الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
.. فَجُدَّا لِدَارٍ لا يَزُولُ نَعِيمُهَا
بِهَا الْحُسْنُ وَاللَّذَاتُ وَالْمُلْكُ وَالْبَقَا
وَلُقْيَا حِسَانٍ نَاعِمَاتٍ مُنَعَّمٌ
بِهِنَّ سَعِيدٌ سَعْدَ ذَلِكَ مَنْ لَقَا
كَوَاعِبَ أَتْرَابٍ زَهَتْ فِي خِيَامِهَا
بِظِلٍّ نَعِيمٍ قَطُّ مَا مَسَّهَا شَقَا
كَدُرٍّ وَيَاقُوتٍ وَبَيْض نَعَامَةٍ
كَشَاهَا الْبَهَا وَالنُّورُ وَالْحُسْنُ رَوْنَقَا
تُغَنِّي بِمَا لَمْ تَسْمَع الْخَلْقُ مِثْلَهُ
وَقَدْ حَبَّرَتْ صَوْتًا رَخِيمًا مُشَوَّقَا
غِنَاهُنَّ نَحْنُ الْخَالِدَاتُ فَقَطُّ مَا
نَبِيدُ وَنَحْنُ النَّاعِمَاتُ فَلا شَقَا
وَلا سَخَطٌ وَالرَّاضِيَاتُ بِنَا الْمُنَى
فَطُوبَى لِمَنْ كُنَّا لَهُ مِنْ أُولِي التُّقَى
…
>?
وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد وآله وسلم.
فَصْلٌ
(في
ذِكْرِ بَعْضِ أَحْوالِ يَوْمِ القِيَامَةِ)
(والرَّدِّ عَلَى مَنْ َأَنْكَرَ يَوْمَ القِيَامَةِ)
عباد الله قَدْ سبق ذكر الموت وأحوال الميت في سكراته وفتنة القبر وسؤال مُنكر ونكير وعذاب القبر ونعيمه وخطر من كَانَ مسخوطًا عَلَيْهِ وأعظم من ذَلِكَ الأخطار التي بين يديه من نفخ الصور والبعث والنشور والعرض على الجبار والسؤال عن الدقيق والجليل ونصب الميزان لمعرفة المقادير.
ثُمَّ جواز الصراط مَعَ دقته وحدته ثُمَّ انتظار النداء عِنْدَ فصل الِقَضَاءِ إما بالإسعاد وإما بالأشقاء فهذه أحوال وأهوال لا بد من معرفتها ثُمَّ الإِيمَان بها على سبيل الجزم والتصديق ثُمَّ تطويل الفكر في ذَلِكَ الْيَوْم الَّذِي مقداره خمسون ألف سنة.
كما جَاءَ في اْلكِتَاب والسنة يجمَعَ الله فيه الأولين والآخرين في صعيد واحد يُسمعهم الداعي وينفذهُم البصر لا يغيب منهم أحد وتدنو مِنْهُمْ الشمس ويُلجمهم العرق هَذَا الْيَوْم هُوَ الْيَوْم الَّذِي تَذْهَلُ في كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ.
في ذَلِكَ الْيَوْم يبلغ الأَمْر من الحيرة والدهشة والاضطراب والذهول أن تذهل المرضعة عن ولدها الَّذِي فمُهُ في ثديها وَهُوَ أعز شَيْء لديها فَكَيْفَ بالذهول عما سواه وتسقط الحوامل من الفزع والرعب والروع ما في بطونها من الأجنة قبل التمام وَتَرَى النَّاسَ كأنهم سُكَارَى من شدة الروع والفزع والخوف الَّذِي صير من رآهم يشبههم بالسكارى لذهاب عقولهم من شدة الخوف كما يذهب عقل السكران من الشراب {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} تَكُون الأرض كالسَّفِينَة في البحر عِنْدَ اضطراب الأمواج تكفأ بأهلها.
فيميد النَّاس على ظهرها ويتساقطون من شدة الأَمْر وبلوغه أقصى الغايات ولهَذَا أذهل العقول وأذهب التمييز والفكر والصحو إنه يوم القيامة {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا} .
إنها لهزة عنيفة للقُلُوب الغافلة حيث ترجف الأرض الثابتة ارتجافًا وتزلزل زلزالا وتنفض ما في جوفها وتخَرَجَ ما يثقلها من أجساد ونقود وغيرها مِمَّا حملته طويلاً وَهُوَ مشهد يهزُ كُلّ شَيْء ثابت والأرض تهتز والسماء تمور.
إنه لمشهد مجرد تصوره، يخلع القُلُوب يري الإِنْسَان ما لا يعهد ويواجه ما لا يدرك ويشهد ما لا يملك الصبر أمامه ولا السكوت عَنْهُ {وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا} ما الَّذِي يزلزلها هكَذَا ويرجها رجًا.
وكأنه من شدة ما نزل يتمايل علي ظهر الأرض ويتشبث ويحاول أن يمسك بشَيْء لعله يثَبِّتْ لأن كُلّ ما حوله يمور مورًا شديدًا قَدْ امتلأ من الرعب والفزع والدهشة والعجب.
يرى الجبال وهي تسير وإذا الجبال سيرت، هذه الجبال وقَدْ نسفت وبست وراءها ذرات في الهواء {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً * فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثّاً} {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً} {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً}
هذه تصرح وتشير إلي حدث عَظِيم تتزلزل منه الجبال وتذهب هباء يتلاشى ثباتها ورسوخها واستقرارها وتماسكها والإِنْسَان ينظر ولا يكاد يلتقط أنفاسه {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ} .
هنا يشاهد ويواجه الحشر والحساب والوزن والجزاء ويقف جبريل عليه السلام والملائكة صفًا بين يدي الرحمن {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً بين يدي الرحمن {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ
النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ * يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَاّ بِإِذْنِهِ} ، {وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} .
وموقف هؤلاء المقربين خاشعين خاضعين لعظمة الله، {وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً} ، {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} .
موقفهم هكَذَا صامتين لا يتكلمون إِلا بإذن من الرحمن يلقي في النفس الرهبة والرعب والفزع من ذَلِكَ الْيَوْم العَظِيم الَّذِي ينكشف فيه كُلّ مستور ويعلم فيه كُلّ مجهول.
وتقف فيه النفس أمام ما أحضرت من الرصيد والزَادَ في موقف الفصل والحساب {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ} {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} ، {يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} ، {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} .
في ذَلِكَ الْيَوْم يكون التغير العَظِيم الشامل للمعهودات السماوات والأرض الشمس مُكورة والنجوم منكدرة والسماء مُنشقة والوحوش النافرة محشورة والأنعام والطيور والعشار مُعطلة. {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ * يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ} {إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَت} {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلاً} {فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} .
هذه الآيات وأمثالها تشير إلى ذلك الحادث الهائل في الكون كله ولا يعلم حقيقته إِلا الله إنه حادثٌ عَظِيم ترجُف الأرض منه وتخاف وتنهار فَكَيْفَ
بالخلق الضعاف المهازيل الَّذِينَ تهزهم الصواعق هزًا وتخلع قُلُوبهمْ خلعًا {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً * السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ} {يَوْمَ تَرْجُفُ الأرض وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً}
وفي وسط هَذَا الرعب والخوف والقلق والفزع والذهول والانقلاب يتساءل الإِنْسَان المذعور أين المفر ويدو ذَلِكَ في سؤاله وكأنما ينظر في كُلّ اتجاه فإذا هُوَ مسدود دونه مأخوذ عَلَيْهِ ولا ملجأ ولا محيص ولا منفذ ولا وقاية من قهر الله وأخذه، والرجعة إليه والمصير والمستقر عنده {كَلَّا لَا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأرض فَانفُذُوا} .
ففي هَذَا الموقف الرهيب يتبين عجز الخلائق وضعفهم وكمال سلطان الله وقدرته ونفوذ مشيئته {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} إِنَّكُم في قَبْضَةً الله {مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلَاّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} ، إنه ليوم عصيب وموقف رهيب {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرض إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} .
فلا مجال لهرب أحد ولا نسيان لأحد فعين الله على كُلّ فرد وكل فرد يقوم وحيدًا لا يأنس بأحد فإذا هُوَ فريد وحيدٌ أمام الديان. {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}
مشهد المرء يفر وينسلخ ويهرب من أقرب النَّاس إليه وألصقهم به أولئك الَّذِينَ تربطهم به وشائج وروابط لا تنفصم ولكن الصاخة والطامة تُمزَّق
هذه الروابط وتقطع الوشائج والصلات {فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ} .
فالهول يفزع النفس ويقلقها ويفصلها من محيطها ويستبد بها استبدادًا فلكل نَفْسهُ وشأنه ولديه الكفاية من الهم الْخَاص به الَّذِي لا يدع له فضلة من وعي أو جهد {لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ}
فها هِيَ ذي الساعة التي يغفل عَنْهَا الغافلون ويلهوا عَنْهَا اللاهْوَن وَيَسْتَعْجِلُ بِهَا المستعجلون {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ} {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ * وَلَمْ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاء وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ * وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الْآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} .
وهؤلاء المجرمون حائرين يائسين لا أمل في النجاة ولا رجَاءَ ولا خلاص بل قَدْ أيقنوا في العطب {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً} {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} .
هنا يعترفون بالخطيئة ويقرون بالحق الَّذِي جحدوه بالدُّنْيَا ويعلنون اليقين بما شكوا فيه ويطلبون العودة إلى الدُّنْيَا لإصلاح ما فات في الدُّنْيَا ومنظرهم إذ ذاك مُفزعٌ مخيفٌ وهم ناكسوا الرؤوس خجلاً وخزيًا.
فالأَمْر أمر فظيع والحال مزعجة أقومًا حاسرين مكروبين وسؤال غيرُ
مجاب لفوات وَقْت الإمهال {وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ} .
فيا عباد الله انتبهوا من رقدتكم واستدركوا بقية أعماركم واحذروا الانهماك في دار الغرور فالويل لكم إن أدرككم الموت وأنتم على هذه الحالة، زينتم الفُلل والقصور ونسيتم القبور، اذكروا القبر وظلمته ووحشته والموت وسكرته والميزان وخفته أو رجحته والكِتَاب وأخذته والصراط ودقته، والموت، وسكرة في سكرة وحيرة في حيرة وجذبة يا لها من جذبة وكربة يا لها من كربة فالمسكين يكابد غُصص المنون داهش العقل كالمحزون.
فالله الله عباد الله أفيقوا من سكراتكم وانتبهوا من نوماتكم واستيقظوا من غفلاتكم قبل مفاجأة المنية وحلول الرزية ووقوع البلية حيث لا مال ولا ولد نافع ولا حميم شافع ولا فرح واقع ولا رجَاءَ طامَعَ ولا حسنة تُزادُ ولا سيئة تُحذف ولا حياة تعاد ويزودك أحبابك بالحزن عَلَيْكَ والبُكَاء فلا عثرة تُقال ولا رجعة تُنال.
شِعْرًا:
…
أَلا إِنَّ أَيَّامَ الْحَيَاةِ مَرَاحِلُ
طَرِيق الْفَتَى مِنْهَا إِلَى الْمَوْتِ سَاحِلُ
يُسَرُّ بِمَا يَمْضِي لِمَا هُوَ آمِلٌ
وَيَأْتِي الرَّدَى مِنْ دُونِ مَا هُوَ أَمِلُ
وَمَا يَوْمُهُ إِلا غَرِيمٌ مُحْكَّمٌ
إِذَا مَا اقْتَضَاهُ نَفْسَهُ لا يُمَاطِلُ
…
>?
.. عَجِبْتُ لِمَنْ يَبْغِي السَّلامَةَ جَاهِدًا
وَمَرُّ اللَّيَالِي كُلُّهُنَّ غَوَائِلُ
وَنَحْنُ بَنُو الأَيَّامِ نَظْلِمْ نُفُوسَنَا
وَنَرْجِعُ وَهِيَ الْقَاتِلاتُ الثَّوَاكِلُ
…
>?
…
...
…
اللَّهُمَّ أقم علم الجهاد ووفقنا لسلوك طَرِيق الحق والرشاد، وأقمَعَ الكفر والزيغ والشر والفساد، وانصر دينك وانصر من نصره من العباد، وثَبِّتْ محبتك في قلوبنا وقوها، يا كريم يا جواد، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المسلمين بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
وتفكر في حالتهم في المحشر تجد مشهد مكروب ذليل يثير الفزع والخوف {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} .
هذه أبصارهم لا تطرف من الهول الَّذِي فوجئوا به يَقُولُونَ يَا ويلنا وَهُوَ تفجع وتوجع المفجوء الَّذِي تنكشف له الحَقِيقَة المروعة بغتة فيذهل ويشخص بصره فلا يطرف ويدعو بالويل والهلاك ويعترف ويندم ولكن بعد فوات الأوان.
إنها مشاهد يوم القيامة وما يجري فيه من تغيرات كونية ومن اضطرابات نفسية ومن حيرة وتحسر في مواجهة الأحداث وتحسر في مواجهة الأحداث الغالبة حيث يتجلى
الهول في صميم الكون وفي اغترار النفس وهي تروغ من هنا ومن هناك.
وكَذَلِكَ خروجهم من القبور ينبئ أنهم في كرب وشدة وأنهم أذلاء غير متمكنين من الاستعصاء على الداعي إذ هم يهرولون مقهورين مَعَ خشوع أبصارهم وذلتها لهول ما تحققوا من الْعَذَاب.
قَدْ ملك القلق والخوف قُلُوبهمْ واستولى على أفئدتهم وسكن حركاتهم وقطع أصواتهم تعلو وجوههم القترة لما أصابهم من الكآبة والحزن والهم العَظِيم الَّذِي لا يرجي له فرج {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ} {تَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ} {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ} .
إن هؤلاء الظالمين الطغاة كَانُوا في الدُّنْيَا متكبرين فناسب أن يكون الذل والصغار هُوَ مظهرهم البارز يوم القيامة الجزاء على الأعمال فعِنْدَ ما يشاهدون الحقائق ويرون الْعَذَاب تتهاوى كبرياؤهم وعظمتهم ويتساءلون في ذل وانكسار وخوف {هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ} .
في هذه العبارة التي يفهم منها اليأس مَعَ التلهف والانهيار مَعَ التطلع إلى أي بارقة للخلاص ويعرضون على النار خاشعين لا من ورع ولا تقوى ولا من حياء وخجل ولكن من الذل والهوان منكسي أعينهم من الذل والعار ينظرون من طرف خفي.
إنه لمنظر وَمَرْأً فظيعًا صعبًا شنيعًا مجرد تصوره يزعج ويقلق حيث يظهر منه الندم العَظِيم والحزن الطويل والأسف الشديد على ما سلف مِنْهُمْ من الإهمال والتفريط والتضييع الَّذِي لا يمكن تلافيه.
فيا أيها الغَافِل الساهي المهمل وكلنا كَذَلِكَ انتبه ومثل نفسك في هَذَا الْيَوْم العَظِيم الجامَعَ للأولين والآخرين فيا لعظم يوم يوجه السؤال فيه لمن قال الله جلا وعلا في حقهم: {وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} {وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ} {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} .
في ذَلِكَ الْيَوْم العصيب ينادون الخلائق واحدًا وَاحدًا يا فلان هَلُمَّ إلى العرض وعِنْدَ ذَلِكَ تنخلع القُلُوب وترتعد الفرائض وتضطرب الجوارح وتنبهت العقول وتتحير وييبس اللسان وتشخص الأبصار.
فما ظنك بمن يؤخذ بناصيته ويقاد وفؤاده مضطرب ولبه طائر وفرائضه ترتعد وجوارحه تنتفض ولونه متغير ولِسَانه وشفتاه قَدْ نشف ما بهما من رطوبة وقَدْ عض على يديه ولم يأكل ولم يشرب ولم ينم ولم يسترح ولم يجلس ولم يركب.
والعَالِم والجو عَلَيْهِ مظلم وضاقت عَلَيْهِ الأرض وصَارَت الدُّنْيَا أضيق من سم الخياط مملوء من الرعب والخجل من علام الغيوب والأولين والآخرين وأَهْل السماوات وأتى يتخطى رقاب النَّاس ويخترق الصفوف يقاد كما يقاد الفرس المجنوب وقَدْ رفع الخلائق إليه أبصارهم حتى انتهى به إلى عرش الرحمن فرموه من أيديهم.
وناداه الله سبحانه وتعالى فدنى بقلب محزون خائف وجل وطرف خاشع ذليل وفؤاده متحطم متكسر وأعطي كتابه الَّذِي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إِلا أحصاها.
فكم من فاحشة نسيها فتذكرها وَكَمْ من ساعة قتلها عِنْدَ منكر وَكَمْ من ليلة أضاعها عِنْدَ ملهى وَكَمْ من فلوس أنفقها في المعاصي وَكَمْ من صلاة ضيعها عِنْدَ ملهى وَكَمْ من زكاة تهاون بها وَكَمْ من صيام في الكذب والغيبة خرقه وَكَمْ من أعراض انتهكها وجلود مزقها وَكَمْ من جيران تأذوا بمجاورته وَكَمْ من بريء قذفه بالزنا واللواط وَكَمْ من محصنة قذفها واتهمها وَكَمْ من مُحصنة حاولها للفساد وَكَمْ من مخالط له أوقعه في المعاصي وَكَمْ من أرحام قطعهم وَكَمْ من مسلم غشه وَكَمْ من ساعة قتلها فيما يُغضب الله حول المنكرات وَكَمْ من زكاة تناساها وَكَمْ من صلاة أضاعها وأسدها.
وَكَمْ من حقوق لخلق الله نسيها أو تناسها ومن أسرار تسمعها لم يؤن له في ذَلِكَ وَكَمْ من محرم نظر إليه ومسلم جس عَلَيْهِ وأوقعه فأفزعه وأزعج أولاده وأحباءه وأثر به الفزع والهم إلى أن أباده وَكَمْ من رحلة إلى بلاد الكفر أقامها وأنفق فيها الأموال في المعاصي.
وَكَمْ من أعداء لله جالسهم ومازحهم وشاركهم وولاهم وداهنهم وَكَمْ من أَوْلِيَاء لله عاداهم وانتهك أعراضهم وَكَمْ من كفار والاهم وصادقهم ومدحهم وَكَمْ من عمل بالرياء أفسده {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} .
فليت شعري بأي قدم يقف بين يدي الله وبأي لسان يجيب وبأي قلب
يعقل ما يَقُولُ وبأي يد يتناول وبأي عين ينظر وبديع السماوات والأرض أمامه {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرض إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} .
إذا فهمت ما سبق من أحوال يوم القيامة وأدلته فاعْلَمْ أن أكثر خلق الله لم يدخل الإِيمَان بالْيَوْم الأخر في قُلُوبهمْ ولم يتمكن من سويداء أفئدتهم.
ويدل على ذَلِكَ استعداهم لبرد الشتاء وحر الصيف وتهاونهم بجهنم وزمهريرها وزقومها وحميمها وويلها وغساقها مَعَ ما يتبع ذَلِكَ من الشدائد والأهوال والكروب والقلاقل والمزعجات.
ولو كَانُوا مصدقين ما كَانُوا بهذه الحال، اللسان يصدق والْعَمَل يكذب إذا سئلوا عن الْيَوْم الآخر نطقت ألسنتهم وغفلت عَنْهُ قُلُوبهمْ.
ومن قدم له طعام وأخبر أنه مسموم فَقَالَ للذي أخبره صدقت فيه سم ثُمَّ مد يده يتناوله ليأكل كَانَ مصدقًا بلِسَانه ومكذبًا بفعله وتكذيب الْعَمَل أبلغ من تكذيب اللسان قال بَعْضهمْ:
شِعْرًا:
…
وَمُنْتَظِرٍ لِلْمَوْتِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ
يَشِيدُ وَيَبْنِي دَائِمًا وَيُحَصِّنُ
لَهُ حِينَ تَبْلُوهُ حَقِيقَةُ مُوقِنٌ
وَأَعْمَالُهُ أَعْمَالُ مَنْ لَيْسَ يُوقِنُ
عِيَانٌ كَإِنْكَارٍ وَكَالْجَهْلِ عِلْمُهُ
بِمَذْهَبِهِ فِي كُلِّ مَا يَتُيَقَّنُ
…
>?
آخر:
…
بَادِرْ شَبَابَكَ أَنْ تَهْرَمَا
…
وَصِحَّةَ جِسْمِكَ أَنْ تَسْقَمَا
…
????
????
…
وَأَيَّامَ عَيْشِكَ قَبْلَ الْمَمَاتِ
…
فَمَا قَصْرُ مَنْ عَاشَ أَنْ يَسْلَمَا
…
????
????
…
وَوَقْتُ فَرَاغِكَ بَادِرْ بِهِ
…
لَيَالِي شُغْلِكَ فِي بَعْضِ مَا
…
????
????آخر:
…
أَمِنْ بَعْدِ شَيْبٍ أَيُّهَا الرَّجُلُ الْكَهْلُ
…
جَهِلتَ وَمِنْكَ الْيَوْمَ لا يَحْسُنُ الْجَهْلُ
…
>?
????
????
.. تَحَكَّمَ شَيْبُ الرَّأْسِ فِيكَ وَإِنَّمَا
…
تَمِيلُ إِلَى الدُّنْيَا وَيَخْدَعُكَ الْمَطْلُ
…
????
????
…
دَعِ الْمَطْلَ وَالتَّسْوِيفَ إِنَّكَ مَيِّتٌ
…
وَبَادِرْ بِجِدٍّ لا يُخَالِطُهُ هَزْلُ
…
????
????
…
سَأَبْكِي زَمَانًا هَدَّنِي بِفُرَاقِهِ
…
فَلَيْسَ لِقَلْبِي عَنْ تَذَكُّرِهِ شُغْلُ
…
????
????
…
عَجِبْتُ لِقَلْبِي وَالْكَرَى إِذْ تَهَاجَرَا
…
وَقَدْ كَانَ قَبْلَ الْيَوْمِ بَيْنَهُمَا وَصْلُ
…
????
????
…
أَخَذْتُ لِنَفْسِي حَتْفَ نَفْسِي بِكَفِّهَا
…
وَأَثْقَلْتُ ظَهْرِي مِنْ ذُنُوبٍ لَهَا ثِقْلُ
…
????
????
…
وَبَارَزْتَ بِالْعِصْيَانِ رَبًّا مَهَيْمنًا
…
لَهُ الْمَنُّ وَالإِحْسَانُ وَالْجُودُ وَالْفَضْلُ
…
????
????
…
أَخَافُ وَأَرْجُو عَفْوَهُ وَعِقَابَهُ
…
وَأَعْلَمُ حَقًّا أَنَّهُ حَكَمٌ عَدْلُ
…
>?
????
???? (موعظة)
عباد الله إن من عباد الله من إذا أنعم الله عَلَيْهِ بمال كثير كانَتْ الحال عنده فوضى فلا تضع زوجتك ولا بناته أيديهم في دقيق ولا جليل من أعمال البيت فيجيء لهن بخدامين وسواقين وطباخين الواحد مِنْهُمْ في طول النخلة في منتهى العافية ولا يبعد أن يكون من الشباب الَّذِينَ يعجبون النساء جمالاً وَرُبَّمَا خلو في النساء وصَاحِب البيت من زوج أو غيره لاه في أمور دنياه أو في عمله لا يفكر فيما تفكر فيه النساء ولا فيما يفكر فيه الخادم أو السائق وكأن نساءه في اعتقاده معصومَاتَ ولا يدري أنه ما خلا رجل بامرأة إِلا وثالثهما الشيطان وأن النساء حبائل الشيطان وأنهن من أضر ما على الرجل وأن لذة الرجل عندهن ولذاتهن عنده لا يخالف في ذَلِكَ أحد إِلا معتوه أو نحوه فإذا رأت المرأة شابًا ولا ثالث لهما فلا يبعد أن تدعوه لذَلِكَ فما موقف هَذَا المغفل أمام بديع السماوات والأرض الَّذِي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
ولعل جواب هَذَا الجاهل أنه لا يدور في خلده أن امرأته تقدم على مثل هَذَا لأنها معصومة قولوا له أما سمعت بقصة امرأة العزيز اقرأها لعلك تأخذ حِذرك وتعلم أنه لا يسلم من فتنهن إِلا عباد الله المخلصين.
قولوا له تأمل الْقِصَّة لعلك تفهم أن الله جلا وعلا لم يذكرها في القرآن إِلا ليعتبر أولو الأبصار فيحترس الرِّجَال علي نسائهم من الخدم ونحوهم.
إن امرأة العزيز كانَتْ ذات مركز عَظِيم في مصر وكَانَ يوسف عليه الصلاة والسلام في بيتها كخادم لها ومَعَ ذَلِكَ لم تسأل عن شرفها وكرامتها ولا شرف زوجها بل داستهما بنعل الشهوة دوسًا ولم تتوقف في بذل كُلّ ما تستطيع من قوة وحيلة لإخضاع يوسف عليه السلام ولولا أن الله عصمه وصرف عَنْهُ السُّوء والفحشاء لوصلت إلى ما تريد قال تَعَالَى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} .
والفتنة الثَّانِيَة أنك تجد آخر يأتي بخدامة ويتخَيْر القوية الجميلة وبيته الواسع مملوء من العزاب أولاد وإِخْوَان وَرُبَّمَا خلو بها وَهُوَ أيضًا ربما خلا بها وَرُبَّمَا تَكُون أجمل من زوجته أو أولاده فلا تهمه تلك الناحية التي يعرفها بعض النساء الفاسقات ويستبعد ذَلِكَ من نسائه وأنه من المحال عنده فتنبهوا يا عباد الله ولا تستخدموا الشباب ولا الشابات من النساء وإِلا فقَدْ عرضتم أنفسكم للفتن والمشاكل والعقوبات. واحذروا استخدام الكافرين والكافرات.
فإن كَانَ لابد فاستخدموا الرِّجَال خارج البيوت واحذروا من اتصالهم بنسائكم وأما الخدامَاتَ فاحرصوا على كبيرة السن المتدنية غير الجميلة لتبتعدوا عن أسباب الشر والفساد وتطمئنوا على ما يأتيكم من أولاد أنهم من أصلابكم وإن أبيتم فالضَّرَر عائد عليكم دنيا وأخري.
شِعْرًا:
…
بَذَلْتُ لَهُمْ نُصْحِي بِمُنْعَرِجِ اللّوَا
…
فَلَمْ يَسْتَبِينُوا الرُّشْدَءِ الأضُحَى الْغَدِ
…
????
????
آخر:
…
أَتَيْتُكَ رَاجِيًا يَا ذَا الْجَلالِ
…
فَفَرِّجْ مَا تَرَى مِنْ سُوءِ حَالِي
…
????
????
…
عَصَيْتُكَ سَيِّدِي وَيْلِي بِجَهْلِي
…
وَعَيْبُ الذَّنْبِ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِي
…
????
????
…
إِلَى مَنْ يَشْتَكِي الْمَمْلُوكُ إِلا
…
إِلَى مَوْلاهُ يَا مَوْلَى الْمَوَالِي
…
????
????
…
فَوَيْلِي لَيْتَ أُمِّي لَمْ تَلِدْنِي
…
وَلا أَعْصِيكَ فِي ظُلَمِ اللَّيَالِي
…
>?
????
????
.. وَهَا أَنَا ذَا عَبِيدُكَ عَبْدَ سُوء
…
بِبَابِكَ وَاقِفٌ يَا ذَا الْجَلالِ
…
????
????
…
فَإِنْ عَاقَبْتِ يَا رَبُّ فَإِنِّي
…
مَحُقُ بِالْعَذَابِ وَبِالنِّكَالِ
…
????
????
…
وَإِنْ تَعْفُو فَعَفْوُكَ أَرْتَجِيهِ
…
وَيَحْسُنُ إِنْ عَفَوْتَ قَبِيحَ حَالِي
…
>?
????
???? اللَّهُمَّ وفقنا لصالح الأعمال وأكفنا بحلالك عن حرامك وبِفَضْلِكَ عمن سواك إنك على كُلّ شَيْء قدير وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ وَسلم.
(فَصْلٌ)
وقسم من النَّاس والعياذ بِاللهِ أنكروا يوم القيامة بتاتًا مستبعدين ومستفهمين استفهام إنكار وتهكم {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} فأوضح جَلَّ وَعَلا وبين أن الَّذِي خلقهم وأنشأهم أول مرة قادر على إحيائهم بعد فنائهم.
بل الإعادة أَهْوَن في نظر النَّاس وحدود قدرتهم من الإبداع فالَّذِي يعترف ويقر بأن الله تَعَالَى هُوَ الَّذِي بدأ الخلق يجب عَلَيْهِ ويتحتم أن يُيُسَلِّمَ بأن الله تَعَالَى قادر على الإعادة.
وذكر جَلَّ وَعَلا البدأ دليلاً على الإعادة فَقَالَ: {وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً * أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} وذكر جلا وعلا في سورة الروم أن إعادة الخلق أَهْوَن من ابتدائه فَقَالَ جَلَّ وَعَلا {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرض وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .
ومن الأدلة العقلية الدالة على البعث دلالة قاطعة بمجرد نظر العاقل إليها يستدل بها استدلالاً لا يقبل الشك والشبهة بوقوع ما خبرت به الرسل من البعث خلق السماوات والأرض على عظمها فكل منصف يعلم بالبداهة الحسية أن خلق السماوات والأرض أكبر من خلق النَّاس في ابتدائهم وإعادتهم.
وورد بعدة آيات الاستدلال بخلق السماوات والأرض على قدرة الله تَعَالَى على إحياء الموتى قال تَعَالَى {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرض وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} بهذه الآية أكد جَلَّ وَعَلا صحة البعث، المعنى أن ابتداء الخلق لم يعجز الله والإعادة أسهل من الابتداء والكل على الله هين {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ، فلا مجال للشك في الإعادة عِنْدَ من يقر في الابتداء.
وَقَالَ جلا وعلا مخبرًا عما قاله الكفار الَّذِينَ يستبعدون البعث ورادًا عَلَيْهمْ: {أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً * قَالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ}
وقَدْ أمر الله رسوله ? أن يجيبهم ويعرفهم قدرته على بعثه إياهم بعد مماتهم وإنشائه لَهُمْ كما كَانُوا قبل بلائهم خلقًا جديدًا على أي حال كَانُوا عظامًا أو رفاتًا أو حجارة أو حديدًا أو خلقًا مِمَّا يستبعد عندكم قبوله للحياة فإن الله على كُلّ شَيْء قدير، لا يعجزه إعادتكم مهما تحولتم وتمزقتم وتفرقتم {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ} .
شِعْرًا:
…
يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَوْ عَلِمْتَ بِهَوْلِهِ
…
لَفَرَرْتَ مِنْ أَهْلٍ وَمِنْ أَوْطَانِ
…
????
????
…
يَوْمَ تَشَقَّقَتِ السَّمَاءُ لِهَوْلِهِ
…
وَتَشِيبُ مِنْهُ مَفَارِقُ الْوِلْدَانِ
…
>?
????
????
وأخبر أنه عِنْدَمَا يقيم عَلَيْهمْ الحجة على البعث يقولون من يعيدنا أي من يعيدنا ونَحْنُ بهذه الحال: فقل تحقيقًا للحق وإزاحة للاستبعاد وإرشادًا إلى طَرِيق الاستدلال، الَّذِي يفعل ذَلِكَ هُوَ القدير العَظِيم الَّذِي لا يعجزه شَيْء في الأرض ولا في السماء.
الَّذِي ذرأكم في الأرض أول مرة على غير مثال يحتذى ولا منهاج معين ينتحى وكنتم ترابًا لم يشُم رائحة الحياة ألَيْسَ الَّذِي يقدر علي ذَلِكَ يقدر على أن يجمَعَ ما تفرق ويفيض الحياة ويعيده كَمَا خَلَقْهْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بلى إنه سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
ثُمَّ بين سُبْحَانَهُ ما يفعلونه حين ما يسمعوا الجواب {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ} أي متى هَذَا البعث وفي أي وَقْت وحال يعيدنا خلقًا جديدًا كَمَا كنا أَوَّلَ مَرَّةٍ ومقصدهم من هَذَا السؤال استبعاد حصوله.
وفي معنى هذه الآية قوله تَعَالَى حكاية عنهم {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} قال تَعَالَى {قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً} أي فاحذروا فإنه قريب منكم وسيأتي لا محالة وكل آت قريب وكل ما هُوَ محقق الحصول قريب.
وإن طال الزمان في نظر العباد ولم يخبر به أَحَدًا لا ملكًا مقربًا ولا نبيًا مُرسلاً {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} أي يوم يدعوَكَمْ للبعث والنشور والحساب والجزاء فتستجيبون له من قبوركم بقدرته ودعائه إياكم وله الحمد في كُلّ حال وتظنون حين تقومون من قبوركم إن لبثتم إِلا قليلا في دار الدُّنْيَا وقوله {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ} .
ونحو هذه الآية قوله تَعَالَى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} وقوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} وقوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلَاّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} وقوله: {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً} .
شِعْرًا:
…
هُوَ الدَّهْرِ فَاصْبِرْ مَا عَلَى الدَّهْرِ مَعْتَبُ
وَلَيْسَ لَنَا مِمَّا قَضَى اللهُ مَهْرَبُ
وَلا بُدَّ مِنْ كَأْسِ الْحَمَامِ ضَرُورَةً
وَمَنْ ذَا الَّذِي مِنْ كَأْسِهِ لَيْسَ يَشْرَبُ
وَمَا يَعْمُرُ الدُّنْيَا الدَّنِيَّةَ حَازِمٌ
إِذَا كَانَ فِيهَا عَامِرُ الْعُمْرِ يَخْرَبُ
وَإِنَّ عَلِيًّا ذَمَّهَا فِي كَلامِهِ
وَطَلَّقَهَا وَالْجَاهِلُ الْغِرُّ يَخْطُبُ
أَلا إِنَّ هَذَا الْكَوْنَ فِيهِ مَوَاعِظٌ
لِمُتَّعِظٍ مِنْ ظُلْمَةِ الْقَبْرِ يَهْرَبُ
فَكَمْ مِنْ عَظِيمِ الْبَأْسِ صَارَتْ عِظَامَهُ
أَوَانٍ وَمِنْهَا الْمَاءُ يَا قَوْمُ يُشْرَبُ
وَيُنْقَلُ مِنْ أَرْضٍ لأُخْرَى وَمَا دَرَى
فَوَاهًا لَهُ بَعْدَ الْبِلَى يَتَغَرَّبُ
…
>?
…
...
…
اللَّهُمَّ قومنا إذا اعوججنا وأعنا إذا استقمنا وكن لنا ولا تكن عَلَيْنَا وأحينا في الدُّنْيَا مؤمنين طائعين وتوفنا مسلمين مخلصين وَاجْعَلْنَا عِنْدَ السؤال
ثابتين وَاجْعَلْنَا ممن يأخذ كتابه باليمين وَاجْعَلْنَا يوم الفزع الأكبر من الآمنين ومتعنا بالنظر إلى وجهك الكريم بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
ومن توهمَاتَ المنكرين للبعث أن من يموت يضل رفاته في الأرض فتذهب صورته وصفاته فَكَيْفَ يرجع الله هذه الذوات والصفات وكيف يجمَعَ هذه الذرات المتفتتة من عظامهم وأثر هَذَا التوهم الفاسد يظهر في توهمهم أن علم الله غير محيط بكل صغير وكبير من أعداد الَّذِينَ يموتون من النَّاس وغير محيط بصفاتهم وأوصافهم وأعمالهم.
وقَدْ ذكر الله جَلَّ وَعَلا مقالتهم الفاسدة التي تدل علي التوهم من توهماتهم قال تَعَالَى حكاية عنهم: {وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} وهؤلاء قاسوا قدرة الخالق الَّذِي بدأهم أول مرة على قدرة المخلوق العاجز.
وشتان ما بين القدرتين {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ} .
ثُمَّ زَادَ في النعي عَلَيْهمْ والإنكار لآرائهم بقوله: {بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ} أي تعدوا ذَلِكَ إلى الجحود بلقاء ربهم وذكر الله جَلَّ وَعَلا مقالتهم هذه في سورة سبأ وهم أتوا بها على وجه الاستهزاء والتهكم والتكذيب والاستبعاد والإنكار.
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} أي إنه يَقُولُ إذا أكلتكم الأرض وصرتم رفاتًا وعظامًا وقطعتكم السباع والطير ستحيون وتبعثون ثُمَّ تحاسبون عىي ما فرط منكم من صالح الْعَمَل وسيئه.
وإن أمره دائر بين أمرين إما أن يكون مفتريًا علىآ الله وإما أن يكون مجنونًا فرد الله عَلَيْهمْ مقالتهم وأثَبِّتْ لَهُمْ ما هُوَ أشد وأنكى فَقَالَ: {بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ} أي لَيْسَ الأَمْر كما زعموا ولا كما ذهبوا إليه.
بل إن محمدًا ? صادق فيما أخبر به من البعث وهم في شقاء عذابٌ في حياتهم من داخل نفوسهم كفرٌ وشكوك وأوهام وفي الآخرة إذا بعثوا ذاقوا ألوان الْعَذَاب لأنهم مجرمون متمردون على الحق وهم في الضلال الْبَعِيد الدال على عدم استبعاد البعث وَهُوَ أنهم لو نظروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض فرأوا من قدرة الله فيهما ما يبهر العقول ومن عظمته ما يذهل العلماء الفحول ولكنهم كما قال تَعَالَى: {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} وَقَالَ عما قاله نوح عليه السلام: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} .
…
وَفِي الْكَوْنِ مِنْ سِرِّ الْوُجُودِ عَجَائِبٌ
أَطَلَّ عَلَيْهَا الْعَارِفُونَ وَأَشْرَفُوا
…
>?
..
…
...
آخر:
…
فَيَا عَجَبًا مِمَّنْ يُضِيعُ حَيَاتَهُ
عَلَى حِفْظِ مَالٍ وَهُوَ لِلْغَيْرِ يَدْخَرُ
وَمَنْ تُتَوَفَّى نَفْسُهُ كُلَّ لَيْلَةٍ
وَتَرْجِعُ فِيهِ كَيْفَ لِلْبَعْثِ يُنْكِرُ
بَلَى قَادِرٌ أَنْشَاهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ
عَلَى رَدِّ رُوحٍ مِنْهُ فِي الْجِسْمِ أَقْدَرُ
…
>?
آخر:
…
تَأَمَّلْ سُطُورَ الْكَائِنَاتِ فَإِنَّهَا
مِنَ الْمَلِكِ الأَعْلَى إِلَيْكَ رَسَائِلُ
وَقَدْ كَانَ فِيهَا لَوْ تَأَمَّلْتَ خَطَّهَا
أَلا كُلُّ شَيْء مَا خَلا اللهَ بَاطِلُ
…
>?
…
...
…
وفي سورة ق ذكر الله تَعَالَى أنهم استبعدوا البعث وتعجبوا قال تَعَالَى حكاية عما قَالُوا: {فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} .
فعقول هؤلاء سخيفة حيث قاست قدرة من هُوَ على كُلّ شَيْء قدير وبكل شَيْء عليم الكامل من كُلّ وجه بقدرة الْعَبْد الفقير الضعيف العاجز مِنْ جَمِيعِ الوجوه الجاهل الَّذِي لا علم له.
فَقَالَ جَلَّ وَعَلا مشيرًا إلى دَلِيل جواز البعث وقدرته عَلَيْهِ مؤكدًا علمه بجَمِيع الأَشْيَاءِ {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} حافظ لتفاصيل الأَشْيَاءِ كُلّهَا محفوظ عن التغيير والتبديل بكل ما يجري عَلَيْهمْ في حياتهم أو مماتهم.
بعد أن ذكر حال منكري البعث لفت أنظارهم إلى الدَلِيل الَّذِي يدحض كلامهم ألا وَهُوَ النظر في آياته الأفاقية كي يعتبروا ويستدلوا بها على ما جعلت أدلةً عَلَيْهِ.
فإن من خلق السماء وزينها بالكواكب وأحكمها وبسط الأرض وجعل فيها رواسي وأنبت فيها صنوف النَّبَات صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ويتفاضل في الأكل.
