرَجَ مِنْ ظَهْرِي مِنْ يُعِنْنُي عَلى دِيْنيْ فَخَرَجَ وَلَمْ يَقِلْ وَأَمرَ مُنَادياً يُنَادِي أَلا مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ فليرَفعْهَا إلَيَّ فَتَقَدّمَ إِلَيْه ذِمِّيّ مِنْ أهْل حِمْصَ فَقَالَ يَا أَمِيْرَ المُؤمِنينَ أَسْأَلُكَ كِتَابَ الله قَالَ وَمَا ذَاكَ قَالَ إِنَّ العَبَّاسَ بْنَ الوَلِيْدِ اغْتَصَبَنيْ أَرْضِيْ وَالعَبَّاسُ حَاضِرٌ فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه مَا تَقُولُ يَا عَبَّاسُ قَالَ إِنَّ أَمِيْرَ المؤمِنينَ الوَلِيْدُ أَقْطَعَنِيْ إيَّاهَا وَهَذا كِتَابُهُ.
فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه مَا تَقُوْلُ يَا ذِمِّيْ قَالَ أمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ أَسْأَلُكَ كِتَابَ اللهِ تَعَالَى فقَََالَ عُمَرُ رضي الله عنه كِتَابَ اللهِ أَحُقُّ أَنْ يُتَّبَعَ مِنْ كِتَابِ الوَلِيْد فَاردُدْ عَلَيْهِ أرضَهُ يَا عَبَّاس فَرَدَّهَا عَليْهِ ثمَّ جَعَلَ لَا يُدَّعَى عَلى شئٍ مِمَّا فى أَيْدِيْ أَهْل بَيْتِهِ مِن المَظَالِمَ إِلَاّ رَدَّهُ مَظْلَمَةً مَظْلَمَةً وَلَما بَلَغَ الخَوَارِجَ سِيْرَةُ عُمَرَ وَمَا رَدَّ مِن المَظَالِمَ اجْتَمَعُوا وَقَالُوا مَا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نُقَاتِل هَذَا الرَّجُلَ وَقَالَ فِيْهِ كُثَيِّرُ عَزَّةَ:
وَلَيْتَ وَلَمْ تَسْبُبْ عَلِيّاً وَلَمْ تُخِفْ
بَرِيَّاً وَلَمْ تَقْبَلْ مَقَالَةَ مُجْرِمِ
وَصَدَّقْتَ بِالقَوْلِ الفِعَالَ مَعَ الذِيْ
أَتَيْتَ فَأمْسَىَ رَاضِيَاً كُلَّ مُسْلِمِ
فَمَا بَيْنَ شَرْقِ الأَرْضِ وَالغَرْبِ كُلِّهَا
مُنَادٍ يُنَادِيْ مِنْ فَصِيْحٍ وَأَعْجَمِِ
يَقُوْلُ أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ ظَلَمْتَنِيْ
بِأَخْذِكَ دِيْنَارِيْ وَلَا أَخْذِ دِرْهَمِ
فَأَرْبِحْ بِهَا مِنْ صَفْقَةٍ لِمُبَايِعٍ
وَأَكْرِمْ بِهَا مِنْ بَيْعَةٍ ثُمَّ أَكْرِمِ
وَلَمَّا بَلَغَ الجَبَّارَ العَنِيْدَ عُمَرَ بْنِ الوَلِيْدِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ العَزِيْزِ رحمه الله رَدَّ الضَّيْعَةَ عَلَى الذِمِيّ كَتَبَ إلى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيْزِ يَعْتَرِضُ عَلَى عَدْلِهِ وَيَزْعُمُ أنه جورٌ، فقال في كتابه إنك قد ازدريت على من كان قبلك مِنْ الخُلَفَاءِ، وَعِبْتَ عليهم وسرت بغير سرتهم بغضاً لهم وشيناً لمن بعدهم مِنْ أَوْلَادِهمْ. قَطَعْتَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أنْ يُوْصَلَ إذْ عَمَدْتَ إلَى أَمْوَالِ قُرَيْشٍ وَمَوَارِيْثِهم فَأَدْخَلْتَهَا بَيْتَ المَالِ جَوْرَاً وَعُدْوَانَاً، وَلَنْ تُتْرَكَ عَلَى هَذِهِ الحَالِ، والسَّلَامُ.
فَلَمَّا قَرَأَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيْزِ كِتَابَهُ كَتَبَ إلَيْهِ (ِبسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمْ) مِنْ عَبْدِ اللهِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيْزِ إلى عُمَرَ بْنِ الوَلِيْدِ السَّلَامُ عَلَى المُرْسَلِيْنَ وَالحَمْدُ لِلهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بَلَغَنِيْ كِتَابُكَ، أَمَّا أَوَّلَ شَأْنِكَ يَا ابْنَ الوَلِيْدِ فَأُمُّكَ بَنَانَةُ السُّكُوْنِ كانَتْ تَطُوْفُ في سُوْقِ حِمْصَ وَتَدْخُلُ في حَوَانِيْتِهَا ثُمَّ اللهُ أَعْلَمُ بِهَا.
ثُمَّ اشْتَرَاهَا ذُبْيَانُ مِنْ مَالِ المُسْلِمِيْنَ فَأَهْدَاهَا لأبِيْكَ فَحَمَلَتْ بِكَ فَبِئْسَ المَوْلُوْدُ، ثُمَّ نَشَأْتَ وَكنْتَ جَبَّارَاً عَنِيْدَاً تَزْعُمُ أَنِّي مِنْ الظَّالِمِيْنَ إذْ حَرَمْتُكَ وَأَهْلَ بَيْتِكَ مَالَ اللهِ تَعَالَى الذِي هُوَ فِي حَقِّ القَرَابَاتِ وَالمَسَاكِيْنِ وَالأَرَامِلْ.
وَإِنَّ أَظْلَمَ مِنِّيْ وَأَتْرَكَ لِعَهْدِ اللهِ مَنْ اسْتَعْمَلَكَ صَبِيَّاً سَفِيْهَاً عَلَى جُنْدِ المُسلِمِينَ تَحْكُمْ فِيْهِمْ بِرَأْيِكَ َولَمْ يَكُنْ لَهُ فى ذَلِكَ نِيِّةٌ إِلا حُبُّ الوَالِدِ لِوَلَدِهِ فَوَيْلٌ لِأبِيْكَ مَا أكْثَر خُصَمَاؤُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَكَيْفَ يَنْجُو أبُوكَ مِنْ خُصَمَائِهِ.
وَإِنّ أَظْلَمَ مِنِّىْ وَأَتْرَكَ لِعَهْدِ اللهِ مَنَ اسْتَعْمَلَ الحَجَّاجَ يَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَيَأْخُذ المالَ الحََرَامَ.
وَإِنَّ أَظْلَمَ مِنّيْ وَأَتْرَكَ لِعَهْدِ اللهِ مَنَ اسْتَعْمَلَ قُرَّةَ أَعْرَابِيَّاً جَافِيَاً عَلَى مِصْرَ وَأذِنَ لَهُ في المَعَازِفِ وَاللهْوِ وَشُرْبِ الخَمْرِ.
وَإنَّ أظْلَمَ مِنّيْ وَأَتْرَكَ لِعَهْدِ اللهِ مَنَ جَعَلَ لِعَالَيَةِ البَريْقِيَّةَ في خُمسِ العَرَبِ نَصِيْبَاً فَرُوَيْدَاً يَا ابْنَ بَنَانةَ لَوْ الْتَقَتَا حِلَقُ البِطَانِ وَرُدَّ الفَئُ إلى أهْلِهِ لَتَفَرَّغْتُ لَكَ وَلأهْلِ بَيْتِكَ فَوَضَعْتُهُم عَلى المحجّة البَيْضَاءِ فَطَالَمَا تَرَكْتُمْ المَحَجَّةِ البَيْضَاءِ فَطَالَمَا تَرَكْتُمْ الحَقَّ وَأَخَذْتُم البَاطِلَ وَمِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ مَا أرْجُو أَنْ أكُونَ رَأَيْتُهُ مِنْ بَيَعِ رَقَبَتِكَ وقَسْمِ ثَمَنِكَ عَلى الأَرامِل والمساكين واليَتَامَى فإنَّ لِكُلٍّ فِيْكَ حَقَّاً وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى وَلَا يَنَال سَلَامُ اللهِ القَوْمَ الظَّالِمِيْنَ
وَكَتَبَ إلَيْهِ أَحَدُ عُمَّالِهِ فَقَالَ أَمَّا بَعْدُ أَصْلَحَ اللهُ الأمِيْرَ فَإنَّ قَبْلِي أنَاساً مِن العُمَّالِ قَد اقْتَطَعُوا مالاً عَظِيْمَاً لَسْتُ أَقْدِرُ علَى اسْتِخْرَاجِِهِ مِنْ أيْدِيْهِم إلّا أنْ أمَسَّهُم بِشَئٍْ مِن العَذَابِ فَإنْ رَأَى أَمِيْرُ المُؤمنينَ أَنْ يَأذَنَ لِيْ في ذَلِكَ أَفْعَلُ.
فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ أَمَّا بَعْدُ فَالعَجَبُ كُلَّ العَجَبِ مِنْ اسْتِئْذَانِكَ إيَّايَ في عَذَابِ بَشَرٍ كَأَنِّيْ لَكَ وِقَايَةٌ مِنْ عَذَابِ اللهِ وَكَأَنَّ رِضَائِيْ عَنْكَ يُنْجِيْكَ مِنْ سَخَطِ اللهِ عز وجل فَاْنْظُرْ مَنْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ عُدولٌ فخذه بِمَا قَامَتْ بِهِ البَّيِّنَةُ.
وَمَنْ أقَرَّ بَكَ بِشَئٍ فَخُذْهُ بِمَا أقَرّ بِهِ وَمَنْ أَنْكَرَ فَاسْتَحْلِفْهُ باللهِ العَظِيْمِ وَخَلِّ سَبِيْلَهُ وَأيْمُ اللهُ لأنْ يَلْقُوْا اللهَ بِخيَانَاتِهمْ أحَبُّ مِنَ أنْ ألقَى اللهَ بِدِمَائِهِمْ والسَّلَامُ.
وَكَانَ لِلْوَلِيْد بْنِ عَبْدِ الملِكِ ابْنٌ يُقَالُ لَهُ رَوْحٌ وَكَانَ نَشَأَ بِالبَادِيَةِ فَكَأنهُ أَعْرَابِيٌّ فَأتَى نَاسٌ مِن المُسلِمِيْنَ إِلى عُمَرَ يُخاصِمُوْنَ روْحَاً في حَوَانِيْتَ بِحِمْصٍ وَكَانَتْ لَهُمْ أقْطَعَهَا إيَّاهُمْ أَبُوهُ بِسِجِلِّ الوَلِيْدِ.
