الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
(خاتمة،
وصية، نصيحة)
اعْلم وفقنا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع المُسْلِمِيْنَ لما يحبه الله ويرضاه أن مِمَّا يجب الاعتناء به حفظاً وعملاً كلام الله جَلَّ وَعَلا وكلام رسوله ?.
وأنه ينبغي لمن وفقه الله تعالى أن يحث أولاده عَلَى حفظ القرآن وما تيسر من أحاديث النَّبِيّ ? المتفق عَلَى صحتها عنهُ كالبخاري ومسلم.
ومن الفقه مختصر المقنع ليتيسر لَهُ استخراج المسائل ويجعل لأولاده ما يحثهم عَلَى ذلك.
فمثلاً يجعل لمن يحفظ القرآن عَلَى صدره حفظاً صحيحاً عشرة آلاف أو أزيد أو أقل حسب حاله فِي الغني.
ومن الأحاديث عقود اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عَلَيْهِ الإمامان البخاري ومسلم، يجعل لمن يحفظ ذَلِكَ ستة آلاف (6000) .
فإن عجزوا عن حفظها فالعمدة فِي الْحَدِيث يجعل لمن حفظها ثلاثة آلاف (3000) أو الأربعين النووية ويجعل لمن حفظها ألفاً (1000) .
ويجعل لمن يحفظ مختصر المقنع فِي الفقه ألفين (2000) من الريالات فالغيب سبب لحفظ المسائل وسبب لسرعة استخراج ما أريد من ذَلِكَ وما أشكل معناه أو يدخلهم فِي مدارس تحفيظ القرآن والسنة هِيَ مدارس التعليم العالي الممتاز الباقي النافع فِي الدُّنْيَا والآخرة أو يدخلهم فِي حلقات تحفيظ القرآن الكريم الموجودة فِي المساجد.
فمن وفقه الله لذَلِكَ وعمل أولاده بذَلِكَ كَانَ سبباً لحصول الأجر من الله وسبباً لبرهم به ودعائهم لَهُ إِذَا ذكروا ذَلِكَ منه ولعله أن يكون سبباً مباركاً يعمل به أولاده مَعَ أولادهم فيزيد الأجَر لَهُ ولهم نسأل الله أن يوفق الجَمِيعَ لحسن النِّيةِ أنه القادر عَلَى ذلك.
ولم أَرَى لِلْخَلائِقِ مِنْ مُرَبٍ
…
كَعِلْمِ الشَّرعِ يُؤْخَذُ عن ثِقَاتِ
بِبَيْتِ اللهِ مَدْرَسَةٍ الأوَالِي
…
لِمَنْ يَهْوَى العُلُومَ الرَّاقِيَاتِ
(فَصْلٌ)
النَّصِيحَة مرتان: فالأولي فرض وديانة، وَالثَّانِيَة تنبيه وتذكير، وأما الثالثة فتوبيخ وتقريع إن أمكن ولم يحصل عَلَيْكَ ضرر، والنصح سراً لا جهراً وبتعريض لا تصريح إلا أن لا يفهم المنصوح تعريضك فلابد من التصريح، ولا تنصح عَلَى شرط القبول منك فإن تعديت فأَنْتَ مخطئ.
من أردت قضاء حاجته بعد أن سألك إياها أو أردت ابتداءه بقضائها فلا تعمل إلا ما يريده هُوَ لا ما تريده أَنْتَ وإلا فأمسك فإن تعديت هَذَا كنت مسيئاً لا محسناً.
لا تنقل إلي صَدِيقكَ ما يؤلم نَفْسَهُ ولا ينتفع بمعرفته ولا تكتمه ما يستضر بجهله ولا يسرك أن تمدح بما لَيْسَ فيك لأنَّ نقصك ينبه النَّاس عَلَيْهِ بل الَّذِي ينبغي لك غمك بذَلِكَ وقديماً قيل:
وَمَدْحُكَ الشَّخْصَ بِالأخلاق يَعْدمُهَا
…
لِلْحُرِ ذِي اللُّبِ تَبْكِيْتٌ وتَخْجِيْلٌ
ما شَيء أضيع وأضعف من عَالم ترك النَّاس علمه لفساد طريقته، وما شَيء أضيع وأضعف من جاهل أخذ النَّاس بجهله لنظرهم إلي عبادته.
وروي أن عمر أتي بشاهد عنده فَقَالَ لَهُ ائتني بمن يعرفك فأتاه برجل فأثني عَلَيْهِ خيراً، فَقَالَ لَهُ عمر أَنْتَ جاره الأدني الَّذِي يعرف مدخله ومخرجه.
قال لا قال فكنت رفيقه فِي السفر الَّذِي يستدل به عَلَى مكارم الأخلاق، قال لا قال فعاملته بالدرهم والدينار، قال لا.
قال أظنك رأيته قائماًً فِي المسجد يهمهم بالقرآن يخفض رأسه طوراً ويرفعه أخري.
قال نعم قال اذهب فلست تعرفه ثُمَّ قال للرجل اذهب فأتني بمن يعرفك.
من علامَات الاستدراج العمي عن العيوب وصرف نعم الله فِي معاصيه وخَيْر الرزق ما سلَم من الإثم فِي الاكتساب والغش فِي الصناعة والسلامة من أثمان المحركات كالمسكرات والدخان والتليفزيون والفيديو والكورة الورق التي يستعملها سخفاء العقول والبعيدون عَنِ الدين، أراح الله المُسْلِمِيْنَ منها وَمِنْهُمْ وَجَمِيع آلات المعاصي والملاهي والسلامة من الربا بجَمِيع أنواعه.
من شغله طلب الدُّنْيَا عَنِ الآخرة ذل، إما فِي الدُّنْيَا وإما فِي الآخرة، ومن نظر فِي سير السَّلَف عرف تقصيره وتخلفه عن درجات الرجال.
للإنسان المفرط موقفان يندم الإنسان فيهما عَلَى ضياع الوَقْت ندامة عظيمة حيث لا ينفع الندم، ولا يفيد التأسف والحزن.
الأول: ساعة الاحتضار حين يستدبر الإنسان الدُّنْيَا ويستقبل الآخرة ويتمني لَوْ أمهل برهة من الزمن ليتلافِي ويصلح ما أفسد وهيهات.
والجواب عَلَى السؤال الَّذِي قَدْ فات أوانه {وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} .
الموقف الثاني: فِي الآخرة قال تعالى {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} . الآيات.
وَقَالَ تعالى {وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الآيات.
وَقَالَ تعالى {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ} .
قال بعض العلماء: أفضل البُكَاء بُكَاء الْعَبْد عَلَى ما سلف من ذنوبه
ومعاصيه وعَلَى ما فات من أوقاته فِي غَيْر طاعة الله جَلَّ وَعَلا وَقَالَ إنما يخاف المُؤْمِن الموت لخوفه من الذُّنُوب والانقطاع عَن الأعمال الصَّالِحَة من ذكر الله وما والاه مِنْ جَمِيعِ أفعال الطاعات والقربات وإلا فأحب شَيء إليه لقاء ربه جَلَّ وَعَلا الواجب عَلَى الإنسان العاقل أن يحافظ عَلَى وقته أكثر من محافظته عَلَى ماله وأن يحرص عَلَى الاستفادة منه فيما ينفعه ويقربه إلي الله عز وجل.
