الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: إِذَا كَانَ أَبُونَا آدَم بَعْدَ مَا قِيلَ لَهُ: أُسْكُنْ أَنْتَ وَزَوّجُكَ الْجَنَّةَ صَدَرَ مِنْهُ ذَنْبٌ وَاحِدٌ فَأمِرَ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْجَنَّةِ فَكَيْفَ نَرْجُوا دُخُولَهَا مَعَ مَا نَحْنُ مُقِيمُونَ عَلَيْهِ مِنَ الذُّنُوبِ الْمُتَتَابِعَةِ وَالْخَطَايَا الْمُتَوَاتِرَةِ.
كان أبو الفتح المنهى قد برع في الفقه وتقدم عند العوام وحَصَل له مال كثير ودَخَلَ بَغْدَاد وفِوُّضَ إليه التَّدْرِيس بالنِّظامية وأدْرَكَهُ الموتُ بهَمَدان.
فلما دَنَتْ وَفَاتُهُ قَالَ لأصْحَابِهِ: أُخْرُجُوا. فَلَمَّا خَرَجُوا عَنْهُ جَعَلَ يَلْطُمُ وَجْهَهُ وَيَقُولُ: {يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} ويقول لِنَفْسِهِ مُوَبِّخًا لَهَا: يَا أَبَا الْفَتْحَ ضَيَّعْتَ الْعُمُرَ في طَلَب الدنيا وتحصِيل المال والجاه والتَّرَدُدِ إلى السَّلاطِين وَيُنْشِدُ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ:
عَجِبْتُ لأَهْلِ الْعِلْمِ كَيْفَ تَغَافُلُوا
…
يَجُرُونَ ثَوْبَ الْحِرْصِ حَوْلَ الْمَمَالِكِ
يَدُورُونَ حَوْلَ الظَّالِمِينَ كَأَنَّهُمْ
…
يَطُوفُونَ حَوْلَ الْبَيْتِِ وَقْتَ الْمَنَاسِكِ
أَرْسَلَ عُثْمَانُ بن عَفَّان رضي الله عنه مَعَ عَبْدٍ لَهُ كَيْسًا مِنَ الدَّرَاهم إِلى أبي ذر رضي الله عنه وَقَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ قَبلَ هَذَا أَبُو ذَر فَأَنْتَ حُرٌ أي عَتِيق فَأَتَى بالكيس إلى أبي ذَرٍ وَأَلَحَّ عَلَيْهِ فِي قُبُولِهِ فَلَمْ يَقْبَلْ فَقَالَ الْغُلامُ لأَبِي ذَرٍ: إِنَّهُ عَلَّقَ عِتْقِي عَلَى قُبُولِكَ هَذَا الْكِيسَ. فَقَالَ أَبُوَ ذَرٍّ: لَكِنَّ فِي قُبُولِهِ رِقِّي.
هذه
القصيدة الشيبانية
عَدَّلْنَا فِيهَا بَعْضَ أَبْيَاتٍ وَكَانَ بَعْضُهَا فيه شيء لا يصلح.
سَأَحْمَدُ رَبِّي طَاعةً وَتَعَبُّدَا
…
وَأَنْظِمُ عِقْدًا فِي الْعَقِيدَةِ أَوْحَدَا
وَأَشْهَدُ أَنَّ الله لا رَبَّ غَيْرَهُ
…
تَعَزَّزَ قِدْمًا بِالْبَقَاءِ وَتَفَرَّدَا
هُوَ الأَوَّلُ الْمُبْدِي بِغَيْرِ بِدَايَةٍ
…
(وَلا بَعْدَهُ شَيْءٌ عَلا وَتَوَحَّدَا)
سَمِيعٌ بَصِيرٌ عَالِمٌ مُتَكَلِّمٌ
…
قَدِيرٌ يُعِيدُ الْعَالِمِينَ كَمَا بَدَا
مُِريدٌ أَرَادَ الْكَائِنَاتِ لِوَقْتِهَا
…
قَدِيرٌ فَأَنْشَا مَا أَرَادَ وَأَوْجَدَا
إله عَلَى عَرْشِ السَّمَاءِ قَدِ اسْتَوَى
…
وَبَايَنَ مَخْلُوقَاتِهِ وَتَوَحَّدَا
إِذِ الْكَوْنُ مَخْلُوقٌ وَرَبِّي خَالِقٌ
…
لَقَدْ كَانَ قَبْلَ الْكَوْنِ رَبًّا وَسَيِّدَا
وَلَيْسَ كَمِثْلِ اللهِ شَيْءٌ وَلا لَهُ
…
شَبِيهٌ تَعَالى رَبُّنَا وَتَوَحَّدَا
.. وَمَنْ قَالَ فِي الدُّنْيَا يَرَاهُ بِعَيْنِهِ
…
فَذَلِكَ زِنْدِيقٌ طَغَى وَتَمَرَّدَا
وَخَالَفَ كُتبَ الله وَالرُّسلَ كُلَّهُمْ
…
وَزَاغَ عَنِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ وَأَبْعَدَا
وَذَلِكَ مِمَّنْ قَالَ فِيهِ إِلَهَنَا
…
يُرَى وَجْهُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَسْوَدَا
وَلَكِنْ يَرَاهُ في الجِنَانِ عِبَادُهُ
…
كَمَا صَحَّ في الأَخْبَارِ نَرْوِيهِ مُسْنَدَا
وَنَعْتَقِدُ الْقُرْآنَ تَنْزِيلَ رَبِّنَا
…
بِهِ جَاءَ جِبْرِيلُ النَّبِيَّ (مُحَمَّدَا)
وَأَنْزَلَهُ وَحْيًا إِلَيْهِ وَأَنَّهُ
…
هُدَى الله يَا طُوبى بِهِ لمن اهْتَدَى
كَلام كريم مُنْزَلٌ من إلهنا
…
بِأَمْرٍ وَنَهْيٍ وَالدَّلِيلُ تَأَكَّدَا
كلام إلِهِ الْعَالَمِينَ حَقِيقَة
…
فَمَنْ شَكَّ في هَذَا فَقَدْ ضَلَّ وَاعْتَدَى
وَمِنْهُ بَدَا قَوْلاً ولا شَكَّ أَنَّهُ
…
يَعُودُ إِلى الرَّحْمَنِ حَقًّا كَمَا بَدَا
فَمنْ شَكَّ فِي تَنْزِيلِهِ فَهُوَ كَافِرٌ
…
وَمَنْ زَادَ فِيهِ قَدْ طَغَى وَتَمَرَّدَا
وَمَنْ قَالَ مَخْلُوقٌ كَلامُ إلهنَا
…
فَقَدْ خَالَفَ الإِجْمَاعِ جَهْلاً وَأَلْحَدَا
وَنُؤْمِنُ بِالْكُتبِ الَّتِي هِيَ قَبْلَهُ
…
وَبِالرُّسلَ حَقًّا لا نُفَرِّقُ كَالْعَدَا
وَإِيمَانُنَا قَوْلٌ وَفِعْلٌ وَنِيَّةٌ
…
وَيَزْدَادُ التَّقْوَى وَيَنْقُصُ بِالرَّدَى
فَلا مَذْهَبَ التَّشْبِيهِ نَرْضَاهُ مَذْهَبًا
…
وَلا مَقْصَدَ التَّعْطِلِ نَرْضَاهُ مَقْصَدَا
وَلَكِنَّ بِالْقُرْآنِ نَهْدِي وَنَهْتَدِي
…
وَقَدْ فَازَ بِالْقُرْآنِ عَبْدٌ قَدِ اهْتَدَى
وَنُؤْمِنُ أَنَّ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ كُلَّهُ
…
مِنَ اللهِ تَقْدِيرًا عَلَى الْعَبْدِ عُدِّدَا
فَمَا شَاءَ رَبُّ الْعَرْشِ كَانَ كَمَا يَشَا
…
وَمَا لَمْ يَشَا لا كَانَ فِي الْخَلْقِ مُوجَدَا
وَنُؤْمِنُ أَنَّ الْمَوْتَ حَقٌّ وَأَنَّنَا
…
سَنُبْعَثُ حَقًّا بَعْدَ مَوْتَتِنَا غَدَا
وَأَنَّ عَذَابَ الْقَبْرَ حَقٌّ وَأَنَّهُ
…
عَلَى الْجِسْمِ وَالرُّوحِ الَّذِي فِيهِ أُلْحِدَا
وَمُنْكَرُهُ ثُمَّ النَّكِيرُ بِصُحْبَةٍ
…
هُمَا يَسْأَلانِ الْعَبْدَ فِي الْقَبْرِ مُقْعَدَا
وَمِيزَانُ رَبِّي وَالصِّرَاطُ حَقِيقَةً
…
وَجَنَّتُهُ وَالنَّارُ لَمْ يُخْلَقَا سُدَى
.. وَأَنَّ حِسَابَ الْخَلْقِ حَقٌّ أَعَدَّهُ
…
كَمَا أَخْبَرَ الْقُرْآنُ عَنْهُ وَشَدَّدَا
وَحَوْضُ رَسُولِ اللهِ حَقًّا أَعَدَّهُ
…
لَهُ الله دُونَ الرُّسْلِ مَاءً مُبَرَّدَا
وَيَشْرَبُ مِنْهُ الْمُؤْمِنُونَ وَكُلُّ مَنْ
…
سُقِي مِنْهُ كَأْسًا لَمْ يَجِدْ بَعْدَهُ صَدَا
أَبَارِيقُهُ عَدُّ النُّجُومِ وَعَرْضُهُ
…
كَبُصْرَى وَصَنْعًا فِي الْمَسَافَةِ حُدِّدَا
وَأَنَّ رَسُولَ الله أَفْضَلُ مَنْ مَشى
…
عَلَى الأَرْضِ مِنْ أَوْلادِ آدَمَ أَوْ غَدَا
وَأَرْسَلَهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ رَحْمَةً
…
إِلى الثَّقَلَيْنِ الإِنْسِ وَالْجِنِّ مُرْشِدَا
وَأَسْرَى بِهِ لَيْلاً إِلى الْعَرْشِ رِفْعَةً
…
وَأَدْنَاهُ مِنْهُ قَابَ قَوْسَيْنِ مُصْعِدَا
وَخَصَّصَ مُوسَى رَبُّنَا بِكَلامِهِ
…
عَلَى الطُّورِ نَادَاهُ وَأَسْمَعَهُ النِّدَا
وَكُلُّ نَبِيٍّ خَصَّهُ بِفَضِيلَةٍ
…
وَخَصَّصَ بِالْقُرْآنِ رَبِّي مُحَمَّدا
وَأَعْطَاهُ فِي الْحَشْرِ الشَّفَاعَةِ مِثْلُ مَا
…
رُوِيَ فِي الصَّحِيحَيْنِ الْحَدِيثُ وَأَسْنَدَا
فَمَنْ شَكَّ فِيهَا لَمْ يَنَلْهَا وَمَنْ يَكُنْ
…
شَفِيعًا لَهُ قَدْ فَازَ فَوْزًا وَأَسْعَدَا
وَيَشْفَعُ بَعْدَ الْمُصْطَفَى كُلُّ مُرْسَلٍ
…
لِمَنْ عَاشَ فِي الدُّنْيَا وَمَاتَ مُوَحَّدَا
وَكُلُّ نَبِيٍّ شَافِعٌ وَمُشَفَّعٌ
…
... وَكُلُّ وَلِيٍّ فِي جَمَاعَتِهِ غَدَا
وَيَغْفِرُ دُونَ الشِّرْكِ رَبِّي لِمَنْ يَشَا
…
وَلا مُؤْمِنٌ إِلا لَهُ كَافِرٌ فَدَا
وَلَمْ يَبْقَ فِي نَارِ الْجَحِيمِ مُوَحِّدٌ
…
وَلَوْ قَتَلَ النَّفْسَ الْحَرَامَ تَعَمُّدَا
وَنَشْهَدُ أَنَّ الله خَصَّ رَسُولَهُ
…
بِأَصْحَابِهِ الأَبْرَارِ فَضْلاً وَأَيَّدَا
فَهُمْ خَيْرُ خَلْقِ اللهِ بَعْدَ أَنْبِيَائِهِ
…
بِهِمْ يَقْتَدِي فِي الدِّين كُلُّ مَن اقْتَدَى
وَأَفْضَلُهُم بَعْدَ النَّبِيِّ (مُحَمَّدٍ)
…
أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ ذُو الْفَضْلِ وَالنَّدَى
لَقَدْ صَدَّقَ الْمُخْتَارَ فِي كُلِّ قَوْلِهِ
…
وَآمَنَ قَبْلَ النَّاسِ حَقًّا وَوَحَّدَا
وَفَادَاُه يَوْمَ الْغَارِ طَوْعًا بِنَفْسِهِ
…
وَوَاسَاهُ بِالأَمْوَالِ حَتَّى تَجَرَّدَا
وَمَنْ بَعْدِهِ الْفَارُوقُ لا تَنْسَ فَضْلَهُ
…
لَقَدْ كَانَ لِلإِسْلامِ حِصْنًا مُشَيَّدَا
.. لَقَدْ فَتَحَ الْفَارُوقُ بِالسَّيْفِ عَنْوَةً
…
... كَثِيرَ بِلادِ الْمُسْلِمِينَ وَمَهَّدَا
وَأَظْهَرَ دِينَ اللهِ بَعْدَ خَفَائِهِ
…
وَأَطْفَأَ نَارَ الْمُشْرِكِينَ وَأَخْمَدَا
وَعُثْمَانُ ذُو النُّورَيْنِ قَدْ مَاتَ صَائِمًا
…
وَقَدْ قَامَ بِالْقُرْآنِ دَهْرًا تَهَجُّدَا
وَجَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرِ يَوْمًا بِمَالِهِ
…
وَوَسَّعَ لِلْمُخْتَارِ وَالصَّحْبِ مَسْجِدَا
وَبَايَعَ عَنْهُ الْمُصْطَفَى بِشِمَالِهِ
…
مُبَايَعَةَ الرِّضْوَانِ حَقًّا وَأَشْهَدَا
وَلا تَنْسَ صِِْهَر الْمُصْطَفَى وَابْنُ عَمِّهِ
…
فَقَدْ كَانَ حَبْرًا لِلْعُلُومِ وَسَيَّدَا
وَفَادَى رَسُولَ اللهِ طَوْعًا بِنَفْسِهِ
…
عَشِيَّةَ لَمَّا بِالْفِرَاشِ تَوَسَّدَا
وَمَنْ كَانَ مَوْلاهُ النَّبِيُّ فَقَدْ غَدَا
…
عَلِيُّ لَهُ بِالْحَقِّ مَوْلَىً وَمُنْجِدَا
وَطَلْحَتُهُمْ ثُمَّ الزُّبَيْرُ وَسَعْدُهُمْ
…
كَذَا وَسَعِيدٌ بِالسَّعَادَةِ أُسْعِدَا
وَكَانَ ابْنُ عَوْفٍ بَاذِلَ الْمَالِ مُنْفِقًا
…
وَكَانَ ابْنُ جَرَّاحٍ أَمِينًا مَؤيَّدَا
وَلا تَنْسَ بَاقِي صَحْبِهِ وَأَهْلَ بَيْتِهِ
…
وَأَنْصَارَهُ وَالتَّابِعِينَ عَلَى الْهُدَى
فَكُلَّهُمُ أَثْنَى الإلهُ عَلَيْهِمْ
…
وَأَثْنَى رَسُولُ اللهِ أَيْضًا وَأَكَّدَا
فَلا تَكُ عَبْدًا رَافِضِيًا فَتَعْتَدِي
…
فَوَيْلٌ وَوَيْلٌ فِي الْوَرَى لِمَنْ اعْتَدَى
وَنَسْكُتَ عَنْ حَرْبِ الصَّاَبةَ ِفَالَّذِي
…
جَرَى بَيْنَهُمْ كَانَ اجْتِهَادًا مُجَرَّدًا
وَقَدْ صَحَّ فِي الأَخْبَارِ أَنَّ قَتِيلَهُمْ
…
وَقَاتِلَهُمْ فِي جَنَّةِ الْخُلْدِ خُلِّدَا
فَهَذَا اعْتِقَادُ الشَّافِعِيِّ إِمَامِنَا
…
وَمَالِك وَالنُّعْمَانِ أَيْضًا وَأَحْمَدَا
فَمَنْ يَعْتَقِدْهُ كُلَّهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ
…
وَمَنْ زَاغَ عَنْهُ قَدْ طَغَى وَتَمَرَّدَا
وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ
قصة
تَوَجَّهَ عَافِيَةُ بنُ يَزِيدُ الأَودِي الْقَاضِي إِلى الْمَهْدِي يَوْمًا في وَقْتِ الظَّهِيرة لِمُقَابَلَتِهِ عَلَى عَجَل.
فَلَمَّا أَذِنَ لَهُ إِذَا بِهِ يحمل أوراقَه بَيْنَ يَدَيْهِ وَيَسْأَل المهدي أن يُعْفِيهِ مِن القضاء ويَسْتأذنه في تسليم الأوراق التي في حَوْزَتِهِ إلى من يَأمُر الخليفةُ بتَسلِيمها له.
وَظَنَّ الْخَلِيفَةُ أَنَّ الْقَاضِي عَافِية قَدْ أَقْدَمَ عَلَى طَلَبَ الاسْتِعْفَاءِ مِنْ الْقَضَاءِ لأَنَّ أَحَدِ رِجَالِ حَاشِيَتِهِ وَمَنْ هُمْ مَحْسُوبُونَ عَلَى الْخَلِيفَةِ قَدْ تَطَاوَلَ عَلَيْهِ أَوْ نَالَ مِنْهُ أَوْ أَسَاءَ مُعَامَلَته أَوْ أَبْدَى عدم احْتِرَامٍ لَهُ تَدَخل في شأنٍ مِن شؤون قَضَائِهِ فأضْعَفَ سُلْطَانَه في تَنْفِيذ أحْكَامِهِ وَلشَدَّ مَا كَانَتْ دَهْشَةُ الْخَلِيفَةِ حِينَمَا عَرَفَ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ.
فَأَحَبَّ الْخَلِيفَةُ أَنْ يَتَعَرَّفَ مِنْ ذَلِكَ السَّبَبَ الْحَقِيِقي الَّذِي دَفَعَ الْقَاضِي إِلى الاسْتِعْفَاءِ عَلَى عَجَلٍ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي يَلْجَأُ النَّاسُ فِيهِ إِلى الرَّاحَةِ وَهُوَ وَقْتِ الظَّهِيرَةِ.
وَلَمَّا أَصَرَّ الْخَلِيفَةُ عَلَى طَلَبِ مَعْرِفَةِ السَّبَبِ لَمْ يَجِدَ الْقَاضِي بُدًا مِنْ أَنْ يَرْوي لَهُ مَا جَرَى لَهُ مِمَّا كَانَ سَبَبًا فِي طَلَبِ الإِعْفَاءِ حِرْصًا عَلَى دِينِهِ وَطَهَارَةً لِنَفْسِهِ.
فَقَالَ الْقَاضِي عَافِيَةُ: مُنْذُ شَهْرَيْن وَأَنَا أتَابِعُ الْبَحْثَ فِي إِحْدَى الْقَضَايَا الْمُعْضِلَةِ مُحَاولاً أَنْ أَصِلَ فِيهَا إِلى وَجْهِ الْحَقِّ فَقَدْ تَقَدم إِليّ خَصْمَان مُوسِرَانِ وَجِيهَانِ فِي قَضِيَّةٍ مُعْضِلَةٍ مُشْكِلَةٍ.
وُكُلٌّ مِنْهُمَا يَدَّعِي بَيِّنَةً وَشُهُودًا وَيُدْلي بِحُجَجٍ تَحْتَاجُ إِلى تَأَمُّلٍ وَتَثَبُّتٍ.
ولما لم يَتَبَيَّنْ لِي وَجْهُ الْحَقِّ رَددْتُ الْخُصُومَ رَجَاءً أَنْ يَصْلَحُوا أَوْ يَتَبَيَّنَ لِي وَجْهُ فَصْلٍ بَيْنَهُمَا.
وَأَثْنَاءَ ذَلِكَ وَقَفَ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ مِنْ خَبَرِي عَلَى أَنِّي أحِبُّ الرُّطَبَ السُّكَرِي.
فَعَمَدَ فِي وَقْتِنَا هَذَا وَهُوَ أَوَّلُ وَقْتِ الرُّطَبِ وَجَمَعَ رُطَبًا سُكَّرِيًا لا يَتَهَيَأ فِي
هَذَا الوقتِ لأَحدٍ جَمْعُ مِثْلِهِ إِلا لأَمِير الْمُؤْمِنِينَ وَحَقًّا مَا رَأَيْتُ أَحْسَنَ منه.
ثم عَمَدَ إلى بَوَّابِي فَرَشَاهُ جُمْلَةَ دَرَاهِم لِيُدْخِلَ الطَّبَقَ إليَّ عَلَى أَنَّهُ لا يُبَالِي بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ أَقْبَلَ الطَّبَقَ أَوْ أَرُدَّهُ.
فَلَمَّا أَدْخَلَ الطَّبَقَ إِليَّ أَنْكَرْتُ أَمْرَهُ وَطَرَدْتُ بَوَّابِي وَأَمَرْتُ بِرَدِّ الطَّبَقِ فَرَدَّهُ لِسَاعَتِهِ.
فَلَمَّا كَانَ اليومُ تَقَدَّمَ إِليَّ هَذَا الرجلُ مع خَصْمِهِ فَهَالَنِي أَنَّهُمَا لَمْ يَتَسَاوَيَا فِي قَلْبِي وَلا فِي عَيْنِي.
وهذا يا أمير المؤمنين وأنا لَمْ أَقْبَلْ فكيف يكون حَالي لو قَبلْتُ ولا آمَنُ أن يَقَعَ على حِيلَةٍ في دِيني فأهْلِكُ وقد فَسد الناسَ فأقِلْني أَقَالَكَ الله وأعْفِني.
ولم يَسَعِ الخليفةُُ وهو يَستَمعُ إلى ذلك الكلام المنبي عن شِدَّةِ الوَرَعِ والحرص الخالص على نزاهةِ الحكم وبُعْدَ القاضي عن المؤثرات أَيًّا كان نوعُهَا إلا أن يَسْتَجِيبَ لِطَلَبِ القَاضِي النَّقِي النَّبِيل فأعْفَاهُ من القَضَاء.
فَتَأَمل هَذِه القِصَّةِ بدقة. وقارِنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كَثِيرٍ من قُضَاةِ هذا الزمن يَتَبَيَّنُ لَكَ الفرق العظيمُ والبُونُ الشاسِع نسأل الله العافية.
اللَّهُمَّ أَحْي قُلُوبَنَا وَنَوِّرْهَا بِنُورِ الإِيمَانِ وَزَيِّنْهَا بِمَحَبَّتِكَ وَجَمِّل أَلْسِنَتَنَا بِذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحَسِّنْ أَعْمَالَنَا وَوَفِّقْنَا لِحِفْظِ أَوْقَاتِنَا وَأَحْيينَا حَيَاةً طَيِّبَةً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
وَمِنْ إِعْلانِ عمر بن عبد العزيز الْجَوَائِزِ لَمِنْ يَدُلُّهُ عَلَى الْخَيْرِ أَنَّهُ كَتَبَ إِلى أَهْلِ الْمُوسِمِ: أَمَّا بَعْدُ فَأَيُّمَا رَجُلٍ قَدِمَ عَلَيْنَا فِي رَدِّ مَظْلَمَةٍ أَوْ أَمْرٍ يُصْلِحُ اللهُ بِهِ خَاصًّا
أَوْ عَامًا مِنْ أَمْرِ الدِّينِ فَلَهُ مَا بَيْنَ مَائَةِ دِينَار إِلى ثَلاثِمائَةِ دِينَارٍ بِقَدْرٍ مَا يَرِي مِنْ الْحُسْبَةِ وَبُعْدِ السَّفَرِ لَعَلَّ اللهَ يُحْيِي بِهِ حَقًّا أَوْ يُمِيتُ بِهِ بَاطِلاً أَوْ يَفْتَحَ بِهِ مِنْ وَرَائِهِ خَيْرًا وَلَوْلا أَنِّي أُطِيلُ عَلَيْكُم وَأَطْنِبُ فَيَشْغَلُكُمْ ذَلِكَ عَنْ مَنَاسِكَكُمْ لَسَمَّيْتُ أُمُورًا مِنَ الْحَقِّ أَظْهَرَهَا اللهُ وَأُمُورًا مِنَ الْبَاطِلِ أَمَاتَهَا اللهُ وَكَانَ اللهُ هُو الْمُتَوَحِّدُ لَكَمْ فِي ذَلِكَ لا تَجِدُونَ غَيْرَهُ فَإِنَّهُ لَوْ وَكَلَنِي إِلى نَفْسِي لَكُنْتُ كَغَيْرِي وَالسَّلامُ.
وَكَتَبَ مَرَّةً إِلى الْحَسَنِ الْبَصْرِيّ وَمُطَرِّفَ بنِ الشَّخِّيرِ: مِنْ عُمَرَ بنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلى الْحَسَنِ الْبَصْرِيّ وَمُطَرِّفِ بنِ عَبْدِ اللهِ ابنِ الشَّخِّيرِ سَلامُ علَيْكُمَا فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكُمَا اللهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَأَسْأَلهُ أَنْ يُصَلِّي عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِه وَرَسُولِهِ أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أُوصِيكُمَا بِتَقْوَى اللهِ فَإِنَّ مَنْ يَقُولُهَا كَثِيرٌ وَمَنْ يَعْمَلُ بِهَا قَلِيلٌ فَإِذَا أَتَاكُمَا كِتَابِي فَعِظَانِي وَلا تُزَكِّيَانِ وَالسَّلامُ.
فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْحَسَنُ: إِلى عُمَرَ سَلامٌ عَلَيْكَ فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكَ اللهَ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الدُّنْيَا دَارُ مخوفَةٍ أُهْبَطَ إِلَيْهَا آدَمُ عليه السلام عُقُوبَةً تُهينُ مِنْ أَكْرَمَهَا وَتُكْرِمُ مَنْ أَهَانَهَا وَتُفْقِرُ مَنْ جَمَعَ لَهَا لَها فِي كُلِّ يَوْمٍ قَتِيلٌ فَكُنْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَالْمُدَاوِي لِجرْحِهِ وَاصْبِرْ عَلَى شِدَّةِ الدَّوَاءِ لِمَا تَخَافُ مِنْ طُولِ الْبَلاءِ.
وَكَتَبَ إِلَيْهُ مُطَرِّفُ: سَلامٌ عَلَيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتِهِ فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكَ اللهَ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ أَمَّا بَعْدُ فَلْيَكُنْ اسْتِئْنَاسُكَ بِاللهِ وَانْقِطَاعُكَ إِلَيْهِ فَإِنَّ قَوْمًا أَنِسُوا بِاللهِ وَانْقَطَعُوا إِلَيْهِ فِي وَحْدَتِهِمْ أَشَدُّ اسْتِئْنَاسًا مِنْهُمْ بِالنَّاسِ فِي كُثْرَةَ ِعدَدِهِمْ، أَماَتوُا مِن الدُّنْيَا مَا خَافُوا أَنْ يُمِيتَ قُلُوبَهُمْ وَتَرَكُوا مِنْهَا مَا عَلِمُوا أَنْ سَيَتْرُكَهُمْ فَأَصْبَحُوا لِمَا سَالَمَ النَّاسُ مِنْهَا أَعْدَاءً جَعَلَنَا اللهُ وَإِيَّاكَ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُمْ قَدْ أَصْبَحُوا بِهَا قَلِيلاًً وَالسَّلامُ.
وَقَدِمَتْ امْرَأَةٌ مِن الْعِرَاقِ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ بنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. فَلَمَّا صَارَتْ إِلى بَابِهِ قَالَتْ: هَلْ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ حَاجِبٌ؟ فَقَالَوا: لا فَادْخُلِي إِنْ شِئْتِ.
فَدَخَلَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى زَوْجَةِ عُمَرَ فَاطِمَةَ وَهِيَ جَالِسَةِ فِي بَيْتِهَا وَفِي يَدِهَا قُطْنٌ تَُعَالِجُهُ فَسَلَّمَتْ الْمَرْأَةُ فَرَدَّتْ عَلَيْهَا فَاطِمَةُ السَّلامِ وَقَالَتْ لَهَا: أدْخُلِي.
فَلَمَّا جَلَسَتْ الْمَرْأَةُ رَفَعَتْ بَصَرَهَا فَلَمْ تَرَ فِي الْبَيْتِ شَيْئًا لَهُ باَلٍ وَذُو أَهمِيَّةٍ، فَقَالَتْ: إِنَّمَا جِئْتُ لأَعْمُرَ بَيْتِي مِنْ هَذَا الْبَيْتِ الْخَرَابِ قَالَتْ فَاطِمَةُ: إِنَّمَا خَرَّبَ هَذَا الْبَيْتَ عِمَارَةُ بُيُوتِ أَمْثَالِكِ فَأَقْبَلَ عُمَرُ حَتَّى دَخَلَ الدَّارَ فَسَلَّمَ وَدَخَلَ بَيْتَهُ فَمَالَ إِلى مُصَلّى كَانَ لَهُ فِي الْبَيْتِ يُصَلِّي فِيهِ.
فَسَأَلَ فَاطِمَةُ عَن الْمَرْأَةِ فَقَالَتْ: هِيَ هَذِهِ فَأَخَذَ مِكْتَلاً لَهُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ عِنَبٍ فَجَعَلَ يَتَخَيَّرُ لَهَا أَحْسَنَهُ يُنَاوِلُهَا إِيَّاهُ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهَا فَقَالَ: مَا حَاجَتُكِ؟
فَقَالَتْ: امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ لِي خَمْسُ بَنَاتٍ كُسُلٍ كُسُدٍ فَجِئْتُكَ ابْتَغِي حُسْنَ نَظَرِكَ لَهُنَّ، فَجَعَلَ يَقُولُ: كُسُلٌ، كُسُدَ وَيَبْكِي فَأَخَذَ الدَّوَاةَ وَالْقِرْطَاسَ وَكَتَبَ إِلى وَالي الْعِرَاقِ فَقَالَ: سَمِّي أَكْبَرَهُنَّ فَسَمتها فَفَرَضَ لَهَا فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ: الْحَمْدُ للهِ.
ثُمَّ سَأَلَهَا عَنْ اسْمِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ وَالْمَرْأَةُ تَحْمَدُ اللهَ فَفَرَضَ لَهَا فَلَمَّا فَرَضَ لِلأَرْبَعْ اسْتَفَزَّهَا الْفَرَحُ فَدَعَتْ لَهُ فَجَزَتْهُ فَرَفَعَ يَدَهُ وَقَالَ: قَدْ كُنَّا نَفْرِضُ لَهُنَّ حِينَ كُنْتِ تُولِينَ الْحَمْدَ أَهْلَهُ فَمُرِي هَؤُلاءِ الأَرْبَعَ يُفِضْنَ عَلَى هَذِهِ الْخَامِسَةِ.
فَخَرَجَتْ بِالْكِتَابِ حَتَّى أَتَتْ بِهِ الْعِرَاقَ فَدَعَتْهُ إِلى وَالي الْعِرَاقِ فَلَمَّا دَفَعَتْ إِلَيْهِ الْكِتَابَ بَكَى وَاشْتَدَّ بُكَاؤُهُ وَقَالَ: رَحِمَ اللهُ صَاحِبَ هَذَا الْكِتَابِ فَقَالَتْ: أَماَت َ؟ قَالَ: نَعَمْ فَصَاحَتْ وَوَلْوَلَتْ فَقَالَ: لا بَأْسَ عَلَيْكِ مَا كُنْتُ لأَرُدَّ كِتَابَهُ فِي شَيْءٍ فَقَضَى حَاجَتَهَا وَفَرَضَ لِبَنَاتِهَا.