وجعل ذَلِكَ تبصرة لأولي الألْبَاب ونزل من السماء ماء فأنبت به خضر الجنان والزرع المختلف الأصناف والألوان والطعوم والنخل الباسق ذا الطلع المتراكم بعضه فوق بعض رزقًا للعباد وأحيا الأرض الموات.
أفلا يستطيع من هذه قدرته وهَذَا شأنه أن يخَرَجَ النَّاس من القبور بعد بلائهم وبعد أن يصيروا عظامًا ورفاتًا وينشئهم خلقًا آخر في حياة أخرى وعَالِم غير هَذَا العَالِم بلي وَاللهِ إنه على كُلّ شَيْء قدير وبكل شَيْء أحاط عِلمَا.
وما أحسن ما قاله السفاريني:
…
وَاجْزِمْ بِأَمْرِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ
وَالْحَشْرُ حَزْمًا بَعْدَ نَفْخِ الصُّورِ
كَذَا وُقُوفِ الْخَلْقِ لِلْحِسَابِ
وَالصُّحْفِ وَالْمِيزَانِ لِلثَّوَابِ
كَذَا الصِّرَاطِ ثُمَّ حَوْظِ الْمُصْطَفَى
فَيَا هَنَا لِمَنْ بِهِ نَالَ الشِّفَا
…
>?
.. عَنْهُ يُذَادُ الْمُفْتَرِي كَمَا وَرَدْ
وَمَنْ نَحَا سُبْلَ السَّلامَةْ لَمْ يُرِدْ
وَكُنْ مُطِيعًا وَأَقْفُ أَهْلَ الطَّاعَةْ
فِي الْحُوضِ وَالْكَوْثَرِ وَالشَّفَاعَةْ
فَإِنَّهَا ثَابِتَةٌ لِلْمُصْطَفَى
كَغَيْرِهِ مِنْ كُلِّ أَرْبَابِ الْوَفَا
مِنْ عَالِمٍ كَالرُّسْلِ وَالأَبْرَارِ
سِوَى الَّتِي خُصَّتْ بِذِي الأَنْوَارِ
…
>?
اللَّهُمَّ إنَّا نعوذ بك من جهد البَلاء ودرك الشقاء وشماتة الأعداء وسوء المنظر في الأهل والْمَال والولد اللَّهُمَّ حبب إلينا الإِيمَان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان وَاجْعَلْنَا مِنْ الراشدين وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المسلمين بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
ومن الأدلة الدالة على البعث قوله تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأرض خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
إن جفاف الزرع ويبس الشجر وانقطاع تغذيته من الأرض وحصاده وتحطمه يشبه حالة الموت في الأحياء.
ثُمَّ إن سنة الله الكونية الدائمة الظاهرة المشاهدة في عملية انشقاق
الحبوب في بطن الأرض ونباتها بعد ما سبق من حالها التي تشبه حالة الموت وعودتها إلى الحياة.
والنظرة كرة آخرةً وَذَلِكَ عِنْدَ وجودها في البيئة الملائمة من ماء ممتزج بالتُّرَاب الصالح لتعطي تقريبًا حسيًا مشاهدًا باستمرار في الظواهر الكونية لقصة بعث الحياة وتفرق أجزائها في تراب الأرض.
وقَدْ نبه الله في القرآن إلى هَذَا الشاهد الكوني الَّذِي يقرب إلي تصور أصحاب هَذَا التوهم إمكَانَ الحياة الأخرى وإنها تشبه عودة الحياة إلى الزرع والنَّبَات بعد جفافها وما يشبه حالة الموات فيها قال الله تَعَالَى: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
وَقَالَ في سورة الروم: {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
وَقَالَ في سورة ق {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ * رِزْقاً لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} جعل سبحانه وتعالى ما سبق دليلاً على البعث لأنه شبيه به.
وفي التعبير عن إخراج النَّبَات من الأرض بالإحياء وعن إحياء الموتى بالخروج تفخيم لشأن الإنبات وتهوين لأمر البعث وتحقيق للماثلة بين إخراج النَّبَات وإحياء الموتى لتوضيح منهاج القياس وتقريبه لأفهام النَّاس وكَذَلِكَ قوله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ
كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} .
ففي إحياء الأرض اليابسة بعد نزول المطر عَلَيْهَا دَلِيل قاطع واضح على إحياء الموتى فكما أحيا الأرض بعد موته يحي الأجساد ويعيد إليها أروحها يوم القيامة.
فيقوم النَّاس من قبورهم لرب العالمين كما أخبرنا جَلَّ وَعَلا وَهُوَ أصدق قائل وَذَلِكَ أن الله ينزل ماء من السماء فتمطر الأرض أربعين يَوْمًا فتنبت منه الأجساد في قبورهم كما ينبت الحب في الأرض، قال ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
…
وإِذَا أَرَادَ اللهُ إِخْرَاجَ الوَرَى
بَعْدَ الْمَمَاتِ إِلَى مَعَادٍ ثَانِي
أَلْقَى عَلَى الأَرْضِ التِي هُمْ تَحَتَهَا
واللهُ مَقْتَدِرٌ وذَوْ سُلْطَانِ
مَطَرًا غَلِيظًا أَبْيَضًا مُتَتَابِعًا
عَشْرًا وعَشْرًا بَعْدَهَا عَشْرَانِ
فَتَظَََََََََََلُّ تَنْبُتُ مِنْهُ أَجْسَامُ الْوَرَى
وَلُحُومُهُمْ كَمَنَابِتِ الرَّيْحَانِ
حَتَّى إِذَا مَا الأُمُّ حَانَ وَلادُهَا
وَتَمَخَّضَتْ فَنِفَاسُهَا مُتَدَانِ
أَوْحَى لَهَا رَبُّ السَّمَا فَتَشَقَّقَتْ
فَبَدَا الْجَنِينُ كَأَكْمَلِ الشُّبَّانِ
…
>?
…
...
…
.. وَتَخَلَّتِ الأُمُّ الْوَلُودُ وَأَخْرَجَتْ
أَثْقَالَهَا أُنْثَى وَمِنْ ذُكْرَانِ
وَاللهُ يُنْشِئُ خَلْقَهُ فِي نَشْأَةٍ
أُخْرَى كَمَا قَدْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ
هَذَا الَّذِي جَاءَ الكِتَابُ وَسُنَّةُ الْـ
ـهَادِي بِهِ فَاحْرِصْ عَلَى الإِيمَانِ
…
>?
…
...
…
يضاف إلى هذه الأدلة ما ذكر الله في كتابه أيضًا مثل قصة إحياء قتيل بني إسرائيل لسؤاله عن القاتل وهذه الْقِصَّة أخبرنا الله بها في أوائل سورة البقرة وملخصها فيما ذكر أنه كَانَ في بني إسرائيل شيخ موسر له ابن واحد قتله ابن عمه طمعًا في ميراثه.
ثُمَّ جَاءَ يطالب بدمه قومًا آخرين فأنكر المتهمون قتله وترافعوا إلى موسى عليه السلام كُلّ مِنْهُمْ يدفع التهمة عن نَفْسهُ فَقَالَ لَهُمْ موسى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً} وَذَلِكَ ليتبين لَهُمْ القاتل الحقيقي فَقَالُوا: أتهزأ بنا قال موسى: {أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} فسألوه عن ما تتميز به من الأوصاف وشددوا على أنفسهم فشدد الله عَلَيْهمْ ثُمَّ عثروا عَلَيْهَا وذبحوها فأحيا الله القتيل وأخبر بالقاتل.
ومن ذَلِكَ قصة أصحاب الكهف وكيف ضرب الله على آذانهم ثلاثة قرون وتزيد تسع سنين وحفظ أجسامهم من البلى على طول الزمان وثيابهم من العفن والبلى وأعثر عَلَيْهمْ الفريق الآخر الَّذِينَ كَانُوا في شك من قدرة الله على إحياء الموتى وفي مرية من إنشاء أجسام خلقه كهيئتهم يوم قبضهم بعد
البلى ليعلموا أن وعد الله حق ويقنوا أن الساعة آتية لا ريب فيها ففي ذَلِكَ عبرة ودَلِيل على وقوع المعاد الجسماني يوم القيامة.
ومن ذَلِكَ الَّذِينَ أخرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فَقَالَ لَهُمْ الله موتوا ثُمَّ أحياهم ثُمَّ بعد هذه الإماتة أحياهم ففيها أيضًا عبرة ودَلِيل قاطع على وقوع المعاد الجسماني وأنه لا مرية فيه ومن ذَلِكَ قصة الَّذِي مر على قرية وهي خاوية على عروشها فَقَالَ مستبعدًا لعودة عمارتها وإحياء أهلها {أَنَّىَ يُحْيِي هََذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} قيل إن الله تَعَالَى أماته في أول النَّهَارَ وأحياه بعد المائة أخر النَّهَارَ.
وقيل وَاللهُ أَعْلَمُ أول شيء أحياه الله فيه عينيه لينظر بهما إلى قدرة الله وصنعه كيف يحيي بدنه فَلَمَّا استقل سويًا {قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} قال جل وعلا وتقدس: {بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ} قيل كَانَ معه عنب وتين وعصير فوجده لم يتغير وانظر إلى حمارك كيف يحييه الله عز وجل {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ} أي دليلاً على المعاد حيث أحياه الله بعد إماتته وأحيا حماره ولم يتغير طعامه وشرابه.
ومن ذَلِكَ إحياء الطيور الأربعة لما طلب أبينا إبراهيم عليه السلام من الله أن يريه كيف يحيي الموتى ليطمئن قَلْبهُ فأمره أن يأخذ أربعة من الطير فيقطعهن أجزاء ثُمَّ يفرقها على عدة جبال حوله ثُمَّ يدعوها ففعل ودعاها بأسمائهن فاقبلن إليه سريعات تطير والطير أشد الْحَيَوَان نفورًا من الإِنْسَان غالبًا فهَذَا أكبر برهان على كمال عزة الله وحكمته وقدرته على البعث والمعاد والجزاء. فتبارك الله أحسن الخالقين.
ومِنَ الأدلة الدَّالَةِ عَلي البَعْثِ مَا فِي قِصَّةِ مُوْسَى وَهَرُوْنَ مَعَ فِرْعَونَ فَفِي قَلْبِ عَصِىَ مُوْسَى حَيَّةً تَسْعَي تَلْقَفُ مَا يَأْفَكُونَ أكْبَرُ بُرْهَانٍ عَلَى البَعْثِ وَذَلِكَ أنَّهَا صَارَتْ تِنَّيناً عَظِيْماً هَائِلاً ذَا قَوَائِمَ وَعُنُقٍ وَرَأْسٍ وَأَضْراسٍ فَجَعَلَتْ تَبْتَلِعُ تِلْكَ الحِبَالَ وَالْعُصِيَّ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهَا شَيْءٌ إِلَّا ابْتَلَعتْهُ والسَّحَرَةُ والناسُ يَنْظُرُوْنَ إلي ذَلِكَ عِيَاناً جَهْرَةً نَهَاراً ضَحْوَةً.
ثُمَّ أَمَرَهُ اللهُ جَلَّ وَعَلا بِأَنْ يَأْخُذَهَا قَالَ لَه {خُذْهَا وَلَا تَخَفْ} فَلَمَّا أَمَرَهُ بِأَخْذِهَا لَفَّ طَرَفَ المِدْرَعَةَ عَلَى يَدِهِ فَقَالَ لَهُ مَلَكٌ أَرَأَيْتَ يَا مُوْسَى لَوْ أَذِنَ اللهُ بِمَا تُحَاذِرُ أَكانتِ المِدْرَعَةَ تُغْنِيْ عَنْكَ شَيْئاً قَالَ لَا وَلَكِنّيْ ضَعِيْفٌ وَمِن ضُعْفٍ خُلِقْتُ فَكَشَفَ عَن يَدِهِ ثمَّ وَضَعَهَا في فَمِ الحَيَّةِ حَتَّى سَمََِعَ حِسَّ الأَضْرَاسِ والأَنْيَابِ ثُمَّ قَبَضَ فإذَا هِيَ عَصَاهُ التِي عَهِدَهَا وإذَا يَدُهُ في مَوْضِعَهَا إذَا يَتَوَكَأُ عَلَيْهَا بَيْنَ الشُعْبَتَيْنِ فَفِيْهَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ علي بَعْثِ الأَجْسَادِ لِمَنْ بَصَّرَهُ اللهُ وَنَوَّرَ عَقْلُهُ
ومِنَ الأَدِلَّةِ الدَّالَةِ عَلي البَعْثِ مَا أَيَّدَ اللهُ بِهِ عِيْسَي بنَ مَرْيَمَ عَلَي إِحْيَاءِ المًوْتَى قَالَ اللهُ تَعَالَى {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ} فَكَان يُصَوَّرُ مِن الطِّيْنَ شَكْلَ طَيْرٍ ثمّ يَنْفَخُ فِيه فَيَكُونُ طَيْراً عِيَاناً بإِذْنِ اللهِ.
فَهَذَا مِنْ أَكْبَرِ البَرَاهِيْنِ عَلَي بَعْثِ الأَجْسَادِ وكَذَلِكَ إِحْيَاءُ المَوْتَى بإِذنِ اللهِ قال تَعَالَى {وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ} فَهَذَا بُرْهَانٌ وَاضِحٌ عَلَي بَعْثِ الأجْسَادِ لَا رَيْبَ فِيهِ لِذِي عَقْلٍ سَلِيْمٍ.
اللَّهُمَّ يَا مَنْ لَا تَضُرُهُ اْلمعصِيَةُ ولَا تَنْفَعُهُ الطَّاعَةُ أَْيْقِظْنَا مِنْ نَوُم الغَفْلَةِ ونَبّهنْا لاغْتِنَام أَوْقَاتِ المُهْلَةِ وَوَفّقْنََا لِمصَالِحِنَا واعْصِمْنَا مِنْ قَبَائِحِنا وذُنُوبِنا ولا تُؤاخِذْنَا بمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ ضَمائِرُنا واكَنَّتْهُ سَرَائِرُنا مِنْ أنْواع القَبَائِح والمَعَائِبِ
التي تَعْلَمُها مِنّا وَاغْفِر لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمينَ الأَحْياءِ مِِنُْْهُمْ والميتيِنَ بِرَحْمَتِكَ يا أرحْمَ الرّاحِمينَ وَصَلى اللهُ عَلَى مُحَمّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
((هَذِهِ أبْيَاتٌ مُخْتَاَرَةٌ مِن قَصِيْدَةِ لِبَعْضِ))
((العُلَمَاًءِ رَداً عَلَى مَنْ قَالَ بالطَّبِيعَةِ))
…
وَاهاً لِدُنْيَا إِذَا مَا أَقْبَلَتْ قَتَلَتْ
وشَوْطُ إِقْبَالِهَا فَوْتٌ وَإِدْبَارُ
دَسَّتْ لَكَ السُّمَّ في حَلْوَى زَخَارِفِهَا
وَزَيَّنَتْ لَكَ مَا عُقْبَاهُ أَضْرَارُ
وعِشْتَ دَهْراً مِنَ الأَعْوَامِ مُنْتَظِراً
في مَلْعَبٍ كُلُّهُ جُرْمٌ وإِصْرَارُ
حَتَّى إذَا جَاءَ وَقْتُ المَقْتِ وَانْتَشَبَتْ
يَا لَاهِياً لِلمَنَايَا فِيْكَ أَظْفَارُ
خَابَتْ ظُنُوْنُكَ فِي دُنْيا مُخَادِعَةٍ
أَلْوَتْ عِنَانَكَ عَمَّا كُنْتَ تَخْتَارُ
يَا ذَا الوِجَاهَةِ والجَاهِ العَرِيْضِ لَقَدْ
خَانَتْ عُهُوْدَكَ أَعْوَانٌ وأَنْصَارُ
أَلْقَوْكَ فِي حُفْرَةٍ هَالَتْكَ وَحْشَتُهَا
كَأَنَّها مِخْدَعٌ يُغْلَي بِهِ القَارُ
وَغَادَرُوْك وَمَا فِي الحَيِّ مِن حَكَمٍ
تَشْكُو إِلَْيهِ وَمَا فِي الدَّارِ دَيَّارُ
يَا رَاقِداً وَمَضِيْقُ القَبْرِ مَضْجَعُهُ
أمَلَّكَ القِطْرُ أَمْ ضَاقَتْ بِكَ الدَّارُ
…
>?
.. أَبعدَ مَا فِي مَغَانِي الحَيِّ من سَعَةٍ
تُغْنِي الضَّجِيْعَ عنِ الأَمْيَاِل أَشْبَارُ
خَلَوْتَ وَحْدَكَ لَا خِلٌ وَلَا خَدَمٌ
فَهَلْ تُنَاجِيْكَ بالإِصْلَاحِ أَفْكَارُ
أَمْ أَنْتَ مِمَّنْ يَرَوْنَ المَوْتَ رَاحَتَهُمْ
يَا حَبَّذَ الموْتِ لَوْلَا الحَشْرُ والنَّارُ
والقَبْرُ إِنْ لَمْ تَكُنْ فِيْهِ مُنَغِّصَةٌ
حَاكَتْ زَوَايَاهُ رَوْضاً فِيْهِ أَزْهَارُ
لَكِنَّهُ وَظَلَامُ الزَّيْغِ يُوْحِشُهُ
ِسْجٌن َلُه مِنْ ذَوَاتِ النَّهْشِ عُمَّارُ
فَهَلْ يُحَاكِي قُبُورَ القَوْمِ مَضْجَعُكُمْ
أَمْ زَاَحَمْتكَ ظَلامَاتٌ وآصَارُ ا
بِالأَمْسِ صَدْراً أَخَا كِبْرٍ وَغَطْرَسَةٍ
وَمَا سِوَي الصَّدْرِ نَهَاؤٌ وَأَمَّارُ
وَالَيْومَ بَيْنَ هَوَامِ الأرْضِ مُضْطَجِعٌ
في مَضْجَعٍ مَا بِهِ جَارٌ وَسُمَّارُ
وَاهاً لِدُنْيَا إِذَا مَا أَقْبَلَتْ قَتَلَتْ
وشَوْطُ إقْبَالِهَا فَوْتٌ وإِدْبَارُ
تَمُرُّ بالمَرْءِ مَرَّ الطَّيْفِ بَاسِمَةً
وخَلْفُهَا مِن جُيُوْشِ الحُزْنِ جَرَّارُ
.. إِذَا سَقَتْ كَأْسَ إِيْنَاٍس أخَا سَفَهٍ
تَجَرَّعَ السُّمَّ مِنْهُ وَهُوَ مُخْتَارُ
وَمَا السُّمُوْمُ سِوَي لِذَاتِهَا وبِهَا
وَمَا السُّمُوْمُ سِوَي لِذَاتِهَا وبِهَا
تَزْهُوْا لأَهْلِ الهَوَي حَتَّى إِذَا ابْتَهَجُوْا
جَاءَتْ بِمَا فْيهِ أرْزَاءٌ وَأَكْدَارُ
يَا وَيْحَ مَنْ أَخَذَتْ يَوْماً بِمخْنَقِهِ
إلي طَرِيْقٍ إِلَيْهَا يَنْتَهِي العَارُ
ويَا نَدَامَةَ مَنْ لَمْ يَبْكِ إنْ ضَحِكَتْ
فَضِحْكُها لِذَوِيْ اللَّذَاتِ إِنْذَارُ
وَيَا خَسَارَةَ مَنْ أَنْسَتْهُ مَبْدَأَهُ
ومُنْتَهَاهُ وَلَمْ يُوْقِظْهُ تَذْكَارُ
كَالشَّابِ تُنْسِيْهِ عَصْرَ الشَّيْبِ غُرَّتُهُ
حَتَّى إِذَا عَلَقَتْ بالأُزْرِ أَوْزَارُ
فَرَّ الشَّبَابُ وَظَلَّ الَّشْيُب هَازِمَهُ
إِنَّ الشَّبَابَ أَمَامَ الشَّيْبِ فَرَّارُ
فَهَلْ لِذِي الجَاهِ أَنْ يَنْسَى مَنِيَّتَهُ
والمَوْتُ فِي رَأْسِ رَبِّ الجَاهِ مِعْثَارُ
وَكَمْ وَجِيْهٍ تَعَامَي عَنْ عَوَاقِبِهِ
إِذْهَابَهُ خَشْيَةً عَمْروٌ وَعَمَّارُ
وَظَلَّ فِي زُخْرُفِ التَّضْلِيْلِ مُتَّجِراً
.. وَالنَّاسُ مِنْهُ بِسُوْقِ الزَّيْغِ تَمْتَارُ
حَتَّى إِذَا مَا الرَّدَى لِلْمَوْتِ أَضْجَعَهُ
أًضْحَى كأُضْحِيَهٍ مِنْ حَوْلِهَا دَارُوا
وَمَاتَ وَالخَوْفُ حَيٌ بَيْنَ أَضْلُعُهِ
وَلِلمَخَازِيْ بِتِلْكَ الدَّارِ أَدْوَارُ
أُفٍّ لِمُقْبِلَةٍ مَرَّتْ عَلَي عَجَلٍ
كَأَنَهَا الفَجْرُ لَمْ يُمْهِلْهُ إِسْفَارُ
كَأَنَّمَا أََنْتَ وَالدُّنْيَا وَمَا صَنَعَتْ
أُلْعُوْبَةً بَاعَهَا الصِّبْيَانِ مِهْزَارُ
أَلْهَتْهُمُوا بُرْهَةً حَتَّى إِذَا تَلِفَتْ
وَفَاتَهُمْ فِي المَسَادَفُّ وَمِزْمَارُ
لَمْ يَلْبَثُوا فِي المَلَاهِيْ غَيْرَ سَاعَتِهِمْ
وَقَدْ دَهَتْهُمْ مُلِمَّاتٌ وَأَكْدَارُ
وَهَكَذَا كُلُّ حَالٍ لَا بَقَاءَ لَهَا
وَكُلُنَا فِي الجَنَي لِلْمَوْتِ أَثْمَارُ
وَكُلُّ مَنْ كَانَتْ الأَيَّامُ مَرْكَبَهُ
فَكُلُّ أَوْقَاتِهِ ظَعْنٌ وَأَسْفَارُ
تَبّاً لِدَارٍ أَرَتْنَا مِنْ مَلَاعِبِهَا
عَجَائِباً مَا أَتَاهَا الدَّهْرَ سَحَّارُ
فَيَا أَخَا العِلْمِ لَا يُنْجِيْكَ عِلْمُكَ إِنْ
فَاتَتْكَ خَشْيَةُ رَبٍّ اسْمُهُ البَارُ
.. وَيَا أَخَا المَالِ لَا تَرْكَنْ لِكَثْرَتِهِ
فَالْمَالُ كَالمَاءِ كَرَّارٌ وَفَرَّارُ
وَالجًاهُ ضَيْفٌ وَعُقْبَي الضَّيْفِ رِحْلَتُهُ
وإِنْ دَعَتْهُ لِطُولِ المُكْثِ أَوْطَارُ
وَاضْرَعْ إِلي اللهِ يَا مَنْ بَاتَ فِي سَعَةٍ
مِنْ نِعْمَةِ اللهِ إِنَّ الدَّهْرَ دَوَّارُ
ونِعْمَةُ اللهِ تأْتِي طَيَّ رَحْمَتِهِ
كَمَاطِرِ غَيْثُهُ الهَطَّالُ مِدْرَارُ
لَكِنَّمَا الغَيُّ والطُّغْيَانُ يَنْقُصُهَا
فَمَا تَهَنَّى بِهَا فِي الكَوْنِ كُفَّارُ
وإِنْ تَقُلْ إِنَّ أَهْلَ البَغْيَ فِي نِعَمٍ
فَرَكْبُهُمْ فِي طَرِيْقِ الغَمِّ سَيَّارُ
والغَافِلُونَ لَهُمْ فِي القَبْرِ مُزْعِجَةٌ
وَبَعْدَ فَصْلِ القَضَا عُقْبَاهُمُ النَّارُ
…
>?
اللَّهُمَّ نَوَّرْ قُلُوبَنَا بِنُوْرِ الإِيمَانِ واشْرَحْ صُدُوْرَنَا واسْتُرْ عُيُوْبَنَا وأَمِّنْ خَْوفَنَا وَوَفِّقْنَا لاسْتِغْرَاقِ أَوْقَاتِنَا فِي البَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ وَاجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الصَّالِحِيْنَ الّذِيْنَ لَا خَوْفٌ عَلَيهِمْ ولَا هُمْ يَحْزَنُون وآتِنَا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النّارِ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيع المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّي اللهُ عَلَى مُحَمّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ.
(فصل)
قَال ابْنُ القّيم رحمه الله:
طَبقاتُ المُكَلَّفِيْنَ فِي الآخِرَةِ ثَمَانِي عَشَرَةَ طَبَقَةً أَعلَاهَا مَرْتَبَةُ الرُّسُلِ صَلَواتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِمْ وَهُمْ ثَلاثُُ طَبَقاتٍ أَعْلَاهُمْ أُولُو العَزْمِ الخَمْسَةُ ثُمَّ مَنْ عَدَاهُمْ مِن الرُّسُلِ ثُمَّ الأَنْبِياءُ الّذِيْنَ لَمْ يُرْسَلُوا إلَى الأُمَمِ.
الرَّابِعَةُ: الصّدّيقُوَن وَرَثَةُ الرُّسُلِ القَائِمُونَ بِمَا بُعِثُوْا بِهِ عِلْماً وعَمَلاً وَدَعْوَةً لِلْخَلْقِ إلى اللهِ عَلَي طَرِيْقِهِمْ.
الخَامِسَةُ: أَئِمّةُ العَدْلِ وَوُلَاتُهُ.
السادِسةُ: المُجَاهِدُوْنَ فِي سَبِيْلِ اللهِ.
السابِعَةُ: أَهْلُ الإِيْثَارِ والإِحْسَانِ وَالصَّدَقَةِ.
الثّامِنَةُ: مَنْ فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ بَاباً مِنْ أَبْوَابِ الْخَيْر القَاصِرِ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ صَلاةٍ وَصِيامٍ وَحَجٍّ وَغَيْرِهَا.
التّاسِعَةُ: طَبَقَةُ أَهْلِ النَّجَاةِ وَهُمْ مَنْ يُؤَدِّيْ فَرَائِضَ اللهِ وَيَجْتَنِبْ مَحَارِمِهُ.
العِاشِرَةُ: طَبَقَةُ قَوْمٍ أَسْرَفُوْا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَغَشَوْا كَبَائِر مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ وَلَكِنْ رَزَقَهُمُ اللهُ التَّوْبَةَ النَّصُوْحَ قَبْلَ المَوْتِ فَمَاتُوا عَلَى تَوْبَةٍ صَحِيْحَةٍ.
الحادِيَةَ عَشَرةَ: طَبَقَةُ أَقْوَامٍ خَلَطُوا عَمَلاًً صَالِحاً وآخَرَ سَيِّئاً وَلَقُوا اللهَ مُصِرِّيْنَ غَيْرَ تَائِبِيْنَ لَكِنْ حَسَنَاتُهُمْ أَغْلَبُ مِنْ سَيِّئاتِهِمْ فَإِذَا وُزِنَتْ بِهَا رَجَحَتْ كِفَّةُ الحَسَنَاتِ فَهَؤُلَاءِ أيْضاً نَاجِحُوْنَ فَائِزُوْنَ.
الثَانِيَة عَشَرة: قَوْمٌ تَسَاوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيّئاتهُمْ وَهُمْ أَصْحَابُ الأعْرَافِ وَهُوَ مَوْضِعٌ بَيْنَ الجَنَّةِ والنّارِ ولَكِنْ مَآلُهُمْ إلى دُخُوْلِ الجَنَّةِ.
الثّالثَ عَشَرة: طَبَقَةُ أَهْلِ البَلِيَّةِ والمِحْنَةِ وِهُمْ قَوْمٌ مُسْلِمُوْنَ خَفَّتْ مَوَازِيْنُهُمْ وَرَجَحَتْ سِيِّئَاتُهُمْ عَلَى حَسَنَاتِهِمْ وِهِؤُلاءِ الّذِيْنَ ثَبَتَتْ فِيْهِمْ الأحادِيثُ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ النَّارَ فَيَكُونُوْنَ فِيْهَا عَلَى مِقْدَارِ أَعْمَالِهِمْ ثُمَّ يُخْرَجُوْنَ
مِنْهَا بشَفَاَعَةِ الشَّافِعِيْنَ وبِرَحْمَةِ أَرْحَمِ الرَّاحِمِيْن.
الرَّابِعَةَ عَشَرة: قَوْمٌ لَا طَاعَةَ لَهُمْ ولَا مَعْصِيَةَ وَلَا كُفْرَ وَلَا إِيْمَانَ وَهُمْ أصْنَافٌ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُمُ الدَّعْوَةُ بِحَالٍ وَمِنْهُمْ المَجْنُونُ اّلذي لَا يَعْقِلُ وَمِنْهُمْ الأَصَمُّ اّلذي لَا يَسْمَعُ شَيْئاً أَبَداً وَمِنْهُمْ أطْفَالُ المُشْرِكِيْنَ اّلذِينَ مَاتُوْا قَبْلَ أنْ يُمَيَّزُوْا شَيْئاً فاخْتَلَفَتِ الأَئِمَّةُ فِيْهِمْ عَلَى ثَمَانِيَةَ مَذَاهِبٍ أَرْجَحُهَا أَنَّهُمْ يُمْتَحِنُوْنَ فِي عَرَصَاتِ القِيَامَةِ ويُرْسَلُ إِلَيْهِمْ هُنَاكَ رَسُولٌ فَمَنْ أَطَاعَ الرّسُولَ دَخَلَ الجَنَّةَ وَمَنْ عَصَاهُ دَخَلَ النَّارَ.
وبِهَذَا تَتَّفِق الأحَادِيْثُ وَتُواِفُق الحِكْمَةُ والعَدْلُ.
الطَّبْقَةُ الخَامِسَةَ عَشَرَةَ: طَبَقَةُ الزَّنَادِقّةِ وَهَؤُلَاءِ المُنَافِقُوْنَ اّلذِيْنَ أَظْهَرُوْا الإِسْلَامَ وأبْطَنُوا الكُفْرَ وهُمْ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنْ النّارِ.
الطَّبَقَةُ السَّادِسَةَ عَشَرَةَ: رُؤُسَاءُ الكُفْرِ وأَئِمَّتُهُ وَدُعاتُهُ وَيَتَغَلَّظُ الكُفْرُ بِغِلَظِ العَقِيْدَةِ وبِالعِنَادِ وبالدَّعْوَةِ إِلى البَاطِلِ.
الطَّبَقَةُ السّابِعَةَ عَشَرَةَ: طَبَقَةُ الْمُقَلِّدِيْنَ وَجُهَّالُ الكَفَرَةِ وَقَدْ اتَّفَقَتِ الأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُم كُفَّارٌ.
الثّامِنَةَ عَشَرَةَ: طَبَقَةُ الجِنِّ وهُمْ مُكَلَّفُوْنَ مُثَابُونً وًمُعَاقَبُوْنَ بحَسَبِ أعْمَالِهِمْ ولِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوْا ولِيُوْفِيَهُمْ أعْمَالِهِمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُوْنَ.
وَقَالَ الإِنابَةُ الرُّجُوعُ إِلى اللهِ وانْصِرافُ دَوَاعِي القَلْبِ وِجِوِاذِبِهِ إِلَيْهِ وَهِيَ تَتَضَمَّنُ المَحَبَةَ والخَشْيَةَ وَالنَّاسُ فِي إِنَابَتِهِمْ دَرَجَاتٌ مُتَفاوِتَةٌ فَمِنْهُمْ المُنِيْبُ إِلى اللهِ بِالرُّجُوْعِ إِلَيْهِ مِن المُخَالَفَاتِ والمَعَاصي والحَامِلُ الخَوْفُ وَالعِلْمُ.
وَمِنْهُمْ المُنِيْبُ إِلى اللهِ فِي أَنْوَاعِ العِبَادَاتِ فَهُوَ سَاعٍ بِجُهْدِهِ ومصْدرُهَا الرَّجَاءُ وَمُطَالَعَةُ الوَعْدِ والثَّوَابِ وَهَؤُلَاءِ أبْسَطُ نُفُوْساً مِن الأَوَّلِيْنَ وَكُلٌّ مِنْهُمَا مُنِيْبٌ بِالأمْرَيْنِ ولِكِنْ يَغْلِبُ عَلَى الأَوَّلِيْنَ الخَوْفُ وَيَغْلِبُ الرَّجَاءُ عَلَى الآخِرِيْن.
وَمِنْهُمْ المُنِيْبُ إِلَيْهِ بالتَّضَرُّعِ والدُّعَاءِ وكَثْرَةِ الافْتِقَارِ وسُؤَالِ الحَاجَاتِ كُلِّهَا مَعَ قِيَامِهِمْ بالأمْرِ والنَّهْيِ وَمِنْهُمْ المُنِيْبُ إِلى اللهِ عَنْدَ الشَّدَائِدِ فِقِطْ إِنَابَة المُضْطَّرِّ لا إِنَابَة اخْتِيَارٍ.
وَأَعْلَى أَنْوَاعِ الإِنَابَاتِ إِنَابَة الرُّوْحِ بِجُمْلَتِهَا إِلَيْهِ لِشِدَّةِ المَحَبَّةِ الخَالِصَةِ المُغْنِيَة لَهُمْ عَمَّا سِوَى مَحْبُوْبِهِمْ وَحِيْنَ أنَابَتْ إِلِيْهِ لَمْ يَتَخَلَّفْ مِنْهُمْ شَيْء عَنِ الإِنَابَةِ فَإِنَّ الأَعْضَاءَ كُلَّهَا رَعِيَّتُهَا وَأَدّتْ وَظَائِفَهَا كَامِلَةً فَسَاعَةُ من إِنَابَة هَذَا أَعْظَمُ مِنْ إِنَابَة سِنِيْنَ مِنْ غَيْرِهِ وَذَلِكَ فَضْلُ اللهِ انتهي.
((موعظة))
عِبَادَ اللهِ نَحْنُ فِي عَصْرٍ بَارَكَ اللهُ فِيْهِ بَرَكَةً عَمَّتِ المَشَارِقَ والمَغَارِبَ وَكُلَّ مَا للأرْضِ مِنْ أَنْحَاءَ مِمَّا نَعْلَمُهُ وَجَّهَ بِقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ أَفْكَارَ بَنِيْ آدَمَ إِلى مَا أَوْدَعَهُ فِي خَلْقِهِ مِنْ أَسْرَارً تَفُوْتُ الإحْصَاءَ وَيَسَّرَ لَهُمْ السَّبِيْلَ فَوَصِلُوا مِنْ التَّرَاقِي فِي الاخْتِراعِ والإطّلاعِ إِلى مَا يُدْهِشُ الأفْكارَ وتَزْدَادُ بِهِ عَقِيْدَةُ المُؤْمِنِ قُوَّةَّ فَلا يَعْتَرِيْهِ أدْنَى شَكِّ فِي مِا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ وَرَسُولُه.
أَصْبَحَتِ الدُّنْيَا كُلُّهَا كَأَنَّهَا بَيْتٌ وَاحِدٌ يُكَلِّمُ النّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً مَعَ بُعْدِ المَسَافَةِ وِيُسَافِرُوْنَ بَرّاً وَبَحْراً فيَقْطَعُوْنَ بِالمَرَاكِبِ البَرِيَّةِ والبِحْرِيَّةِ فِي مُدَّةٍ يَسِيْرةٍ مَا يَحْتَاجُ إِلى مُدَّةٍ طَوِيْلَةٍ فِيْمَا مَضَى وِتِنْقُلُ تِلْكَ المَرَاكِبُ الّتِي خَلَقَهَا
اللهُ لَنَا مِنَ الأثْقَالِ بِقُوَّةٍ وسُرْعَةٍ تَقِفُ أَمَامَهَا الألبَابُ حَائِرَاتٍ بَلْ لِوْ أَرَادُوْا مُسَابَقَةَ الطّيْرِ فِي السَّمَاءِ لَسَبَقُوْهُ بِالطّائِراتِ.
فَسُبْحَانَ مَنْ أَرْشَدَ عِبَادَهُ إِلَى صُنْعِ هَذِهِ المُخْتَرَعَاتِ قَالَ تَعَالَى: {وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
وانْظُر إِلَى الكَهْرَباءِ وَفَائِدَتِهِا العَظِيْمَةِ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فَقَدْ صَارَ اللَّيْلُ بِأنْوَارِهِ وكَأنَّهُ نَهَارٌ وَمَا فِيْهِ مِنْ أسْبَابِ الرَّاحَةِ والمَنَافِعِ العَظِيْمَةِ الّتِي لَمْ تَحْصُلْ لِمَنْ قَبْلَنَا أَلَيْسَ هَذَا مِنْ أَعْظَم البَرَاهِيْنِ والأدِلّةِ عَلَى صِدْقِ مَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ بِقَوْلِهِ: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} .
وَعَلَى صِدْقِ مَا أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ المَصْدُوْقُ مِنْ أَنَّ الزَّمَانَ يَتَقَارَبُ وَهَا أَنْتَ لَا تَمْشِيْ شَرْقاً وَلَا غَرْباً إِلاّ وأَنْتَ تَرَى وتَسْمَعُ مِنْ تِلْكَ الأَسْرَارِ مَا تَحَارُبِهِ الأَفْكَارُ فَنَحْنُ الَيْومَ نَتَقَلَّبُ فِي كُلِّ أَحْوَالِنَا فِي نَعِيْمٍ لَمْ يَظْفَرْ بِهِ عَصْرٌ مِنَ الإعْصَارِ حَتَّى إِنَّكَ تَرَى حَيَوَانَ هَذَا العَصْرِ فِي رَاحَةٍ وإِكْرَامٍ لَمْ تَتَمَتَّعْ بِهَا بَنُوْ العُصُورِ الْمَاضِيَاتِ إِنَّ حَقّاً عَلَيْنَا إِزاءَ كُلِّ هَذَا أنْ نَكُوْنَ أسْبَقَ الأجْيَالِ فِي مِيْدَانِ شُكْرِ اللهِ لِيُبَرْهِنَ كُلِّ مِنَّا أَنَّهُ يُحِسُّ وَيَشْعُرُ بِمًا اخْتَصَّهُ بِهِ مَوْلَاهُ. أ. هـ.
ولكِنْ يَا لِلأَسَفِ لَمْ يَكُنْ مِنَّا شُكْرُ هَذِهِ النَّعَمِ وَاسْتِعْمَالُهَا فِي طَاعَةِ اللهِ وَمَرَاضِيْهِ وَدَلِيْلُ ذَلِكَ مًا تَرَى وَتَسْمَعُ مِنْ المَعَاصِي والمُنْكَراتِ الّتِي تَكَادُ أنْ تَبْكِي مِنْ فُشُوَّهَا وَازْدِيَادِهَا الجَمَادَاتُ.
فَيَا للهِ لِلْمُسْلِمِيْنَ إِنَّهَا لَتَجْرَحُ قَلْبَ المُؤْمِنِ السَّالِمِ مِنْهَا حَرْجاً يُوْشِكُ أنْ يُوْصِلَهُ إِلى القَبْرِ اللهُمَّ وَفَّقْ وُلَاتَنَا لإِزَالَةِ هَذِهِ المُنْكَراتِ وَلِتْأِيْيِد الإِسلامِ.
والمُسْلِمِيْنَ فِي جَمِيْعِ الجِهَاتِ وَوَفَّقْهُمْ لِلرِّفْقِ فِي رَعَايَاهُمْ والنُّصْحِ لَهُمْ وَسَدَّدْ خُطَاهُمْ.
اللَّهُمَّ وَفّقْنَا لِصَالِحِ الأعْمَالَ، ونَجِّنَا مِنْ جَمِيعِ الأهْوَالِ، وأَمَنّا مِنْ الفَزَعِ الأَكْبَرِ يومَ الرْجْفِ والزلْزَالْ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا، وَلِجَمِيْعِ المُسْلِمِيْنَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وصلي اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِهِ وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
عَنْ ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عن النَّبِيّ (قَالَ نِعْمَتَانِ مَغْبُوْنِ فِيْهِمَا كَثِيْرٌ مِن النّاسِ الصّحة والفَرَاغُ رِواهُ البُخاريّ والتّرمذيّ والنّسائيّ وأحْمد وابن ماجة.