قَالَ مَا يُغْنِيْ عَنْكَ سِجِلُّ الوَلِيْدِ، الحَوَانِيْتُ حَوَانِيْتُهُمْ قَدْ قَامَتْ لَهُمْ البَيِّنِةُ عَلَيْهَا خَلِّ لَهُمْ حَوَانِيْتَهُم فَقَامَ روْحٌ وَخَصْمُهُ الحَمْصِيُّ مُنْصَرِفِيْنَ فَتَوَعَّدَ رَوْحٌ الحِمْصِيُّ فَرَجعَ الحِمْصِيُّ إِلَى عُمَرَ فَقَالَ: هُوَ واللهِ يَتَوَعَّدُنِيْ يَا أمِيْرَ المُؤمِنِيْنَ.
فَقَالَ عُمَرُ لِكَعْبِ بْنِ حَامِدٍ وَهُوَ مِنْ حَرَسِ عُمَرَ إذْهَبْ إلَى روْحٍ يَا كَعْبُ فَإنْ سَلَّمَ الحَوَانِيْتَ إِلى الحِمْصِيّ فَذَاكَ وَإلا أَتِنِيْ بِرَأسِهِ فَسَمِعَ بَعْضُ المُوَالِيْنَ لِرَوْحٍ كَلَامَ عُمَرَ فَأسْرَعَ في إِخْبَارِهِ بِمَا قَالَ عُمَرُ فَخَلَعَ قَلَْبُه وَخَرَجَ إِلَيْهِ كَعْبٌ وَقَدْ سَلَّ بَعْضَ السَّيْفِ فَقَالَ لَهُ قُمْ فَخلِّ لَهُ حَوَانِيْتَهُ قَالَ نَعَمْ وَخَلَّى لَهُ الحَوَانِيتَ وَتَابَعَ النَّاسُ في رَفْعِ المَظَالِمِ فَمَا رُفِعَتْ إلَيْهِ مَظْلَمَةٌ إلَاّ رَدَّهَا.
شِعْراً:
…
أَلَا فَاسْلُكْ إِلَى المَولَى سَبِيلَا
…
ولا تَطْلُبْ سِوَى التَقْوَى دَلِيْلَا
وَسِرْ فِيهَا بِجِدٍ وانْتِهَاض
…
تَجِدْ فِيْهَا المُنَى عَرْضَاً وَطُوْلا
وَلَا تَرْكَنْ إِلى الدُّنْيا وَعَوِّلْ
…
عَلَى مَوْلَاكَ واجْعَلْه وَكِيْلَا
وإِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ تُعَزَّ عِزاً
…
يَدُوْمُ فَكُنْ لَهُ عَبْداً ذَلِيْلَا
وَوَاصِلَ مَنْ أَنَابَ إِليهِ واقْطعْ
…
وصَالَ المُسْرِفِينَ تَكُنْ نَبَيْلَا
ولا تُفْنِى شَبابكَ واغْتَنِمْهُ
…
وَمثِّلْ بَيْنَ عَيْنيْكَ الرَّحِيْلَا
ولا تَصِل الدُّنَا واهْجُرْ بَنِيْهَا
…
عَلَى طَبَقاتِهم هَجْرَاً جَمِيْلَا
وَعَاملْ فِيهِمُ الْوَلَى بِصِدْقٍ
…
يَضَعْ لَكَ فِي قُلُوبِهِهُ القُبوُلَا
والله أَعلم وصلى الله على مُحَمّدَ.
مَوْعِظَةٌ
عِبَادَ اللهِ قَدْ كَثُرَ في زَمَنِنَا اليَوْمَ أُنَاسٌ يَرَى أَحَدُهُمْ قَدْرَ نَفْسِهِ فَوْقَ مَا تَتَصَّوَرُهُ الأَفْهَام وَيَجْزِمُ كُلَّ الجَزْمِ أَنَّهُ رَفِيْعُ المَقَامِ، رِفْعَةً كُلُّ رَفِيْعٍ مَعَهَا تَحْتَ الأَقْدَامِ، لَا تَذْكُرُ أَمَامَهُ فَاضِلاً إِلّا ضَحِكَ وَهَزَّ رَأسَهُ مُتَهَكِّمَاً سِاخِرَاً بِمَا لَهُ مِنْ مَقَامٍ وقَدِيْمَاً قِيْلَ:
وَمَنْ جَهِلَتْ نَفْسُهُ قَدْرَهُ
رَأَى غَيْرُهُ مِنْهُ مَا لا يَرَى
وَتَجِدُ هَذَا المُتَكَبِّرُ المُعْجَبُ بِنَفْسِهِ شَرِسَاً أَحْمَقاً ذَا إبَاءٍ وَاسْتِعْصَاءٍ حَتَّى عَلَى خَالِقَهَ القَدِيْر الكَبِيْر المُتعالى وَتَرَاهُ نَارِيَّ المِزَاجِ يَلْتِهبُ التِهَابَاً وَيَنْفَجِرُ لِأدْنى كَلِمَةٍ لا تُرْضِيْهِ وَلَوْ لَمْ يَقْصِدَ قَائِلُهَا إلا الحُسْنَى.
وَمِنْ عَلَامَاتِهِ أَنَّكَ تَجِدُهُ حَرِيْصَاً عَلَى أَنْ يَكُوْنَ أَمَامَ النَّاسِ وَأَنْ يُصْغُوا إلَى كَلَامِهِ وَيُؤَلمهُ كَلَامُ غَيْرِهِ وَلَوْ كانَ حَقًّا وَتَجِدُ ثِيَابَهُ مُسْبَلَةٌ وفِي مَشْيِهِ يَتَبَخْتَر مُصَعّرِاً خَدَّهُ وَإنْ كَانَ عَلَيْهِ عِقَالٌ تَجِدُهُ مُمِيْلاً لَهُ وَتَجِدُ بَعْضَهُمْ قَدْ وَفَّرَ شَارِبَهُ وَفَتَلَهُ وَسَوَّى شَنَبَاتِهِ كالقُرُوْنِ قَالَ بَعْضُهُمْ:
إنَّ الكَمَالَ الذِيْ سَادَ الرِّجَالُ بِهِ
هُوَ الوَقارُ وَقَرْنُ العِلْمِ بِالعَمَلِ
فَقُلْ لِمَنْ يَزْدَهِيْ عُجْبَاً بِمَنْطِقِهِ
وَقَلْبُهُ في قُيُوْدِ الحِرْصِ والأَمَلِ
مَهْلَا فَمَا الله سَاهٍ عَنْ تَلَاعُبِكُمْ
…
لَكِنَّ مَوْعِدُكُمْ في مُنْتهى الأَجَلِ
وَقُلْ لِمَنْ فَخْرُه في فَتْلِ شَارِبِهِ
…
أَضَعْتَ عُمْرَكَ بَيْنَ الكْبِرِ وَالكَسَلِ
حَتَّامَ تُبْرِمُ يَا وَافِيْ القَفَا شَنَبَاً
…
مَا فِي طَوَايَاهُ إلَّا خَيْبَةُ الأَمَلِ
أَصْبَحْتَ بُعْبُعَ مَنْ وفي البَيْتِ تُزْعِجُهُمْ
…
هَلَاّ أَخَفْتَ العِدَا يَا مَعْرَضَ الخَجَلِ
آخر:
…
قل لِلّئيمِ الذى أحَفْىَ لِلِحَيتِه
…
وَتَاهَ في شَنَباتٍ حَشْوُهَا قَذَرُ
أُرْفُقْ فَلَيْسَ كَمَالاً مَا تَتِيْهُ بِهِ
…
لَكِنَّهُ نَتَنُ يَشُوْبُهُ مَذَرُ
وَمِنْ عَلَامِاتِهِ أَنَّكَ تَجِدُ صَاحِبَ الكِبْرِ لَا يَرْغَبُ قُرْبَ الفُقَرَاءِ مِنْهُ وَلَا يَأْلَفُ إِلَّا الأَغْنِيَاءَ فَالمُتَكَبِّرُ لا يُحِبُّ لِلْمُؤْمِنِيْنَ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ لأنَّهُ لا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ بِسَبَبِ كِبْرِهِ وَعُجْبِهِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى التَّوَاضُعِ وَهُوَ رَأسُ أخْلَاقِ الأصْفِيَاءِ.
وَلَا يَقْدِرُ المُتَكَبِّرُ عَلَى تَرْكِ الحِقْدِ وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَدُوْمَ عَلَى الصِّدْقِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى تَرْكِ الغَضَبِ وَلَا عَلَى كَظْمِ الغَيْظِ وَلا يَسْلَمُ مِنَ احْتِقَارِهِ لِلنَّاسِ وَلَا يَسْلَمُ مِن الغِيْبَةِ وَالبُهْتِ لأنَّهُ فِيْهِ مِن العَظَمَةِ وَالعِزَّةِ وَالكِبْرِيَاءِ مَا يَحُوْلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ.
فَمَا مِنْ خُلُقٍ ذَمِيْمٍ وَقَبيْحٍ إلّا وَصَاحِبُ الكِبْرِ مُضْطَرُّ إِلَيْهِ لِيَحْفَظَ بِهِ عِزَّهُ وَعَظَمَتَهُ وَلِذَلِكَ وَرَدَ في الحَدِيْثِ أنّهُ: " لَا يَدْخُلُ الجَنّةَ مَنْ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ "". وفي وَصِيَّةِ لُقْمَانَ لابْنِهِ يَقُولُ {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ في الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ الله لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُوْرٍ} .
وَمِنْ تَعَالِيْمِ رَبِّنَا لِهَذِهِ الأُمَّةِ وَنَبِيِّهَا عليه الصلاة والسلام يَقُولُ اللهُ تَعَالَى {وَلَا تَمْشِ في الأرْضِ مَرَحاً إنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضِ وَلَنْ تَبْلُغَ الجِبَالَ طُوْلا}
وَبِالحَقِيْقَةِ إنَّ المتَكَبِّرَ مِسْكِيْنٌ ثم مِسْكِيْنٌ إلَى حَدٍّ يَسْتَحِقُّ مَعَهُ الرِّثَاءُ فإنَّكَ بَيْنَمَا تَرَاهُ بِهَذِهِ الكِبْرِيَاءُ وَالعَظَمَةِ تَرَاهُ غَارِقَاً في بَحْرِ المَعَاصِيْ وَذُلِّهَا يُلْقِيْ نَفْسَهُ في جَهَنَّمَ.
أَيَظُنُّ هَذَا المِسْكِيْنُ أَنَّهُ عَزِيْزٌ واللهُ عَلَيْهِ غَضْبَانٌ أَوْ يَظُنُّ أَنَّهُ رَفِيْعٌ وَهُوُ في قاذُوْرَاتِ المَعَاصِيْ إنَّ العِزَّةَ والرِّفْعَةَ لَا يَحْصُلَانِ بِالدَّعْوَى وَلَيْسَ حُصُوْلُهُمَا بِيَدِ مَخْلُوقٍ وَلَكِنَّهُمَا بِيَدِ اللهِ وَحْدَهُ يَمْنَحُهُمَا إلَى مَنْ يُسَارِعُونَ إلى طَاعَةِ مَوْلَاهُم جلَّ وَعَلَا وَتَقَدَّسَ.