وَأَرْسَلَ عَطَاءُ إِلى فَاطِمَةَ بِنْتَ عَبْدِ الْمَلِكِ أَخْبِرينِي عَنْ عُمَرَ قَالَتَ: أَفْعَلُ. إِنَّ عُمَرَ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ كَانَ قَدْ فَرَّغَ لِلْمُسْلِمِينَ نَفْسَهُ وَلأُمُورِهِمْ فَكاَنَ
إِذَا أَمْسَى وَلَمْ يَفْرُغْ فِيهِ مِنْ حَوَائِجِ يَوْمِهِ وَصَلَ يَوْمِهِ بِلَيْلَتِهِ إِلى أَنْ أَمْسَى مَسَاءً وَقَدْ فَرِغَ حَوَائِجَ يَوْمِهِ فَدَعَا بِسِرَاجِهِ الَّذِي كَانَ مِنْ مَالِهِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَقْعَى وَاضِعًا رَأْسَهُ عَلَى يَدَيْهِ تَسِيلُ دُمُوعُهُ عَلَى خَدَّيْهِ يَشْهَقُ الشَّهْقَةَ يَكَادُ يَنْصَدِعُ قَلْبُهُ لَهَا وَتَخْرُجُ لَهَا نَفْسُهُ حَتَّى إِذَا بِرَقَ الصُّبْحُ أَصْبَحَ صَائِمًا فَدَنَوْتُ مِنْهُ.
فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَلَيْسَ مِنْكَ مَا كَانَ قَالَ: أَجَلْ فَعَلَيْكِ بِشَأْنِكَ وَخَلِّينِي وَشَأْنِي قَالَتْ: فَقُلْتُ إِنِّي أَرْجُو أَنْ أَتَّعِظَ قَالَ: إِذَنْ أُخْبِرُكَ إِنِّي نَظَرْتُ فَوَجَدْتُنِي قَدْ وُلِّيْتُ أَمْرَ هَذِهِ الأُمَّةِ أَسْوَدَهَا وَأَحْمَرَهَا.
ثُمَّ ذَكَرْتُ الْفَقِيرَ الْجَائِعَ وَالْغَرِيبَ الضَّائِعَ وَالأَسِيرَ الْمَقْهُورِ وَذَا الْمَالِ الْقَلِيلِ وَالْعِيَالِ الْكَثِيرِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ فِي أَقَاصِي الْبِلادِ وَأَطْرَافِ الأَرْضِ فَعَلِمْتُ أَنَّ اللهَ سَائِلِي عَنْهُمْ وَأَنَّ رَسُولَ اللهِ ? حَجِيجِي فِيهِمْ فَخِفْتُ أَنْ لا يَقْبَلَ اللهُ مِنِّي مَعْذِرَتِي فِيهِمْ وَلا تَقُومُ لِي مَعَ رَسُولِ اللهِ ? حُجَّةٌ فَرَحِمْتُ وَاللهِ يَا فَاطِمَةُ نَفْسِي رَحْمَةً دَمَعَتْ لَهَا عَيْنِي وَوَجِعَ لَهَا قَلْبِي فَأَنَّا كُلَّمَا ازْدَدْتُ لَهَا ذِكْرًا ازْدَدْتُ مِنْهَا خَوْفًا فَاتَّعِظِي إِنْ شِئْتِ أَوْ ذَرِي.
وَكَانَ النَّاسُ فِي زَمَنِهِ كَلامُهُمْ وَبَحْثُهُمْ فِي الاعْتِنَاءِ بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ? وَقِيَامِ اللَّيْلِ وَسِيرَةِ الرَّسُولِ وَالصَّحَابَةِ وَالزُّهْدِ وَالْوَرَعِ وَالْبَحْثِ عَنِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالأَرَامِلِ وَالأَيْتَامِ وَالأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنِ الْمُنْكَرِ وَنَحْوَ ذَلِكَ وهَكَذَا النَّاسُ فِي كُلِّ عَصْرٍ تَبَعُ مُلُوكِهِمْ وَقَادِتِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ غَالِبًا.
وَكَانَ عُمَرُ رضي الله عنه حُبُّ الْعَدَالَةِ وَالإِنْصَافِ رَكِيزَةٌ فِي نَفْسِهِ وَمِنْ لُطْفِ اللهِ بِهِ أَنْ وَهَبَ لَهُ ابْنُهُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَكَانَ أُعْجُوبَةَ التَّارِيخ، كَانَ نَاشِئًا لَمْ يُجَاوِزْ عِشْرِينَ عَامًا، وَلَكِنَّهُ مِنْ تَوْفِيقِ اللهِ لَهُ أَنَّهُ مُنْذُ صِغَرِهِ قَوِيُّ الإِيمَانِ وَرَعًا زَاهِدًا، يَقْتَحِمُ عَلَى أَبِيهِ فِي مَجْلِسِهِ وَنَادِيهِ وَمَخْدَعِ نَوْمِهِ وَقَيْلُولَتِهِ يَحُثُّهُ وَيَعِظُهُ وَيَذكُرُهُ بِاللهِ وَيُوقظه وَينهيه إلا يؤخر مظلمةً الناس مخافة أن يَحْمَّ الأَجَلُ فَتَسُوءُ الْمَغَبَّةُ وَتَلْتَهِبُ عَلَى أَبِيهِ النَّارُ.
وَكَانَ كُلَّمَا دَخَلَ عُمَرُ فِي الأُمُورِ عَلَى بَيِّنَةٍ اقْتَحَمَهَا عَبْدُ الْمَلِكِ قَوِيًّا مُسْتَعْجِلاً وَقَدْ أَثَّرَ عَلَى أَبِيهِ وَزَادَ فِي وَرَعِهِ وَتَنْجِيزِهِ لِلأُمُورِ وَدَخَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ يَوْمًا عَلَى أَبِيهِ وَكَانَ عِنْدَهُ عَمُّهُ مَسْلَمَةُ فَطَلَبَ إِلى أَبِيهِ أَنْ يُخْلِيهِ بِهِ فَقَالَ: أَسِرٌّ دُونَ عَمِّكَ؟ قَالَ: نَعَمْ فَقَامَ مَسْلَمَةُ وَجَلَسَ عَبْدُ الْمَلِكِ بَيْنَ يَدَيْ أَبِيهِ فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا أَنْتَ قَائِلٌ لِرَبِّكَ غَدًا إِذَا سَأَلَكَ فَقَالَ: رَأَيْتَ بِدْعَةً لَمْ تُمِتْهَا أَوْ سُنَّةً لَمْ تُحْيِهَا فَقَالَ عُمَرُ: يَا بُنَيَّ أَشَيْءٌ حَمَلَكَ أَمْ رَأْيٌ رأَيْتَهُ قَالَ: لا وَاللهِ وَلَكِنْ رَأْيٌ رَأَيْتُهُ مِنْ نَفْسِي عَرَفْتُ أَنَّكَ مَسْؤُلٌ فَمَا أَنْتَ قَائِلٌ.
قَالَ أَبُوهُ: يَرْحَمُكَ اللهُ يَا بُنَيّ وَيَجْزِيكَ مِنْ وَلَدٍ خَيْرًا فَوَاللهِ إِنِّي لأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِن الأَعْوَانِ عَلَى الْخَيْرِ يَا بُنَيَّ إِنَّ قَوْمَكَ شَدُّوا هَذَا الأَمْرَ عُقْدَةً وَعُرْوَةً وَمَتَى مَا أُرِيدَ مُكَابَرَتَهُمْ عَلَى انْتِزَاعِ مَا فِي أَيْدِيهمْ لَمْ آمَنْ أَنْ يَفْتِقُوا عَلَيَّ فَتْقًا تَكْثُر فِيهِ الدِّمَاءُ وَاللهِ لِزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنْ أَنْ يُهْرَاق فِي سَبَبِي مِحْجَمَةٌ مِنْ دَمْ أَوْ مَا تَرْضَى أَلا يَأْتِي عَلَى أَبِيكَ يَوْمٌ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا إِلا وَهُوَ يُمِيتُ فِيهِ بِدْعَةً وَيُحْيِي فِيهِ سُنَّةً حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرَ الْحَاكِمِينَ.
وَلَمْ يَزَلْ عَبْدُ الْمَلِكِ بِأَبِيهِ حَتَّى صَارَ لا يُبْرِمُ أَمْرًا فِي الْمَظَالِمِ دُونَ رَأْيِهِ قَالَ مَيْمُونُ بنُ مَهْرَانْ: بَعَثَ إِلَيَّ عُمَرُ بنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَإِلى مَكْحُول وَإِلى أَبِي قِلابَةَ فَقَالَ: مَا تَرَوْنَ فِي هَذِهِ الأَمْوَالِ الَّتِي أُخِذَتْ مِنَ النَّاسِ ظُلْمًا فَقَالَ مَكْحُول يَوْمَئِذٍ قَوْلاً ضَعِيفًا كَرِهَهُ عُمَر قَالَ: أَرَى أَنْ تُسْتَأْنَف فَنَظَرَ عُمَرُ إِلَيَّ كَالْمُسْتَغِيثِ بِي فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ابعْثَ ْإلى ابْنِكَ عَبْدِ الْمَلِكِ فَأَحْضِرْهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِدُونِ مَنْ رَأَيْت.
وَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ قَدْ تَفَقَّهَ وَدَرَسَ حَتَّى صَارَ فِي الصَّفِّ الأَوَّلِ مِنْ فُقَهَاءِ الشَّامِ ثُمَّ زَهِدَ قَالَ مَيْمُون: فَقَالَ عُمَرُ: يَا حَارِثُ ادْعُ لِي عَبْدُ الْمَلِكِ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ الْمَلِكِ مَا تَرَى فِي هَذِهِ الأَمْوَال الَّتِي أُخِذَتْ مِنَ النَّاسِ ظُلْمًا وَقَدْ حَضَرُوا يَطْلُبُونَهَا وَقَدْ عَرَفْنَا مَوَاضِعَهَا قَالَ: أَرَى أَنْ تَرُدَّهَا فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ كُنْتَ شَرِيكًا لِمَنْ أَخَذَهَا.
تَسْمَعُ حِكَايَاتٍ يُطِيبُ سَمَاعُهَا
…
وَيَحْلُو كَطَعْمِ الشَّهْدِ فِي ثَغْرِ ذَائِقِ
فَكَمْ مِنْ شَوَاجٍ لِلْقُلُوبِ رَقَائِقٍ
…
وَكَمْ مِنْ مَعَانٍ لِلْعُوُم ِحقَاَئِقِ
وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا أَنَّ عُمَرَ بنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَمَّا كَانَ فِي يَوْمِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ قَالَ: أَجْلِسُونِي. فَأَجْلَسُوهُ فَقَالَ: أَنَا الَّذِي أَمَرْتَنِي فَقَصَّرْت وَنَهَيْتَنِي فَعَصَيْتُ وَلَكِنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ ثَمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَأَحَدَّ النَّظَرَ فَقَالَوا: إِنَّكَ لَتَنْظُرُ نَظَرًا شَدِيدًا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: إِنِّي لأَرَى حَضْرَةً مَا هُمْ بِإِنْسٍ وَلا جِنٍّ ثُمَّ قُبِضَ. وَقَالَ مَسْلَمَةَ بن عَبْدِ الْمَلِكَ: لَمَّا احْتُضِرَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ كُنَّا عِنْدَهُ فِي قُبَّةٍ فَأَوْمَأَ إِلَيْنَا أَنِ أُخْرُجُوا فَخَرَجْنَا حَوْلَ الْقُبَّةِ وَبَقِيَ عِنْدَهُ وَصِيفٌ فَسَمِعْنَاهُ يَقْرَأَ هَذِهِ الآية: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} مَا أَنْتُمْ بِإِنْسٍ وَلا جِنٍّ ثُمَّ خَرَجَ الْوَصِيفُ فَأَوْمَأَ إِلَيْنَا أَنِ ادْخُلُوا فَإِذَا هُوَ قَدْ قُبِض.
شَمِّر عَسَى أَنْ ينْفَعَ التَّشْمِيرُ
…
وَانْظُرْ بِفِكْرَكَ مَا إِلَيْهِ تَصِيرُ
طَوَّلْتَ آمَالاً تَكَنَّفَهَا الْهَوَى
…
وَنَسِيتُ أَنَّ الْعُمْرَ مِنْكَ قَصِيرُ
قَدْ أَفْصَحَتْ دُنْيَاكَ عَن غَدَرَاتِهَا
…
وَأَتَى مَشِيبُكَ وَالْمَشِيبُ
دَارٌ لَهَوْتَ بِزَهْوِهَا مُتَمَتِّعًا
…
تَرْجُو الْمَقَامَ بِهَا وَأَنْتَ تَسِيرُ
وَاعْلَمْ بَأَنَّكَ رَاحِلٌ عَنْهَا وَلَوْ
…
عُمِّرْتَ فِيهَا مَا أَقَامَ ثَبِيرُ
لَيْسَ الْغِنَى فِي الْعَيْشِ إِلا بُلْغَةً
…
وَيَسِيرْ مَا يَكْفِيكَ مِنْهُ كَثِيرُ
لا يَشْغَلَنَّكَ عَاجِلٌ عَن آجِلٍ
…
أَبَدًا فَمُلْتَمِسُ الْحَقِيرِ حَقِيرُ
وَلَقْدَ تَسَاوَى بَيْنَ أَطْبَاقِ الثَّرَى
…
فِي الأَرْضِ مَأْمُورٌ بِهَا وَأَمِيرُ
آخر:
…
حَانَ الرَّحِيلُ فَوَدِّعِ الدَّارَ الَّتِي
…
مَا كَانَ سَاكِنُهَا لَهَا بِمُخَلَّدِ
وَاضْرَعْ إِلى الْمَلِكِ الْجَوَّادِ وَقُلْ لَهُ
…
عَبْدٌ بِبَابِ الْجُودِ أَصْبَحَ يَجْتَدِي
لَمْ يَرْضَ إِلا الله مَعْبُودًا وَلا
…
دِينًا سِوَى دِينِ النَّبِي مُحَمَّدِ
قَالَ بَعْضُهُمْ لما حَضَرَتْهُ الْوَفَاة: (إِلَهِي وَسَيِّدي وَمَوْلاي قَدْ آنَ الرَّحِيل إِلَيْكَ وَأَزِف الْقُدُومَ عَلَيْكَ وَلا عُذْرَ لِي بَيْنَ يَدَيْكَ غَيْرَ أَنَّكَ الْغَفُورُ وَأَنَا الْعَاصِي وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وَأَنَا الْجَانِي وَأَنْتَ السَّيدُ وَأَنَا الْعَبْدُ ارْحَمْ.
خُضُوعِي وَزَلَّتِي بَيْنَ يَدَيْكَ فَإِنَّهُ لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِكَ) . وَصَلَى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
مَوْعِظَة: عِبَادَ اللهِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةِ وَقَرُبَ التَّحَوُّلُ وَالْمَسِير، وَأَزِفَتِ الآزِفَةُ وَلَيْسَ هُنَاكَ حَمِيمٌ وَلا نَصِيرٌ وَكُتِبَتِ الصَّحِيفَةُ فَلا نِسْيَانَ لِقَلِيلٍ وَلا كَثِيرٍ {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} .
تَاللهِ لَقَدْ غَرَّتِ الأَمَانِي أَكْثَرَ خَلْقِ اللهِ فَتَرَكُوا سَبِيلَ الْهُدَى وَأَعْرَضُوا عَنْ دَارِ التَّهانِي وَالْقَرَارِ فَوَقَعُوا فِي شِرْكِ الرَّدَى وَتَمَادُوا عَلَى التَّوَانِي وَظَنُّوا أَنْ يُتْرَكُوا سُدَى وَنَسُوا قَوْلَهُ تَعَالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} وَقَوْلُهُ تَعَالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} وَقَوْلُهُ تَعَالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ} .
عِبَادَ اللهِ كَيْفَ حَالُكُمْ إِذَا قُمْتُمْ مِنْ الْقُبُورِ حَيَارَى حُفَاةً عُرَاةً غُرْلَا، وَقَدْ عَظُمَتِ الأَهْوَالُ {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى} وَلَزِمَتِ الصُّحُفُ الأَعْنَاق ثُمَّ رُدُّوا إلى اللهِ مَوْلاهُمْ الْحَقَّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ.
كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا سَمِعْتُمْ قَوْلَ الْجَبَّارِ: {لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ} {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} . وَقَوْلُهُ تَعَالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} .
فَعِنْدَ ذَلِكَ يُؤْخَذُ الْمُجْرِمُونَ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ، وَيُطْرَحُ فِي الْجَحِيمِ مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى الْمَعَاصِي جَرَاءَةٌ وَإِقْدَام.
وَيَمْرَحُ بِالنَّعِيمِ مَنْ قَدَّمَ الْخَيْرَاتِ لِدَارِ السَّلامِ وَعَمِلَ بِالْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ وَيَحْظَى بِجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ فَاتَّقُوا الله عِبَادَ اللهِ
وَاسْلُكُوا طَرِيقَ الشَّرْعِ الْقَوِيمِ الَّذِي لا اعْوِجَاجَ فِيهِ وَقُومُوا بِأَوَامِرِ الْمَنَّانِ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانَ.
وَاحْذَرُوا أَنْ تَكُونُوا مِمَّنْ غَرَّتْهُمْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِزَخَارِفَهَا الزَّائِلَة وَزِينَتِهَا الْعَاطِلَة وَأُولَئِكَ هُمْ الَّذِينَ تَنْقُص الأَيَّامُ والليالي آجالهم وَهُمْ لاهُونَ وَتَجْرِي بِهِمْ الأَعْوَامُ إِلى مَرَاقِدِ قُبُورِهِمْ وَهُمْ نَائِمُونَ وَتَتَخَطَّفَهُمْ الْمَنَايَا لاعِبُونَ وَتُنَادِيهُمْ الْعِبَرُ وَالْمَوَاعِظُ وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ وَلا يُبْصِرُونَ وَيَرَوْنَ مَا وَقَعَ بِالأُمَمِ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا نَزَلَ بِآبَائِهِمْ وَلَكِنْ لا يَفْقَهُونَ وَاللهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِمَآلِهِمْ وَمَا إِلَيْهِ صَائِرُونَ، إِذَا هُمْ وَصَلُوا إِلى الْغَايَة الْمَفْهُومَةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالى:{يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ} .
شِعْرًا:
…
يَا غَافِلاً عَمَّا خُلِقْتَ لَهُ انْتَبِهْ
…
جَدَّ الرَّحِيلُ وَلَسْتَ بِالْيَقْظَانِ
سَارَ الرِّفَاقُ وَخَلَّفُوكَ مَعَ الأوُلَى
…
قَنِعُوا بِذَا الْحَظِّ الخَسِيسِ الْفَانِ
وَرَأَيْتَ أَكْثَرَ مَنْ تَرَى مُتَخَلِّفًا
…
فَتَبِعْتَهُمْ وَرَضِيتَ بِالْحِرْمَانِ
لَكِنْ أَتَيْتَ بِخُطَّتِي عَجْزٍ وَجَهْـ
…
ـلٍ بَعْدَ ذَا وَصَحِبْتَ كُلَّ أَمَانِ
مَنَّتْكَ نَفْسُكَ بِاللِّحَاقِ مَعَ الْقُعُو
…
دِ عَنِ الْمَسِيرِ وَرَاحَةِ الأَبْدَانِ
وَلَسَوْفَ تَعْلَمُ حِينَ يَنْكَشِفُ الْغِطَا
…
مَاذَا صَنَعْتَ وَكُنْتَ ذَا إمَكَانِ
آخر:
…
دُنْيًا مَغَبَّةُ مَنْ أَثرى بِهَا عَدَمٌ
…
وَلَذَّةٌ تَنْقَضِي مِنْ بَعْدِهَا نَدَمُ
وَفِي الْمَنُونِ لأَهْلِ الْكتْبِ مُعْتَبَرءٍ
…
وَفِي تَزَوُّدِهِمْ مِنْهَا التُّقَى غُنُمُ
وَالْمَرْءُ يَسْعَى لِفَضْلِ الرِّزْقِ مُجْتَهِدًا
…
وَمَالِهِ غَيْرُ مَا قَدْ خُطَّ فِي الْقَلَمِ
كَمْ خَاشِعٍ في عُيُونِ النَّاسَ مَنْظِرهُ
…
وَالله يَعْلَمُ مِنْهَا غَيْرَ مَا عَلِمُوا
اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإِيمَانِ وَثَبِّتْهَا عَلى قَوْلِكَ الثَّابِتْ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وفي الآخِرةِ، وَيَسِّرْنَا لِلْيُسْرَى وَجَنِّبْنَا الْعُسْرَى، وَاجْعَلْنََا هُدَاةً مُهْتَدِين وَاغْفِرْ
لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى وَآلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
وَوَقَفَ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه يَوْمًا عَلَى مَنْبَرِهِ بَعْدَ أَنْ قَطَعَ الْعَطَايَا المالية عَنْ أَفْرَادِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا فَقَامَ إِلَيْهِ أَبُو مُسْلِمُ الْخَوْلانِي فَقَالَ: لا سَمْعَ وَلا طَاعَةَ يَا مُعَاوِيَةُ. قَالَ مُعَاوِيَة: وَلِمَ يَا أَبَا مُسْلِم فَقَالَ يا مُعَاوِيَةُ: كَيْفَ تَمْنَعُ الْعَطَا وَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَدِّكَ وَلا كَدِّ أَبِيكَ وَلا مِنْ كَدِّ أُمِّكَ.
فَغَضِبَ مُعَاوِيَةُ وَنَزَلَ عَنِ الْمِنْبَرِ وَقَالَ لِلْحَاضِرِينَ: مَكَانَكُمْ. وَغَابَ سَاعَةً عَنْ أَعْيُنِهِمْ ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْهِمْ وَقَدْ اغْتَسَلَ فَقَالَ: إِنَّ أَبَا مُسْلِمْ كَلَّمَنِي بِكَلامٍ أَغْضَبَنِي وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ? يَقُولُ: «الْغَضَبُ مِنَ الشَّيْطَانِ وَالشَّيْطَانُ خُلِقَ مِنَ النَّارِ وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَغْتَسِلْ» . وَإِنِّي دَخَلْتُ فَاغْتَسَلْتُ وَصَدَقَ أَبُو مُسْلِم إِنَّهُ مِنْ كَدِّي وَلا مِنْ كَدِّ أَبِي فَهَلمُّوا إِلى عَطَائِكُم.
وَبِالتَّالِي فَإِلَيْكَ صِفَةُ الإِمَامِ الْعَادِل: كَتَبَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رضي الله عنه لَمَّا وَلِيَ الْخِلافَةَ إِلى الْحَسَنِ الْبَصَرِي لِيُخْبِرَهُ عَنْ صِفَةِ الإِمَامِ الْعَادِل فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْحَسَن اعْلَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ اللهَ جَعَلَ الإِمَامَ الْعَادِلَ قِوّامَ كُلِّ مَائِلِ وَقَصْدَ كُلِّ جَائِرٍ وَصَلاحَ كُلِّ فَاسِدٍ وَقُوَّةَ كُلِّ ضَعِيف وَنَصَفَةَ كُلِّ مَظْلُوم وَمَفْزَعَ كُلِّ مَلْهُوف وَالإِمَامُ الْعَادِل يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَالرَّاعِي الشَّفِيقِ عَلَى إِبْلِهِ الرَّفِيقِ بِهَا الَّذِي يَرْتَادُ لَهَا أَطْيَبَ الْمَرْعَى وَيَذُودُهَا عَنْ مَرَاتِعِ الْهَلَكَةِ وَيَحْمِيهَا عَنِ السِّبَاعِ وَيُكِنُّهَا عَنْ أَذَى الحَرَّ وَالْقَر.
وَالإِمَامُ الْعَادِلُ كَالأَبِ الْحَانِي عَلَى وَلَدِهِ يَسْعَى لَهُمْ صِغَارًا وَيُعَلِّمُهُمْ كِبَارًا يَكْتَسِبُ لَهُمْ فِي حَيَاتِهِ وَيَدّخِرُ لَهُمْ بَعْدَ مَمَاتِهِ.
وَالإِمَامُ الْعَادِلُ كَالأُمِّ الشَّفِيقَةُ الْبَرَّةِ الرَّقِيقَةِ بِوَلَدِهَا َحَمَلَتْهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ
كُرْهًا وَرَبَّتْهُ طِفْلاً تَسْهَرُ بِسَهَرِهِ وَتَسْكُنُ بِسُكُونِهِ تُرْضِعُهُ تَارَةً وَتُفْطِمُهُ أُخْرَى وَتَفْرَحُ بِعَافِيَتِهِ وَتَغْتَمُّ بِشِكَايَتِهِ.
وَالإِمَامُ الْعَادِلُ وَصِيُّ الْيَتَامَى وَخَازِنُ الْمَسَاكِين يُرَبِّي صَغِيرَهُمْ وَيَمُونُ كَبِيرَهُمْ وَالإِمَامُ الْعَادِلُ هَوُ الْقَائِمُ بَيْنَ اللهِ وَبَيْنَ عِبَادِهِ يَسْمَعُ كَلامَ اللهِ وَيُسْمِعَهُمْ وَيَنْظُر إِلى اللهِ وَيُرِيهم وَيَنْقَادُ إلى اللهِ وَيَقُودُهُمْ فَلا تَكُنْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا مَلَّكَكَ اللهُ عز وجل كَعَبْدٍ ائْتَمَنَهُ سَيِّدُهُ وَاسْتَحْفَظَهُ مَالُهُ وَعِيَالَه فَبَدَّدَ الْمَالَ وَشَرَّدَ الْعِيَالَ فَأَفْقَرَ أَهْلَهُ وَفَرَّقَ مَاله.
وَأَعْلَمْ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ الْحُدُودَ لِيَزْجُرَ بِهَا عَن الْخَبَائِث وَالْفَوَاحِشِ فَكَيْفَ إِذَا أَتَاهَا مِنْ يَلِيهَا وَإِنَّ اللهَ أَنْزَلَ الْقِصَاصَ حَيَاةً لِعِبَادِهِ فَكَيْفَ إِذَا قَتَلَهُمْ مَنْ يَقْتَصُّ لَهُمْ وَاذْكُر الْمَوْتَ وَمَا بَعْدَهُ وَقِلَّةَ أَشْيَاعِكَ عِنْدَهُ وَأَنْصَارَكَ عَلَيْهِ فَتَزَوَّدْ لَهُ وَلِمَا بَعْدَهُ مِنَ الْفَزَعِ الأَكْبَرِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ لَكَ مَنْزِلاً غَيْرَ مَنْزِلِكَ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ يَطُولُ فِيهِ ثَواؤُكَ وَيُفَارِقُكَ أَحِبَّاؤُكَ يُسْلِمُونَكَ فِي قَعْرِهِ وَحِيدًا فَرِيدًا فَتَزَوَّدْ لَهُ مَا يَصْحَبُكَ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ وَاذْكُرْ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ مَا في الصُّدُورِ فَالأَسْرَارُ ظَاهِرَة وَالْكِتَابُ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا.
فَالآنَ وَأَنْتَ في مَهْلٍ قَبْلَ حُلُولِ الأَجَل وَانْقِطَاعِ الأَمَلِ لا تَحْكُمُ فِي عِبَادِ اللهِ بِحُكْمِ الْجَاهِلِينَ وَلا تَسْلُكَ بِهِمْ سَبِيلَ الظَّالِمِينَ وَلا تُسَلِّطْ الْمُسْتَكْبِرِينَ عَلَى الْمُسْتَضِعِفينَ فَإِنَّهُمْ لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً فَتَبُوءَ بِأَوْزَارِكَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكَ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالَكَ.
وَلا يَغُرَّنَّكَ الَّذِينَ يَتَنَعَّمُونَ فِي بُؤْسِكَ وَيَأْكُلُونَ الطَّيِّبَاتِ في دُنْيَاهُمْ بِإِذْهَابِ طَيِّبَاتِكَ في آخِرَتِكَ وَلا تَنْظُرْ إِلى قُدْرَتِكَ الْيَوْمَ وَلَكِنْ انْظُرْ إِلى قُدْرَتِكَ
غَداً وَأَنْتَ مَأْسُورٌ فِي حَبَائِلِ الْمَوْتِ وَمَوْقُوفٌ بَيْنَ يَدَي اللهِ في مَجْمَعٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ وَقَدْ عَنِتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ الَّذِي لا تَأْخُذُهُ سِنَةُ وَلا نَوْم.
شِعْرًا: زِدْنَا عَلَيْهِ مَا بَيْنَ الأَقْوَاس.
سَلِ الْمَنَايَا عَلَى عِلْمٍ وَتَجْرُبَةِ
…
في أيَ شَيْءٍ بَغَى الإِنْسَانُ أَوْ حَسَدَا
تَنَافَس النَّاسُ في الدُّنْيَا وَقَدْ عَلِمُوا
…
أَنَّ سَوْفَ تَقْتُلَهُم لِذَّاتُهَا بُدَدَا
تَبَادَرُوهَا وَقَدْ آذَتْهُم فَشَلاً
…
وَكَاثَرُوهَا وَقَدْ أَفْنَتْهُمُ عَدَدَا
قُلْ لِلْمُحَدِّثِ عَنْ لُقْمَانَ أَوْ لِبَدٍ
…
لَمْ يَتْرُكِ الدَّهْرَ لُقْمَانًا وَلا لِبَدَا
(وَلَمْ يُغَادِرْ عَمَارَاتٍ وَلا فُلَلاً
…
وَلا قُصُورًا بِهَا الْمَغْرُورُ مُسْتَنِدَا)
(وَلا بَسَاتِينَ فِي الأَشْجَارِ زَاهِيَةً
…
وَسَاهِرُ المَاءِ في الأَنْهَارِ مُطَّرِدَا)
(وَلا جَبَانًا يَخَافَ الْمَوْتَ ذَا قَلَقٍ
…
وَلا شُجَاعًا يَهْزِمُ الْجَمْعُ مُنْفَرِدَا)
(وَلا كَرِيمًا تُبِيدُ الْمَالَ رَاحَتُهُ
…
وَلا بَخِيلاً إِذَا اسْتَمْنَحْتَهُ شَرَدَا)
اللَّهُمَّ احْفَظْنَا مِن الْمُخَالَفَةِ وَالْعِصْيَانِ وَلا تُؤَاخِذْنَا بِجَرَائِمَنَا وَمَا وَقَعَ مِنَّا مِن الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانِ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينِ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
كتب سفيانَ الثوريّ إلى أخٍ له في الله يقول له: (أما بعدُ: عافانا الله وإيَّاك مِن النَّار برحمتِه، أوصِيكَ وإيَّايَ بَتَقْوَى الله.
وَأحَذِّركَ أن تَجْهَلَ بعد إِذْ عَلِمْتَ، فتهلكَ بعدَ إِذْ أبصرتَ، وتَدَع الطريقَ بعد إذْ وَضَحَ لَكَ، وَتَغْتَرَّ بأهلِ الدنيا بِطَلَبِهم لَهَا، وحِرْصِهِمْ عليها وإكثارِهِم منها.
فَإِنَّ الْهَوْلَ شَدِيدٌ، والطَّرِيقَ بَعِيدٌ، وَالْمنَاقِشَ عَتِيدٌ، وَالخطرَ عَظِيمٌ، وَالوَقتَ قَرِيبٌ، وَكأنْ قَدْ كَانَ.
فَتَفَرّغْ وَفَرِّغْ قَلْبِكَ، ثُمَّ الجدَّ الْجدَّ، والوَحَاءَ الوَحَاءَ، وَالهَرَبَ الهَرَبَ، وَارْتَحِلْ إِلى الآخِرَةِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُرْتَحَلَ بِكَ.