لَقَدْ صَدَقَ رَسُولُ (فِيْمَا قَالَهُ فِي هَذَا الحَدِيْثِ العَظِيْمِ فَإِنَّ كَثِيْراً مِنَ النَّاسِ يُهْمِلُ وَاجِبَ النِّعَمِ عَلَيْهِ فلَا يَسْتَقْبِلُ النِّعَمَ بِمَا يَجِبُ لَهَا مِنَ الشُكْرِ وَلَا يُحَاوِلُ اسْتِبْقَاؤَهَا بأدَاءِ حَقِّ اللهَ فِيْهَا بَلْ يُعْرِضُ عَنْ اللهِ وَيَنْأى بِجَانِبِهِ وَلَا يَذْكُرُ هَذِهِ النِّعْمَةَ مِنْ نِعَمِ اللهِ عَلَى عَظَمِهَا إلاّ حِيْنَ يَعْدُوْ عَلَيْهَا المَرَضُ فيُذْبِلُ نَضْرَةَ العَافِيَةِ وَيَخْطُوْ بِقُوّةِ الشَّبَابِ عَلَى غَيْرِ مَوْعِدٍ إِلى ضَعْفِ الشَّيْخُوْخَةِ.
أَمَّا حِيْنَ يَنْعَمُ الإِنْسَانُ بِسَلَامَةِ أَعْضَائِهِ وقُوَّةِ بُنْيَتِهِ وَحِيْنَ يُحِسُّ الحَيَوِيَّةَ تَسْرِيْ فِي عُرْوْقِهِ فَهُوَ يَنْطَلِقُ فِي شَهَوَاتِهِ خَاضِعاً لَهَا، وَهُوَ يَظُنُّ نَفْسَهُ الآمِرَ النَّاهِي، وخَاسِراً بِهَا وَهُوَ يَحْسِبُ نَفْسَهُ قَدْ رَبَح كُلَّ شَيْءٍ.
وتَمْضِيْ بِهِ أَيَّامُهُ وَلَيَالِيْهِ وَهُوَ يَرْتَعُ كَالحَيَوَانِ فِي مَلَذَّاتِهِ مِنْ مَأْكُوْلاتٍ وَمَشْرُوْبَاتٍ دُوْنَ تَفْرِقَةٍ بَيْنَ حَلَالٍ وَحَرَامٍ وِمْن غَيْرِ تَمِييْزٍ بَيْنَ طَيِّبٍ وَخَبِيْثٍ فَيُسِيءُ إِلى نَفْسِهِ وَيَبْخَسُهَا حَقّهَا إِذْ يُضَيِّعُ طَاقَتَهَا عَلَى العَمَلِ النَّافِعِ وعَلَى الطَّاعَةِ الوَاجِبَةِ فِي اللَّهْوِ واللَّعِب. قال اللهُ جَلَّ وَعَلَا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}
وَبِلَا شَكٍّ أَنَّ الصِّحَةَ عَرَضٌ لا يَدُوْمُ بَلْ يَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ وأَنَّ المَرَضَ يُفْقِدُ الإِنْسَانَ مُعْظَمَ طَاقَتَهُ عَلَى العَمَلِ بَلْ رُبَّمَا فَقَدَهَا كُلَّهَا وَعَجِزَ فَمِنَ السَّفَهِ والحُمُقِ إِذاً أَنْ لَا يَغْتَنِمَ الإِنْسَانُ فُرْصَةَ الصِّحَّةِ والفَرَاغِ مِن الشَّوَاغِلِ لِلطَّاعَةِ والعِبَادَةِ.
وَكُلُّ إنْسَانٍ يَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ يَوْمٍ يَتَقَدَّمُ بِهِ الزَّمَنُ يَقْصُرُ عُمُرُهُ وَمَقْدِرَتُهُ عَلَى العَمَلِ تَضْعُفُ كُلَّمَا خَطَا بِهِ الزَّمَنُ وَمحْصُوْلُهُ مِنَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ يَقِلُّ كُلَّمَا أَقْعَدَهُ المَرَضُ أَوْ أَثْقَلَتْهُ السُّنُوْن فالعَاقِلُ اليَقِظُ يُحَافِظُ عَلَى وَقْتِهِ أَكْثَرَ مِنْ مُحَافَظَتِهِ عَلَى مَالِهِ وَلَا يُضَيِّعُ مِنْهُ شَيْئاً بَلْ يَسْتَعْمِلَهُ فِيْمَا يُقَرِّبُهُ إِلى اللهِ والدّارِ الآخِرَةِ أَوْ مَا هُوَ سَبَبٌ إِلى ذَلِكَ فَإِنَّ فَاتَهُ شَيْءٌ أَوْ نَسِيَ شَيْئاً مِنْ أَعْمَالِهِ بِاللّيْلِ قَضَاهُ بِالنَّهَارِ وبِالعَكْسِ.
وللهِ آياتٌ كَوْنِيَّةٌ وآيَاتٌ قُرْآنِيّةٌ يَتَمَشَّى المُسْلِمُ النَّشِيْطُ المُبْتَعِدُ عَنْ الكَسَل والعَجْزِ عَلَى ضَوْئِهَا قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} وَقَالَ: {إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ} .
وَقَالَ تَعَالَى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} فاللهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَخْلُقْ هَذِهِ عَبَثاً فالذّاهِلُونَ عن مَعَانِيْ هَذِهِ الآياتِ، الهَائِمُوْنَ وَرَاءَ مَنَافِعِهِمْ المُعَجَّلَةِ حَمْقَي لا يَنْتَصِحُوْنَ مِن حِكْمَةٍ وِلا يَسْتَفِيْدُوْنَ مِنْ دَرْسٍ تَجِدْهُمْ لا يُبَالُوْنَ بإضَاعَةِ أوقَاتِهمْ فِي غَيْرِ فائِدَةٍ وَرُبَّما أَضاعُوْهَا فِي المَعَاصِي.
شِعْراً:
…
أَجْنِبْ جِيَاداً مِنَ التَّقْوى مُضَمَّرةٌ
…
لِلْسَّبْقِ يَومَ يَفُوزُ النّاسُ بالسّبَقِ
ثَمُرُّ مَرَّ الرَّيَاحِ الهُوْجِ عَاصِفةٌ
…
أوْ لَمْحَةِ البَرْقِ إذَا يَجْتَازُ بالأفُقِ
وَارْكُضْ إِلى الغَايَةِ القُصْوى وخَلِّ لَهَا
…
عِنَانَ صِدْقٍ رَمَى فِي فِتْيَةٍ صُدُقِ
فإِنَّ خلْفَكَ أعْمَالاً مُثَبِّطَةٌ
…
ولَسْتَ تَنْهَضُ إِلَاّ وَيْكَ بالعَنَقِ
كَمْ حَّلَ عَزْمَكَ مِن دُنْياً مُعَرَّجَة
…
بِقَصْدِكَ اليومَ عن مَسْلُوْكَةِ الطُّرِقِ
يَا غَافِلاً والمَنَايَا مِنْهُ ذَاكِرَةٌ
…
وَضَاحِكاً والرَّدَى مِنْهُ عَلَى حَنَقِ
.. قَطَعْتَ عُمْرَكَ فِي سَهْوٍ وفِي سِنَةٍ
…
ومِنْ أمَامِكَ لَيْلٌ دَائِمُ
آخر:
…
((إِذا شَغَّلَ الضُّيَاعُ آلاتِ لَهْوِهِمْ
وَطَابَ لَهُمْ عِنْدَ المَلَاهِيَ مَحْفَلُ))
((وَسُرُّوْا بِمَا فِيْهِ هَلَاكُ نُفُوْسِهِمْ
وَدِيْنُهُمُ وَالأَهْلُ وَالمَالُ أَوَّلُ))
((فَقُمْ وَتَوَضّأ وأقْصِدْ الماجِدَ الّذي
إِذا مَا مَضَي الثُّلْثَانِ للَّيْلِ يَنْزِلُ))
((يَقُولُ أَلَا مِنْ سَائِل يُعْطَ سُؤْلَهُ
ومُسْتَغْفِرٍ يُغْفَرْ لَهُ مَا يُؤَمِّلُ))
((ومِنْ مُذْنِبٍ مِمَّا جَنَى جَاءَ تَائِباً
إِلى غَافِرٍ لِلّذَنْبِ لِلتَّوْبِ يَقْبَلُ))
((وَكَرِّرْ سُؤَالاً وَالدُّعَا بِتَضَرُّعٍ
لَعَلّكَ تُحْظَى بِالفَلَاحِ فَتُقْبَلُ))
((وَقُلْ عَبْدُكَ المِسْكِيْنُ قَدْ جَاءَ تائِباً
وَيَرْجُوْكَ تَوْفِيْقاً ولِلْعَفْوِ يَأْمَلُ))
((فَجُدْ وَتَجَاوَزْ يَا جَوَادُ لِمًنْ أتَى
وَلَيْسَ لَهُ إِلَاّ رَجَاؤُكَ مَوْئِلُ))
…
>?
اللَّهُمَّ وَفّقْنَا لِصَالِحِ الأعْمَالَ، ونَجِّنَا مِنْ جَميِع الأهْوَالِ، وأمَنّا مِنَ الفَزَعِ الأكْبَرِ يومَ الرْجْفِ والزِلْزَالْ، واغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا، وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ الأحْيَاِء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وصلي اللَّهُمَّ علي سيدنا مُحَمَّدٍ وآلِهِ وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
ثُمَّ اعْلَمْ أَهْلَ الضَّيَاعِ لَلْوَقْتِ الَّذِينَ كَانَ أَمْرُهُمْ فُرُطَاً وأعْمَارُهُمْ سَبَهْلَلاً لا يُفِيْقُوْنَ مِنْ قَتْلِ أوْقَاتِهِمْ فِي البَطَالَةِ وعِنْدَ المُنْكَرَاتِ مِنْ كُرَة وفِدْيو وتِلفزْيُون ومِذْيَاعٍ وسِيْنَمَا وَوَرَقٍ وَغِيْبة ونَمِيْمةٍ وتَجَسُّسٍ عَلَى المُسْلِمْين وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَرُبَّمَا أَضَافُوْا إِلى ذَلِكَ الجِنَايَةَ عَلَى أَوْقَاتِ الآخَرِيْن فَشَغَلُوهُم عَنْ أَعْمَالِهِمْ بِشُئُونٍ تَافِهَةٍ أَوْ فِيْمَا يَعُوْدُ عَلَيْهِم بِالخُسْرانِ فَهَؤُلَاءِ أَسَاءُوا مِنْ جِهَتَيْن عَلَى أَنْفُسِهِمْ إِذْ يُمْضُونَ أَيَّامَهُمْ فِي غَيْرِ عَمَلٍ وعَلَى غَيْرِهِمْ حَيْثُ شَغَلُوْهُمْ عَنْ العَمَلِ والعَجَبُ أنَّ هَؤُلَاءِ الّذِيْنَ اعْتَادُوْا قَتْلَ الوَقْتِ إِذَا مَا تَبَيَّنَ فَشَلُهُمْ فِي نَوْبَةِ يَقْظَةٍ رَاحُوْا يَتَساءَلُوْنَ عَنْ سِرِّ هَذَا الفَشَلِ وَيَتَّهِمُوْنَ الأَيَّامَ تَارةً والحَظّ تَارةً أُخْرَى، كَأَنَّهُمْ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ مَطْبُوْعُونَ عَلَى النَّجَاحِ دُوْنَ عَمَلٍ وَأَنْ يَجْنُوْا ثِمَارَ مَوَاهِبِهِمْ بَعْدَ أَنْ قَتَلُوْا هَذِهِ المَوَاهِبَ.
أَمَّا السَّبَبُ الحَقِيْقِي لِفَشَلِهِمْ فَهُوَ لَا يَخْطُرُ لَهُمْ بِبالٍ وَلَا يُفَكِّرُوْنَ فِيْهِ وَذَلِكَ لِضُعْفِ عُقُوْلِهم.
فَعَلَى العَاقِلِ أَنْ يَبْتَعِدَ عَنْ هَؤُلَاءِ الكُسَالَى كُلَّ البُعْدِ لِئلا يُؤَثِّرُوْا عَلَيْهِ فَيُصِيْبُهُ مَا أَصَابَهُمْ مَنْ ضَيَاعِ العُمْرِ سُدَى ويَجْتَهِدَ فِي صُحْبَتِهِ ضِدَّ هَؤُلَاءِ أُنَاساً أتْقِيَاءَ مُحَافِظِيْنَ عَلَى أَوْقَاتِهِمْ لَا يُمْضُوْنَهَا إِلَا فِي طَاعَةِ اللهِ وَمَا أَحْسَنَ مَا قيل:
…
أخو الفِسْقِ لا يُغْرُوْكَ مِنْهُ تَوَدُدٌ
…
... فكُلُ حِبَالِ الفَاسِقْيِنَ مَهِينُ
وَصَاحِبْ إذَا مَا كُنْتَ يَوْماً مُصَاحِباً
…
أَخَا ثِقَةٍ بالغَيْبِ مِنْكَ أَمِيْنُ
آخر:
…
بِعَشْرَتكَ الكِرَامَ تُعَدُّ مِنْهُمْ
…
فَلَا تُرَيَنْ لِغَيرِهُمُ أَلُوفْا
آخر:
…
فَصَاحِبْ تَقِيّاً عَالِماً تَنْتَفِعْ بِهِ
فَصُحْبَةُ أَهْلِ الْخَيْرِ تُرْجَى وَتُطْلَبُ
وَإِيَّاكَ والفُسَّاقَ لَا تَصْحَبَنَّهُمْ
فَقُرْبُهُمُ يُعْدِى وَهَذَا مُجَرَّبُ
…
>?
.. فَإِنََّا رَأَيْنَا المَرْءَ يَسْرِقُ طَبْعَهُ
مِنْ الإِلْفِ ثُمَّ الشَّرُّ لِلنَّاسِ أَغْلَبُ
وجَانِبْ ذَوِيْ الأَوْزارِ لَا تَقَرَبنَّهُمْ
فَقُرْبُهُمُ يُرْدي ولِلْعِرْضِ يَثْلِبُ
…
>?
آخر:
…
وأَهْوَ مِنْ الإِخْوَانِ كُلّ مُجَنِّبٍ
…
عَنْ اللَّهْوِ مقْدَاماً عَلَى فِعْلِ طَاعَةِ
لَهُ عِفَّةٌ عَنْ كُلِ شَيْءِ مُحَرَمٍ
…
وَذُوْ رَغْبَةٍ فيمَا يَقُوْدُ لجَنَّةِ
آخر:
…
لَا يُعْجِبَنْكَ أثْوَابٌ عَلَى رَجُلٍ
…
وَانظُرْ إِلى دِيْنِهِ وَانظُرْ إِلى الأدَبِ
فالعُوْدُ لَوْ لَمْ تَفُحْ مِنْهُ رَوَائِحُهُ
…
مَا فَرَّقَ النَّاسُ بَيْنَ العُودِ والحَطَبِ
وبالتَّالِي فالّذِي يُرْشِدُنَا إِلَيْهِ النَّبِيُّ (فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ يُقَرِّرُ أوّلاً أنَّ صِحَّةَ البَدَنِ نِعْمَةُ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللهِ عَلَيْنَا لِيُرَبّي فِيْنَا الوَعْيَ بِقِيْمَةِ الطَّاقَةِ الإنْسَانِيَّةِ الّتِي خَلَقَهَا اللهُ فِيْنَا. فَنَسْتَغِلّها فِيْمَا يَعُوْدُ عَلَيْنَا أَفْرَاداً وَجَمَاعَةً بالخَيِْر والنَّفْعِ.
وَيُقَرَّرُ لَنَا (ثَانِياً أنَّ الوَقْتَ هُوَ الحَيَاةُ، وَأَنَّ مَا نَحْسِبُهُ فَرَاغاً فَنَتَفَنَّنُ فِي وَسَائِلِ قَتْلِهِ هُوَ الطَّرِيْقُ إِلى التَّقَدُّمِ فَالحَقِيْقَةُ أَنْ الحَيَّ الّذِي يُقَدِّرُ حَيَاتَهُ يَبْخَلُ فِي الوَقْتِ أَنْ يَكُونَ فَيْهِ فَارِغاً وَيَجْتَهِدُ فِيْهِ فِي العَمَلِ الّذِي يُقرّبُهُ إِلى اللهِ وإِلى مَرْضَاتِهِ مِنْ صَلَاةٍ وَصَدقَةٍ وتَهْلِيلٍ وتَسْبِيحٍ وتكْبيرٍ وتَحْمِيدٍ.
وَمِنْ اسْتِغْلالِ الوَقْتِ بأنْفَعِ الوَسَائِلِ المُدَاوَمَةُ عَلَى الْعَمَِل وَإِنْ كَانَ قَلِيْلاً. وَذَلِكَ أَنَّ اسْتِدَامَةَ الْعَمَلِ القَلِيْلِ عَلَى تَوَالي الزَّمَانِ واسْتِمْرَارِهِ يُكَوِّنُ مِنْ القَلِيْلِ كَثِيْراً مِنْ حَيْثُ لَا يَجِدُ الإِنْسَانُ مَشَقَّةً وَلَا ضَجَراً.
وفِي الْحَدِيْثِ إِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلى اللهِ مَادَامَ وَإِنْ قَلَّ وفِي الْحَدِيْثِ الآخَرِ إِنَّ الدَّيْنَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدّيْنَ أَحَدٌ إِلَا غَلَبَهُ فَسَدَّدُوْا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوْا واسْتَعِيْنُوْا بالغَدْوَةِ والرَّوْحَةِ وشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ والقَصْدَ القَصْدَ.
فقَدْ خَتَمَ (هَذَا الْحَدِيثَ بِوَصِيَّةٍ خَفِيْفَةٍ عَلَى النُّفُوسِ، نَافِعَةٍ تُرْشِدُ إِلى المُحَافَظَةِ عَلَى الوَقْتِ، حَيْثُ حَثّ فِيْهَا عَلَى التَّبْكِيْر وَرغَّبَ أَنْ يَبْدأَ
المُسْلِمُ أَعْمَالَ يَوْمِهِ نَشِيْطاً طَيّبَ النَّفْسِ مُكْتَمِلَ العَزْمِ فَإِنَّ الحِرْصَ عَلَى الاْنتِفَاعِ مِنْ أَوَّلِ الْيَوْمِ يَسْتَتْبِعُ الرَّغْبَةَ القَوِيَّةَ فِي أنْ لَا يَضِيْعَ سائِرُهُ سُدَى.
فَهَذِهِ الأوْقَاتُ الثّلاثَةُ المَذْكُورَةُ فِي الْحَدِيْثِ، كَمَا أَنَّهَا السَّبَبُ الوَحِيْدُ لِقَطْعِ المَسَافَاتِ القَرِيْبَةِ والبَعِيْدَةِ فِي الأَسْفَارِ الحِسّيِةِ مَعَ رَاحَةِ المُسَافِرِ وَرَاحَةِ رَاحِلَتِهِ وُوُصْوْلِهِ بِرَاحَةٍ وَسُهُوْلَةٍ فَهِيَ السَّبَبُ الوَحِيْدُ لِقَطْعِ السَّفَرِ الأُخْرَوِيِّ وَسْلُوْكِ الصِّرَاطِ المُسْتَقِيْمِ والسَّيْرِ إِلى اللهِ سَيْراً جَمِيْلاً.
فَمَتَى أَخَذَ العَامِلُ نَفْسَهُ وَشَغَلَهَا بِالْخَيْرِ والأَعْمَالِ الصَّالِحَِة المُنَاسِبَةِ لِوَقْتِهِ أَوَّلَ نَهَارِهِ وآخِرَ نَهَارِهِ وشَيْئاً مِنْ لَيْلِهِ وخُصُوصًاً آخِرَ اللَّيْلِ حَصَلَ لَهُ مِنْ الْخَيْرِ وَمِنْ البَاقِيَاتِ الصّالِحَاتِ أَكْمَلُ حَظٍّ وَأَوْفَرُ نَصِيْبٍ وَنَالَ السَّعَادَةَ وَالفَوْزَ وَالفَلاحَ وَتَمّ لَهُ النَّجَاحُ بِإِذْنِ اللهِ فِي رَاحَةٍ وَطُمَأْنِيْنَةٍ مَعَ ُحُصْولِ مَقْصَدِهِ الدُّنْيَويّ وأغْرَاضِهِ النَّفْسِيَّةِ.
وَمِمَّا وَرَدَ فِي الحَثِّ عَلَى صِيَانَةِ الوَقْتِ مَا وَرَدَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ (قَالَ اغْتَنِِمْ خَمْساً قَبْلَ خَمْسٍ: شَبابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ وغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ.
وَقَالَ (مَنْ خَافَ أَدْلَجَ وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ المَنْزِلَ أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللهِ غَالِيَةٌ أَلَا إِنَ سِلْعَةَ اللهِ الجَنَّةَ وَرُوِيَ عَنْ فَاطِمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ مَرَّ بِيْ رَسُوْلُ الله (وأنَا مُضْطَجِعَةٌ مُتَصَحَّبَةٌ فَحَرَّكَنِيْ بِرِجْلِهِ ثُمَّ قَالَ يَا بُنَيَّةَ قُوْمِيْ فاشْهَدِي رِزْقَ رَبَّكِ وَلَا تَكُونِي مِنَ الغَافِلِيْنَ فَإِنَّ اللهَ يَقْسِمُ أَرْزَاقَ النَّاسِ مَا بَيْنَ طُلُوْعِ الفَجْرِ إِلى طُلُوْعِ الشَّمْسِ) إِذْ أَنَّ الجَادِيْنَ أَوْ الكُسَالَى يَتَمَيَّزُوْنَ فِي هَذَا الوَقْتِ فَيُعْطَى كُلُّ امْرئٍ حَسَبَ اسْتِعْدَادِهِ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا والآخِرَةِ.
شِعْراً:
…
إَذَا المَرْءُ لم يَطْلُبْ مَعَاشاً لِنَفْسِهِ
…
شَكَا الفَقْرَ أَوْ لَامَ الصَّدِيْقَ فَأكْثَرَا
وَصَارَ عَلَى الأَدَنَيْنِ كَلَّاً وَأَوْشَكَتْ
…
صِلاتُ ذَوِيْ القُرْبَى لَهُ أَنْ تَنْكَرَا
وخِتَاماً فَيَنْبَغِيْ لِلْعَاقِلِ اللَّبِيْبِ أَنْ لَا يُضَيِّعَ أَيَّامَ صِحَّتِهِ وَفَراغَ وقْتِهِ بِالتَّقْصِيْرِ فِي طَاعَةِ اللهِ، وَأَنْ لَا يَثِقَ بِسَالِفِ عَمَلٍ وَيَجْعَلَ الاجْتِهَادَ غَنِيْمَةَ صِحَّتِهِ، وَيَجْعَلَ الْعَمَلَ فُرْصَةَ فَراغِهِ. فلَيْسَ الزَّمَانُ كُلُّهُ مُسْتَعِدَاً وَلَا مَا فَاتَ مُسْتَدْرِكاً.
شِعْراً:
…
لَيْسَ السَّعَادَة أَنْ تَبِيْتَ مُنَعَّمَا
…
وتَظَلُّّ سَالِكاً مَسْلكَ الكَسْلانِ
مَا لِلرِّجَالِ وللتَّنَعُمِ إِنَّمَا
…
خُلِقُوا ليْعُبدُوْا خَالِقَ الإِنْسَانِ
قَال بَعْضُهُمْ فَوْتُ الوَقْتِ أَشَدُّ مِنْ فَوْتِ الرُّوْحِ عِنْدَ أَصْحَابِ الحَقِيْقَةِ لأَنَّ فَوْتَ الرَّوْحِ انْقِطَاعٌ عَنْ الخَلْقِ وَفَوْتَ الوقتِ انْقِطَاعٌ عَنْ الحَقِّ.
وَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه الرَّاحَةُ لِلرِّجَالِ غَفْلٌَة ولِلنِّسَاءِ غِلْمَةٌ فَالفَرَاغُ مَفْسَدَةٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لاً تُمْضِ يَوْمَكَ فِي غَيْرِ مَنْفَعَةٍ وَلَا تُضِعْ مَا لَكَ فِي غَيْرِ الفِعْلِ الحَسَنِ، فَالعُمْرُ أقْصَرُ مِنْ أنْ يَنْفَدَ فِي غَيْرِ المَنَافِعِ كَمَا قِيْلَ:
أَذَانُ الْمَرْءِ حِيْنَ الطِّفْل يَأتِيْ
وتَأْخِيْرُ الصَّلاةِ إِلى المَمَاتِ
دَلِيْلٌ أَنَّ مَحْيَاهُ قَلِيْلٌ
كَمَا بَيْنَ الأذَانِ إِلى الصَّلَاةِ
…
>?
وَالْمَالُ أَقَلُّ مِنْ أَنْ يُصْرَفَ فِي غَيْرِ الصَّنَائِعِ والعَاقِلِ أَجَلُّ وأَكْيَسُ مِنْ أنْ يُفْنِي أَياَّمَهُ فِيْمَا لَا يَعُودُ إِلَيْهِ نَفْعُهُ وَخَيْرُهُ ويُنْفِقُ أَمْوَالَهُ فِيْمَا لَا يَحْصُلُ لَهُ ثَوَابُهُ وأجْرُهُ.
وَقَالَ عِيْسَى عَلَيْهِ وعَلَى نَبِيّنَا أَفْضَلُ الصَّلاةِ والسَّلامِ البّرُّ ثَلَاثَةٌ المَنْطِقُ والنَّظَرُ والصَّمْتُ فَمَنْ كَانَ مَنْطِقُهُ فِي غَيْرِ ذِكْرٍ فَقَدْ لَغا ومَنْ كَانَ نَظَرُهُ فِي غَيْرِ اعْتِبَارَ فَقَد سَها ومَنْ كَانَ صَمْتُهُ فِي غَيْرِ فِكْرٍ فَقَدْ لَهَا.
شِعْراً:
…
عَقَلْتُ فَودَّعْتُ التَّصَابِي وَإِنَّما
…
تَصُرُّمُ لَهْوِ المَرْءِ أنْ يَكْمُلَ العَقْلُ
أَرَى الكُفْرَ شَرَاً فِي الحَيَاةِ وَبَعْدَهَا
…
ولَا عُمرَ إِلاّ مَا يُنَالُ بِهِ الفَضْلُ
ومِمَّا يَحْفِزُ الإِنْسَانَ عَلَى المُسَابَقَةِ إِلى فِعْلِ الطَّاعَاتِ تَذَكُّرُ يَوْمِ القِيَامَةِ وَحَالَةَ السَّبْقِ لِلْمُجدِّيْنَ قَالَ بَعْضُهُمْ:
إِذَا مَضَتِ الأَوْقَاتُ فِي غَيْرِ طَاعَةِ
وَلَمْ تَكُ مَحْزُوْناً فَذَا أعْظَمُ الخَطْبِ
عَلَامَةُ مَوْتِ الْقَلْبِ أَنْ لَا تَرَى بِهِ
حَرَاكاً إِلى التّقْوَى ومَيْلاً عَنِ الذَّنْبِ
…
>?
وَقَالَ الآخَرُ:
…
وَلَوْ قَدْ جِئْتَ يَوْمَ الفَصْلِ فَرْداً
وأبْصَرْتَ المَنَازِلَ فِيْهِ شَتَّى
لأَعْظَمْتَ النَّدَامَةَ فِيْهِ لَهْفاً
عَلَى مَا فِي حَيَاتِكَ قَدْ أَضَعْتَا
…
>?
فَالعَاقِلُ مَنْ يُبَادِرُ أَيَّامَ الصِّحَّةِ وَالَّسلَامَةِ وَلَا يُفَوِّتُ مِنْهَا شَيْئاً فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللهِ.
قَالَ الأَعْشَى:
…
إِذا أَنْتَ لَمْ تَرْحَلْ بِزَادٍ مِنَ التُّقَى
وَأَبْصَرْتَ بَعْدَ اْلمَوْتِ مَنْ قَدْ تَزَوَّدَا
نَدِمْتَ عَلَى أَنْ لَا تَكُوْنَ كَمِثْلِهِ
وَأَنَّكَ لَمْ تُرْصِدْ كَمَا كَانَ أَرْصَدَا
شِعْراً:
…
وَاِنْ سَكَنَتْ عَمَّا قَلِيْلٍ تَحَرَّكُ
وَاِنْ سَكَنَتْ عَمَّا قَلِيْلٍ تَحَرَّكُ
وبَادِرْ بأَوْقَاتِ السَّلامَةِ إِنَّهَا
رِهَانٌ وهَلْ لِلرَّهْنِ عِنْدَكَ مَتْرَكُ
…
>?
نَسْألِ اللهُ أَنْ يُوفِقَنَا لِتَدبُّرِ آياتِهِ وفَهْمِ سُنَّةِ نَبِيِّهِ (والْعَمَلِ بِهِمَا وأنْ يَرْزُقَنَا الانْتِفَاعَ بِمُرُورِ الزَّمَنِ عَلَى خَيْرِ وَجْهٍ إِنَّهُ القَادِرُ عَلَى ذَلِكَ، اللَّهُمَّ أَيْقِظْنَا مِنْ هَذِهِ السِّنَةِ وَوَفِقْنَا لاِتِّبَاعِ ذَوِي النُّفُوسِ المُحْسِنَةْ وآتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، اللَّهُمَّ وآتِنَا أَفْضَلَ مَا تُؤْتِي عِبَادَكَ الصَّالِحِيْنَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسِلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرحمَ الرَاحِمِينَ وصَلّي اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وعَلَى آلِهِ وصَحبِهِ أجْمَعين.
(فَصْلٌ)
وفِي وَصِيَّةِ الإِمَامِ المُوَفَّقِ ابنِ قُدَامَهَ مَا لَفْظُهُ: فاغْتَنِمْ رَحِمَكَ اللهُ حَيَاتَكَ النَّفِسْيَةَ واحْتَفِظْ بأَوْقَاتِكَ العَزِيْزَةِ واعْلَمْ أنَّ مُدَّةَ حَيَاتِكَ مَحْدُوْدَةٌ وأَنْفَاسَكَ مَعْدُوْدَةٌ فكُلُ نَفَسٍ يَنْقُصُ بِهِ جُزْءُ مِنْكَ والعُمْرُ كُلُّهُ قَصِيْرٌ والبَاقِي مِنْهُ هُوَ اليَسِيْرُ وَكُلُ جُزْءٌ مِنْهُ جَوَهَرَةٌ نَفِسْيَةٌ لَا عِدْلَ لَهَا والبَاقِي مِنْهُ هُوَ اليَسِيْرُ وَكُلُ جُزْءٌ مِنْهُ جَوَهَرَةٌ نَفِسْيَةٌ لا عِدْلَ لَهَا ولَا خَلفَ مِنْهَا فإِنَّ بِهَذِهِ الحَيَاةِ اليَسِيْرَةِ خُلُودُ الأَبَدِ فِي النَّعِيْمِ أَوْ الْعَذَابِ الأَلِيْمِ.
وإذا عَادَلْتَ هَذِهِ الحَيَاةَ بِخُلُودِ الأَبَدِ عَلِمْتَ أَنَّ كُلَّ نَفَسٍ يُعَادِلُ أكْثَرَ مِنْ أَلفِ أَلفِ عَامٍ فِي نَعِيْمِ لَا خَطَرَ لَهُ أَوْ خِلافَ ذَلِكَ ومَا كَانَ هَكَذَا فَلَا قِيْمَةَ لَهُ فَلَا تُضَيِّعَ جَوَاهِرَ عُمْرِكَ النَّفِسْيَةَ بِغَيْرِ عَمَل وَلَا تُذْهِبْهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ واجْتَهِدْ أَنْ لَا يَخْلُو نَفَسٌ مِنْ أَنْفَاسِكَ إِلَاّ فِي عَمَلِ طَاعَةٍ أَو قُرْبَةٍ تُقَرِّبُ بِهَا فإِنَّكَ لَوْ كَانَ مَعَكَ جَوْهَرَةٌ مِنْ جَوَاهِرِ الدُنْيَا لَسَاءَكَ ذَهَابُهَا فَكَيْفَ تُفَرَّطُ فِي سَاعَاتِكَ وكَيْفَ لَا تَحْزَنُ عَلَى عُمُرِكَ الذَّاهِبِ بِغَيْرِ عِوَضٍ انتهي.
وعَنْ عُمَرَ بنِ ذَرٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ اعْمَلُوا لأِنْفُسِكُمْ رَحِمَكُم اللهُ فِي هَذَا اللَّيلِ وَسَوَادِهِ، فإِنَّ المَغْبُوْنَ مَنْ غُبِنَ خَيْرَ اللَّيلِ والنَّهَارِ، والمَحْرُوْمُ مَنْ حُرِمَ خَيْرَهُمَا، إِنَّمَا جُعِلا سَبِيْلاً لِلْمُؤْمِنِينَ إِلى طَاعَةِ رَبّهم، وَوَبَاِلاً عَلَى الآخَرِيْنَ لِلغَفْلَةِ عَنْ أَنْفُسِهِم فأَحْيُوا للهِ أَنْفُسَكُمْ بذِكْرِهِ، فإنَّمَا تَحْيَا القُلُوبُ بِذِكْرِ اللهِ عز وجل.
كَمْ مِنْ قَائِمٍ للهِ جَلَّ وَعَلا فِي هَذَا اللَّيلِ قَدْ اغْتَبَطَ بقِيَامِهِ فِي ظُلْمَةِ
حُفْرَتِهِ وَكَمْ مِنْ نَائِمٍ فِي هَذَا اللَّيلِ قَدْ نَدِمَ عَلَى طُوْلِ نَوْمَتِهِ عِنْدَمَا يَرَى مِنْ كَرَامَةٍ اللهِ لِلْعَابِدِيْنَ غَداً فاغْتَنِمُوْا مَمَرَّ السَّاعَاتِ واللَّيَالِي والأَيَّامِ رَحِمَكُم الله وَرَاقِبُوا اللهَ جَلَّ وَعَلا فِي كُلِّ لَحْظَةٍ ودَاوِمُوْا شُكْرَهُ.
قَالَ مُحَمَّد بنُ عَلي الترمذيُ اجْعَل مُرَاقَبَتَكَ لِمَنْ لَا تَغِيْبُ عَنْ نَظَرِهِ إِلَيْكَ واجْعَلْ شُكْرَكَ لِمَنْ لَا تَنْقَطِعُ نِعْمَتُهُ عَنْكَ واجْعَلْ خُضُوْعَكَ لِمَنْ لَا تَخْرُجُ عَنْ مُلْكِهِ.
وَقَالَ ابنُ القَيِّمِ رحمه الله: العَبْدُ مِنْ حِيْنِ اسْتَقَرَّتْ قَدَمُهُ فِي هَذِهِ الدَارِ فَهُوَ مُسَافِرٌ فِيْهَا إِلى رَبِّهِ، وَمُدَّةُ سَفَرِهِ عُمْرُهُ والأيَّامُ واللَّيالِي مَرَاحِلُ فَلَا يَزَالُ يَطْوِيْهَا حَتّى يَنْتَهِِي السَّفَرُ، فالكَيِّسُ لَا يَزَالُ مُهْتَماً بِقَطْعِ المَرَاحِلِ فِيْمَا يُقَرَّبُهُ إِلى اللهِ لِيَجِدَ مَا قَدَّمَ مُحْضَراً ثُمَّ النّاسُ مُنْقَسِمُونَ إِلى أقْسَامٍ، مِنْهُمْ مَنْ قَطَعَهَا مُتَزَوَّداً بِمَا يُقَرَّبُهُ إِلى دَارِ الشَّقَاءِ مِنْ الكُفْرِ وَأَنْوَاعِ المَعَاصِيْ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَهَا سَائِراً فِيْهَا إِلى اللهِ وإِلى دَارِ السَّلامِ، وَهُمُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: سَابِقُوْنَ أدُّوْا الفَرَائِضَ وأَكْثَرُوْا مِنْ النَّوَافِل بأنْوَاعِهَا، وَتَرَكُوْا المَحَارِمَ، والمَكْرُوْهَاتِ وفُضُولِ المُبَاحَاتِ، ومُقْتَصِدُوْنَ أَدَّوْا الفَرَائِضَ وتَرَكُوْا المَحَارِمَ، وَمِنْهُمْ الظَالِمُ لِنَفْسِهِ الَّذِي خَلَطَ عَمَلاً صَالِحاً وآخَرَ سَيّئاً وهُمْ فِي ذَلِكَ دَرَجَاتٍ يَتَفَاوَتُوْنَ تَفَاوُتاً عَظِيْماً أ.هـ.
وَقَالَ رحمه الله: النَّاس مُنْذُ خُلِقُوا لَمْ يَزَالُوْا مُسَافِرِيْنَ لَيْسَ لّهُمْ حَطٌ عَنْ رِحَالِهم إِلا فِي الْجَنَّةِ أَو النَّارِ والعَاقِلُ يَعْلَمُ أَنْ السّفَرَ مبْنِيٌ عَلَى المَشَقَّةِ وَرُكُوبِ الأَخْطَارِ وَمِنَ المُحَالِ عَادَةً أَنْ يُطْلَبَ فِيْهِ نَّعِيمٌ، ولَذَةٌ وَرَاحَةٌ إِنَّمَا ذَلِكَ بَعْدَ اْنِتِهَاءِ السَّفَرِ وَمِنَ المَعْلُومِ أَنَّ كُلَّ وَطْأَةِ قَدَمٍ أَوْ كُلَّ آنٍ مِنْ آنَاتِ السَّفَرِ غَيْرَ وَاقِفَةٍ وَلَا المُكَلَّفُ وَاقِفٌ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ سَافَرَ عَلَى الحَالِ التِي يُحُبُ أَنْ
يَكُوْنَ المُسَافِرُ مِنْ تَهْيِئَةِ الزَّادِ المُوْصِلِ وَإِذَا نَزَلَ أَوْ نَامَ أَوْ اسْتَرَاحَ فَعَلَى اسْتِعْدَادٍ.
شِعْراً:
…
أَنْتَ المُسَافِرُ والدُّنْيَا الطَرِيقُ وَأَنْ
فَاسٌ خُطَاكَ وَرَأْسُ المَرْءِ إِيْمَانُ
فَاجْعَلْ لِنَفْسِكَ تَقْوَى اللهِ مَدْرَجَةً
فَلِلإِسَاءَاتِ قُطَّاعُ وأَعْوَانُ
يَا قَومُ دُنْيَاكُمُوْا دَاٌر مُزَوَّقَةٌ
لَكِنْ لَهَا وُضِعَتْ فِي الرَّمْلِ أَرْكَانُ
بِهَا سُقُوفٌ بِلَا أُسٍ مُزَخْرَفَةٌ
وكَيْفَ يُبْنِيَ بِغْيْرِ الأُسِّ بُنْيَانُ
كَمْ فَاتِحٍ عَيْنَهُ فِيْهَا تَخَطَّفَهُ
أيْدِي الرَّدَى قَبْلَ أَنْ تَنْضَمَّ أَجْفَانُ
هِيَ السَّرَابُ وَمَاءُ الوَجْهِ تُرْهِقُهُ
وَلَا يَرَى فِيْهِ وَجْهَ المَاءِ عَطْشَانُ
رَحّى يَدُوْرُ دَقِيْقٌ شَأْنَهُ عَجَبٌ
غَدَا لِكُلِّ خَلِيْلٍ وَهُوَ طَحَّانُ
يَسُرُّ كُلُّ فَتَّى طُوْلُ الزَّمَانِ بِهِ
ولِلْفَتَى حَاصِلُ الأزْمَانِ إِزْمَانُ
…
>?