فَيَا عِبَادَ اللهِ انْصَحُوا مَنْ وَقَعَ في وَرْطَةِ الكِبْرِ وَقُولُوا لَهُ تَدَبَّرْ كَلَامَ رَبِّ العَالَمِيْنَ مِثْلَ قَولِهِ تَعَالَى إنّهُ لا يُحِبُّ المُسْتَكْبِرِيْنَ وَقَوْلَهُ تَعَالَى {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الذِيْنَ يَتَكَبَّرُوْنَ في الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وإنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإنْ يَرَوْا سَبِيْلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوْهُ سَبِيْلَا وَإنْ يَرَوْا سَبِيْلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيْلَا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِيْنَ} .
وعَنْ عَمْروِ بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيْهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: " يُحْشَرُ المُتَكَبِّرُوْنَ أمْثَالَ الذَّرِّ في صُوَرِ الرِّجَالِ يَغْشَاهُمْ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ يُسَاقُوْنَ إلَى سِجْنِ في جَهَنَّمْ يُقَالُ لَهُ بُوْلُسْ تَعْلُوْهُمْ نَارُ الأنْيَارِ يُسْقَون َمِنْ عُصَارَةِ أهْلِ النَّارِِ طِيْنَةِ الخَبالِ "". رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَالترْمِذِيْ وَاللّفْظُ لَهُ وَقَالَ: حَدِيْثٌ حَسَنٌ.
شِعْراً:
…
مَتَى يَصِلِ العِطَاشُ إِلىَ ارْتِوَاءٍ
…
إِذَا اسْتَقَت البِحَارُ مِنَ الرّكَايَا
وَمَنْ يَثنِ الأَصَاغِرَ عَنِ مُرَادٍ
…
وَقَدْ جَلَسَ الأَكَابِرُ في الزَّوَايَا
وَإِنَّ تَرَفَّعَ الوُضَعَاءِ يَوْماً
…
عَلَى الرُفَعَاءِ مِن إحدَى الرَّزَايَا
إِذَا اسْتَوَتْ الأَسَافِلُ والأَعَالِيْ
…
فَقدْ طَابَتْ مُنَادَمَةُ المُنَايَا
آخر:
…
اعْلَمْ هُدِيْتَ وَخَيْرُ العِلْمِ أَنْفَعُهُ
أَنًَّ اتبَاعَ الهَوى ضَرْبٌ مِنْ الخَبَلِ
وَالحَمْدُ لِلهِ رَبِّ العَالمَِيْنَ عَلى ُ
إنْعَامِهِ وَتعالى اللهُ خَيْرُ وَلِيّ
فَكَمْ وَكَمْ ظَلَّ بالأَهْوَاءِ وَطَاعَتِها
مِنْ عَاقِلٍ جَامِعٍ لِلْعِلْمِ وَالعَمَلِ
هُوَ الهَوَانُ كَمَا قَالُوا وَقد سُرقَت
النُّوْنُ مِنْهُ فَجَانِبْهُ وَخُذْ وَمِلِ
وَأَقْبِلْ عَلى طَاعَةِ الرَّحْمَنِ وَالْزَمَهَا
في كَلِّ حِيْنٍ وَلا تَخْلُدْ إِلَى الكَسَلِ
وَلا تُخَالِفْ لَهُ أَمْراً تَبَارَكَ مِنْ
رَبٍّ عَظِيْمٍ وَسِرْ في أَقْوَمِ السُّبُلِ
وَخُذْ بِمَا فِي كِتَابِ اللهِ مُجْتَهِداً
مُشْمِّراً وَاحْتَرِزْ مِنْ سَوْفَ وَالأَمَلِ
وَلا تُعَرِّجْ عَلى دَارِ الغُرُوْرِ وَدا
والخُلُفِ وَالزُّوْرِ وَالنِّسْيَانِ لِلأَجَلِ
وَاحْذَرْ مُصَاحَبَةَ المَرْءِ المُضِيْعِ فَقَدْ
صَارُوا إِلَى الشَّرِّ وَالعِصْيَانِ وَالزَّلَلِ
وَأَصْبَحُوا في زَمَانٍ كُلُّهُ فِتَنٌ
وَبَاطِلٌ وَفَسَادُ بَيِّنٌ وَجَلِيْ
هُوَ الزَّمَانُ الذِي قَد كَانَ يَحْذَرُهُ
أَئِمَّة الحَقِّ مِنْ حَبْرٍ ومِنْ بَدَلِيْ
هُوَ الزَّمَانُ الذِي لَا خَيْرَ فِيهِ وَلَا
عُرْفٌ نَرَاهُ عَلَى التَّفْصِيْلِ وَالجُمَلِ
هُوَ الزَّمَانُ الذِي عَمَّ الحَرَامُ بِهِ
وَالظُّلْمُ مِنْ غَيْرِ مَا شَكٍّ وَلا جَدَلِ
أَيْنَ القُرَآنُ كِتَابُ اللهِ حُجَّتُهُ
وَأَيْنَ سُنَّةُ طَهَ خَاتَمِ الرُّسُل
وَأَيْنَ هُدْيُ رِجَالِ اللهِ مِنْ سَلَفٍ
كَانَ الهُدَى شَأْنُهم في القَوْل وَالعَمَلِ
أَكُلُّ أَهْلِ الهُدَى وَالحَقِّ قَدْ ذَهَبُوا
بالمَوْت أَمْ سُتُروا يَا صَاحِبْي فَقُلِ
وَالأَرْضُ لا تَخْلُو مِنْ قوْمٍ يَقُوْم بِهِمْ
أَمْرُ الإِلهِ كَمَا قد جَاءَ فَاحْتَفِلِ
فَارْجُ الإلَهَ وَلا تَيْأَسْ وَانْ بَعُدَتْ
مَطَالِبٌ إنَّ رَبَّ العَاَلِميْنَ مَلِيْ
وَفي الإلَهِ مَلِيْكِ العَالمَيِنَ غِنًى
عَنْ كُلِّ شَيءٍ فَلازِمْ بَابَهُ وَسَلِيْ
هُوَ القَرِيْبُ المُجِيْبُ المُسْتَغَاثُ بِهِ
قَلْ حَسْبِيَ اللهُ مَعْبُودِيْ وَمُتَّكَلِيْ
وَأَسْأَلُهُ مَغْفِرَةً وَاسْأَلهُ خَاتِمَةً
حُسْنَى وَعَافِيَةً وَالجَبْرَ لِلْخَلَلِ
وَأَنْ يُوَفِّقَنَا لِلصَّالِحَاتِ وَمَا
يُرْضِيْهِ عَنّا وَيَحْفَظْنَا مِنْ الخَطَلِ
وَأَنْ يُصَلّي عَلى المُخْتَارِ سَيِّدِنَا
مُحَمِّدٍ مَا بَكَتْ سُحْبٌ بِمُنْهَمِلِ
وَالآلَ وَالصَّحْب مَا غَنَّتْ مُطَوَّقَةٌ
عَلى الغُصُوْنِ فأشْجَتْ وَاجِداً وَخَلِيْ
اللهُمَّ ثَبِّتْ إِيْمَانَنَا ثُبُوتْ الِجبَال الرَّاسِيَاتِ وَوَفِّقْنَا لِلْعَمَل في البَاقِيَاتِ الصَالِحَاتِ وجَنِّبْنَا جَمِيْعَ الطُّرقِ المُردِيَاتِ وَزَحْزِحنَا عَنْ النّارِ وَأَدْخَلِنَا فَسِيْحَ الجَنَّاتِ يَا رَفِيْعَ الدَّرَجاتِ بِرَحْمَتِكَ التِيْ وَسعَتْ الأَحْيَاءَ وَالأَمْوَاتِ وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيْنَ.
(فَصْلٌ)
وَكَتَبَ عُمَرُ بن عبد العزيز رحمه الله إلَى عُمَّالِهِ أَنْ لا يُقَيَّدَ مَسْجُوْنٌ فَإنَّهُ يَمْنَعُهُ مِنْ الصَّلاةِ وَكَتَبَ إلَى عُمَّالِهِ إِذَا دَعَتْكُمْ قُدْرَتُكُمْ عَلى النَّاسِ إِلَى ظُلْمِهِمْ فَاذْكُرُوا قُدْرَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَنَفَاذَ مَا تَأْتُونَ إِلَيْهِم وَبَقَاءَ مَا يَأْتيْ إِلَيْكُمْ مِنْ العَذَابِ بِسَبَبِهِمْ وَكَانَتْ حُجْزَةُ إزَارِهِ قَبْلَ الخِلَافَةِ غائِبَةً في عُكَنِهِ مِنْ الحَالِ فَلَمّا تَوَلَّيَ الخلِافَةِ ذَهَبَتْ تِلْكَ الحَالُ فلو شِئْتَ أنْ تَعُدَّ أَضْلَاعَهُ مِنْ غَيْرِ مَسٍّ لَعَدَدْتَهَا.
وَكانَتْ لَهُ غَلَّةٌ خَمْسِيْنَ أَلْفَ دِيْنَارٍ فَلمَّا وُلِيَ الخِلافة صَارَ يُنفِقُهَا كُلَّ حِينٍ حَتَّى مَا بقي لَهُ غَيْرُ قَمِيْص واحِدٍ لَا يَخْلَعُهُ حَتَّى يَتَّسِخَ فَإذَا اتَّسَخَ غَسَلَهُ وَمَكَثَ بِالبَيْتِ حَتَّى يَجِفَّ ثُمَّ يَلْبَسُهُ.
وَلَمَّا وَلِيَ خَيَّرَ جَوَارِيْهِ وَقَالَ قَدْ نَزَلَ بِيْ أَمْرٌ قَد شَغَلَنِيْ عَنْكُنَّ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وَحَتَّى يَفْرُغَ النَّاسُ مِنَ الحِسَابِ فَمَنْ أحَبَّتْ مِنْكُنّ عِتْقَها أَعْتَقْتُهَا وَمَنْ أَحَبَّتْ أَنْ أُمْسِكَهَا عَلى أَنْ لا يَكُوْنَ مِنِّيْ إلَيْهَا شَئٌ فَبَكَيْنَ وَارْتَفَعَ بُكَاؤُهُنَّ إِيَاساً مِنْهُ.
وَكَانَ يَخْطُبُ النَّاسَ بِقَمِيْصٍ مَرْقُوْعِ الجَيْبِ مِنْ قُدَّامْ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ.
فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ إنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَعْطَاكَ فَلَوْ لَبِسْتَ فَنَكَّسَ رَأسَهُ سَاعَةً ثمّ قالَ أفْضَلُ القَصْدِ عَن الجِدَةٍ وَأفْضَلُ العَفْوِ عَنْ المَقْدِرَةِ.