ولَقَدْ كَانَ السَّلَف أحرص ما يكونون عَلَى أوقاتهم لأنَّهُمْ يعرفون قيمتها ولذَلِكَ يَقُولُ الحسن البصري: أدركت أقواماً كَانُوا عَلَى أوقاتهم أشد منكمْ حرصاً عَلَى دراهمكم ودنانيركم.
وَقَالَ يا ابن آدم إنما أَنْتَ أيام مجموعة كُلَّما ذهب يوم ذهب بعضك.
وَقَالَ آخر: الوَقْت إِذَا فات لا يستدرك ولا شَيء أعز منه.
وكَانُوا يحرصون كُلّ الحرص إلا يمرَّ زمن ولَوْ يسيراً دون أن يتزود فِيه بعمل صالح أو علم نافع أو مجاهدة للنفس أو إيصال نفع إلي قريب أو بعيد.
وَقَالَ ابن مسعود رضي الله عنه: ما ندمت عَلَى شَيء ندمي عَلَى يوم غربت شمسه نقص فِيه أجلي ولم يزدد فِيه عملي.
وَقَالَ آخر: كُلّ يوم يمر بي لا أزداد فِيه عِلماً يقربني من الله عز وجل فلا بورك فِي طلوع شمس ذَلِكَ إليوم.
إِذَا مر بي يوم ولم أقتبس هدي
…
ولم أستفد عِلماً فما ذاك من عمري
من جهل قيمة الوَقْت الآن فسيأتي عَلَيْهِ يوم يعرف فِيه قيمة الوَقْت ولكن بعد فوات الأوان ويتمني أنه شغل وقته الماضي بالباقيات الصالحات من تسبيح وتحميد وتهليل وتكبير وقراءة لكتاب الله وصلاة وصيام وزكاة وحج وبر وصلة رحم ونحو ذَلِكَ مِمَّا يجده موفراً أحوج ما يكون إليه.
إِذَا أَنْتَ لم تزرع وأبصرت زارعاً
…
ندمت عَلَى التفريط فِي زمن البذر
قيل لأحد العلماء: ما بال كتب السَّلَف وكلامهم ومواعظهم أنفع من كلامنا وكتبنا ومواعظنا، قال: لأنَّهُمْ يتكلمون لعز الإسلام ونفع المُسْلِمِيْنَ ورضا الرحمن وإِزَالَة ما يضر الإسلام والمُسْلِمِيْنَ.
ونَحْنُ نتكلم لعز النفس وطلب الدُّنْيَا وقبول الخلق والشهرة والظهور والتصنع والرياء وطلب المدح والثناء.
قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: اتق الله بطاعته وأطلع الله بتقواه ولتخفْ يداك من دماء المُسْلِمِيْنَ وبطنك من أموالهم ولسانك من أعراضهم وحاسب نفسك فِي كُلّ خطوة وراقب الله فِي كُلّ نفس. وَاللهُ أَعْلم.
(فَصْلٌ)
وَقَالَ ابن القيم:
دافع الخطرة فإن لم تفعل صَارَت شهوة فإن لم تفعل صَارَت عزيمة وهمة فإن لم تدافعها صَارَت فعلاً فإن لم تداركه بصده صار عادة فيصعب عَلَيْكَ الانتقال عنها.
واعْلم أن كُلّ علم اختياري هُوَ الخواطر والأفكار فإنها توجب التصورات والتصورات تدعو إلي الإرادات والإرادات تقتضي وقوع الْفِعْل وكثرة تكراره تعطي العادة.
فصلاح هذه المراتب بصلاح الخواطر والأفكار وفسادها بفسادها وصلاح الخواطر بأن تَكُون مُرَاقَبَة لوليها وإلاهها صاعدة إليه دائرة عَلَى مرضاته ومحابه فإنه سُبْحَانَهُ به كُلّ صلاح ومن عنده كُلّ هدي ومن توفيقه كُلّ رشد ومن توليه لعبده كُلّ حفظ ومن تولي الْعَبْد عنْه وإعراضه عنهُ كُلّ ضلال وشقاء.
واعْلم أن الخطرات والوساوس تؤدي متعلقاتها إلي الفكر فيأخذها الفكر فيؤديها إلي التذكر فيأخذها التذكر فيؤديها إلي الإرادة فتأخذها الإرادة فتؤديها إلي الجوارح والْعَمَل فتستحكم فتصير عادة فردها من مبادئها أسهل من قطعها بعد قوتها وتمامها.
ومعلوم أن الإنسان لم يعط إماتة الخواطر ولا القوة عَلَى قطعها فإنها تهجم عَلَيْهِ هجوم النفس إلا أن قوة الإيمان والعقل تعينه عَلَى قبول أحسنها ورضاه به وساكنته لَهُ وعَلَى دفع أقبحها وكراهته لَهُ ونفرته منه.
وقَدْ خلق الله النفس شبيهة بالرحي الدائرة التي لا تسكن ولابد لها من شَيْء تطحنه فإن وضع فيها حب طحنته وإن وضع فيها تراب أو حصي طحنته فالخواطر والأفكار التي تجول فِي النفس هِيَ بمنزلة الحب الَّذِي يوضع فِي الرحي ولا تبقي تلك الرحي معطلة قط بل لابد لها من شَيْء يوضع فيها.
فمن النَّاس من تطحن رحاه حباً يخرج دقيقاً ينفع به نَفْسَهُ وغيره وأكثرهم يطحن رملاً وحصي وتبناً ونحو ذَلِكَ فإِذَا جَاءَ وَقْت العجن والخبز تبين لَهُ حَقِيقَة طحينه أهـ قُلْتُ وبَعْضهمْ من يطحن برحاه نجاسات كالزناة واللوطية واللصوص وأَهْل الملاهي وَجَمِيع الفسقة.
وَقَالَ ابن مسعود رضي الله عنه ارض بما قسم الله لك تكن من أغني النَّاس واجتنب ما حرم الله عَلَيْكَ تكن من أورع النَّاس وأد ما افترض الله عَلَيْكَ تكن من أعبد الناس.
وَقَالَ ابن القيم رحمه الله: لله سُبْحَانَهُ عَلَى كُلّ أحد عبودية بحسب مرتبته سوي العبودية العامة التي سوي بين عباده فيها.
فعَلَى العَالم من عبودية نشر السنة والعلم الَّذِي بعث الله به رسوله ? ما لَيْسَ عَلَى الجاهل وعَلَيْهِ عبودية الصبر عَلَى ذَلِكَ ما لَيْسَ عَلَى غيره.
وعَلَى الحاكم من عبودية إقامة الحق وتنفيذه وإلزامه من هُوَ عَلَيْهِ به والصبر عَلَى ذَلِكَ والجهاد عَلَيْهِ ما لَيْسَ عَلَى المفتي وعَلَى الغني من عبودية أداء الحقوق التي فِي ماله ما لَيْسَ عَلَى الفقير.
وعَلَى القادر عَلَى الأمر بالمعروف والنهي عن الْمُنْكَر بيده ولِسَانه ما لَيْسَ عَلَى العاجز عنهما.
وقَدْ غر إبلَيْسُ كثيراً من الخلق بأن زين لهُمْ الاقتصار عَلَى القيام بنوع من الذكر والقراءة والصَّلاة والصيام والزهد فِي الدُّنْيَا والانقطاع عن الاختلاط بِالنَّاسِ وعطلوا القيام بالعبوديات المتعدي نفعها المتقدم ذكرها.