وَقَالَ ابْنُ القَيْمِ رحمه الله وعِمَارَةُ الوَقْتِ الاشْتِغَالُ فِي جَمِيعِ آنَائِهِ بِمَا يُقَرِبُ إِلى اللهِ أوْ يُعِيْنُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ مَأْكَلٍ وَمَشْرَبٍ أوْ مَنْكَحٍ أَوْ مَنَانٍ أَوْ رَاحَةٍ
فأنَّهُ مَتَى أَخَذَهَا بِنِيَّةِ القُوَّةِ عَلَى مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَتَجَّنَب مَا يُسْخِطُهُ كَانَتْ مِنْ عِمَارَةِ الوَقْتِ وَإِنْ كَانَ لَهُ فِيْهَا أَتَمَّ لَذَّةٍ فَلَا تَحْسَبْ عِمَارَةَ الوَقْتِ بِهَجْرِ اللَّذَاتِ وَالّطيَّبَاتِ فالمُحِبُ الصَّادِقُ رُبَّمَا كَانَ سَيْرُهُ القَلْبِي فِي حَالِ أَكْلِهِ وشُرْبِهِ وجِمَاعِ أَهْلِهِ وَرَاحَتِهِ أَقْوَى مِنْ سَيْرِهِ البَدَنِي فِي بَعْضِ الأَحْيَانِ.
وَقَالَ رحمه الله: والْعَبْدُ إِذَا عَزَمَ عَلَى فِعْلِ أَمْرٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْلَمَ أَوَّلاً هَلْ هُوَ طَاعَةٌ للهِ أمْ لَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ طَاعَةً فَلَا يَفْعَلَهُ إِلَاّ أنْ يَكُونَ مُبَاحاً يَسْتَعِيْنُ بِهِ عَلَى الطَّاعَةِ وحِيْنَئِذٍ يَصِيْرُ طَاعةً فَإذَاً بَانَ لَهُ أَنَّهُ طَاعَةٌ فَلَا يُقْدِمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَنْظُرَ هَلْ هُوَ مُعَانٌ عَلَيْهِ أَمْ لَا فِإنْ لَمْ يَكُنْ مُعَاناً عَلَيْهِ فلا يُقْدِمْ عَلَيْهِ فَيُذِلَ نَفْسَهْ وإِنْ كَانَ مُعَاناً عَلَيْهِ بَقِيَ عَلَيْهِ نَظَرٌ وهُوَ أنْ يَأْتِيَهْ مِنْ غَيْرِ بَابِهِ أَضَاعَهُ أَوْ فَرَّطَ فِيْهِ أَوْ أَفْسَدَ مِنْهُ شَيْئاً فَهَذِهِ الأُمُوْرُ الثلَاثةُ: الطَّاعَةُ والإِعَانَةُ والهِدَايَةُ أَصْلُ سَعَادَةِ العَبِْد وفَلَاحِهِ.
وَهَوَ مَعْنَي قَولِ الْعَبِْد لِرَبَّهِ إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِيْنُ فأَسْعَدُ الخَلْقِ أَهْلُ هَذِهِ العِبَادَةِ والاسْتِعَانَةِ والهِدَايةِ إَلى المَطْلُوبِ وأشقَاهُمْ مَنْ عَدِمَ الأُمُوْرَ الثلاثَةَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ لَهُ نَصِيْبٌ مِنْ إيَّاكَ نَعْبُدُ ونَصِيْبُهُ مِنْ إِيَّاكَ نَسْتَعِيْنُ مَعْدُوْمٌ أَوْ ضَعِيْفٌ فَهَذَا مَخْذُوْلٌ مَهِيْنٌ مَحْزُوْنُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ نَصِيْبُهُ مِنْ إِيَّاكَ نَسْتَعِيْنُ قَوِياً ونَصِيْبُهُ مِنْ إيَّاكَ نَعْبُدُ ضَعِيْفاً أَوْ مَفْقُوْداً فَهَذَا لَهُ نُفُوذٌ وَتَسَلُّطٌ وَقُوَّةٌ ولكِنْ لَا عَاقِبَةَ لَهُ بَلْ عَاقِبَتُهُ أَسْوَءُ عَاقِبَةً.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ لَهُ نَصِيْبٌ مَنْ إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِيْنُ ولَكِنْ نَصِيْبُهُ مَنْ الهِدَايَةِ إَلى المَقْصُوْدِ ضَعِيْفٌ جِداً كَحَالِ كَثِيْرٍ مِنْ العِبَادِ والزُهَادِ الَّذِيْنَ قَلَّ عِلْمُهُمْ بحَقَائِقِ مَا بَعَثَ اللهُ بِهِ مُحَمَّداً (مَنَ الهُدَى والتُقَى.
شِعْراً:
…
مَا الفَخْرُ إِلَاّ لأَهْلِ العِلْمِ العلم إِنَّهُمُوا
…
عَلَى الهُدَى لِمنْ اسْتَهْدَى أَدلَاّءُ
وَقِيَمةُ المَرْءِ مَا قَدْ كَانَ يُحْسِنُهُ
…
وَالجَاهِلُونَ لأَهْلِ العِلْمِ أَعْدَاءُ
فَعِشْ بِعِلْمٍ تَفُزْ حَياً بِهِ أَبَداً
…
النَّاسُ مَوْتَى وأهْلُ العِلْمِ أَحْيَاءُ
اللَّهُمَّ اِجْعَلْ إيْمَانَنَا بِكَ عَمِيْقَاً وسَهِلْ لَنَا إِلى مَا يُرْضِيْكَ طَرِيْقاً وألطُفْ بِنَا يَا مَوْلَانََا وَوَفِقْنَا لِلْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ تَوْفِيْقَاً وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
وَقَالَ رحمه الله:
أَقَامَ اللهُ سُبْحَنهَ ُهَذَا الخَلْقَ بَيْنَ الأَمْرِ والنَّهْي والعَطَاءِ والمَنْعِ فافْتَرَقُوْا فِرقتَيْنِ، فِرقَهً قَابَلَتْ أَمْرَهُ بالتَّرْكِ، وَنَهِيَهُ بالاِرْتِكَابِ، وَعَطَاءَهُ بِالغَفْلَةِ، عَنْ الشُكْرِ ومَنْعَهُ بِالسُّخْطِ وهَؤُلَاءِ أَْعْدَاؤُهُ، وفِيْهِمْ مِنَ العَدَاوَةِ بِحَسَبِ مَا فِيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ.
وقِسْمً قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ عَِيْدُكَ، فإِنْ أَمَرْتَنَا سَارَعْنَا إِلى الإِجَابَةِ، وإِنْ نَهَيْتَنَا أَمْسَكْنَا نُفُوسَنَا وكَفَفْنَاهَا عَمَّا نَهَيْتَنَا عَنْهُ وإِنْ أعْطَيْتَنَا حَمِدْنَاكَ وشَكَرْنَاكَ، وإِنْ مَنَعْتَنَا تَضَرَّعْنَا إِلْيكَ وذَكَرْنَاكَ، فَلَيسَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وبَيْنَ الجَنَّةِ إِلَا سِتْرُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، فإِذَا مَزَّقَهُ عَلَيهِم المَوتُ، صَارُوا إِلى النَّعِِْيِم المُقِيْمِ وقُرَّةِ العَيْنِ، كَمَا أَنَّ أُولَئِكَ لَيْسَ بَيْنَهُمْ وبَيْنَ النّارِ إِلَا سِتْرُ الحَيَاةِ، فإِذَا مَزَّقَهُ المَوتُ صَارُوا إِلى الحَسْرةِ والأَلَمِ.
فَإذَا تَصَادَمَتْ جُيُوشُ الدُّنْيَا والآخِرَةِ فِي قَلْبِكَ وأَرَدْتَ أَنْ تَعْلَمَ مِنْ أَيّ الفَرِيْقَينِ أَنْتَ، فَانْظُرْ مَعَ مَنْ تَمِيْلُ مِنْهُمَا، ومَعَ مَنْ تُقَاتِلُ، إذْ لَا يَمْكِنُكَ الوُقُوفُ بَيْنَ الجَيْشَيْنِ، فأَنْتَ مَعَ أَحَدِهِمَا لَا مَحَالَةَ.
فَفَرِيقٌ مِنْهُمْ اسْتَغَشُّوْا الهَوَى فَخَالَفُوهُ، واسَتَنْصَحُوْا العَقْلَ فَشَاوَرُهُ، وفَرَّغُوا قُلُوبَهُمْ لِلْفِكْرِ فِيْمَا خُلِقُوْا لَهْ، وَجَوَارِحَهُم لِلْعَمَلِ بِمَا أُمِرُوْا بِهِ،
وَأَوْقَاتَهم لِعِمَارَتِهَا بِمَا يَعْمُرُ مَنَازِلَهُمُ فِي الآخِرَةِ، واسْتَظْهَرُوْا عَلَى سُرْعَةِ الْعَمَلِ بالمُبَادَرَةِ إِلى الأَعْمَالِ، وسَكَنُوا الدُّنْيَا وقُلُوبُهُمْ مُسَافِرَةٌ عَنْهَا، واسْتَوْطَنُوا الآخِرَةَ قَبْلَ انْتِقَالِهِم إِلَيْهَا.
واهْتَمُّوْا بِاللهِ وطَاعَتِهِ عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ، وَتَزَوَّدُوْا لِلآخِرَةِ عَلَى قَدْرِ مَقَامِهِمْ فِيْهَا، فَجَعَلَ لَهُمْ سُبْحَانَهُ مِنْ نَعِيْمِ الْجَنَّةِ وَرَوْحهَا أنْ آنَسَهُمْ بِنَفْسِهِ، وَأقْبَلَ بقُلُوبِهِمْ إِلَيْهِ، وَجَمَعَهَا عَلَى مَحَبَّتِهِ، وشَوَّقَهُمْ إِلى لِقَائِهِ وَنَعَّمَهُمْ بقُرْبِهِ، وَفَرَّغَ قُلُوبَهُمْ مِمَّا مَلأ قُلُوبَ غَيْرِهِمْ مِنْ مَحَبَّةِ الدُّنْيَا والهَمَّ والحُزْنِ عَلَى فَوْتِهَا، والغَمَّ مِنْ خَوْفِ ذَهَابِهَا، فاسْتَلَانُوْا مَا اسْتَوْعَرَهُ المُتْرَفُوْنَ، وأَنِسُوْا بِمَا اسْتَوْحَشَ مِنْهُ الجَاهِلُونَ، صَحِبُوا الدُّنْيَا بأَبْدَانِهِمْ والملأ الأَعْلَى بأَرْوَاحِهِمْ عَلَى حَدِّ قَوْلِ الشَّاعِر:
وَصَاحَبُوْهَا بأَبْدَانٍ قُلُوبُهُمُ
طَيْرٌ لَهَا فِي ضِلَالِ العَرْشِ أوْكَارُ
فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ سَيَّدُ عَمَلِهِ وطَرِيْقُهُ الّذِي يَعُدُّ سُلُوْكَهُ إِلى اللهِ طَرْيقَ العِلْمِ والتَّعْلِيمِ قَدْ وَفَّرَ عَلَيْهِ زَمَانَهُ مُبْتَغِياً بِهِ وَجْهَ اللهِ فَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ عَاكِفاً عَلَى طَرِيقِ العِلْمِ والتَّعْلِيمِ حَتَّى يَصِلَ مِنْ تِلْكَ الطَّرِيْقِ إِلى اللهِ وَيَفْتَحَ لَهُ فِيْهَا الفَتْحَ الخَاصَّ أّوْ يَمُوْتَ فِي طََرِيْقِ طَلَبِهِ فَيُرجَى لَهُ الوُصُولُ إِلى مَطْلَبِهِ بَعْدَ مَمَاتِهِ قَالَ تَعَالَى: {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللهِ} .
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ كَثِيْرَةٍ مِمَّنْ أَدْرَكَهُ الأَجَلُ وَهُوَ حَرِيْصٌ طَالِبٌ لِلْقُرْآنِ أنَّهُ رُؤِيَ بِعْدِ مَوْتِهِ وأَخْبَرَ أَنَّهُ فِي تَكْمِيْلِ مَطْلُوبِهِ وأنّهُ يَتَعَلَّمُ فِي البَرْزَخِ فإِنَّ العَبْدَ يَمُوْتُ عَلَى مَا عَاشَ عَلَيْهِ.
ومن النَّاس من يكون سيد عمله الذكر وقَدْ جعله زاده لمعاده ورأس ماله لمآله فمتي فتر عَنْهُ أو قصر رأي أنه قَدْ غبن وخسر.
ومن النَّاس من يكون سيد عمله وطريقة الصَّلاة فمتي قصر في ورده منها أو مضي عَلَيْهِ وَقْت وَهُوَ غير مشغول بها أو مستعد لها أظلم عَلَيْهِ وقته وضاق صدره.
ومن النَّاس من يكون طريقه الإحسان والنفع المتعدي كقضاء الحاجات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات وأنواع الصدقات قَدْ فتح له في هَذَا وسلك منه طريقاً إلي ربه.
ومِنَ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ طَرِيْقُهُ الصَّوْمَ فَهُوَ مَتَى أَفْطَرَ تَغَيَّرَ عَلَيْهِ قَلْبُهُ وَسَاءَتْ حَالُهُ.
ومِنَ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ طَرِيْقُهُ تِلَاوَةَ القُرْآنِ وَهِيَ الغَالِبُ عَلَى أَوْقَاتِهِ وَهِيَ أَعْظَمُ أَوْرَادِهِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ طَرِيْقُهُ الأَمْرَ بالمَعْرُوْفِ والنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ قَدْ فَتَحَ اللهُ لًهُ فِيْهِ وَنَفَذَ مِنْهُ إِلى رَبِهِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ طَرِيْقُهُ الَّذِي نَفَذَ فِيْهِ الحَجَّ والاعْتِمَارَ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ طَرِيْقُهُ قَطْعَ العَلائِقِ وتَجْرِيْدَ الهِمَّةِ وَدَوَامَ الْمُرَاقَبَةِ وَمُرَاعَاةَ الخَوَاطِرِ وحِفْظَ الأَوْقَاتِ أَنْ تَذْهَبَ ضَائِعَةً.
وَمِنْهُمْ جَامَعُ المَنْفَذِ السَّالِكُ إِلى اللهِ فِي كُلِّ وَادٍ الوَاصِلُ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ طَرِيقٍ فَهُوَ جَعَلَ وَظَائِفَ عُبُودِيَّتِهِ قِبْلَةَ قَلْبِهِ وَنَصْبَ عَيْنِهِ يَؤُمُّهَا أَيْنَ كَاَنَتْ وَيَسِيْرُ
معها حيث سارت قَدْ ضرب مَعَ كُلّ فريق بسهم فأين كانت العبودية وجدته هناك إن كَانَ علم وجدته مَعَ أهله أو جهاده وجدته في صف المجاهدين أو صلاة وجدته في القانتين أو ذكر وجدته في الذاكرين أو إحسان ونفع وجدته في زمرة المحسنين أو محبة ومُرَاقَبَة وإنابة إلي الله وجدته في زمرة المحسنين المنيبين.
يَدِيْنُ بِدِيْنِ العُبُوْدِيَّةِ أنّي اسْتَقَلَّتْ رَكَائِبُهَا وَيَتَوجَّهُ إِلَيْهَا حَيْثُ اسْتَقَرَّتْ مَضَارِبُهَا لَوْ قِيْلَ لَهُ: مَا تُرِيْدُ مِنَ الأَعْمَالِ؟ لَقَالَ أُرِيْدُ أَنْ أُنفِّذَ أَوَامِرَ رَبِّيْ حَيْثُ كَانَتْ وأَيْنَ كَانَتْ جَالِبَةً مَا جَلَبَتْ مُقْتَضِيَةً مَا اقْتَضَتْ جَمَعَتْنِيْ أَوْ فَرَّقَتْنِيْ.
لَيْسَ لِي مُرَادٌ إِلَاّ تَنْفِيذُها والقِيَامُ بِأدَائِهَا مُرَاقِباً لَهُ فِيْهَا عَاكِفاً عَلَيْهِ بِالرُّوْحِ والقَلْبِ وَالبَدَنِ وَالسِّرّ قَدْ سَلَّمْتُ إِلَيْهِ المَبِيْعَ مُنْظَِراً مِنْهُ تَسْلِيْمَ الثَّمَنِ {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} فَهَذَا هُوَ الْعَبْدُ السّالِكُ إِلى رَبِّهِ النّافِذُ إِلَيْهِ حَقِيْقَةً.
ومعني النفوذ إليه أن يتصل به قَلْبهُ ويعلق به تعلق المحب التام المحبة بمحبوبه فيسلوا به عن جَمِيع المطالب سواه فلا يبقي في قَلْبهِ إِلا محبة الله وأمره وطلب التقرب إليه)) وصلي الله علي مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين.
(فصل) فإذا سلك الْعَبْد علي هَذَا الطَرِيق عطف عَلَيْهِ ربه فقربه واصطفاه وأخذ بقَلْبهُ إليه وتولاه في جَمِيع أموره في معاشه ودينه وتولي تربيته أحسن وأبلغ مِمَّا يرَبِّي الوالد الشفيق ولده فإنه سُبْحَانَهُ القيوم الْمُقِيم لكل شيء من المخلوقات طائعها وعاصيها.
فَكَيْفَ تَكُون قيوميته بمن أحبه وتولاه واثره علي ما سواه ورضي به من
النّاسِ حَبِيْباً وَرَبّاً وَوَكِيْلاً وَنَاصِراً وَمُعِيْناًً وَهَادِياً فَلَوْ كَشَفَ الغِطَاءُ عَنْ ألطَافِهِ وَبِرِّهِ وَصُنْعِهِ لَهُ مِنْ حَيْثُ يَعْلَمُ وَمِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ لَذَابَ قَلْبُهُ مَحَبَّةً لَهُ وَشَوْقاً إِلَيْهِ وَتَقَطّعَ شُكْراًً لَهُ.
وَلَكِنْ حَجَبَ القُلُوبَ عَنْ مُشَاهَدَةِ ذَلِكَ إِخْلادُهَا إِلى عَالَمِ الشَّهَوَاتِ والتَّعَلُّقِ بِالأسْبَابِ فَصَدَّتْ عَنْ كَمَالِ نَعِيْمِهَا وَذَلِكَ تَقْدِيْرُ العَزِيْزِ العَلِيْمِ وإِلَاّ فَأيُّ قَلْبٍ يَذُوْقُ حَلَاوَةَ مَعْرِفَةِ اللهِ وَمَحَبَّتِهِ ثُمَّ يَرْكَنُ إِلى غَيْرِهِ وَيَسْكُنُ إِلى مَا سِوَاهُ هَذَا مَا لَا يَكُوْنُ أَبَداً.
ومن ذاق شَيْئاً من ذَلِكَ وعرف طريقاً موصلة إلي الله ثُمَّ تركها وأقبل علي إرادته وراحاته وشهواته ولذاته وقع في آثار المعاطب وأودع قَلْبَهُ سجون المضايق وعذب في حياته عذاباً لم يعذب به أَحَداً من العالمين، فحياته عجز وغم وحزن وموته كدر وحسرة ومعاده أسف وندامة قَدْ فرط عَلَيْهِ أمره وشتت عَلَيْهِ شمله وأحضر نَفْسهُ الغموم والأحزان.
فلا لذة الجاهلين ولا راحة العارفين يستغيث فلا يغاث ويشتكي فلا يشكي فقَدْ ترحلت أفراحه وسروره مدبرة وأقبلت آلامه وأحزانه وحسراته فقَدْ أبدل بأنسه وحشة وبعزه ذلاً وبغناه فقراً وبجمعيته تشتيتاً وأبعدوه فلم يظفر بقربهم وأبدلوه مكَانَ الأنس إيحاشاً.
ذَلِكَ بأنه عرف طريقه إلي الله ثُمَّ تركها ناكباً مكباً علي وجهه فأبصر ثُمَّ عمي وعرف ثُمَّ أنكر وأقبل ثُمَّ أدبر ودعي فما أجاب وفتح له فولي ظهره الْبَاب قَدْ ترك طَرِيق مولاه وأقبل بكليته علي هواه.
فلو نال بعض حظوظه وتلذذ براحاته وشؤونه فهو مقيد الْقَلْب عن
انطلاقه في فسيح التَّوْحِيد وميادين الأنس ورياض المحبة وموائد القرب قَدْ انحط بسبب إعراضه عن إلههِ الحق إلي أسفل سافلين وحصل في عداد الهالكين فنار الحجاب تطلع كُلّ وَقْت فؤاده وإعراض الكون عَنْهُ – إذ أعرض ربه – حائل بينه وبين مراده.
فهو قبر يمشي علي وجه الأرض وروحه في وحشة من جسمه وقَلْبهُ في ملال من حَيَاتهُ يتمني الموت ويشتهيه ولو كَانَ فيه ما فيه حتى إذا جاءه الموت علي تلك الحال والعياذ بِاللهِ فلا تسأل عما يحل به من الْعَذَاب الأليم بسبب وقوع الحجاب بينه وبين مولاه الحق وإحراقه بنار البعد من قربه والإعراض عَنْهُ وقَدْ حيل بينه وبين سعادته وأمنيته.
فَلَوْ تَوَهَّمَ العَبْدُ المِسْكِيْنُ هَذِِهِ الحالَ وَصَوَّرْتها لَهُ نَفْسُهُ وَاَرَتْهُ إِيَّاهَا عَلَى حَقِيقَتِهَا لتَقَطَّعَ وَاللهِ قَلْبُهُ وَلَمْ يَلْتَذَّ بِطَعَامٍ وَلَا شَرَابٍ وَلَخََرَجَ إِلى الصُّعْداتِ يَجْأرُ إِلى اللهِ وَيَسْتَغِيْثُ بِِهِ وَيَسْتَعْتِبُهُ فِي زَمَنِ الاسْتِعْتَابِ هَذَا مَعَ أَنَّهُ إِذا آثَرَ شَهَواتِهِ وَلِذَّاتِهِ الْفَانِيَةَ الّتِي هِيَ كخَيَالِ طَيْفٍ أَوْ مُزْنَةِ صَيْفٍ نَغَّصَتْ عَلَيْهِ لذَّتَها أَحْوَجَ مَا كَانَ إِلَيْهَا وَحِيْلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا أَقْدَرَ مَا كَانَ عَلَيْهَا وتِلْكَ سُنَّةُ اللهِ فِي خَلْقِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} .
وهَذَا هُوَ غِبُّ إعراضه وإيثار شهواته علي مرضاة ربه يعوق القدر عَلَيْهِ أسباب مرداه فيخسر الأمرين جميعاً فيكون معذباً في الدُّنْيَا بتنغيص شهواته وشدة اهتمامه بطلب ما لم يقسم له وإن قسم له منه شيء فحشوه الخوف والحزن والنكد والألم فهم لا ينقطع وحَسْرَة لا تنقضي وحرص لا ينفد وذل لا
ينتهي وطمَعٌ لا يقلع وهَذَا في هذه الدار.
وأما في البرزخ فأضعاف أضعاف ذَلِكَ قَدْ حيل بينه وبين ما يشتهي وفاته ما كَانَ يتمناه من قرب ربه وكرامته ونيل ثوابه وأحضر جَمِيع غمومه وأحزانه، وأما في دار الجزاء فسجن أمثاله من المبعدين المطرودين فواغوثاه ثُمَّ واغوثاه بغياث المستغيثين وأَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
فَمَنْ أعْرَضَ عَنْ اللهِ بالكُليَّةِ أعْرَضَ اللهُ عَنْهُ بالكُلَّيَّةِ وَمَنْ أعْرَضَ اللهُ عَنْهُ لَزِمَهُ الشّقَاءُ والبُؤْسُ والبَخْسُ فِي أَحْوالِهِ وأعمَالِهِ وقَارَنَهُ سُوءُ الحَالِ وَفَسَادٌ فِي دِيْنِهِ ومَاَلهِ ِفَإِنَّ الرّبَّ إِذَا أعْرَضَ عَنْ جِهَةٍ دَارَتْ بِهَا النُّحُوسُ وأظْلَمْتْ أرْجاؤُهَا وانْكَسَفَ أنوارُهَا وَظَهَرَ عَلَيْهَا وَحْشَةُ الإِعْرَاضِ وَصَارَتْ مَأْوَى لِلشَّيَاطِيْنَ وَهَدَفاً لِلشُّرُورِ وَمَصّباً لِلْبََلاءِ.
فَالمَحْرُوْمُ كُلَّ المَحْرُوْمِ مَنْ عَرَفَ طَرِيقاً إِلَيْهِ ثُمَّ أعْرَضَ عَنْهَا أَوْ وَجَدَ بَارِقَةً مِنْ حُبِّهِ ثُمَّ سُلِبَها لَمْ يَنْفُذْ إِلى رَبَّهِ مِنْها خُصُوصاً إِذَا مَالَ بِتِلْكَ الإِرَادَةِ إِلى شَيْءٍ مِنْ اللَّذَاتِ وانْصَرَف بجُمْلَتِهِ إِلى تَحْصِيْلِ الأغْرَاضِ والشّهَوَاتِ عاكِفَاً عَلَى ذَلِكَ فِي لَيْلِهِ وَنَهارِهِ وَغُدُوَّهِ وَرَوَاحِهِ هابِطاً مِنَ الأوْجِ الأعْلَى إِلى الحَضِيضِ الأدْنَى.
قَدْ مضت عَلَيْهِ برهة من أوقاته وكَانَ همه الله وبغيته قربه ورضاه وإيثاره علي كُلّ ما سواه علي ذَلِكَ يصبح ويمسي ويظِلّ ويضحي وكَانَ الله في تلك الحال وليه لأنه ولي من تولاه وحبيب من أحبه ووالاه.
فأصبح في سجن الهوى ثاوياً وفي أسر الْعَدُوّ مقيماً وفي بئر المعصية ساقطاً وفي أودية الحيرة والتفرقة هائماً معرضاً عن المطالب العالية إلي
الأغراض الخسيسة الفانية كَانَ قَلْبهُ يحوم حول العرش فأصبح محبوساً في أسفل الحُش:
فَأَصْبَحَ كَالبَازِ المُنَتَّفِ رِيْشُهُ
…
يَرَي حَسَراتٍ كُلَّمَا طَارَ طَائِرُ
وقَدْ كَانَ دَهْراً فِي الرِّيِاضِ مُنَعَّماً
…
عَلَى كُلِّ مَا يَهْوَى مِنَ الصَّيْدِ قَادِرُ
إِلى أَنْ أصَابَتْهُ مِنَ الدّهْرِ نَكْبَةٌ
…
إِذَا هُوَ مَقْصُوصُ الجناحَيْنِ حَاسِرُ
فَيَا مَنْ ذَاقَ شَيْئاً مِنْ مَعْرِفَةِ رَبِّهِ وَمَحَبَّتِهِ ثُمَّ أعْرَضَ عَنْهَا واسْتَبْدَلَ بِغَيْرِها مِنْهَا يَا عَجَباً لَهُ بأيَّ شَيْءٍ تَعَّوَض وكَيْفَ قَرَّ قَرارُهُ فَما طَلَبَ الرُّجوعَ إِلى أحنِيَتِهِ وَمَا تَعَرّض وَكَيْف اتّخَذَ سِوَى أحنِيَتِهِ سَكناً وجَعَلَ قََلبَهُ لِمَنْ عَادَاهُ مَولَاهُ مِنْ أجْلِهِ وطَناً أمْ كَيْفَ طَاوَعَهُ قَلْبُهُ عَلَى الاصْطِبَارِ وَوَافَقَهُ عَلَى مُسَاكَنَةِ الأغْيَارِ.
فَيَا مُعْرِضاً عَنْ حَيَاتِهِ الدَائِمَةِ وَنَعِيْمِهِ المُقِيمِ وَيَا بَائِعاً سَعَادَتَهُ العُظْمَى بِالعَذَابِ الألْيِمِ وَيَا مُسْخِطاً مَنْ حَيَاتًهُ وَرَاحَتُهُ وَفَوْزُهُ فِي رِضاهُ وطَالِباً رضى مَنْ سَعادَتُهُ فِي إِرْضاءِ سِوَاهُ إِنّمَا هِيَ لَذّةٌ فَانِيةٌ وشَهْوَةٌ مُنْقِضَيةٌ تَذْهَبُ لذّاتُها وتَبَقَى تَبِعَاتُهَا فَرَحُ سَاعَةٍ لَا شَهْرٍ وغَمُّ سَنَةٍ بَلْ دَهْرِ طَعَامٌ لَذْيِذٌ مَسْمُومٌ أوَّلُهُ لذّةٌ وآخِرُهُ هَلَاكُ.
فالعَالِم عَلَيْهَا والساعي في توصيلها كدودة القز يسد علي نَفْسهُ المذاهب بما نسج عَلَيْهَا من المعاطب فيندم حين لا تنفع الندامة ويستقيل حين لا تقبل الاستقالة فطوبي لمن أقبل علي الله بكليته وعكف عَلَيْهِ بإرادته ومحبته.
فإن الله يقبل عَلَيْهِ بتوليه ومحبته وعطفه ورحمته وإن الله سُبْحَانَهُ إذا أقبل علي عبد استنارت جهاته وأشرقت ساحاتها وتنورت ظلماتها وظهر عَلَيْهِ آثار إقباله من بهجة الجلال وآثار الجمال.
وَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ أَهْلُ المَلأِ الأعْلَى بِالمَحَبّةِ والمُوالَاةِ لأنَّهُمْ تَبَعٌ لِمَوْلاهُمْ فَإِذَا أحَبَّ عَبْداً أحبُّوهُ وإِذَا وَالَى وَلِيّاً وَالوْهُ إِذَا أحَبّ اللهُ الْعَبْدَ نَادَى يَا جِبْرائيلُ إِنّي أُحِبُّ فُلاناً فَأَحَّبَّهُ فيُنادِي جِبْرائيلُ فِي السَّماءِ إنّ اللهَ يُحِبُّ فُلاناً فَأَحِبُّوهُ فيُحِبُّهُ أَهْلُ السّماءِ ثُمَّ يُحِبُّهُ أَهْلُ الأرْضِ.
فَيُوْضَعُ لَهُ القَبُولُ بَيْنَهُمْ ويجْعَلُ اللهُ قُلُوبَ أوْلِيائِهِ تَفِدُ إِلَيْهِ بالوُدِّ والمَحَبّةِ والرَحْمَةِ ونَاهِيْكَ مَنْ يَتوجَّهُ إِلَيْهِ مالِكُ المُلكِ ذُو الجَلَالِ والإِكْرَامِ بِمَحَبَّتِهِ ويُقْبِلُ عَلَيْهِ بأنْوَاعِ كرَامَتِهِ ويَلْحَظُهُ المَلأٌ الأعْلَى وأَهْلُ الأرْضِ بالتَّبْجِيلِ والتّكريمِ وَذَلِكَ فضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ واللهُ ذُوْ الفَضْلِ العَظِيمِ.
وصلي الله علي مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين
(فَصْلٌ)
(قاعدة) السائر إلي الله والدار الآخرة بل كُلّ سائر إلي مقصد لا يتم سيره ولا يصل إلي مقصوده إِلا بقوتين – قوة علمية – وقوة عملية – فبالقوة العلمية يبصر منازل الطَرِيق ومواضع السلوك فيقصدها سائراً فيها ويجتنب أسباب الهلاك ومواضع العطب وطرق المهالك المنحرفة عن الطَرِيق الموصل.
فقوته العلمية كنور عَظِيم بيده يمشي في ليلة عظيمة مظلمة شديدة الظلمة فهو يبصر بذَلِكَ النور ما يقع الماشي في الظلمة في مثله من الوهاد والمتآلف ويعثر به من الأحجار والشوك وغيره ويبصر بذَلِكَ النور أيضاً أعلام الطَرِيق وأداتها المنصوبة عَلَيْهَا فلا يضل عَنْهَا فيكشف له النور عن الأمرين
أَعْلَامِ الطَرِيقِ وَمَعاطِبِها
وبالقُوّةِ العَمَلِيّةِ يَسِيْرُ حَقِيْقَةً بَلِ السَّيْرُ هُوَ حَقِيقَةُ القُوَّةِ العَلَميّةِ فَإِنَّ السَّيْرَ هُوَ عَمَلُ المُسَافِرِ وكَذَلِكَ السَائِرُ إِلى رَبَّهِ إِذَا أبْصَرَ الطَرِيقَ وأعْلامَهَا وأبْصَرَ المَغَابِرَ والوِهَادَ والطُّرُقَ النّاكِبَةَ عَنْهَا فقَدْ حَصَلَ لَهُ شَطْرُ السّعادَةِ والفَلاحِ وَبقِيَ عَلَيْهِ الشّطْرُ الآخَرُ وَهُوَ أنْ يَضَعَ عَصاهُ عَلَى عَاتِقِهِ ويُشَمِّرَ مسافِراً فِي الطَّرِيقِ قَاطِعاً مَنَازِلَهَا بَعْدَ مَنْزِلَةٍ فَكُلَّمَا قَطَعَ مَرْحَلَةً اسْتَعَدَّ لِقَطْعِ الأُخْرَى وَاسْتَشْعَرَ القُرْبَ مِنَ المَنْزِلِ فَهانَ عَلَيْهِ مشَقّةُ السَّفَرِ.
وَكُلَّمَا سَكَنَتْ نَفْسُهُ مِنْ كَلَالِ السَّيْرِ ومُواصَلَةِ الشَّدِّ والرَّحِيلِ وَعَدها قُرْبُ التّلاقي وبَرْدُ العَيْشِ عَنْدَ الوُصُولِ فَيُحْدِثُ لَهَا ذَلِكَ نَشاطاً وَفَرَحاً وهِمَّةً فَهُو يَقُولُ: يَا نَفْسُ أبْشِرِي فَقَدْ قَرُبَ المَنْزِلُ وَدَنَا التّلاقِي فَلا تَنْقطِعِي فِي الطّرِيقِ دُونَ الوُصُولِ فَيُحَالَ بَيْنَكِ وَبَيْنَ مَنَازِلِ الأحِبَّةِ.
فإن صبرت وواصلت المسري وصلت حميدة مسرورة جذلة وتلقتك الأحبة بأنواع التحف والكرامَاتَ ولَيْسَ بينك وبين ذَلِكَ إِلا صبر ساعة فإن الدُّنْيَا كُلّهَا كساعة من ساعات الآخرة وعمرك درجة من درج تلك الساعة فالله الله لا تنقطعي في المفازة فهو وَاللهِ الهلاك والعطب لو كنت تعلمين.
فإن استصعب عَلَيْهِ فليذكرها ما أمامها من أحبائها وما لديهم من الإكرام والإنعام وما خلفها من أعدائها وما لديهم من الإهانة والْعَذَاب وأنواع البَلاء فإن رجعت فإلي أعدائها رجوعها وإن تقدمت فإلي أحبائها مصيرها وإن وقفت في طريقها أدركها أعداؤها فَإِنَّهُمْ وراءها في الطلب ولابد لها من قسم من هذه الأقسام الثلاثة فلتختر أيها شاءت انتهي.
شِعْراً:
تَراهُمْ وأَمْلَاكُ الرِّضَا يَقْدُمُونَهِمْ
…
إِلى جَنَّةٍ طَابَتْ وَطَابَ نَعِيمُهَا
يَسِيْرُوْنَ فِي أَمْنٍ إِذَا الخَلْقُ فُزَّعٌ
…
وَقَدْ بَرَزَتْ نَارٌ وَشَبَّ جَحِيْمُهَا
آخر:
فَلِلّهِ كَمْ مِنْ خَيْرةٍ قَدْ تَهَيَّئَتْ
…
لِقَوْمٍ عَلَى الأَقْدَامِ بِاللَّيْلِ قُوَّمُ
يُنَاجُوْنَ رَبَّ العَالَمِيْنَ إلهَهُمْ
…
فَتَسْرِي هُمُوْمُ القَوْمِ وَالنَّاسُ نُوَّمُ
آخر:
وللهِ ألْطافٌ بَطيِّ قَضَائِهِ
…
أَخُو الفَهْمِ فِي أسْرَارِهَا يَتَفَهَّمُ
فَمُوْسَى بِقَذْفِ الْيَمِّ تَمَّ عُلُوُّهُ
…
ترَقَّى إِلى أعْلَى الذُرَى وَهُوَ مُكْرَمُ
ويُوْسُفُ بَعْدَ الجُبِّ والسّجْنِ حُقْبَةً
…
حَوَى المُلْكَ وَهُوَ المُسْتَفادُ المُعَظَّمُ
وبِالصَّبْرِ والتَّقْوَى تُنَالُ هِبَاتُهُ
…
وأتْقَى الوَرَى عِنْدَ المُهَيْمِنِ أكْرَمُ
وَقَالَ رحمه الله:
السنة شجرة والشهور فروعها والأيام أغصانها والساعات أوراقها والأنفاس ثمرها فمن كانت أنفاسه في طاعة فثمرة شجرته طيبة ومن كانت في معصية فثمرته حنظِلّ وإنما يكون الجداد يوم المعاد فعَنْدَ ذَلِكَ يتبين حلو
الثمار من مرها.
والإخلاص والتَّوْحِيد شجرة في الْقَلْب فروعها الأعمال وثمره طيب الحياة في الدُّنْيَا والنَّعِيم الْمُقِيم في الآخرة وكما أن ثمار الْجَنَّة لا مقطوعة ولا ممنوعة فثمرة التَّوْحِيد والإخلاص في الدُّنْيَا كَذَلِكَ.
والشرك والكذب والرياء شجرة في الْقَلْب ثمرها في الدُّنْيَا الخوف والهم والغم وضيق الصدر وظلمة الْقَلْب وثمرها في الآخرة الزقوم والْعَذَاب الأليم وقَدْ ذكر هاتين الشجرتين في سورة إبراهيم.
وَقَالَ رحمه الله: اِشْتَرِ نَفْسَكَ فَالسُّوقُ قَائِمَةٌ والثَّمَنُ مَوْجُودٌ وَلابُدَّ مِنْ سِنَةِ الغََفْلَةِ وَرُقادِ الهَوَى ولَكِنْ كُنْ خَفِيْفَ النَّوْمِ فَحُرَّاسُ البَلَدِ يَصْحُونَ دَنَا الصَّبَاحُ نُورُ العَقْلِ يُضِيءُ فِي لَيْلِ الهَوَى فَتَلُوحُ جَادَةُ الصَّوَابِ فَيَتَلَّمحُ البَصِيْرُ فِي ذَلِكَ النُّوْرِ عَوَاقِبَ الأُمورِ اُخْرُجْ بالعَزْمِ مِنْ هَذَا الفِنَاءِ الضّيّقِ المَحْشُوَّ بالآفاتِ إِلى ذَلِكَ الفِنَاءِ الرَّحْبِ الَّذِي فِيهِ مَا لَا عَيْنٌ رأتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ.
فَهُنَاك لَا يَتَعَذّرُ مَطلوبٌ وَلَا يٌفْقَدُ محبُوبٌ يَا بَائِعَاً نَفْسَهُ بِهَوَى مَنْ حُبُّهُ ضَنَاً وَوَصْلُهُ أذَى وحُسْنُهُ إِلى فَنَاءِ لَقَدْ بِعْتَ أنْفَسَ الأَشْيَاءِ بِثَمَنٍ بَخْسٍ كأنّكَ لَمْ تَعْرِفْ قَدْرَ السِّلعَةِ حَتّى إِذَا قَدَمْتَ يَوْمَ التَّغَابُنْ تَبَيَّنَ لَكَ الغَبْنُ فِي عَقَدِ التّبايُعِ لَا إِلهَ إِلَا اللهُ سِلْعَة اللهُ مُشْتَريها، وثَمَنُهَا الجَنّةُ.
اللَّهُمَّ ثبتنا علي قولك الثابت في الحياة الدُّنْيَا وفي الآخرة اللَّهُمَّ وأيدنا بنصرك وارزقنا من فضلك ونجنا من عذابك يوم تبعث عبادك، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المسلمين بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى وسَلم.