وَذَكَرَتْ زَوْجَتُه فَاطِمَةُ بِنْتُ عبد المَلِكِ أَنَّ عُمَرَ مَا اغْتَسَلَ عَنْ حُلُمٍ وَلا جَنَابَةٍ مُنْذُ وَلَى الخِلَافَةَ نَهَارُهُ في أَشْغَالِ النَّاسِ وَرَدِّ المَظالِم إلى أَهْلِهَا وَلَيْلُه في عِبَادَةِ رَبِّهِ.
وَقَالَ مَسْلَمَةُ بْنُ عبد المَلِكِ دَخَلْتُ عَلى أَمِيْرِ المُؤْمِنِيْنَ عُمَرَ بْنِِ عَبْدِ العَزِيْزِ رضي الله عنه أَعُودُهُ في مَرَضِهِ الذِي مَاتَ فِيْهِ فَإذَا عَلَيْهِ قَمِيْصٌ وَسِخٌ فَقُلْتُ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ عَبْدِ المَلِكِ اغْسِلِيْ قَمِيْصَ أَمِيْرِ المُؤمِنِينَ فَقَالَتْ نَفْعَلُ إنْ شَاءَ اللهُ قَالَ مَسْلمَةُ ثُمَّ عُدْتُه فَإذَا القَمِيْصُ عَلى حَالِهِ فَقُلْتُ يَا فَاطِمَةَ أَلَمْ آمُرُكِ أَنْ تَغْسِلِيْ قَمِيْصَ أَمِير المؤمِنينَ فَإنَّ النَّاسَ يَعُوْدُوْنَهُ فَقَالَتْ وَاللهِ مَا لَهُ قَمِيْصٌ غَيْرُهُ وَكانَ رحمه الله كَثِيْراً مَا يَتَمَثَّلُ بِهَذِهِ الأَبْيَاتِ:
نَهَارُكَ يَا مَغْرُوْرُ سَهْوٌ وَغَفْلَةٌ
وَلَيْلُكَ نَوْمٌ وَالرَّدَى لَكَ لَازِمُ
…
...
…
يَسُرُّكَ مَا يَفْنَى وَتَفْرَحُ بِالْمُنَى
كَمَا غُرَّ بِاللَّذَاتِ فِي النَّوْمِ حَالِمُ
وَشُغْلُكَ فِيْمَا سَوْفَ تَكْرَهُ غِبَّهُ
كذَلِكَ في الدُّنْيَا تَعِيْشُ البَهَائِمُ
وَفِعْلُكَ فِعْلُ الجَاهِلِيْنَ بِرَبِّهِمْ
وَعُمْرُكَ في النُّقْصَانِ بَلْ أَنْتَ ظَالِمُ
فَلا أَنْتَ في اليَقْظَانَ يَقْظَان حَازِمُ
وَلا أَنْتَ في النُّوَّامِ نَاجٍ وَسَالِمُ
فَلَا تَحْمَدِ الدُّنْيَا وَلَكِنْ فَذُمَّهَا
وَلا تَكْثِرِ العِصْيَانَ إنَّكَ ظَالِمُ
وَكَانَ يَقْوُلُ أدْرَكْنَا العُلَمَاءَ، وَالأُمَراءُ وَالسَّلاطِيْنُ يَأْتُونَهُمْ فَيَقِفُوْنَ عَلى أَبْوَابِ العُلَمَاءِ كَالعَبِيْدِ حَتَّى إذَا كَانَ اليَوْمُ رَأَيْنَا العُلَمَاءَ وَالفُقَهَاءَ وَالعُبَّادَ هُمَ الذِيْنَ يَأْتُونَ الأُمَراءَ والأغنِيَاءَ فلمَّا رَأَوْا ذَلِكَ مِنْهُمْ ازْدَرَوْهُمْ وَاحْتَقَرُوْهُمْ.
وَقَالُوا لَوْلَا أَنَّ الذِيْ بِأَيْدِيْنَا خَيْرٌ مِمَّا بِأَيْدِيْهِم مَا فَعَلُوا ذَلِكَ مَعَنَا. وَنُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ إنَّ بَنِيْ إسْرَائِيْلَ لما كَانُوا عَلى الصَّوَابِ كَانَتْ الأمَرَاءُ تَحْتَاجُ إلى العُلَمَاءِ وَكَانَتْ العُلَمَاءُ تَفِرُّ بِدِيْنِهَا مِن الأُمَراءِ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَوْمٌ مِنْ رُذَالَةِ النَّاسِ تَعَلَّمُوا ذَلِكَ العِلْمَ وَأَتَوْا بِهِ الأُمَراءَ فَاسْتَغْنَتْ بِهِ عَن العُلَمَاءِ وَاجْتَمَعَ القَوْمُ عَلى المَعْصِيَةِ فَسَقَطُوا وَانْتَكَسُوا، وَلَوْ كَانَ عُلَمَاؤُنَا يَصوْنُوْنَ عِلْمَهُمْ لَمْ تَزل الأُمَراءُ تَهابُهُمْ قُلْتُ: وَلِلهِ دَرُّ القَائِلِ:
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ العِلْمِ صَانُوْهُ صَانَهُمْ
وَلَوْ عَظَّمُوْهُ في النُّفُوسِ لَعُظِّمَا
وَلَكِنْ أَهَانُوْهُ فَهَانُوا وَدَنَّسُوا
مُحَيَّاهُ بِالاْطمَاعِ حَتَّى تَجَهَّمَا
فَإنْ قُلْتَ زَنْدُ العِلْمِ كَابٍ فَإنَّمَا
كَبَى حَيْثُ لَمْ تُحْمَى حِمَاهُ وَأَظْلَمَا
آخر:
…
فَهُبُّوا أُهَيْلَ العِلْمِ مِنْ رَقْدَةِ الهَوَى
وَمِيلُوا إلَى نَهْجِ الرَّشَادِ وَخَالِفُوْا
هَوَىَ النَّفْسِ إنَّ النَّفْسَ مِنْ أَكْبَرِ العِدَا
وَلِلْعَبْدِ فِيْهَا إنْ أطَاعَ المَتَالِفُ
وَحُثُّوا مَطَايَا العَزْمِ في طَلب العُلَا
فَقَدْ مَاتَ أهْلُوهُ الكِرَامُ السَّوَالِفُ
وَنَحْنُ إذَا مَاتُوْا نَمُوْتُ بِمَوْتِهِمْ
إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنّا عَلى النَّهْجِ عَارِفُ
فَأَحْيُوا مَوَاتَ العِلْمِ مِنْكُمْ بِعَطْفَةٍ
إلىَ العِلْمِ كَيْ تَحْيَا بِتِلْكَ الوَضَائِفُ
فَلَا خَيْرَ يُرْجَى في الحَيَاةِ عَلى الهَوَى
إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيْنَا إلَى العِلْمِ صَارِفُ
بِضَاعَتُنَا المُزْجَاةُ فِيْهِ قَلِيْلَةٌ
وَقَدْ كانَ فِيْنَا جِسْمُهُ وَهْوَ نَاحِفُ
وَعَمَّا قَلِيْلٍ سَوْفَ يُطْوَى سِجِّلَهُ
وَتَذْهَبُ أرْبَابٌ لَهُ وَطَوَائِفُ
وَدَخَلَ عَلَى عُمَرَ مَسْلَمَةُ في مَرَضِهِ فَقاَلَ يَا أَمِيْرَ المُؤمنينَ إِنَّكَ أَفْقَرْتَ أَفْوَاهَ وَلَدِكَ مِنْ هَذَا المَالِ وَتَرَكْتَهُمْ عَيْلَةً لا شَئَ لَهُمْ فَلَوْ أَوْصَيْتَ بِهِمْ إلَى وَالٍ نَظَرَ إلَى أَهْلِ بَيْتِكَ فَقَالَ عُمَرُ أَسْنِدُوْنِيْ.
ثُمَّ قَالَ أَمَّا قَوْلُكَ إِنّيْ أَفْقَرْتُ أَفْوَاهَ وَلَدِيْ مِنْ هَذَا المَالِ فَوَاللهِ مَا مَنَعْتُهُمْ حَقًّا هُوَ لَهُمْ وَلَمْ أُعْطِهِمْ مَا لَيْسَ لهُمْ، وَأَمَّا قَوْلُكَ لَوْ أَوْصَيْتَ بِهِمْ فإنَّ وَصِيِّيْ وَوَلِيِّ فِيْهِمْ {اللهُ الذي نَزَّلَ الكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّي الصّالِحِيْنَ}
بَنِيّ أحَدُ رَجُلَيْنِ إمَّا رَجُلٌ يَتَّقِيْ اللهَ فَيَجْعَلُ لَهُ مَخْرَجًا وَإمّا رَجُلٌ مُكِبُّ عَلَى المَعَاصِيْ فَإنِّي لَمْ أَكُنْ أَقَوِّيْهِ عَلى المَعَاصِي.
ثُمَّ بَعَثَ إِلَيْهِمْ وَهُمْ بِضْعَة عَشَرَ ذَكَرَاً فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ فَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ ثُمَّ قَالَ بِنَفْسِيْ الفَتِيَةُ الذِيْنَ تَرَكْتُهُمْ عَيْلَةً لا شَئَ لَهُمْ فإنِّيْ بِحَمْدِ اللهِ قَدْ تَرَكْتُهُمْ بِخَيْر أيْ بَنِيّ إنّ أَبَاكُمْ قَدْ مَيَّزَ بَيْنَ أمْرَيْنِ بَيْنَ أنْ تَسْتَغْنُوْا وَيَدْخَلُ النَّارَ أَبُوكُمْ، أَو تَفْتَقِرُوا وَيَدْخُلُ أَبُوكُمْ الجَنّةَ، فَكَانَ أَنْ تَفْتَقِرُوا وَيَدْخُلُ الجَنّةَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ أنْ تَسْتَغْنُوا وَيَدْخُلُ النَّارَ قُوْمُوا عَصَمَكُمْ اللهُ.