وإِذَا قُلْتُ لأحدهم كيف حالك قال بخَيْر وسرور وأي خَيْر وسرور فيمن
يري محارم الله تنتهك وحدوده تضاع والمنكرات والملاهي فِي البيوت والأسواق وَهُوَ بارد الْقَلْب مداهن ساكت لا يشعر بهَذَا النقص العَظِيم وعِنْدَ نقوص الدُّنْيَا يشتغل قَلْبهُ ولِسَانه وجسده ولله در القائل:
مَا لِي أَرَى النَّاسَ والدُّنْيَا مُوَلّيَةٌ
…
وَكُلَّ جَمْعِ عَلَيْهَا سَوْفَ يَنْتَثِرُ
لَا يَشْعُرُونَ إِذَا مَا دِيْنَهُمْ نُقِصُوْا
…
يَوْمَاً وَإِنْ نُقِصَتْ دُنْيَاهُمُ شَعِرُوْا
آخر:
…
وعِنْدَ مُرَادِ اللهِ تَفْنَى كَمَيْتٍ
…
وعِنْدَ مُرَادِ النَّفْسِ تُسْدِيْ وتُلْحِمُ
آخر:
…
تَرَاهُ يَشْفَقُ مِنْ تَضْيِيْعِ دِرْهَمِهِ
…
ولَيْسَ يَشْفْقُ مِنْ دِيْنٍ يُضْيِعُهُ
آخر:
…
تُفَكِرُ فِي نُقْصًانِ مَالُكَ دَائِماً
…
وَتَغْفَلُ عن نُقْصَانِ دِيّنِكَ والعُمْرِ
ويُلْهِيكَ خَوْفُ الفَقْرِ عن كُلِّ طَاعَةٍ
…
وَخِيْفَةُ حَالِ الفَقْرِ شَرٌ مِنَ الفَقْرِ
قال بعض العلماء: الزم الأدب وفارق الهَوَى والْغَضَب واعمل فِي أسباب التيقظ واتخذ الرفق حزباً والتأنيَ صاحبات والسلامة كهفاً والفراغ غنيمةً والدُّنْيَا مطيَّةً والآخرةَ منزلاً.
شِعْراً:
وأَصْبَحْتُ فِي مَا كُنْتَ أبْغْيَ مِنْ الغِنَى
…
إلي الزهد فِي الدُّنْيَا الدنية أحوجا
وحَسَّبْتُ نَفْسِي بَيْنَ بَيْتِي وَمَسْجِدِي
…
وَقَدْ صِرْتُ مِثْلَ النَّسْرِ أهْوَى التَّعَرُجَا
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصَرِيَّ: إِنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْ لِلْمُؤْمِن راحة دون الجنة. وَقَالَ فضيل لَيْسَ الغريب من يمشي من بلد إلي بلد ولكن الغريب صالح بين فساق قُلْتُ:
لَيْسَ الغَرِيبُ غَرِيْبُ الشَامِ واليَمَنِ
…
إِنّ الغَرِيْبَ تَقِيُّ بَيْنَ فُسَّاقِ
وَقَالَ آخر: احذر الغَفْلَة ومخاتل الْعَدُو وطربات الهَوَى وأماني النفس وضراوة الشهوة قال ابن القيم واعْلم أن الصبر عَلَى الشهوة أسهل من الصبر عَلَى ما توجبه الشهوة.
فإن الشهوة إما أن تَكُون توجب أَلَمًا وعقوبة.
وإما أن تقطع لذة أكمل منها.
وإما أن تضيع وقتاً إضاعته حَسْرَة وندامة.
وإما أن تثلم عرضاً توفيره أنفع للعبد من ثلمه.
وإما أن تذهب مالاً بقاؤه خيرٌ من ذهابه.
وإما تضع قدراً وجاهاً قيامه خَيْرٌ من وضعه.
وإما أن تسلب نعمة بقاؤها ألذ وأطيب من قضاء الشهوة.
وإما أن تطرق لوضيع إليك طريقاً لم يكن يجدها من قبل.
وإما أن تجلب هماً وغماً وحزناً وخوفاً لا يقارب لذة الشهوة.
وإما أن تنسي عِلماً ذكره ألذ من نيل الشهوة.
وإما أن تشمت عدواً وتحزن ولياً.
وإما أن تقطع الطَرِيق عَلَى نعمة مقبلة.
وإما أن تحدث عيباً يبقي صفة لا تزول، فإن الأعمال تورث الصفات والأخلاق أهـ.
وَقَالَ المحاسبي رحمه الله: اطلب آثار من زاده العلم خشية والْعَمَل بصيرة والعقل معرفة.
واعْلم أن فِي كُلّ فكرة أدباً وفِي كُلّ إشارة عِلماً وإنما يميز ذَلِكَ من فهم عَن الله مراده وجني فَوَائِد اليقين من خطابه وعلامة ذَلِكَ فِي الصادق إِذَا نظر اعتبر وإِذَا صمت تفكر.
وإِذَا تكلم ذكر وإِذَا منع صبر وإِذَا أعطي شكر وإِذَا ابتلي استرجع وإِذَا جُهِلَ عَلَيْهِ حلَم وإِذَا علم تواضع وإِذَا علم رفق وإِذَا سئل بذل.
شفاء للقاصد وعون للمسترشد حليف صدق وكهف بر قريب الرِّضَا فِي حق نَفْسه بعيد الهمة فِي حق الله تعالى نيته أفضل من عمله وعمله أبلغ من قوله. موطنه الحق ومعقله الحياء ومعلومه الورع وشاهده الثِّقَة لَهُ بصائر من النور يبصر بِهَا وحقائق من العلم ينطق بِهَا ودلائل من اليقين يعبر عنها.
يحسبه الجاهل صميتاً عيياً وحكمته أصمتته ويحسبه الأحمق مهذاراً والنَّصِيحَة لله أنطقته ويحسبه الجاهل غنياً والتعفف أغناه ويحسبه فقيراً والتواضع أدناه.
لا يتعرض لما لا يعنيه ولا يتكلف فوق ما يكفِيه ولا يأخذ ما لَيْسَ بمحتاج إليه ولا إليه ولا يدع ما وكل بحفظه النَّاس منه فِي راحة وَهُوَ من نَفْسهِ فِي تعب قَدْ أمَاتَ بالورع حرصه وحسم بالتقي طعمه وأمَاتَ بنور العلم شهواته.
فهكَذَا فكن ولمثل هؤلاء فاصحب ولآثارهم فاتبع وبأخلاقهم فتأدب واعْلم وسع الله بالفهم قلبك وأنار بالعلم صدرك وجمَعَ باليقين همك أني وجدت كُلّ بَلاء داخل عَلَى الْقَلْب من نتاج الفضول وأصل ذَلِكَ الدخول فِي الدُّنْيَا بالجهل ونسيان المعاد بعد العلم.
والنجاة من ذَلِكَ ترك كُلّ مجهول فِي الورع وأخذ كُلّ معلوم فِي اليقين أهـ.
وإِذَا اشتبه عَلَيْكَ أمر من الأمور أو خفيت عَلَيْكَ قضية فارجع إلي اْلكِتَاب والسنة ولا تحتكم فيها إلي العقل لأنه يقوي ويضعف أهـ ويتأثر بالمؤثرات.
قال ابن المبارك: الْقَلْب مثل المرآة إِذَا طالت صدئت وكالدابة إِذَا غفل عنهَا عدلت عن الطريق.
وَقَالَ أحد الحكماء: الْقَلْب مثل بيت لَهُ ستة أبواب ثُمَّ قيل احذر ألا يدخل عَلَيْكَ من أحد الأبواب شَيْء فيفسد عَلَيْكَ البيت.