شِعْراً:
كَرِهْتُ وَعَلَاّمِ الغُيوبِ حَيَاتِي
…
وأَصْبَحْتُ أَرجْو أنْ تَحينَ وَفَاتي
فَشَا السُوءُ إِلا فِي القَلْيلِ مِنَ الوَرَى
…
وَخَاضُوا بِحَارَ اللهْوِ والشَّهَواتِ
وضَاعَتْ لَدَيْهِمْ حُرْمَةُ الدِّينِ واغْتَدَتْ
…
نُفُوسُهُمُوْا فِي الفِسْقِ مُنْغَمِسَاتِ
وَقَدْ فَسَدَتْ أَخْلاقُهُمْ وَتَغَّيرتْ
…
وأضْحَتْ خِلالُ الخِزْيِ مُنْتَشِرَاتِ
وَسَارَ الخَنَا فِيْهِمْ فلَسْتُ أرَي سِوَى
…
كَتَائِبِ فُسَّاقٍ وجًمْعَ طُغَاةِ
فمِنْهُمْ كَذُوْبٌ فِي الوِدَادِ مُخَادِعٌ
…
أرَاهُ صَدِيقِي وَهُوَ رأْسُ عُدَاتِي
يُقابِلُنِي بِالبِشْرِ واللُطْفِ عِنْدَمَا
…
يَرَانِي ويَدْعُو لِيْ بِطُولِ حَيَاتِي
وإِنْ غِبْتُ عَنْهُ سَبَّنْي وأَهَانَني
…
وَعَدَّ عُيُوبي للوَرَى وَهَنَاتِي
وَمِنْهُمْ شَقِيٌ هَمُّهُ الفِسْقُ والزِنَا
…
وَلَوْ كَانَ عُقْبَاهُ إِلى الهَلَكَاتِ
تُلاقِيهِ يَجْرِي خَلْفَ مُسْلِمَةٍ بِلَا
…
حَيَاءٍ وَلَا خَوْفٍ مِنَ اللعَنَاتِ
كَأنْ لَمْ يُفَكِّرْ أنَّ تِلْكَ كَأخْتِهِ
…
فَيَغْمِزُهَا لِلْحَظِ والغَمَزَاتِ
وَيُبْدِي لَهَا الإِعْجَابَ غِشَّاً وَخِدْعَةً
…
ولَمْ يَرْعَ حقَّ اللهِ فِي الحُرُمَاتِ
وآخَرُ أَمْسَى لِلْعُقَارِ مُعَاقِراًً
…
وأَصْبَحَ فِي خَبْلٍ وفِي سَكَرَاتِ
تَرَاهُ إِذَا مَا أَسْدَلَ اللّيلُ سِتْرَهُ
…
عَلَيْهِ وَوَافِيَ بَادِيَ الظُلُمَاتِ
يُدِيْرُ ابْنةَ العُنْقُودِ بَيْنَ صِحَابِهِ
…
ويَطْرَبُ بَيْنَ الكَأْسِ والنَغَمَاتِ
وَقَدْ أَغْفَلَ المِسْكِيْنُ ذِكْرَ مَمَاتِهِ
…
وَمَا سَيُلاقِي مِنْ جَوَى النَّزَعَاتِ
يَتِيْهُ عَلَى كُلِّ العِبادِ بِعُجْبِهِ
…
وَيَخْتَالُ كِبْراً نَاسِياً لِغَدَاةِ
غَدَاةَ يُوارَى فِي التُّرَابِ ويَغْتَدِي
…
طَعَاماً لَدُودِ القَبْرِ والحَشَرَاتِ
وآخَرُ مَغْرُورٌ بكَثْرَةِ مَالِهِ
…
وَمَا عِنْدَهُ فِي البَنْكِ مِنْ سَنَدَاتِ
يُفاخِرُ خَلْقَ اللهِ بالْجَاهِ والغِنَى
…
وَبِالْمَالِ لَا بِالفَضْلِ والحَسَنَاتِ
وَلَمْ يَدْرِ أَنَّ الْمَالَ فَانٍ وأَنَّهُ
…
يَزُولُ كَسُحْبِ الصّيْفِ مُنْقَشِعَاتِ
وَذَا شَاهِدٌ بِالزُّورِ إِنْ يَسْتَعِنْ بِهِ
…
أَخُوْ شِقْوةٍ يَشْهَدْ بِكُلِّ ثَبَاتِ
وَلَمْ أَدْرِ مَاذَا قَدْ أَعَدَّ لِموْقِفٍ
…
بِهِ يَقِفُ العَاصِيْ بِغَيْرِ حُمَاةِ
وَذَا آكِلٌ مَالَ اليَتِيْمِ وَلَمْ يَدَعْ
…
لَهُ عِنْدَ رَدِّ الحَقِّ غَيْرَ فُتَاتِ
وَفِي بَطْنِهِ قَدْ أدْخَلَ النّارَ عَامِداً
…
وَأَصْبَحَ مَحْرُوْماًً مِنَ النَّفَحَاتِ
وَذَلِكَ مُغْتابٌ وَهَذَا مُنَافِقٌ
…
لِحِطَّتِهِ قَدْ عُدَّ فِي النّكِرَاتِ
وَهَذَا يَغُشُّ النَّاسَ فِي البَيْعِ والشِرَا
…
وَأَرْبَاحُهُ مَنْزُوْعَةُ البَرَكَاتِ
وَهَذَا حَوَى كُلَّ الخَنَا وَصِفَاتُهُ
…
مَعَ الخَلْقِ والخَلَاّقِ شَرُّ صِفَاتِ
وَكَمْ مُعْلِنٍ لِلْفِطْرِ وَالنَّاسُ صُوَّمُ
…
يُجَاهِرُ فِي الإِفْطَارِ فِي الطُّرُقَاتِ
ولَيْسَ يُبَالِي بانْتِقَامِ إلَهِه
…
وَتَعْذِيْبِهِ لِلأَنْفُسِ النَّجِسَاتِ
وَكَمْ مِنْ غَنِيٍّ مُسْتَطِيْعٍ تَرَاهُ لَا
…
يُبَادِرْ بِحَجِّ البَيْتِ قَبْلَ فَوَاتِ
فَيَسْعَى بِنَفْسٍ مِلْؤُهَا البِرُّ وَالتُّقَى
…
لِتَلْبِيَةِ الرَّحْمَنِ فِي عَرَفَاتِ
وَلَمْ أَرَ إِلَاّ النَّزْرَ فِيْهِمْ مُسارِعاً
…
لإِحْيَاءِ دِيْنِ اللهِ بِالصَّلَوَاتِ
وَمَا الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ إِلَاّ وَسَائِلٌ
…
عَلَى المُتّقِي تَسْتَنزْلُ الرَّحَمَاتِ
وَتَنْهَي عَنْ الفَحْشَاءِ والْمُنْكَرِ الَذي
…
يَزُجُّ بِمَنْ يَأتْيِهِ فِي الكُرُبَاتِ
وَيَنْدُرُ أَنْ أَلْقَى غَنِيّاًً بِمَالِهِ
…
يَجُودُ لِذِي جُوعٍ وَذَاتِ عُرَاةِ
فَمَا ائْتَمَرُوا بِالأمْرِ كَلا وَلَا انْتَهَوْا
…
عَنْ النَّهْي حَتَّى سَوَّدُوا الصَّفَحَاتِ
وَعَاثُوا فَسَاداً فِي الْبِلادِ فَأَصْبَحُوا
…
بعِصْيَانِهِمْ فِي أسْفَلِ الدَّرَجَاتِ
خَلَائِقُ يَأْبَاهَا الرَّشِيْدُ لِقُبْحِهَا
…
وَلَا يَرْتَضِيْهَا غَيْرُ أَحْمَقَ عَاتِي
ويُنْكِرُها ذُوْ العَقْلِ والرَّأْيِ والحِجَا
…
ويَخْجَلُ مِنْهَا صَادِقُ العَزَمَاتِ
وَمَنْ يَتَّخِذْها مَنْهَجاً خَابَ سَعْيُهُ
…
وَلَا يَقْتَنِيْ مِنْهَا سِوَى الحَسَرَاتِ
إِذَا جَاءَ وَقْتُ الصَّيْفِ شَدَّ رِحَالَهُ
…
إِلى الغَرْبِ يَلْهُوْ والشَّبَابُ مُوَاتِي
كأَنَّ بَنِي الإِسْلَامِ فِي عَصْرِنا غَدَوْا
…
لِهَدْمِ عُلَا الإِسْلَامِ شَرَّ دُعاةِ
فَتُوبُوا عِبَادَ اللهِ للهِ وَارْجِعُوا
…
إِلَيْهِ تَنَالُوا مُنْتَهَى الرَّغَبَاتِ
وَلَا تَقَرّبُوا مَا لَا يَحِلُّ وأَبْعِدُوا
…
نُفُوسَكُمُوا حَتَّى عَنْ الشُّبُهَاتِ
وأَدُّوا حُقوقَ اللهِ وارْعَوْا حُدودَهُ
…
كَمَا يَنْبَغِي فِي الجَهْرِ والخَلَوَاتِ
وَلَا تَهِنُوا يَوماً وَلَا تَحْزَنُوا لِمَا
…
يُصِيْبُكُمُوا فِي الحَقِّ مِنْ عَقَبَاتِ
تَفُوزُوا برِضْوانِ الإِلَهِ ولُطْفِهِ
…
ويُغْدِقْ عَلَيْكُمْ أنْعُمَاً وهِبَاتِ
وَيَفْتَحْ لَكُمْ بَابَ القَبَولِ ويَسْتَجِبْ
…
إِذَا مَا دَعَوْتُمْ صَالِحَ الدَّعَوَاتِ
وَيَجْعَلْ لَكُمْ فِي النَّسْلِ قُرَّةَ أعْيُنٍ
…
وَيَرْزُقَكُمُ مِنْ أطْيَبِ الثَّمَرَاتِ
ويُمْدِدْكُمُ بالنَّصْرِ حَتَّى إِذَا طَغَى
…
عَلَيْكُمُ عدُوٌ رَدَّهُ بِشَتَاتِ
فَمَا حَلَّ هَذَا الحَالُ إِلَاّ لِنَبْذِكُمْ
…
تَعَالِيمَ دِيْنِ اللهِ نَبْذَ نَوَاةِ
وَمَا سَلَّطَ اللهُ الْعَدُوَّ عَلَيْكُمُ
…
فَلَمْ يَبْقَ فِيْكُمْ غَيْرُ بَعْضِ رُفَاتِ
سِوَى بَعْدِكُمْ عَنْ دِيِنهِ ولأنّكُمْ
…
قَنِعْتُمْ عَنْ الأعْمَالِ بالكَلِمَاتِ
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ وقو محبتك في قلوبنا واشرح صدرونا ونورها بنور الإِيمَان وَاجْعَلْنَا هداة مهتدين وألهمنا ذكرك وشكرك وَاجْعَلْنَا ممن يفوز بالنظر إلي وجهك في جنات النَّعِيم يا حليم ويا كريم وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المسلمين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يا أرحم الراحمين وصلي الله علي مُحَمَّد وعلي آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
وَقَالَ ابن القيم رحمه الله:
الجِهَادُ أرْبَعُ مَرَاتِبَ أحدُهَا أنْ يُجاهِدَهَا عَلَى تَعَلُّمِ الهُدَي ودِينِ الحقِّ الّذِي لَا فلاحَ لَها وَلَا سَعادَةَ لَها فِي معَاشِهَا ومَعادِها إِلا بِهِ وَمَتى فَاتَها علمُهُ شَقِيَتْ فِي الدَّارَيْن الثَّانِيَة أَنْ يُجاهِدَهَا عَلَى العَمَلِ بِهِ عِلْمِهِ وإِلَاّ فمُجَرَّدُ العِلْم بِلا عَمَلٍ إنْ لَمْ يَضُرَّها لَمْ يَنْفَعْهَا الثّالِثَةُ أنْ يُجاهِدَ عَلَى الدَّعْوَةِ إلَيْهِ وتَعْلِيمِهِ مَنْ لَا يَعْلَمُهُ وإِِلاّ كَانَ مِنْ الّذينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ الهُدَي والبَيِّنَاتِ وَلَا يَنْفَعُهُ علمُهُ وَلَا يُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِ اللهِ.
الرابعة: أن يجاهدها علي الصبر علي مشاق الدعوة إلي الله وأذى الخلق ويتحمل ذَلِكَ كله لله فإذا استكمل هذه المراتب الأربع صار من الربانيين فإن السَّلَف مجمعون علي العَالِم لا يستحق أن يسمي ربانياً حتى يعرف الحق ويعمل به ويعلمه.
فمن علم وعلَّمَ وعمل فذاك يدعي عظيماً في ملكوت السماء وأما جهاد الشيطان فمرتبتان جهاده علي دفع ما يلقي إلي الْعَبْد من الشبهات والشكوك القادحة في الإِيمَان.
الثَّانِيَة: جِهادُهُ عَلَى دَفْعِ ما يُلْقِيِه مِنَ الإِرَادَاتِ والشَّهَوَاتِ فَالجِهَادُ الأوّلُ يَكُوُن بَعْدَُ اليَقِينُ والثّاني بَعْدَهُ الصَّبْرُ قَالَ تَعَالَى {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} فأخْبَرَ أَنَّ إِمامَةَ الدِّيْنِ إِنَما تُنَالُ بِالصَّبْرِ واليَقِيْنَ فَالَّصْبُر يَدْفَعُ الشَّهَوَاتِ والإِرَادَاتِ واليَقِينُ يَدْفَعُ الشُّكُوكَ والشُّبُهَاتِ وأمّا جِهَادُ الكُفّارِ والمُنَافِقِيْنَ فأَرْبَعُ مَرَاتِبَ بالْقَلْبِ وَاللّسَانِ والْمَالِ وَالنَّفْسِ وَجِهَادُ الكُفّارِ أَخَصُّ باليَدِ وَجِهَادُ المُنَافِقِيْنَ أَخَصُّ باللّسَانِ وأما جِهَادُ أَرْبَابِ الظُّلْمِ والبِدَعِ والمُنْكَرَاتِ فَثَلَاثُ مَرَاتِبَ الأُولَى باليَدِ إِذَا قَدَرَ فَإِنْ عَجِزَ انْتَقَلَ إِلى اللّسَانِ فَإِنْ عَجَزَ جَاهَدَ بقَلْبِهِ فَهَذِهِ ثَلَاثَةَ عشْرَةَ مَرْتَبَةً مِنَ الجِهادِ وَمَنْ مَاتَ ولَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بالغَزْوِ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنَ النّفاقِ وَلَا يَتِمُّ الجِهَادُ إِلَا بالهِجْرَةِ وَلَا الهِجْرَةُ والجِهادُ إِلاّ بالإِيمَانِ.
والراجون رحمة الله هم الَّذِينَ قاموا بهذه الثلاثة قال تَعَالَى " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ» .
وكما أن الإِيمَان فرض علي كُلّ أحد ففرض عَلَيْهِ هجرتان في كُلّ وَقْت هجرة إلي الله عز وجل بالتَّوْحِيد والإخلاص والإنابة والتوكل والخوف والرجَاءَ والمحبة والتوبة وهجرة إلي رسوله بالمتابعة والانقياد لأمره والتصديق بخبره وتقديم أمره وخبره علي أمر غيره وخبره.
فمن كانت هجرته إلي الله ورسوله فهجرته إلي الله ورسوله ومن كانت هجرته إلي دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلي ما هاجر إليه.
وفرض عَلَيْهِ جهاد نَفْسه في ذات الله وجهاد شيطانه فهَذَا كله فرض
عين لا ينوب فيه أحد عن أحد وأما جهاد الكفار والمنافقين فقَدْ يكتفي فيه ببعض الأمةِ إذا حصل مِنْهُمْ مقصود.
وأَكْمَلُ الخَلْقِ عَنْدَ اللهِ مَنْ أَكْمَلَ مَرَاتِبَ الجِهَادِ كُلّهَا، وَالخَلْقُ مُتَفاوِتُونَ فِي مَنَازِلِهِمْ عَنْدَ اللهِ تَفاوُتَهُمْ فِي مَرَاتِبِ الجِهَادِ وَلِهَذَا كَانَ أكْمَلُ الخَلْقِ وأكْرَمُهُمْ عَلَى اللهِ خَاتَمُ أنْبِيائِهِ وَرُسُلِهِ فَإِنّهُ كَمَّلَ مَرَاتِبَ الجِهَادِ وَجَاهَدَ فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ وَشَرَعَ فِي الجِهَادِ مِنْ حِيْنَ بُعِثَ إِلى أَنْ تَوَفَّاهُ اللهُ عز وجل فَإِنَّهُ لَمَّا نَزَلَ عَلَيْهِ " يَا أيها الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ " شَمَّرَ عَنْ ساقِ الدَّعْوَةِ وَقامَ فِي ذَاتِ اللهِ أَتَمَّ قِيَامٍ وَدَعَا إِلى اللهِ لَيْلاً وَنَهَاراً وَسِرّاً وَجَهْراً فَلَمَّا نَزَلَ عَلَيْهِ " فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ " صَدَعَ بأمْرِ اللهِ لَا تأخُذُهُ فِيْهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ فَدَعَا إِلى اللهِ الصّغيرَ وَالكَبِيْرَ والحُرَّ والْعَبْدَ والذّكَرَ وَالأُنْثَى والأحْمَرَ والأسْوَدَ والجِنَّ والإِنْسَ.
ولما صدع بأمر الله وصرح لقومه بالدعوة وناداهم بسب آلهتهم وعيب دينهم اشتد أذاهم له ولمن استجاب له من أصحابه ونالوهم بأنواع الأذى وهذه سنة الله عز وجل في خلقه كما قال تَعَالَى " مَا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ " وَقَالَ: «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنسِ وَالْجِنِّ " وَقَالَ: «كَذَلِكَ مَا أَتَي الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ» .
فعزي سُبْحَانَهُ بذَلِكَ وأن له أسوةً بمن تقدمه من المرسلين وعزي أتباعه بقوله " أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حتى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ» .
شِعْراً:
لَعَمْرِيَ إِنَّ المَجْدَ وَالفَخْرَ وَالعُلَا
…
وَنَيْلَ الأمَانِيْ وَارْتفَاعَ المَرَاتِبِ
لِمَنْ قَامَ بِالدِّيْنِ الحَنَيِيْفيِّ صَادِقَاً
…
وَجَاهَدَ أَهْلَ الشَّرِ مِنْ كُلِّ نَاكِبِ
وَِقَولِهِ " أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ، أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ، مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، وَمَن جَاهَدَ فَإنما يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ "
{وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ، وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِن جَاء نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} . فليتأمل الْعَبْد سياق هذه الآيات وما تضمنته من العبر وكنوز الحكم فإن النَّاس إذا أرسل إليهم الرسل بين أمرين: إما أن يَقُولُ أحدهم آمنا، وإما أن لا يَقُولُ ذَلِكَ بل يستمر علي السيئات والكفر.
فمن قال آمنا. امتحنه ربه وابتلاه وفتنه والفتنة الابتلاء والاختبار ليتبين الصادق من الكاذب. ومن لم يقل آمنا فلا يحسب أنه يعجز الله ويفوته ويسبقه فإنه إنما يطوي المراحل في يديه.
وَكَيْفَ يَفِرُّ المَرْءُ عَنْهُ بِذَنْبِهِ
…
إِذَا كَانَ يَطْوي فِي يَدَيْهِ المَرَاحِل
فمن آمن بالرسل وأطاعهم عاداه أعداؤهم وآذوه فابتلي بما يؤلمه،
وإن لم يؤمن بِهُمْ ولم يطعهم عوقب في الدُّنْيَا والآخرة فحصل له ما يؤلمه وكَانَ هَذَا المؤلم أعظم وأدوم من ألم إتباعهم فلابد من حصول الألم لكل نفس آمنت أو رغبت عن الإِيمَان لكن المُؤْمِن يحصل له الألم لكل نفس آمنت أو رغبت عن الإِيمَان لكن المُؤْمِن يحصل له الألم في الدُّنْيَا ابتداء ثُمَّ يكون له العاقبة في الدُّنْيَا والآخرة والمعرض عن الإِيمَان يحصل له لذة ابتداء ثُمَّ يصير في الألم الدائم، وصلي الله علي مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين
(فَصْلٌ)
وَسُئِلَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله أيُّمَا أَفْضَلُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُمَكَّنَ أَوْ يُبْتَلىَ فَقَالَ لا َيُمَكَّنُ حَتَّى يُبْتَلَى واللهُ تَعَالَى ابْتَلى أُولًي العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ فَلَمَّا صَبَرُوْا مَكّنَهُمْ.
فَلَا يَظُنُّ أَحَدٌ أَنَّهُ يَخْلُصُ مِنَ الأَلَمِ البَتَّةَ وإِنَّمَا تَفَاوَتَ أَهْلُ الآلامِ فِي العُقُولِ فَأَعْقَلُهُمْ مَنْ بَاعَ أَلماًً مُسْتَمِرّاً عَظِيْماً بأَلَمٍ مُنْقَطِعٍ يَسِيْرٍ وأشْقَاهُمْ مَنْ بَاعَ الأَلَمَ المُنْقَطِعَ اليَسِيْرَ بالألمِ العَظِيْمِ المُسْتَمِرْ. فَإِنْ قِيْلَ كَيْفَ يَخْتَارُ العَقْلُ لِهَذَا؟ قِيْلَ الحَامِلُ لَهُ عَلَى هَذَا النَّقدُ والنَّسيْئَةُ والنَّفْسُ مُوَكَّلَةٌ بِالعَاجِلِ {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} أيّ الدُّنْيَا {وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ} {إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً} وهَذَا يَحْصُلُ لِكُلَّ أحَدٍ فَإِنّ الإِنْسَانَ مَدَنِيٌّ بِالطَّبْعِ لابُدَّ لَهُ أنْ يَعِيْشَ مَعَ النَّاسِ.
وَالنَّاس لّهُمْ إرادات وتصورات فيطلبون منه أن يوافقهم عَلَيْهَا وإن لم يوافقهم آذوه وعذبوه، وإن وافقهم حصل له الأذى والْعَذَاب تَارَّة مِنْهُمْ، وتَارَّة من غيرهم كمن عنده دين وتقي حل بين قوم فجار ظلمة ولا يتمكنون من فجورهم وظلمهم إِلا بموافقته لّهُمْ وسكوته عنهم فإن وافقهم أو سكت عنهم سلم من شرهم في الابتداء ثُمَّ يسلطون عَلَيْهِ بالإهانة والأذى أضعاف
ما كَانَ يخافه ابتداء لو أنكر عَلَيْهمْ وخالفهم وإن سلم مِنْهُمْ فلابد أن يهان ويعاقب علي يد غيرهم.
فالحزم كُلّ الحزم في الأخذ بما قَالَتْ أم الْمُؤْمِنِين لمعاوية: من أرضي الله بسخط النَّاس كفاه الله مؤنة النَّاس ومن أرضي النَّاس بسخط الله لم يغنوا عَنْهُ شَيْئاً.
ومن تأمل أحوال العَالَم رأي هَذَا كثيراً فيمن يعين الرؤساء علي أغراضهم الفاسدة وفيمن يعين أَهْل البدع علي بدعهم هرباً من عقوبتهم فمن هداه الله وألهمه رشده ووقاه شر نَفْسهُ امتنع من الموافقة علي فعل المحرم وصبر علي عداوتهم ثُمَّ يكون له العاقبة في الدُّنْيَا والآخرة كما كانت للرسل وأتباعهم كالمهاجرين والأنصار ومن ابتلي من العِلماًء والعباد وصالحي الولاة والتجار وغيرهم ولما كَانَ الألم لا محيص منه البتة عزي سُبْحَانَهُ من اختار الألم اليسير المنقطع علي الألم العَظِيم المستمر بقوله " مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» .
فضرب لمدة هَذَا الألم أجلاً لابد أن يأتي وَهُوَ يوم لقائه فيلتذ الْعَبْد أعظم اللذة بما تحمل من الألم في الله ولله وأكد هَذَا العزاء والتسلية برجَاءَ لقائه ليحمل الْعَبْد اشتياقه إلي لقاء ربه ووليه علي تحمل مشقة الألم العاجل بل ربما غيبة الشوق إلي لقائه عن شهود الألم والإحساس به ولهَذَا سأل النَّبِيّ ? ربه الشوق إلي لقائه فَقَالَ الدُّعَاء الَّذِي رواه أَحَمَد وابن حبان:
(اللَّهُمَّ إني أسألك بعلمك الغيب وقدرتك علي الخلق أحيني إذا
كانت الحياة خيراً لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة وأسألك نعيماً لا ينفذ وأسألك قرة عين لا تنقطع وأسألك الرِّضَا بعد الِقَضَاءِ وأسألك برد العيش بعد الموت وأسألك لذة النظر إلي وجهك وأسألك الشوق إلي لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة اللَّهُمَّ زينا بزينة الإِيمَان وَاجْعَلْنَا هداة مهتدين) .
فالشوق يحمل المشتاق علي الجد في السير إلي محبوبه ويقرب عَلَيْهِ الطَرِيق ويطوي له العبيد ويهون عَلَيْهِ الآلام والمشاق وَهُوَ من أعظم نعمة أنعم الله بها علي عبده ولكن لهذه النعمة أقوال وأفعال وأعمال هما السبب الَّذِي تنال به وَاللهُ سُبْحَانَهُ سميع لتلك الأقوال عليم بتلك الأفعال وَهُوَ عليم بمن يصلح لهذه النعمة كما قال تَعَالَى " فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهمْ مِن بَيْنِنَا ألَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ» .
فإذا فاتت الْعَبْد نعمة من نعم ربه فليقَرَأَ علي نَفْسهُ " ألَيْسَ الله بأعلم بالشاكرين " ثُمَّ عزاهم تَعَالَى بعزاء آخر وَهُوَ أن جهادهم فيه إنما هُوَ لأنفسهم وثمرته عائدة عَلَيْهمْ وإنه غني عن العالمين ومصلحة هَذَا الجهاد ترجع إليهم لا إليه سُبْحَانَهُ ثُمَّ أخبر أنه يدخلهم بجهادهم وإيمانهم في زمرة الصالحين ثُمَّ أخبر عن حال الداخل في الإِيمَان بلا بصيرة وأنه إذا أوذي في الله جعل فتنة النَّاس له كعذاب الله.
وهي أذاهم له ونيلهم إياه بالمكروه والألم الَّذِي لابد أن يناله الرسل وأتباعهم ممن خالفهم جعل ذَلِكَ الَّذِي ناله مِنْهُمْ كعذاب الله الَّذِي فر منه المؤمنون بالإِيمَان فالمؤمنون لكمال بصيرتهم فروا من ألم عذاب الله إلي الإِيمَان وتحملوا ما فيه من الألم الزائل المفارق عن قريب.
وهَذَا لضعف بصيرته فر من ألم عذاب أعداء الرسل إلي موافقتهم ومتابعتهم ففر من ألم عذاب الله فجعل ألم فتنة النَّاس في الفرار منه بمنزلة ألم عذاب الله وغبن كُلّ الغبن إذ استجار من الرمضاء بالنار وفر من ألم ساعة إلي ألمِ الأبد وإذا نصر الله جنده وأولياءه قال إني معكم والله عليم بما انطوي عَلَيْهِ صدره من النفاق.
والمقصود أن الله سُبْحَانَهُ اقتضت حكمته أنه لابد أن يمتحن النُّفُوس ويبتليها فيظهر بالامتحان طيبها من خبيثها ومن يصلح لموالاته وكراماته ومن لا يصلح وليمحص النُّفُوس التي تصلح له ويخلصها بكير الامتحان كالذهب لا يخلص ولا يصفو من غشه إِلا بالامتحان إذ النفس في الأصل جاهلة ظالمة وقَدْ حصل لها بالجهل والظلم من الخبث ما يحتاج خروجه إلي السبك والتصفية فإن خَرَجَ في هذه الدار وإِلا ففي كير جهنم فإذا هُذِّبَ الْعَبْدُ ونقي أذن له في دخول الْجَنَّة.
قال الناظم رحمه الله:
وَإِنَّ جِهَادَ الكُفْرِ فَرْضُ كِفَايَةٍ
…
وَيَفْضُلُ بَعْدَ الفَرْضِ كُلَّ تَعَبُّدِ
لأَنَّ بِهِ تَحْصِيْنُ مِلَّةِ أَحْمَدٍ
…
وَفَضْلُ عُمُومِ النَّفْعِ فَوْقَ المُقَيَّدِ
فَلِلّهِ مَنْ قَدْ بَاعَ للهِ نَفْسَهُ
…
وجُوْدُ الفَتَى فِي النَّفْسِ أَقْصَى التَّجَوُّدِ
وَمَنْ يَغْزُ إِنْ يَسْلَمْ فَأجْرٌ ومَغْنَمٌ
…
وإِنْ يَرْدَ يَظْفُرْ بالنَّعِيْمِ المُخَلَّدِ
وَمَا مُحْسِنٌ يَبْغِيْ إِذَا مَاتَ رَجْعَةً
…
سِوَى الَّشَهَدا كَيْ يَجْهَدُوْا فِي التَّزَودِ
لِفَضْلِ الَّذِي أُعْطْوا وَنَالُوا مِنَ الرِّضَى
…
يَفُوقُ الأَمَانِيْ فِي النَّعِيمِ المُسَرْمَدِيْ
كَفَى أَنَّهُمْ أَحْيَا لَدَى اللهِ رُوْحُهُمْ
…
تَرُوْحُ بِجَنَّاتِ النَّعِيْمِ وَتَغْتَدِيْ
وغُدْوَةُ غَازٍ أَوْ رَواحُ مَُجاهِدٍ
…
فَخَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا بِقَوْلِ مُحَمَّدِ
يُكَفَّرُ عَنْ مُسْتَشْهَدِ البَرِّ مَا عَدَا
…
حُقُوقَ الوَرَى والكُلُّ فِي البَحْرِ فَاجْهَدِ
وَقَدْ سُئِلَ المْخُتَارُ عَنْ حَرِّ قَتْلِهِمْ
…
... فَقَالَ يَرَاهُ مِثْلَ قَرْصَةِ مُفْرَدِ
كُلُوْمُ غُزَاةِ اللهِ ألوَانُ نَزْفِهَا
…
دَمٌ وكَمِسْكٍ عَرْفُهَا فَاحَ فِي غَدِ
وَلَمْ يَجْتَمِعَ فِي مَنْخِرِ المَرْءِ يَا فَتَى
…
غُبَارُ جِهَادٍ مَعَ دُخَانٍ لَظَى أشْهَدِ
كَمَنْ صَامَ لَمْ يُفْطِرْ وقَامَ فَلَمْ يَنَمْ
…
جِهَادُ الفَتَى فِي الفَضْلِ عِنْدَ التَّعَدُّدِ
لَشَتَانَ مَا بَيْنَ الضَّجِيْعِ بِفُرْشِهِ
…
وسَاهِرِ طَرْفٍ لَيْلَةً تَحْتَ أَجْرَدِ
يُدَافِعُ عَنْ أََْهْلِ الهُدَى وَحِرْيْمِهِمْ
…
وَأْمَواِلِهْم بِالنَفْسِ والْمَالِ واليَدِ
وَمَنْ قَاتَلَ الأَعْدَاءَ لإِعْلَاءِ دِيْنِنَا
…
فَذَا فِي سَبِيْلِ اللهِ لَا غَيْرُ قَيِّدِ
وَيَحْسنُ تَشْيِيْعُ الغُزَاةِ لِرَاجِلٍ
…
وَحَلَّ بِلَا كُرْهٍ تَلَقِيْهُمُ أشْهَدِ
وأَهْلُ اْلكِتَابِ والمَجُوسُ إِنْ تَشَا أغْزُهُمْ
…
بِغَيْرِ دُعَاءٍ إِذْ بِإِبْلاغِهِمْ بُدِيْ
ويُغْزَوْنَ حَتَّى يُسْلِمُوْا أَوْ يُسَلِّمُوْا
…
صَغَاراً إِلَيْنَا جِزْيَةَ الذُّلِ عَنْ يَدِ
وَغَيْرُ أُولَى فَلْيُدْعَ قَبْلَ قِتَالِهِ
…
إَلى أَشْرَفِ الأدّيَانِ دِيْنِ مُحَمَّدِ
وَعَرِّفْهُ بالبُرْهَانِ حَتْمَ اِتِّبَاعِهِ
…
وَلَا تَقْبَلَنْ مِنْهُ سِوَاهُ بأَوْطَدِ
وإِنَّ رِبَاطَ المَرْءِ أَجْرٌ مُعَظَّمٌ
…
مُلازِمُ ثَغْرِ لِلِّقَا بالتَّعَدُّدِ
ويَجّْرِيْ عَلَى مَيْتٍ بِهِ أَجْرُ فِعْلِهِ
…
كَحَيٍ وَيُؤْمَنْ بافْتِتَانِ بمَجْلَدِ
وَلَا حَدَّ فِي أَدْنَاهُ بَلْ أرْبَعُوْنَ فِي الـ
…
تَّمَامِ ويُعْطَى أَجْرَ كُلِّ مُزَيَّدِ
وأَفْضَلُهُ مَا كَانَ أخْوَفَ مَرْكَزاً
…
وأَقْرَبَ مِنْ أرْضِ الْعَدُوِّ المُنَكِدِ
وَذَلِكَ أَثْنَى مِنْ مُقَامٍ بمَكَةٍ
…
وَفِي مَكَّةٍ فَضْلُ الصَّلَاةِ فَزَيَّدِ
وَمَنْ لَمْ يُطِقْ فِي أرْضِ كُلِّ ضَلَالةٍ
…
ِقَياماً وَإِظهَاراً لِدِيْنِ مُحَمَّدِ
فَحَتْمٌ عَلَيْهِ هِجْرَةٌ مَعَ أَمْنِهِ الْـ
…
هَلَاكَ وَلَوْ فَرْداَ وَذَاتَ تَعَدُّدِ
بِلَا مَحْرَمٍ مَشْياً وَلَوْ بَعَدُ المَدَى
…
لِفِعْلِ الصَّحَابِيَاتِ مَعَ كُلِّ مُهْتَدِ
اللَّهُمَّ ألهمنا ذكرك وشكرك ووفقنا لما وفقت له الصالحين من خلقك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المسلمين بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فائدة جليلة
وَقَالَ إذا أصبح الْعَبْد وأمسي وليس همه إِلا الله وحده يحمل الله سُبْحَانَهُ حوائجه كُلّهَا وحمل عَنْهُ كُلّ ما أهمه، وفرغ قَلْبهُ لمحبته ولِسَانه لذكره وجوارحه لطاعته وإن أصبح وأمسي والدُّنْيَا همه حمله الله همومها وغمومها وأنكادها ووكله إلي نَفْسهُ فشغل محبته بمحبة الخلق ولِسَانه عن ذكره بذكرهم وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم.
فهو يكدح كدح الوحش في خدمة غيره كالكير ينفخ بطنه ويعصر أضلاعه في نفع غيره فكل من أعرض عن عبودية الله وطاعته ومحبته بلي بعبودية المخلوق ومحبته وخدمته قال تَعَالَى " وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانَاً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ» . أ.هـ.
شِعْراً:
كَأنِّي بنَفْسِيْ قَدْ بَلَغْتُ مَدَى عُمْرِي
…
وأنْكَرْتُ مَا قَدْ كُنْتُ أَعْرِفْ مِنْ دَهْرِي
وَطَالَبَنِيْ مَنْ لَا أَقُوُمُ بِدَفْعِهِ
…
وحُوِّلْتُ مِنْ دَارِي إِلى ظُلْمَةِ القَبْرِ
وَفَازَ بِمِيْرَاثِي أُنُاسٌ فَشَتَّتُوْا
…
بإِفْسَادِهِمْ مَا كُنْتُ أَجْمَعُ فِي عُمْرِي
وأَهْمَلَنِي مَنْ كَانَ يُبْدِي مَحَبَّتِيْ
…
وأُخْلِصُهُ وُدِّيْ ويَغْمِرُهُ بِرِّيْ
وَلَمْ يَسْخُ لِي مِنْهُمْ صَدِيْقُ بِدَعْوَةٍ
…
إِذَا مَا جَرَى يَوماً بحَضْرَتِهِ ذِكْرِي
وأَضْحَى لِبَيْتِيْ سَاكِنٌ مُبْهَجٌ بِهِ
…
وفِي اللّحْدِ بَيْتِيْ لَا أَقُوْمُ إَلى الحَشْرِ
فَيَا شِقْوَتِي إنْ لَمْ يَجْدْ بنَجَاتِهِ
…
إِلَهْي ولَمْ يَجْبُرْ برَحْمَتِهِ فَقْرِي
فَقَدْ أثقُلْتْ ظَهْرِي ذُنُوْبٌ لَوْ أنَّهَا
…
عَلَى ظَهْرِ طُوْرٍ أَثْقَلَتْهُ مِنْ الوِزْرِ
" موعظة "
عِبَادَ اللهِ مضي رِجَال من هذه الأمة كانوا يخشون ربهم خشية العارفين الموقنين لذَلِكَ كانت أقوالهم وأفعالهم موزونة بما للشرع من موازين كَانُوا يزنون كلامهم قبل أن يلفظوا به لأنهم يوقنون أن خالقهم سمعها وشهد عَلَيْهَا وَهُوَ تَعَالَى خَيْر شاهد.
كَانُوا إذا أظلم الليل يقفون في محاريبهم باكين متضرعين لهُمْ أنين كأنين المرضي ولهم حنين كحنين الثكلى وكَانُوا ربما مروا بالآية من كتاب الله
فجعلوا يرددونها بقلب حزين فأثرت عَلَيْهمْ ومرضوا بعدها مَاتَ أولئك السَّلَف الصالح الَّذِينَ تتجافي جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً.
وماتت تلك الخشية وأعقبها قَسْوَة أذهلت العباد عن طاعة الله فصاروا يأتون ويذرون ما يذرون دون سؤال عن سخط الله ورضاه.
وغدت جوارحهم مطلقة في كُلّ ما يغضب الله وصَارَت أفعالهم فوضي لَيْسَ لها ضوابط ولا قيود العين تجول في المناظر المحرمة من نساء سافرات إلي سينماء إلي تلفزيون إلي الفيديو معلم الفساد إلي كورة إلي مجلاتٍ في طيها الشرور إلي صورة مجسدة وغير مجسدة إلي كتب هدامة للأَخْلاق إلي غير ذَلِكَ من المحرمَاتَ التي تجرح القُلُوب.
والفرج يسرح كما شَاءَ إلي الفواحش الدين ضعيف والخلق فاسد والأذنُ لا تشبع من سماع ما يسخط ربها والبطن يستزيد من سحت الأقوات.
وأما اليد فحدث ولا حرج في تعدي الحدود وأما اللسان فليله ونهاره يتحرك ويتقلب في منكر القول وزوره ولا كأن ربه السميع البصير العليم موجود وتراه في أعراض الغوافل ويمزق جلودهم في السب والغيبة والبهت والكذب ولا يعف عن عرض أي بشر.
ويحلف بِاللهِ العلي العَظِيم كُلّ يوم مرات ولا يهمه أبر في يمينه أم فجر وأما وعوده وعهوده وعقوده فتهمل ولا كأنه مكلف باحترامها فهَذَا وأمثاله قَدْ انهمكوا في المعاصي وتوغلوا فيها وصَارَت عندهم عادات وشَيْء طبعيٌّ مألوفٌ لهُمْ.
ولذَلِكَ إذا مررت بِهُمْ أو مررت حول بيوتهم استوحشت من سماع الأغاني والرقص والمطربين والسب واللعن والقذف والاستهزاء بالدين وأخذت في العجب بين هَؤُلَاءِ وأولئك الَّذِينَ في أوقات التجليات في حنادس الظلم يناجون ربهم راغبين في رضوان العزيز الجبار خائفين من سخط المنتقم القهار متفكرين في سرعة حلول الْمَنَايَا التي تسارع الأيام والليالي في اقترابها وموقنين بأنهم محاسبون علي الفتيل والنقير والقطمير عالمين بأنهم مكلفون بواجبات عبودية ما قاموا بالقليل منها وهم عَنْهَا مسؤلون وعلي ما قدموه من خَيْر وشر قادمون.