وَذكَرَ ابْنُ أَبِيْ الدُّنْيَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ العزيْز لَمَّا كَانَ في اليَوْمِ الذِي مَاتَ فِيْهِ قَالَ أَجْلِسُونِيْ فأجْلَسُوهُ فَقالَ أنَا الذِيْ أَمَرْتَنِيْ فَقَصَّرْتُ وَنَهَيْتَنِيْ فَعَصَيْتُ ثَلاثَ مَرَّاتٍ وَلَكِنْ لَا إلهَ إِلا اللهُ ثُمّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَأحَدّ النَّظَرَ فَقَالُوا إنَّكَ لتَنْظُرُ نَظَراً شَدِيْداً يَا أَمِيْرَ المُؤمِنينَ فَقَالَ إنِّيْ لأَرَيَ حَضَرَةً مَا هُمْ بِإنْسٍ وَلَا جِنٍْ ثُمَّ قُبِضَ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ:
آخر:
…
إذا شِئْتَ أَنْ تَرْثي فَقيْداً مِن الوَرَى
…
وَتَدْعُوا لَهُ بَعْد النبي المُكَرَّمِ
فَلا تَبكِينْ إِلَاّ عَلىَ فَقْدِ عَالِمٍ
…
يُبَادِرُ بالتَّفْهِيْمِ لِلْمُتَعَلِّمَ
وَفَقْدِ إِمَامٍ عَالِمٍ قَامَ مُلْكُهُ
…
بأنْوَار حُكْمِ الشَرعِ لا بالتَّحَكُمِ
وفَقْدِ شُجَاعٍ صَادِقٍ في جِهادِهِ
…
وَقد كُسِرَتْ رَايتُهُ في التَّقَدُمِ
وَفَقْدِ كَرِيْمٍ لا يَمَلُّ مِنْ العَطَا
…
لِيُطْفِئَ بُؤسَ الفَقْرِ عن كُلّ مُعْدِمِ
وفَقْدِ تَقِيٍ زاهِدٍ مُتَوَرّعٍ
…
مُطُيْعٍ لِرَبِّ العَالمَِيْنَ مُعَظمٍ
فَهُم خَمْسَةٌ يُبْكَى عَلَيْهِم وَغَيُرهُمْ
…
إِلى حَيْثُ أَلْقَتْ رَحْلَهَا أمُ قَشْعَمِ
شِعْراً:
…
وَلَمْ أرَ أَمْثَالِ الرِجَالِ تَفَاوُتاً
…
لَدَىَ الدِّيْنِ حَتَّى عُدَّ أَلْفٌ بِوَاحِدِ
آخر:
…
تَفَرَّدَ بالْعَلْيَاءِ عَن أَهْل بَيْتِهِ
…
وَذَاكَ بِتوَفْيقٍ مِن اللهِ وَافِدُ
وَتخَتْلَفُ الأَثْمارُ في شجَرَاتهَا
…
إِذَا شَرِبَتْ بِاْلماءِ وَالماءِ وَاحِد
إشارة إلى قول الله جَلَ وعَلَا {يُسْقى بِماءَ واحَدِ ونفضِل بعضَها على بعضٍ في الأُكَلْ} .
(فَصْلٌ)
وَرَوَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيّ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيْزِ لِابْنِهِ عَبْدِ الملكِ وَهُوَ مَرِيْضٌ كَيْفَ تَجِدُكَ قَالَ في المَوْتِ قَالَ: لأنْ تكُونَ في مِيْزَانِيْ أحَبُّ إليَّ أنْ أكوُنَ في مِيْزَانِكَ فَقَالَ لَهُ: واللهِ يَا أبتِ لأَنْ يَكونَ مَا تُحِبُّ أَحَبُّ إليَّ مِنْ أنْ يَكُونَ مَا أُحِبُّ.
قِيْلَ فَلَمَّا مَاتَ ابْنُه عبد المَلِكِ قَالَ عُمَرُ يَا بُنَيَّ لَقَدْ كُنْتَ في الدُّنْيَا كَمَا قَالَ اللهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ {المالُ وَالبَنُونَ زِيْنَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا} وَلَقَدْ كُنْتَ أفْضَلَ زِيْنَتِهَا وَإِنّيْ لأَرجو أنْ تَكُوْنَ اليَوْمَ مِنْ البَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ التِيْ هِيَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ أمَلاً وَاللهِ مَا سَرَّنِيْ أنْ دَعَوْتُكَ مِنْ جَانِبٍ فَأجَبْتَنِيْ.
وَلما دَفَنَهُ قَامَ عَلى قَبْرِهِ فَقَالَ: مَا زِلْتُ مَسْرُوراً بِكَ مُنْذُ بُشِّرْتُ بِكَ وَمَا كُنْتُ قَطُّ أسَرَّ إليَّ مِنْكَ اليَوْمَ ثُمَّ قَالَ: اللهُمَّ اغِفْرْ لِعَبْدِ الملكِ بْنِ عُمَرَ وَلِمَنْ اسْتَغَفَرَ لَهُ.
وَلَمَّا قَامَ النَّاسُ لَهُ قَالَ: يَا مَعْشَرَ النَّاسِ إنْ تَقُومُوا نَقُمْ وَإنْ تَقْعُدُوْا نَقْعُدْ فَإنَّمَا يَقُوْمُ النَّاسُ لِرَبِّ العَالَمِيْنَ إنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائِضَ وَسَنَّ سُنَنَاً مَنْ أَخَذ بِهَا لَحَق وَمَنْ تَرَكَهَا مُحِقَ.
وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَصْحَبْنَا فَلْيَصْحَبْنَا بِخَْمسٍ يُوْصِلُ إِلَيْنَا حَاجَةَ مَنْ لا تَصِلُ إلَيْنَا حَاجَتُهُ، وَيَدُلُّنَا مِن العَدْلِ إلى مَا لا نَهْتَدِيْ إلَيْهِ، وَيَكُونُ عَوْنَاً لَنَا على الحَقِّ، وَيُؤَدِّيْ الأَمَانَة إليْنَا وَإلَى النَّاسِ وَلا يَغْتَبْ عَنْدَنَا أَحَداً، وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ فَهُوَ فِي حَرَجٍ مِنْ صُحْبَتِنَا وَالدُّخُولِ عَلَيْنا.
وَسُئِلَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ عَبْدِ المَلِكِ زَوْجَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزيْز عَنْ عِبَادَةِ عُمَرَ فَقَالَتْ: وَاللهِ مَا كَانَ بأكْثَر النّاسِ صَلَاةًً وَلا أكثرَ صِيَامَاً وَلكِنْ وَاللهِ مَا رأيْتُ أخْوَفِ لِلهِ مِنْهُ لَقدْ كَانَ يَذْكُرُ اللهَ في فِرَاشِهِ فَيْنَتَفِضُ انْتِفَاضَ العُصْفُورِ مِنْ شِدَّةِ الخَوْفِ حَتَّى نَقوُل لُيصْبَِحَنَّ النّاسُ وَلا خَلِيْفَةَ لَهُمْ.
قَالَ: وَمَرَّ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزيز ذاتَ يَومٍ بِفَاطِمَةَ زَوْجَتِهِ فَضَرَبَ عَلى كَتِفِهَا وَقَالَ: يَا فَاطِمَةُ لنَحْنُ ليَالِيْ دَابِقَ أَنْعَمُ مِنَا اليَوْمَ؟ فَقالَتْ: وَاللهِ مَا كُنْتَ عَلى ذَلِكَ أَقْدَرَ مِنْكَ اليَوْمَ. فأدْبَرَ عنَهْا وَلَهُ حَنِيْنٌ وَهُوَ يَقُولُ: يَا فَاطِمَةُ إنَّيْ أَخافُ النَّارَ يَا فَاطِمَةُ {إنِّيْ أخَافُ إنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيْمٍ} .
قَالَ: وَكَانَ عُمَرُ يُصَلِّي العَتَمَةَ ثُمَّ يَدْخُلُ عَلَى بَنَاتِهِ فَيُسَلِّمُ عَلَيْهنَّ فَدَخَلَ عَلَيْهنَّ ذاتَ لَيْلَةٍ فَلمَّا أحْسَسْنَهُ وَضَعْنَ أيْدِيَهُنَّ عَلى أفْوَاهِهِنَّ ثمَّ تَبَادَرْنَ البَابَ فَقالَ لِلْحاضِنَةِ: مَا شَأْنُهُنَّ؟ قَالَتْ: إنّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُنَّ شَئٌ يَتَعَشَّيْنَهُ إلْا عَدَسٌ وَبَصَلٌ فَكَرِهْنَ أَنْ تَشُمَّ ذَلِكَ مِنْ أَفْوَاهِهِنَّ. فَبَكَى عُمَرُ ثُمَّ قَالَ لَهُنَّ يَا بَنَاتِيْ مَا يَنْفَعُكُنَّ أنْ تَعيَشنَ الألَوانَ وَيُؤْمَرُ بِأَبِيْكُنَّ إلَى النَّارِ قَالَ: فَبَكْينَ حَتَّى عَلَتْ أصْوَاتُهُنَّ ثُمَّ أنْصَرَفَ.
وَجَاءَتْ عَمَّةٌ لَه إلَى فَاطِمَةَ امْرَأته فَقَالتْ: إنَّيْ أُرِيْدُ كَلَامَ أَمِيرِ المُؤمنينَ قَالتْ لَهَا اجِلْسِيْ حَتَّى يَفْرُغَ فَجَلَسَتْ فإذا بِغُلامٍ قَدْ أتَى فَأخَذَ
سِرَاجاً. فَقَالَت لهَا فَاطِمَةُ: إنْ كُنْتِ تُريدينَه فالآن فَإنه إذَا كَانَ في حَوَائِجِ العَامَّةِ كَتَبَ عَلى الشَّمْعِ وَإذا صَارَ إلَى حَاجَةِ نَفْسِهِ دَعَا بِسِرَاجِهِ.
فَقَامَتْ فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ فَإذَا بَيْنَ يَدَيْهِ أقْرَاصٌ وَشَئٌ مِنْ مِلْحٍ وَزَيْتٍ وَهُوَ يَتَعَشَّى فَقَالَتْ يَا أَمِيرِ المُؤمِنينَ أَتَيْتُ لِحَاجَةٍ لِيْ ثمَّ رَأَيْتُ أنْ أبْدَأ بِكَ قَبْلَ حَاجِتِيْ قَالَ: َومَا ذَاكَ يَا عَمَّةُ؟ قَالَتْ: لَوْ اتَّخَذْتَ لَكَ طَعَاماً أَلْيَنَ مِنْ هَذا؟ قَالَ: لَيْسَ عِنْدِيْ يَا عَمَّةُ وَلَوْ كَانَ عِنْدِيْ لَفَعَلْتُ.
قَالَتْ: يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ كَانَ عَمُّكَ عَبْدُ الَمَلِكِ يُجْرِيْ عَلَيَّ كَذَا وَكَذَا ثُمَّ كَانَ أخَوْكَ الوَلَيْدُ فَزَادَنِيْ ثُمَّ كَانَ أخْوكَ سُلْيَمَانُ فَزَادَنِيْ ثُمَّ وَلِيْتَ أنْتَ فَقَطَعْتَهُ عَنّيْ قَالَ: يَا عَمَّةُ إنَّ عَمِّيْ عَبد المَلِكِ وَأخِيْ الوَلِيْدِ وَأَخِيْ سُلْيَمَانُ كَانُوا يُعْطُوْنَك مِنْ مَالِ المُسْلِمِيْنَ.
وَكَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ المَلِكِ قَدْ أَمَرَ لِعَنْبَسَةَ بْنِ سَعدٍ بنِ العَاصِ مِنَ البَيْتِ الأمَوِيّ بِعِشْرْينَ ألْفِ دِيْنَارٍ فَدَارَتْ المُعَامَلةُ في الدّواوِيْنِ حَتَّى انْتَهتْ إلى دِيْوَانِ الخَتْمِ فَلمْ يَبْقَ إلّا قَبْضُهَا فتوُفِيَ سُلَيْمَانُ قَبْلَ أنْ يَقبِضَهَا.
وَكانَ عَنْبَسَةُ صَديقاً لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيْزِ فَغَدَا يَطْلُبُ مِنْ عُمَرَ مَا أمَر لَهُ بِهِ سُليْمَانُ فَوَجَدَ بنِيْ أُميّة حُضُوْراً بِبَابِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيْزِ يُرِيْدُوَنَ الإِذْنَ عَليْهِ لِيُكَلِّمُوهُ في أُمُوْرِهِمْ فلَمَّا رأو صَدِيْقَ عُمَر عَنْبَسَةَ قَالُوا: نَنْتَظِر مَاذا يَعْمَلُ مَعَهُ قَبْلَ أنْ نُكَلِّمَهُ.
فَدَخَلَ عَنْبَسَةُ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: يَا أَميرَ المُؤْمِنِيْنَ إنَّ أَمِيرَ الْمُؤمِنينَ سُلَيْمَانُ كانَ قدْ أَمَرَ لِيْ بعِشْرِيْنَ أَلْفِ دِيْنَارٍ حَتَّى وَصَلَتْ إلَى دِيْوَانِ الخَتْمِ وَلَمْ يَبْقَ إلا أنْ أقْبِضَهَا فَتُوفيَ قَبْلَ أنْ أقْبِضَهَا وأميرُ المُؤْمِنينَ أوْلَى
بِاسْتِتْمَامِ الصَّنِيعَةِ عِنْدِي وَمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ أَعْظَمُ مِمَّا كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ أَمِير الْمُؤْمِنِينَ سُلَيْمَانُ.
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: كَمْ ذَلِكَ؟ قَالَ: عُشْرُونَ أَلْفِ دِينَارِ. قَالَ عُمَرُ: عِشْرُونَ أَلْفِ دِينَارٍ تُغْنِي أَرْبَعَةَ آلافِ بَيْتٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَدْفَعُهَا إِلى رَجُلٍ وَاحِدٍ وَاللهِ مَا لِي إِلى ذَلِكَ مِنْ سَبِيلٍ.
قَالَ عَنْبَسَةُ: فَرَمَيْتُ بِالْكِتَابِ الذِي فِيهِ الصَّكُّ. فَقَالَ عُمَرُ: لا عَلَيْكَ أَنْ يَكُونَ مَعَكَ فَلَعَلَّهُ أَنْ يَأْتِي مَنْ هُوَ أَجْرَأُ عَلَى هَذَا الْمَالِ مِنِّي فَيَأْمرَ لَكَ بِهِ. فَأَخَذْتُهُ وَخَرَجْتُ إِلى بَنِي أُمَيَّةَ وَأَعْلَمْتُهم مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَوا: لَيْسَ بَعْدَ هَذَا شَيْءٌ ارْجِعْ إِلَيْهِ فَاسْأَلْهُ أَنْ يَأْذَنَ لَنَا فِي الْبُلْدَانِ.
فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ قَوْمَكَ بِالْبَابِ يَسْأَلُونَكَ أَنْ تُجْرِي عَلَيْهِمْ مَا كَانَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِكَ. فَقَالَ عُمَرُ: وَاللهِ مَا هَذَا الْمَالُ لِي وَمَا لِي إِلى ذَلِكَ مِنْ سَبِيلٍ.
قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَيَسْأَلُونَكَ أَنْ تَأْذَنَ لَهُمْ يَضْرِبُوا فِي الْبُلْدَانِ. قَالَ: مَا شَاءوا ذَلِكَ لَهُمْ وَقَدْ أَذِنْتُ لَهُمْ. قُلْتُ: وَأَنَا أَيْضًا؟ قَالَ: وَأَنْتَ أَيْضًا قَدْ أَذِنْتُ لَكَ وَلَكِنِّي أَرَى لَكَ أَنْ تُقِيمَ فَإِنَّكَ رَجُلٌ كَثِيرُ النَّقْدِ وَأَنَا أَبِيعُ تَرِكَةِ سُلَيْمَانَ فَلَعَلَّكَ تَشْتَرِي مِنْهَا مَا يَكُونُ لَكَ فِي رِبْحِهِ عِوَضٌ مِمَّا فَاتَكَ.
قَالَ: فَأَقَمْتُ فَاشْتَرَيْتُ مِنْ تَرِكَةِ سُلَيْمَانَ بِمَائَةِ أَلْفٍ فَخَرَجْتُ بِهَا إِلى الْعِرَاقِ فَبِعْتُهَا بِمَائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ وَحَبَسْت الصَّكَّ فَلَمَّا تُوُفِّيَ عُمَرُ وَوَلِيَ يَزِيدُ بنُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَتَيْتُه بِكِتَابِ سُلَيْمَانَ فَأَنْفَذَ لِي مَا كَانَ فِيهِ.
وَكَانَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَنْظُرُ لَيْلاً فِي أَحْوَالِ الرَّعِيَّةِ فِي ضَوْءِ السِّرَاجِ فَجَاءَ غُلامٌ لَهُ فَحَدَّثَهُ فِي شَأْنٍ خَاصٍّ بِعُمَرَ فَقَالَ عُمَرُ لِلْغُلامِ:
أطْفِئْ سِرَاجَ بَيْتِ الْمَالِ ثُمَّ حَدِّثْنِي لأَنَّ الدُّهْنَ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ وَلا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُه إِلا فِي أَشْغَالِ الْمُسْلِمِينَ.
وَعَنْ الْفِهْرِيٌّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقْسِمُ تُفَّاحَ الْفِيء فَتَنَاوَلَ ابْنُهُ تُفَّاحَةً فَانْتَزَعَهَا مِنْهُ عُمَرُ وَأَوْجَعَ فَمَّهُ فَسَعَى إِلى أُمِّهِ فَأَرْسَلَتْ إِلى السُّوقِ وَاشْتَرَتْ لَهُ تُفَّاحًا.
فَلَمَّا رَجَعَ عُمَرُ وَجَدَ رِيحَ التُّفَاحِ فَقَالَ لِزَوْجَتِهِ فَاطِمَةُ: هَلْ فِي الْبَيْتِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا الْفِيءِ؟ قَالَتْ: لا وَقَصَّتْ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ فَقَالَ: وَاللهِ لَقَدْ انْتَزَعَتْهُا مِنْ ابْنِي وَكَأَنَّمَا انْتَزَعْتُهَا مِنْ قَلْبِي وَلَكِنْ كَرِهْتُ أَنْ أُضِيعَ نَفْسِي بِتُفَّاحَةٍ مِنْ فِيءِ الْمُسْلِمِينَ.
وَذُكِرَ أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِ عُمَر بن عَبْدِ الْعَزِيزِ قَحْطٌ عَظِيمٌ فَوَفَدَ عَلَيْهِ قَوْمٌ مِن الْعَرَبِ فَاخْتَارُوا مِنْهُمْ رَجُلاً لِخِطَابِهِ.
فَقَالَ ذَلِكَ الرَّجُلُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّا أَتَيْنَاكَ مِنْ ضَرُورَةٍ عَظِيمَةٍ وَقَدْ يَبِسَتْ جُلُودُنَا عَلَى أَجْسَادِنَا لِفِقْدِ الطَّعَامِ وَرَاحَتُنَا فِي بَيْتِ الْمَالِ.
وَهَذَا الْمَالُ لا يَخْلُو مِنْ ثَلاثَةِ أَقْسَام. إِمَّا أَنْ يَكُونَ للهِ. أَوْ لِعِبَادِ اللهِ. أَوْ لَكَ فَإِنْ كَانَ للهِ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ لِعِبَادِ اللهِ فَآتِهِمْ إِيَّاهُ.
وَإِنْ كَانَ لَكَ فَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْنَا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ.
فَتَغَرْغَرَتْ عَيْنَا عُمَرَ بنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِالدُّمُوعِ وَقَالَ: هُوَ كَمَا ذَكَرْتَ وَأَمَرَ بِحَوَائِجِهِمْ فَقُضِيَتْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ.
فَهَمَّ الأَعْرَابِيُّ بِالْخُرُوجِ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَيُّهَا الإِنْسَانُ الْحُر كَمَا أَوْصَلْتَ إِلَيَّ حَوَائِجَ عِبَادِ اللهِ وَأَسْمَعْتَنِي كَلامَهُمْ فَأَوْصِلْ كَلامِي وَارْفَع حَاجَتِي إِلى اللهِ تَعَالى.
فَحَوَّلَ الأَعْرَابِيُّ وَجْهَهُ قِبَلَ السَّمَاءِ. وَقَالَ: إِلَهِي اصْنَعْ مَعَ عُمَرَ بنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ كَصَنِيعَهِ فِي عِبَادِكَ فَمَا اسْتَتَمّ الأَعْرَابِيُّ كَلامَهُ حَتَّى ارْتَفَعَ غَيمٌ فَأَمْطَرَ مَطَرًا غَزِيرًا.
وَكَانَ لِعُمَرَ بنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ غُلامٌ وَكَانَ خَازِنًا لِبَيْتِ الْمَالِ وَكَانَ لِعُمَرَ بَنَاتٌ فَجِئْنَهُ يَوْمَ عَرَفَةً وَقُلْنَ لَهُ: غَدًا الْعِيدُ وَنِسَاءُ الرَّعِيَّةَ وَبَنَاتُهُمْ يَلُمْنَنَا وَيَقُلْنَ: أَنْتُنَّ بَنَاتُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَنَرَاكُنَّ عَرِيَانَاتٍ لا أَقَلَّ مِنْ ثِيَابِ تَلْبَسْنَهَا وَبَكَيْنَ عِنْدَهُ فَضَاقَ صَدْرُ عُمَرَ فَدَعَا غُلامَهُ الْخَازِنَ وَقَالَ لَهُ: أَعْطِنِي مُشَاهَرَتِي لِشَهْرٍ وَاحِدٍ.
وَقَالَ الْخَازِنُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ تَأَخْذُ ُالْمُشَاهَرَةِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ سَلَفًا أَتَظُنَّ أَنَّ لَكَ عُمْرَ شَهْرٍ فَتَأْخُذُ مُشَاهَرَةَ شَهْرٍ فَتَحَيَّرَ عُمَرُ.
وَقَالَ: نِعَمْ مَا قُلْتَ أَيُّهَا الْغُلامُ بَارَكَ اللهُ فِيكَ. ثُمَّ الْتَفَتَ إِلى بَنَاتِهِ وَقَالَ: أَكْظِمْنَ شَهَوَاتِكُنَّ فَإِنَّ الْجَنَّةَ لا يَدْخُلُهَا أَحَدٌ إِلا بِمَشَقَّةٍ.
سُئِلَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَا كَانَ سَبَبَ تَوْبَتِكَ قَالَ: كُنْتُ أَضْرِبُ يَوْمًا غُلامًا فَقَالَ لِي: اذْكُرْ اللَّيْلَةَ الَّتِي تَكُونُ صَبِيحَتُهَا الْقِيَامَةَ فَعَمِلَ ذَلِكَ الْكَلامُ فِي قَلْبِي.
رَأَى بَعْضُ الأَكَابِر هَارُونَ الرَّشِيدَ فِي عَرَفَات وَهُوَ حَافٍ حَاسِرٌ قَائِمٌ عَلَى الرَّمْضَاءِ الْحَارِةِ.
وَقَدْ رَفَعَ يَدَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ: إِلَهِي أَنْتَ أَنْت وَأَنَا أَنَا الذِي دَأْبِي كُلَّ يَوْم أَعُودُ إِلى عِصْيَانِكَ وَدَأْبُكَ أَنْ تَعُودَ إِلَيَّ بِرَحْمَتِكَ.
فَقَالَ بَعْضُ الْكُبَرَاءِ: انْظُرُوا إِلى تَضَرُّعِ جَبَّارِ الأَرْضِ بَيْنَ يَدَيْ جَبَّارِ السَّمَاءِ.
سَأَلَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَوْمًا أَبَا حَازِمٍ الْمَوْعِظَةَ فَقَالَ لَهُ أَبُو حَازِمٍ: إِذَا نِمْتَ فَضِعْ الْمَوْتَ تَحْتَ رَأْسِكَ.
وَكُلُّ مَا أَحْبَبْتَ أَنْ يَأْتِيكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَيْهِ مُصِّرُ فَأَلْزَمْهُ وَكُلُّ مَا لا تُرِيدُ
أَنْ يَأْتِيكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَيْهِ فَاجْتَنِبْهُ فَرُبَّمَا كَانَ الْمَوْتُ مِنْكَ قَرِيبًا.
فَيَنْبَغِي لِصَاحِبِ الْوِلايةِ أَنْ يَجْعَلَ هَذِهِ الْحِكَايَةَ نَصْبَ عَيْنَيْهِ وَأَنْ يَقْبَلَ الْمَوَاعِظَ الَّتِي وُعِظَ بِهَا غَيْرُهُ.
فَكُلَّمَا رَأَى عَالِمًا عَامِلاً بِعَلْمِهِ لَيْسَ مِنْ عُلَمَاءِ الدُّنْيَا زَاهِدًا فِيهَا عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ الصَّالِحِ سَأَلَهُ أَنْ يَعِظَهُ.
وَيَنْبَغِي لِلْعُلَمَاءِ أَنْ يَعِظُوا الْمُلُوكَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْمَوَاعِظِ وَلا يَغُروهُمْ وَلا يَدَّخِرُوا عَنْهُمْ كَلِمَةَ الْحَقِّ وَكُلُّ مِنْ غَرَّهُمْ فَهُوَ مُشَارِكٌ لَهُمْ.
وعن الفضل بن الربيع حاجب هارون الرشيد قَالَ: أرسل إليَّ الرشيد ذاتَ ليلة فحضرتُ إليه فلما دخلتُ عليه وجَدْتُ بين يديه ضبارة سيوف وأنوع من آلات العذاب.
فقَالَ: يا فضل. فَقُلْتُ: لَبَّيْكَ َيا أمير المؤمنين. فَقَالَ: عَلَيَّ بِهَذَا الْحِجَازِي يعني الشافعي رضي الله عنه وهو مُغْضَبٌ الساعةَ الساعةَ.
فخرجتُ وبي مِن الغم والحزن ما لا يُوصَف لِمَحَبَّتِي للشافعي لفصاحته وبراعته وبلاغته وعقله فجئْتُ إلى بابه.
فأمَرْتُ مَن دَقَّ عليه البابَ فَتَنَحْنَحَ فَعَلِمْتُ أَنَّهُ يُصَلِّي فَوَقَفْتُ حتى فَرِغَ مِنْ صَلاتِهِ وَفَتَحَ البابَ فَسَلَّمْتُ عليه.
وقلْتُ لَهُ: أَجِبْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فقَالَ: سَمْعًا وَطَاعَةً وَجَدَّدَ الْوُضُوءَ وَارْتَدَى وَرَكَعَ رَكَعْتَيْنِ وَخَرَجَ يَمْشِي فَمِنْ شَفَقَتِي عَلَيْهِ قُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ قِفْ لِتَسْتَرِيحَ بَيْنَمَا أَسْتَأْذِنُ.
فَدَخَلْتُ عَلى أمير المؤمنين فإذا هُوَ على حَالِهِ فِي غَضَبِهِ فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: أَيْنَ الْحِجَازِي؟
قُلْتُ: عِنْدَ السِّتْرِ. فَقَالَ: مُرْهُ بِالدُّخُولِ. فَجِئْتُ إِلَيْهِ وَأَمَرْتُهُ بِالدُّخُولِ.
فَدَخَلَ يَمْشِي مُطْمَئِنًا غَيْرَ فَزَعٍ وَلا خَائِفٍ وَلا قَلِقٍ وَلا مُنْزَعِج ثُمَّ بَدَأَ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ وَوَجْهُهُ مُسْتَنِير.
فَلَمَّا دَخَلَ وَبَصُرَ بِهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ قَامَ إِلَيْهِ قَائِمًا وَاسْتَقْبَلَهُ وَاعْتَنَقَهُ وَجَعَلَ يُقَبِّلُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَهَشَّ بِهِ وَبَشَّ.
وَقَالَ: مَرْحَبًا بِأَبِي عَبْدِ اللهِ لِمَ لا تَزُورَنَا وَتَكُونَ عِنْدَنَا فَإِنِّي إِلَيْكَ مِشْتَاقُ وَأَجْلَسَهُ مَكَانَهُ وَقَعَدَ إِلى جَانِبِهِ وَتَحَدَّثَ مَعَهُ سَاعَةَ.
ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِبَدْرَةٍ مِن الذَّهَبِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لا أَرَبَ لِي فِيهِ فَسَأَلَهُ أَنْ يَقْبَلَهُ فَقَبِلَهُ غَيْرَ مُكْثَرِتٍ بِهِ (يَعْنِي مَا هَمُّهُ) .
ثُمَّ أَمَرَنِي أَنْ أَرُدَّهُ إِلى دَارِهِ وَأَنْ تُحْمَلَ الْبَدْرَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَّمَا خَرَجْنَا جَعَلَ يَعْطِي كُلَّ مَنْ رَآهُ وَكُلَّ مَنْ سَأَلَهُ يَمِينًا وَشِمَالاً حَتَّى وَصَلَ إِلى مَنْزِلِهِ وَمَا مَعَهُ مِنْهَا شَيْء.
فَلَمَّا دَخَلَ مَنْزِلَهُ وَاطْمَأَنَّ بِهِ الْجُلُوسُ قَعَدْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ قَدْ عَرَفْتَ مَحَبَّتِي لَكَ وَشَفَقَتِي عَلَيْكَ وَإِنِّي شَاهَدْتُ غَضَبَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينِ فِي ابْتِدَاءِ طَلَبَهِ إِيَّاكَ.
ثُمَّ لَمَّا دَخَلْتَ عَلَيْهِ رَأَيْتُ مِنْهُ مِنَ التَّوَاضِعِ وَالتَّوَدُدِ وَالإِجْلالِ وَالإِكْرَامِ لَكَ مَا سَرَّنِي وَكُنْتُ رَأَيْتُكَ حَرَّكْتَ شَفَتَيْكَ عِنْدَ دُخُولِكَ عَلَيْهِ.
فَبِالَّذِي سَكَّنَ غَضَبَهُ عَلَيْكَ وَسَخَّرَهُ إِلا مَا عَلَّمْتَنِي مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي دُخُولِكَ مَعِي عَلَيْهِ.
فَقَالَ: حَدَّثَنِي نَافِعُ عن ابن عمر أن رسول الله ? قرأه يَوْمَ الأحزابِ فَهَزَمَهُمُ اللهُ ونصرهم على عدوهم.
وَهُوَ هَذَا {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلَامُ} ثم قَالَ: وأنا
أَشْهَدُ بِمَا شَهِدَ بِهِ اللهِ وَأَسْتَوْدِعُ اللهَ هَذِهِ الشَّهَادَةِ وَدِيعَةٌ لِي عِنْدِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِنُورِ قُدْسِكَ وَعَظِيمِ بَرَكَتِكَ وَعَظَمَةِ طَهَارَتِكَ وَبَرَكَةِ جَلالَتِكَ مِنْ كُلِّ آفَةٍ وَعَاهَةٍ.
وَمِنْ طَوَارِقِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِلا طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرِ يَا رَحْمَن.
اللَّهُمَّ أَنْتَ غِيَاثِي فَبِكَ اسْتَغِيثُ وَأَنْتَ مَلاذِي فَبِكَ أَلُوذُ وَأَنْتَ عِيَاذِي فَبِكَ أَعُوذُ يَا مَنْ ذَلَّتْ لَهُ رِقَابُ الْجَبَابِرَةِ وَخَضَعَتْ لَهُ أَعْنَاقُ الْفَرَاعِنَةِ.
أَعُوذُ بِكَ مِنْ خِزْيِكَ وَمِنْ كَشَفْ سِتْرِكَ وَمِنْ نِسْيَانِ ذِكْرِكَ وَالانْصِرَافِ عَنْ شُكْرِكَ.
أَنَا فِي حِرْزِكَ وَتَحْتَ كَنَفِكَ لَيْلِي وَنَهَارِي وَنَوْمِي وَقَرَارِي وَظَعْنِي وَأَسْفَارِي وَحَرَكَاتِي وَسَكَنَاتِي وَحَيَاتِي وَمَمَاتِي وَجَمِيعِ سَاعَاتِي وَأَوْقَاتِي.
ذِكْرُكَ شِعَارِي وَثَنَاؤكَ دِثَارِيَ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ وَلا إِلَهَ غَيْرُكَ وَلا مَعْبُودَ سِوَاكَ.
سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ تَشْرِيفًا لِعَظَمَتِكَ وَتَكْرِيمًا لِسُبُحَاتِ وَجْهِكَ وَإِقْرَارًا بِصَمْدَانِيَّتِكَ.