والأبواب هِيَ العينان واللسان والسمع والبصر واليدان والرجلان فمتي انفتح باب من هذه الأبواب بغَيْر علمٍ ضاع البيت.
وفرض اللسان الصدق فِي الرِّضَا والْغَضَب وكف الأذي.
وفرض البصر الغض عَن المحارم وترك التطلع فيما حجب وستر.
وفرض السمع تبع للكلام والنظر فكل ما لا يحل لك الكلام فِيه والنظر إليه فلا يحل لك استماعه ولا التلذذ به والبحث عما كتم عنكَ تجسس.
وسماع اللهو والغناء وأذي المُسْلِمِيْنَ حرام كالميتة، سئل القاسم عن سماع الغناء فَقَالَ: إِذَا ميز الله بين الحق والْبَاطِل يوم القيامة أين يقع الغناء قيل فِي حوز الْبَاطِل قال فأفت نفسك.
وفرض اليدين والرجلين أن يكفهما ولا يبسطهما إلي محرم ولا يقبضهما عن حق وفرض الأنف أن لا يشم ما لا يجوز لَهُ شمه. قُلْتُ وقَدْ ترك باباً وَهُوَ أهمها وأخطرها وَهُوَ الفرج وفرضه حفظه عما عدا الزوجة والمملوكة قال تعالى {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} .
واعْلم أن أنجي الطَرِيق الْعَمَل بالعلم والتحرز بالخوف والغني بِاللهِ عز وجل فاشتغل بإصلاح حالك وافتقر إلي ربك وتنزه عَن الشبهات وأقلل حوائجك إلي النَّاس فإن كثير الحاجات مملول عنْدَ القريب والبعيد.
لَا تَسْأَلَنَّ إِلى صَدِيْقٍ حَاجَةً
…
فَيَحُولُ عنكَ كَمَا الزَمَانُ يَحُولُ
وَاسْتَغْنَ بِالشَيْءِ القَلْيِلِ فَإِنَّهُ
…
مَا صَانَ عِرْضَكَ لَا يُقَالُ قَلِيْلُ
مَنْ عَفَّ خَفَّ عَلَى الصَّدِيْقِ لِقَاؤُهُ
…
وَأَخُو الحَوَائِجِ وَجْهَهُ مَمْلُوْلُ
وَأَخُوكَ مَنْ وَفَرْتَ مَا فِي كَفِهِ
…
وَمَتَى عَلِقْتَ بِهِ فَأَنْتَ ثَقْيِلُ
قيل لأحد الفقراء: ما أفقرك؟ فَقَالَ: لَوْ عرفت راحة الفقر لشغلك التوجع لنفسك عَن التوجع لي فالفقر ملك ما عَلَيْهِ محاسبة وقيل لَهُ لما لا يري أثر الحزن عَلَيْكَ فَقَالَ لأنني لم أتخذ شيئاً يحزنني فقده.
وَقَالَ بعض الحكماء: من أحب أن تقل همومه ومصائبه فليقلل قنيته للخارجات من يده لأن أسباب الهم فوت المطلوب أو فقد المحبوب ولا يسلم مِنْهُمَا إنسان قال الشاعر:
ومن سره أن لا يري ما يسوؤه
…
فلا يتخذ شيئاً يخاف لَهُ فقداً
وذكر أنه لما غرقت البصرة أخذ النَّاس يستغيثون لإخراج أموالهم فخرج الحسن رضي الله عنه ومعه قصعته وعصاه فَقَالَ نجا المخفون وقيل لأحد الزهاد أترضي من الدُّنْيَا بهذه الحال فَقَالَ إلا أدلك عَلَى من رضي بدون هَذَا قال نعم قال من رضي بالدُّنْيَا بدلاً من الآخرة.
وقيل لمُحَمَّد بن واسع رحمه الله أترضي بالدون فَقَالَ: إنما رضي بالدون من رضي بالدُّنْيَا بدلاً من الآخرة. وَقَالَ زاهد لملك أَنْتَ عبد عبدي لأنك
تعبد الدُّنْيَا لرغبتك فيها وأنَا مولاها لرغبتي عنهَا وزهدي فيها. شعراً:
أَنْتَ الأمِيْرُ عَلَى الدُّنْيَا لِزُهْدِكَ فِي
…
حُطَامِهَا وَطَرِيْقُ الحَقِ مَسْلُوْكُ
وأَنْتَ عَبْدُ لَهَا مَا دُمْتَ تَعْشَقُهَا
…
إِنَّ المُحِبَّ لِمَنْ يَهْوَاهُ مَمْلُوْكُ
آخر:
…
أرَي الدُّنْيَا لِمَنْ هِيَ فِي يَدَيْهِ
…
عَذَاباً كُلَّمَا كَثُرَتْ لَدَيْهِ
تُهِيْنُ المُكْرِمِيْنَ لَهَا بِصُغْرٍ
…
وَتُكْرِمُ كُلَّ مَنْ هَانَتْ عَلَيْهِ
إِذَا اسْتَغْنَيْتَ عن شَيءٍ فَدَعْهُ
…
وَخُذْ مَا أَنْتَ مُحْتَاجٌ إِليْهِ
آخر:
…
أَرَى أَشْقِيَاءَ النَّاسِ لَا يَسْأَمُوْنَهَا
…
عَلَى أنَّهُمْ فِيها عُرَاةٌ وَجُوَّعُ
أَرَاهَا وَإِنْ كَانَتْ تُحِبُّ كَأَنَّهَا
…
سَحَابَةُ صَيْفٍ عن قَلِيْلٍ تَقَشَّعُ
وَقَالَ مالك بن أنس: كنا عنْدَ جعفر بن مُحَمَّد فدخل سفيان الثوري فَقَالَ لَهُ حدثني رَحِمَكَ اللهُ فَقَالَ يا أبا عَبْد اللهِ أكثر من الْحَدِيث أعلمك ثلاثاً خَيْر لك من مال كثير يا سفيان إِذَا أنعم الله عَلَيْكَ نعمة فأكثر من الحمد لله فإن الله تعالى يَقُولُ {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} .
وإِذَا قُلْتُ نفقتك فعَلَيْكَ بالاستغفار فإنه يزيدك من الْمَال والولد والنعمة قال الله تعالى {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً} وإِذَا اشتد بك الكرب فعَلَيْكَ بلا حول ولا قوة إلا بِاللهِ فإنها كنز من كنوز الْجَنَّة فجعل سفيان يقولها ويعدها فِي يده ثلاثاً.
وَقَالَ رجل لعمر بن عَبْد الْعَزِيز عَلَيْكَ بما يبقي لك عِنْدَ الله فإنه لا يبقي لك ما عِنْدَ النَّاس فبلغ ذَلِكَ الزهري فَقَالَ لَقَدْ وعظه بالتوراة والإنجيل والفرقان.
من أصعب الأشْيَاءِ عَلَى الإنسان معرفته بعيوبه والإمساك عن الدخول فيما لا يعنيه. قُلْتُ والغيبة والكذب والرياء.
مِمَّا يجب الابتعاد عنهُ والتحذير منه مُجَالَسَة أَهْل الفساد لأنه يعلق
بالإنسان من مجالستهم والاتصال بِهُمْ أضعاف ما يعلق به من مُجَالَسَة العقلاء لأن الفساد أشد التحاماً بالطباع والنفس والشيطان يساعدان عَلَى ذلك.