وَاسْتَقْبِلْ رُسُلَ رَبِّكَ، وَاشْدُدْ مِئْزَرَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى قَضَاؤُكَ، وَيُحَالَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَا تُرِيد، فَقَدْ وَعَظْتُكَ بِمَا وَعَظْتُ بِهِ نَفْسِي، وَالتَّوْفِيقُ مِن الله.
وَمِفْتَاحُ التَّوفيقِ التَّضرُّعُ والاسْتِكَانَةُ وَالندامةُ عَلَى ما فَرَّطتَ، ولا تُضَيِّعْ حَظَّكَ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ وَاللَّيَالِي الَّتِي هِيَ مَتْجَرُ الزُّهَّاد، وَمَكْسَبُ الْعُبَّادِ.
ثُمَّ إِيَّاَك وَمَا يُفْسِدُ عَلَيْكَ عَمَلَكَ وَهُوَ الرِّيَاءُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رِيَاءٌ فَإِعْجَابُكَ بِنَفْسِكَ.
وَإِيَّاكَ أَنْ تُحِبُّ مَحَامِدَ النَّاسِ أَوْ تَحِبُّ أَنْ يُكْرِمُوكَ بِعَمَلِكَ.
وَيَرَوْنَ لَكَ فَضِيلَةً وَشَرَفًا وَمَنْزِلَةً فِي صُدُروِهِمْ، أَوْ حَاجَةً تَطْلُبُهَا إِلَيْهِمْ فِي أَمْرٍ مِن الأُمُورِ.
فَإِنَّكَ زَعِمْتَ أَنَّكَ تُرِيدُ بِعَمَلِكَ وَجْهَ اللهِ وَالدَّارِ الآَخِرَةَ وَلا تُرِيدُ بِهِ غيرهَ.
وَعَلَيْكَ بِكَثْرَةِ ذِكْرِ الْمَوْتِ، فَكَفَى بِطُولِ الأَمَلِ قِلَّةُ الخَوْفِ، وجرأةٌ على الْمَعَاصِي، وَكَفى بالْحَسْرَةِ وَالنَّدَامَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّكَ لَمْ تعلم ولم تَعْمَلْ بِعِلْمِكَ.
وَاطْلب الْعِلْمَ لِتَعْمَل بِهِ، وَلا تَطْلُبْه لِتُبَاهِي بِهِ العُلَمَاء، أو لِتُمَارِي به السُّفَهَاءَ، أَوْ تَأْكُلَ بِهِ الأَغْنِيَاءَ.
أَوْ تَسْتَخْدِمَ بِهِ الْفُقَرَاءَ، أَوْ تَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْكَ، فَإِنَّ لَكَ مِنْ عَلمِكَ مَا عَمِلْتَ بِهِ، وَعَلَيْكَ مَا ضَيَّعْتَ مِنْهُ.
فَكُلُّ مَنْ طَلَبَ الْخَيْرَ صَارَ غَرِيبًا فِي زَمَانِهِ، فَلا تَسْتَوْحِشْ وَاسْتَقِمْ عَلى سَبِيلِ رَبِّكَ.
وَاشْتَغِلْ بِذِكْرِ عُيُوبِ نَفْسِكَ عَنْ ذِكْرِ عُيُوبِ غَيْرِكَ، وَاحْزَنْ عَلَى مَا مَضَى مِنْ عُمْرِكَ فِي غَيْرِ طَلَبِ آخِرَتِكَ.
وَأَكْثِرْ مِنَ الْبُكَاءِ عَلَى مَا أَوْقَرْتَ ظَهْرَكَ، لَعَلَّكَ تَخْلُصُ مِنْهَا وَلا تُمْسِكْ عَن الْخَيْرِ وَأَهْلِهِ، وَلا تَتَبَاعَدْ عَنْهُمْ.
وَتَبَاعَدْ مِن الْجُهَّال وَبَاطلِهم مهما استطعت، فإنَّه لا يَنْجو من جاورَهم إلا مَنْ عصمَ الله.
وَقَالَ رحمه الله: وإنْ أَرَدْتَ اللِّحَاقَ بالصالحِين فاعملْ عَملَهُم، واحْذُ سِيرَتَهُم، واكْتَفِ بِمَا رُزِقْتَ مِن الدُّنْيَا.
ولا تَنْسَ مَنْ لا يَنْسَاكَ، وَلا تَغْفَلْ عَمَّنَ وُكِّلَ بِكَ، يُحصِي أَثَرَكَ، وَيَكْتُبُ عَمَلَكَ.
وَرَاقِبِ اللهِ فِي سِرِّكَ وَعَلانِيَّتِكَ، فَهُوَ رَقِيب عَلَيْكَ، وَاسْتَحي مِمَّنْ هُوَ مَعَكَ، وَأَقْرَبُ إِلَيْكَ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ.
وَاعْتَرِفْ بِفَاقَةِ نَفْسِكَ وَارْحمهَا وأكْثِرْ مِن الْبُكَاءِ عَلَيْهَا، وَلا تَغْبطْ أَهْلَ الشَّهَواتِ بِشَوَاتِهِمْ وَلا أَهْلَ النَّعمِ بِنِعَمهم.
فَإِنَّ وَرَاءَهُمْ يَومًا تُزَلْزَلُ فِيهِ الأَقْدَامُ، وَتُرعدُ فِيهِ الأَجْسَامُ، وَتَتَضَاعَفُ فِيهِ الآلامُ، وَتَتَزَايَدُ فِيهِ الأَسْقَامُ.
وَيَطُولُ فِيهِ الْقِيَامُ، وَيَشْتَدُّ فِيهِ الْحِسَابُ، وَيُشْفَقُ فِيهِ العذاب،
وَتَطِيرُ فِيهِ الْقُلُوبُ حَتَّى تَبْلُغَ الْحَنَاجِرَ، فَيَا لَهَا مِنْ نَدَامَةٍ عَلى مَا أَصَابُوا مِن هَذِهِ الشَّهَوات.
وَاجْعَلْ كَسْبَكَ فِيمَا يَكُونُ لَكَ ولا تَجْعَلْه فِيمَا يَكُونُ عَلَيْكَ، وَاجْتَنِبْ الْحَرَامَ وَلا تَجْلِسْ مَعَ مَنْ يَكْسِبُه.
وَإِيَّاكَ وَالظُّلْمَ، أَوْ تَكُونَ عَوْنًا لِلظَّالِمِ أَوْ تَصْحَبَهُ أَوْ تُؤاكِلُه، أَوْ تَبَسَّمَ في وَجْهِهِ، أَوْ تَنَالَ مِنْهُ شَيْئًا فَتَكُونَ عَوْنًا لَهُ، واَلْعَوْنُ شَرِيكٌ، وَلا تُخَالِفْ أَهْلَ التَّقْوَى، وَلا تُطِعْ أَهْل الْخَطَايَا.
وَلا تُجَالِسْ أَهْلَ الْمَعَاصِي، وَاجْتَنِبْ الْمَحَارِمَ. وَعَلَيْكَ بِالتَّوْبَةِ، وَجَدِّدْهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ، بَلْ فِي كُلِّ سَاعَةٍ، فَإِنَّ لِكُلِّ ذَنْبٍ تَوْبةٌ، وَتَرْكُ الذَّنْبِ أَيْسَرُ مِنْ طَلَبِ التَّوْبَةِ.
وَلا تَتَهَاوَنْ بِالذَّنْبِ الصَّغِيرِ، وَلَكِنْ انْظُرْ مَن عَصَيْتَ، عَصَيْتَ رَبًّا عَظِيمًا، يُعَاقِبُ عَلَى الصَّغِيرُ، وَيَعْفُو عَنِ الْكَبِيرِ إِنْ شَاءَ.
فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ عليه السلام حَذَّرَ نَفْسَهُ مَعَ قُربِهِ وَخُلَّتِهِ، وَعُلوِّ مَنْزِلَتِهِ، فَسَأَلَ رَبَّهُ فَقَالَ:{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ} .
وَقَالَ يُوسف الصِّدِّيقُ عليه السلام مَعَ عِصْمَتِهِ وَنُبَوَّتِهِ: {تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} .
وَقَالَ مُوسَى عليه السلام: {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ} .
وَقَالَ شُعَيْبٌ عليه السلام: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلَاّ أَن يَشَاءَ اللهُ رَبُّنَا} .
فَهَؤُلاءِ الأَنْبِيَاءُ الْمُقَرَّبُون الْمُجْتَبَوْن الْمَخْصُوصُونَ بِالنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَعُلوِّ الْمَنْزِلَةِ خَافوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَتَضَرَّعُوا إلى مَالِكِهِمْ.
(تحذير إلي الغافلين)
أَلا يَا غَافِلاً يُحْصَى عَلَيْهِ
…
مِنَ الْعَمَلِ الصَّغِيرَةُ وَالْكَبِيرَهْ
يُصَاحُ بِهِ وَيُنْذرُ كُلََّ يَوْمٍ
…
وَقَدْ أَنْسَتْهُ غَفْلَتُهُ مَصِيرَهْ
تَأَهَّبْ لِلرَّحِيلِ فَقَدْ تَدَانَى
…
وَأَنْذرَكَ الرَّحِيلَ أَخٌ وَجِيرَهْ
وَأَنْتَ رَخِيِّ بَالٍ فِي غُرُورِ
…
كَأَنْ لَمْ تَقْتَرِفْ فِيهَا صَغِيرَهْ
وَكَمْ ذَنْبٍ أَتَيْتَ عَلَى بَصِيرَةٍ
…
وَعَيْنُكَ بِالَّذِي تَأْتِي قَرِيرَهْ
تُحَاذِرُ أَنْ تَرَاكَ هُنَاكَ عَيْنٌ
…
وَإِنَّ عَلَيْكَ لِلْعَيْنُ الْبَصِيرَهْ
وَكَمْ حَاوَلْتَ مِنْ أَمْرٍ عَظِيمٍ
…
مُنِعْتَ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَخَيْرَهْ
وَكَمْ مِنْ مَدْخَلٍ لَوْ مُتَّ فِيهِ
…
لَكُنْتَ بِهِ نَكَالاً فِي الْعَشِيرَهْ
وُقِيتَ السُّوءَ وَالْمَكْرُوهَ فِيهِ
…
وَرُحْتَ بِنِعْمَةٍ فِيهِ سَتِيرَهْ
وَكَمْ مِنْ نِعْمَةٍ للهِ تُمْسِي
…
وَتُصْبِحُ لَيْسَ تَعْرضفُهَا كَثِيرَهْ
اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا وَكَرِه إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانِ وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ) وَقَالَ رحمه الله: واعلم يا أخي أَنَّ الله لا يقبلُ نافلةً حتى تُؤدِّي الفريضةُ، وأنَّ للهِ حَقًّا بالليل لا يَقبلُه بالنهار.
وحقًّا بالنهارِ لا يَقبلُه باللَّيل، وأنه يُحَاسِبُ العبدَ يومَ القيامةِ بالفرائض، فإنْ جاءَ بها تامةٌ قُبلَتْ فرائضهُ ونوافلُه.
وَإنْ لم يُؤدِّهَا وَأَضَاعَها أُلحقتِ النَّوافُل بالفرائض؛ فإنْ شاءَ غَفَرَ لَهُ وَإِنْ شاءَ عَذَّبَهُ.
وعلَيْكَ بتقوى الله عز وجل، ولِسَانٍ صَادِقٍ وَنِيَّةٍ خَالِصَةٍ، وأعمال صَالِحَةٍ، لَيْسَ فيها غِشٌّ وَلا خُدْعَةً.
فَإِنَّ اللهَ يَراكَ وَإِنْ لم تكنْ تَرَاهُ، فلا تُخَادِع الله يَخْدَعُكَ، وأصلحْ
سَرِيرَتَكْ وَعَلانِيتَك، وأحْسِنْ فيما بَيْنَكَ وبينَ الله يُحْسِن ما بَيْنَكَ وَبَيْنَ النَّاس.
واعملْ لآخِرَتِكَ يَكْفِيكَ أَمْرَ دُنْيَاكَ، وَبِعْ دُنْيَاكَ بآخِرَتِكَ تَرْبَحُهُما جَمِيعًا، وَلا تَبْعِ آخِرَتَكَ بِدُنْيَاكَ فَتَخْسَرْهُمَا جَمِيعًا.
وَإِيَّاكَ وَمُجَالَسَةَ أَهْلِ الْجَفَاءِ، وَلا تَصْحَبْ إِلا مُؤْمِنًا، وَلا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلا تَقِيٌّ، وَلا تُصَاحِبْ الْفَاجِرَ ولا تُجَالِسْهُ.
وَإِيَّاَك وَأَبْوَابَ الْمُلوكِ وَأَبْوَابَ مَنْ يَأْتِي أَبْوَابَهُمْ وَأَبْوَابَ مَنْ يَهْوَى هَوَاهُمْ، فَإِنَّ مَعَهُمْ مِثْلَ فِتَنِ الدَّجَّال.
شِعْرًا:
…
مَضَى السَّلف الأَبْرَار يَعْبِق ذكرهم
…
فَسِيرُوا كَمَا سَارُوا عَلَى الْبِرِّ وَاصْنعوا
وَكُنْ مَبْذُولاً بِمَالِكَ وَنَفْسِكَ لإِخْوَانِكَ، وَعَلَيْكَ بِالْكَسْبِ الطَّيبِ، وَمَا تَكْسِبُ بِيَدِيْكَ، وَإِيَّاكَ وَأَوْسَاخَ النَّاسِ أَنْ تَأْكلَه أَوْ تلبسَه.
فَإِنَّ الَّذِي يَأْكُلُ أَوْسَاخَ النَّاسِ فَهُوَ يَتَكَلَّمُ مَعَهُمْ بِذلَّةٍ وَتَوَاضُعٍ وَهَوَى، وَيَتَوَاضَعُ لهم مخافةَ أنْ يَمْنَعُوه.
ويا أخي! مَتَى تَنَاوْلَتَ مِن النَّاسِ شَيْئًا قَطَعْتَ لِسَانَكَ، وَأَكْرَمْتَ بَعْضَ النَّاسِ وَأَهْنتَ بَعضَهم مَعَ ما يَنْزِلُ بِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَإِنَّ الَّذِي يُعْطِيكَ مِن مَالِهِ فَإِنَّمَا هُوَ وَسَخُه.
وَتَفْسِيرُ وَسَخِهِ: تَطْهِيرُ عَمَلِهِ مِن الذُّنُوبِ، فَإِنْ أَنْتَ تَنَاوَلْتَ مِن النَّاسِ شَيْئًا فَلا تَأْمَنْ إِنْ دَعَوْكَ إِلى مُنْكَرِ أَجَبْتَهم.
وَإِنَّ الَّذِي يَأْكُلُ أَوْسَاخَ النَّاسِ كَالرَّجلِ لَهُ شُرَكَاءِ فِي شَيْءٍ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُقَاسِمَهُمْ، يَا أَخِي جُوعٌ وَقَلِيل مِنْ الْعِبَادة خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَشْبَعَ مِنْ أَوْسَاخِ النَّاسِ وَكَثِيرٌ مِن الْعِبَادَةِ.
فَقَدْ بَلَغنَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ ? قَالَ: «لَوْ أَنَّ أحدَكم أَخَذَ حَبْلاً ثُمَّ احْتَطَبَ حَتَّى يُدْبِرَ ظَهْرَهُ، كَانَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَقُومَ عَلَى ظَهْرِ أَخِيِه فَيَسْأَلُه أَوْ يَرْجُوهُ» .
وَبَلَغَنَا أَنَّ عُمَرَ بن الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ حَمِدْنَاهُ، وَمَنْ لَمْ يَعْمَلْ اتَّهَمْنَاهُ.
وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الُقُرَّا! ارْفَعُوا رُؤُوسَكم، لا تَزِيدُوا الْخُشُوعَ عَلَى مَا فِي الْقَلْبِ، اسْتَبِقُوا فِي الْخِيرَاتِ، وَلا تَكُونُوا عِيَالاً عَلَى النَّاسِ فَقَدْ وَضَحَ الطَّرِيقُ.
وَقَالَ عَلِيٌّ بنُ أَبي طالب رضي الله عنه: إنَّ الذي يَعِيشُ مِنْ أَيْدِي النَّاس كالذي يَغْرِسُ شَجَرَةً في أرض غيره.
فاتق الله يا أخِي، فإنّه ما نَالَ أحدٌ من النَّاسِ شَيْئًا إلا صَارَ حَقِيرًا ذَلِيلاً عندَ النَّاس، والمؤمنون شُهودُ الله في الأرضِ.
وإيَّاكَ أن تَكْسِبَ خَبِيثًا فَتُنْفِقَهُ في طاعةِ الله، فإنَّ تَرْكَهُ والله فَرِيضةٌ واجبة، وَإِنَّ الله عز وجل لا يَقْبَلُ إِلا الطَّيِّبَ.
أَرَأَيْتَ رَجُلاً أَصَابَ ثَوْبَه بَوْلٌ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يطهِّرَهُ فَغَسَلَهُ بِبَولٍ آخَرَ، أَتُرَى كان ذلك يُطَهِّرُه؟
إِنَّ البولَ لا يُطَهَّرُ إِلا بِطَاهِرٍ طَيِّبٍ، فَكَذَلِكَ لا تُمْحَى سيئة بسيئةٍ، ولا تُمْحَى إلا بِحَسَنةٍ.
وَعَلَيْكَ بِالصِّدْقِ فِي الْمَوَاطِن كُلِّهَا. وَإِيَّاكَ والكذبَ والخيانة، وَإِيَّاكَ وَالرِّيَاءَ في الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ فَإِنَّهُ الشركُ بعينِهِ.
وَإِيَّاكَ وَالْعُجْبَ فَإِنَّ الْعَمَلَ لا يُرفعُ وَفِيهِ عُجْبٌ، وَلا تأخذْ إِلا مِمَّنْ هُوَ مُشْفِقٌ عَلَى دِينِه.
فَإِنَّ مَثَلَ الِّذِي هُوَ غَيْرُ مُشْفِقٍ عَلَى دِينِهِ كَمَثَلٍ طَبِيبٍ بِهِ دَاءٌ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُعَالِجَ دَاءَ نَفْسِهِ، وَلا يَنْصَحُ لِنَفْسِهِ، وَلا يَتَجَنَّبْ مَا يَضُرُّ مَرَضَه وَيَحْمِيهَا مِنْهُ.
فَكَيْفَ يصلح أن يُعَالِجَ دَاءَ النَّاسِ وَيَنْصَحُ لَهم؟! فهذا الذي لا يُشْفِقُ عَلَى دِينِهِ، كَيْفَ يُشْفِقُ عَلَى دِينِكَ؟!
وَيَا أَخِي! إِنَّمَا دِينُكَ لَحْمُكَ وَدَمُكْ، فَابْكِ عَلَى نَفْسِكَ وَأَرْحَمْهَا، فَإِن أَنْتَ لَمْ تَرْحَمْهَا لَمْ تُرْحَمْ. وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
(فَصْلٌ)
وَقَالَ رحمه الله: وَلْيَكُنْ جَلِيسُكَ مَنْ يُزْهِدُكَ في الدُّنْيَا وَيُرَغِّبُكَ في الآخِرَةِ، وَإِيَّاَك وَمُجَالَسَةِ أَهْلِ الدنيا الذينَ يخوضُونَ في حديثِ الدنيا، فإنَّهم يُفْسِدُونَ عَلَيْكَ دِينَكَ وَقَلْبَكَ. وَأَكْثِرْ ذِكْرَ الْمَوْتِ.
وَأَكْثِرْ الاسْتِغْفَارَ مِمَّا قَدْ سَلَفَ مِنْ ذُنُوبِكَ، وَسَلِ اللهَ السَّلامةَ وَالْعِصْمَةَ لِمَا قَدْ بَقِيَ مِنْ عُمُرِكَ. ثُمَّ أَخِي عَلَيْكَ بِأَدَبٍ حَسَنٍ، وَخُلُقٍ حَسَنٍ.
ولا تُخَالِفَنَّ الجماعة إذا كانوا على السُّنَّةِ، فإنَّ الخيرَ فيها. وانصحْ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ إِذَا سَأَلَكَ في أَمْرِ دِينِهِ.
وَلا تَكْتْمُنَّ أَحَدًا مِن النَّصِيحَةِ شَيْئًا إِذَا شَاوَرَكَ فيما كان لله رِضًا، وَإِيَّاكَ أَنْ تَخُونَ مُؤْمِنًا؛ فَمَنْ خَانَ مُؤْمِنًا فَقَدْ خَانَ اللهَ وَرَسُولهَ.
وَإِذَا أَحْبَبْتَ أَخَاكَ في الله فابْذِلْ لَهُ نَفْسَكَ وَمَالَكَ. وَإِيَّاكَ والْخُصُومَاتِ وَالْجِدَالِ وَالْمِرَاءَ، فَإِنَّكَ تصيرُ ظَلُومًا خَوَّانًا أَثِيمًا.
وعليك بالصبر في المواطن كلِّها، فإنَّ الصبرَ يَجُرُّ إلى البِرِّ، والبِرِّ يَجُرُّ إلى الْجَنَّةِ.
وَإِيَّاكَ وَالْحِدَّةَ وَالغضب؛ فإنهما يَجُرَّانِ إلى الْفُجُورِ، والْفُجُورُ يَجُرُّ إلى النَّارِ.
ولا تُمَارِيَنَّ عَالِماً فَيَمْقُتَكَ، وإن الاخْتِلافِ إلى العُلَماءِ رَحْمَةٌ، وَالانقطاعَ عنهم سَخَطُ الرحمن.
فإنهم خُزَّانُ الأنبياء وَأَصْحَابُ مَوَارِيثهم، وأُمَنَاءُ الله وَهُدَاةُ الدِّين
(يُرِيد العلماء المتبعون للكتاب والسنة والمطبقون لهما في الأقوال والأفعال) .
لا مَن يُسَموْنَ عُلماء وَلَيْسَ بعُلَمَاء لا يُرَى عليهم آثَارَ العِلم فهؤلاء يجب الابتعاد عنهم والتحذير منهم نسأل الله السلامة والعِصْمَة.
وعليكَ بالزهد يُبَصِّرْكَ عَوْرَاتِ الدُّنْيَا، وَعَلَيْكَ بالْوَرَعِ يُخَفِّفُ الله حِسَابَكَ.
وَدَعْ كَثِيرًا مِمَّا يريبُكَ إلى ما لا يريبُكَ تَكُنْ سَالماً، وادْفَعْ الشَّكَ باليَقِين يَسْلَمْ لَكَ دِينُكَ.
وَأمُرْ بِالمَعروفِ، وانهَ عن المُنْكَرِ تَكُنْ حَبِيبَ اللهِ، وَأَقِلَّ الفَرَحَ والضَّحِكَ تَزْدَدْ قَُوَّةً عندَ الله، واعْمَلْ لآخِرَتِكَ يَكْفِكَ الله أمْرَ دُنْيَاكَ.
وإذا أردتَ أَمْرًا من أُمُورِ الدنيا فَعَلَيْكَ بالتَّوأَدَةِ؛ فإنْ رأيتَه مُوافِقًا لآخِرَتِكَ فَخذْهُ، وَإلا فَقِفْ عنه، وسلَ الله العافية وحُسْنَ الْعَاقِبَةِ.
وَإِذَا هَمَمْتَ بأمرٍ من أمور الآخرة فَشَمِّرْ إليها مُسْرِعًا مِن قَبْلِ أن يَحُولَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا الشَّيْطَان.
وَلا تَكُونَنَّ أَكُولاً، وَلا تأكلنَّ بغيرِ شَهْوةٍ، ولا بغَير نِيَّةٍ، ولا عَلَى شِبَعٍ؛ فَيَسْقُو قَلْبُكَ. وَإِيَّاكَ وَالطَّمعَ فِيمَا في أَيْدِي النَّاسِ، فَإِنَّ الطَّمَعَ هَلاكُ الدِّينِ.
وَإِيَّاكَ وَالْحِرْصَ عَلَى الدنيا، فإن الحِرصَ يَفْضَحُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَكُنْ طَاهِرَ القلب نَقِيَّ الجسدِ من الذُنُوُبِ وَالخَطَايَا.
نَقِيّ اليَدينِ من المظالم، سَلِيمَ القلبِ مِن الْغِشِّ والمكرِ والخِيَانَةِ، خَالي الْبَطْنِ مِن الحَرَامِ، فَإِنَّهُ لا يَدْخُلُ الجنَّةَ لحمٌ نَبتَ مِنْ سُحْتٍ.
وَكُفَّ بَصَرَكَ عَنْ عَوْرَاتِ النَّاسِ، وَلا تمشِينَ إِلى غَيْرِ حَاجَةٍ، وَلا تَكَلَّمنَّ بِغَيْرِ حِكْمَةٍ.
وَإِيَّاكَ ثُمَّ إِيَّاكَ أَنْ تَلِي نَفْسِكَ مِن الأَمَانةِ شَيْئًا، وَقَدْ سَمَّاكَ الله ظَلومًا
جهولاً، وأقِلِ العَثْرةَ، وَأَقِلَّ الاعتذارَ، واغفرْ ذنبَ مَنْ يُرْجَى خَيْرهُ وَيُؤْمَنُ شرُّه.
وَلا تُبْغِضْ أَحَدًا يُطِيعُ الله ورسولَهُ، ولا تَقْطَعْ رَحِمَكَ، وَصِلْ مَنْ قَطَعَكَ، وَصِلْ رَحِمَكَ وَإِنْ قَطَعَتْكَ.
وَتَجَاوَزْ عَمَّنْ ظَلَمَكَ تَكُنْ رَفِيقَ الأَنْبِيَاءِ وَالشُّهَدَاءِ، وَأَقِلَّ دُخُولَ السوقِ، فَإِنَّ أَهْلَهُ ذِئَابٍ عَلَيْهِمْ ثِيَابٌ، وفي السُّوقِ مَرَدَةُ الشياطينِ منِ الجنِّ والإِنسِ.
وَإِذَا دَخَلْتَها فَقُلْ: أشهدُ أنْ لا إلِهِ إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمدُ يُحْيي ويُميتُ، وهو حيُّ لا يموت، بيده الخير وهو على كلُّ شيءٍ قدير. اللهم صلّ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ وأصحابه أجمعين.
فقد بلغِنَا عن النبي ? أنه قَالَ: «يُكتبُ لِقَائِلَها بِعدَدَ مَنْ في السُّوقِ مِن أَعْجَمِي أو فَصِيحٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ» . وَإِيَّاكَ أَنْ تُفَارِقُ الدَّسَمَ؛ فَإِنَّهُ أَتَمُّ لِعَقْلِكَ، وَلا تَمْنَعَنَّ نفسَك مِن الحلاوَةِ إنْ قَدِرْتَ؛ فَإِنَّهُ يَزِيدُ في الْحِلْمِ، وَعَلَيْكَ بِاللَّحم إِنْ وَجَدْتَهُ، وَلا تَدُمْ عَلَيْهِ وَلا تَدَعهُ أربعين يَوْمًا فَيَسوء خُلُقُكَ، وَلا تَردَّ الطِّيبَ؛ فإنَّه يَزِيدُ الدِّمَاغَ قُوةًَ.
والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
(فَصْلٌ)
وَقَالَ رحمه الله: وعليكَ باللِّبَاسَ الخشنِ تَجدْ حلاوةَ الإيمان، وعليكَ بالصَّوْم يَسُدُّ بابَ الفُجور، ويَفْتَحْ عليكَ بابَ العِبادة، وعليك بقلَّةِ الكلامِ يَلِنْ قَلْبُكَ. قُلْتُ: إلا بذكر الله وما ولاه.
وعليكَ بطُولِ الصمتِ تملكْ الوَرَعَ، (أي إلا ما فيه نفع أخْرَوِي أو ما هو وسيلة إليه) وَلا تكنْ طَعَّانًاً ولا مُغْتَابًا تسلمْ من أَلْسُنِ النَّاسِ.
وكنْ رحيمًا تكنْ محبَّبًا إلى النَّاس، وارضَ بما قسمَ الله لك تكنْ غَنيًّا،
وتوكْل على الله تكنْ قَوِيًّا، وكنْ مُتَواضِعًا تستكملْ أعمالَ البِّر.
وكُنْ عفوًّا تظفَر بحاجتِك، وكنْ رحيمًا يُتَرَحَّم عليكَ، وعليك بالسَّخَاء فإنه يسْتُر العوراتِ.
وعليكَ بكثرةِ المعروف يُؤْنسْكَ الله في قَبرِكَ واجتنبْ المحارِمَ كلَّها تَجِدْ حَلاوةَ الإيمان.
وأحِبَّ أهلَ الجنّةٍ تكنْ معهم يومَ القيامة وابغضْ أهلَ المعاصي يُحِبُّكَ اللهُ والمؤمنون.
واحْرصْ يا أخِي! أن يَكُونَ أَوَّلُ أمرِك وآخرُه على تقوى الله في السرِّ والعلانيةِ.
واخشَ الله خشية مَن عَلِمَ أنه مَيِّتٌ وَمَبْعُوثٌ وَمَحْشُورٌ وَمَوْقوفٌ بينَ يَدَيْ الْجَبَّارِ.
ثم المصيرُ إلى أحدِ الدارينِ؛ إِمَّا إلى جنَّةٍ ناعمةٍ خالدةٍ، أو إلى نارٍ حاميةٍ مؤبَّدَةٍ دائمةٍ.
وجالس الفقراء، واصحبِ المساكينَ، وأرضَ بعيشتهم، وتأسَّ بفقيرهم، واصْبر علي مُضطَرِّهم.
وكنْ راضيًا عن الله بما قسم، وداخلاً تحتَ ما حكَم، ساهِرًا في جُنحِ الظُّلَمِ. انتهى.
قَالَ يحيى بن أكثم: كُنتَ أرى شيخًا يَدخُل على المأمون وكان يَخْلُو به خلوةً طويلةً ثم ينصرفُ فلا نسمع له خَبَرَا فلما تُوفي.
قَالَ لنا المأمونُ: وَا أسَفَا على فقد صَديقٍ مَسْكُونٍ إليه مَوْثُوقٌ به وَتُقْتَبَسُ منه الْفَوَائدُ وَالْغُرَر قُلْنَا:
ومَن ذاكَ يا أمير المؤمنين؟ قَالَ: أما كُنتَ تَرى شيخًا يأتِينَا وَنَخْلُوا به مِن دونَ النَّاسِ قُلْتُ: بلى. قَالَ: قد تأخر عن إبانِهِ وأظن أنه قَدْ ماتَ.
قُلْتُ: وما في ذلكَ؟ قَالَ: كان صَديقي بخرسان وكُنْتُ أسْتَرِيحُ إليه
اسْتِرَاحَةَ المكْرُوب وأجد به ما يوجد بالولد السارَ المحبوب ولقد استمد منه رَأيًا أقوم به أوَدَ المملكة وأصل به إلى رضا الله في سِيَاسَة الرعية. وآخر ما قَالَ لي عِنْدَ وَداعِهِ: إذا اسْتَشَنَّ ما بينك وَبَيْنَ الله فابْلُلْهُ قُلْتُ: بماذا يَا صَاحِبَ الخَيْرِ؟ قَالَ: بالاقتداء به في الإحسان إلى عبادة فإنه يحب الإحسان مِن عباده إلى عباده كما تحب الإحسان إلى ولدك من حاشِيَتِكَ. والله ما أعطاك القُدْرَةَ عليهم إلا لتصير على إحسانك إليهم بالشكر على حَسَنَاتِهِمْ والتَّغَمُدَ لسيئاتهم وَأي شيء أوجه لَكَ عند ربك من أن يكون أمامك عدل وإنصاف وإحسان وإسْعَافٌ ورَأفة ورحمةَ مَن لِي بمثل هذا القائلِ وأنَّى لي بمن يذكرني ما انا إليه صائر.