وهل حال هَؤُلَاءِ السعداء في جانب أولئك التعساء الأشقياء إِلا كحال المصاب بالجنون في جانب أوفر النَّاس عقلاً وأكملهم وقاراً فأكثر يا أخي من قولك الحمد لله الَّذِي عافانَا مِمَّا ابتلاهم الله يعافيهم ولا يبلانَا قال تَعَالَى {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ألا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}
وَكُلَّ كَسْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَجْبُرُهُ
…
وَمَا لِكَسْرِ قَنَاةِ الدِّيْنِ جُبْرَانُ
فتنبه أيها المُؤْمِن واعْلَمْ أنك مسئول عن كُلّ ما تعمل لا مهمل كالأنعام فانهج نهج الاستقامة وراقب ربك في مصادرك ومواردك لتقف عَنْدَ الحدود قال بعض المرشدين إلي معَالِم الرشد ضارباً لذَلِكَ مثلاً:
واعْلَمْ أن الإِنْسَان في تقَلْبه في أطوار حياته كمثل غريب ألقت به المقادير إلي قوم استقبلوه بترحاب وتكريم وكَانَ ذَلِكَ النازل فاقَد القوى غير عَالِم بما عَلَيْهِ القوم من الشئون ولا يدري من أين أتي ولا إلى أين يذهب.
فقام القوم بواجبات خدمته وإكرامه حتى قويت حواسه وجوارحه ومداركه وأخذ يعمل القوم فَجَاءَ رجل من علائقهم قائلاً: يا هَذَا إن هذه الدار التي توطنها مكرموك ما هِيَ دار إقامة ولا هِيَ مملوكة لأحد من الخلق ولكنهم أمثالك نزلاء من كَانُوا يعمرون هذه الدار قبلهم ثُمَّ رحلوا وتركوها وما كَانَ رحيلهم إلي مكَانَ بعيد ولكنه كَانَ إلي سجن ضيق ومكَانَ مظلم لو أرسلت ببصرك لرأيته وقَدْ فقدوا تلك القوي وتناسوا ذَلِكَ النَّعِيم.
ثُمَّ أخذ بيده إلي مكَانَ قفر وأعني به المقبرة وَقَالَ له: هَذَا مراح القوم ومسقط رؤوسهم وإن الطَرِيق التي توصلك إلي هَؤُلَاءِ القوم هِيَ الطَرِيق التي سلكها مكرموك وإنها لطَرِيق ذات عقبات مهلكة ولها أوحال من تورطها هلك ولا مخلص من تلك الأحوال إِلا بتجنب تلك العقبات أو تجاوزها عدواً.
فإن رمت السلامة فسر فريداً متحفظاً من تخاصم القوم وتنازعهم ومن ملاهييهم وألعابهم ولا تصغ لمن يناديك من خلفك فإن الَّذِي يناديك من خلفك في طَرِيق النجاة هُوَ أجهل منك بها ولا تخالف من ناداك من الأمام فَإِنَّهُمْ أدري منك بمفاوز الطَرِيق.
وإياك أن تشتبه عَلَيْكَ الطرق وأصوات المنادين فإن طَرِيق السلامة لها أعلام ومصابيح نيرة علي رأس كُلّ مرحلة من مراحلها وأما باقي الطرق فإنها مظلمة موحشة مهلكة وما هِيَ إِلا طَرِيق واحدة ولكنها ذات شعب ومسارب كثيرة.
فاحذر أن تتهاون بنفسك كما تهاون القومُ بنفوسهم فهلكوا وهم لا يشعرون فإن كَانَ النازل الغريب علي استعداد لتعقل النصائح وذا قابيلة تقبل
الإرشاد وقف علي أفواه الطَرِيق وفتح عينيه واستعمل فكره وتبصر في أمره وتدبر عواقب ما عَلَيْهِ وأخذ لنفسه بأحوط الأحوال وأقربها إلي السلامة وجعل عينه متجهة للنظر إلي منازل الراحلين التي لا أنيس بها ولا جلَيْسَ.
وَتَأَمَّلَ سُرْعَةَ الرَّحِيْلِ وقِصَرَ أَوْقَاتِ الإقَامَةِ وتَجَنَّبَ الألْعَابَ والمَلَاهِي وسَلَكَ سَبِيْلَ المُهْتَدِيْنَ وإِنْ كََانََ ضَيِّقَ الحَضِيْرَةِ قَاصِرَ النَّظَرِ ضَعِيْفَ الهِمَّةِ ضَائِعَ العَقْلِ سَيئَ التَّصَوُرِ فَاقِدَ الفِكْرِ خَبِيْثَ الاسْتِعْدَادِ لَئِيْمَ الطَّبْعِ لا يَجِدُ بُداً مِنْ مُنَازَعَةِ اللَاّعِبِيْنَ ومُسَابَقَةِ اللَاّهِيْنَ وَتَغَافََِل عَنْ عَاقِبَةِ أَمْرِهِ وسُوْءِ مَصِيْرِهِ وتَبَاعَدَ عَنْ صِيَاحِ النَّاصِحِيْنَ وأَصْغَى إِلى مُدَاهَنةِ الغَاوِيْنَ أَصْبَحَ مِنْ النادِمِيْنَ.
وما ضربنا لك هَذَا المثل إِلا لتعلم أنك أَنْتَ الغريب الَّذِي نزلت يوم ولدتك أمك بقومك وأَنْتَ ضعيف القوي لا تعلم شَيْئاً كما قال تعالي " والله أخرجكم من بطونِ أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمَعَ والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون)) ففرح بك قومك وأكرموك إلي أن قويت الآت أعمالك وصرت تحسن الرحيل وحدك.
ونريد بالرحيل هنا سلوك إحدى الطريقين إما طَرِيق الكمالات وإما طَرِيق النقائص لأنهما مسارب المكلفين الَّذِينَ لابد لهُمْ من السير فيها للوصول إلي أحد الغايتين فإنه ما من طَرِيق إِلا ولها غاية ينتهي إليها مسير سالكها.
وما نريد بالرجل العاقل المرشد إِلا صاحبَ الرسالة عليه الصلاة والسلام أو النائب عَنْهُ في تبليغها وما نريد بمن يناديك من الأمام إِلا السَّلَف
الصالح الَّذِينَ سبقونا بالإِيمَان وبينوا لنا طَرِيق النجاة أو الأتقياء المقتفون لآثارهم الَّذِينَ ثبتت استقامتهم.
وما نريد بالَّذِينَ ينادوك من خلفك إِلا الَّذِينَ لا قدم لهُمْ في طَرِيق النبوة فلم يسلكوا سبيل المهتدين بل اعتمدوا في إرشادهم علي مقال لا حال معه ولا عمل وهَذَا لا تصلح متابعته لأنهم أجهل النَّاس بطَرِيق الاستقامة.
وما أَهْل الاستقامة إِلا الَّذِينَ راقبوا قُلُوبهمْ وأمسكوا ألسنتهم وطهروا أقلامهم فلا عزم لهُمْ إِلا علي أعمال البر والمواساة ولا يقولون إِلا الحق المنجي ولا يكتبون إِلا ما لو سئلوا عَنْهُ يوم القيامة لأحسنوا الإجابة والَّذِينَ يذكرون الله كثيراً وإذا ذكر الله وجلت قُلُوبهمْ والبكاؤون من خشية الله المقتفون لآثاره ?.
شِعْراً:
…
نُورُ الْحَدِيْثِ مُبِيْنٌ فَادْنُ وَاقْتَبِسِ
…
وَاحْدُ الرِّكَابَ لَهُ نَحْوَ الرِّضَا النَّدُسِ
مَا العِلْمُ إِلَا كِتَابُ اللهِ أَوْ أَثَرٌ
…
يَجْلُو بِنُوْرِ هُدَاهُ كُلِّ مُلْتَبِسِ
نُوْرٌ لِمُقْتَبِسٍ خَيْرٌ لِمُلْتَمِسٍ
…
حِمىً لِمُخْتَرِسٍ نُعْمَى لِمُبْتَئِسِ
فاعْكُفْ بِبَابِهِمَا عَلَى طِلابِهِمَا
…
تَمْحُوْ العَمَى بِهِمَا عَنْ كُلِّ مُلْتَبِسِ
وَرِدْ بِقَلْبِكَ عذْباً مِنْ حِيَاضِهِمَا
…
تَغْسِلْ بِمَائِهِمَا مَا فِيْهِ مِنْ دَنَسِ
واقْفُ النَّبِيَّ واتْبَاعَ النَّبِيّ وَكُنْ
…
مِنْ هَدْيِهِمْ أَبَداً تَدْنُوْ إِلى قَبَسِ
والْزَمْ مَجَالِسَهُمْ وَاحْفَظْ مُجَالِسَهُمْ
…
وَانْدَبِ مَدَارِسَهُمْ بالأرْبُعِ الدُّرُسِ
واسْلُكْ طَرِيْقَهُمْ وَاتْبَعْ فَرِيقَهُمُ
…
تَكُنْ رَفِيْقَهُمُ فِي حَضْرَةِ القُدُسِ
تِلْكَ السَّعَادَةُ إِنْ تُلْمِمْ بِسَاحَتِهَا
…
فَحُطَّ رَحْلَكَ قَدْ عُوْفِيْتَ مِنْ تَعَسِ
وما نريد بمراحل حياتك إِلا الأطوار التي تتقلب بك فيها الشمس كُلَّما غربت أو أشرقت وتنتقل بك إليها الليالي وأَنْتَ لا تشعر فما أسرع مُرُور الشمس بك إلي نهاية أجلك وما أغفلك عن عملها فيك.
وما نريد بأوحال حياتك إِلا متابعة شهواتك عَنْدَ بلوغ الحلم فإن لطور الشبوبية أوحال مهلكه وهي الشهوات البهيمية التي تضطر الشباب الَّذِي غلبت شهوته عقله إلي مغازلة الغانيات ومعانقة الملاهي وتعاطي المحرمَاتَ فيصير قي أوحال تناسبه.
وما من أحد تستطيع تلك الأوحال إِلا الَّذِي وفقه الله فتباعد عن ظلمَاتَ الزيغ وتنور بنور العلم الديني الَّذِي علمه العليم الخبير لرسوله ? وأمره بتعليمه للناس لأنه جل شأنه هُوَ الحكيم العليم الَّذِي علم الداء ودبر
الدواء قال تَعَالَى {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} انتهي بتصرف يسير.
شِعْراً:
مَثِّلْ لِنَفْسِكَ أَيُّهَا المَغْرُوْرُ
…
يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّمَاءُ تَمُوْرُ
قَدْ كُوِّرَتْ شَمْسُ النَّهَارِ وأُضْعِفَتْ
…
حَرّاً عَلَى رُؤُسِ العِبَادِ تَفُوْرُ
وَإِذَا الجِبَالَ تَعَلّقَتْ بأُصُوْلِهَا
…
فَرَأَيْتَهَا مِثْلَ السَّحَابِ تَسِيْرُ
وَإِذَا النُّجُومُ تَسَاقَطَتْ وَتَنَاسَرَتْ
…
وَتَبَدَّلَتْ بَعْدَ الضّيَاءِ كَدُوْرُ
وَإِذَا العِشَارُ تَعَطَّلَتْ عَنْ أَهْلِهَا
…
خَلَتِ الدَّيَارُ فَمَا بِهَا مَعْمُوْرُ
وَإِذَا الوُحُوْشُ لَدَى القِيَامَةِ أُحْضِرَت
…
وَتَقُوْلُ لِلأَمْلَاكِ أَيْنَ نَسِيْرُ
فَيُقَالُ سِيْرُوْا تَشْهَدُوْنَ فَضَائِحاً
…
وَعَجَائِباً قَدْ أُحْضِرَتْ وَأُمُوْرُ
وَإِذَا الجَنِيْنُ بِأُمِّهِ مُتَعَلِّقٌ
…
خَوْفَ الحِسَابِ وقَلْبُهُ مَذْعُوْرُ
هَذَا بِلَا ذَنْبٍ يَخَافُ لِهَوْلِهِ
…
كَيْفَ الْمُقِيْمُ عَلَى الذُّنُوْبِ دُهُوْرُ
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ وقوي محبتك في قلوبنا وألهمنا ذكرك وشكرك ووفقنا لطَاعَتكَ وامتثال أمرك اللَّهُمَّ نور قلوبنا بنور الإِيمَان وَاجْعَلْنَا هداة مهتدين وتوفنا مسلمين وألحقنا بعبادك الصالحين واغفر لنا ولوالدينا وَجَمِيع المسلمين بِرَحْمَتِكَ يا أرحم الراحمبن وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
((نَخْتُمُ هَذَا الجُزْءَ في فَصْلٍ يَحْتَوِيْ عَلَى نُبْذَةٍ يَسِيْرَةٍ))
((عَنْ سِيْرَةِ النَّبِيِّ ?))
((وَنُمُوذجٍ عَنْ حِلْمِهِ وَوَفَائِهِ))
هو مُحَمَّد بن عَبْد اللهِ بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مره بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن مَعد بن عدنان هَذَا متفق علي صحته.
ولا خلاف أن عدنان من ولد إسماعيل بن إبراهيم وإسماعيل هُوَ الذبيح علي القول الصحيح والقول بأنه إسحق باطل ولا خلاف أنه ? ولد بمَكَّة عام الفيل يوم الاثنين لثمان خلون من ربيع الأول وقيل لعشر منه وقيل لاثنتي عشرة خلت منه سنة 571 م.
وأما عَبْد اللهِ أبو رسول الله ? فكَانَ أحسن أولاد عبد المطلب وأعفهم وكَانَ أبوه يحبه والأكثر يقولون أنه توفي والنَّبِيّ ? حمل وقيل أنه مَاتَ ولِرَسُولِ اللهِ ? شهران وَجَمِيع ما خلفه عبد المطلب خمسة أحمال وجارية
حبشية اسمها بركة وكنيتها أم أيمن وهي حاضنته ?.
وروي البيهقي أنه ? ولد مختوناً وذكر البيهقي أيضاً لما كانت اللَّيْلَة التي ولد فيها رسول الله ? ارتج إيوان كسري وسقط من أربع عشرة شرفة وخمدت نار فارس ولم تخمد قبل ذَلِكَ من ألف عام وغاضت بحيرة ساوة.
وإلي هَذَا أشار الشاعر في قوله:
نُوْرٌ مِنَ الرَّحْمنِ أرْسَلَهُ هُدَى
…
لِلنَّاسِ فَازْدَهَرَ الزَّمَانُ وأيْنَعَا
دَعْ عَنْكَ إيْوَانَاً لِكِسْرَى عِنْدَمَا
…
هَتَفُوْا بِمَوْلِدِهِ هَوَى وتَصَدَّعَا
واذْكُرْهُ كَيْفَ أَتَى شُعُوْباً فُرِّقَتْ
…
أَهْوَاءُهَا كُلٌّ يُصَحِّحُ مَا ادَّعَا
فَهَدَاهُمْ لِلْحَقِّ حَتَّى أصْبَحُوْا
…
فِي اللهِ إِخْوَانَاً تَرَاهُمْ رُكَّعَا
أَبْنَاءَ أَخْيَافٍ تَجَمَّعَ شَمْلُهُمْ
…
أَبْنَاءَ أَخْيَافٍ تَجَمَّعَ شَمْلُهُمْ
فَتَحْوا لَهُ الدُّنْيَا فَسَارَ مُظَفَراً
…
وَبَنَوْا لَهُ حِصْناً أَشَمَّ مُمَنَّعَا
بَذَلُوْا النُّفُوسَ رَخِيْصَةً فِي نَصْرِهِ
…
فَتَسَنَّمُوْهَا مِ السَّلَامِ الأَرْفَعَا
لَهْفِيْ عَلَى مَاضِي الحَنِيْفَةِ أِنَّهُ
…
مَاضٍ تَعَلَّقَ زَاهِياً وَتَضَوَّعَا
أَيَّامَ كَانَ الدِّيْنُ تُشْرِقُ شَمْسُهُ
…
أَيَّامَ كَانَ الدِّيْنُ تُشْرِقُ شَمْسُهُ
يَا أُمَّةَ التَّوْحِيْدِ هَذَا مَجْدُكُمْ
…
إِنّيْ لأخْشَى أَنْ يَضَلَّ مُضَيَّعَا
سِيْرُوْا عَلَى سُنَنِ النَّبِيّ وَجَنِّبُوْا
…
زَيْفَ الحَضَارَةِ عَنْكُمُ أَنْ يَخْدَعَا
وَخُذُوْا لَكُمْ مِنْ سُنَّةِ الهَادِي هُدَى
…
فَهُوَ المَنَارُ إِذَا الضَّلَامُ تَجَمَّعَا
وروي الإمام أَحَمَد وغيره عن العرباض بن سارية عن النَّبِيّ ? قال إني عَنْدَ الله في أم اْلكِتَاب لخاتم النبيين وأن آدم لمجندل في طينته وسوف أنبئكم بتأويل ذَلِكَ دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسي قومه ورؤيا أمي التي رأت أنه خَرَجَ منها نور أضأت له قصور الشام.
قال في اللطائف وخروج هَذَا النور عن وضعه إشارة إلي ما يجئ به من النور الَّذِي اهتدي به أَهْل الأرض وزالت به ظلمة الشرك كما قال تَعَالَى: {قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} .
اللَّهُمَّ يا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أنقذنا من نوم الغَفْلَة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة ووفقنا لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا وزنوبنا ولا تؤخذنا بما انطوت عَلَيْهِ ضمائرنا واكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منا وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المسلمين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
…
...
…
...
…
(فَصْلٌ)
وبعد مولده ? أرضعته أمه آمنه بنت وهب بن مناف بن زهرة بن كلاب ثُمَّ أرضعته ? ثوبية عتيقة أبي لهب أعتقها حين بشرته بولادة النَّبِيّ ? ثُمَّ أرضعته حليمة السعدية.
قَالَتْ حليمة السعدية التي أراد الله أن تَقُوم بإرضاعه قدمت مكه مَعَ تسع نسوة من بني سعد بن بكر نلتمس الرضاع في سنة شهباء علي أتان لي ومعي صبي لنا وقَدْ عرض رسول الله ? علي كُلّ امرأة منا فأبين أن يرضعنه حينما علمن أنه يتيم الأب.
وَذَلِكَ أَنَا كنا نرجو المعروف من أبي الصبي فكنا نقول إنه يتيم ما عسي أن تصنع أمه وجده فكنا نكرهه لذَلِكَ قَالَتْ: فو الله ما بقي من صواحبي امرأة إِلا أخذت رضيعاً فَلَمَّا لم أجد غيره قُلْتُ لزوجي وَهُوَ الحارث بن عبد العزي والله إني لا أكره أن أرجع من بين صواحبي ولَيْسَ معي رضيع لانطلقن إلي ذَلِكَ اليتيم ولآخذنه.
قال لا ضرر عَلَيْكَ أن تفعلي. عسي الله أن يجعل لنا فيه بركة فذهب ثُمَّ أخذته بما هُوَ عَلَيْهِ فأقبل عَلَيْهِ ثديي بما شَاءَ من لبن فشرب حتى روي وشرب ابني حتى شبع فودعت النساء بعضهن بعضاً.
ثُمَّ ركبت أتاني وأخذت محمداً بين يدي ثُمَّ مشت أتاني حتى سبقت دواب النَّاس الَّذِينَ كَانُوا معي وصاروا يتعجبون مني ثُمَّ وصلنا إلي منازل بني سعد ولا أعلم أرضاً من أرض الله أجدب منها فكانت غنمي تروح علي حين قدمنا به كثيرة اللبن فنحلب ونشرب.
وفي السنة الرابعة من عمره ذكر أن ملكين شقا بطنه واستخرجا قَلْبهُ وشقاه فاستخرجا منه علقة سوداء ثُمَّ غسلا قَلْبهُ وبطنه بالثلج وَقَالَ أحدهما زنه بعشره من أمته فوزنه ثُمَّ مازال يزيد حتى بلغ الألف فَقَالَ والله لو وزنته بأمته لوزنها.
وماتت أمه عليه السلام ولم يستكمل إذ ذاك سبع سنين حين انصرفت من زيارات أخواله بني النجار وكانت خرجت به معها ومعه دايتُهُ أم أيمن قدمت به إلي مَكَّة بعد موتها.
فكفله جده عبد المطلب ورق عَلَيْهِ رقة لم يرقها علي أحد من أولاده فكَانَ لا يفارقه وما يجلس علي فراشه إجلالاً له إِلا رسول الله ?.
وقدم مكه قوم من بني مدلج من القافة فَلَمَّا نظروا إليه قَالُوا لجده احتفظ به فلم نجد قدماً أشبهَ بالقدم الَّذِي في المقام من قدمه فَقَالَ لأبي طالب اسمَعَ ما يَقُولُ هَؤُلَاءِ واحتفظ به.
وتوفي جده عبد المطلب في السنة الثامنة من مولده ? وأوصي به إلي عمه أبي طالب شقيق أبيه عَبْد اللهِ فكفله وأحسن كفالته قال الواقدي أقام أبو طالب من سنة ثمان من مولد رسول الله ? إلي السنة العاشرة من النبوة ثلاثاً وأربعين سنة يحوطه ويقوم بأمره ويذب عَنْهُ ويلطف به.
ولما بلغ ? اثنتي عشرة سنة خَرَجَ مَعَ عمه أبي طالب حتى بلغ بُصْرَي فرآه بحيرُ الراهب واسمه جرجيس فعرفه فَقَالَ وَهُوَ آخذ بيده هَذَا سيد العالمين هَذَا يبعثه الله رحمة للعالمين فَقَالَ وما علمك بذَلِكَ فَقَالَ إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق حجر ولا شجر إِلا وخرَّ ساجداً ولا
تسجد إِلا لنبي وإني أعرفه بخاتم النبوة في أسفل غضروف كتفه مثل التفاحة وإنا نجده في كتبنا.
وسأل أبا طالب أن يرده خوفاً عَلَيْهِ من اليهود الْحَدِيث رواه ابن أبي شيبة وفيه أنه أقبل عليه الصلاة والسلام وعَلَيْهِ غمامة تظله. ثُمَّ خَرَجَ ? مرة أخري ومعه ميسرة غلام خديجة في تجارة لها حتى بلغ سوق بصري وله إذ ذاك خمس وعشرون سنة.
فنزل تحت ظِلّ شجرة فَقَالَ نسطورُ الراهب ما نزل تحت هذه الشجرة إِلا نبي وكَانَ ميسرة يري في الهاجرة ملكين يظلانه من الشمس فَلَمَّا رجعوا إلي مَكَّة ساعة الظهيرة وخديجة في عليَّةٍ لها رأت رسول الله ? وهو علي بعيره وملكَانَ يظلانه ذكره أبو نعيم.
اللَّهُمَّ عمق إيماننا بك وبملائكتك وبكتبك وبرسلك وبالْيَوْم الآخر وبالقدر خيره وشره وآتنا في الدُّنْيَا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وصلي الله علي مُحَمَّد وآله وسلم.
(فَصْلٌ)
وتزوج رسول الله ? خديجة بعد ذَلِكَ وكانت تحت أبي إهابة بن زرارة التميمي ثُمَّ تزوجها عتيق بن عائد المخزومي فولدت له هنداً وكَانَ لها حين تزوجها رسول الله ? من العمر أربعون سنة فولدت له بنين وبنات وكل أولاده منها حاشا إبراهيم فإنه من مارية القبطية التي أهدها له المقوقس صَاحِبُ مصرَ.
فالذكور من ولده القاسم وبه كَانَ يكني وَهُوَ أكبر ولده عاش أياماً
يسيرة قبل النبوة وولد له غير إبراهيم والقاسم عَبْد اللهِ وَهُوَ المسمي بالطيب والطاهر لأنه ولد بعد النبوة وأما إبراهيم فولد له بالْمَدِينَة وعاش عامين غير شهرين ومَاتَ قبل موته عليه السلام بثلاثة أشهر يوم كسوف.
وأما بناته ? فأربع زينب تحت أبي العاص بن الربيع وكانت خديجة خالته وَالثَّانِيَة رقية تزوجها عثمان بن عفان وماتت بعد بدر بنحو ثلاثة أيام وزينب ماتت في حياة أبيها ? والثالثة أم كلثوم وهي أصغر بناته كانت مملكة بعتبة بن أبي لهب فلم يدخل بها وطلقها فتزوجها عثمان رضي الله عنه فماتت عنده في حياة رسول الله ?.
الرابعة فاطمة تزوجها علي بن أبي طالب فولدت له الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم وابناً مَاتَ صغيراً اسمه المحسن وماتت فاطمة بعد رسول الله بستة شهور، وخديجة أول امرأة تزوج بها وأول امرأة ماتت من نسائه وأمره جبريل أن يقَرَأَ عليها السلام من ربها.
وهي أول امرأة آمنت به وعاضدته وناصرته علي أمره وكَانَ لها منه المنزلة العإلية.
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ محبتك ومحبة كتبك وملائكتك ورسلك وأوليائك في قلوبنا ثبوت الجبال الراسيات ونور قلوبنا بنور الإِيمَان وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيع المسلمين بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلي الله علي نبينا مُحَمَّد وعلي آله وصحبه أجمعين.
شِعْراً:
دَعَاكُمْ إِلى خَيْرِ الأمُورِ مُحَمَّدٌ
…
ولَيْسَ العَوالِي فِي القَنَا كالسَّوافِلِ
دَعَاكُم إِلى تَعْظِيمِ مَنْ خَلْقَ الضُحَى
…
وشُهْبَ الدُّجَى مِنْ طَالِعَاتِ وآفِلِ
وحَثَّ عَلَى تطْهِيْرِ جِسْمٍ ومَلْبَسٍ
…
وعَاقَبَ فِي قَذْفِ النِّسَاءِ الغَوافِلِ
فَصَلَّي عَلَيْهِ اللهُ مَاذَرَّ شَارِقٍ
…
ومَا فَتَّ مِسْكاً ذِكْرُهُ فِي المَحَافِلِ
(فَصْلٌ)
ولم يرث ? من والده شَيْئاً بل ولد يتيماً عائلاً فاسترضع في بني سعد ولما بلغ مبلغاً يمكنه أن يعمل عملاً كَانَ ? يرعي الغنم مَعَ إخوانه من الرضاع في البادية وكَذَلِكَ لما رجع إلي مَكَّة كَانَ يرعاها لأهلها علي قراريط كما ذكر البخاري في صحيحه.
فعن أَبِي هُرَيْرَةِ رضي الله عنه عن النَّبِيّ ? قال ما بعث الله نبياً إِلا رعي الغنم فَقَالَ أصحابه وأَنْتَ فَقَالَ نعم كنت أرعاها علي قراريط لأَهْل مَكَّة.
ولما شب لخديجة ? كَانَ يتجر وكَانَ شريكه السائب بن أبي السائب وذهب بالتجارة لخديجة رضي الله عنها إلي الشام علي جعل يأخذه ولما شرفت خديجة بزواجه وكانت ذات يسار عمل في مالها وكَانَ يأكل من نتيجة عمله وحقق الله ما امتن عَلَيْهِ به سورة الضحى بقوله جل ذكره: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} بالإيواء والإغناء قبل النبوة والهداية بالنبوة هداه الله للكتاب والإِيمَان ودين إبراهيم عليه السلام ولم يكن يدري قبل ذَلِكَ قال تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}
وكَانَ عليه الصلاة والسلام أحسن قومه خلقاً وأصدقهم حديثاً وأعظمهم أمانة وأبعدهم عن الفحش والأَخْلاق التي تدنس الرِّجَال حتى كَانَ أفضل قومه مروءة وأكرمهم مخالطة وأخيرهم جواراً وأعظمهم حِلماً
وأصدقهم حديثاً فسموه الأمينَ.
لما جمَعَ الله فيه من الأمور الصَّالِحَة الحميدة والفعال السديدة من الحلم والصبر وَالشُّكْر والعدل والتواضع والعفة والجود والشجاعة والحياء حتى شهد له بذَلِكَ ألد أعدائه النضر بن الحارث من بني عبد الدار حيث يَقُولُ قَدْ كَانَ مُحَمَّد فيكم غلاماً حدثاً أرضاكم فيكم وأصدقكم حديثاً وأعظمكم أمانةً حتى إذا رأيتم في صدغية الشيب وجاءكم بما جاءكم قلتم ساحر لا وَاللهِ ما هُوَ بساحر.
قال ذَلِكَ في معرض الاتفاق علي ما يقولونه للعرب الَّذِينَ يحضرون الموسم حتى يكنوا متفقين علي ما يقولونه للعرب الَّذِينَ يحضرون الموسم حتى يكونوا متفقين علي ما يقولونه ولما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان قائلاً هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يَقُولَ ما قال قال: لا. فَقَالَ هرقل: ما كَانَ ليدع الكذب علي النَّاس ويكذب علي الله ورد ذَلِكَ في أول صحيح البخاري.
ثَوَى فِي قُرَيْشٍ خَمْسَ عَشْرَةَ حَجَّةً
…
يُذَكِّرُ لَوْ يَلْقَى صَدِيْقاً مُوَاتِيَا
وَيَعْرِضُ فِي كُلِّ المَوَاسِمِ نَفْسهُ
…
فَلَمْ يَرَى مَنْ يُؤْوِيْ وَلَمْ يَرَ دَاعِيَا
فَلَمَّا أَتَانَا واطْمَأَنَّتْ بِهِ النَّوَى
…
وَكُنَا لَهُ عَوْناً مِنْ اللهِ بَادِيَا
يَقُصُّ لَنَا مَا قَالَ نُوْحٌ لِقَوْمِهِ
…
وَمَا قَالَ مُوْسَى إِذَا أَجَابَ المُنَادِيا
فَأَصْبَحَ لَا يَخْشَى مِنَ النَّاسِ وَاحِداً
…
قَرِيْباً وَلَا يَخْشَى مِنَ النَّاسِ نَائِيَا
بَذَلْنَا لَهُ الأَمْوَالَ مِنْ جُلِّ مَالِنَا
…
وأَنْفُسَنَا عِنْدَ الوَغَى والتَّآسِيَا
نُعَادِي الَّذِي عَادَى مِنْ النَّاسِ كُلِّهَمْ
…
جَمِيْعاً وَلَوْ كَانَ الْحَبِيْبَ المُوَاسِيَا
ونَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَا رَبَّ غَيْرهُ
…
وأنَّ كِتَابَ اللهِ أَصْبَحَ هَادِيَا
اللَّهُمَّ اغفر لنا جَمِيع ما سلف منا من الذُّنُوب. واعصمنا فيما بقي من أعمارنا، ووفقنا لعمل صالح ترضي به وعنا وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المسلمين وصلي الله علي مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
وَقَالَ شيخ الإسلام رحمه الله وقَدْ نقل النَّاس صفات النَّبِيّ ? الطاهرة الدالة علي كمالهِ ونقلوا أخلاقه من حلمه وشجاعته وكرمه وزهده وغيره ونَحْنُ نذكر بعض ذَلِكَ:
ففي الصحيحين عن البراء بن عازب قال: كَانَ رسول الله ? أحسن النَّاس وجهاً وأحسنهم خلقاً لَيْسَ بالطويل الذاهب ولا بالقصير وعنه قال كَانَ رسول الله ? بعيد ما بين المنكبين عَظِيم الجمة إلي شحمة أذنيه علية حلة حمراء ما رأيت شَيْئاً قط أحسنَ منه.
وفي البخاري وسئل البراءُ أكَانَ رسول الله ? مثل السيف؟ قال: لا بل مثل القمر. وفي الصحيحين من حديث كعب بن مالك قال كَانَ النَّبِي ? إذا سُرَّ استنار وجهه حتى كأنه فلقةُ قمر.
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك قال كَانَ رسول الله ? ضخم الرأس والقدمين ولم أر قبله ولا بعده مثله وكَانَ بسيط الكفين ضخم اليدين وسئل عن شعره فَقَالَ كَانَ شعراً رجلاًً لَيْسَ بالجعد ولا بالسبط بين أذنيه وعاتقه.
وفي الصحيحين عن سماك بن حرب عن جابر بن سمرة قال كَانَ رسول الله ? ضليع الفم أشكل العينين منهوس وفسرهما ابن سماك بن حرب فَقَالَ واسع الفم طويل شق العين قليل لحم العقب.
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك قال كَانَ رسول الله ? لَيْسَ بالطويل البائن ولا بالأَبْيَض الأبهق ولا بالأدم ولا بالجعد ولا بالسبط.
وفي الصحيحين عَنْهُ قال كَانَ رسول الله ? أزهر اللون كأن عرقه اللؤلؤ إذا مشي تكفأ وما مسست ديباجة ولا حريرة ألينَ من كفِّ رسول الله ? وروي عن ابن عباس قال كَانَ رسول الله ? أبلج الثنيتين إذا تكلم رؤيَ النور يخَرَجَ من ثناياه.
وعن أنس قال دخل عَلَيْنَا رسول الله ? فَقَالَ عندنا – أي نامَ – فعرق وجاءت أمي بقارورة فجعلت تسلت العرق فيها فاستيقظ رسول الله ? فَقَالَ يا أم سليم ما هَذَا الَّذِي تصنعين قَالَتْ هَذَا عرقك نجعله في طيبنا وإنه أطيب من الطيب أخرجاه.
وروي الدرامي عن جابر قَالَ: رَسُولُ اللهِ ? لا يسلك طريقاً فيتبعه أحد إِلا عرف أنه سلكه من طيب عرقه ?.
وفي حديث أم معبد المشهور لما مر بها النَّبِيّ ? في الهجرة هُوَ وأبو بكر ومولاه ودليلهم وجَاءَ زوجها فَقَالَ صفيه لي يا أم معبد فقَالَتْ رجل ظاهر الوضاءة حلو المنطق فضل لا نزر ولا هذر كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن.
وذكر بَعْضهمْ زيادة علي هَذَا قال فيه:
في وصف أم معبد الخزاعية لِرَسُولِ اللهِ ? قال أبو معبد لزوجته صفي لي صَاحِبَ قريش الَّذِي يطلب يا أم معبد قَالَتْ رَأَيْت رجلاً ظاهرَ الوضأة – أي الحسن والنظافة مبتلج الوجه – أي مشرق ذو نور -.
حسن الخلق لم تعبه ثجلةٌ – أي لَيْسَ بطنه ضخم – ولم تزر به صعلة – أي لَيْسَ رأسه صغير – وسيم – أي جميل معتدل القامة – في عينه دعج – أي شدة سواد العين مَعَ سعتها -.
وفي أشفاره وطف – كثرة شعر الحاجبين – وفي صوته صحل – صوته رخيم – أحور – شدة بياض العين في شدة سوادها – أطحل أزج – كَانَ عينه مكحولة وإن لم تكحل – دقيق الحاجبين في طول – أقرن – مقرون الحاجبين – شديد سواد الشعر في عنقه سطح – أي ارتفاع وطول وفي لحيته كثافة.
إذا صمت فعَلَيْهِ الوقار وإذا تكلم سما – أي ارتفع – وعلاه البهاء – الحسن والجمال وكأن منطقه خرزات يتحدرن حلو المنطق فصل لا نزر ولا هذر – أي لا عِيَّ فيه ولا ثرثرة أجهر النَّاس وأجملهم من بعيد وأحلاهم وأحسنهم من قريب.
ربعة لا تشنؤه من طول ولا تقتحمه عين من قصر غصن بين غصنين فهو أنظر الثلاثة منظراً وأحسنهم قدراً له رفقاء يخصون به إذا قال استمعوا لقوله وإذا أمر تبادروا إلي أمره محفود – أي يطيعه أصحابه مسرعين – محشود – يجتمعون حوله.
اللَّهُمَّ ألهمنا ذكرك وشكرك ووفقنا لما وفقت له الصالحين من خلقك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المسلمين بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
" قصة أبي أيوب الأنصاري "
أبو أيوب الأنصاري خالد بن زيد الأنصاري، شهد بدراً والعقبة وروي مائة وخمسين حديثاً، مَاتَ بأرض الروم غازياً سنة 52 هـ ودفن إلي أصل حصن بالقسطنطينية، وله قصة يحلو ذكرها.
بعد ما تآمرت قريش بدار الندوة علي قتل رسول الله ? وجَاءَ جبريل عليه السلام إلي رسول الله ? فأخبره بذَلِكَ وأمره أن لا ينام في مضجعه تلك اللَّيْلَة.
وجَاءَ رسول الله ? إلي أبي بكر نصف النَّهَارَ في ساعة لم يكن يأتيه فيها متقنعاً فَقَالَ اخَرَجَ من عندك فَقَالَ إنما هم أهلك يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ رسول الله ? إن الله قَدْ أذن لي في الْخُرُوج فَقَالَ أبو بكر الصحبة يَا رَسُولَ اللهِ، قال نعم فَقَالَ أبو بكر فخذ بأبي وأمي إحدى الراحلتين، فَقَالَ بالثمن، وأمر علياً رضي الله عنه أن يبيت تلك اللَّيْلَة علي فراشه ?.
ومضي رسول الله ? إلي بيت أبي بكر فخرجا من خوخة في بيت أبي بكر ليلاً، ومضي رسول الله ? وأبو بكر إلي غار ثور، فنسجت العنكبوت
علي بابه، وحام الحمام فوق الغار وجدت قريش في طلبهما وأخذوا معهم القافة حتى انتهوا إلي باب الغار، فوقفوا عَلَيْهِ فَلَمَّا رأوا الحمام فوقه والعنكبوت قَدْ نسجت علي به استبعدوا ذَلِكَ جداً وأعمي الله بصائرهم وأبصارهم وفي ذَلِكَ يَقُولُ الشاعر:
وَمَا حَوَى الغَارُ مِنْ خَيْرٍ ومِنْ كَرَمٍ
…
وكُلُ طَرْفٍ مِنَ الكُفَّارِ عَنْهُ عَمِيْ
ظَنُّوْا الحَمَامَ وظَنَّوْا العَنْكَبُوتَ عَلَى
…
خَيْرِ البَرِيَّةِ لَمْ تَنْسِجْ وَلَمْ تَحُمِ
وِقَايَةُ اللهِ أَغْنَتْ عَنْ مُضَاعَفَةٍ
…
مِنَ الدُرُوْعِ وعَنْ عَالٍ مِنْ الأُطُمِ
فَقَالَ أبو بكر: يَا رَسُولَ اللهِ لو أن أحدهم نظر إلي ما تحت قدميه لأبصرنا، فَقَالَ ما ظنك باثنين الله ثالثهما، لا تحزن إن الله معنا وكانَا يسمعان كلامهم إِلا أن الله عمي عَلَيْهمْ أمرهما إن الله علي كُلّ شَيْء قدير.
بلغ النَّبِيّ ? الْمَدِينَة، فتلقته قُلُوب أهلها بأكرم ما يتلقي به وافد، وتطلعت إليه عيونهم تبثُهُ شوق الْحَبِيب إلي حبيبه، وفتحوا له قُلُوبهمْ ليحل منها في سويدائها، وأشرعوا له أبواب بيوتهم لينزل فيها أعز منزل، فكَانُوا يخرجون كُلّ يوم إلي الحرة ينتظرونه، فإذا اشتد حر الشمس رجعوا إلي منازلهم.
فَلَمَّا كَانَ يوم الاثنين ثاني عشر الأول علي رأس ثلاث عشرة سنة من نبوته ? خرجوا علي عاداتهم فَلَمَّا حميت الشمس رجعوا، فصعد رجل من
اليهود علي أطم من آطام الْمَدِينَة فرآي رسول الله ? وأصحابه مبيضين يزول بِهُمْ السراب، فصرخ بأعلى صوته يا بني قيلة، هَذَا صاحبكم هَذَا جدكم الَّذِي تنتظرونه.
فثار الأنصار إلي السِّلاح، ليتلقوا رسول الله ?، وسمهت الوجية والتكبير في بني عمرو وبن عوف وكبر المسلمون فرحاً وَسُرُوراً بقدومه.
فَلَمَّا كَانَ يوم الْجُمُعَة ركب فأدركته الْجُمُعَة في بني سالم ابن عوف فصلاها في المسجد الَّذِي في بطن الوادي، فكانت أولَ جمعة صلاها بالْمَدِينَة، ثُمَّ ركب ناقته فجاءت سادات يثرب في طريقها كُل يريد أن يظفر بشرف نزوله ? عنده.