وَمَا يَنْفَعُ الجَرْبَاءَ قُرْبُ صَحِيْحَةٍ
…
إِليْهَا وَلَكِنَّ الصَّحِيْحَةَ تُجْرَبُ
العاقل حَقِيقَة هُوَ من آثرالطاعة عَلَى المعصية وآثر العلم عَلَى الجهل وآثر الدين عَلَى الدُّنْيَا وكف أذَاه عَن النَّاس والعَالم حَقِيقَة هُوَ من خشي الله تعالى وعمل بما علم. قال تعالى {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} .
(فائدة)
إحالة الأعمال الصَّالِحَة إلي وجود الفراغ من أمور الدُّنْيَا من الحمق لوجوه منها إيثار الدُّنْيَا عَلَى الآخرة والله يَقُولُ {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} .
والثاني: أن تسويف الْعَمَل إلي أوان فراغه دَلِيل عَلَى جهل الإنسان وغباوته لأنه قَدْ لا يجد مهلة فربما اختطفه الموت قبل ذَلِكَ وَرُبَّمَا يزداد شغله لأن أشغال الدُّنْيَا يجذب بعضها بعضاً ولا تنتهي غالباً إلا بالموت.
قال الشاعر:
وَمَا قَضَى أَحَدٌ مِنْهَا لُبَانَتَهُ
…
وَلَا انْتَهَى أَرَبٌ إلا إِلى أَرَبَ
فالواجب عَلَى الإنسان المبادرة إلي الأعمال الصَّالِحَة عَلَى أي حال كَانَ وأن ينتهز فرصة الإمكَان قبل مفاجأة هادم اللذات وأن يتوكل عَلَى الله ويطلب منه العون فِي تيسيرها إليه وصرف الموانع الحائلة.
قال الشاعر عَلَى اغتتام الوَقْت:
وَخُذْ مِنْ قَرِيْبٍ وَاسْتَجِبْ وَاجْتَنِبْ غَداً
…
وَشَمِرْ عن السَّاقِ إِجْتِهَاداً بِنَهْضَة
وَكُنْ صَارِماً كَالوَقْتِ فَالمَقْتُ فِي عَسَى
…
وَإِيَّاكَ مَهْلاً فَهْيَ أخْطَرُ عِلَّةِ
وَسِرْ زَمِناً وَانْهَضْ كَسِيْراً فَحَظَّكَ الْـ
…
بَطَالَةُ مَا أَخَّرْتَ عَزْماً لِصِحَّةِ
وَجُذّ بِسَيْفِ العَزْمِ سَوْفَ فَإِنْ تَجِدْ
…
تَجْدْ نَفْساً فَالنَفْسُ إِنْ جُدْتَ جَدَّتِ
قال الفضيل بن عياض: لَوْ أن أَهْل العلم أكرموا أنفسهم وشحُّوا عَلَى دينهم وأعزوا العلم وصانوه وأنزلوه حيث أنرله الله لخضعت لهم رقاب الجبابرة وانقاد لهم الناس وكانوا لهم تبعاً وعز الإسلام وأهله، ولكنهم أذلوا أنفسهم ولم يبالوا بما نقص من دينهم إذا سلمت لهم دنياهم فبذلوا علمهم لأبناء الدنيا ليصيبوا بذلك ما في أيدي الناس فذلوا وهانوا عَلَى الناس. انتهي.
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ العِلْمِ صَانُوهُ صَانَهُمْ
…
ولَوْ عَظّمُوهُ فِي النُّفُوسِ لَعُظّمَا
وَلَكِنْ أَهَانُوْهُ فَهَانُوْا وَدَنَّسُوْا
…
مُحَيَّاهُ بِالأطْمَاعِ حَتَّى تَجَهَّمَا
فَإِنْ قُلْتُ زَنْدَ العِلْمِ كَابٍ فَإِنَمَا
…
كَبَى حَيْثُ لم تُمْحَ حِمَاهُ وأَظْلَمَا
آخر:
…
اعْمَلْ بِعِلْمِكَ تَغْنَمْ أيُّهَا الرَّجُلُ
…
لَا يَنْفَعُ العِلْمُ إِنْ يَحْسُنِ العَمَلُ
والعِلْمُ زَيْنٌ وَتْقوى اللهِ زِينَتُهُ
…
والمُتَّقُونَ لَهُمْ فِي عِلْمِهِمْ شُغُلُ
وحُجَّةُ اللهِ يَاذَا العِلْمِ بَالِغَةٌ
…
لَا المَكْرُ يَنْفَعُ فِيها لَا وَلَا الحِيَلُ
تَعَلَّمِ العِلْمَ واعْمَلْ مَا اسْتَطَعْتَ بِهِ
…
لَا يُلْهِيَنَّكَ عَتَهُ اللَّهْوُ والجَذَلُ
وعَلَّمَ النَّاسَ واقْصِدْ نَفْعَهُمْ أبَدَاً
…
إِيَّاكَ إِيَّاكَ أَنْ يَعْتَادَكَ المَلَلُ
وَعِظْ أَخَاكَ بِرِفْقٍ عِنْدَ زَلَّتِهِ
…
فَالرِّفْقُ يَعْطِفُ مَنْ يَعْتَادُهُ الزَّلَلُ
وَإِنْ تَكُنْ بَيْنَ قَوْمٍ لَا خَلَاقَ لَهُمْ
…
فَأمُرْ عَلَيْهِمْ بِمَعْروفٍ إِذَا جَهِلُوْا
فَإِنْ عَصَوْكَ فَراجِعْهُمْ بِلَا ضَجَرِ
…
واصْبِرْ وَصَابِرْ وَلَا يَحْزُنْكَ مَا فَعَلُوْا
فَكُلُّ شَاةٍ بِرِجْلَيْهَا مُعَلَّقَةٌ
…
عَلَيْكَ نَفْسَكَ إِنْ جَارُوْا وَإِنْ عَدَلُوْا
والحمد لله رب العالمين، وصلواته عَلَى سيدنا مُحَمَّد خاتم النبيين، وآله الطاهرين.
(فَصْلٌ)
ومن وصايا أبي حنيفة لأبي يوسف: لا تتكلم بين يدي العامة إلا بما تسأل عنهُ، قُلْتُ أو (فيما يعود عَلَيْهمْ بما ينفعهم وإنْ لم يسألوا) .
ولا تكثر الْخُرُوج إلي السوق ولا تكلم المراهقين فَإنَّهُمْ فتنة (قُلْتُ إلا لضرورة أو حاجة) .
ولا تمش فِي قارعة الطَرِيق مَعَ المشايخ والعامة فإنك إن قدمتهم ازدري بعلمك وإن أخرتهم ازدري بك من حيث أنَّهُمْ أسن منك.
قال النَّبِيّ ?: " من لم يرحم صغيرنا ولم يوقر كبيرنا فلَيْسَ منا ".
ولا تقعد عَلَى قوارع الطَرِيق فإن دعاك ذَلِكَ فاقعد فِي المسجد.
ولا تأكل فِي الأسواق والمساجد قُلْتُ إلا لضرورة أو حاجة.
ولا ترض لنفسك من العبادات إلا بأكثر مِمَّا يفعله غيرك وتعاطاها فإن العامة إِذَا لم يروا الإقبال عَلَيْهَا أكثر مِمَّا يفعلون اعتقدوا فيك قلة الرغبة واعتقدوا أن علمك لا ينفعك إلا ما نفعهم الجهل الَّذِي هم فيه.