أَلا إنما الدُّنْيَا مَتَاعُ غُرورِ
…
وَدَارُ بَلاءٍ مُؤذنٍ بثُبُور
وَدَارُ مُلِمَّاتٍ وَدَارُ فَجَائِعِ
…
وَدَارُ فَنًا في ظُلْمَةٍ وَبُحُورِ
دَارُ خَيَالٍ مِنْ شُكُوكٍ وَحِيرَةٍ
…
وَدَارُ صُعُودٍ في الهوى وحُدُورِ
إِنَّ امْرأً لم يَنْجُ فيها بِنَفْسِهِ
…
عَلَى مَا يَرى فِيهَا لَغَيْرُ صَبُورٍ
وَلا بُدَّ مِنْ يَومَين يَومِ بَليَّةٍ
…
إِرَادَةُ جَبَّارٍ وَيَوْمِ نُشُورِ
كَأَنِّي بِيَوْم ما أخَذْتُ تَأَهُّبًا
…
لِرَبِّي رَوَاحِي مَرةً وَبُكورِي
كَفَى حَسْرَةً أَنَّ الْحَوَادِثَ لَمْ تَزَلْ
…
تُصَيِّرُ أَهْلَ الْمُلْكِ أَهْلَ قُبُورِ
أَلا رُبَّ أَبْنَاءِ اتِّسَاعٍ وَفَرْحَةٍ
…
وَزَهْرَةِ عَيْشٍ مُونَقٍ وَحُبُورٍ
وَأَبْنَاءِ لَذَّاتٍ وَظِلِّ مَصَانِعٍ
…
وَظلِّ مَقَاصِير وَظِلِّ قُصُورِ
نَظَرْتُ إليهم في بُيوتٍ مِن الثَّرَى
…
مُسْتَّرَةٍ مِن رَضْرَضٍ بِسُتُورِ
وَكَمْ صُوَرٍ تَحْتَ التُّرَابِ مُقِيمَةٍ
…
عَلَى غَيْرِ أَبْشَارٍ وَغَيْرِ شُعُورِ
ثَوَتْ في سَرَابِيلٍ عَلَيْهَا مِن الحَصى
…
وَمِنْ لَخَفٍ مِنْ جَنْدَلٍ وَصُخُورِ
إِذَا مَا مَرَرْنَا بالقُبورِ لحَاجَةٍ
…
مَرَرْنَا بِدُورٍ هُنَّ أَجْمَلُ دُورِ
أَلا رُبَّ جَبَّارٍ بِهَا مُتَكَبِّر
…
وَيَا رُبَّ مُخْتَالٍ بِهَا وَفَخُورِ
خَلِيلِي كَمْ مِنْ مَيِّتٍ قَدْ حَضَرْتُهُ
…
وَلَكِنَّنِي لَمْ أَنْتَفِعْ بِحُضُورِي
وَكَمْ مِنْ خُطُوبٍ قَدْ طَوَتْنِي كَثِيرَةٍ
…
وَكَمْ مِنْ أُمُورٍ قَدْ جَرَتْ وَأُمُورِ
وَكَمْ مِنْ لَيَالٍ قَدْ أَرَتْنِي عَجَائِبًا
…
لَهُنَّ وَأَيَّامٍ خَلَتْ وَشُهُورِ
وَمَنْ لَمْ تَزدْهُ السِّنُّ مَا عَاشَ عِبْرَةً
…
فَذَاكَ الَّذِي لا يَسْتَضِيء بِنُورِ
مَتَى دَامَ في الدُّنْيَا سُرُورٌ لأَهْلِهَا
…
فَأَصْبَحَ فِيهَا وَاثِقًا بِسُرُورِ؟
اللَّهُمَّ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ يَا بَدِيعَ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ نَسْأَلُكَ أَنْ تُوَفِّقَنَا لِمَا فِيهِ صَلاحُ دِينِنَا وَدُنْيَانَا وَأَحْسِنْ عَاقِبَتَنَا وَأَكْرِمْ مَثْوَانَا وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
في مَآلِ الإِنْسَانِ وَمَصِيرِهِ
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءَ: بَيْنَمَا الإِنْسَانُ فِي صِحَّتَهِ مُتَمَتِّعًا فَرِحًا بِقُوَّتِهِ وَشَبَابِهِ يَخْطُرُ لَهُ الضَّعْفُ عَلَى قَلْبِ وَلا الْمَوْتُ عَلَى بَال إِذْ هَجَمَ عَلَيْهِ الْمَرَضُ وَجَاءَ الضَّعْفُ بَعْدَ الْقُوَّةِ وَحَلَّ الْهَمُّ مِنْ نَفْسِهِ مَحَلَّ الْفَرَحِ وَالْكَدَرُ مَكَانَ الصّفَاءِ وَلَمْ يَعُدْ يُؤَنِّسُه جَلِيسٌ وَلا يُرِيحَهُ حَدِيثٌ وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللهِ الْعَلِّي الْعَظِيم قَدْ سَئِمَ وَمَلَّ مِمَّا كَانَ يَرْغَبُهُ فِي أَيَّامِ صِحَّتِهِ وَصَارَ لا يَشْتَهِي الْغِذَاء وَيَكْرَهُ تَنَاوَلَ الدَّوَاءِ عَلَى بَقَاءِ فِي لبَهِ وَصِحَّتُهُ فِي عَقْلِهِ يُفَكِّرُ فِي عُمُر أَفْنَاهِ وَشَبَابٍ أَضَاعَهُ فِي الْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ وَعِنْدَ الْمَلاهيِ والْمُنْكَرَاتِ.
وَيَتَذَكَّرُ أَمْوالاً جَمَعَها وَدُورًا بَنَاهَا وَقُصُورًا شَيَّدَهَا وَضِيَاعًا جَدَّ وَكَدَّ فِي حِيَازَتِهَا وَيَتَأَلَّمُ لِدُنْيَا فَارَقَها وَيَتْرُكُ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا يَخَافُ عَلَيْهِمْ الضَّيَاعَ مِنْ بَعْدِهِ مَعَ اشْتِغَالِ نَفْسِهِ بِمَرَضِهِ وَآلامِهِ وَتَعَلُّقِ قَلْبِهِ بِمَا يُعَجِّلُ شِفَاءَهُ وَلَكِنْ مَا الْحِيلَةُ إِذَا اسْتَفْحَلَ الدَّاءُ وَلَمْ يُفِدِ الدَّوَاءُ وَحَارَ الطَّبِيبُ وَيَئِسَ الْحَبِيبُ {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} .
عِنْدَ هَذَا يَسْتَشْعِرُ النَّدَمَ عَلَى مَا مَضَى وَيَحُسُّ بِعَوَاقِبِ التَّفْرِيطِ وَالإِهْمَالِ
وَقَدْ تَغَيَّرَ لَوْنَهُ وَغَارَتْ عَيْنَاهُ وَمَالَ عُنُقُهُ وَأَنْفُهُ وَذَهَبَ حُسْنُهُ وَجَمَالُهُ وَخَرِسَ لِسَانُهُ وَصَارَ بَيْنَ أَهْلِهِ وَأَصْدِقَائِهِ يَنْظُر وَلا يَفْعَلَ وَيَسْمَعُ وَلا يَنْطِق يُقَلِّبُ بَصَرَهُ فِيمَنْ حَوْلَهُ مِنْ أَوْلادِهِ وَأَهْلِهِ وَإِخْوَتِهِ
وَأَقَارِبِهِ وَأَحْبَابِهِ وَجِيرَانِهِ يَنْظُرُونَ مَا يُقَاسِيهِ مِنْ كَرْبٍ وَشِدَّةٍ وَلَكِنَّهُمْ عَنْ إنْقَاذِهِ أَوْ تَخْفِيفِ كَرْبِهِ عَاجِزُون.
شِعْرًا:
…
أَحَاطَتْ بِهِ أَحْزَانُهُ وَهُمُومُهُ
…
وَأَبْلَسَ لَمَّا أَعْجَزَتْهُ الْمَقَادِرُ
فَلَيْسَ لَهُ مِنْ كُرْبَةِ الْمَوْتِ فَارِجٌ
…
وَلَيْسَ لَهُ مِمَّا يُحَاذِرُ نَاصِرُ
وَقَدْ جَشَأْتَ خَوْفَ الْمَنِيَّةِ نَفْسُهُ
…
تُرَدِّدُهَا مِنْهُ اللَّهَا وَالْحَنَاجِرُ
فَكَمْ مُوجِعٌ يَبْكِي عَلَيْهِ مُفْجَعٌ
…
وَمُسْتَنْجِدٌ صَبْرًا وَمَا هُوَ صَابِرُ
وَمُسْتَرْجِعٍ دَاعٍ لَهُ اللهَ مُخْلِصًا
…
يعِدِّدُ مِنْهُ كُلَّ مَا هُوَ ذَاكِرُ
وَكَمْ شَامِتٍ مُسْتَبْشِرٍ بِوَفَاتِهِ
…
وَعَمَّا قَلِيلٍ لِلَّذِي صَارَ صَائِرُ
وَحَلَّ أَحَبُّ الْقَوْمِ كَانَ بِقُرْبِهِ
…
يَحُثُّ عَلَى تَجْهِيزِهِ وَيُبَادِرُ
وَشَمَّرَ مَنْ قَدْ أَحْضَرُوهُ لِغَسْلِهِ
…
وَوُجِّهَ لَمَّا فَاضَ لِلْقَبْرِ حَافِرُ
وَكُفِّنَ فِي ثَوْبَيْنِ وَاجْتَمَعُوا لَهُ
…
مُشَيّعَهُ إِخْوَانُهُ وَالْعَشَائِرُ
فَلَوْ أَبْصَرَتْ عَيْنَاكَ أَوْلادَهُ الَّذِي
…
عَلَى فَقْدِهِ مِنْهُمْ قُلُوبٌ تَفَطَّرُ
لَعَايَنْتَ مِنْ قبحِ الْمَنِيَّةِ مَنْظرًا
…
يُهَالُ لِمَرْآهُ وَيَرْتَاعُ نَاظِرُ
أَكَابِرُ أَوْلادٍ يَهِيجُ اكْتِئَآبُهُم
…
إِذَا مَا تَنَاسَوْهُ الْبَنُونَ الأَصَاغِرُ
وَرَبَّةُ نِسْوَانٍ عَلَيْهِ جَوَازِعٌ
…
مَدَامِعُهُمْ فَوْقَ الْخُدُودِ غَوَازِرُ
ثَوَى مُفْرَدًا فِي لَحْدِهِ وَتَوَزَّعَتْ
…
مَوَارِيثَهُ أَوْلاده وَالأَصَاهِرُ
وَأَحْنُوا إلى أَمْوَالِهِ يَقْسِمُونَهَا
…
فَلا حَامِدٌ مِنْهُمْ عَلَيْهَا وَشَاكِرُ
فَيَا عَامِرَ الدُّنْيَا وَيَا سَاعِيًا لَهَا
…
وَيَا آمِنًا مِمَّا تَدُورُ الدَّوَائِرُ
سَتَلْقَى الَّذِي لاقَى عَلَى الرَّغْمِ آنِفًا
…
فَخُذْ أَهُبَةً وَاحْرِصْ فَمَا لَكَ عَاذِرُ
وَبَعْدَ أَنْ كَانُوا يُحِبُّونَ حَيَاتَهُ وَبَقَاءَهُ صَارُوا يَتَمَنَّوْنَ مَوْتَهُ وَرَاحَتَهُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ عَمَّا قَلِيلٍ مَأْخُوذٌ مِنْ بَيْنِهِمْ حَيْثُ لا يَقْدِرُونَ عَلَى مَنْعِهِ وَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدِّ
.. رُوحِِهِ إلى بَدَنِه قَالَ تَعَالَى: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} .
ثُمَّ لَا يَزَالُ يُعَالجُ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ وَشَدَائِدَه وَيَشْتَدُّ بِهِ النَّزْع وَجَعَلَ يُتَابعُ نَفَسَه وَاخْتَلَّ نَبْضُه وَتَعَطَّلَ سَمْعُه وَبَصَرُه كَمَا تَعَطَّلَ قَبْلَ ذَلِكَ لِسَانُه حَتَّى إذَا جَاءَ الأَجلْ وَنَفَذَ الْقَضَاءُ وَفَاضَتْ رُوحُهُ إلَى السَّمَاء صَارَ جُثَّةً هَامدَةً وَجيفَةًً بَيْنَ أَهْلِهِ وَعَشِيرَتِه قَدْ اسْتَوْحَشُوا مِنْ جَانِبِهْ وَتَبَاعَدُوا وَمَاتَ اسْمُهُ الَّذِي كَانُوا يَعْرَفُونَهُ كَمَا مَاتَ شَخْصُهُ الّذِيِ كَانُوا يَأنَسُونَ بِهِ وأصْبَحُوا يَقُولُونَ الْمَيْتُ بَعْدَ أَنْ كَانَوا يُنَادُونَهُ بِاسْمِهِ حَيًا.
فَإنا لله وَإَنَّا إلَيْهِ رَاجِعُون ثُمَّ أَخَذَ الْغَاسِلُ فَجَرَّدَهُ مِنْ ثِيَابِه وَصَارَ يُقَلَّبُهُ عُرْيَانًا وَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى سَوْأتِه وَعَوْرَتِهِ وَقَدْ كَانَ يَسْتَحِي وَيَخْجَلُ مِنْهُ حَالَ حَيَاتِه. ثُمَّ أُدْرِجَ في أَكْفَانِهِ كَمَا يُدْرَجُ اْلمتَاعُ في لِفَافِتِه وَبَعْدَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ يَحْمِلُونَهُ إلى حُفْرَةٍ عَمِيْقَةٍ ضَيّقَةٍ مُوْحِشَةٍ وَيَتْرُكوُنَهُ وَحِيدًا لَا أنِيسَ وَلا رَفِيقَ إلا عَمَلُه انْتَهَى وَوُجِدَ مَكْتُوبًا عَلى قَبْرِه:
شِعْرًا:
…
فَأمْسَوْا رَمِيمًا في التُّرابِ وَعُطلّتْ
…
مَجَالِسُهُمْ مِنْهُمْ وأخليْ الْمَقاصِرُ
وَحَلُّوا بِدَارٍ لَا تَزَاوُرَ بَيْنَهُمْ
…
وَأَنَّى لسُكَّانِ الْقُبَورِ التَّزَاوُرُ
فَمَا أَنْ تَرَى إِلا قُبُورًا ثَوَوْا بِهَا
…
مُسَطَّحَةً تَسْفِي عَلَيْهَا الأَعَاصِرُ
فَمَا صَرَفَتْ كَفَّ الْمَنِيَّةِ إِذْ أَتَتْ
…
مُبَادَرَةٌ تَهْوِي إِلَيْهَا الذَّخَائِرُ
وَلا دَفَعَتْ عَنْهُ الْحُصُونَ الَّتِي بَنَى
…
وَحَفَّتْ بِهَا أَنْهَارُهُ وَالدَّسَاكِرُ
وَلا قَارَعَتْ عَنْهُ الْمَنِيَّةَ حِيلَةٌ
…
وَلا طَمِعَتْ فِي الذَّبِّ عَنْهَا الْعَسَاكِرُ
أَتَاهُ مِنَ الْجَبَّارِ مَالا يَرُدُّهُ
…
وَأَمْرٌ قَضَاهُ اللهُ لا بُدَّ صَائِرُ
مَلِيكٌ عَزِيزٌ لا يُرَدُّ قَضَاؤُهُ
…
حَكِيمٌ عَلِيمٌ نَافِدُ الأَمْرِ قَاهِرُ
عَنَى كُلُّ ذِي لِعِزَّةِ وَجْهِهِ
…
فَكَمْ مِنْ عَزِيزٍ لِلْمُهَيْمِنِ صَاغِرُ
لَقَدْ خَضَعْتَ وَاسْتَسْلَمَتْ وَتَضَاءَلَتْ
…
لِعِزَّةِ ذِي الْعَرْشِ الْمُلُوكُ الْجَبَابِرُ
وَقَفَ بَعْضُ السَّلَفِ عَلَى إِنْسَانٍ شَدِيدِ الْحُزْنِ فَقَالَ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ أَنْتَ مَحْزُون؟ قَالَ: لأَنِّي أُصِبْتُ فِي نَفْسِي وَذَلِكَ أَنِّي قَتَلْتُهَا بِالذُّنُوبِ فَأَنَا حَزِينٌ عَلَيْهَا ثُمَّ أَسْبَلَ دَمْعَهُ فَقَالَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ الآن؟ قَالَ: ذَكَرْتُ يَوْمًا مَضَى مِنْ أَجَلِي لَمْ يَحْسُنْ فِيهِ عَمَلِي فَبُكَائِي لِقِلَّةِ الزَّادِ وَبُعْدِ الْمَفَازَة وَعَقَبَةٌ لا بُدَّ لِي مِنْ صُعُودِهَا ثُمَّ لا أَدْرِي أَيْنَ يُهْبَطُ بِي إِلى الْجَنَّةِ أَمْ إلى النَّارِ ثُمَّ أَنْشَدَ:
يَا رَاكِبًا يَطْوِي مَسَافَة عُمْرِهِ
…
باللهِ هَلْ تَدْرِي مَكَانَ نُزُولِكَا
شَمِّرْ وَقُمْ مِنْ قَبْلِ حَظِّكَ فِي الثَّرَى
…
في حُفْرَةِ تَبْلَى بِطُولِ حُلُولِكَا
- وَوُجِدَ مَكْتُوبًا عَلَى قَبْر-
ذَهَبَ الأَحِبَّةُ بَعْدَ طُولِ تَزَاوُرِ
…
وَنَأَى الْمَزَارُ وَأَسْلَمُوكَ وَأَقْشَعُوا
تَرَكُوكَ أَوْحَشَ مَا تَكُونَ بِقَفْرَةٍ
…
لَمْ يُؤْنِسُوكَ وَكُرْبَةٍ مَا نَفَسُوا
وَقَضَى الْقَضَاءُ وَصِرْتَ صَاحِبَ حُفْرَةٍ
…
عَنْكَ الأَحِبَّةُ أَعْرَضُوا وَتَصَدَّعُوا
آخر:
…
إِنَّ الْمَسَأةَ لِلْمَسَرَّةِ مَوْعِدٌ
…
أُخْتَانَ رَهْنٌ لِلْعَشِيَّةِ أَوْ غَدِ
فَإِذَا سَمِعْتَ بِهَالِكِ فَتَيَقنَنْ
…
أَنَّ السَّبِيلَ سَبِيلُه فَتَزَوَّدِ
آخر:
…
قِفْ بِالْقُبُورِ وَقُلْ عَلَى سَاحَتِهَا
…
مَنْ مِنْكُمْ الْمَغْمُورُ فِي ظُلُمَاتِهَا
وَمَنِ الْمُكَرَّمُ مِنْكُمْ فِي قَعْرِهَا
…
قَدْ ذَاقَ بَرْدَ الأَمْنِ مِنْ رَوَعَاتِهَا
لَوْ جَاوَبُوكَ لأَخَبْرَوُكَ بِأَلْسُن
…
تَصِفُ الْحَقَائِقَ بَعْدُ مِنْ حَالاتِهَا
أَمَّا الْمُطِيعُ فَنَازِلٌ في رَوْضَةٍ
…
يُفْضِي إلى مَا شَاءَ مِنْ دَوْحَاتِهَا
وَالْمُجْرِمُ الطَّاغِي بِهَا مُتَقَلِّبٌ
…
فِي حُفْرَةٍ يَأْوِي إلى حَيَاتِهَا
وَعَقَارِبٌ تَسْعَى إِلَيْهِ فَرُوحُهُ
…
فِي شِدَّةِ التَّعْذِيبِ مِنْ لَدَغَاتِهَا
آخر:
…
إِنَّ الْحَبِيبَ مِنَ الأَحْبَاب مُخْتَلَسُ
…
لا يَمْنَعُ المَوْتَ بَوَّابٌ وَلا حَرَسُ
فَكَيْفَ تَفْرَحُ بِالدُّنْيَا وَلَذَّتِهَا
…
يَا مَنْ يُعَدُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ وَالنَّفَسُ
أَصْبَحْتَ يَا غَافِلاً فِي النَّقْصِ مُنْغَمِسًا
…
وَأَنْتَ دَهْرُكَ في اللَّذَّاتِ مُنْغَمِسُ
لا يَرْحَمُ الْمَوْتَ ذَا جَهْل لِغِرّتِهِ
…
وَلا الَّذِي كَانَ مِنْهُ الْعِلْمُ يُقْتَبَسُ
آخر:
…
بَيْنَا الشَّفِيقُ عَلَى إلِفٍ يُسَرُّ بِهِ
…
إِذْ صَارَ أَغْمَضَهُ يَوْمًا وَسَجَّاهُ
يَبْكِي عَلَيْهِ قَلِيلاً ثُمَّ يُخْرِجُهُ
…
فَيُمْكِنُ الأَرْض مِنْهُ ثُمّ يَنْسَاهُ
وَكُلُّ ذِي أَجَلٍ يَوْمًا سَيَبْلُغُهُ
…
وَكُلُّ ذِي عَمَل يَوْمًا سَيَلْقَاهُ
آخر:
…
كَمْ أَخْرَسَ الْمَوْتُ فِي قَبْر وَقَفْتَ بِهِ
…
عَن الْجَوَابِ لِسَانًا مَا بِهِ خَرَسُ
قَدْ كَانَ قَصْرُكَ مَعْمُورًا لَهُ شَرَفُ
…
فَقَبْرُكَ الْيَوْمَ فِي الأَجْدَاثِ مُنْدَرِسُ
هَذِهِ الأَبْيَاتُ كُتِبَتْ عَلَى قُبُورٍ للاعْتِبَار فَالْبَصِيرِ هُوَ الَّذِي يَنْظُرُ إلى قَبْر غَيْرِهِ فَيَرَى مَكَانَهُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ فَيَسْتَعِدّ لِلحُوقِ بِهِمْ وَيَعْلَمُ أنَّهُمْ لا يَبْرَحُونَ مِنْ مَكَانِهِمْ حَتَّى يَلْحَقَ بِهِمْ وَلْيَتَحَقَّقْ أَنَّهُ لَوْ عُرِضَ عَلَيْهِمْ يَوْمٌ مِنْ أَيَّامِ عُمُرِهِ الَّذِي هُوَ مَضَيّعٌ لَهُ لَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنَ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا لأَنَّهُمْ عَرَفُوا قَدْرَ الأَعْمَارِ وَالأَعْمَال وَانْكَشَفَتْ لَهُمْ حَقَائِقَ الأُمُورِ وَإِنَّمَا حَسْرتَهُمْ عَلَى يَوْمٍ مِن الْعُمُر لِيَتَدَارَكَ الْمُقَصِّرُ بِهِ تَقْصِيرُهُ فَيَتَخَلَّصَ مِنَ الْعِقَابِ وَلْيَسْتَزِيدَ الْمُوفَّقُ بِهِ رُتْبَةً فَيَضَاعَفُ لَهُ الثَّوَاب.
لا يَحْقِر الرَّجُلُ اللَّبِيبُ دَقِيقَةٍ
…
فِي السَّهْوِ فِيهَا لِلْوَضِيعِ مَعَاذِرُ
فَكَبَائِرُ الرَّجُلِ الصَّغِيرِ صَغِيرَةٌ
…
وَصَغَائِرُ الرَّجُلِ الْكَبِيرِ كَبَائِرُ
آخر:
…
يَا رَبِّ مَا لِي غَيْرَ لُطْفِكَ مَلْجَأَ
…
وَلَعَلَّنِي عَن بَابِهِ لا أُطْرَدُ
يَا رَبُّ هَبْ لِي تَوْبَةً أَقْضِي بِهَا
…
دِينًا عَليَّ بِهِ جَلالُكَ يَشْهَدُ
أَنْتَ الْخَبِيرُ بِحَالِ عَبْدِكَ إِنَّهُ
…
بِسَلاسِلِ الْوِزْرِ الثَّقِيلِ مُقَيَّدُ
أَسَفًا عَلَى عُمْرِي الَّذِي ضَيَّعْتُهُ
…
تَحَتْ الذُّنُوبِ وَأَنْتَ فَوْقِي تَرْصُدُ
يَا رَبِّ قَدْ ثَقُلَتْ عَليَّ كَبَائِرُ
…
بِإِزَاءِ عَيْنِي لَمْ تَزَلْ تَتَرَدَّدُ
يَا رَبِّ إِنْ أَبْعَدتُ عَنْكَ فَإِنَّ لِي
…
طَمَعًا بِرَحْمَتِكَ الَّتِي لا تُبْعِدُ
أَنْتَ الْمُجِيبُ لِكُلِّ دَاعٍ يَلْتَجِي
…
أَنْتَ الْمُجِيرُ لِكُلِّ مَنْ يَسْتَنْجِدُ
مِنْ أَيِّ بَحْرٍ غَيْرَ بَحْرِكَ نَسَتَقِي
…
وَلأَيِّ بَابٍ غَيْرَ بَابِكَ نَقْصُدُ
…
...
واللهُ أَعْلَمُ. وَصَلى اللهُ عَلى مُحَمَّدٍ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمْ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «مَا مِنْ أَحَدٍ يَمُوتُ إِلا نَدِم: إِنْ كَانَ مُحْسِنًا نَدِمَ أَنْ لا يَكُونَ ازْدَادَ، وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا نَدِمَ أَنْ لا يَكُونَ نَزَعَ» . فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا عَرَفُوا قَدْرَ الْعُمُرِ بَعْدَ انْقِطَاعِهِ فَحَسْرَتُهُمْ عَلَى سَاعَةٍ مِنَ الْحَيَاةِ وَأَنْتَ أَيُّهَا الْحَيُّ قَادِرٌ عَلَى تِلْكَ السَّاعَةِ وَرُبَّمَا أَقْدَرَكَ اللهُ عَلَى أَمْثَالِهَا.
ثُمَّ أَنْتَ مُضَيِّع لِلْوَقْتِ وَقَاتِلُ لَهُ فِيمَا لا فَائِدَةَ فِيهِ أَوْ فِيمَا مَضَرَّةٌ عَلَيْكَ فَوَطِّنْ نَفْسَكَ عَلَى النَّدَمِ وَالتَّحَسُّرِ وَالتَّلَهُّفِ عَلَى تَضْيِيعِ الْوَقْتِ عِنْدَ خُرُوجِ الأَمْرِ مِنْ اخْتَارِكَ وَعَدَمِ تَمْكِنِكَ مِن الْعَمَلِ الصَّالِح.
وَاذْكُرُ قَوْلَ اللهِ جَلَّ وَعَلا: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} الآيَات وَقَوْلُهُ عَزَّ مِنْ قَائِلِ: {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ} وَقَوْلُهُ تَعَالى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} وَقَوْلُهُ تَعَالى: {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ} الآيَةُ وَقَوْلُهُ: {وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} .
وَنَحْوَ هَذِهِ الآيَاتِ الَّتِي هِيَ بِالْحَقِيقَةِ لِمَنْ تَدَبَّرَهَا أَبْلَغُ مِنَ السِّيَاطِ،
فِي الْحَثِّ عَلَى التَّزَوّدِ لِلْمَعَادِ وَصِيَانَةِ الْوَقْتِ وَصَرْفِهِ فِيمَا يُقَرّبُ إلى اللهِ جَلَّ وَعَلا.
وَقَالَ الشيخ سعدُ بنُ عتيق رحمه الله تعالى ناظمًا المفاتيح التي ذكرها ابنُ القيم رحمه اللهُ تعالى في كتابِهِ حادِي الأرواح.