وَاعْتِرَافًا بِوَحْدَانِيَّتِكَ وَتَنْزِيهًا لَكَ عَمَّا يَقُولُ الْكَافِرُونَ وَالظَّالِمُونَ وَالْجَاحِدُونَ تَعَالَيْتَ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
اللَّهُمَّ أَجِرْنِي مِنْ خِزْيِكَ وَمِنْ شَرِّ عِبَادِكَ وَاضْرِبْ عَلَيَّ سَرَادِقَاتِ حِفْظِكَ وَأَدْخِلْنِي فِي حِفْظِكَ وَعَنَايتكَ وَجُدْ عَلَيَّ مِنْكَ بِخَيْرٍ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
إِلَهِي كَيْفَ أَخَافُ وَأَنْتَ أَمَلِي أَمْ كَيْفَ أَضَامُ وَعَلَيْكَ تَوَكُّلِي أَمْ كَيْفَ أَقْهَرُ وَأَنْتَ عِمَادِي أَمْ كَيْفَ أَغْلَبُ وَعَلَيْكَ فِي كُلِّ الأُمُورِ اعْتِمَادِي ضَرَبْتُ وَجْهَ كُلِّ
حَاسِدٍ وَحَسَدَ وَرَاصِدٍ رَصَدَ وَظَالِمٍ كَنَدَ بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} .
وَفِي مُسْنَدِ الإِمَامِ أَحْمَد وَصَحِيحِ ابْنُ حِبَّانِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بن مَسْعُود مَرْفُوعًا: «مَا أَصَابَ عَبْدٌ هَمٌّ وَلا غَمٌّ وَلا حُزْنٌ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ بن عَبْدُكَ بن أَمَتُكَ نَاصِيَتِي بِيَدِكَ مَاضٍ فِي حُكْمُكَ عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ.
أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ أَوْ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدِكَ.
أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي وَنُورَ صَدْرِي وَجَلاءَ حُزْنِي وَذَهَابَ هَمِّي.
إِلا أَذْهَبَ اللهُ حُزْنَهُ وَهَمَّهُ وَابْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَحَاً» .
وَمِنْ أَدْعِيَةِ الْمُضْطَرِينَ يَا وَدُود يَا ذَا الْعَرْشِ الْمَجِيدِ يَا مُبْدِئُ يَا مُعِيدُ يَا فَعَّالٌ لِمَا تُرِيدُ أَسْأَلُكَ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي مَلاءِ أَرْكَانَ عَرْشِكَ وَبقُدْرَتِكَ الَّتِي قدرتَ بِهَا عَلَى جَمِيعَ خَلْقِكَ وَبِرَحْمَتِكَ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ لا إِله إِلا أَنْتَ يَا مُغِيثُ أغِثْنِي اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنَّا يَسِيرَ الأَعْمَالِ، وَهَبْ لَنَا إِسَاءَتنا فِي الأَقْوَالِ وَالأَفْعَالِ وَسَامِحْنَا عَنِ الْغَفْلَةِ وَالإِهْمَالِ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
دَعَا الْمَنْصُور أَبَا حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِي وَمِسْعرًا وَشَرِيكَا لِيُوَلِّيَهُم الْقَضَاء.
فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَنَا أَتَحَامَقُ فَأُقَالَ وَأتَخَلَّص.
وَأَمَّا مِسْعَرُ فَيَتَجَان (أَيْ يُظْهِرُ كَأَنَّهُ مَجْنُون) وَيَتَخَلَّصَ.
وَأَمَّا سُفْيَان فَيَهْرَب.
وَأَمَّا شَرِيكُ فَيَقَعُ فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى الْمَنْصُور قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَنَا رَجُلٌ مَوْلى وَلَسْتُ مِن الْعَرَب.
وَلا تَكَادُ الْعَرَبُ تَرْضَى بَأَنْ يَكُونَ عَلَيْهِمْ مَوْلَى وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنِّي لا أَصْلَحُ لِهَذَا الأَمْرِ فَإِنْ كُنْتُ صَادِقًا فِي قَوْلِي فَلا أَصْلِحُ لِلْقَضَاءِ.
وَإِنْ كُنْتُ كَاذِبًا فَلا يَجُوزُ لَكَ أَنْ تُوَلِّي كَاذِبًا دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالَهُمْ وَفُرُوضَهُمْ.
وَأَمَّا سُفْيَانُ فَأَدْرَكَهُ الْمُشْخِصُ فِي طَرِيق فَذَهَبَ لِحَاجَتِهِ فَانْصَرَفَ الْمُشْخِصُ يَنْتَظِرُ فَرَاغَهُ.
فَرَأَى سُفْيَانُ سَفِينَةٌ فَقَالَ لِلْملاح قَائِد السَّفِينة: إِنْ مَكَّنْتَنِي مِنْ سَفِينَتِكَ وَإِلا ذُبِحْتُ بِغَيْرِ سِكِّين.
تَأَوَّلَ قَوْلَ النَّبِي ?: «مِنْ وُلِيَ الْقَضَاءَ فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّين» . فَأَخْفَاهُ الْملاحُ تَحْتَ السَّارِيَة.
وَأَمَّا مِسْعَرُ ابن كُدَام فدخل على الْمنصور فقَالَ له: هَاتِ يَدَكَ كَيْفَ أَنْتَ وَالدَّوَاب وَالأَولاد فَقَالَ: أَخْرِجُوه فإنه مجنون.
وَأَمَّا شريك فقَالَ له المنصور: تَقَلَّدْ فقَالَ له: أنا رجلٌ خَفِيفُ الدِّمَاغ فقَالَ: تَقَلَّد وعليك بالنَّبِيذ الشديد حتى يرجع إليكَ عَقْلُكَ فَتَقَلَّدَ.
فَهَجَرَهُ الثوري وَقَالَ له: أمْكَنَكَ الْهَرَبُ فَلَمْ تَهْرِبْ.
وكتب الخليفة إلى عبد الله بن وهب في قَضَاءِ مِصْرَ فَتَجَنَّنَ نَفْسَهُ وَلَزِمَ بَيْتَهُ فاطَّلَعَ عليه راشد بن سَعْدٍ وَهُوَ يَتَوَضَأُ فِي صَحْنَ دَارِهِ.
فقَالَ: أبا محمد ألا تَخْرُجُ إلى الناس فَتَقْضِي بَيْنَهُم بكتاب الله وَسُنَّةِ رسوله ? فقد جَنَنْتُ نَفْسَكَ وَلَزِمْتَ بَيْتَكَ.
فَرَفَعُ إليه رَأْسَهُ وَقَالَ: إلى هَا هُنَا عَقْلُكَ إِنَّ الْعُلَماء يُحْشَرُونَ مَعَ الأَنْبِيَاءِ وَإِنَّ الْقُضَاةَ يُحْشَرُونَ مَعَ السَّلاطِين أهـ.
بَلِّغْ يَا أَخِي الَّذِينَ يُرَشحُونَ أَنْفُسَهُم لِلْقَضَاء وَيُعْمِلُون الْوَسَائِط لِلْحُصُول عليه وهم غير أهلٍ له لم تَجْتَمِعْ فيهم الشروط ولا يُحْسِنُونَ الْقَضَاء.
وَدَعَا الْخَلِيفَةُ أَيامَ الْمِحْنَةِ مُحَمَّد بن مُقَاتِل الرَّازِي وَأَبَا الصَّلْتِ عَبْدِ السَّلامِ فَقَالَ لِمُحَمَّد ابن مُقَاتل: مَا تَقُولُ فِي الْقُرْآنِ؟
قَالَ: أقول التوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان، فإنَّ هذه الأربعة وأشار إلى أصابِعهِ الأربعة مَخْلُوقَة.
فظنوا أنه يُرِيدُ الكتبَ المنزلة وهُو يُرِيدُ أَصَابِعَ يَدِهِ الأربعة فَنَجَا.
فقَالَ للآخر وهو أبو الصَّلْتِ: ما تقول؟ فقَالَ: تَعَزَّ يا أمير المؤمنين.
قَالَ: عن مَنْ وَيْلَكَ؟ قَالَ عن القُرآن فَإِنَّهُ ماتَ. قَالَ: فَكَيْفَ؟ قَالَ: إنْ كَانَ مَخْلُوقًا فَإِنَّهُ يَمُوت.
وأُدخل عُبَادَةُ علي الواثق والناس يُضْرَبُون وَيُقْتَلُون في الامتحان بالقُرآن قَالَ عُبَادة: فَقُلْتُ في نَفْسِي وَالله لَئِنْ امْتَحَنَنِي قَتَلَنِي فَبَدَأْتُ بِهِ فَقُلْتُ: عَظم اللهُ أَجْرَكَ أَيُّهَا الْخَلِيفَة. قَالَ: فِيمَنْ؟ فَقُلْتُ: في الْقُرْآنِ. قَالَ: وَيْحَكَ وَالْقُرْآنُ يَمُوت؟ قُلْتُ كُلَّ مخلوق يَمُوت فإذا مات القرآن في شعبان فبأي شيء يصلي الناس في رمضان. فقَالَ الواثق: أَخْرِجُوه فإنه مجنون.
فائدة نفيسة: قَالَ أحد العلماء رحمه الله تعالى: اعلم أنَّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ كَمَا قَالَ ? وقد صارت عدوّةً لله وعدوّةً لأَوْلِيَائِهِ وعدوّةً لأَعْدَائِهِ، أما عَدَاوَتُهَا لله تعالى فلأَنّها قَطَعَتِ الطَّريقَ بينه وبينَ أوليائِهِ.
ولهذا فإنّه لم يَنْظُر إليها مُنْذُ خَلَقَهَا، وأَمَّا عداوتُهَا لأَوليائِهِ فلأَنّها تَزَيَّنَتْ لهم بِزِينَتِها وَغَمَرتْهُم بِزَهْرَتِهَا وَتَزَهَّتْ لهم بنَضَارَتِهَا حتى تجَرَّعُوا مَرَارَاتِ الصَّبرِ في مُقَاطَعَتِهَا وَتَحَمَّلُوا الْمَشَاقَ فِي الْبُعْدِ مِنْهَا.
وَأَمَّا عَدواتُهَا لأَعْدَائِهِ فَلأَنها اسْتَدْرَجَتْهُم بِمَكْرِهَا وَمَكَايِدِهَا وَاقْتَنَصَتْهمِ بحَبَائِلِهَا وَأَقْصَدَتْهُمْ بِسِهَامِهَا حَتَّى وَثِقُوا بِهَا وَعوَّلُوا عليها.
فَخَذَلَتْهُمْ أَحْوَجَ مَا كَانُوا إِلَيْهَا وَغَدَرَتْ بِهِمْ أَسْكَنَ مَا كَانُوا إِلَيْهَا فَاجْتَنَوْا مِنْهَا حَسْرَةً تَنْقَطِعُ دُونَهَا الأَكْبَادُ. وَحَرَمَتْهُمْ السَّعَادَةَ الأَخْرَوِيَّةِ عَلَى طُولِ الأَمَاد فَانْتَبِه يَا مَنْ اغْتَرَّ بِهَا قَبْلَ أَنْ يُصِيبَكَ مِثْلَ مَا أَصَابَ الْمُغْتَرِّينَ بِهَا.