وإِذَا دخلت بلدة فيها أَهْل العلم فلا تتخذها لنفسك بل كن كواحد من أهلها ليعلموا أنك لا تقصد جاههم ولا يخرجون عَلَيْكَ بأجمعهم ويطعنون فِي مذهبك وتصير مطعوناً عندهم بلا فائدة.
وإن استفتوك فلا تناقشهم فِي المناظرة والمطارحات.
ولا تذكر لهُمْ شيئاً إلا عن دَلِيل واضح.
ولا تطعن فِي أساتذتهم فَإنَّهُمْ يطعنون فيك. قُلْتُ إلا أن يكونوا مبتدعين كالأشاعرة فيحذر عنهم.
وكن من النَّاس عَلَى حذر.
وكن لله تعالى فِي سرك كما أَنْتَ لَهُ فِي علانيتك.
ولا يصلح أمر العلم إلا بعد أن يجعل سره كعلانيته.
وإِذَا أولاك السُّلْطَان عملاً فلا تقبل ذَلِكَ منه إلا بعد أن تعلمَ أنه إنما يوليك ذَلِكَ لعلمك.
وَإِيَّاكَ أن تتكلم فِي مجلس النظر عَلَى خوف، فإن ذَلِكَ يورث الخلل فِي الألفاظ، والكلل فِي اللسان.
وَإِيَّاكَ أن تكثر الضحك، فإنه يميت القلب.
ولا تمش إلا عَلَى طمأنينة. قُلْتُ لقول الله تعالى {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} .
ولا تكن عجولاً فِي الأمور قُلْتُ إلا فيما حث الشارع عَلَى الإسراع والمبادرة فيه.
وإِذَا تكلمت فلا تكثر التصويت، ولا ترفع صوتك. قُلْتُ لأنه يدل عَلَى قلة العقل قال الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} .
واتخذ لنفسك السكون وقلة الحركة، ليتحقق عِنْدَ النَّاس ثباتك. ولأنه يدل عَلَى رزانة العقل.
وأكثر من ذكر الله تعالى فيما بين النَّاس، ليتعلموا ذَلِكَ منك. قُلْتُ وليكون لَهُ مثل أجورهم لحديث من دل عَلَى خَيْر فله مثل أجر فاعله.
واتخذ لنفسك ورداً خلف الصلوات تقَرَأَ فِيه القرآن، وتذكر الله تعالى وتحمده وتشكره.
واتخذ أياماً معدودة من كُلّ شهر تصوم فيها ليقتدي بك غيرك.
ولا تطمئن إلي دنياك وإلي ما أَنْتَ فِيه فإن الله سائلك عن جَمِيع ذلك.
وإِذَا عرفت إنسانَاً بالشر فلا تذكره به بل اطلب منه خيراً فاذكره به.
إلا فِي باب الدين فإنك إن عرفت فِي دينه ذَلِكَ فاذكره للناس كي لا يتبعوه وليحذروه، قال عليه الصلاة والسلام "اذكروا الفاجر بما فِيه حتي يحذره الناس" وإن كَانَ ذا جاه ومنزلة فاذكر ذَلِكَ ولا تبال من جاهه فإن الله تعالى معينك وناصرك وناصر الدين.
فإن فعلت ذَلِكَ مرة هابوك ولم يتجاسر أحد عَلَى إظهار البدعة فِي الدين.
ولا تجالس أَحَداً من أَهْل الأهواء إلا عَلَى سبيل الدعوة إلي الدين ولا تشاتم.
وإِذَا أذن المؤذن فتأهب لدخول المسجد لئلا تتقدم عَلَيْكَ العامة قُلْتُ بل للمبادرة إلي أداء الفريضة وليقتدي بك غيرك.
ولا تتخذ دارك فِي جوار السلطان.
وما رَأَيْت عَلَى جارك فاستره فإنه أمانة.
ولا تظهر أسرار الناس.
ومن استشارك فِي شَيء فأشر عَلَيْهِ بما يقربك إلي الله تعالى.
وَإِيَّاكَ والبخل فإنه تنقص به المروءة ولا تكن طماعاً ولا كذاباً. قُلْتُ: ولا جاسوساً ولا غياباً ولا نماماً ولا غشاشاً.
وأظهر غني الْقَلْب مظهراً فِي نفسك قلة الحرص والرغبة وأظهر من نفسك الغني ولا تظهر الفقر وإن كنت فقيراً.
وكن ذا همة فإن من ضعفت همته ضعفت منزلته.
وإِذَا مشيت مَعَ الطَرِيق فلا تتلفت يميناً ولا شمالاً بل داوم النظر فِي الأرض قُلْتُ: إلا لضرورة أو حاجة.
ولا تماكس بالحبات والدوانق وحقر الدُّنْيَا المحقرة عِنْدَ أَهْل العلم (أي عِلماء الآخرة العاملون بعلمهم لا علماء الدنيا) .
وول أمورك غيرك ليمكنك الإقبال عَلَى العلم وَإِيَّاكَ أن تكلم المجانين ومن لا يعرف المناظرة والحجة من أَهْل العلم والَّذِينَ يطلبون الجاه ويستغرقون بذكر المسائل فيما بين النَّاس فَإنَّهُمْ يطلبون تخجيلك ولا يبالون منك وإن عرفوك عَلَى الحق.
وإِذَا دخلت عَلَى قوم كبار فلا ترتفع عَلَيْهمْ ما لم يرفعوك لئلا يلحق بك مِنْهُمْ أذية.
وإِذَا كنت فِي قوم فلا تتقدم عَلَيْهمْ فِي الصَّلاة ما لم يقدموك عَلَى وجه التقدير. قُلْتُ إلا أن يكون أقرأهم لكتاب الله فيتقدم.
وَاللهُ أَعْلم وصلي الله عَلَى مُحَمَّد.
(فَصْلٌ)
صحبة أَهْل الصلاح تورث فِي الْقَلْب الصلاح وصحبة أَهْل الشر والفساد تورث فِي الْقَلْب الفساد.
أخوك من عرفك العيوب وصَدِيقُكَ من حذرك من الذنوب.
كَانَ بعض العلماء لا يدع أَحَداً يغتاب فِي مجلسه أَحَداً يَقُولُ إن ذكرتم الله أعَنَّاكُمْ وإن ذكرتم النَّاس تركناكم.
وَقَالَ آخر: لا تكن ولياً لله فِي العلانية وعدوه فِي السر.
وَقَالَ كُلّ ما شغلك عن الله عز وجل من أَهْل ومال وولد فهو عَلَيْكَ شؤم.
إِذَا كانت الآخرة بالْقَلْب جاءت الدُّنْيَا تزاحمها وإِذَا كانت الدُّنْيَا بالْقَلْب لم تزاحمها الآخرة لأنها كريمة فاجعل الآخرة فِي قلبك.
ومن أعطاه الله فضلاً فِي دنيا فليحمد الله، وليكثر من شكره وذكره، ولا يفخرن به عَلَى أخيه، ولا يتداخله الكبر والعجب والتعاظم.
وَقَالَ: لا تبدر منكم عِنْدَ الْغَضَب كلمة الفحش، فإنها تزيد العار والمنقصة، وتلحق بكم العيب والهجنة، وتجر عليكم المآثمَ والعقوبةَ.
وَقَالَ خَيْر الملوك شرفاً من بدل سنة السُّوء فِي مملكته بالسنة الصَّالِحَة، وشرهم من بدل السنة الصَّالِحَة الحسنة بالسنة السوء.