حَمِدتُ الَّذِي يولِي الْجَمِيلَ وَيَنْعِمُ
لَهُ الْفَضْلُ يُؤْتِي مَنْ يَشَاءُ وَيُكْرِمُ
وَأَزْكَى صَلاةِ اللهِ ثُمَّ سَلامُهُ
عَلَى خَيْرِ مَخْلُوقٍ عَلَيْهِ يُسَلَّمُ
مُحَمَّدٍ الْهَادِي وَأَصْحَابِهِ الأُولَى
بِحُسْنِ اجْتِهَادٍ عُلِّمُوا وَتَعَلَّمُوا
وَبَعْدُ فَقَدْ عَنَّ الْوَفَاءُ لِسَائِلٍ
بِوَعْدِي إِيَّاهُ بِأَنِّي أَنْظِمُ
مَفَاتِيحَ كَانَتْ لِلشُّرُورِ وَضِدِّهَا
فَقَدْ فَازَ مَن بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ يَعْلَمُ
وَأَضْحَى بِمَا يَدْرِي مِن الْحَقِّ عَامِلاً
فَكُنْ عَامِلاً بِالْعِلْمِ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ
وَقَدْ جَعَلَ الْمَوْلى لَهُنَّ مَفَاتِحًا
تَنَالَ بِهَا وَاللهُ بِالْحَقِّ أَعْلَمُ
فَمِفْتَاحُ شَرْعِيّ الصَّلاةِ طُهُورُنَا
وَيَفْتَحُ حَجًا مُحَرِّمٌ حِينَ يُحْرِمُ
وَبِالصِّدْقِ فَتْحُ الْبِرِّ وَالْعِلْمُ فَتْجهُ
بِحُسْنِ سُؤَالٍ عَنْ فَتَىً يَتَعَلَّمُ
وَمُسْتَحْسِنِ الإِصْغَاءِ وَالنَّصْرُ فَتْحُهُ
مَعَ الظَّفَرِ الْمَحْمُودِ بِالصَّبْرِ فَاعْلَمُوا
وَتَوْحِيدُنَا للهِ مِفْتَاحُ جَنَّةِ النَّـ
عِيمِ فَبِالتَّوْحِيدِ دِينُوا تَنَعَّمُوا
وَبِالشُّكْرِ لِلنَّعْمَاءِ فَتْحُ زِيَادَةٍ
وَيَحْصُلُ حُبٌّ وَالْوِلايَةُ تُغْنَمُ
بِمفْتَاحِهِ الذِّكْرُ الشَّرِيفُ وَذُو التُّقَى
يَنَالُ بِتَقْوَاهُ الْفَلاحَ وَيُكْرَمُ
وَمِفْتَاحُ تَوْفِيقِ الْفَتَى صِدْقُ رَغْبَةٍ
وَرَهْبَتِهِ ثُمَّ الدُّعَاءُ الْمُكَرَّمُ
لَدَى الله مِفْتَاحُ الإِجَابَةِ وَاعْلَمَنْ
بِأَنَّ جَمِيلَ الزُّهْدِ لِلْعَبْدِ مَغْنَمُ
وَيُفْتَحُ لِلْعَبْدِ التَّجَلِّي بِرَغْبَةٍ
بِدَارِ الْبَقَاءِ فَازْهَدْ لَعَلَّكَ تَغْنَمُ
وَمِفْتَاحُ إِيمَانِ الْعِبَادِ تَفَكُّرٌ
بِمَا كَانَ رَبُّ الْعَالَمِينَ دَعَاهُمُ
إِلى نَظَرٍ فِيهِ وَأَنْ يَتَفَكَّرُوا
بِهِ وَدُخُولُ الْعَبْدِ ذَاكَ الْمُفَخَّمُ
عَلَى رَبِّهِ مِفْتَاحُ ذَاكَ سَلامَةٌ
وَإِسْلامُ قَلْبٍ لِلإلَهِ فَأَسْلِمُوا
وَمَعَ ذَاكَ إِخْلاصٌ بِحُبِّ وَبُغْضِهِ
وَفِعْلٍ وَتَرْكٍ كُلُّ ذَلِكَ يَلْزَمُ
وَيُحْيِي قُلُوبَ الْعَارِفِينَ تَضَرُّعٌ
بِأَوْقَاتِ أَسْحَارٍ فَكُنْ أَنْتَ مِنْهُمُ
كَذَا الْوَحْيُ إِذْ يُتْلَى بِحُسْنِ تَدَبُّرِ
وَتَرْكُ الذُّنُوبِ فَهِيَ لِلْقَلْبِ تُؤْلِمُ
وَإِحْسَانُ عَبْدٍ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ
وَنَفْعُ الْعِبَادِ وَالْقِيَامُ عَلَيْهِمُ
لإِصْلاحِهِمْ مِفْتَاحُ تَحْصِيلِ رَحْمَةِ الْـ
إلهِ فَلازِمْ ذَا لَعَلَّكَ تُرْحَمُ
وَمِفْتَاحُ رِزْقِ الْعَبْدِ سَعْيٌ مَعَ التُّقَى
وَكَثْرَةُ الاسْتِغْفَارِ إِذْ هُوَ مُجْرِمُ
وَمِفْتَاحُ عِزِّ الْعَبْدِ طَاعَةُ رَبِّهِ
وَطَاعَةُ خَيْرِ الْمُرْسَلِينَ فَعَظِّمُوا
وَمِفْتَاحُ الاسْتِعْدَادِ مِنْكَ لِمَا لَهُ
تَصِيرُ مِن الدَّارِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ
هَوُ الْقَصْرُ لِلآمَالِ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ
فَمِفْتَاحُهُ رَغْبٌ مِن الْعَبْدِ يُعْلَمُ
بِمَوْلاهُ وَالدَّارِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ
وَمِفْتَاحُ كُلِّ الشَّرِّ إِنْ كُنْتَ تَفْهَمُ
إِطَالَتُكَ الآمَالَ فَاحْذَرْ غُرُورَهَا
وَحُبُّكَ لِلدُّنْيَا الَّتِي تَتَصَرَّمُ
وَمِفْتَاحُ نَارِ الْخُلْدِ شِرْكٌ بِرَبِّنَا
وَكِبْرُ الْفَتَى فَالْكِبْرُ حُوبٌ مُعَظَّمُ
وَإِعْرَاضُه عَمَّا عَنِ اللهِ قَدْ أَتَى
بِهِ الْمُصْطَفَى الْهَادِي النَّبِيُّ الْمُكَرَّمُ
وَغَفْلَتُهُ عَنْ ذِكْرِهِ وَقِيَامِهِ
بِحَقِّ لِذِي الْعَرْشِ الْمَلِيكِ يُحَتَّمُ
وَمِفْتَاحُ إِثْمٍ يُوبِقُ الْعَبْدَ مُسْكِرٌ
مِن الْخَمْرِ فَاحْذَرْهَا لَعَلَّكَ تَسْلَمُ
وَمِفْتَاحُ ذِي الْمَقْتِ الزِّنَا سَيْءُ الْغِنَا
وَذَلِكَ قُرْآنُ اللَّعِينِ وَمَأْثَمُ
وَإِطْلاقُ طَرْفِ الشَّخْصِ مِفْتَاحُ عِشْقِهِ
لِمُسْتَحْسِنِ الأَشْبَاحِ فَهُوَ مُحَرَّمُ
وَبِالْكَسَلِ الْمَذْمُومِ مَعَ رَاحَةِ الْفَتَى
يَخِيبُ وَكُلُّ الْخَيْرِ لا شَكَّ يُحْرَمُ
وَمِفْتَاحُ كُفْرَانِ الْفَتَى وَبَرِيدُهُ
مَعَاصِيهِ وَالْعَاصِي قَرِيبًا سَيَنْدَمُ
وَبَابُ نِفَاقِ الْعَبْدِ يَفْتَحُهُ إِذَا
يَكُونُ كَذُوبًا وَالْكَذُوبُ مُذَمَّمُ
وَشُحُّ الْفَتَى وَالْحِرْصُ مِفْتَاحُ بُخْلِهِ
وَمِفْتَاحُ أَخْذِ الْمَالِ مِنْ حَيْثُ يُعْلَمُ
بَأَنْ لَيْسَ حِلاً مَعْ قَطِيعَةِ رَحْمِهِ
وَكُلُّ ابْتِدَاعٍ فِي الْخَلِيقَةِ يُعْلَمُ
فَمِفْتَاحُهُ الإِعْرَاضُ عَمَّا أَتَى بِهِ
نَبِيُّ الْهُدَى مِنْ سُنَّةٍ نَتَعَلَّمُ
وَاخْتِمْ قَوْلِي فِي الْقَرِيضِ بَأَنَّنِي
أُصلِّي عَلَى خَيْرِ الْوَرَى وَأُسَلِّمُ
وَآلِ مَعَ الصَّحْبِ الْكِرَامِ الَّذِينَ هُمْ
لِمُقْتَبِسٍ عِلْمَ الشَّرِيعَةِ أَنْجُمُ
وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ
مَوْعِظَةٌ
عِبَادَ اللهِ اتَّقُوا الله تعالى واحْمَدُوهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَارْغَبُوا إِلَيْهِ فِي حِرَاسَةِ النِّعَمِ عَن الزَّوَالِ فَإِنَّ نِعَمَ اللهِ قَدْ عَمَّتِ الْبَوَادِي وَالأَمْصَارَ وَإِنَّ نََِعَم اللهِِ لا تُعَدُّ وَلا تُحْصَى وَلا تُحَدُّ بِمِقْدَارِ.
قَالَ تَعَالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} فَكَمْ أَسْدَى مَعْرُوفًا وَكَمْ أَغَاثَ مَلْهُوفًا فَاشْكُروا آلاءَ اللهِ وَاذْكُرُوهُ كَثِيرًا قَالَ تَعَالى: {أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} .
وَهُبُّوا مِنْ هَذِهِ الرَّقْدَةِ وَالْمَقَامِ وَاحْذَرُوا الأَهْوَاءَ فَإِنَّهَا تُورِثُ الْمَهَالِكَ وَالْمَذَامَّ، وَالْزِمُوا طَاعَةَ الْمَلِكِ الْعَلام، وَاغْتَنِمُوا بَقِيَّةَ الْعُمُرِ وَالأَيَّامِ، وَبَادِرُوا بِالتَّوْبَةِ مِنَ الْمَعَاصِيَ وَالإِجْرَامِ، قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ تَشَقَّقُ فِيهِ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَتَظْهَرُ فِيهِ الْخَفَايَا وَالدَّوَاهِي وَالأَهْوَالُ الطَّوَام، وَتُنَكِّسُ فِيهِ الظَّلَمَةُ رُؤُوسَهَا وَيَعْلُوهَا الذُّلُ مِن الرُّؤُوسِ إلى الأَقْدَامِ وَيَتَجَلَّى لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ عِبَادِهِ حَاكِمُ الْحُكَّام.
قَالَ تَعَالى: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ
مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} وَنُودِي أَيْنَ الظَّلَمَةُ وَأَعْوَانُ الظَّلَمَةِ وَمَنْ كَانَ لَهُمْ عَلَى الْمَعَاصِي وُثُوبٌ وَإِقْدَامُ فَيَا لَهُ مِنْ يَوْمٍ مَا أَطْوَلَهُ وَمِنْ بَلاءٍ مَا أَهْوَلَهُ وَمِنْ حِسَابٍ مَا أَثْقَلَهُ وَمِنْ عَذَابٍ مَا أَعْضَلَهُ وَمِنْ جَزَاءٍ مَا أَجْزَلَهُ وَمِنْ حَاكِم مَا أَعْدَلَهُ.
هُنَالِكَ شَابَ الْوَلِيدُ وَحَقَّ الْوَعِيدُ وَعَظُمَ الْهَوْلُ الشَّدِيدُ قَالَ تَعَالى: {وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} وَخَضَعَتِ الرِّقَابُ وَذَلَّ كُلُّ فَاجِرٍ كَذَّابِ وَرَجَعَ الأَشْقِيَاءُ بِالْخُسْرَانِ وَالتَّبَابِ فَالسَّعِيدُ مَن اسْتَعْمَلَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ الْمَلِكِ الْمَعْبُودِ وَخَافَ أَنْ لا يَنْجُو مِن النَّارِ بَعْد الْوُرُودِ.
فَانْتَبِهْ أَيُّهَا الْعَبْدُ لأَيَّامِ شَبَابِكَ قَبْلَ فِرَاقِ أَحْبَابِكَ وَأحْفَظْ أَيَّامَ عُمْرِكَ قَبْلَ حُلُولِ قَبْرِكَ وَاغْتَنِمْ حَيَاتَكَ قَبْلَ أَوَانِ وَفَاتِكَ فَإِنَّ الْعُمُرَ بِالسِّنِينَ يُنْهَب وَالأَجَلُ بِمُرُورِ اللَّيَالِي والأَيَّامِ يَذْهَب.
شِعْرًا:
…
لِمَنْ وَرْقَاءُ بِالْوَادِي الْمَرِيعِ
…
تَشُبُّ بِهِ تَبَارِيحُ الضُّلُوعِ
عَلَى فَيْنَانَةٍ خَضْرَاءَ يَصْفُو
…
عَلَى أَعْطَافِهَا وَشْيُ الرَّبِيعِ
تُرَدِّدُ صَوْتَ بَاكِيَةٍ عَلَيْهَا
…
رَمَاهَا الْمَوْتُ بِالأَهْلِ الْجَمِيعِ
فَشَتَّتَ شَمْلَهَا وََدَالَ مِنْهُ
…
غَرَامًا عَاثَ فِي قَلْبٍ صَرِيعِ
عَجِبْتُ لَهَا تَكَلَّمُ وَهِيَ خرْسَا
…
وَتَبْكِي وَهِيَ جَامِدَةُ الدُّمُوعِ
فَهِمْتُ حَدِيثَهَا وَفَهِمْتُ أَنِّي
…
مِن الْخُسْرَان في أَمْرٍ شَنِيعِ
أَتَبْكِي تِلْكَ أَنْ فَقَدَتْ أَنِيسًا
…
وَتَشْرَبُ مِنْهُ بِالْكَأْسِ الْفَظِيعِ
وَهَا أَنَا لَسْتُ أَبْكِي فَقْدَ نَفْسِي
…
وَتَضْيِيعِي الْحَيَاةَ مَعَ الْمُضِيعِ
وَلَوْ أَنِّي عَقَلْتُ الْيَوْمَ أَمْرِي
…
لأَرْسَلْتُ الْمَدَامِعَ بِالنَّجِيعِ
ألا يَا صَاحِ وَالشَّكْوَى ضُرُوبٌ
…
وَذِكْرُ الْمَوْتِ يَذْهَبُ بِالْهُجُوعِ
لَعَلَّكَ أَنْ تُعِيرَ أَخَاكَ دَمْعًا
…
فَمَا فِي مُقْلَتَيْهِ مِن الدُّمُوعِ
آخر:
…
مَا زُخْرُفُ الدُّنْيَا وَزُبْرُجُ أَهْلِهَا
…
إِلا غُرُورٌ كُلُّهُ وَحُطَامُ
وَلَرُبَّ أَقْوَامٍ مَضَوْا لِسَبِيلِهِمْ
…
وَلَتَمْضِيَنَّ كَمَا مَضَى الأَقْوَام
وَلَرُبَّ ذِي فُرُشٍ مُمَهَّدَةٍ لَهُ
…
أَمْسَى عَلَيْهِ مِن التُّرَابِ رَُكامُ
وَالْمَوْتُ يَعْمَلُ وَالْعُيُونُ قَرِيرَةٌ
…
تَلْهُو وَتَلْعَبُ بِالْمُنَى وَتَنَامُ
كُلُّ يَدُورُ عَلَى الْبَقَاءِ مُؤَمِّلاً
…
وَعَلَى الْفَنَاءِ تُدِيرُهُ الأَيَّامُ
وَالدَّائِمُ الْمُلَكُوتِ ربُّ لَمْ يَزَلْ
…
مَلِكًا تَقَطَّعُ دُونَهُ الأَوْهَام
فَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي هُوَ دَائِمٌ
…
أَبَدًا وَلَيْسَ لِمَا سِوَاهُ دَوَامُ
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ مَحَبَّتَكَ في قُلُوبِنَا ثُبُوتَ الجبالِ الرَّاسِياتِ وَنَوِّرْهَا بِنُورِ الإِيمَانِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ الْمُسْلِميِنَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
مَوْعِظَةٌ
عِبَادَ اللهِ قَدْ حَثَّنَا نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم أَنْ نَكُونَ إِخْوانًا مُتَرَاحِمِينَ مُتَعَاوِنِينَ مُتَحَابِّينَ مُتَعَاطِفِينَ يُحِبُّ كُلُّ مِنَّا لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ وَيَسْعَى فِي ذَلِكَ أَخْرَجَ الْبُخَارِي وَمُسْلِمُ فِي صَحِيحَهمَا عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيُّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الْمُؤْمِنِ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدّ بَعْضُه بَعْضَا)) وَشبكَ بَيْنَ أَصَابِعِه.
وَكُلُّ صَدِيقٍ لَيْسَ فِي اللهِ ودُّهُ
…
فَإِنِّي بِهِ فِي وِدِّهِ غَيْرُ وَاثِقِ
آخر:
…
إِذَا حَقَقْتَ فِي وِدِّ صَدِيقًا
…
فَزَرْهُ وَلا تَخَفْ مِنْهُ مِلالا
وَكُنْ كَالشَّمْسِ تَطْلَعُ كُلَّ يَوْمٍ
…
وَلا تَكُ فِي مَوَدَّتِهِ هِلالا
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا فِي صَحِيحِهِ عَن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ ? قَالَ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِم لا يَظْلِمُه وَلا يُسْلِمُه وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَتَر مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
في الْحَدِيثِ الأَوَّلِ مَا يُفِيدُ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ شَأْنِهِمْ التَّنَاصُرُ وَالتَّنَاصُحُ وَالتَّكَاتُفُ وَالتَّعَاون عَلَى مَصَالِحِهِمْ الْعَامَةِ وَالْخَاصَةِ وَأَنْ يَكُونُوا مُتَرَاحِمِينَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُسَاعِدُ أَخَاهُ وَيُعَاوِنُهُ عَلَى مَا يُصْلِحُ حَالَهُ وَيُصْلِحُ حَالَ الْجَمِيعِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الآخَرِ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنيِنَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثِلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عَضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى واَلسَّهَرِ» .
وَكَمَا وَصَفَهُمْ اللهُ جَلَّ وَعَلا: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} . وَفِي الْحَدِيثِ الآخَرِ: «الْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ يَكُفُّ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ وَيَحُوطُهُ مِنْ وَرَائِهِ» .
وَمِنْ مُقْتَضَى الأُخُوَّةِ فِي الدِّينِ أَوِ النَّسَبِ أَنَّهُ لا يَظْلِمُ أَخَاهُ وَلا يُسْلِمُهُ وَيَسْعَى لِتَفْرِيجِ مَا نَزَلَ بِهِ مِنْ كَرْبٍ وَمَا حَلَّ بِهِ مِنْ ضَيْمٍ وَمَا انْتَابَهُ مِنْ هَمٍّ وَغَمٍّ وَعُسْرٍ وَضِيقٍ وَلا يَسْعَى لِهَتْكِ عِرْضِهِ وَنَشْرِ سِرِّهِ وَالتَّشْهِيرِ بِهِ.
وَمَحَلُّ ذَلِكَ إِذَا كَانَ مِنْ ذَوِي الْهَيْئَاتِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ لَيْسَ مَعْرُوفًا
بِالْفُجُورِ وَالْفِسْقِ وَالْمُجَاهَرَةِ بِالْمَعَاصِي وَهَذَا فِي سَتْرِ مَعْصِيَةٍ وَقَعَتْ وَانْقَضَتْ.
أَمَّا إِذَا عَلِمَ مَعْصِيَتَهُ وَهُوَ مُتَلَبِّسٌ بِهَا فَتَجِبْ الْمُبَاَدَرِة بِالإِنْكَارِ عَلَيْهِ وَمَنْعِهِ مِنْهَا وَالْحَيْلُولَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا بِحَسَبِ الاسْتِطَاعَةِ فَإِنْ عَجَزَ لَزِمَهُ رَفْعُهَا إلى وَلِي الأَمْرِ إِنْ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى ذَلِكَ مَفَاسِدُ أَعْظَمُ مِنْهَا لأَنَّ السَّتْرَ عَلَيْهِ يُطْمِعُهُ فِي الْفَسَادِ وَيُجَرِئُهُ عَلَى انْتِهَاكِ الْحُرُمَاتِ وَاسْتِرْسَالِهِ فِي طُرُقِ الْغَيِّ وَالْفَسَادِ وَالضَّلالاتِ.
وَهَذَا مِنْ بَابِ النَّصِيحَةِ وَالأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ ثُمَّ بَيَّنَ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ ابنِ عُمَرَ وَصْفَ الْمُسْلِمِ لأَخِيهِ الْمُسْلِمِ بِأَنَّهُ لا يَظْلِمُهُ فِي نَفْسِهِ وَلا فِي عَرْضِهِ وَلا فِي مَالِهِ وَالظُّلْمُ مُحَرَّمٌ بِسَائِرِ أَنْوَاعِهِ.
وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِي عَنْ أَوْسِ بنِ شُرَحْبَيِلٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ مَشَى مَعَ ظَالِم وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ ظَالِمٌ فَقَدْ خَرَجَ مِنَ الإسلام فَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ لأَعْوَانِ الظُّلَمَةِ وَمُسَهِّلِي مُصَالِحِهمْ وَمُوَطِّدِي طُرقهمْ الدَّالِينَ لَهُمْ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ.
فَمَا الظَّنُّ بِحَالِ الظَّلَمِةِ إِذَا جَاءَ الْحَكَمُ الْعَدْلُ لِلْفَصْلِ بَيْنَ عِبَادِهِ وَشُوفِهَ الظَّالِمُ بِمَا جَنَى وَأَيْقَنَ بِالْعَذَابِ وَتَمَنَّى أَنَّهُ تَخَلَّصَ مِنْ مَظَالِمِهِ فِي الدُّنْيَا.
وَلِهَذَا أَمَرَنَا صلى الله عليه وسلم بِنَصْرَةِ الْمَظْلُومِ وَالأَخْذِ عَلَى يَدِ الظَّالِمِ وَكَفِّهِ عَنْ ظُلْمِهِ وَمَنْعِهِ مِنْ جَوْرِهِ وَفِي الْحَدِيثِ الآخَرِ يَقُولُ صلى الله عليه وسلم: «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِماً أَوْ مَظْلُومًا» . قَالَوا: يَا رَسُولَ اللهِ هَذِا نَنَصُرُهُ مَظْلُومًا فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟ قَالَ: «تَأْخُذُوا عَلَى يَدِهِ» .
وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ مَنْعِهِ مِن الظُّلْمِ بِالْفِعْلِ كَالاسْتِعَانَةِ عَلَيْهِ بِرَفْعِهِ لِوُلاةِ
الأُمُورِ وَرَفْعِهِ لِلْحُكَّامِ حَيْثُ لَمْ يُؤْثِّرْ فِيهِ النُّصْحُ بِاللِّسَانِ وَضُرُوبِ الْكَلامِ.
وَمِنَ النُّصْرَةِ لِلْمَظْلُومِ إِعَانَتُهُ وَالسَّعْيُ لِرَفْعِ ظَلامَتِهِ وَالضَّرْب عَلَى يَدِ الظَّالِمِ وَكَفِّهِ عَنْ ظُلْمِهِ فَهَذَا نُصْرَةٌ لَهُ عَلَى شَيْطَانِهِ الَّذِي يُغْوِيهِ وَيُورِدْهُ الْمَهَالِكَ وَيُوقِعُهُ فِي الْمَآزِقِ وَالْوَرْطَاتِ الَّتِي يَصْعُبُ التَّخَلُّصُ مِنْهَا وَنُصْرَةٌ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ الشِّرِّيرَةِ الَّتِي تَأْمُرُهُ بِالْفَحْشَاءِ.
شِعْرًا:
…
وَإِيَّاكَ وَالأَمْرُ الَّذِي إِنْ تَوَسَّعَتْ
…
مَوَارِدُهُ ضَاقَتْ عَلَيْكَ الْمَصَادِرُ
فَمَا حَسَنٌ أَنْ يُعْذِرَ الْمَرْءُ
…
وَلَيْسَ لَهُ مِنْ سَائِرِ الْخَلْقِ عَاذِرُ
وَالْعَاقِلُ اللَّبِيبُ مَنْ يَتَحَلَّل مِنْ أَهْلِ الْمَظَالِمِ فِي دُنْيَاهُ قَبْلَ الآخِرَةِ وَلا يَدَعُ حَقًّا لأَحَدٍ عَلَيْهِ بَلْ يُسَارِعُ لأَدَاءِ مَا فِي ذِمَّتِهِ وَيَطْلُبُ الْمُسَامَحَةَ مِمَّنْ حَصَلَ بِيْنَهُ وَبَيْنَهُ مُنَافَسَةٌ أَوْ مُنَازَعَةٌ أَوْ مُعَامَلَةٌ مِنْ جَارٍ أَوْ زَوْجَةٍ أَوْ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ.
قَبْلَ أَنْ يَقِفَ ذَلِكَ الْمَوْقِفَ الرَّهِيبِ فِي يَوْمَ يَجْعَلُ الْوَلْدَانَ شِيبَا السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} .
وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ لَتُؤَدُنَّ الْحُقُوقُ إِلى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ وَقَدْ عَقَدْنَا فَصْلاً كَامِلاً لِبَيَانِ الظُّلْمِ وَأَنْوَاعِهِ وَأَدِلَّةِ تَحْرِيمِهِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْهُ في الجزء الثالث من الكتاب (ص 105) .
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ يُنَادِي مُنَادٍ مِنْ وَرَاءِ الْجَسْرِ يَعْنِي الصِّرَاطَ يَا مَعْشَرَ الْجَبَابِرَةِ الطُّغَاةِ وَيَا مَعْشَرَ الْمُتْرَفِينَ الأَشْقِيَاءَ إِنَّ اللهَ يَحْلِفُ بِعِزَّتِهِ وَجَلالِهِ أَنْ لا يُجَاوِر هَذَا الْجَسْرَ ظَالِمٌ.
شِعْرًا:
…
ثَلاثَةٌ فِيهِمْ لِلْمُلْكِ التَّلَفْ
…
الظُّلْمُ وَالإِهْمَالِ فِيهِ وَالسَّرَفْ
وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ لَمَّا رَجَعَتْ مُهَاجِرَةُ الْحَبَشَةِ عَامَ الْفَتْحِ إِلى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَلا تَخْبِرُونِي بِأَعْجَبَ مَا رَأَيْتُمْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ» . فَقَالَ فِتْيَةٌ كَانُوا مِنْهُمْ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ إِذْ مَرَّتْ بِنَا عَجُوزٌ مِنْ عَجَائِزِهِمْ تَحْمِلُ عَلَى رَأْسِهَا قُلَّةٌ مِنْ مَاءٍ فَمَرَّتْ بِفَتَىً مِنْهُمْ فَجَعَلَ إِحْدَى يَدَيْهِ بَيْنَ كتفيها ثم دَفَعَهَا فَخَرَّتْ الْمَرْأَةُ على رُكْبَتَيْهَا وَانْكَسَرَتْ قُلَّتُهَا.
فَلَمَّا قَامَتْ الْتَفَتَتْ إِلَيْهِ ثُمَّ قَالَتْ: سَوْفَ تَعْلَمُ يَا غَادِرُ إِذَا وَضَعَ اللهُ الْكُرْسِيَّ وَجَمَعَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ وَتَكَلَّمَتْ الأَيَدِي وَالأَرْجُلُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، سَوْفَ تَعْلَمُ مَنْ أَمْرِي وَأَمْرُكَ عِنْدَهُ غَدًا.
قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «صَدَقَتْ كَيْفَ يُقَدِّسُ اللهُ قَوْمًا لا يُؤْخَذُ مِنْ شَدِيدِهِمْ لِضَعِيفِهِمْ» .
وَرُوِيَ عَن النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «خَمْسَةٌ غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمِ إِنْ شَاءَ أَمْضَى غَضَبَهُ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَإِلا أَمَرَ بِهِمْ فِي الآخرِةَ ِإلى النَّارِ.
أَمِيرُ قَوْمٍ يَأْخُذُ حَقَّهُ مِنْ رَعِيَّتِهِ وَلا يُنْصِفُهُمْ مِنْ نَفْسِهِ وَلا يَدْفَعُ الظُّلْمَ عَنْهُمْ.
وَزَعِيمُ قَوْمٍ يُطِيعُونَهُ وَلا يُسَاوِي بَيْنَ الْقَوِّي وَالضَّعِيفِ وَيَتَكَلَّمُ بِالْهَوَى وَرَجُلٌ لا يَأْمُرُ أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ بِطَاعَةِ اللهِ وَلا يُعَلِّمُهُمْ أَمْرِ دِينِهِمْ.
وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ الْعَمَلَ وَلَمْ يُوَفِّهِ.
وَرَجُلٌ ظَلَمَ امْرَأَتَهُ صَدَاقَهَا وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بن سَلامٍ قَالَ: إِنَّ اللهَ
تَعَالى لَمَّا خَلَقَ الْخَلْقَ وَاسْتَمَرُّوا عَلَى أَقْدَامِهِمْ رَفَعُوا رُؤُوسهَمُ ْإلى السَّمَاءِ وَقَالَوا: يَا رَبُّ مَعَ مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: مَعَ الْمَظْلُومِ حَتَّى يُؤَدَى إِلَيْهِ حَقَّهُ.
وَقِيلَ لَمَّا حُبِسَ خَالِدُ بن بَرْمَكٍ وَوَلَدُهُ قَالَ: يَا أَبَتِي بَعْدَ الْعِزِّ صِرْنَا فِي الْقَيْدِ وَالْحَبْسِ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ دَعْوَةُ مَظْلُومٍ سَرَتْ بِلَيْلٍ غَفَلْنَا عَنْهَا وَلَمْ يَغْفُل اللهُ عَنْهَا وَكَانَ يَزِيدُ بنُ حَكِيمٍ يَقُولُ: مَا هِبْتُ أَحَدًا قَطُّ هَيْبَتِي رَجُلاً ظَلَمْتُهُ وَأَنَا أَعْلَمُ لا نَاصِرَ لَهُ إِلا اللهُ يَقُولُ: حَسْبِيَ اللهُ، وَاللهُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ.
وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: يَجِيءُ الظَّالِمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتّى إِذَا كَانَ عَلَى جَسْرِ جَهَنَّمَ لَقِيَهُ الْمَظْلُومُ وَعَرَّفَهُ مَا ظَلَمَهُ بِهِ فَمَا يَبْرَحُ الَّذِينِ ظُلِمُوا بِالَّذِينَ ظَلَمُوا حَتَّى يَنْزِعُوا مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْحَسَنَاتِ فَإِنْ لَمْ يَجِدُوا لَهُمْ حَسَنَاتٍ حَمَلُوا عَلَيْهِمْ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ مِثْلَ مَا ظَلَمُوهُمْ حَتَّى يُرَدُّوا إلى الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِن النَّارِ.
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ أَنِيسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «يُحْشَرُ الْعِبَادُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً بُهْمًا فِيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ أَنَا الْمَلِكُ الدَّيَّان لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةِ أَوْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَنْ يَدْخُلَ النَّارِ وَعِنْدَهُ مَظْلَمَةٌ إلى أَنْ أُقِصَّهُ حَتَّى اللَّطْمَةَ فَمَا فَوْقَهَا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدَا» .
قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ وَإِنَّمَا نَأْتِي حُفَاةً عُرَاةً فَقَالَ: «بِالْحَسَنَاتِ وَالسِّيَّئاتِ جَزَاءً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدا» . وَجَاءَ عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ ضَرَبَ سَوْطاً ظُلْمًا اقْتُصَّ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
وَعَن ابنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَعَانَ ظَالِمًا سُلِّطَ عَلَيْهِ» . وَقَالَ سَعِيدُ بنُ الْمُسَيِّبَ رحمه الله لا
تَمْلَؤُا أَعْيُنَكُمْ مِنْ أَعْوَانِ الظَّلَمَةِ إِلا بالإِنْكَارِ مِنْ قُلُوبِكُمْ لِئَلا تَحْبُطَ أَعْمَالُكُمْ.
وَقَالَ مَكْحُولُ الدِّمَشْقِي: يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْنَ الظَّلَمَةُ وَأَعْوَانُ الظَّلَمَةِ فَمَا يَبْقَى أَحَدٌ مَدَّ لَهُمْ حِبْرًا أَوْ حَبَّرَ لَهُمْ دَوَاةً أَوْ بَرَى لَهُمْ قَلَمًا فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ إِلا حَضَرَ مَعَهُمْ فَيُجْمَعُونَ فِي تَابُوتٍ مِنْ نَارٍ فَيُلْقَوْنَ فِي النَّارِ.
وَجَاءَ رَجُلٌ خَيَّاطٌ إلى سُفْيَانِ الثَّوْرِي فَقَالَ: إِنِّي رَجُلٌ أخِيطُ ثِيَابَ السُّلْطَانِ هَلْ أَنَا مِنْ أَعْوَانِ الظَّلَمَةِ؟ فَقَالَ سُفْيَانُ: أَنْتَ مِنَ الظَّلَمَةِ أَنْفُسِهِمْ وَلَكِنْ أَعْوَانِ الظَّلَمَةِ مَنْ يَبِيعُ مِنْكَ الإِبْرَةَ وَالْخُيُوط.
وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.
(فَصْلٌ)
في التَّواضع
التَّوَاضُعِ يُقَابِلُ الْكِبْرَ وَهُوَ انْكِسَارُ الْقَلْبِ للهِ وَخَفْضُ جَنَاحِ الذُّلِّ وَالرَّحْمَةِ لِلْخَلْقِ وَقِيلَ: هُوَ رِضَا الإِنْسَانِ بِمَنْزِلَةٍ دُونَ مَا يَسْتَحِقُّهُ فَضْلُهُ وَمَنْزِلَتُهُ وَفَضِيلَتُهُ لا تَكَادُ تَظْهَرُ فِي أَكْثَرِ النَّاسِ وَإِنَّمَا يَتَبَيَّنُ ذَلِكَ فِي أَجِلاءِ النَّاسِ وَعُلَمَائِهِم الْعَامِلِينَ بِعِلْمِهِمْ وَهَذَا كَانَ فِي عُلَمَاءِ السَّلَفِ كَثِيرٌ أَمَّا الْيَوْمَ فَهُوَ نَادِرٌ وَهُوَ مِنْ بَابِ التَّفَضُّلِ لأَنَّ الْمُتَوَاضِعَ يَتْرُكُ بَعْضَ حَقِّهِ وَالتَّوَاضُعُ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ الْكِبْرِ وَالضَّعَةِ وَالْكِبْرُ تَقَدَّمَ تَعْرِيفُهُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ.
وَالضَّعَةُ وَضْعُ الإِنْسَان نَفْسَهُ فِي مَنْزِلَةٍ تُزْرِي بِهِ مِنْ الدَّنَاءَةِ وَالْخِسَّةِ وَابْتِذَالِ النَّفْسِ فِي سَبِيلِ شَهَوَاتِهَا الْفَاسِدَةِ فَتَجِدُ الْوَضِيعَ يَقِفُ فِي
الْمَوَاقِفِ الَّتِي تُزْرِي بِهِ مِنْ أَجْلِ الْحُصُولِ عَلَى وَظِيفَةٍ أَوْ مَالٍ أَوْ جَاهٍ أَوْ امْرَأَةٍ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَلا يُبَالِي أَنْ يَذِلَّ لِمَنْ دُونَهُ أَوْ يَتَمَلَّقَ لِمَنْ يُهِينُهُ أَوْ يَقِفَ عَلَى بَابِ مَنْ يَسْتَثْقِلُهُ وَيُظْهِرُ الاشْمِئْزَازَ مِنْهُ وَهُوَ لا يُبَالِي بِالإِلْحَاحِ عَلَيْهِ وَالْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْهِ ذَلِيلاً خَاضِعًا وَلا شَكَّ أَنَّ هَذَا صِفَةٌ ذَمِيمَةٌ.