فأتاه عتبان بن مالك، وعباس بن عبادة بن نضلة في رِجَال من بني سالم بن عوف، فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللهِ أقم عندنا في الْعَدَد والعدة والمنعة قال (خلوا سبيلها فإنها مأمورة) فخلوا سبيل ناقته ?.
فانطلقت حتى إذا وازنت دار بني بياضة تلقاه زياد بن لبيد وفروة بن عمرو، في رِجَال من بني بياضة، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ هَلُمَّ إلينا إلي الْعَدَد والعدة والمنعة، قال (خلوا سبيلها فإنها مأمورة) فخلوا سبيلها.
فانطلقت حتى إذا وازنت دار بني الحرث بن الخزرج اعترضه ابنُ الربيع وخارجة بن زيد وعبد الله بن رواحة في رِجَال من بني الحرث
ابن الخزج فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ هَلُمَّ إلينا إلي الْعَدَد والعدة والمنعة قال: «خلوا سبيلها فإنها مأمورة» . فخلوا سبيلها.
فانطلقت حتى إذا مرت بدار بني عدي بن النجار وهم أخواله دنيا أم عبد المطلب سلمي بنت عمرو إحدى نسائهم اعترضها سليط بن قيس وأبو سليط أسيره ابن أبي خارجة في رِجَال من بني عدي ابن النجار فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللهِ إلي أخوالك إلي الْعَدَد والعدة والمنعة قال: " خلوا سبيلها فإنها مأمورة» . فخلوا سبيلها.
فانطلقت حتى إذا أتت دار بني مالك ابن النجار بركت علي باب مسجده ? وَهُوَ يومئذ مربد – الموضع الَّذِي يجفف فيه التمر – لغلامين يتيمين من بني النجار ثُمَّ من بني مالك ابن النجار في حجر معاذ بن عفراء:
سهل وسهيل ابني عمرو فَلَمَّا بركت ورسول الله ? عَلَيْهَا لم ينزل وثَبِّتْ فسارت غير بعيد ورسول الله ? واضع لها زمامها لا يثنيها به.
ثُمَّ التفت إلي خلفها فرجعت إلي مبركها أول مرة فبركت فيه ثُمَّ تحلحلت – أي تحركت – ورزمت - أي رغت ورجعت في رغائها ووضعت جرانها فنزل عَنْهَا ?.
فاحتمل أبو أيوب الأنصاري رحل النَّبِيّ ? وكأنما يحمل كنوز الدُّنْيَا من شدة الفرح والسرور وبادر أبو أيوب يرحب برسول الله ? قال أبو أيوب لما نزل علي رسول ? في بيتي نزل في السفل وأنَا وأم أيوب في العلو فقُلْتُ له: يا نَبِيَّ اللهِ بأبي أَنْتَ وأمي إني لا أكره وأعظم أن أكون
فوقك وتَكُون تحتى فاظهر أَنْتَ فكن في العلو وننزل نَحْنُ فنكن في السفل.
فَقَالَ يا أبا أيوب ارفق بنا وبمن يغشانَا أن نكون في سفل البيت قال فكَانَ رسول الله ? في سفله وكنا فوقه في المسكن فلَقَدْ انكسر حب لنا فيه ماء فقمت أَنَا وأم أيوب بقطيفة لنا ما لنا لحاف غيرها ننشف بها الماء تخوفاً أن يقطر علي رسول الله ? منه شَيْء فيؤذيه.
قال وكنا نصنع له العشاء ونَبْعَث به إليه فإذا رد عَلَيْنَا فضلة تيممت أَنَا وأم أيوب موضع يده فأكلنا منه نبتغي بذَلِكَ البركة حتى إذا بعثنا إليه ليلة بعشائه وقَدْ جعلنا له فيه بصلاً أو ثوماً فرده رسول الله ? ولم أر ليده فيه أثراً قال فجئته فزعاً فقُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ بأبي وأمي رددت عشاءك ولم أر فيه موضع يدك وَكُنْت إذا رددته عَلَيْنَا تيممت أَنَا وأم أيوب موضع يدك نبتغي بذَلِكَ البركة قال إني وجدت فيه ريح هذه الشجرة وأنَا رجل أناجي فأما أنتم فكلوه قال فأكلناه ولم نصنع له تلك الشجرة بعد.
شِعْراً:
إِلى مَوْلَاكَ سَلِّمْ كُلَّ أمْرِ
…
تّفُزْ فِي كُلِّ صُبْحٍ أوْ عَشِيِّ
وصُنْ مِنْكَ الفُؤادَ بِحُسْنِ سَيْرٍ
…
بإخْلاصٍ عَلَى النّهْجِ السَّوِيِّ
ومِنْ مَوْلَاكَ أْطْلُبْ مَنْحَ فَضْلٍ
…
تَنَلْ مِنْهُ صَفَا العَيشِ الهَنِيِّ
وأكْثِرْ مِنْ صَلاتِكَ مَعَ سَلامٍ
…
عَلَى أسْمَى نَبِيٍّ هَاشِمِيَّ
صَلاةُ اللهِ يَتْلُوهَا سَلامٌ
…
... عَلَيْهِ دَامَ كَالمِسْكِ الزَّكيِّ
اللَّهُمَّ اجعلنا من المتقين الأَبْرَار وأسكنا معهم في دار القرار، اللَّهُمَّ وفقنا بحسن الإقبال عَلَيْكَ والإصغاء إليك للتعاون فِي طَاعَتكَ والمبادرة إلي خدمتك وحسن الآداب في معاملتك والتسليم لأَمْرِكَ والرِّضَا
بقضائك والصبر علي بَلائِكَ وَالشُّكْر لنعمائك، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المسلمين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يا أرحم الراحمين وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
" موعظة "
عِبَادَ اللهِ إن الإِنْسَان منا كما علمتم معرض للأذي والإساءة والإهانة وعرضه للأخطار، والمهلكات، فمنحه الله قوة يدفع بها الإهانة، ويدفع بها الخطر، وينجو بها بإذن الله من الهلاك، هِيَ قوة الْغَضَب والحمية.
وخلق الْغَضَب من النار، فتسلط الشيطان عَلَيْنَا من هَذَا الطَرِيق وركبنا وَقْت الْغَضَب، حتى صار النَّاس في غضبهم حمقي متهورين، وسفهاء طائشين.
فكرِهَ النَّاس الْغَضَب لذَلِكَ، واصطلحوا علي ذمهِ مطلقاً، وهَذَا خطأ فظيع وخلط لا يجوز، فلَيْسَ كُلّ غضب مذموم ولا كُلّ حلم بممدوح، والله جَلَّ وَعَلا لا يخلق لنا طبعاً إِلا لحكمة، ولا يركب فينا قوة الحمية والْغَضَب إِلا لسبب وحكمة.
فالأذى إذا جاءنا لا يدفع إِلا بالْغَضَب، والشر إذا نالنا لا يدفع إِلا بالْغَضَب، وحماية الدين والأعراض والشرف لا تدفع إِلا بالْغَضَب، فمن فقَدْ قوة الْغَضَب بالكلية، أو ضعفت فيه الحمية فهو ناقص محلول العزم، مفقود الحزم، معدوم الرجولة.
وقَدْ امتدح الله غضب الْمُؤْمِنِين علي الكفار، وحميتهم الدينية، لما له من أثر في إعلاء كلمة الله، فَقَالَ تَعَالَى {أَشِدَّاء عَلَي الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} .
وَقَالَ " أَذِلَّةٍ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَي الْكَافِرِينَ " وَقَالَ " وليجدوا فيكم غلظة "
وأمرنا بالْغَضَب إذا انتهكت حرمة الدين، والغيرة علي حدود الله، فَقَالَ في الزناة " وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْم الآخرِ» .
فمن فقَدْ قوة الْغَضَب، يصبح جبانَا ضعيفاً، وذليلاً حقيراً لا يأنف من العار ولا يهمه، ولا يتألم لأذى السفهاء، يتطاول السفهاء والفسقة علي حرمه، فلا يغار لعرض، ولا يغضب لشرف، فيكون تيساً في صورة إنسان، وجماداً لا إحساس له، ولا شعور.
ولَيْسَ الحِلم في شَيْء، وإنما هُوَ جبن وخور وذلة وقَدْ ورد عن النَّبِيّ ? أنه قال لن يدخل الْجَنَّة ديوث، قَالُوا وما الديوث يَا رَسُولَ اللهِ قال الَّذِي لا يغار علي أهله.
وَقَالَ سعد رضي الله عنه يَا رَسُولَ اللهِ لو وجدت مَعَ أهلي رجلاً أمهله حتى آتي بأربعة شهداء فَقَالَ ? نعم، فَقَالَ كلا والَّذِي بعثك بالحق، إن كنت لأعاجله بالسيف قبل ذَلِكَ، فَقَالَ ? اسمعوا إلى ما يَقُولُ سيدكم، إنه لغيور وأنَا أغير منه والله أغير مني.
وإذا لم يغضب الإِنْسَان لعرضه ضاعت الأنساب واختلطت الأولاد، وكل أمة تموت الغيرة فيهم لابد وأن تضيع العفة، والصيانة من نسائها، وهَذَا هُوَ الضعف والخور والعجز، والجبن، الَّذِي استعاذ منه النَّبِيّ ?، وكيف تذم رجلاً يغضب لدينه، إذا رأي المنكرات، وقَدْ أمر بمحاربتها وكيف يصلح المرء عيوب نَفْسهِ إذا لم يغضب عَلَيْهَا، ويشتد في ردها عن هواها.
أما الْغَضَب المذموم فهو الَّذِي يعمي صاحبه عن الحق، ويفقده بصر البصيرة، والفكر فتأخذه العزةُ بالإثم، ويعرض عن النصح إذا نصح، وَرُبَّمَا زَادَ هيجانَاً، وإذا روجع فَيَقُولُ ازداد سخطاً ولجاجاً.
وقَدْ يحدث منه ضرر علي من حوله، وتجده متغيراً لونه، مرتعشة أعضاؤه، زائغاً بصره، وكالأعمى يسب الجماد والْحَيَوَان، ويبطش بكل ما يصادفه، حتى إنه يتلف الأثاث، والرياش، وَرُبَّمَا لا يشفي غله، وقَدْ يحدث منه طلاق، ولعن وسب، وشتم، فهَذَا غضب مذموم قبيح مرذول ينتصر فيه إبلَيْسُ علي هَذَا الَّذِي لا يملك نَفْسَهُ عَنْدَ الْغَضَب كما قيل:
وَمَا غَضَبُ الإِنْسَانِ إِلَاّ حَمَاقَةٌ
…
إِذَا كَانَ فِيْمَا لَيْسَ للهِ يَغْضَبُ
ومثل هَذَا الْغَضَب يهدم الجسم، ويتلف الصحة، ويحرم صاحبه الرَّاحَة والهناء ويجعل نظرته إلي الحياة مظلمة سوداء فالتفريط في الْغَضَب ضعف، والإفراط تهور وجنون، والمحمود منه الوسط والاعتدال والقصد المحمود منه أن يكون غضبك للدين فإذا اعتدي قوم علي الإسلام بالطعن والتشهير أو التشكيك في العقائد كما يحاول الملحدون وكما يفعل المبشرون فيجب أن تغضب عَلَيْهمْ انتصاراً لديننا ودفاعاً عن شرعنا.
ومن الْغَضَب المحمود الْغَضَب علي من تعدي علي بلاد إسلامية أو تعدي علي مسلم أو مدح غير الدين الإسلامي أو ذكر الله أو كتابه أو ملائكته أو رسله بسوء أو سب صحابياً أو إماماً مشهوراً بالتقي والورع
والاستقامة أو طعن في رِجَال الدين لأجل دينهم أو كذب علي الله أو علي رسله أو حل شَيْئاً من المحرمَاتَ أو حرم شَيْئاً مِمَّا حلله الله أو استهان بكتاب الله أو سنة رسوله ? أو كُتبِ أَهْل العلم المحققين مثل الإمام أَحَمَد والشَّافِعِي ومالك وأبي حنيفة والموفق والمجد وابن أبي عمر وشيخ الإسلام وابن القيم وابن كثير وابن رجب وابن مفلح ونحوهم من العِلماًء المشهورين بالاستقامة والبعد عن البدع وكأئمة الدعوة.
ومن الْغَضَبِ المحمود الْغَضَبُ علي من مدح الكفرة والمنافقين وأئمة الضلال والحياري كابن عرَبيِّ وابن رشد والفارابي وابن سينا وابن كلاب والعفيف التلمساني وابن سبعين وابن الفارض وابن الرواندي والكوثري والبوصيري والمعري ونحو هَؤُلَاءِ من الملاحدة والزنادقة والمبتدعة والفسقة والظلمة وأعوانهم.
ومن الْغَضَب المحمود الْغَضَب علي من ابتدع في الدين بدعاً أو نشرها أو دعا إليها أو مدح محلليها أو مدح الكفار أو مدح الملاهي والمنكرات التي حطمت الأَخْلاق وقضت عَلَيْهَا وأتلفت الأموال وقتلت الأوقات وأورثت الخلق أفانين العدوات وأحدثت التفرق في البيوت والقُلُوب.
شِعْراً:
(إِنَّ المَلَاهِيَ أَلْقَتْ بَيْنَنَا إِحَناً
…
وَأَوْرَثَنْنَا أَفَانِيْنَ العَدَوَاتِ)
(وَهَلْ أُصِيْبَ شَبَابُ الْيَوْمِ وانْحَرَفُوْا
…
إِلَاّ بِتَقْلِيْدِ أَصْحَابِ الضَّلَالَاتِ)
(مِنْ كُلِّ أَهْوَجَ لَا دِيْنٌ وَلَا أَدَبٌ
…
وَلَا حَيَاءٌ ومَعْدُوْمُ المُرُؤَاتِ)
(يَرَي التَّمَدُّنِ فِي تَطْوِيْلِ شَارِبِهِ
…
وَحَلْقِ لِحْيَتِهِ مِثْلَ الخَوَاجَاتِ)
(يُقَلِّدُ الكُفْرِ فِي تَطْوِيْلِ أَظْفُرِهِ
…
أقْبِحْ بِهِ مِنْ سَفِيْهٍ سَاقِطٍ عَاتِ)
اللَّهُمَّ قوي إيماننا بك وبملائكتك وبكتبك وبرسلك وبالْيَوْم الآخر وبالقدر خيره وشره اللَّهُمَّ وفقنا للهداية وجنبنا أسباب الجهالة والغواية اللَّهُمَّ ثبتنا علي الإسلام والسنة ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أَنْتَ الوهاب، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المسلمين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يا أرحم الراحمين وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
ومن وفائه ? ما أخرجه البخاري في صحيحه عن عَائِشَة رضي الله عنها قَالَتْ ما غرت علي أحد من نساء النَّبِيّ ? ما غرت علي خديجة وما رأيتها ولكن كَانَ النَّبِيّ ? يكثر ذكرها.
وَرُبَّمَا ذبح الشاة ثُمَّ يقطعها أعضاء ثُمَّ يبعثها في صدائق خديجة فربما قُلْتُ له كأن لم يكن في الدُّنْيَا امرأة إِلا خديجة فَيَقُولُ إنها كانت وكَانَ لي منها ولد، كانت خديجة رضي الله عنها في الجاهلية سيدة وقورة ذات عقل رزين وصاحبة مال ويسار وجاه وشرف تستأجر الرِّجَال في مالها وتضاربهم إياه.
فَلَمَّا وقع في سمعها ما يتحدث به النَّاس ويتناقله العارفون عن المصطفي ? من الوفاء والصدق والأمانة والنصح وحسن السيرة وكريم الشمائل والسخاء ونحو ذَلِكَ من مكارم الأَخْلاق ومحاسن الشيم ما لم تسمعه عن غيره حتى سماه قومه الأمين استأجرته ليخَرَجَ في مالها تاجراً وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره.
فسافر عَلَيْهِ أفضل الصَّلاة والسَّلام بقصد الاتجار إلي الشام يصحبه غلامها ميسرة فباعا وابتاعا وربحا ربحاً عظيماً وظهر له ? في هذه السفرة من البركات وإفاضة الخيرات الشَيْء الكثير وجعل الله حبه في قلب غلامها ميسرة وأعجب بما شاهده منه.
وكانت سنُّهُ ? في هذه السفرة خمساً وعشرين سنة وهي السفرة الثَّانِيَة من أسفاره إلي الشام ولما رجع قافلاً من الشام وقدم مَكَّة ورأت خديجة ما وفقه الله له من ربح كَانَ علي يديه وبركات وفيرة.
وما أتحفها به غلامها ميسرة مِمَّا شاهده من حسن سيرته وما جعل الله علي يديه من البركات كُلّ ذَلِكَ حفزه في نفس خديجة وحببه إليها فلم تتمالك نفسها وكَانَ سنها نحو الأربعين سنة وهي كما وصفنا وأضعاف ما وصفنا من كرامة محتدها وشرف حسبها وحسن سيرتها رضي الله عنها.
فأرسلت إلي رسول الله ? تخطبه لنفسها فقام ? ينجز رغبتها ويجيب طلبتها واستدعي أعمامه حتى دخلها علي عمها عمرو بن أسد فخطبها منه بواسطة عمه أبي طالب فزوجها عمها.
ثُمَّ قام أبو طالب عم رسول الله ? خطيباً فَقَالَ الحمد لله الَّذِي جعلنا
من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل وضئضي معد وعنصر مضر وجعلنا حضنة بيته وسُواس حرمه وجعل لنا بيتاً محجوباً وحرماً آمناً وجعلنا حكام النَّاس.
ثُمَّ إن ابن أخي هَذَا مُحَمَّد بن عَبْد اللهِ لا يوزن به رجل شرفاً ونبلاً وفضلاً وإن كَانَ في الْمَال قل فإن الْمَال ظِلّ زائل وأمر حائل وعارية مستردة وَهُوَ وَاللهِ بعد هَذَا له نبأ عَظِيم وخطر جليل وقَدْ خطب إليكم رغبة في كريمتكم خديجة وقَدْ بذل لها من الصداق كَذَا وعلي ذَلِكَ تم الأَمْر.
ولما أكرمه الله بالرسالة وشرفه بالنبوة كانت خديجة رضي الله عنها أسرع النَّاس به إيمانَاً ولدعوته تصديقاً وله إجابة ولم تنتظره آيةٌ أخري زيادة علي ما علمته من مكارم أخلاقه ? وما سمعت من خوارق العادات التي كانت تظهر علي يديه.
وأول شَيْء بديء به الوحي الرؤيا الصادقة فكَانَ لا يري رؤيا إِلا جاءت مثل فلق الصبح ثُمَّ حبب إليه الخلاء والعزلة عن البشر فكَانَ يخلو بغار حراء فيتعبد فيه الليإلي ذوات الْعَدَد فتَارة يمكث عشرة وتَارة أكثر إلي شهر.
وكانت عبادته إذ ذاك علي الشريعة الحنيفية دين أبيه إبراهيم عليه السلام ويأخذ زاده فإذا نفد رجع إلي خديجة فيتزود لمثلها حتى جَاءَ مبلغ الوحي وملك السماء جبريل عليه السلام فبينما هُوَ قائم علي الجبل إذ فاجأءه جبريل وَقَالَ أبشر يا مُحَمَّد أَنَا جبريل وأَنْتَ رسول الله إلي هذه الأمة.
ثُمَّ قال له اقَرَأَ قال ما أَنَا بقاريء يريد بذَلِكَ أنه أمي لم يتعلم القراءة من قبل فغطه بالنمط الَّذِي كَانَ ينام عَلَيْهِ حتى بلغ منه الجهد ثُمَّ أرسله فَقَالَ له اقَرَأَ قال ما أَنَا بقارئ فأخذه فغطه ثانية ثُمَّ أرسله فَقَالَ اقَرَأَ قال ما أَنَا
بقارئ فأخذه فغظه الثالثة فَقَالَ " اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الإنسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الإنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ "
فرجع عليه السلام مذعوراً خائفاً يرجف فؤاده ولا يتمالك نَفْسهُ من هول المنظر وشدة ما ألم به فدخل علي خديجة زوجته فَقَالَ " زملوني زملوني " لفوني في ثوبي، ليزول عَنْهُ ما يجد من الرعب والقشعريرة التي انتابته من رؤية الملك فزملوه حتى ذهب عَنْهُ الخوف.
فذكر لخديجة الأَمْرَ وأخبرها قائلاً لَقَدْ خشيت علي نفسي من شدة ما أصابني من غط الملك لي ولم يكن عليه الصلاة والسلام يعرف شَيْئاً عن جبريل ووصفه وأشكاله، فأجابته خديجة رضي الله عنها علي الفور ووقفت ذَلِكَ الموقف المشرف في تثبيت فؤاده وتهدئة أعصابه وتقوية دواعي الأمل فيه قائلة كلا وَاللهِ لا يخزيك الله أبداً إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين علي نوائب الحق فلا يسلط الله عَلَيْكَ الشياطين والأوهام ولا مراء أن الله اختارك لهداية قومك.
ثُمَّ لم تكتف بهَذَا القدر من القول بل أرادت أن تتثَبِّتْ ممن لّهُمْ علم بحال الرسل واطلاع علي أخبارهم بما قرؤوه في الكتب القديمة فانطلقت به إلي ورقة بن نوفل وَهُوَ ابن عمها وكَانَ امرأ قَدْ تنصر في الجاهلية وكَانَ يكتب اْلكِتَاب العبراني فيكتب من الإنجيل ما شَاءَ الله أن يكتب وكَانَ شيخاً كبيراً قَدْ عمي.
فقَالَتْ له خديجة يا ابن عم اسمَعَ من ابن أخيك فَقَالَ يا ابن أخي ماذا تري فأخبره عليه الصلاة والسلام خبر ما رأي فَقَالَ له ورقة هَذَا الناموس الَّذِي
أنزل الله علي موسى لأنه يعرف أن واسطة الوحي بين الله وبين أنبيائه هُوَ جبريل عليه السلام.
ثُمَّ قال يا ليتني فيها جذعاً إذ يخرجك قومك من بلادك التي نشأت بها لمعاداتهم إياك وكراهتم لك حينما تطالبهم بتغيير اعتقاداتهم التي وجدوا عَلَيْهَا آباءهم فكَانَ قول ورقة موضع استغراب النَّبِيّ ? لما يعرفه من حب قومه له لاتصافه بصدق الْحَدِيث والأمانة ومكارم الأَخْلاق حتى سموه الأمين.
وَقَالَ أو مخرجيَّ هم قال لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إِلا عودي علي حد ما جَاءَ في القرآن الكريم {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ} وقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} وقولهم: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ} .
ثُمَّ قال ورقة مستأنفاً: وإن يدركني يومك انصرك نصراً مؤزراً ثُمَّ توفي ورقة بعدها بقليل: قال وهَذَا نموذج من مناقب أمنا وأم الْمُؤْمِنِين خديجة ومواقفها إزاء ما كَانَ يحدث للنبي ?.
ولذا كَانَ ? يبادلها الوفاء والإخلاص وكَانَ يحنو ويديم ذكرها بعد موتها اللَّهُمَّ صلي وسلم عَلَيْهِ.
وكَانَ ? يكثر ذكرها وَرُبَّمَا ذبح الشاة ثُمَّ يقطعها أعضاء ثُمَّ يبعثها في صدائق خديجة وهَذَا يشعر ببقاء ودها واستمرار حبه لها وإخلاصه حتى كَانَ يتعهد صديقاتها بالإهداء والعطاء بعد موتها.
ولذا قَالَتْ عَائِشَة رضي الله عنها ما غرت علي أحد من نساء النَّبِيّ ? ما غرت علي خديجة وما رأيتها وفي حديث رواه البخاري عن عَائِشَة رضي الله عَنْهَا
قَالَتْ: استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة علي رسول الله ? فعرف استئذان خديجة فارتاع لذَلِكَ فَقَالَ اللَّهُمَّ هالة قَالَتْ: فغرت.
…
الْحَدِيث.
وفي الاستيعاب لأبي عمر ج ص 1810 بسنده إلي عَائِشَة قَالَتْ: جاءت عجوز إلي النَّبِيّ ? فَقَالَ لها من أَنْتَ قَالَتْ أَنَا جثامة المزنية: قال بل أَنْتَ حسانة المزنية: كيف حالكم كيف كنتم بعدنا قَالَتْ بخَيْر بأبي أَنْتَ وأمي يَا رَسُولَ اللهِ.
فَلَمَّا خرجت قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ تقبل علي هذه العجوز هَذَا الإقبال قال إنها كانت تأتينا أيام خديجة وإن حسن العهد من الإِيمَان: مقابلة طيبة وملاطفة جميلة وتودد محمود ووفاء من النَّبِيّ ? لزوجته خديجة التي ماتت وطالما أيدته وخففت عَنْهُ وسلته وعاشرته وتبادل هُوَ وإياها الْمَوَدَّة ولم تكدر خاطره ولا مرة واحدة عكس ما عَلَيْهِ زوجات هَذَا الجيل المنحرف إِلا النادرة.
وأخَرَجَ أبو داود ج2 ص 63 أن عمر بن السائب حدثه أنه بلغه أن رسول الله ? كَانَ جالساً يَوْماً فأقبل أبوه من الرضاعة فوضع له بعض ثوبه فقعد عَلَيْهِ ثُمَّ أقبلت أمه فوضع لها نصف ثوبه من جانبه الآخر فجلست عَلَيْهِ ثُمَّ أقبل أخوه من الرضاعة فقام له رسول الله ? فأجلسه بين يديها.
وعَنْدَ أَحَمَد من حديث مسروق عن عَائِشَة: آمنت بي إذ كفر بي النَّاس وصدقتني إذ كذبني النَّاس وواستني إذ حرمني النَّاس ورزقني الله ولدها إذ حرمني أولاد النساء وكَانَ جَمِيع أولاده عليه السلام منها عدا إبراهيم فإنه من مارية القبطية وتوفيت خديجة قبل الهجرة بثلاث سنين وحزن عَلَيْهَا ? حزناً
شديداً لما كَانَ لها من الأعمال النبيلة والوفاء التام والتأييد له وتثبيته ولما لها من آراء سديدة.
ومنها القاسم الَّذِي كَانَ يكني به وسائر ولده إبراهيم وبوفاتها انطفأ مصباح منير وعون كبير ليتمثل النساء بأعمالها في حسن الوفاء والإخلاص والصدق والبر فإنها امرأة ولكنها خَيْر من آلاف الرِّجَال وفي مثلها وأشباهها لو يوَجَدَ حسن التمثل يَقُولُ المتنبي:
(وَلَوْ كَانَ النِسَاءُ كَمَنْ فَقَدْنَا
…
لَفُضِّلَتِ النِّسَاءُ عَلَى الرِّجَالِ)
ولهَذَا استحقت أجر العاملين وثواب المخلصين وجاءتها البشارة من رب السماء علي لسان جبريل الأمين قائلاً " يَا رَسُولَ اللهِ هذه خديجة قَدْ أتت معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب شك من الراوي " وَذَلِكَ عِنْدَمَا كَانَ ? في غار حراء فإذا هِيَ أتتك فاقَرَأَ عليها السلام من ربها ومني وبشرها ببيت في الْجَنَّة من قصب لا صخب فيه ولا نصب "
فقَالَتْ هُوَ السَّلام ومنه السَّلام وعلي جبريل السَّلام وعَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ السَّلام ورحمة الله وبركاته.
رَأَتْ خَدِيْجَةُ إِنْسَانَاً تُصَاحِبُهُ
…
عِنَايَةُ اللهِ رَغْمَ الفَقْرِ واليُتُمِ
فاخْتَارَتْ المُصْطَفَى زَوْجاً لَهَا ولَقَدْ
…
وَفِيَّ لَهَا المُصْطَفَى المُخْتَارُ بالذِّمَمِ
يُثْنِيْ عَلَيْهَا ولَا يَنْسَى فَضَائِلَهَا
…
مِثْلُ اسْتِجَابَتِهَا فِي لَا وَفِي نَعَمِ
أَوْلاًَدُهُ غَيْرُ إِبْراهِيْمَ سِتَّتُهُمْ
…
أَتَوهُ مِنْهَا وَنُورُ الشَّمْسِ فِي النَّجِمِ
آخر:
…
لَقَدْ سَمِعْنَا بأَوْصَافٍ لَكُمْ حَسُنَتْ
…
فَسَرَّنَا مَا سَمِعْنَاهُ وَأَرْضَانَا
مِنْ قَبْلِ رُؤْيَتِكُمْ نلَنَا مَحَبَّتَكُمْ
…
والأذْنُ تَعْشِقُ قَبْلَ العَيْنِ أَحْيَانَا
" موعظة "
عِبَادَ اللهِ إن شأن الصَّلاة عَظِيم جداً في ديننا معشر المسلمين وفي كُلّ دين وأسرارها العظيمة وبركاتها العميمة وفوائدها الكثيرة لا تخفي علي كثير من الْمُؤْمِنِين.
ولَيْسَتْ الصَّلاة مجرد أقوال يلوكها اللسان وحركات تؤديها الجوارح بلا تدبر من عقل ولا تفهم ولا خشوع من قلب لَيْسَتْ تلك التي ينقرها صاحبها نقر الديكة ويخطفها خطف
الغراب ويمر بها مر السحاب كأن وراءه طالب حثيث ويلتفت فيها التفات الثعلب يميناً وشمالاً وفوقاً وتحتاً.
كلا فالصَّلاة المقامة تماماً هِيَ التي تأخذ حقها من التأمل والخشية والخضوع والسكون واستحضار عظمة المعبود جل جلاله.
وَذَلِكَ أن القصد من الصَّلاة وسائر العبادات هُوَ تذكير الإِنْسَان بربه الأعلى الَّذِي خلق فسوي والَّذِي قدر فهدي.
والصَّلاة صلة بين الْعَبْد وربه تقوي بها محبة الْعَبْد لربه كُلَّما تكررت قال ابن القيم رحمه الله فإن المحب يتلذذ بخدمة محبوبه وتصرفه في طاعته وكُلَّما كانت المحبة أقوي كانت لذة الطاعة والخدمة أكمل فليزن الْعَبْد إيمانه ومحبته بهَذَا الميزان ولينظر هل هُوَ ملتذ بخدمة محبوبه أو
متكره لها يأتي بها علي السآمة والملل والكراهة فهَذَا محك إيمان الْعَبْد ومحبته لله.
قال بعض السَّلَف إني أدخل في الصَّلاة فأحمل هم خروجي منها ويضيق صدري إذا فرغت لأني خارج منها ولهَذَا قال النبي ? وجعلت قرت عيني في الصَّلاة ومن كانت قرة عينه في شَيْء فإنه لا يود أن يفارقه ولا يخَرَجَ منه فإن قرة عين الْعَبْد نعيمه وطيب حَيَاتهُ به
وَقَالَ بعض السَّلَف إني لأفرح بالليل حين يقبل لما تتلذذ به عيشتي وتقر به عيني من مناجاة من أحب وخلوتي بخدمته والتذلل بين يديه واغتم للفجر إذا طلع لما اشتغل به النَّهَارَ عن ذَلِكَ فلا شَيْء ألذ للمحب من خدمة محبوبه وطاعته أين هَؤُلَاءِ ممن لذتهم وأنسهم عَنْدَ المنكرات.
وَقَالَ بَعْضهمْ تعذبت بالصَّلاة عشرين سنة ثُمَّ تنعمت بها عشرين سنة وهذه اللذة والتنعم بالخدمة إنما تحصل بالمصابرة علي التكره والتعب أولاً فإذا صبر عَلَيْهِ وصدق في صبره أفضي به إلي هذه اللذة.
وَقَالَ أبو زيد سقت نفسي إلي الله وهي تبكي فما زلت أسوقها حتى انساقت إليه وهي تضحك أهـ.
وَقَالَ الله تَعَالَى " وأقم الصَّلاة لذكري "
وَقَالَ ? إنما فرضت الصَّلاة وأمر بالحج وأشعرت المناسك لإقامة ذكر الله رواه أبو داود ولهَذَا كانت عنوان علي الفلاح قال تَعَالَى " إنما يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْم الآخرِ وَأَقَامَ الصَّلاة "
والمراد بعمارتها بالصَّلاة والقربات وَقَالَ ?: «إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإِيمَان» . فإن الله يَقُولُ: {إنما يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْم الأخرِ وَأَقَامَ الصَّلاة} .
وجَاءَ ذكر الصَّلاة في القرآن في مواضع كثيرة وأثني جَلَّ وَعَلا علي المقيمين لها والمحافظين عَلَيْهَا وأخبر أنها تنهي عن الفحشاء والْمُنْكَر ومن دعاء الخليل عليه السلام أنه يسأل ربه أن يجعله مقيماً لها قال تَعَالَى: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاة وَمِن ذُرِّيَّتِي} .
ومدح بها إسماعيل قال تَعَالَى {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاة وَالزَّكَاة وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} وأمر جَلَّ وَعَلا موسى بإقامتها أول ما يأمره به في ساعات الوحي الأولي قال تَعَالَى: {وَأنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَي * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا آله إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاة لِذِكْرِي} وَقَالَ له ولهارون {أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاة} .
وفي وصية لقمان لابنه يا بني أقم الصَّلاة وأمر بالمعروف وانه عن الْمُنْكَر
…
الآية وينطق الله عيسي وَهُوَ في مهده فَيَقُولُ " وَأَوْصَانِي بِالصَّلاة وَالزَّكَاة مَا دُمْتُ حَيّاً}
ويأمر الله بها صفوة خلقه وخاتم أنبيائه فَيَقُولُ جَلَّ وَعَلا {اتْلُ مَا أُوحِيَ إليكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاة إِنَّ الصَّلاة " وَيَقُولُ جَلَّ وَعَلا وتقدس {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاة وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} .
ويبتدؤ بها أوصاف الْمُؤْمِنِين ويختم بها فَيَقُولُ سُبْحَانَهُ وتعالي " قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ " الآيات إلي قوله {وَالَّذِينَ
هُمْ عَلَي صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}
ويؤكد المحافظة عَلَيْهَا حضراً وسفراً وفي الأمن والخوف والسلم والحرب {حَافِظُواْ عَلَي الصَّلَوَاتِ والصَّلاة الْوُسْطَي وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ، فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانَاً}
وأخبر جَلَّ وَعَلا عمن أضاعوا الصَّلاة واتبعوا الشهوات أن عاقبة أعمالهم وسوء مالهم شر وخسران فَقَالَ {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاة وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً}
وجعلها النَّبِيّ ? الشعار الفاصل بين المسلم والكافر فَقَالَ بين الرجل وبين الكفر ترك الصَّلاة وَقَالَ العهد الَّذِي بيننا وبينهم الصَّلاة فمن تركها فقَدْ كفر وفي الْحَدِيث الآخر من ترك الصَّلاة متعمداً فقَدْ برئت منه ذمة الله ورسوله وَقَالَ عليه الصلاة والسلام من فاتته صلاة فكأنما وتر أهله وماله.
ومِمَّا يدل علي عظم شأن الصَّلاة مَعَ تقدم اهتمام المسلمين بتوجيه المحتضَرِ وَهُوَ في سكرات الموت إلي القبلة وكَذَلِكَ وضعه في قبره متجهاً إلي القبلة وما ذاك إِلا أنها الجهة التي يتجه إليها كُلَّما أراد أن يتعرف إلي ربه ويدعوه ويجدد الصلة بينه وبين ربه في الصَّلاة.
عَلَى الصَلْواتِ الخَمْسِ حَافِظْ فَإِنّهَا
…
لَاكَدُ مَفْرُوْضِ عَلَى كُلِّ مُهْتَدِ
فَلَا رُخْصَةِ فِي تَرْكِهَا لِمُكَلَّفٍ
…
وأَوْلُ مَا عَنْهُ يُحَاسَبُ فِي غَدِ
بإهْمَالِهَا يَسْتَوجِبُ المَرَءُ قَرْنَهُ
…
بِفرعَونَ مَعَ هَامَانَ فِي شَرِ مَوْردِ
وَمَازَالَ يُوصِيْ بالصَّلَاةِ نَبِيُّنَا
…
لَدَى المَوْتِ حَتَّى كَلَّ عَنْ نُطْقِ مِذْوَدِ
اللَّهُمَّ انهج بنا مناهج المفلحين وألبسنا خلَع الإِيمَان واليقين، وخصنا منك بالتَّوْفِيق المبين، ووفقنا لقول الحق وإتباعه وخلصنا مِنَ الْبَاطِلِ وابتدعه، وكن لنا مؤيداً ولا تجعل لفاجر عَلَيْنَا يداً واجعل لنا عيشاً رغداً ولا
تشمت بنا عدواً ولا حاسداً، وارزقنا عِلماً نافعاً وعملاً متقبلاً، وفهماً ذكياً صفياً وشفاءً من كُلّ داء، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المسلمين بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وصلي الله علي مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
إذا فهمت ذَلِكَ فعَلَيْكَ أن تعتني بها وتجتهد في كُلّ ما يصلحها ويكملها تجتهد أولاً في الطهارة والنظافة في جسمك وثوبك وموضع فعَلَيْكَ أولاً بالاستبراء من البول والغائط بأن تتأني قليلاً حتى يخَرَجَ البول كله بدون نتر.
وهو دفع بقيت البول وبدون مصر للذكر فإن الْعَمَل يحدث السلس وتغسل محل الغائط حتى يعود المحل كما قبل التغوط خال من آثار النجاسة ولزوجتها لئلا تَكُون حاملاً للنجاسة في صلاتك فتبطل.
ثُمَّ عَنْدَ الوضوء تزيل ما يمنع وصول الماء إلي البشرة من مرهم أو وازلين أو دهن علي غير جرح يضره الماء وتتفقَدْ عَنْدَ الوضوء أخمص القدمين والعقب وَهُوَ مؤخر القدم وأعلي الجبة وما حول المرافق.
وفي الغسل صماخ الأذنين وطي الركبتين وما تحت الشعور والإبط والسرة وما بين الأصابع أصابع الرجلين والأظافر إن كانت طواِلاً وتمنع الماء ويضرك قصها وإِلا فتقصها ثُمَّ بعد تنتبه لهذه الدقائق.
وتَكُون محسناً للوضوء وتسعي في تفقد ما يفسدها أو ينقصها كما تراه في فعل الصَّلاة عَنْدَ بعض النَّاس تري عنده من العبث والحركة والتلفت ما يجعلك في شك منه هل هُوَ في صلاة أم لا فتجده أحيانَاً ينظر ساعته وأحيانَاً يصلح غترته وأحيانَاً يواسي ثوبه ويطالعه وأحيانَاً يعبث في محل لحيته وأحيانَاً في أنفه أو عينه وفي خفهِ، وفي ركوعه وسجوده ما يدهشك.
ولعلك تظن أن هَذَا مبالغة ولكن إذا أردت الوقوف علي ذَلِكَ فَانْظُرْ بعد ما تسلم إلي الَّذِينَ يكلمون وإلي من يصلي وحده وعلي كُلّ حال الأَمْر عَظِيم ومَعَ ذَلِكَ النَّاس في غَفْلَة وسهو عن ذَلِكَ.
وأما الطُّمَأْنِينَة في الصَّلاة فيفهم قدر تركها من حديث المسيء في صلاته الَّذِي رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رجلاً دخل المسجد ورسول الله ? جالس في ناحية المسجد فصلي ثُمَّ جَاءَ إلي النَّبِيّ ? فسلم عَلَيْهِ فَقَالَ له ? وعَلَيْكَ السَّلام ارجع فصل فإنك لم تصل.
فصلي ثُمَّ جَاءَ فسلم فَقَالَ وعَلَيْكَ السَّلام فارجع فصل فإنك لم تصل فصلي ثُمَّ جَاءَ فسلم فَقَالَ وعَلَيْكَ السَّلام فَقَالَ في الثَّانِيَة أو في التي تليها علمني يَا رَسُولَ اللهِ فَقَالَ " إذا قمت إلي الصَّلاة فأسبغِ الوضوء "
ثُمَّ استقبل القبلة فكبِّر ثُمَّ اقَرَأَ ما تيسر معك من القرآن ثُمَّ اركع حتى تطمئن راكعاً ثُمَّ ارفع حتى تستوي قائماً ثُمَّ اسجد حتى تطمئن ساجداً ثُمَّ ارفع حتى تطمئن جالساً ثُمَّ اسجد حتى تطمئن ساجداً ثُمَّ ارفع حتى تطمئن جالساًَ.