والدَلِيل عَلَى غريزة الجود السماحة عِنْدَ العسرة ومعني العسرة (الضيق والشدة) .
والدَلِيل عَلَى غريزة الورع الصدق عِنْدَ السخط والبعد عن الشبهات ومواضع الريب والإكثار ومن ذكر الله وحمده وشكره والتفتيش عَلَى المآكل والمشارب والملابس ونحوها بدقة.
والدَلِيل علي غريزة الحلمِ العفو عِنْدَ الغضب.
ومن أعظم النَّاس مصيبة من لم يكن لَهُ عقل ولا حكمة، ولا لَهُ فِي الأدب رغبة.
شِعْراً:
…
قَدْ مَضَى فِي اللَّهْوِ عُمْرِي
…
وَتَنَاهِي فِيه أَمْرِي
شَمَّرَ الأكيَاسُ وأَنَا
…
وَاقِفٌ قَدْ شِيبَ أمْرِي
بَانَ رِبْحُ النَّاسِ دُونِي
…
ولِحِيْنِي بَانَ خُسْرِي
لَيتَنِي أَقْبَلُ وَعْظِي
…
لَيْتَنِي أَسْمَعُ زَجْرِي
كُلَّ يَوْمٍ أَنَا رَهْنٌ
…
بَيْنَ آثَامِي وَوِزْرِي
لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَرِى لِيْ
…
هِمَّةً فِي فَكِّ أسْرِي
أَوْ أَرَى فِي ثَوْبِ صِدْقٍ
…
قَبْلَ أَنْ أَنْزِلَ قَبْرِي
وَيْحَ قَلْبِي مِنْ تَنَاسِيـ
…
ـهِ مُقَامِي يَوْمَ حَشرِي
واشْتِغَالِي مِنَ خَطَايَا
…
أَثْقَلَتْ وَاللهِ ظَهْرِي
اللَّهُمَّ ارحم عباداً غرهم طول إمهالك وأطعمهم دوام إفضالك ومدوا أيديهم إلي كرم نوالك وتيقنوا أن لا غني لهُمْ عن سؤالك وَجُدْ عَلَيْنَا وعَلَيْهمْ بِرَحْمَتِكَ الواسعة واغفر لنا ولهم وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ يا رب العالمين وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.
" موعظة "
عِبَادَ اللهِ أين الَّذِينَ سادوا وشادوا أوطانَاً، وحكموا وأحكموا بنيانَاً، وجمعوا فحشدوا أموإلا وأعوانَاً عوضوا بأرباح الهَوَى خسرانَاً، وبدلوا بإعزاز الكبر والتجبر هوانَاً وأخرجوا من ديارهم بعد الجموع وحدانَاً، وما استصحبوا مِمَّا جمعوا إلا أكفاناً.
نَصِيْبُكِ مِمَّا تَجْمَع الدَّهْرَ كُلَّهُ
…
رِدَآنِ تُطْوَى فِيه مَا وَحَنُوْطُ
آخر:
…
فَمَا تَزودَ مِمَّا كَانَ يَجْمَعُهُ
…
سِوَى حَنُوطٍ غَدَاةَ البَيْنِ فِي خَرْقِ
وغَيْر نِفْحَةِ أَعْوادٍ تَشْبُّ لَهُ
…
وَقَلّ ذَلِكَ مِنْ زَادٍ لِمُنْطَلَقِ
يحملون عَلَى الأعناق ولا يسمون ركبانَاً، وينزلون بطون الإلحاد ولا يسمون ضيفانَاً، متقاربين فِي القبور ولا يسمون جيراناً.
أو لَيْسَ قَدْ رأينا كيف ينقلون ولا كفانَا، فيا من قَدْ بقي من عمره القليل ولا يدري متي يقع الرحيل، كنك بطرفك حين الموت يسيل والروح تنزع والكرب ثقيل، والنقلة قَدْ قربت وأين المقيل، أفِي الْجَنَّة ونعيمها والسلسبيل أم فِي الجحيم وأنكالها وأغلالها وبئس المقيل.
يا من تعد عَلَيْهِ أنفاسه استدركها، يا من ستفوته أيامه أدركها، إن أعز الخلق عَلَيْكَ نفسك فلا تهلكها كم أغلقت باباً عَلَى قبيح، وَكم أعرضت عن قول المخلص النصيح، أعظم الله أجرك فِي عمر قَدْ مضي ما رزقت فِيه العفو ولا الرضي.
انقضت فِيه اللذات كمن قضي، وصَارَت الحسرات من الشهوات عوضاً، قال الله جَلَّ وَعَلا وتقدس {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} وَقَالَ جَلَّ وَعَلا {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} .
اللَّهُمَّ نجنا بِرَحْمَتِكَ من النار وعافنا من دار الخزي والبوار وأدخلنا بِفَضْلِكَ الْجَنَّة دار القرار وعاملنا بكرمك وجودك يا كريم يا غفار وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
وَقَالَ ابن القيم رحمه الله:
[العقبات التي يتدرج منها الشيطان لإغواء الْعَبْد]
" العقبة الأولى ":
عقبة الكفر بِاللهِ ولقائه وبصفات كماله وبما أخبرت به رسله عنهُ، فإنه إن ظفر به فِي هذه العقبة بردت نار عداوته واستراح.
فإن اقتحم هذه العقبة ونجا منها ببصيرة الهداية وسلم معه نور الإيمان طلبه عَلَى:
" العقبة الثانية ":
وهي عقبة البدعة إما باعتقاد خلاف الحق الَّذِي أرسل الله به رسوله وأنزل به كتابه، وإما التعبد بما لم يأذن به الله، من الأوضاع والرسوم المحدثة فِي الدين التي لا يقبل الله منها شيئاً.
والبدعتان فِي الغالب متلازمتان قل أن تنفك إحداهما عن الأخري، كما قال بَعْضهمْ: تزوجت بدعة الأقوال ببدعة الأعمال، فاشتغل الزوجان بالعرس فلم يفجأهم إلا وأولاد الزنا يعيشون فِي بلاد الإسلام، تضج مِنْهُمْ العباد والْبِلاد إلي الله تعالى.
وَقَالَ شيخنا: تزوجت الحَقِيقَة الكافرة بالبدعة الفاجرة فتولد بينهما خسران الدُّنْيَا والآخرة.
فإن قطع هذه العقبة وخلص منها بنور السنة واعتصم منها بحَقِيقَة المتابعة وما مضي عَلَيْهِ السَّلَف الأخيار من الصحابة والتابعين لهُمْ بإحسان.
وهيهات أن تسمح الأعصار المتأخرة بواحد من هَذَا الضرب، فإن سمحت به نصب لَهُ أَهْل البدع الحبائل وبغوه الغوائل وقَالُوا: مبتدع محدث، فإِذَا وفقه الله لقطع هذه العقبة طلبه عَلَى:
" العقبة الثالثة ":
وهي عقبة الكبائر فإن ظفر فيها زينها الله لَهُ وحسنها فِي عينه وسوف به وفتح لَهُ باب الإرجَاء وَقَالَ لَهُ: الإيمان هُوَ التصديق نَفْسُهُ فلا تقدح فِيه الأعمال (أي أعمال الفسوق والعصيان) .