وَمَنْشَأُ التَّوَاضُعِ مِنْ مَعْرِفَةِ الإِنْسَانِ قَدْرَ عَظَمَةِ رَبِّهِ وَمَعْرِفَتِهِ قَدْرَ نَفْسِهِ لأَنَّ مَنْ يُدْرِكُ أَنَّهُ شَخْصٌ ضَعِيفٌ فَانٍ وَأَنَّ كُلَّ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ الْمُوجِبَةِ لِلرَّفْعَةِ وَالْكِبْرَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ لا ثَبَاتَ لَهَا بَلْ هِيَ أَعْرَاضٌ زَائِلَةٌ وَيُدْرِكُ أَنَّ رَبَّهُ هُوَ الْخَالِقُ الْعَظِيمُ الْمُتَفَرِّدُ بِالْبَقَاءِ وَالْكِبْرِيَاءِ، فَهَذَا لا يَتَمَرَّدُ عَلَى خَالِقِهِ بِاقْتِرَافِ الْجَرَائِمِ وَالآثَامِ وَعِنْدَ ذَلِكَ يُعَامِلُ النَّّاسَ مُعَامَلَةٌ حَسَنَةٌ بِلُطْفٍ وَرَحْمَةٍ وَرِفْقٍ وَلِين جَانِبٍ وَلا يَتَكَبَّرُ عَلَى أَحَدٍ وَلا يَزْهُو عَلَى مَخْلُوقٍ وَلا يُبَالي بِمَظَاهِرِ الْعَظَمَةِ الْكَاذِبَةِ وَلا يَتَرَفَّعُ عَنْ مُجَالَسَةِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَشْي مَعَهُمْ وَإِجَابَةِ دَعَوَتِهِمْ وَمُخَاطَبَتِهِمْ بِالْكَلامِ اللَّينِ وَلا يَأْنَفُ مِنْ اسْتِمَاعِ نَصِيحَةِ مَنْ هُوَ دُونَهُ.
وَقَالَ الْفُضَيْلُ بنُ عَيَّاضٍ: التَّوَاضُعُ أَنْ تَخْضَعَ لِلْحَقِّ وَتَنْقَادَ لَهُ وَلَوْ سَمِعْتَهُ مِنْ صَبِي قَبِلْتَهُ مِنْهُ وَلَوْ سَمِعْتَهُ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ قَبِلْتَهُ وَلِلتَّوَاضُعِ فَوَائِدُ وَمَنَافِعُ تَعُودُ عَلَى الأَفْرَادِ وَالْجَمَاعَاتِ بِالْخَيْرِ الْكَثِيرِ فَإِنَّ الْمُتَوَاضِعَ قَرِيبٌ إلى النَّاسِ مُحَبَّبٌ إلى نُفُوسِهِمْ ضِدُّ الْمُتَكَبِّرِ فَإِنَّهُ بَغِيضٌ إِلَيْهِمْ ثَقِيلٌ عِنْدَهُمْ وَكُلَّمَا َدَنا الْمُتَوَاضِعُ مِنَ النَّاسِ ارْتَفَعَتْ مَنْزِلَتُهُ عِنْدَهُمْ وَعَظُمَ فِي عُيُونِهِمْ وَثَقُلَ مِيزَانُهُ عِنْدَهُمْ وَاسْتَفَادَ مِنْهُمْ وَأَفَادَهُمْ.
وَكُلَّمَا كَانَ الْمُتَوَاضِعُ عَظِيمًا ذَا مَكَانَةٍ رَفِيعَةٍ كَانَ التَّوَاضُعُ مِنْهُ أَكْبَرُ أَثَرًا وَأَكْثَرُ فَائِدَةٌ لأَنَّ الأَشْيَاءَ تَعْظُمُ بِنِسْبَةِ مَنْ تَسْتَنَدُ إِلَيْهِ كَمَا قِيلَ:
عَلَى قَدْرِ أَهْلِ الْعَزْمِ تَأْتِي الْعَزَائِمُ
وَتَأْتِي عَلَى قَدْرِ الْكِرَامِ الْمَكَارِمُ
وَتَعْظُمُ فِي عَيْنِ الصَّغِيرِ صغارها
وَتَصْغَرُ فِي عَيْنِ الْعَظِيمِ الْعَظَائِمُ
…
>?
وَإِذَا كَانَ الْمُتَوَاضِعُ عَالِمًا بِالتَّوَاضُعِ يَزْدَادُ عَلْمًا لأَنَّهُ لا يَسْتَنْكِفُ عَنْ أَخْذِ الْفَائِدَةِ مِمَّنْ هُوَ دُونَهُ وَلِهَذَا قِيلَ: تَعَلَّمُوا قَبْلَ أَنْ تُسَوّدُوا وَلا يَأْبَى الْعَالِمُ الْمُتَوَاضِعُ أَنْ يَنْقُلَ الْحَقَّ عَنْ أَيِّ مَخْلُوقٍ.
وَقَدْ تَتَلْمَذَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ عَلَى بنِ عَبْدِ الْقَوِّي نَاظِمِ عِقْدَ الْفَرَائِدِ وَنَظَمَ ابْنُ عَبْدِ الْقَوِّي بَعْضَ اخْتِيَارَاتِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ فَعِنْدَمَا ذَكَرَ مَسَافَةَ الْقَصْرِ قَالَ:
…
وَعِنْدَ إِمَامِ الْعَصْرِ لا حُجَّةً لَهُمْ
…
عَلَى ذَا وَلَكِنْ بِاسْمِهِ فَلْيُحَدِّدَ
…
>?
????
????وَعِنْدَمَا ذَكَرَ قِتَالَ أَهْلِ الْبَغْيِ قَالَ:
…
وَيَكْرَهُ شَيْخُ الْعَصْرِ أَنْ يَقْصُد الْفَتَى
…
بُغَاةَ ذَوِي الأَرْحَامِ لا ذُو المُجَرَّدِ
…
>?
????
????عِنْدَمَا ذَكَرَ مِنْ لَهَا عَادَةُ مِن النِّسَاءِ وَتَغَيَّرَتْ قَالَ:
…
وَعِنْدَ إِمَامِ الْوَقْتِ تَجْلِسُ مُطْلَقا
…
لِظَاهِرِ مَا يُرْوَى بِغَيْرِ تَقَيُّدِ
…
>?
????
????فَلِلّهِ دَرُّهُ مِن مُتَوَاضِعٍ. عكس ما عليه كثير من حاملي الشهادات الحالية دكتوراه وماجستير وبكالوريوس ودبلوم ونحوها نسأل الله الكريم أن يعافيهم ولا يبلانا فيما بُلوا به من الكبر والعُجْبِ والْجَهْل.
قِيلَ لِبزْرِ جَمْهَر: مَا النِّعْمَةُ الَّتِي لا يُحْسَدُ عَلَيْهَا صَاحِبُهَا؟ قَالَ: التَّوَاضُعُ. قِيلَ لَهُ: فَمَا الْبَلاءُ الَّذِي لا يُرْحَمُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ؟ قَالَ الْعُجْبُ. وقال: التَّوَاضُعُ مَعَ السَّخَافَةِ وَالْبُخْلُ أَحْمَدُ مِن الْكِبْرِ مَع السَّخَاءِ وَالآدَابِ فَأَعْظِمْ بِحَسَنَةٍ عَفَتْ عَنْ سَيِّئَتَيْنِ وَأَقْبَحَ بِعَيْبٍ أَفْسَدَ مِنْ صَاحِبِهِ حَسَنَتَيْن وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِلُ:
.. وَأَحْسَنُ مَقْرُونَيْنِ فِي عَيْنِ نَاظِرٍ
…
جَلالَةُ قَدْرٍ فِي خُمُولِ تَوَاضُعِ
…
????
????آخر:
…
لَيْسَ الْخُمُولُ بِعَارٍ
…
عَلَى امْرِئٍ ذِي جَلالِ
…
>?
????
????
…
فَلَيْلَةُ الْقَدْرِ تَخْفَى
…
وَتِلْكَ خَيْرُ اللَّيَالِ
…
????
????آخر:
…
إِنَّ التَّوَاضُعَ مِنْ خِصَالِ الْمُتَّقِي
…
وَبِهِ التَّقِيُّ إلى الْمَعَالي يَرْتَقِي
…
>?
????
????
…
وَمِنَ الْعَجَائِبِ عُجْبُ مَنْ هُوَ جَاهِلٌ
…
فِي حَالِهِ أَهُوَ السَّعِيدُ أَمْ الشَّقِي
…
????
????
…
أَمْ كَيْفَ يُخْتَمُ عُمْرُه أَوْ رُوحُهُ
…
يَوْمَ النَّوَى مُتَسفل أَوْ مُرْتَقِي
…
????
????
…
وَالْكِبْرِيَاءِ لِرَبِّنَا صِفَةٌ لَهُ
…
مَخْصُوصَةٌ فَتَجَنَّبَهَا وَاتَّقِي
…
>?
????
???? وقال بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَنْ بَرِئ مِنْ ثَلاث نَالَ ثَلاثًا مِنْ بَرِئَ مِنَ السَّرَفْ نَالَ الْعِز وَمَنْ بَرِئَ مِنَ الْبُخْلِ نَالَ الشَّرَف وَمَنْ بَرئَ مِنَ الْكِبْرِ نَالَ كَرَامَةَ التَّوَاضُع. وقال مُصْعَبُ بن الزُّبَيْر: التَّوَاضُعُ مَصَائِدُ الشَّرَفِ. وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمَ مَنْ دَامَ تَوَاضُعُهُ كَثُرَ صَدِيقُه.
أَمَّا الْمُتَكَبِّرُ فَهُوَ كَالْمَغْرُورِ فَإِنَّهُ كَثِيرًا مَا تَفُوتَهُ الْحَقَائِقُ الْعِلْمِيَّةِ لأَنَّهُ تَأْبَى عَلَيْهِ نَفْسَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْحَقِّ حَيْثُ وَجَدَه وَلِهَذَا قِيلَ ضَاعَ الْعِلْمُ بَيْنَ الْحَيَاءِ وَالْكِبْرُ ثُمَّ إِنْ كَانَ الْمُتَوَاضِعُ تِلْمِيذًا يَجِدُ لُطْفًا وَعَطْفًا مِنَ الأسْتَاذ فَلا يَبْخَلُ عَلَيْهِ بِمَجْهُودِهِ وَلا يَشُحُّ عَلَيْهِ بِفَائِدَةٍ لأَنَّ التَّوَاضُعَ يَسْتَلْزِمُ الأَدَب.
وَأَمَّا أَحْسَنُ الأَدَبِ وَالتَّوَاضُعِ وَاللُّطْفِ مَعَ الْمُعَلِّم الَّذِي يَبْذِلُ جُهْدَهُ فَي سَبِيل تَثْقِيفِهِ وَتَهْذِيبه وَتَرْبِيَتِهِ تَرْبِيَةً صَالِحَةً وَأَنَّهُ بِتَوَاضُعَهِ وَحُسْن سِيرَتِهِ مَعَ مُعَلِّمِهِ يُبَرْهِنُ عَلَى أَنَّهُ مِمَّنْ يَعْرِفُ قَدْرَ الْعِلْمِ وَالْعُلَمَاء وَأَنَّهُ يُدْرِكُ قِيمَةَ الْمَعْرُوفِ وَأَنَّهُ مِمَّنْ يُجَازِي عَلَى الإِحْسَانِ بِالإِحْسَانِ.
أَمَّا الْمُتَكَبِّرُ الَّذِي يَتَكَبَّرُ وَيَتَعَاظَمُ فِي نَفْسِهِ وَيَحْمِلُهُ الْكِبْرُ عَلَى سُوءِ الأَدَب وَاحْتِقَارِ الْمُعَلِّم فَهُوَ بِالْحَقِيقَةِ غَبِيٌّ جَاهِلٌ جلفٌ فَدِم لا يَعْرِفُ لِلْعِلْمِ قِيمَتَه وَلا يُرِيدُ أَنْ يَخْرَجَ مِنْ جَهْلِهِ وَهَذَا شَيْءٌ مُشَاهَدٌ مَعْرُوف فَإِنَّكَ تَرَى الْمُتَكَبِّرِينَ عَلَى الْمُعَلِّمِينَ يَعْمَهُونَ فِي حُمْقِهِمْ وَجَهْلِهِمْ وَلا يَخْرُجُونَ عَن السَّخَفِ فَضْلاً عَمَّا
ارْتَكَبُوهُ مِنْ نُكْرَانِ الْجَمِيلِ وَجَحْدِ الْمَعْرُوفِ الَّذِي يُسْدَى إِلَيْهِمْ وَقَدِيمًا قِيلَ:
…
فَاصْبِرْ لِدَائِكَ إِنْ جَفَوْتَ طَبِيبَهُ
…
وَاصْبِرْ لِجَهْلِكَ إِنْ جَفَوْتَ مُعَلِّمًا
…
????
????آخر:
…
وَمَنْ لَمْ يَذُقْ مَرَّ التَّعَلُمِ سَاعَةً
…
تَجَرَّع ذُلَّ الْجَهْلِ طُولَ حَيَاتِهِ
…
>?
????
????
…
فَصَبْرًا عَلَى مُرِّ الْجَفَا مِنْ مُعَلِّمٍ
…
فَإِنَّ رُسُوبَ الْعِلْمِ فِي نَفَرَاتِهِ
…
????
????
…
وَمَنْ فَاتَهُ التَّعْلِيمُ وَقْتَ شَبَابِهِ
…
فَكَبِّرْ عَلَيْهِ أَرْبَعًا لِوَفَاتِهِ
…
????
????
…
وَذَاتُ الْفَتَى وَاللهِ بِالْعِلْمِ وَالتُّقَى
…
إِذَا لَمْ يَكُونَا لا اعْتِبَارَ لِذَاتِهِ
…
????
????آخر:
…
أَيْنَ الْمَرَاتِبُ فِي الدُّنْيَا وَرِفْعَتُهَا
…
مِن الَّذِي حَازَ عِلْمًا لَيْسَ عِنْدَهُمُ
…
>?
????
????
…
لا شَكَّ أَنَّ لَنَا قَدْرًا رَأَوْهُ وَمَا
…
لِمِثْلِهِمْ عِنْدَنَا قَدْرُ وَلا لَهُمُوا
…
????
????
…
هُمُ الْوُحُوش وَنَحْنُ الإِنْسَ حِكْمَتُنَا
…
تَقُودُهُمْ حَيْثُمَا شِئْنَا وَهُمْ نَعَمُ
…
>?
????
????
آخر:
…
احْرِصْ عَلَى كُلِّ عِلْمٍ تَبْلُغَ الأَمَلا
…
وَلا تُوَاصِلْ لِعِلْمٍ وَاحِدٍ كَسَلا
…
>?
????
????
…
فَالنَّحْلُ لَمَّا رَعَتْ مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ
…
أَبْدَتْ لَنَا الْجَوْهَرَيْنِ الشَّمْعَ وَالْعَسَلا
…
????
????
…
الشَّمْعُ بِاللَّيْلِ نُورٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ
…
وَالشَّهْدُ يُبْرِي بِإِذْنِ الْبَارِئِ الْعِلَلا
…
>?
????
???? تَنْبِيه: وَنَعْنِي بِالْعَالِمِ الْمُعَلَّم الَّذِي يَتَأَدَّبُ مَعَهُ وَيَتَوَاضَعُ لَهُ وَيُقَدَّرُ وَيُحْرَصُ عَلَى أَخْذِ الْعِلْمِ مِنْهُ وَمُجَالَسَتِهِ الْعَامِلُ بِعَمَلِهِ الْمُتَأَدِّب بِآدَابِ الشَّرِيعَةِ الْمُتَمَسِّكُ بِهَا الَّذِي يَصْدَعُ بِالْحَقِّ وَلا تَأْخُذُه ِفيِ اللهِ لَوْمَةِ لائِم الْبَعِيدُ عَنِ الْمُجَامَلَة إِذَا رَأَى مَا يُغْضِبُ الله الْبَعِيد عَن الظَّلمَةِ وَأَعْوَانِهِمْ الْمُتَمَلِّقِين.
أَمَّا مَنْ يُسَمُّونَ مَشَايخَ وَأَسَاتِذَةَ وَيُرَى عَلَيْهِمْ آثَارَ مُخَالَفَةِ النَّبِي ? مِنْ حَلْقِ لِحْيَةٍ أَوْ تَشَبُّهٍ بِالْكَفَرَةِ أَوْ تَرْكِ حُضُورِ جُمْعَةٍ أَوْ جَمَاعَةٍ أَوْ اسْتِعْمَالِ آلاتِ لَهْو أَوْ شَرْبِ دُخَانِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَهَؤُلاءِ يَتَعَيَّن الابْتِعَادُ عَنْ مُجَالَسَتِهِمْ وَمُجَاوَرَتِهِمْ وَمُعَامَلَتِهِمْ وَمُشَارَكَتهمْ إِلا لِضَرُورَةٍ أَوْ حَاجَةٍ شَدِيدَةٍ تَدْعُو إلى ذَلِكَ لأَنَّ
الطِّبَاع كَسَّابَةٌ وَيُخْشَى عَلَى مَنْ قَارَفَهُمْ أَوْ قَارَبَهُمْ أَنْ يَتَّصِلَ مَا بِهِمْ مِنْ مَرَضٍ مَعْنَوِي إلى ذَلِكَ الشَّخْصِ الْبَرِي.
شِعْرًا:
…
خَلَتِ الْقُلُوبُ مِن الْمَعَادِ وَذِكْرِهُ
…
وَتَشَاغَلُوا بِالْحِرْصِ وَالأَطْمَاعِ
…
????
????
…
صَارَتْ مَجَالِسُ مَنْ تَرَى وَحَدِيثُهم
…
في الصُّحْفِ وَالتِّلْفَازِ وَالْمِذْيَاعِ
…
>?
????
????
آخر:
…
(أَلا أَيُّهَا الْمَغْرُورُ فِي جَرِّ ثَوْبِهِ
…
وَجَزٍّ لِبَعْضِ الرَّاسِ فِعْلَ الأَرَاذِلِ)
…
????
????
…
(فَمَا الْعِزِّ فِي حَلْقِ اللِّحَا أَوْ خَنَافِسٍ
…
وَلا شُرْبِ دَخَّانٍ كَفَعْلِ الأَسَافِلِ)
…
????
????
…
(وَلَكِنَّهُ بِالْعِلْمِ وَالزُّهْدِ وَالتُّقَى
…
وَصِدْقٍ وَحِلْمٍ وَاقْتِنَاءٍ الْفَضَائِلِ)
…
>?
????
???? قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: إِنَّ الرَّجُلَ لِيَكُونُ غَائِبًا عَنِ الْمُنْكَر فِي بُيُوتِ الْوُلاةِ وَيَكُونُ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْر مَنْ حَضَرَ وَذَلِكَ لأَنَّهُ يَبْلُغه فَيَرْضَى بِهِ وَيَسْكُتُ عَلَيْهِ. قُلْتُ: وَفِي وَقْتِنَا مَا أَكْثَرَ السَّاكِتِينَ وَالْمدلِّسِينَ وَالْمُدَاهِنِينَ الَّذِينَ هَمُّهُمْ وَهَدَفهمُ الْوَحِيدُ مَا يَحْشُونَ بِهِ بُطُونَهُمْ مِنْ مَطْعُومٍ َوَمْشُروب أَوْ مَا يُجَمِّلُونَ بِهِ ظَوَاهِرَهُمْ مِنْ مَلْبُوسٍ وَمَرْكُوبٍ أَوْ يَتَذَوَّقُونَ بِهِ مِنْ زَوْجَةٍ إلى زَوْجَة دَائِمًا يُطَلِّقُ وَيَتَزَوَّج لا يَسْتَقِرُّ عَلَى الدَّوَامِ.
قَالَ ?: ((لا تُطَلَّقُ النِّسَاءُ إِلا مِنْ رِيبَةٍ إِنَّ اللهَ تَعَالى لا يُحِبُّ الذَّوَّاقِينَ وَالذَّوَاقُ الْكَثِيرُ النِّكَاح وَالطَّلاقِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِي وَالذَّوَاقَةُ الَّتِي كُلُّ مَنْ أَخَذَهَا تَتَسَبَّبُ لِفِرَاقِهِ لأَجْلِ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِغَيْرِهِ.
وَإِنْ كَانَ الْمُتَوَاضِعُ تَاجِرًا ذَا مَالٍ فَإِنَّهُ بِمُخَالَطَتِهِ النَّاسَ وَعَدمِ التَّرَفُّعِ وَالْكِبْرِ عَلَيْهِمْ يَنَالُ بِهِ الإِنْسَانُ الألفة والائْتِنَاسَ وَالْمَحَبَّةَ وَالإِقْبَال عَلَيْهِ في الْمُعَامَلَةِ وَيَعْرِفُ الْفُقَرَاءَ وَالْمُحْتَاجِينَ وَيَرَى مَا يُصِيبُهُمْ مِن الشَّقَاءِ وَيَمُسُّهُمْ مِن الْجُوعِ وَالْعُريّ وَمَا يُؤْذِيهمِ مِنْ أَلَمِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ فَتَأَلَّمُ نَفْسُهُ لِمَا يُصِيبُهُمْ فَيَرْحَمُهُمْ وَيَعْطِفَ عَلَيْهِم فَيَسْهُلُ عَلَيْهِ فِعْلُ الْخَيْرِ وَالْمُشَارَكَةُ فِيهِ وَيَسْهُلُ عَلَيْهِ أَدَاءُ مَا
فَرَضَهُ اللهُ عَلَيْهِ مِنْ نَفَقَاتٍ وَزَكَاةٍ وَيَهُونُ عَلَيْهِ إنْقَاذُ الْمَكْرُوبِ وَإِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ.
وَفِي عَمَلِهِ ذَلِكَ مَعَ النِّيَّةِ الصَّالِحَةِ فَائِدَةٌ لَهُ وَلِلنَّاسِ لأَنَّهُ بِعَمَلِهِ هَذَا يُرْضِي اللهَ أَوَّلاً وَرِضَى الرَّبِّ خَيْرُ ذَخِيرَةٍ يَذْخَرُهَا الْمَرْءُ تَنْفَعُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لأَنَّ مَنْ يَرْضَى عَنْهُ مَوْلاهُ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ فَقَدْ فَازَ بِالدُّنْيَا وَالآخِرَةِ أَمَّا بِالدُّنْيَا فَلِمَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ رَاحَةِ الْخَاطِرِ الَّتِي يَتَأَلَّمُ لَهَا الْمُتَكَبِّرُونَ وَتَغْلِي مِنْ أَجْلِهَا دِمَاؤُهُمْ وَيَطْغَى غَضَبُهُمْ فَيَحْمِلُهُمْ عَلَى التَّعَدِّي عَلَى عباد الله قَوْلاً وَفِعْلاً وَلِمَا يَكْسِبُهُ مِنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَمَحَبَّتِهِمْ لَهُ وَاحْتِرَامِهِمْ لَهُ وَإِخْلاصِهِمْ فِي خِدْمَتِهِ وَالْمُبَادَرَةِ لِقَضَاءِ حَوَائِجِهِ وَتَضَافِرُهم عَلَى الدِّفَاعِ عَنْهُ وَالانْتِصَارِ لَهُ.
وَعَلَى عَكْسِهِ الْمُتَكَبِّرُ لاحْتِقَارِهِ لَهُمْ وَاحْتِقَارِهِمْ وَإِنْ كَانَ التَّوَاضُعُ مِنْ صَاحِبٍ جَاهٍ فَإِنَّ التَّوَاضُعَ يَجْعَلُ لِجَاهِهِ قِيمَةً لأَنَّ الْجَاهَ إِنْ لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي فَائِدَةِ الأُمَّةِ وَالأَفْرَادِ لا يَكُونُ لَهُ مَعْنَى وَمَنْ تَرَفَّعَ عَنِ النَّاسِ وَلَمْ يَتَوَاضَعْ لَهُمْ فَإِنَّهُ لا يَدْنُو مِنْهُ أَحَدٌ وَلا يَنْتَفِعُ بِجَاهِهِ مُحْتَاجٌ فَيَظَلُّ جَاهَهُ قَاصِرٌ عَلَيْهِ وَيُصْبِحُ اسْمًا بِدُونِ مُسَمَّى.
وَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ مَتَى حَصَلَ لَهُ مَا يَسُدُّ شَهْوَتَهُ وَحْدَهُ مِنْ مَالٍ أَوْ جَاهٍ أَوْ سُلْطَان فَقَدْ ظَفَرَ بِلَذَّاتِ الدُّنْيَا وَنَعِيمِهَا فَلا يُبَالِي بَعْدَ ذَلِكَ بِغَيْرِهِ شَقِيَ أَمْ سَعِدَ فَهُوَ ضَائِعٌ أَحْمَق لأَنَّ الإِنْسَانَ لا يَسْتَقِلُّ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ بَلْ لا بُدَّ مِنَ التَّعَاوُنِ مَعَ غَيْرِهِ، قَالَ اللهُ تَعَالى:{وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً} قَالَ الشَّاعِرْ:
…
النَّاسُ لِلنَّاسِ مِنْ بَدْوٍ وَحَاضِرَةٍ
بَعْضٌ لِبَعْضٍ وَإِنْ لَمْ يَشْعُرُوا خَدَمُ
…
>?
.. وَكُلُّ عُضْوٍ لأَمْرٍ مَا يُمَارِسُه
لا مَشْيَ لِلْكَفِّ بَلْ تَمْشِيَ بِهِ الْقَدَمُ
آخر:
…
إِذَا مَا تَأَمَّلْنَا الأُمُورَ تَبَيَّنَتْ
لَنَا وَأَمِيرُ الْقَوْمِ لِلْقَوْمِ خَادِمُ
…
>?
مَوْعِظَةٌ
عِبَادَ اللهِ مَنْ كَانَ الْمَوْتُ يَطْلُبُهُ كَيْفَ يَقِرُّ لَهُ قَرَار وَمَنْ كَانَ الدَّهْرُ يُجَارِيهِ فَكَيْفَ يُطِيقُ الانْتِصَار، وَمَنْ كَانَ رَاحِلاً عَنِ الدُّنْيَا إلى الآخِرَةِ كَيْفَ يَلَذُّ لَهُ قَرَارُ، عَجَبًا لِمَنْ يَمْلأ عَيْنهُ بِالنَّوْمِ وَهُوَ لا يَدْرِي أَيُسَاقُ إلى الْجَنَّةِ أَوْ إلى النَّارِ.
وَلَقَدْ أَحْسَنَ مَنْ قَالَ:
…
(وَكَيْفَ تَنَامُ الْعَيْنُ وَهِيَ قَرِيرَةٌ
وَلَمْ تَدْرِ فِي أَيْ الْمَكَانِينِ تَنْزِلُ)
…
>?
إِنْ هِيَ إِلا غَفْلَةٌ وَأُمْنِيَّةٌ عَاجِلَةٌ وَسَجِيَّةٌ عَادِلَةٌ جَرَى بِهَا الْقَلَمُ وَمَضَى عَلَيْهَا سَالِفُ الأُمَمِ، فَيَا فَرَائِسَ الأَحْدَاث وَيَا غَرَائِسَ الأَجْدَاث، لَقَدْ صَعَقَ الْمَوْتُ فِي دِيَارِكُمْ فَنَعَب، وَصَدَقَكُمْ صَرْفُ الزَّمَانِ وَمَا كَذَب، فَكَأَنَّهُ قَدْ أَعَادَ عَلَيْكُمْ الْكَرَّةَ وَسَلَبَ، وَنَغَّصَ عَلَيْكُمُ الْمَسّرةَ، وَانْتَهَزَ فِيكُم الغِرَّة، فَمَا أَقَالَكُمْ عَثْرَة.
عَنْ كَعْبٍ أَوْ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ قَالَ: يَقُومُونَ مِقْدَارَ ثَلاثَمَائَةِ عَامْ. قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ: مَا ظَنُّكَ بِأَقْوَامٍ قَامُوا للهِ عز وجل عَلَى أَقْدَامِهِمْ مِقْدَارُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةَ لَمْ يَأْكُلُوا فِيهَا أَكْلَةَ وَلَمْ يَشْرَبُوا فِيهَا شَرْبَةْ حَتَّى إِذَا انْقَطَعَتْ أَعْنَاقُهمْ مِنَ الْعَطَشْ
وَاحْتَرَقَتْ أَجْوَافُهُمْ مِنَ الْجُوعِ انْصُرِفَ بِهِمْ إلى النَّارِ فَسُقُوا مِنْ عَيْنٍ قَدْ آنَ حَرُّهَا وَاشْتَدَّ نَفْحُهَا.
فَلَمَّا بَلَغَ الْمَجْهُودُ مِنْهُمْ مَا لا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ كَلَّمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي طَلَبِ مَنْ يُكْرُمُ عَلَى مَوْلاهُ أَنْ يَشْفَعَ لَهُمْ فِي الرَّاحَةِ مِنْ مَقَامِهِمْ وَمَوْقِفَهِمْ لِيَنْصَرِفُوا إلى الْجَنَّةِ أَوْ إلى النَّارِ مِنْ وُقُوفِهم فَفَزِعُوا إلى آدَمَ وَنُوحٍ وَمِنْ بَعْدِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى كُلُّهُمْ يَقُولُ: إِنَّ رَبِّي غَضِبَ الْيَوْمِ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ مِثْلَهُ قَبْلَهْ وَلا يَغْضَبُ بَعْدَهْ مِثْلَهْ فَكُلُّهمْ يَذْكُرُ شِدَّةَ غَضَبِ الرَّبِّ عز وجل وَيُنَادِي بِالشُّغُل بِنَفْسِه فَيَقُولَ نَفْسي نَفْسِي فَيَشْتَغِلُ بِنَفْسِهِ عَنَ الشَّفَاعَةِ لَهُمْ إلى رَبِّهِمْ لاهْتِمَامِهِ بِنَفْسِهِ وَخَلاصِهَا.
وَكَذَلِكَ يَقُولُ اللهُ عز وجل: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} فَبَادِرُوا رَحِمَكُمُ اللهْ وَأَنْتُمْ فِي مَكَانِ الإِمْكَانْ، قَبْلَ ضِيقِ الأَوْطَانِ، وَتَقَلُّصِ اللِّسَانَ وَاصْفِرَارِ الْبَنَان، وَالتَّقَلُّبِ مِنْ جِهَةٍ إلى جِهَة مِنْ شِدَّةِ الآلام.
وَرَفْعُ يَدٍ وَوَضْعُ الأُخْرَى مِنْ شَدَّةِ السَّكَرَات، لِجَذْبِ الرُّوحِ مِنْ الْعُرُوقِ وَالْعَصَبِ وَالْعِظَامِ، قَبْلَ شُخُوصِ الْبَصَر، وَبُرُودَةِ الْبَدَنِ، وَنَقْلِهِ لِبَيْتِ الدَّوْدِ وَالظُّلْمَةِ وَالْوَحْشَةِ وَالإِنْفِرَادِ وَسُؤَالِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ، وَمَا يَعْقُبُه مِنْ كُلِّ أَمْرٍ خَطِيرٍ فِي يَوْمٍ يَشِيبُ مِنْ أَهْوالِهِ الْوِلْدَان.
فَمَا ظَنّكُمْ عِبَادَ اللهِ بِيَوْمٍ بَضَائِعُهُ الأَعْمَالُ، وَشُهُودُهُ الْجُلُودُ وَالأَلْسِنَةً وَالأَوْصَال، وَسِجْنُهُ النَّارُ، وَحَاكِمُهُ الْجَبَّارُ، إِنَّ ذَلِكَ لَيَوْمٌ عَظِيمٌ لا يَعْمَلُ لِحِسَابِهِ إِلا مَنْ وَفَّقَهُ الْحَيُّ الْقَيُّوم لَيْسَ فِيهِ لِلْمُجْرِمِ رَاحَةٌ وَلا نَوْمٌ، فَانْتَبِهُوا رَحِمَكُمْ اللهُ وَتَيَقَّظُوا وَتَزَوَّدُوا فَكَأَنَّكُم بِهِ وَقَدْ أَتَى قَالَ تَعَالى:{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ} {أَتَى أَمْرُ اللهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ}
شِعْرًا:
…
خَبَتْ مَصَابِيحُ كُنَّا نَسْتَضيءُ بِهَا
وَطَوَّحَتْ لِلْمَغِيبِ الأَنْجُمُ الزَّهَرُ
وَاسْتَحْكَمَتْ غُرْبَةُ الإسلام وَانْكَسَفَتْ
شَمْسُ الْعُلُومِ الَّتِي يَهْدِي بِهَا الْبَشَرُ
تُخُرِّمَ الصَّالِحُونَ الْمُقْتَدَى بِهِمْ
وَقَامَ مِنْهُمْ مَقَامَ الْمُبْتَدَا الْخَبَرُ
فَلَسْتَ تَسْمَعُ إِلا كَانَ ثُمَّ مَضَى
وَيَلْحَقُ الْفَارِطُ الْبَاقِي بِمَنْ غَبَرُوا
وَالنَّاسُ فِي سَكْرَةٍ مِنْ خَمْرِ جَهْلِهِمُ
وَالصَّحْوُ فِي عَسْكَرِ الأَمْوَاتِ لَوْ شَعِرُوا
نَلْهُو بِزُخْرُفِ هَذَا الْعَيْشِ مِنْ سَفَهٍ
لَهْوَ الْمُنَبِّتِ عَودًا مَا لَهُ ثَمَرُ
وَتَسْتَحِثُّ مَنَايَانَا رَوَاحِلَنَا
لِمَوقِفٍ مَا لَنَا عَنْ دُونِهِ صَدَرُ
إِلا إلى مَوْقِفٍ تَبْدُوا سَرَائِرُنَا
فِيهِ وَيَظْهَرُ لِلْعَاصِينَ مَا سَتَرُوا
فَيَا لَهُ مَصْدَرَا مَا كَانَ أَعْظَمَهُ
النَّاسُ مِنْ هَوْلِهِ سَكْرَى وَمَا سَكِرُوا
فَكُنْ أَخِي عَابِرًا لا عَامِرًا فَلَقَدْ
رَأَيْتَ مَصْرَعَ مَنْ شَادُوا وَمَنْ عَمَرُوا
اسْتُنْزِلُوا بَعْدَ عِزٍّ عَنْ مَعَاقِلِهِمْ
.. كَأَنَّهُم مَا نَهَوْا فِيهَا وَلا أَمَرُوا
تُغَلُّ أَيْدِيهِمُوُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنْ
بَرُّوا تُفَكُّ وَفِي الأَغْلالِ إِنْ فَجَرُوا
وَنُحْ عَلَى الْعِلْمِ نَوْحَ الثَّاكِلاتِ وَقُلْ
وَالْهَفْ نَفْسِي عَلَى أَهْلٍ لَهُ قُبِرُوا
الثَّابِتِينَ عَلَى الإِيمَانِ جُهْدَهُم
وَالصَّادِقِينَ فَمَا مَانُوا وَلا خَتَرُوا
الصَّادِعِينَ بِأَمْرِ اللهِ لَوْ سَخَطُوا
أَهْلُ الْبَسِيطَةِ مَا بَالُوا وَلَوْ كَثُرُوا
السَّالِكِينَ عَلَى نَهْجِ الرَّسُولِ عَلَى
مَا قَرَّرَتْ مُحْكَمُ الآيَاتِ وَالسُّوَرُ
الْعَادِلِينَ عَنِ الدُّنْيَا وَزَهْرَتِهَا
وَالأَمْرَيْنَ بِخَيْرٍ بَعْدَ مَا ائْتَمَرُوا
لَمْ يَجْعَلُوا سُلَّمًا لِلْمَالِ عِلْمَهُمُوا
بَلْ نَزَّهُوهُ فَلَمْ يَعْلُقْ بِهِ وَضَرُ
فَحَيَّ أَهْلاً بِهِمْ أَهْلاً بِذِكْرِهِمُوا
الطِّيبِينَ ثَنَاءً أَيْنَمَا ذُكِرُوا
أَشْخَاصُهُمْ تَحْتَ أَطْبَاقِ الثَّرَى وَهُمُوا
كَأَنَّهُمْ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ قَدْ نُشِرُوا
هَذِيْ الْمَكَارِمُ لا تَزْوِيقُ أَبْنِيَةٍ
وَلا الشُّفُوفُ الَّتِي يُكْسَى بِهَا الْجُدُرُ
.. وَالْعِلْمُ إِنْ كَانَ أَقْوالاً بِلا عَمَلٍ
فَلَيْتَ صَاحِبَةُ بِالْجَهْلِ مُنْغَمِرُ
يَا حَامِلَ الْعِلْمِ وَالْقُرْآنِ إِنَّ لَنَا
يَوْمًا تُضَمُّ بِهِ الْمَاضُونَ وَالأَخَرُ
فَيَسْأَلُ اللهُ كُلاً عَنْ وَظِيفَتِهِ
فَلَيْتَ شِعْرِي بِمَاذَا مِنْهُ تَعْتَذِرُ
وَمَا الْجَوَابُ إِذَا قَالَ الْعَلِيم إِذَا
قَالَ الرَّسُولُ أَوْ الصِّدِّيقُ أَوْ عُمَرُ
وَالْكُلُّ يَأْتِيهِ مَغْلُولَ الْيَدَيْنِ فَمِنْ
نَاجَ وَمِنْ هَالَكٍ قَدْ لَوَّحَتْ سَقَرُ
فَجَدِّدُوا نِيَّةُ للهِ خَالِصَةً
قُومُوا فُرَادَى وَمَثْنَى وَاصْبِرُوا وَمُرُوا
وَنَاصِحُوا وَانْصَحُوا مَنْ وَلِيَ أَمْرَكُمُ
فَالصَّفْوُ لا بُدَّ يَأْتِي بَعْدَهُ كَدَرُ
وَاللهُ يَلْطُفُ فِي الدُّنْيَا بِنَا وَبِكُمْ
وَيَوْمَ يَشْخَصُ مِنْ أَهْوَالِهِ الْبَصَرُ
وَصَلِّ رَبِّ عَلَى الْمُخْتَارِ سَيِّدِنَا
شَفِيعِنَا يَوْمَ نَارِ الْكَرْبِ تَسْتَعِرُ
مُحَمَّد خَيْرِ مَبْعُوثٍ وَشِيعَتِهِ
وَصَحْبِهِ مَا بَدَا مِنْ أُفْقِهِ قَمَرُ
…
>?
اللَّهُمَّ كَمَا صِنْتَ وَجُوُهَنَا عَنِ السُّجُودِ لِغَيْرِكَ فَصُنْ وُجُوهَنَا عَنِ الْمَسْأَلَةِ لِغَيْرِكَ، اللَّهُمَّ مَنْ كَانَ عَلَى هَوَى وَهُوَ يَظُنُ أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ فَرُدَّهُ إلى الْحَقِّ حَتَّى لا يَظَلُّ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ أَحَدٌ اللَّهُمَّ لا تَشْغَلْ قُلُوبَنَا بِمَا تَكَفَلْتَ لَنَا بِهِ وَلا تَجْعَلْنَا فِي رِزْقِكَ خَوَلاً لِغَيْرِكَ وَلا تَمْنَعْنَا خَيْرَ مَا عِنْدَكَ بِشَرِ مَا عِنْدَنَا وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
مَوْعِظَةٌ
عباد الله إِنَّ عَلَيْكُمْ مَسْئوليَّةً كُبْرَى وَفِي أَعْنَاقِكُمْ أَمَانَةً عُظْمَى سَتُسْأَلُونَ عَنْهَا يَوْمَ يَبْعَثُ اللهَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، فَإِنَّ اللهَ سَائِلٌ كُلَّ رَاعٍ عَمَّا اسْتَرْعَاهُ حَفِظَ أَمْ ضَيَّعَ.
عِبَادَ اللهِ إِنَّ فِي أَعْنَاقِكُمْ أَوْلادَكُم وَهُمْ أَفْلاذُ أَكْبَادِكُم فَاتَّقُوا اللهَ فِيهِمْ وَوَجّهُوهُمْ إلى الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالأَخْلاقِ الْفَاضِلَةِ، فَإِنَّ هَؤُلاء الأَوْلادِ سَيَكُونُونَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ رِجَالاً، فَإِذَا تَرَبُّوا عَلَى طَاعَةِ اللهِ وَتَعَوَّدُوا الأَخْلاقَ الصَّالِحَةَ الَّتِي تَرْفَعُ مَقَامَهُمْ وَتُعْلِي شَأْنَهُمْ وَحَصَّلُوا مِنَ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ مَا يَنْفَعُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ وَيَنْفَعُونَ بِهِ عِبَادَ اللهِ، كَانُوا أَسَاسًا مَكِينًا لِنَهْضَةِ الأُمَّةِ وَهَذَا أَمْرٌ لا يَخْتَلِف فِيهِ اثْنَانِ.
وَإِنْ اسْتَعَادُوا سَافِلَ الأَخْلاقِ وَهَجَرُوا الْعُلُومَ الشَّرْعِيَّةِ وَمَا يُعِينُ عَلَيْهَا، كَانُوا ضَرَرًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَعَلَى الأُُمَّةِ.
عباد الله التَّرْبِيَةُ أَمْرٌ عَظِيمُ الْخَطَرِ كَبِيرُ الْقِيمَةِ، وَالطِّفْلُ أَمَانَة عِنْدَ وَالِدَيْهِ، وَقَلْبُهُ الطَّاهِرُ جَوْهَرَةٌ نَفِيسَةٌ خَالِيَةٌ مِنْ كُلِّ نَقْشٍ وَصُورَةٍ فَإِنْ عُوِّدَ الْخَيْرَ وَعُلِّمَهُ نَشَأَ عَلَيْهِ وَسَعِدَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَشَارَكَهُ فِي ثَوَابِهِ أَبَوَاهُ، وَكُلُّ مُؤَدِّبٍ وَمُعَلِّمٍ لَهُ فِي الْخَيْرَ، وَإِنْ عُوِّدَ الشَّرَّ وَأَهْمِلَ وَتُرِكَ بِلا عِنَايَةٍ، شَقِيَ وَهَلَكَ وَكَانَ عَلَى وَلِيّه وَرَاعِيهِ مَا يَسْتَحِقُّ مِنَ الإِثْمِ.
فَالتَّرْبِيَةُ هِيَ غَرْسُ الدِّينِ الإسلامي وَمَحَبَّتِهِ وَآدَابِهِ قَوْلاً وَعَمَلاً وَاعْتِقَادًا، وَغَرْسُ الأَخْلاقِ الْفَاضِلَةِ فِي نُفُوسِ النَّاشِئِينَ وَسَقْيُهَا بِمَاءِ الإِرْشَادِ وَالنَّصِيحَةِ، وَالتَّوْجِيهِ إلى كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَإتِّبَاعِ سَبِيلِ السَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ مِن الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَمَنْ حَذَا حَذْوَهُمْ.
قَالَ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِي عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلا عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ)) .
ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ. وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ
(فَصْلٌ)
قَالَ فِي الدُّرُوسِ الْوَعْظِيَّةِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ: أَجْمَعَ الْعُقَلاءُ عَلَى أَنَّ الإِنْسَانَ بِحَاجَةٍ إِلى التَّرْبِيَةِ فَإِنَّمَا يُولَدُ صَغِيرًا مُجَرَّدًا عَنْ كُلِّ الْمُمَيِّزَاتِ قَابِلاً لِكُلِّ نَقْشٍ مُسْتَعِدًّا لِكُلِّ مَا يُلْقَى إِلَيْهِ مِنْ تَعْلِيمٍ وَيُحَاطُ بِهِ مِنْ تَثْقِيفٍ.
وَالْوَالِدَانِ هُمَا الرَّاعِيَّانِ لِولَدِهِمَا الْمَسْؤُلانِ عَنْهُ لَدَى اللهِ وَالنَّاسِ، فَإِنْ أَحْسَنَا تَأْدِيبَهُ وَعَوَّدَاهُ الْخَيْرَ وَإنْشَاءَهُ عَلَيْهِ سَعْدَ فِي دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ وَنَالَ أُمْنِيَّتِهِ وَمُبْتَغَاهُ، وَكَانَ لِوَالِدَيْهِ وَكُلِّ مِنْ اشْتِرَكَ فِي تَعْلِيمِهِ وَسَاهَمَ فِي تَهْذِيبِهِ أَجْرُهُ عِنْدَ اللهِ، وَإِنْ أَهْمَلََهُ وَالِدَاهُ إِهْمَالَ الْبَهَائِم وَلَمْ يَرْعَيَا حَقَّ اللهِ بِهِ كَانَ إثْمُهُمَا عِنْدَ اللهِ كَبِيرًا وَسُؤَالُهُمَا خَطِيرًا.
وَإِنَّ مِن الأُمُورِ الْمُحَقَّقَةِ وَالْحَقَائِقِ الْمُشَاهَدَةِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا أَنَّ عَقْلِيَّةِ الْوَلَدِ تَتَأَثَّرُ بِتَأَثُّرِ الْبِيئَةِ وَالْمُجْتَمَعِ صِحَّةٌ وَفَساَدًا، لِسَذَاجَةِ نَفْسِهِ وَسَلامَةِ فِطْرَتِهِ إِذَنْ، فَوَاجِبُ الْوَالِدِ كَبِيرٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُوَطُه بِعِنَايَةٍ دَقِيقَةٍ وَرِقَابَةٍ شَدِيدَةٍ وَتَوْجِيهٍ صَحِيحٍ وَتَرْبِيَةٍ حَسَنَةٍ.
وَذَلِكَ بِأَنْ يُؤَدِّبَهُ، وَيُهَذِّبَهُ، وَيُعَلِّمَهُ مَكَاِرَم الأَخْلاقِ، وَمَحَاسِنَ الْعَادَاتِ، وَيَحْفَظَهُ مِنْ قُرَنَاءِ السُّوءِ، وَذَوِي الأَخْلاقِ الْمُنْحَطَّةِ، وَلْيَعْلَم الْوَالِدُ أَنَّ وَلَدَهُ أَمَانَةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلْيُؤَدِّ وَاجِبَ الأَمَانَةِ، وَلْيَقُمْ بِحَقِّ الرِّعَايَةِ.
وَإِذَا أُهْمِلَ الْوَلَدُ فِي ابْتِدَاءِ نَشْأَتِهِ وَأَوَّلِ رَعْرَعَتِهِ وَتَمْيِيزِهِ خَرَجَ خَبِيثَ الطَّبْعِ سَيِّءِ الأَخْلاقِ، مُحْتَالاً كَذَّابًا سَرَّاقًا كَثِيرَ الْهَذَيَانِ وَفُضُولِ الْكَلام، يَتَدَخَّلُ فِيمَا لا يَعْنِيهِ، بَذِيءَ اللِّسَانِ مُغْتَابًا نَمَّامًا وَقِحًا بَعِيدًا َعن التَّقْوَى وَالطَّاعَةِ، قَرِيبًا مِن الْفُسُوقِ وَالْفُجُورِ.
وَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالُ لا يَكُونُ وَبَالاً عَلَى الْمُجْتَمَعِ وَعُضْوًا فَاسِدًا يَجِبُ أَنْ يَبْتَرَ وَيُقْطَعَ إِلا مَنْ حَفِظَ رَبُّكَ.
وَيَجِبُ عَلَى وَلِيّ الطِّفْلِ وَالطِّفْلَةِ عِنْدَ إِرَادَةِ التَّعْلِيمِ أَنْ يُسَلِّمَ الْوَلَدَ لِمُرَبٍّ صَالِحٍ، وَمُعَلِّمٍ نَاصِحٍ، يَحْفَظُ عَلَيْهِ أَخْلاقَهُ، وَيُحَسِّنُ آدَابَهُ، وَيُرَوِّضُه وَيُمَرِّنُه عَلَى الشَّعَائِرَ الدِّينِيَّةِ، وَيُلَقِّنَهُ الْعَقَائِدَ الصَّحِيحَة السَّلِيمَةَ، الإسلاميَّةِ وَلا يَتَسَامَحْ مَعَهُ فِي إِهْمَالِ أَمْرِ الدِّينِ وَآدَابِهِ.
وَلا يَجُوزُ تَسْلِيمُ الطِّفْلِ إلى مُعَلِّمٍ مُتَهَتِّكٍ يَسْتَهْتِرُ بِأَمْرِ الدِّينِ أَوْ زِنْدِيقٍ مَارِقٍ لا يُبَالي بِعَقَائِدِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ جَاهِلٍ سَخِيفٍ يَبْهُتُه بِالْخَرَافَاتِ واَلغْرَائِبِ، وَهُوَ فِي نَفْسِهِ لا يُمَيِّز الْحَقَّ مِنْ الْبَاطِل واَلغْثَ مِن السَّمِينِ،
أَوْ مُلْحِدٍ خَارِجٍ عَن الأَوَامِرِ الإِلَهِيَّةِ وَالنَّوَامِيسِ السَّمَاوِيَّةِ غَيْرَ مُكْتَرِثٍ بِالتَّعَالِيمِ الدِّينِيَّةِ، أَوْ يَقْذِفُ بِهِ فِي الْمَدَارِسِ التَّبْشِيرِيَّةِ الأَجْنَبِيَّةِ ذَاتِ الأَغْرَاضِ الْمَعْرُوفَةِ وَالْغَايَاتِ الدَّنِيئَةِ وَالتَّوْجِيهِ الْفَاسِدِ ضِدَّ الإسلام وَالْمُسْلِمِينَ.
وَلِمِثْلِ هَذِهِ الأَغْرَاضِ الشَّرِيفَةِ وَالْغَايَاتِ النَّبِيلَةِ، يُرْشِدُنَا النَّبِي صلى الله عليه وسلم إلى رِعَايَةِ الْوَلَدِ، وَصِيَانَتِهِ، وَشِدَّةِ مُرَاقَبَتِهِ، وَحِمَايَتِهِ فَهُوَ يَقُولُ:((مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلا عَلَى الْفِطْرَةِ الصَّحِيحَةِ الإسلاميَّةِ، وَالْعَقِيدَةِ الْمَرْضِيَّة فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ)) .
الْمَعْنَى إِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَمَنْ تَغَيَّرَ عَن الْفِطْرَةِ الصَّحِيحَةِ وَمَالَ إلى الْعَقَائِدِ الْبَاطِلَةِ وَالآرَاءِ الْفَاسِدَةِ، وَالْمَذَاهِبِ الزَّايفَةِ كَانَ سَبَبُ تَغَيُّرِهِ أَنَّ أَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ بِتَعْلِيمِهِمَا إِيَّاهُ، وَتَرْغِيبِهِمَا فِيهِ، أَوْ.
وَنَحْوَ هَذِهِ الآيَةِ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا وَالآيَةُ الأُخْرَى وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ. وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.
(فَصْلٌ)
وقال في توجِيهَات دينية ومناصحات فيما يجب علي الراعي والرعية.
يا أيها المؤمنونَ المسئولون الكرام: إن المؤمن إذا أمعن الفكرة، وتلمس الحقيقةَ، وتجافَى عن التصنعِ والمغالطةِ.
عَلِمَ أن ما أصابَ المسلمينَ مِن تَدَهْوُرٍ وَانْهِيَارٍ، وَنَقْصٍ من أخلاق الدين الحنيف، وتعاليمهِ القيمةِ وسببهُ الوحيدُ.
وعَامِلُه المفردُ تفريطُ زعماءِ الأمة الإسلامية في تربيةِ الشبابِ والتراخي في جهادِ النفوسِ على ما يَجِبُ مِن مُعَانَاةِ النَّشْءِ:
…
وَيَنْشَأُ نَاشِئُ الْفِتْيَانِ مِنَّا
…
عَلَى مَا كَانَ عَوَّدَهُ أَبُوهُ
…
>?
????
???? ومَن هُم زعماءُ الأمةِ؟ نَعْنِي كُلُّ مَنْ يَلي أمرًا مِنْ أمور المسلمين بأمارةٍ أو إدارةٍ، أو يَشْغَلُ مَنْصِبَ تَعْلِيمٍ، أو تكون له كلمةٌ مَسْمُوعَةٌ.
إن أبناءَ المدارسِ في عمومِ البلادِ الإسلامية. هُمُ رجالُ المستقبلِ بَلْ هُمْ المسلمونَ المرجونَ لحملِ الدينِ وَحِمَايَتِهِ.
فإذا أنْهارَ كيانُ الدِّين في نُفُوسِهم، وتَلاشَى تَعْظِيمُ الشَّرِيعَةِ فِي قُلُوبهم، وجَهِلُوا مَا بَلَغَ هَذَا الدِّينُ العَظِيم بأهلِهِ دُنْيًا وَأُخْرَى في حالِ طُفُولَتِهم، وفَرَاغِ أذهانِهِم.
فكيفَ يكونُ الحالُ إِذَا شَبَّ أَبْنَاؤُنَا، وَهُمْ لا يَرَوْنَ وَلا يَسْمَعُونَ إلا دُعَاةَ الاستعمارِ، وَسَمَاسِرَةَ الغربِ قَوْلاً وَعَمَلاً يَتَشَدَّقُونَ بِتَضْخِيم الْغَرْبِ، وَتَعْظِيم رِجَالِهِ، وَينخَرِطُونَ فِي هُوَّةِ تَقْلِيدِهِم.
فَيَفْعَلُ هؤلاءِ، وَيَتَغَافَلُ أولئكَ عن مآثِرَ هِيَ الْمُثُلُ الْعُلْيَا فِي رُقِيّ الْبَشَرَ، قِدْمًا في حَيَاتِهِ الهَنِيئَةِ المُوصِلَة إلى حَيَاتِهِ الأَبَدِيَّةِ فِي جِوَارِ خَالِقِهِ الْكَرِيم.
إِن تِلْكَ المآثِرَ الَّتِي جَلَّتْ عن الْخَفَاء، وَشَهَدَتْ بِهَا الأَعْدَاءُ، وَظَهَرَتْ ظُهُورَ الشَّمْسِ في الملأ لتُبَرْهِنُ على مجد أبنائها.
أولئكَ السادةُ آباؤنا الكرام وسَلَفُنَا الصالِحُ، الذين خَالَطَتْ بَشَاشَةُ الإيمان قُلُوبَهم، وامتَزَجَتْ عَقَائِدُ الدِّينِ بِنُفُوسِهم، وَانْطَبَعَتْ آدابُه وَتَعَاليمُه في أخلاقِهم.
فَمَثَّلُوه عَمَلاً، وَدَعَوْا إِلَيْهِ فِعْلاً قَبْلَ دُعَائِهِمْ إِلَيْهِ قَوْلاً، وَطَبَّقُوا قَوَانِينَهُ وَأَنْظِمَتَهُ حُكُومَاتٍ وَشُعُوبًا وَأَفْرَادًا.
أولئكَ الذين اسْتَرْخَصُوا مُهَجَهُم في سَبيلِ إعْزَازِهِ، وَضَحُّوا بأمْوَالِهِمْ وَأَوْلادِهِمِ وَأَوْطَانِهِمْ فِي حِمَى حَوْزَتِهِ، والذب عن كِيانِهِ:
…
هُمُ الَّذِينَ رَعَوا لِلدِّينِ حُرْمَتَهُ
…
لِلدِّينِ عِنْدَهُمْ جَاهٌ وَمِقْدَارُ
…
>?
????
???? عَظُمَ أَمْرُ الدِّينِ في قُلُوبِهِمْ فَلَمْ يُشَارِكْهُ وَطَنٌ وَلا عَشِيرَةِ. بِهِ وَحْدهُ قَامُوا وبهم قامَ وَلَهُ قَاتَلوا، وَفِيهِ أَحَبُوا وَأَبْغَضُوا ولِشَعَائِرِهِ عَظَّمُوا، وَعِنْدَ حُدُودِهِ وَقَفُوا، وَبِأَوَامِرِه امْتَثَلُوا.
فَامْتَطَوا به هَامَ العَالَمِ حِينَ حَمَلُوهُ، وَأَصْبَحُوا بِهِ مَضْرَبَ الأمثالِ في العِز إذ مَثَّلُوه.
لم تَسْتَعْبِدْهُم الدُّنيا، ولم تُسَيْطِرْ عَلَى نُفُوسِهِمْ شَهوةٌ ذَاتِيَّةٌ، ولم تَمْلِكْهُم الأَعْرَاضُ الشَّخْصِيَّةِ.
ولم يَحْمِلْهُم حُبُّ الانتصارِ عَلَى الظُّلْمِ المُدَمِّرِ، ولم يَثْنِهِمْ حُبُّ الوطَنِ عن الْهِجْرَةِ إليه:
…
سِيرُوا كَمَا سَارُوا لِتَجْنُوا مَا جَنُوا
…
لا يَحْصُدُ الْحُبَّ سِوَى الزَّراع
…
>?
????
???? إنَّ مَحْضَ النُّصْحِ لَيُحَتِّمُ التَّصريح بأن ما حَلَّ بالأُمَّةِ الإسلامية إنما يَتَحمل تبعته كاهلان، ويَتَقَلَّدُ مَسؤوليته عُنُقَان: أُمَرَاءُ الأُمَّةِ، وعُلَمَاءُ الدِّينِ.
أُولئكَ الَّذِين أَوْجَبَ الله لَهُم السمعَ والطاعةَ، وأُخَذَ عَليهم العهدَ والميثاقَ.
فَإِذَا قَامَ العلماءُ بِنَشْرِ تَعَالِيمِ الدِّين، وَتَجْلِيَتِهِ بالأعمال في مَظْهَرِهِ الْحَقِيقِي، وَرَوْنَقِهِ البَاهِرِ.
وَقَامَ الأُمَرَاءُ بِتَطْبِيق أَنْظِمَتِهِ الْكَرِيمةِ، وَتَنْفِيذِ أَوَامِرِهِ الْقَيِّمَةِ، والاستفادَةِ بإرْشادَاتِهِ السَّاطِعَةِ.
وتَحَقَّقُوا بِوَصْفِ الله لِخُلَفَائِهِ في أَرْضِهِ: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي
الأرض أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} .
وأَسْنَدُوا الأُمُورَ إلى أَكْفَائِهَا عَمَلاً بِقَوْلِهِ تَعَالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} وَتَصَوَّرُوا مَسْؤُلِيتَهُم الْمُحَقَّقَةِ بِأَخْبَارِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ ?: ((كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)) .
فاجْتَهِدُوا حَسَبَ الإِمْكَانِ في اخْتِيَارِ الْمُعَلِّمِينَ في مَعَاهِدِهِمْ وَمَدَارِسِهِمْ الدِّينِيَّةِ، وَتَعَهُدِهِمْ بالمراقبةِ الحَقَّةِ الْمُكَافَحِةِ لاتخاذِ التَّعْلِيمِ مَكْسبًا مَحْضًا لا أمانةً وَدِينًا.
(إن هذا العِلمَ دِينٌ فَانْظُروا مَنْ تأخذونَ دِينكُم عنه) فَمَنْ خَالَفَ قَوْلُهُ عَمَلَهُ لا يَحِلُّ أَن يُوَلَّى أَمَانَةَ التَّعْلِيم، ولا يَصْلُحُ لِرعَايَةِ أَوْلادِ المسلمين. بل يَجِبُ عليه إصْلاحُ حَالِهِ أَولاً كما قِيل:
- فابْدأْ بنفسك فانْهَهَا عَنْ غَيِّها -
ومِن المحالِ أن يَنْطَبِعَ في قَلْبِ مُتَعَلِّمٍ ما لَيْسَ مِن صِفَةِ مُعَلِّمِهِ.
إن القولَ المجردَ عن العملِ لا أثرَ لَهُ ضَرَرُهُ أَكْثَرُ مِنْ نَفْعِهِ، لأَنَّ الْمُتَعَلِّمَ إِذَا رَأَى تَعَالِيمَ الإسلام عِنْدَ مُعَلِّمِهِ صُورَةً مُجَرَدَةً عَن العملِ اعتقدَ بِحُكْْمِ طُفُولَتِهِ وَبِجَهْلِهِ بَادِئ الأَمْرِ أن الْعِلْمَ مَقْصُودٌ لِنَفْسِهِ، لا لِلْعَمَلِ به فلم يَرْضَ نَفْسَهُ على الْعَمَلَ بِعِلْمِهِ.
وَبِهَذَا تَعْظُم مُصِيبتُهُ في مُسْتَقبلِ أمره. فَيَجِبُ أَنْ يَتَجَافَى المسْئولُونَ في مَعَاهِدِهِمْ وَمَدَارِسِهم الدِّينِيَّةِ عن الَّذِينَ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُون، وَيُظْهِرُونَ مَا لا يُبْطِنُونَ. أُوَلئِكَ الَّذِين مَقَّتَهُمْ الله تعالى:
وفي الحديث: ((أَخْوَفَ ما أخافَ على أُمَّتِي كُلَّ منافِقِ عَلِيمِ اللسان)) .
وفي شَرْحِ ابن رَجَبَ على حديث: ((أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ)) . .... الخ رُوِيَ عن عمر رضي الله عنه أنه قَالَ على المنبر: إن أخوفَ ما أخافُ عليكم المُنَافِقَ العليم. قِيلَ كَيْفَ يَكُونُ الْمُنَافِقُ عَلِيمًا؟ قَالَ: يَتَكَلَّمُ بالحكمةِ ويَعْمَلُ بالجورِ أو قَالَ المنكر.
ولا نَلْتَمِسْ من المسُئولينَ التَّفْتِيشَ عن البَاطِنَ، وَتَتبعَ السَّرَائِرَ، فإننا لم نُؤْمَر بِذَلِكَ، وَيَكْفِي المجاهرةُ بمخالفةِ الأعمالِ الظَّاهرَةِ للتعاليم المرسومةِ.
فإن وَفَّقَنَا الله للقيام بالواجب، وأرجوا أن يكون آن لنا ذلك.
وبذلكَ نكون قد تلافينا الخلل، وعالجنا الداء ووضعنا الهناء موضع النقب:
…
فَيَا مَعْشَرَ الْحُكَّامِ مِن كُلِّ مُسْلِمٍ
…
بِنَا فَانْهَضُوا نَحْوَ المَعَالي وَشَمِّرُوا
…
????
????
…
لِنَعْمُرَ مَجْدًا قَدْ بَنَتْهُ سَرَاتُنا
…
فَأعْلَوْا وَعَنْ كُلِّ النَّقَائِصَ سَوَّرُوا
…
????
????
…
وَسِيرُوا بِنَا نَفْقُوا شَرِيعَةَ أَحْمَدٍ
…
نَبِيّ أَتَى بِالْعَدْلِ وَالْبِرِّ يَأْمُرُ
…
????
????
…
وَخَافُوا إلَهَ الْعَرْشِ في هَضْمِ أُمَّةٍ
…
لَهَا نَبَأْ في الذِّكْرِ يُتْلَى وَيُذْكَرُ
…
????