وَرُبَّمَا أجري عَلَى لِسَانه وأذنه كلمة طالما أهلك بِهَا الخلق وهي قوله: (لا يضر مَعَ التَّوْحِيد ذنب كما لا ينفع مَعَ الشرك حسنة) والظفر به فِي عقبة البدعة أحب إليه، لمناقضتها الدين، ودفعها لما بعث الله به رسوله.
وصاحبهَا لا يتوب منها، ولا يرجع عنهَا بل يدعو الخلق إليها، والاجتهاد عَلَى إطفاء نور السنة.
وتولية من عزله الله ورسوله، وعزل من ولاه الله ورسوله، واعتبار ما رده الله ورسوله، ورد ما اعتبره، وموالاة من عاداه، ومعاداة من والاه وإثبات ما نفاه، ونفِي ما أثبته.
وتكذيب الصادق وتصديق الكاذب، ومعارضة الحق بالْبَاطِل وقلب الحقائق بجعل الحق باطلاً والْبَاطِل حقاً، والإلحاد فِي دين الله، وتعمية الحق عَلَى القُلُوب، وطلب العوج لصراط الله المستقيم، وفتح باب تبديل الدين جملة.
فإن البدع تستدرج بصغيرها إلي كبيرها، حتي ينسلخ صاحبِها من الدين كما تنسل الشعرة من العجين.
فمفاسد البدع لا يقف عَلَيْهَا إلا أرباب البصائر، والعميان ضالون فِي ظلمة العمي {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} .
فإن قطع هذه العقبة بعصمة الله أو بتوبة نصوح تنجيه منها طلبه عَلَى:
" العقبة الرابعة ":
وهي عقبة الصغائر فكال لَهُ منها بالقفزان وَقَالَ: ما عَلَيْكَ إِذَا اجتنبت الكبائر ما غشيت اللمم أو ما علمت أنها تكفر باجتناب الكبائر وبالحسنات، ولا يزال يهون عَلَيْهِ أمرها حتي يصر عليها.
فيكون مرتكب الكبيرة الخائف الوجل النادم أحسن حإلا منه، فالإصرار عَلَى الذنب أقبح منه ولا كبيرة مَعَ التوبة والاستغفار، ولا صغيرة مَعَ الإصرار.
وقَدْ قال ?: " إياكم ومحقرات الذنوب ". ثُمَّ ضرب لذَلِكَ مثلاً بقوم نزلوا بفلاة من الأرض فأعوزهم الحطب. فجعل هَذَا يجيء بعود وهَذَا بعود حتي جمعوا حطباً كثيراً فأوقدوا ناراً وأنضجوا خبزتهم.
فكَذَلِكَ إن محقرات الذُّنُوب تتجمع عَلَى الْعَبْد وَهُوَ يستهين بشأنها حتي تهلكه.
فإن نجا من هذه العقبة بالتحرز والتحفظ ودوام التوبة والاستغفار وأتبع السيئة الحسنة طلبه عَلَى:
" العقبة الخامسة ":
وهي عقبة المباحات التي لا حرج عَلَى فاعلها، فشغله بِهَا عن الاستكثار من الطاعات، وعن الاجتهاد فِي التزود لمعاده ثُمَّ طمَعَ فِيه أن يستدرجه منها إلي ترك السُّنَن، إلي ترك الواجبات.
وأقل ما ينال منه: تفويته الأرباح والمكاسب العظيمة والمنازل العالية ولَوْ عرف السعر ما فوت عَلَى نَفْسهِ شيئاً من القربات، ولكنه جاهل بالسعر.
فإن نجا من هذه العقبة ببصيرة تامة ونور هاد ومعرفة بقدر الطاعات والاستكثار منها وقلة المقام عَلَى الميناء وخطر التجارة وكرم المشتري، وقدر ما يعوض به التجار فبخل بأوقاته وضمن بأنفاسه أن تذهب فِي غَيْر ربحٍ، طلبه الْعَدُوّ عَلَى:
" العقبة السادسة ":
وهي عقبة الأعمال المرجوحة المفضولة من الطاعات فأمره بِهَا وحسنها فِي عينه وزينها لَهُ وأراه ما فيها من الفضل والرِّبْح، ليشغله بِهَا عما هُوَ أفضل منها وأعظم كسباً وربحاً.
لأنه لما عجز عن تخسيره أصل الثواب طمَعَ فِي تخسيره كماله وفضله، ودرجاته العالية، فشغله بالمفضول عن الفاضل وبالمرجوح عن الراجح، وبالمحبوب لله عن الأحب إليه، وبالمرضي عن الأرضي له.
ولكن أين أصحاب هذه العقبة؟ فهم الأفراد فِي العالم. والأكثرون قَدْ ظفر بِهم فِي العقبات الأوَلِ.
فإن نجا منها بفقه فِي الأعمال ومراتبِهَا عِنْدَ الله ومنازلها فِي الفضل،
ومعرفة مقاديرها والتمييز بين عاليها وسافلها ومفضولها وفاضلها ورئيسها ومرؤوسها وسيدها ومسودها.
فإن فِي الأعمال سيداً ومسوداً ورئيساً ومرؤوساً وذروة وما دونها، كما فِي الْحَدِيث الصحيح:" سيد الاستغفار أن يَقُولُ الْعَبْدُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لا إله إلا أنت " الحديث.
وفِي الْحَدِيث الآخر: " الجهاد ذروة سنام الأمر ". وفِي الأثر الآخر: (إن الأعمال تفاخرت فذكر كُلّ عمل منها مرتبة وفضله وكَانَ للصداقة مزية فِي الفخر عليهن) .
ولا يقطع هذه العقبة إلا أَهْل البصائر والصدق من أولي العلم السائرين عَلَى جادة التَّوْفِيق، قَدْ أنزلوا الأعمال منازلها وأعطوا كُلّ ذي حق حقه.
فإِذَا نجا منها أحد لم يبق هناك عقبة يطلبه الْعَدُوّ عَلَيْهَا سوي واحدة لابد منها، ولَوْ نجا منها أحدٌ لنجا منها رسل الله وأنبياؤه وأكرم الخلق عليه.
وهي عقبة تسليط جنده عَلَيْهِ بأنواع الأذي باليد واللسان والْقَلْب عَلَى حسب مرتبته فِي الْخَيْر، فكُلَّما علت مرتبته أجلب عَلَيْهِ الْعَدُوّ بخيله وظاهر عَلَيْهِ بجنده، وسلط عَلَيْهِ حزبه وأهله بأنواع التسليط.
وهذه العقبة لا حيلة لَهُ فِي التخلص منها، فإنه كُلَّما جد فِي الاستقامة والدعوة إلي الله والقيام به بأمره جد الْعَدُوّ فِي إغراء السفاء به، فهو فِي هذه العقبة قَدْ لبسَ لامةَ الحرب، وأخذ فِي محاربة الْعَدُوّ لله وبالله.
فعبوديته فيها عبودية خواص العارفين وهي تسمي عبودية المراغمة ولا ينتبه لها إلا أولُوْ البصائر التامة، ولا شَيْء أحب إلي الله من مراغمة وليه لعدوه وإغاظته لَهُ. أ. هـ.
شِعْراً:
وَلَمَّا قَسَا قَلْبِي وَضَاقَتْ مَذَاهِبْي
…
جَعَلْتُ الرَّجَا مِنّي لِعَفْوكَ سُلَمَا
تَعَاظَمِنِي ذَنْبِيْ فَلَمَّا قَرَنْتُهُ
…
بِعَفْوكَ رَبِّي كَانَ عَفْوُكَ أَعْظَمَا