????
…
وَمَا الْهَضْمُ إلا أَنْ تُضَامَ شُعُوبُكُم
…
وَمَا الْعُذْرُ عِنْدَ اللهِ أَنْ تَتَأَخَّرُوا
…
????
????
…
فَسِيرُوا بِهَا نَحْوَ الإِمَامِ نَسُرُّكُمْ
…
فَلَيْسَتْ جُنُودًا بِلْ هِيَ الأُسْدُ تَزْأَرُ
…
????
????
…
إِذَا أُوتِيَ الرَّاعُونَ حُسْنَ قِيَادَةٍ
…
وَصِدْقًا فَإِنَّ الْجُنْدَ جُنْدٌ مُظَفَّرُ
…
????
????
…
فَمَا نَهَضَ الْكَابُونَ فَضْلاً وَإِنَّمَا
…
رَأَوْنَا نِيَامًا ثُمَّ قَامُوا وَزَمَّرُوا
…
????
????
…
وَقَدْ جَاءَ فِي التَّنْزِيلِ وَعْدًا مُحَقَّقًا
…
بِأَنَّكُمْ إِنْ تَنْصُروا اللهَ تُنْصَرُوا
…
????
????
…
وَهَلْ نَصْرُهُ إِلا إتباعُ كِتَابِهِ
…
وَتَحْكِيمُ مَا قَالَ الرَّسُولُ المُطَهَّرُ
…
????
????
…
فَيَا قَادَةَ الدِّينِ الْحَنِيفِ تَنَاصَرُوا
…
وَخَلُّوا أُمُورًا عَنْ عُلاكُمْ تُقْهْقِرُ
…
>?
????
????
.. فَمَا الْعِزُّ إِلا في اجْتِمَاعِ سَرَاتِكُمْ
…
وَأَنْ تَتَوَاصَوْا بِالضِّعَافِ وَتُؤْثَرُوا
…
????
????
…
وَلا تَسْلَمُوا أَبْنَاءَ دِينٍ مُقَدَّسٍ
…
لِكُلِّ غَبِيٍّ بِالْقَبَائِحِ يَجْهَرُ
…
????
????
…
وَمَجْهُولِ حَالٍ قَدْ رَأَى الْعِلْمَ صَنْعَةً
…
وَيَكْفِيهِ مِنْهُ أَنْ يُقَالَ مُحَرَّرُ
…
????
????
…
فَمَنْ يَا أَبَاةَ الضَّيْمِ لِلدِّينِ بَعْدَكُمْ
…
وَمَنْ لِلشَّبَابِ النَّاشِئِينَ يُبْصِّرُ
…
????
????
…
تَجَافُوا عَنِ الْجَافِينِ فِي كُلِّ مَعْهَدٍِِ
…
وَمَدْرَسَةٍ فِيهَا الْمَعَارِفُ تُنْشَرُ
…
????
????
…
كَذَاكَ عَن الْغَالِينَ وَابْغُوا أَفَاضِلاً
…
فَضَائِلَهُمْ فِي النَّاشِئِينَ تُؤْثَرُ
…
????
????
…
فَمَرَآةُ أَخْلاقِ الْمُعَلِّمِ طِفْلُهُ
…
وَمَا فِيهِ فِي تِلْمِيذِهِ لَكَ يَظْهَرُ
…
????
????
…
فَأَوْلُوهُم منكم رِقَابَةَ مُخْلِصٍ
…
تُمَحِّصُ مِنْ أَخْلاقِهِمْ وَتُطَهِّرُ
…
????
????
…
فَمَهْمَا اسْتَقَمْتُمْ تَسْتَقِيمُ شُعُوبُكُمْ
…
وَإِنْ تُبْصِرُوا أَنْتُمْ فَكُلٌ سَيُبْصَرُ
…
>?
????
???? اللَّهُمَّ يَا عَالَم الخَفياتِ وَيَا سَامِعَ الأَصْوَاتِ وَيَا بَاعِثَ الأَمْواتِ وَيَا مُجِيبَ الدَّعَوَاتِ وَيَا قَاضِي الحَاجَاتِ يَا خَالَق الأرض وَالسَّمَاوَاتِ أَنْتَ اللهُ الأحدُ الصمدُ الذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد، الوَهَّابُ الذي لا يَبْخَلُ وَالحِليمُ الذي لا يَعْجَلُ، لا رَادَّ لأمْركَ وَلا مُعَقِّبَ لِحُكَمِكَ، نَسْأَلَكَ أَنْ تَغفرَ ذُنوبَنَا وَتُنَورَ قلوبنَا وَتُثَبِّتَ مَحَبَّتَكَ فِي قُلُوبِنَا وَتُسْكِنَنَا دَارَ كَرَامَتِكَ إِنك عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ يَحْتَوِي عَلَى آدَابِ وَمَوَاعِظَ وَنَصَائِحَ وَأَخْلاقٍ فَاضِلَةَ)
وَاعْلَمْ أَنَّ وقَايَةَ الأَنْفُس بِالْزَامِهَا أَوَامِرَ اللهِ امْتِثَالاً وَنَوَاهِيهِ اجْتِنَابًا وَالتَّوْبَةُ عَمَّا يُسْخِطُ اللهِ، وَيُوجِبُ الْعَذَابَ.
وَوِقَايَةِ الأَهْلِ وَالأَوْلادَ بِتَأْدِيبِهِمْ وَتَعْلِيمِهِمْ وَإِلْزَامِهِمْ عَلَى أَمْرِ اللهِ فَلا يَسْلَمُ الْعَبْدُ إِلا إِذَا قَامَ بِأَمْرِ اللهِ بِهِ فِي نَفْسِهِ وَفِيمَنْ تَحْتَ ولايَتِهِ وَتَصَرفِهِ.
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَر قَالَ حِينَ نَزَلَتْ الآية الآتية بعد سطرين: يَا رَسُولَ اللهِ نَقِي أَنْفُسَنَا فَكَيْفَ لَنَا بِأَهْلِينَا فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: ((تَنْهَوْنَهُنَّ عَمَّا نَهَاكُم اللهُ عَنْهُ وَتَأْمُرُونَهُنَّ بِمَا أَمَرَكُمْ اللهُ بِهِ فَيَكُونَ ذَلِكَ وِقَايَةٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّارِ)) .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَعْدَ سِيَاقِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} وَحَدِيثُ: ((كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ)) .
إِنَّ تَرْبِيَةَ الأَوْلاد وَتَعْلِيمَهُمْ لأَمْرٌ عَظِيمٌ لَهُ شَأْنُهُ الأَكْبَر وَخَطَرُهُ الْجَسِيمُ فِي حَيَاتَنَا الدِّينِيَّةِ وَالاجْتِمَاعِيَّةِ، وَالْخُلُقِيَّةِ، فَهُمْ قُوَى الْمُجْتَمَعِ الْمُنْتَظَر وَدَعَائِمِه الَّتِي سَيَقُومُ عَلَيْهَا، وَعَلَيْهِمْ وَحْدَهُم يَتَوَقَّفُ رُقِيُّ الأٌمَّةِ الْحَقِيقِيّ وَنُمُوُّهَا وَتَقَدُّمُهَا.
وَإِنَّ أَمَامَهُمْ لَخَطَرٌ عَظِيمٌ وَغَزْوٌ هَائِلٌ مُتَسَتِّرٌ بِبَعْضِ الثَّقَافَاتِ لِهَدْمِ عَقَائِدِهِمْ وَفَسَادِ أَخْلاقِهِمْ، وَانْتِزَاعِ رُوح الإبَاءِ وَالْغِيرَةِ وَالْعَفَافِ مِنْ نُفُوسِهِمْ، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللهِ.
وَإِنَّ مُشْكِلَتَهُمْ الْيَوْمَ لَهِيَ أُمُّ الْمَشَاكِل فَلأَنْ نَخْسَرَ الأَمْوَالَ وَالأَنْفُسَ أَيْسَرُ وَأَهْوَنُ مِنْ أَنْ نَخْسَرَ رُوحَ نَشْئِنَا الْمَعْنَوِيَّةِ، وَعَقَائِدَهُمْ السَّلَفِيَّةِ، فَيَجِبُ أَنْ نَسْعَى فِي حِيَاطَتِهِمْ بِسِيَاجِ الدِّينِ وَأَنْ نَغْرِسَ فِي نُفُوسِهِمْ أَوَّلاً وَقَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ احْتِرَامَ الإسلام، وَحُبَّ تَعَالِيمِهِ، وَآدَابِهِ قَوْلاً وَعَمَلاً وَاعْتِقَادًا.
يَجِبُ أَنْ يَعْتَنِي بِذَلِكَ الإبَاءُ وَالْمُصْلِحُونَ يَجِبُ أَنْ لا يُوكَلَ تَرْبِيتُهم وَتَعْلِيمُهُمْ وَتَهْذِيبُهُمْ وَالإِشْرَافُ عَلَيْهِمْ إِلا لِمَنْ عُرِفَ بِصِحَّةِ الْعَقِيدَةِ وَسَلامَةِ الْمَبْدَأَ وَنَزَاهَةِ الْعِرْضِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى شَعَائِر الدِّينِ وَأَرْكَانِهِ فَمَا أَنْتُمْ إِلا بِاللهِ ثُمَّ بِنَشْئِكُمْ وَمَا النَّشْئُ إِلا بِاللهِ ثُمَّ بِالدِّينِ وَالأَخْلاقِ.
…
وَإِنَّمَا الأُمَمُ الأَخْلاقُ مَا بَقِيَتْ
…
فَإِنْ هُمُ ذَهَبَتْ أَخْلاقُهُمْ ذَهَبُوا
…
>?
????
????
آخر:
…
إِذَا اسْتَحَالَتْ سجايا القوم فاسدة
…
فَلَيْسَ يَنْفَعُهم عِلْمٌ ولا عَمَلٌ
…
>?
????
????وَيَقُولُ الآخَرُ:
…
صَلاحُ أَمْرِكَ لِلأَخْلاقِ مَرْجعُهُ
…
فَقَوِّمِ النَّفْسَ بِالأَخْلاقِ تَسْتَقِمِ
…
>?
????
???? وَمَا الأَخْلاقُ إِلا بِالتَّرْبِيَةِ الإسلامية الصَّحِيحَةِ فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ فِي ثَمَرَاتِ قُلُوبِكُمْ وَفَلَذَاتِ أَكْبَادِكُمْ لا تُهْمِلُوا تَربِيَتُهُمْ التَّرْبِيَةَ الإسلامية، وَلا تَتَسَاهَلُوا بِهَا فَاتَّقُوا اللهَ عباد الله فَقَدْ أُلْقِيَتْ إِلَيْكُمْ مَقَالَيِدُهُمْ، وَأَصْبَحْتُمْ رُعَاةَ أُمُورِهِمْ، وَلا تَكِلُوا إلى حَاضِنَةٍ وَلا مُرَبِّيَةٍ وَلا إلى مُعَلِّمٍ لَمْ تَتَأَكَّدُوا صِحَّةَ إِسْلامِهِ.
فَإِنَّهُمْ وُلِدُوا أَصْفِيَاءَ النُّفُوسِ قَابِلِينَ لِكُلِّ مَا أُلْقِيَ عَلَيْهِمْ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، فَإِنْ وُفِّقَ أَحَدُهُمْ فِيمَنْ يُحْسِنُ تَرْبِيَتَهُ وَتَعْلِيمَهُ وَيغذبه بلِبَانِ الدِّينِ، وَيُحَبِّبُهُ لِسِيرَةِ سَيِِّدِ الْمُرْسَِلينَ، شَبَّ حَسَنَ الأَخْلاقِ طَيِّبَ النَّفْسِ، مُتَمَسِّكًا بِدِينِهِ، مُبْتَعِدًا عَن الرَّذَائِلِ، وَمُتَحَلِّيًا بِالْفَضَائِلَ، نَافِعًا لِلأُمَّةِ.
وَإِلا فَسَيَشِبُّ خَبِيثَ النَّفْسِ فَاسِدَ الاعْتِقَادِ سَيِّءَ الأَخْلاقِ خَالٍ مِنْ الرُّوحِ الإسلامية وَالتَّعَالِيمِ النَّبَوِيَّةِ كلاً عَلَى نَفْسِهِ وَعَشِيرَتِهِ وَشَقَاءَ وَشَرًّا عَلَى مُجْتَمَعِهِ، وَبَلاءً.
فَاتَّقُوا اللهَ عباد الله فِي أَوْلادِكُمْ بَاعِدُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ قُرَنَاءِ السُّوءِ وَفَاسِدِي الأَخْلاقِ وَفَاقِدِي الْمُرُوءَةِ وَالشَّرَفِ، وَمُرُوهُمْ بِمَا أُمِرْتُمْ بِهِ، قَالَ اللهُ تَعَالى:{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} وَأَخْبَرَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ فَقَالَ: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ} الآيَةِ وَقَالَ حِكَايَةً عَنْ لُقْمَانَ وَهُوَ يُوصِي ابْنَهُ: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} .
وَانْهُوهُمْ عَمَّا يَضُرُّهُمْ كَمَا أَخْبَرَ اللهُ عَنْ لُقْمَانَ بَعْدَ مَا أَمَرَ ابْنَهُ بِأَشْيَاءَ نَهَاهُ
عَنْ أَشْيَاءَ فَقَالَ: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} .
وَذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ آدَابًا نَحْوَ الصبي إذا بَلَغَ سِنَّ التَّمِييزِ فَقَالَ رحمه الله: وَمَهْمَا بدت من الصّبي مخايل التمييز فينبغي أن يُحْسَنَ مُرَاقَبَتَهُ ومطالعةُ أحواله فإذا ظهرت في وجهه أنوار الحياء وكان يَحْتَشِم ويَستحي مِن بعضِ الأفعالِ حتى يَراها قبِيحة.
فهذه هدايَةٌ مِن الله تعالى إليه وبشارة تَدُلُّ على اعتدالِ الأَخلاقِ وصفاءِ القلبِ.
وَمِنْ هَذِهِ حَالهُ فَهُوَ مُبَشَّر بكمال العقلِ عند البلوغِ.
فَيَنَبْغِي أن لا يُهْمَلَ عن رِعَايَةِ الاعتناءِ في حقّه بِحُسْن الأَدبِ.
وَجُمْلَةُ ما نُشِيرُ إليه ممَّا يُعَامَلُ به من الآدابِ وَاحدٌ وثلاثون أَدَبًا.
الأَدَبُ الأَوَّلُ: هُوَ أَنَّ الْغَالِبَ على الأطفال الشّرَهُ في الطعامِ فَيَنْبَغِي أن يُؤَدَّبَ فيه فلا يأْكلُ الطَّعَامَ إلا بِيَمِينِهِ.
ويقولُ بسم اللهِ عند أَكْلِهِ وَليَأْكُلْ مِمَّا يَلِيهِ.
ولا يُبَادِرُ إلى الطَّعَامِ قَبْلَ غَيْرِهِ.
قَالَ الشاعر:
…
وَإِن مُدَّتِ الأَيْدِي إلى الزَّادِ لَمْ أَكُنْ
…
بِأَعْجَلِهِمْ إِذْ أَجْشَعُ الْقَوْمِ أَعْجَلُ
…
>?
????
???? ولا يُحَدِّق إلى الطعام وإلى مَنْ يَأْكُله فإنَّ هَذِهِ دَلِيلٌ على البُخل.
الأَدَبُ الثَّانِي: يُؤْمَرُ أَنْ لا يُسْرَعَ فِي الأَكْلِ، وَيَمْضَغَ الطَّعَامَ مَضْغًا جَيِّدًا وَلا يُوَالي بَيْنَ الأَكَلاتِ وَيُلَطِّفُ اللُّقْمَةَ وَلا يُلطِّخُ أَثْوَابَهُ.
الأَدَبُ الثَّالِثُ: يُعَوَّدَ أَكْلَ الْخُبْزِ مِنْ غَيْرِ الإِدَامِ فِي بَعْضِ الأَوْقَاتِ
حَتَّى يَصِيرُ بِحَيْثُ لا يَرى الإِدَامَ حَتْمًا وَاجِبًا لأَنَّهُ رُبَّمَا فَقَدَهُ.
وَيُقَبَّحُ عِنْدَهُ كَثْرَةُ الأَكْلِ بِأَنْ يُشَبِّهُ مَنْ يُكْثِرُ الأَكْلَ بِالْبَهَائِمِ.
وَيُذَمُّ الصَّبِيُّ الَّذِي يُكْثِرُ الأَكْلَ عِنْدَهُ وَيُمْدَحُ الصَّبِيُّ الْقَلِيلُ الأَكْلِ حَتَّى يَقْتَدِي بِذَلِكَ لِئلا يَصِيرَ شَرَهًا لا يَهُمَّه إلا بَطْنُه.
الأَدَبُ الرَّابِعَ: يُحَبَّبُ إِلَيْهِ الإِيثَار بالطعامِ وَقِلَّةِ الْمُبَالاةِ، وَيُمْدَحُ عِنْدَهُ الطَّعَامِ الَّذِي فِيهِ خُشُونَةٌ أَيَّ طَعَامٍ كَانَ بِحَيْثُ لا يَكُونُ مُولَعًا بِالطَّعَامِ اللَّيِّنِ فَيَصْعُبُ عَلَيْهِ مُفَارَقَتُهُ.
الأَدَبُ الْخَامِسُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ لِبَاسَهُ مِن الثِّيَابِ الْبِيضِ دُونَ الثِّيَابِ الْمُلوَّنَةِ بِالصِّبَاغَاتِ الْمُزَغْفَرَةِ والمعصفرة وَأَنْوَاعِ الدِّيبَاجِ وَالأَبريسمِ.
وَيُقَرَّرُ عِنْدَهُ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ لِبَاسِ النِّسْوَانِ وَالرِّجَالِ الَّذِينِ لا خَيْرَ فِيهِمْ وَلا دِينَ لَهُمْ وَأَنَّ الرِّجَالَ يستنكفون عن ذلك.
الأَدَبُ السَّادِسُ: أَنَّهُ مَهْمَا رَأَى عَلَى صبي ثَوْبًا مِنْ دِيبَاجٍ أَوْ حَرِيرٍ أَوْ أَبريسَم فينبغي أَن يُنْكَرَ عَلَيْهِ فَيُذَمَّ عَلَى لُبْسِهِ وَيُزَالَ عَنْهُ بِكُلِّ حَالٍ وَلا يُغْتَفَرُ لَهُ ذَلِكَ وَيُذَمُّ عنده إسْبَال الثِّياب لِيَعْتَادَ عَدَمَ الإسبال.
الأَدَبُ السَّابِعُ: يَنْبَغِي أَنْ يُحْفَظَ الصَّبِيُّ عَنْ الصِّبيان الذين عِوّدُوا التَّنَعمَ وَالتَّرَفّه وَلبسَ الثِّيَابِ الفَاخِرَةِ وَعَنْ مُخَالَطَةِ مَنْ يَرْغَبُ فيما ذكرناه.
فَإِنَّ الصَّبِي إِذَا أُهْمِلَ فِي أَولِ النَّشْأَةُ خَرَجَ فِي الأَغْلَبِ رَدِيّ الأَخْلاقِ كَذابًا حَسُودًا سَرُوقًا نَمَّامًا لَجُوجًا ذَا فُضُول وَمُجُون، وَإِنَّمَا يُحْفَظُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بِحُسْنِ الأَدَبِ.
الأَدَبُ الثَّامِنُ: ثم إِنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُشْغَل في المكتب يتعلّم القُرآن وَتَفْسِيرَهُ وأحاديثَ الرسول ? والفقه ويحرص على حفظ القُرْآن عن ظهر قلب وكذلك الأحاديث الصحيحة كالعمدة وكذلك مختصر المقنع أو دليل الطالب لأن الحفظ هو العلم فمن لم يحفظ لا يقدر على اسْتِخْرَاجِ المسائل غالبًا. والله أعلم.
ويَعْتَمِدُ في حفظ المواعظ الحسنة وأخبار الأبرار وحكاية أهل الصلاح في الزُّهدِ في الدُّنْيَا وَحُسْنِ الرِّيَاضَةِ لِلنَّفْسِ فَيَنْغَرِسُ في قلبِهِ حُبُّ الصَّالِحِينَ وَالإِقتداء بهم. قُلْتُ: ويحذر عن كُتبِ الأشاعرة والمعتزلة والرافضة وجميع أهل البدع.
الأَدَبُ التَّاسِعُ: يَنْبَغِي أَنْ يُحْفَظَ عن الأَشعارِ التي فيها ذكر الهجاء والعشَّاق ويُحْفَظ عن مُخَالَطَةِ مَن هذه حَالُه في إتِّبَاعِ الهوى فَإِنَّ ذَاكَ مَهْمَا انْغَرَسَ فِي قُلُوبِ الصّبيان فإنه يَبْذَرُ الْفَسَادَ في النُّفوس.
الأَدَبُ العاشر: أَنْ يُعَوَّدَ كتابةَ الْخَطِّ وَحِفْظَ الأَمثال الشعريّة والأشعار الزهدية فإن ذلك صفةُ كمالٍ وزينةٍ، وقد قَالَ أمير المؤمنين رضي الله عنه: عليكم بِحُسْنِ الخطِ فَإِنَّهُ مِنْ مفاتيح الرزق.
الأَدَبُ الْحَادِي عَشَرَ: إِذَا ظَهَرَ مِنْ جِهَةِ الصَّبي فِعْلٌ جَمِيلٌ وَخُلُقٌ حَسَنٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يُكْرَمَ عَلَيْهِ وَيُجَازَى بِمَا يَفْرَحُ بِهِ وَيُمْدَحُ بَيْنَ أَظْهر النَّاسِ.
فإن خَالَفَ ذَلِكَ في بعض الأَحوالِ مَرَّة واحدةً فَيَنْبَغِي أَنْ يُتَغَافَلَ عنه ولا يُهْتَكُ سِتْرُهُ في مَلأ مِن الْخَلقِ وَلا يُكَاشَفُ في َوْجِهِه وَيُظْهَرَ لَهُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لا يَتَجَاسَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ لاسِيَّمَا إِذَا سَتَرَهُ الصَّبِيُّ وَأَخْفَاهُ.
الأَدَبُ الثَّانِي عَشَرَ: أَنَّهُ إِنْ عَادَ إلى ذلك فَيَنْبَغِي أَنَّ يُعَاتَبَ سَرًّا وَيُعَظّمَ عليه الأمرُ وَيُقَالَ لَهُ إِيَّاكَ أَنْ يُطَّلَعَ عَلَيْكَ فِي مِثْلِ هَذَا فَتَفْتَضِحَ بَيْنَ النَّاسِ.
وَلا يُكْثَرُ عَلَيْهِ الْعِتَابُ فِي كُلِّ حِينٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يُهَوِّنُ سَمَاعَ الملامَةِ فِي حَقِّهِ وَيَسْقُطُ وَقْعُ الكلام في قَلْبِهِ.
الأَدَبُ الثَّالِثُ عَشَرَ: أَن يَكُونَ الأَبُّ حَافِظًا لِهَيْبَةِ الْكَلامِ مَعَهُ وَلا يُوَبِّخُهُ إِلا أَحْيَانًا، والأُمُّ تُخِّوُفه بِالأَبِ وَتَزْجُرُهُ عن الْقَبَائِحِ وَتُظْهِرُ لَهُ الْوَعِيدَ بِشِدَّةِ الأَب وَخَوْفِهِ مِنْهُ.
…
الأُمُّ مَدْرَسَةٌ إِذَا أَعْدَدْتَهَا
…
أَعْدَدْتَ شَعْبًا طَيّبَ الأَعْرَاقِ
…
????
????
…
الأُمُّ رَوْضٌ إِنْ تَعْهَدَهُ الْحَيَا
…
بِالدِّينِ أَوْرَق أَيَّمَا إِيرَاقِ
…
>?
????
????
الأَدَبُ الرَّابِعَ عَشَرَ: يَنْبَغِي أَنْ يُمْنَعَ مِن النَّوْمِ نَهَارًا فَإِنَّ ذَلِكَ يُورِثُ الْكَسَلَ فِي حَقِّهِ وَلا يُمْنَعُ مِنَ النَّوْمِ لَيْلاً لأَنَّ مَنَّعَهُ مِنَ النَّوْمِ فِي اللَّيْلِ يُورِثُ الْمَلالَةَ وَالتَّسخُنَ وَيُضْعِفُ عَنْ مُكَابَدَةِ النَّوْمِ وَشِدَّةِ النُّعَاسِ.
الأَدَبُ الْخَامِسَ عَشَرَ: يَنْبَغِي أَنْ يُمْنَعَ مِن اسْتِعْمَالِ الْفُرَشِ الْوَطِيةِ حَتَّى تَتَصَلَّبَ أَعْضَاؤُهُ وَيَسْتَخِفُ بَدَنُه فلا يَصْبِرُ عن التنعّمِ.
بَلْ يُعَوَّدُ الْخُشُونَةِ فِي الْمَلْبَسِ وَالْمَفْرَشِ وَالْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ. فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: ((إِيَّاكُمْ وَفُضُولَ الْمَطْعَمِ فَإِنَّهُ يَسِمُ الْقَلْبَ بِالْقَسْوَةِ)) .
الأَدَبُ السَّادِسَ عَشَرَ: يَنْبَغِي أَنْ يُمْنَعَ مِن كُلَّ مَا يَفْعَلُه في خُفْيَةٍ فَإِنَّهُ لا يُخْفِيهِ إِلا وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّ قَبِيحٌ فَيَدْعُو ذَلِكَ إلى أَنَّهُ يَتَعَوَّدُ فِعْلَ كُلِّ قَبِيحٍ.
الأَدَبُ السَّابِعُ عَشَرَ: يَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّد فِي بَعْضِ النَّهَارِ الْمَشْيَ فِي الْحَرَكَةِ وَالرِّيَاضَةِ حَتَّى لا يَغْلِب عليه الكسلُ ويَتَعَود الميلَ إليه.
وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَعْتَادُ الرَّمْيَ وَيُحِبُّهُ فَلا بَأْسَ بِشُغْلِهِ، وَهَكَذَا الْحَالُ فِي رُكُوبِ الْخَيْلِ فَقَدْ قَالَ ?:((ثَلاثَةٌ لا تُعَدُّ مِن اللَّهْوِ، لَهْو الإِنْسَانِ بِفَرَسِهِ وَلَهْوَهُ بِقُوسِهِ وَلَهْوَهُ بِأَهْلِهِ)) .
الأَدَبُ الثَّامِنَ عَشَرَ: يَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّد أَنْ لا يَكْشِفَ أَطْرَافَهُ وَلا يُسْرِعَ فِي الْمَشْيِ وَلا يُرْخِي يَدَيْهِ يُحَرِّكُهُمَا وَرَاءَهُ فِعْلَ الْمُتَبَخْتِرِ.
فَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللهِ ? عَنْ هَذِه الْمَشْيَةِ، وَهَكَذَا حَالُ التَّمَطُّطِ عِنْدَ الْمَشي مَكْرُوه أَيْضًا وَقَدْ نَهَى عَنْهُ.
الأَدَبُ التَّاسِعَ عَشَرَ: يَنْبَغِي أَنْ يُمْنَعَ مِن الافْتَخَارِ عَلَى أَقْرَانِهِ وَأَمْثَالِهِ بِشَيْءٍ مِمَّا يَمْلِكُه أَبَوَاهُ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ مَطَاعِمِهِ وَمَلابِسِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَيُعَوَّدُ التَّوَاضُعَ وَالإِكْرَامِ لِكُلِّ مَنْ عَاشَرَهُ مِن الصِّبْيَانِ وَيُلَطَفَ فِي الْكَلامِ مَعَهُمْ.
الأَدَبُ الْعُشْرُونَ: يُمْنَعُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى الصِّبْيَانِ مِنْ أَمْثَالِهِ شَيْئًا إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّرَفِ وَالرِّيَاسَةِ وَيُقَرَّرُ فِي نَفْسِهِ أَنَّ الأَخْذَ لَوْمٌ وَخِسَّةٌ وَنُزُولُ قَدْرٍ وَأَنَّ الإِعْطَاءِ كَرَمٌ وَشَرَفٌ.
وَإِنْ كَانَ مِن أَوْلادِ الْفُقَرَاءِ فَيُقَررُ فِي نَفْسِهِ أَنَّ الأَخْذَ طَمَعَ وَفِي الطَّمَعِ مَهَانَةٌ وَمَذَلَّةٌ وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ دَأْبِ الْكَلامِ فَإِنَّهُ يَتَذَلَّلُ فِي انْتِظَارِ لُقْمَةٍ.
الأَدَبُ الْحَادِي وَالْعُشْرُونَ: يَنْبَغِي أَنْ يُقَبحَ إلى الأَوْلادِ حُبَّ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالطَّمَعَ فِيهِمَا وَيُحَذَّرَ مِنْهُمَا أَكْثَرَ مِمَّا يُحَذَّرُ مِن الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ وَالسُّمُومِ.
فَإِنَّ آفَةَ حُبِّ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالطَّمَعِ فِيهِمَا أَكْثَرُ مِنْ آفَةِ السُّمُومِ عَلَى الصِّبْيَانِ بِلْ عَلَى الأَكَابِرَ مِنْ الْعُقَلاءِ، فَإِنَّ ضَرَرَ السُّمِّ يَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ وَضَرَرُ حُبِّهِمَا يَتَجَدَّدُ بَعْدَ الْمَوْتِ.
الأَدَبُ الثَّانِي وَالْعُشْرُونَ: يَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّدَ أَنْ لا يَبْصُقَ فِي الْمَجْلِسِ وَلا يَتَمَخَّط بِحَضْرَةِ غَيْرِهِ وَلا يَسْتَدْبِرِ غَيْرَهُ من الْمُسْلِمِينَ وَلا يُكْثِرَ التَّثَاؤب.
الأَدَبُ الثَّالِثُ وَالْعُشْرُونَ: يَنْبَغِي أَنْ يُعَلَّمَ كيفيةَ الْجُلُوسِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ عَلَى الأرض أَوْ نَاصِبًا قَدَمَهُ الْيَمِينَ وَاضِعَ الأُخْرَى عَلَى الأرض أَوْ يَقْعُدْ مُحْتَبِيًا بِيَدَيْهِ، هَكَذَا كَانَ رَسُولُ اللهِ ? يَفْعَلُ فِي أَكْثَرِ أَحْوَالِهِ.
الأَدَبُ الرَّابِعُ وَالْعُشْرُونَ: يَنْبَغِي أَنْ يُمْنَعَ مِنْ كَثْرَةِ الْكَلامِ إِلا مِنْ ذِكْرِ اللهِ وَيُبَيِّنَ لَهُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَمَارَةِ الْوَقَاحَةِ وَأَنَّهُ عَادَةَ أَبْنَاءِ اللِّئَامِ وَأَوْلادِ السَّفَلَةِ مِنَ النَّاسِ لِيَنْزَجِرَ عَنْ ذَلِكَ وَيَمْتَنِعَ مِنْهُ. وَاللهُ أَعْلَمُ.
الأَدَبُ الْخَامِسَ وَالْعُشْرُونَ: يَنْبَغِي أَنْ يُمْنَعَ عَنِ الأَيْمَانِ صِدْقًا كَانَتْ أَوْ كَذِبًا حَتَّى لا يَتَعَوَّدَ ذَلِكَ فِي حَالِ الصِّغَرِ.
الأَدَبُ السَّادِسَ وَالْعُشْرُونَ: يُمْنَعَ مِنْ لَغْوِ الْكَلامِ وَفُحْشِهِ وَمِنْ اللَّعْنِ وَالسَّبِّ، وَمِنْ مُخَالَطَةِ مَنْ يَجْرِي عَلَى لِسَانِهِ مِثْلُ ذَلِكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