ثُمَّ افعل ذَلِكَ في صلاتك كُلّهَا رواه البخاري ومسلم فتأمل قوله ? لمن ترك الطُّمَأْنِينَة ارجع فصل فإنك لم تصل فإن هَذَا نفي صريح في أن الرجل وإن كَانَ يفعل صورة الصَّلاة في رأي العين لم يأت بحَقِيقَة الصلاة.
والَّذِي جعله كذلكَ تركه للطمأنينة فيها وهي ركن من أركانها إذاً فليطمئن الَّذِي يريد أن يصدق عَلَيْهِ أنه صلي وليعلم أَهْل السرعة والنقر
ذَلِكَ تماماً وليمرنوا أنفسهم علي التأني والتريث والرفق حتى يعدوا في فريق المصلين.
وإن لم يطمئنوا فليعلموا أنهم هم وتارك الصَّلاة سواء حكمهم بمقتضي قوله ? للمستعجل في صلاته ارجع فصل فإنك لم تصل، وَقَالَ أبو هريرة رضي الله عنه أوصاني خليلي ? بثلاث ونهاني عن ثلاث نهاني عن نقرة كنقرة الديك (العجلة في الصَّلاة) وإقعاء كإقعاء الكلب (وضع الإلية علي الأرض ونصب الساقين ووضع اليدين علي الأرض) .
والتفات كالتفات الثعلب، وَقَالَ ? لا يزال الله مقبلاً علي الْعَبْد في صلاته ما لم يلتفت فإذا صرف وجهه انصرف عَنْهُ ونهي ? عن رفع البصر إلي السماء في الصَّلاة، إذا علمت ذَلِكَ فابذل يا أخي كُلّ ما في وسعك من الاجتهاد في تكميل صلاتك وَاحْذَر من التفريط فيها فعَلَيْهَا مدار عَظِيم.
والمعاني التي تتم بها الصَّلاة كثيرة منها حضور الْقَلْب ومعناه أنك تفرغ قلبك عن الشواغل التي تتعلق بالدُّنْيَا وزينتها متفهماً لما تتلوه أو تقوله أو تسمعه إن كنت مأموماً فتصرف ذهنك وهمتك إلي إدراك المعني بدفع الخواطر الشاغلة وقطع موادها فإن المواد إذا لم تنقطع لم تنصرف الخواطر والهواجس عَنْهَا والمواد إما ظاهرة وهي ما يشغل السمَعَ والبصر.
وإما باطنة وهي أشد كمن تشبعت به الهموم في أودية الدُّنْيَا فإنه لا ينحصر فكره في فن واحد ولم يغنه غض البصر لأن ما وقع في الْقَلْب كافٍ في الاشتغال به.
وعلاج ذَلِكَ إن كَانَ من المواد الظاهرة بقطع ما يشغل البصر والسمَعَ وَهُوَ القرب من القبلة والنظر إلي موضع السجود والابتعاد في الصَّلاة عما فيه نقوش أو تطريز أو نحو ذَلِكَ مِمَّا يلهي ويشغل الْقَلْب فإن النَّبِيّ ? صلي في أنبجانية فيها أعلام ونزعها وَقَالَ ((إنها ألهتني آنفاً عن صلاتي)) .
وإن كَانَ من المواد الباطنة فطَرِيق علاجه أن يرد النفس قهراً إلي ما يقَرَأَ في الصَّلاة ويشغلها به عن غيره ويستعد لذَلِكَ قبل الدخول في الصَّلاة بأن يقضي أشغاله ويجتهد علي تفريغ قَلْبهُ عن الهواجس ويجدد علي نَفْسهُ ذكر الآخرة وخطر القيام بين يدي الله عز وجل وهول المطلع.
فإن لم تذهب وتسكن الأفكار بذَلِكَ فليعلم أنه إنما يتفكر فيما أهمه واشتهاه وناسب لهوه فليترك تلك الشهوات وليقطع تلك العلائق.
واعْلَمْ أن العلة والمرض متي تكمن لا ينفع فيه إِلا الدواء القوي والعلة إذا قويت جاذبت المصلي وجاذبها إلي أن تقضي الصَّلاة في المجاذبة ومثل ذَلِكَ كمثل رجل تحت شجرة أراد أن يصفو له فكره أو أراد أن ينام وكانت هذه الشجرة مأوي للعصافير تقع عَلَيْهَا وتشوش عَلَيْهِ بأصواتها وحركاتها وفي يده عصا يطردها به فما يستقر فكره حتى تعود العصافير فيشتغل بها.
فقيل له هَذَا شَيْء يدوم لا ينقطع فإن أردت الخلاص مِمَّا شوش عَلَيْكَ فاقطع الشجرة فكَذَلِكَ شجرة الشهوة وحب الدُّنْيَا إذا ارتفعت وتفرقت أغصانها انجذبت إليها الأفكار فذهب العمر النفيس في دفع ما لا يندفع والسبب الوحيد حب الدُّنْيَا فهو الَّذِي يجذب الأفكار ويولدها وينميها فعلي العاقل أن يجتهد في قلع حبها وَهُوَ صعب جداً علي أكثر الخلق.
ولهَذَا كَانَ السَّلَف يعتنون بالصَّلاة اعتناءً عظيماً ويتلذذون بها ويحزنون لانقضائها وَقَالَ بَعْضهمْ تفقدوا قلوبكم في ثلاثة مواضع في الصَّلاة وفي القرآن وفي ذكر الله فإن وجدتم حلاوة وإِلا فالْبَاب مغلق.
ومن المؤسف أنك تجد كثيراً من النَّاس يأتي الصَّلاة كالمكره بدَلِيل أنه إذا تأخر الإمام ولو قليلاً ضاقت صدورهم مَعَ أنه في صلاة ما انتظروا الصَّلاة وتجدهم يسرعون الْخُرُوج بعدها بخلاف المجيء إليها.
وتجدهم يحرصون علي الإمام الَّذِي ينقرها مَعَ أنه في أمور الدُّنْيَا علي العكس إذا أراد أحدهم أن يذهب إلي طبيب ليكشف عَلَيْهِ حرص علي من يتركد ويطمئن ويطيل الفحص ويتقنه ولو بزيادة كثيرة لما يؤمله من النصح وإتقان الْعَمَل.
وكَذَلِكَ إذا أراد صنعه شَيْء حرص علي البصير الخبير المتقن لذَلِكَ.
أما في الصَّلاة فكما ذكرنا ما يهتم لها ولا يبالي ويراها عَلَيْهِ أثقل من أحد ورضوي وهي عشر دقائق أو أقل ولو وقف مَعَ صديق له أو قريب أو زميل ساعة أو أكثر وأراد التفرق لقال ساعة المحب قصيرة لأنسه به وتلذذه بمناجاته.
وأما رب العالمين الَّذِي نعمه عَلَيْهِ لا تعد ولا تحصي فالوقوف أمامه طويل وإن كَانَ قصيراً وصدق الله العَظِيم حيث يَقُولُ: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَاّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} فلا حول ولا قوة إِلا بِاللهِ العلي العَظِيم {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} .
شِعْراً:
وَمِنَ البَلِيَّةِ أَنْ تَرَى لَكَ صَاحِبَاً
…
فِي صُورَةِ الرَجُلِ السَمْيِعِ المُبْصِرِ
فِطِنُ بِكُلِّ مُصِيْبَةٍ فِي مَالِهِ
…
وَإِذَا يُصَابُ بِدِيْنِهِ لَمْ يَشْعُرِ
آخر:
…
فِي أَنَّ الدُّنْيَا
…
بقُلُوبِ النَّاسِ مُتَمَكِنْ حُبُّهَا
هِيَ المُشْتَهَى والمُنْتَهَى ومَعَ السُّهَى
…
أمَانِيٌ مِنْهَا دُوْنَهُنَّ العَظَائِمُ
وَلَمْ تَلْقَنَا إِلَاّ وفِيْنَا تَحَاسُدٌ
…
عَلَيْهَا وإِلَاّ فِي الصُّدُوْرِ سَخَائِمُ
وَاللهُ أَعْلَمُ وصلي الله علي مُحَمَّد وآله وسلم.
(فَصْلٌ)
وإليك نماذج من حلمه فقَدْ أراد مرة أن يعلم أصحابه الحلم والأناة والتؤدة وضبط النفس فروي أن أعرابياً جَاءَ يَوْمًاً يطلب من النَّبِيّ ? شَيْئاً فأعطاه ? ثُمَّ قال له أحسنت إليك قال الأعرابي ولا أجملت فغضب المسلمون وقاموا إليه فأشار إليهم أن كفوا ثُمَّ قام ? ودخل منزله فأرسل إليه وزاده شَيْئاً ثُمَّ قال له أحسنت إليك قال نعم فجزاك الله من أَهْل وعشيرة خيراً.
فَقَالَ النَّبِيّ ? إنك قُلْتُ ما قُلْتُ آنفاً وفي نفس أصحابي من ذَلِكَ شَيْء فان أحببت فقل بين أيديهم حتى يذهب ما في صدورهم عَلَيْكَ قال نعم فَلَمَّا كَانَ الغد جَاءَ فَقَالَ له النَّبِيّ ? إن هَذَا الأعرابي قال ما قال فزدناه فزعم أنه رضي أكَذَلِكَ قال نعم فجزاك الله من أَهْل وعشيرة خيراً.
فَقَالَ رسول الله ? مثلي ومثل هَذَا وكمثل رجل له ناقة شردت عَلَيْهِ فاتبعها النَّاس فلم يزيدوها إِلا نفوراً فناداهم صاحبها فَقَالَ لهُمْ خلوا بيني وبين ناقتي فإني أرفق بها منكم وأعلم فتوجه لها بين يديها فأخذ من قمام الأرض فردها حتي جاءت واستناخت وشد عَلَيْهَا رحلها واستوي عَلَيْهَا وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار.
ومن ذَلِكَ ما ورد عن جابر بن عَبْد اللهِ رضي الله عنهما أنه ? كَانَ يقبض للناس يوم حنين من فضة في ثوب بلال فَقَالَ رجل يا نَبِيّ اللهِ أعدل فقام عمر فَقَالَ ألا أضرب عنقه فإنه منافق فَقَالَ معاذ الله أن يتحدث النَّاس أني
أقتل أصحابي ". رواه مسلم.
ومن ذَلِكَ ما ورد عن أنس بن مالك قال كنت أمشي مَعَ النَّبِيّ ? وعَلَيْهِ برد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة فنظر إلي صفحة عاتق النَّبِيّ ? وقَدْ أثرت بها حاشية البرد من شدة الجبذة ثُمَّ قال يا مُحَمَّد مر لي من مال الله الَّذِي عندك فالتفت إليه فضحك ثُمَّ أمر له بعطاء متفق عَلَيْهِ.
ومن ذَلِكَ ما ورد عن أَبِي هُرَيْرَةِ رضي الله قال كنا إذا صحبنا رسول الله ? في سفر تركنا له أعظم شجرة وأظلها فينزل تحتها فنزل ذات يوم تحت شجرة وعلق سيفه فيها فَجَاءَ أعرابي فَقَالَ يا مُحَمَّد من يمنعك مني فَقَالَ رسول الله ? الله يمنعني منك ضع السيف فوضعه، ولم يعاقبه ?.
وورد أنه ? كَانَ يقسم تمراً في عرجونه في يوم شديد الحر فهجم عَلَيْهِ أعرابي فضايقه فضربه رسول الله ? بعرجونه فَقَالَ له الرجل أتضربني يَا رَسُولَ اللهِ فَقَالَ له خذ فاقتص فَقَالَ له بل عفوت يَا رَسُولَ اللهِ، فَانْظُرْ إلي عفوه ? عن الرجل الَّذِي أراد قتله فإنه لفت بعفوه نظر الرجل إلي مكارم أخلاقه ? ولذَلِكَ ذهب الرجل إلي قومه فَقَالَ لّهُمْ جئتكم من عَنْدَ خَيْر النَّاس.
وفي ذَلِكَ من توجيههم إلى النظر في تعاليمه والبحث فيما جاءهم به من عَنْدَ ربهم ما قَدْ يكون سبباً في إسلامهم وهدايتهم وهذه هِيَ النتيجة التي يسعي لها ?.
ومن ذَلِكَ ما أخرجه الطبراني عن عَبْد اللهِ بن سلام بإسناد رجاله ثقات
قال لما أراد الله هدي زيد بن سعنة قال زيد: ما من علامَاتَ النبوة شيء إِلا وقَدْ عرفتها في وجه مُحَمَّد حين نظرت إليه إِلا اثنتين لم أخبرهما منه يسبق حلمه جهله ولا تزيده شدة الجهل عَلَيْهِ إِلا حلماً.
…
قال زيد فخَرَجَ رسول الله ? يَوْماً من الحجرات ومعه علي بن أبي طالب فأتاه رجل علي راحلته كالبدوي فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ لي نفر في قرية بني فلان قَدْ أسلموا ودخلوا في الإسلام وَكُنْت قَدْ حدثتهم إن أسلموا أتاهم الرزق رغداً وقَدْ.
فأنَا أخشي يَا رَسُولَ اللهِ أن يخرجوا من الإسلام طمعاً كما دخلوا فيه طمعاً فإن رَأَيْت أن ترسل إليهم بشَيْء تغيثهم به فعلت فنظر إلي رجل بجانبه أراه علياً فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ ما بقي منه شيء قال زيد بن سعنة فدنوت إليه فقُلْتُ يا مُحَمَّد هل لك أن تبيعني تمراً معلوماً في حائط بني فلان إلي أجل معلوم إلي أجل كَذَا وَكَذَا قال لا تسمي حائط بني فلان قلتُ نعم فبايعني فأطلقت همياني فأعطيته ثمانين مثقالاً من ذهب في تمر معلوم إلي أجل كَذَا وَكَذَا
فأعطاها الرجل وَقَالَ اعدل عَلَيْهمْ وأغثهم.
قال زيد فَلَمَّا كَانَ قبل محل الرجل بيومين أو ثلاث خَرَجَ رسول الله ? ومعه أبو بكر وعمر وعثمان في نفر من أصحابه.
فَلَمَّا صلي علي الجنازة ودنا إلي الجدار ليجلس إليه أتيته فأخذت بمجامَعَ قميصه وردائه ونظرت إليه بوجه غليظ قُلْتُ يا مُحَمَّد ألا تقصيني حقي فوَاللهِ ما علمت بني المطلب إِلا مطلاً ولَقَدْ كَانَ بمخالطتكم علم، ونظرت إلي عمر وعَيْنَاهُ تدوران في وجهه كالفلك المستدير.
ثُمَّ رماني ببصره فَقَالَ: يا عدو الله أتقول لِرَسُولِ اللهِ ? ما أسمَعَ وتصنع به ما أري
فوالَّذِي نفسي بيده لولا ما أحاذر فوته لضربت بسيفي رأسك ورسول الله ? ينظر إلي في سكون وتؤده.
فَقَالَ ياعمر أَنَا وَهُوَ كنا أحوج إلي غير هَذَا أن تأمرني بحسن الأداء وتأمره بحسن اتباعه اذهب به يا عمر فأعطه حقه وزده عشرين صاعاً من تمر مكَانَ ما رُعتَهُ فال زيد فذهب بي عمر فأعطاني حقي وزادني عشرين صاعاً من تمر.
فقُلْتُ ما هذه الزيادة ياعمر قال أمرني رسول الله ? أن أزيدك مكَانَ ما رعتك قال وتعرفني يا عمر قال لا قُلْتُ أَنَا زيد بن سعنة قال الحبر قُلْتُ الحبر قال فما دعاك إلي أن فعلت برسولي ما فعلت وقُلْتُ له ما قُلْتُ.
قُلْتُ يا عم لم يكن من علامَاتَ النبوة شَيْئاً إِلا وقَدْ عرفته في وجه رسول الله ? حين نظرت إليه إِلا اثنتين لم أخبرهما منه. يسبق حلمه جهله ولا تزيده شدة الجهل عَلَيْهِ إِلا حلماً.
وقَدْ اختبرتهما أشهدك يا عمر أني قَدْ رضيت بِاللهِ رباً وبالإسلام ديناً وبمُحَمَّد نبياً وأشهدك أن شطر مالي فإني أكثرها مالاً صدقة علي أمة مُحَمَّد ? قال عمر أو علي بَعْضهمْ فإنك لا تسعهم قُلْتُ أو علي بَعْضهمْ فرجع عمر وزيد إلي رسول الله ? فَقَالَ زيد أشهد أن لا إله إِلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وآمن به وصدقة وبايعه وشهد معه مشاهد كثيرة.
ثُمَّ توفي في غزوة تبوك مقبلاً غير مدبرٍ – رحمَ اللهُ زيداً، من هذه الآثار وما يأتي بعدها يتبين لك كيف قام رسول الله ? بالقسط وأقامه علي نَفْسهِ
وأتباعه وأصحابه بلا محاباة ولا مداهنة فكَانَ في ذَلِكَ في القمة العإلية التي لا يصل إليها راق في تنفيذ أمر الله وتطبيقه علي الكبير والصغير والقوي والضعيف والشريف والوضيع والسيد والمسود.
اللَّهُمَّ ارزقنا حبك وحب من يحبك وحب الْعَمَل الَّذِي يقربنا إلي حبك، اللَّهُمَّ ثَبِّتْ إيماننا ثبوت الجبال الراسيات ووفقنا للعمل بالباقيات الصالحات واعصمنا يا مولانَا عن المحرمَاتَ والمشتبهات واغفر لنا جَمِيع الخطايا والزلات وافتح لدعائنا باب القبول والإجابات يا أجود الأجودين وأكرم الأكرمين وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
ومن ذَلِكَ حلمه مَعَ الأعرابي الَّذِي قال له أتضربني يَا رَسُولَ اللهِ فإنه ? لم يتماد في غضبه ولم يستنكر من الأعرابي استفهامه الَّذِي فيه المطالبة فَقَالَ للأعرابي خذ العرجون واقتص مني.
ولَقَدْ بلغ من حلمه ? أنه لم يضرب امرأة ولا خادماً ولما قيل له وَهُوَ في القتال لو لعنتهم يَا رَسُولَ اللهِ فَقَالَ إنما بعثت رحمة ولم أبعث لعانَاً وعِنْدَمَا لقي ? من قومه أشد ما لقي ناداه ملك الجبال وسلم عَلَيْهِ.
ثُمَّ قال يا مُحَمَّد إن الله سمَعَ قول قومك وأنَا ملك الجبال وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فما شئت أن أطبق عَلَيْهمْ الأخشبين فَقَالَ رسول الله ?: بل أرجو أن يخَرَجَ الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شَيْئاً.
ولما أذاه المشركون يوم أحد وكسروا رباعيته وشجوا وجهه وشق ذَلِكَ
علي أصحابه فَقَالُوا لو دعوت عَلَيْهمْ فَقَالَ إني لم أبعث لعانَاً ولكن بعثت داعياً ورحمة اللَّهُمَّ اغفر لقومي أو اهدِ قومي فَإِنَّهُمْ لا يعلمون.
وَقَالَ أنس رضي الله عنه خدمت النَّبِيّ ? عشر سنين فما قال لشَيْء صنعته: لم صنعته ولا لشَيْء لم أصنعه لمَ لمْ تصنعه وكَانَ إذا عاتبني بعض أهله يَقُولُ دعوه فلو قُضِيَ لكَانَ.
وقَدْ روي أنه ? كَانَ في سفر وأمر أصحابه بإصلاح شاةٍ فَقَالَ رجل يَا رَسُولَ اللهِ علي ذبحها وَقَالَ آخر علي سلخُها وَقَالَ آخر علي طبخها فَقَالَ رسول الله ? وعلي جمعُ الحطب فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللهِ نكفيك الْعَمَل فَقَالَ علمت أنكم تكفونني ولكن أكره أن أتميز عليكم وإن الله سُبْحَانَهُ وتعالي يكره من عبده أن يراه متميزاً بين أصحابه وقَدْ جَاءَ وفد النجاشي فقام ? يخدمهم فَقَالَ أصحابه نكفيك قال إنهم كَانُوا لأصحابنا مكرمين وأنَا أحب أن أكافئهم.
وجاءته امرأة في عقلها شَيْء فقَالَتْ إن لي إليك حَاجَة فَقَالَ اجلسي في أي سكك الْمَدِينَة شئت أجلس إليك حتى أقضي حاجتك فخلا معها في بعض الطَرِيق حتى فرعت من حاجتها وجَاءَ في البخاري كانت الأمةُ تأخذ بيد رسول الله ? فتنطلق به حيث شاءت.
ودخل الحسن بن علي والنَّبِيّ ? يصلي فركب علي ظهره وَهُوَ ساجد فأبطأ في سجوده حتى نزل الحسن فَلَمَّا فرغ قال له بعض أصحابه لَقَدْ أطلت سجودك قال إن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله.
وكَانَ ? يباسط أصحابه وكَانَ رجل يسمي زهيراً يهادي النَّبِيّ ? بما
يستطرف من موجود البادية وكَانَ ? يهاديه ويكافئه بموجود الحاضرة وبما يستطرف منها وكَانَ ? يَقُولُ زهير باديتنا ونَحْنُ حاضرته.
ولَقَدْ جَاءَ إلي السوق يَوْماً فوَجَدَ زهيراً قائماً من قبل ظهره وضمه بيده إلي صدره فأحس زهير أنه الرَّسُول ? فجعل يمسح ظهره في صدر النَّبِيّ ? رجَاءَ البركة من الله ثُمَّ من جسده ? فجعل ? يَقُولُ من يشتري الْعَبْد قال زهيرٌ إذاً تجدني كاسداً فَقَالَ المصطفي ? أَنْتَ عَنْدَ الله غالٍ.
وكَانَ ? يمزح ولا يَقُولُ إِلا حقاً فمن ذَلِكَ أن رجلاً جاءه فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ احملني فَقَالَ أحَمَلَكَ علي ابن الناقة فَقَالَ ما عسي يغني عني ابن الناقة فَقَالَ النَّبِيّ ? ويحك وهل يلد الجمل إِلا الناقة.
وجاءته مرة عجوز فقَالَتْ يَا رَسُولَ اللهِ ادع الله لي أن يدخلني الْجَنَّة فَقَالَ يا أم فلان لا يدخل الْجَنَّة عجوز فولت تبكي فَقَالَ أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز إن الله تَعَالَى يَقُولُ: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً} .
ومن ذَلِكَ أن أنساً كَانَ له أخ يُقَالُ له أبو عمير وكَانَ له نغر ((طائر صغير)) يلعب به فمَاتَ فدخل علي النَّبِيّ ? ذات يوم وَهُوَ حزين فَقَالَ ما شأنه قيل له مَاتَ نغره فَقَالَ يا أبا عمير ما فعل النغير.
وكَانَ النَّبِيّ ? يكرم كريم كُلّ قوم ويوليه أمرهم ويقبل معذرة المعتذر إليه وإليك قصة كعب بن زهير غضب كعب علي أخيه بجير حين أسلم وآمن بالنَّبِيّ ? فَقَالَ عليه الصلاة والسلام من لقي منكم كعب بن زهير فليقتله.
فكتب بجيرُ إلي أخيه كعب يخبره بذَلِكَ وأن النَّبِيّ ? أهدر دمه فإن كَانَ لك في نفسك حَاجَة فصر إليه فإنه يقبل من جَاءَ تائباً ولا يطالبه بما عمل
قبل الإسلام.
فَلَمَّا بلغ اْلكِتَاب كعباً فر إلي قبيلته لتجيره فأبت عَلَيْهِ ذَلِكَ فأشفق وخاف علي نَفْسهِ وأرجف به أعداؤه فقدم الْمَدِينَة ونزل علي علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأتي به إلي المسجد وَقَالَ هَذَا رسول الله ? فقم إليه واستأمنه.
فسمَعَ كلامه وقام إليه حتى جلس بين يديه فوضع يده في يده قائلاً يَا رَسُولَ اللهِ إن كعب بن زهير قَدْ جَاءَ يستأمنك تائباً مسلماً فهل أَنْتَ قابل منه ذَلِكَ إن أَنَا جئتك به قال نعم قال أَنَا كعب بن زهير فَقَالَ النَّبِيّ ? الَّذِي يَقُولُ ما يَقُولُ.
ووثب إليه رجلٌ من الأنصار فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ دعني وعدو الله أضرب عنقه فَقَالَ له رسول الله ? دعه عَنْكَ فإنه قَدْ جَاءَ تائباً نازعاً ثُمَّ أخذ كعب في إنشاء قصيدته المشهورة يمدح فيها رسول الله ? ويذكر خوفه وإرجافَ الوشاة به ومطلعها:
بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِيْ الْيَوْمَ مَتْبُوْلُ
…
مُتَيَّمٌ إِثْرَهَا لَمْ يُفْدَ مَكْبُوْلُ
إلي أن بلغ:
إِنَّ الرَّسُولَ لَنُوْرٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ
…
مُهَنَّدٌ مِنْ سُيُوفِ اللهِ مَسْلُوْلُ
فرمي رسول الله ? بردته الشريفة إليه وعفا عَنْهُ كما هِيَ عادته الكريمة
وكَانَ ? لا يواجه أَحَداً في وجهه بشَيْء يكرهه لسعة صدره وغزارة عقله وشدة حيائه وكَانَ ? يأمر بالرفق ويحث عَلَيْهِ وينهي عن العنف ويبغضه ولم يكن فاحشاً ولا متفحشاً ولا يجزي بالسيئة السيئة بل يعفو ويصفح اللَّهُمَّ صل وسلم عَلَيْهِ.
وكَانَ يزور ضعفاء المسلمين تلطفاً بِهُمْ وإيناساً لهُمْ ويعود مرضاهم ويشهد جنائزهم سواء كانت لشريفٍ أو وضيعٍ وبذَلِكَ كَانَ خَيْر أسوة وكَانَ ? أصبر النَّاس علي ما يكون من قبيح الأفعال مِنْهُمْ وسوء سيرتهم وقبيح سريرتهم لأن الله تَعَالَى شرح صدره فاتسع لما تضيق منه صدورهم.
وكَانَ ? كاملاً في قوة عقله وإدراكه وصحة قياسه الفكري وصدق ظنونه وصحة فهمه وقوة حواسه مفطوراً علي الصبر والسكون والحياء والمروءة والْمَوَدَّة والرحمة والهداية للخلق وحب الْخَيْر لهُمْ وإعطاء الحكمة حقها في سائر أموره.
وكَانَ ? ذا سياسة شريفة ومعارف منيفة ونظر ثاقب ورأي صائب وحدس موافق وفضائل مقصودة وأَخْلاق محمودة دينه الإسلام وخلقه القرآن يرضي لرضاه ويسخط لسخطه محرراً للشرائع حافظاً للودائع.
وكَانَ ? كثير الأفضال يصل من قطعه ويعطي من حرمه ويبذل لمن منعه ويعفو عمن ظلمه ويغضي طرفه عن القذى ويحبس نَفْسه عن الأذى لا ينتقم مَعَ القدرة ويصبر علي ما يشق ويكره ولا يزيد مَعَ أذي الجاهل إِلا صبراً وحلماً.
وما خُيِّرَ بين أمرين إِلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا وَكَمْ أعرض عن
جاهل ومعاند وكَانَ (يأكل مَعَ الخادم ويبادر إلي خدمة القادم ويرقعُ ثوبه ويخصف نعله ويقمُّ بيته ويخدم أهله ويحمل بضاعته من السوق مَعَ أنه سيد ولد آدم وأكرم الخلق علي الله.
وكَانَ (رحيماً حتى بأعدائه ألم تر أنه لما دخل يوم فتح مَكَّة علي قريش: وقَدْ جلسوا بالمسجد الحرام وصحبه ينتظران أمره فيهم من قتل أو غيره.
قَالَ لِقُرَيْشٍ مَا تَظُنُّونَ أَنَّي فَاعِلٌ بِكُمْ قَالُوا خَيْرَاً أَخٌ كَرِيْمٌ وابنُ أَخٍ كَرِيْمٍ فَقَالَ (أَقُولُ كَمَا قَالَ أخِيْ يُوْسُفُ: لَا تَثْرِيْبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ. اذْهَبْوا فأنْتُمُ الطُّلَقَاءُ وَلَا غَرابَةَ فَقَدْ انْفَرَدَ بالأَخْلاقِ الفَاضِلَةِ والمَحَاسِنَ والمَعَارِفَ والتَودُدَ والرِفْقِ وَمِنْ النَظْمِ الَّذِي لَا يُصْلِحُ أَنْ يُوصَفَ بِهِ إِلَاّ النَّبِيُ (ما يلي:
تَلْقَاهُ وَهُوَ مَعَ الإحسانِ مُعْتِذَراً
…
وقَدْ يُسِيءُ مُسِيءٌ وَهُوَ غَضْبَانُ
إِذَا بَدَا وَجَهُ ذَنْبِ فَهْوَ ذُوْ سِنَةٍ
…
وَإِنْ بَدَا وَجْهُ خَطْبٍ فَهْوَ يَقْظَانُ
إِذَا تَيَمَّمَهُ العَافِي فكوْكَبُهُ
…
سَعْدٌ ومَرْعَاهُ فِي وَادَيْهِ سَعْدَانُ
أحْيَا بِهِ اللهُ هَذَا الخَلْقَ كُلَّهُمُ
…
كَأَنَهُ الرُوْحُ وَالمَخْلُوْقُ جُثْمَانُ
عِبَادَ اللهِ إن أمامكم يوم لا كالأيام يوم فيه من الأهوال والشدائد والكروب ما يشيب الوالدان وتذهل فيه المرضعة عما أرضعت يوم يتغير فيه العَالِم وينتهي نظامه الَّذِي نراه.
فتنثر الكواكب وتتساقط وتطوي السماء كطي السجل للكتب يزيلها الله وتبدل الأرض غير الأرض وتمد كما أخبر الله تَعَالَى وينفخ في الصور فيقوم النَّاس من قبورهم لرب العالمين.
وحينئذ يحشر الكافر أعمي لا يبصر أصم لا يسمَعَ أبكم لا ينطق يمشي
عَلَى وَجْهِهِ لِيَعْلَمَ مِنْ أَوَّلِ الأَمْر أنَّهُ مِنْ أَهْلِ الإِهَانَةِ ويَكُونُ أسْوَدَ الوَجْهِ أْزْرَقَ العَيْنَيْنِ فِي مُنَتْهَى العَطَشِ فِي يَوْمُ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِيْنَ ألفَ سَنَةٍ لَيْسَ بَيْنَهُ وبَيْنَ الشَّمَسِ إِلا مِقْدَارُ مِيْلٍ.
إذْ ذَاكَ يِقِفُ مَبْهُوْتاً ذَاهِلَ العَقْلِ شَاخِصَ البَصَرِ يَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ تُرَاباً ثُمَّ يُؤْمَرُ بِهِ إِلى النَّارِ ويُسْلَكُ فِي سِلْسِلةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً وَبَعْدَ دُخُولِهِ فِيْهَا لا يَخْرُجُ مِنَها أبَداً وَلَا يَزَداُد إِِلَا عَذَاباً ولا يُفَتَّرُ عَنْهُ.
إِن اسْتَغَاثَ يُغَاثُ بِمَاءٍ كَالُمْهلِ يَشْوِيْ الوُجُوْهَ ويُذِيْبُ الأَمْعَاءَ وَيُحْرِقُ الجُلُودَ تُحِيْطُ بِهِ النّارُ مِنْ كُلِ جِهَاتِهِ لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مَهِادٌ ومِنْ فَوْقِهِم غَواشٍ كُلَّما نَضِجَ جِلْدُهُ بُدِّلَ جِلْداً غَيْرَهُ.
وكُلَّما أْرَادَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا قُمِعَ بمَقَامََِعَ مِنْ حَدِيْدٍ كُلُ هَذَا العَذَابَ يُعَانِيْهِ ولا يَمُوْتُ {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} لا يَمُوتُ فِيْهَا ولا يَحْيَا وسَواءٌ صَبَرَ أمْ لَمْ يَصْبِرْ هُوَ خَالِدٌ فِي جَهَنَّمَ خُلُوداً لا انْتِهَاءَ لَهُ أبَدَاً.
عن أَبِي هُرَيْرَةِ رضي الله عنه أن رسول الله ? أتي بفرس يجعل كُل خطو منه أقصي بصره فسار وسار معه جبريل عليه السلام.
فأتي علي قوم يزرعون في يوم ويحصدون في يوم كُلَّما حصدوا عاد كما كَانَ فَقَالَ يا جبريل من هَؤُلَاءِ قال هَؤُلَاءِ المجاهدون في سبيل الله تضاعف لهُمْ الحسنات بسبعمائة ضعف وما أنفقوا من شَيْء فهو يخلفه.
ثُمَّ أتي علي قوم ترضخ رؤوسهم بالصخر كُلَّما رضخت عادت كما كانت ولا يفتر عنهم من ذَلِكَ شَيْء قال يا جبريل من هؤلاء قال هؤلاء الَّذِينَ
تثاقُلْتُ رؤوسهم عن الصَّلاة.
ثُمَّ أتي علي قوم علي أدبارهم رقاع وعلي أقبالهم رقاع يسرحون كما تسرح الأنعام إلي الضريع والزقوم ورضف جهنم قال: ما هؤلاء يا جبريل، قال: هؤلاء الَّذِينَ لا يؤدون صدقات أموالهم وما ظلمهم الله وما الله بظلام للعبيد.
ثُمَّ أتي علي رجل قَدْ جمَعَ حزمة عظيمة لا يستطيع حملها وَهُوَ يريد أن يزيد عَلَيْهَا قال: يا جبريل ما هَذَا، قال: هَذَا رجل من أمتك عَلَيْهِ أمانة النَّاس لا يستطيع أداءها وَهُوَ يريد أن يزيد عَلَيْهَا.
ثُمَّ أتي علي قوم تقرض شفاههم وألسنتهم بمقاريض من حديد كُلَّما قرضت عادت كما كانت لا يفترعنهم من ذَلِكَ شَيْء قال: يا جبريل ما هؤلاء، قال: خطباء الفتنة.
ثُمَّ أتي علي حجر صغير يخرج منه ثور عَظِيم فيريد الثور أن يدخل من حيث خرج فلا يستطيع قال: ما هَذَا يا جبريل، قال: هَذَا الرجل يتكلم بالكلمة العظيمة فيندم عَلَيْهَا فيريد أن يردها فلا يستطيع.
ثُمَّ أتي علي وادٍ فوَجَدَ ريحاً طيبةً ووَجَدَ ريح مسك مَعَ صوت فَقَالَ: ما هَذَا، قال: صوت الْجَنَّة، تَقُول: يارب ائتني بأهلي وبما وعدتني فقَدْ كثر غرسي وحريري وسندسي وإستبرقي وعبقريي ومرجاني وفضتي وذهبي وأكوابي وصحافي وأباريقي وفواكهي وعسلي ومائي ولبني وخمري ائتني بما وعدتني.
قال: لك كُلّ مسلم ومسلمة ومُؤْمِن ومؤمنة ومن آمن بي وبرسلي وعمل
صالحاً ولم يشرك شيئاً ولم يتخذ من دوني أنداداً فهو آمن ومن سألني أعطيته ومن أرضني جزيته ومن توكل علي كفيته إني أَنَا الله لا إله إلا أَنَا لا خلف لميعادي قَدْ أفلح المؤمنون تبارك الله أحسن الخالقين، فقَالَت: رضيت. ثُمَّ أتي علي وادٍ فسمِعَ صوتاً منكراً، فَقَالَ: يا جبريل ما هَذَا الصوت، قال: هَذَا صوت جهنم تَقُول يا رب ائتني بأهلي وبما وعدتني فقَدْ كثرت سلاسلي وأغلالي وسعيري وحميمي وغساقي وغسليني وقَدْ بعد قعري واشتد حري ائتني بما وعدتني قال لك كُلّ مشرك ومشركة وخبيث وخبيثة وكل جبار لا يؤمن بيوم الحساب، قَالَتْ: قَدْ رضيت، رواه البزار عن أبي العإلية – أو غيره – عن أَبِي هُرَيْرَةَ الترغيب والترهيب جـ 4 ص 454 في كتاب صفة الْجَنَّة والنار.
عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النَّبِيّ ? قال: «ويل وادٍ في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفاً قبل أن يبلغ قعره)) .
وعنه رضي الله عنه النَّبِيّ ? قال في قوله: " سأرهقه صعوداً)) قال: «جبل من نار يكلف الكافر أن يصعده فإذا وضع يده عَلَيْهِ ذابت فإذا رفعها عادت وإذا وضع رجله عَلَيْهِ ذابت فإذا رفعها عادت يصعد سبعين خريفاً ثُمَّ يهوي كَذَلِكَ " رواه أَحَمَدُ والحاكمُ وَقَالَ: صحيح الإسناد.
عَظِيمٌ هَوْلُهُ وَالنَّاسُ فِيه
…
حَيَارَى مِثْلَ مَبْثُوثِ الفَراشِ
بِهِ تَتَغَيَّرُ الالْوانُ خَوفَاً
…
وتَصْطَكُّ الفَرائِضُ بارْتِعَاشِ
هُنَالِكَ كُلُّ مَا قَدَّمْتَ يَبْدُو
…
فَعَيْبُكَ ظَاهِرٌ وَالسِّرُّ فَاشِ
تَفَقََّدْ نَقْصَ نَفْسِكَ كُلَّ يَوْم
…
فَقَدْ أوْدَى بِهَا طَلَبُ المَعَاشِ
إلا لِمْ تَبْتَغِي الشَّهَواتِ طَوْرَاً
…
وَطوْراً تَكْتْسِي لِيْنَ الرَّياشِ
اللَّهُمَّ ألحقنا بعبادك الابْرَار وآتنا في الدُّنْيَا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
نَمَاذِجُ مِنْ عَدْلِه ?
من ذَلِكَ ما ورد عن عروة عن عَائِشَة أن امرأة سرقت في عهد رسول الله ? في غزوة الفتح ففزع قوها إلي أسامه بن زيد يستشفعون به قال: عروه فَلَمَّا كلمه أسامه فيها تلوَّنَ وجه رسول الله ?.
وَقَالَ: أتكلمني في حد من حدود الله تعالى، فَقَالَ أسامة: استغفر لي يَا رَسُولَ اللهِ، فَلَمَّا كَانَ العشي قام رسول الله ? خطيباً فأثني علي الله بما هُوَ أهله، ثُمَّ قال: أما بعد فإنما أهلك من كَانَ قبلكم أنهم كَانُوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عَلَيْهِ الحد والَّذِي نفس مُحَمَّد بيده لو أن فاطمة بنت مُحَمَّد سرقت لقطعت يدها.
ثُمَّ أمر رسول الله ? بتلك المرأة فقطعت يدها، الْحَدِيث أخرجه البخاري.
ولما كَانَ العباس عم النَّبِيّ ? في وثاقه مَعَ الأسري يئنُّ فأرق النَّبِيّ ? فسئل عن سبب أرقه – أي عدم نومه – وقَدْ نصره الله نصراً مؤزراً قال: سمعت أنين العباس في وثاقه فأسرع بعض المُسْلِمِيْنَ لما سمعه وحل وثاقه وعاد فأخبر النَّبِيّ ? أنه حل وثاق العباس قال ? اذهب فافعل ذَلِكَ بالأسري كلهم فتأمل هَذَا النصف والعدل منه ?.
(موعظة)
عِبَادَ اللهِ من أحكام ديننا ووحي قرآننا وتعالى م نبينا مُحَمَّد ? المقررة
الثابتة أنه لا فضل لعرَبِّي علي عجمي ولا لأبيض علي أسود ولا لسيد علي مسود ولا لملك علي مملوك ولا صعلوك إلا بالتقوي.
فالمعيار الصحيح والميزان العدل الحق للتفاضل بين الأفراد والجماعات والترجيح بين مختلف الطوائف والطبقات والهيئات ما جَاءَ عن رب الأرض والسماوات: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ولم يقل سبحانه وتعالى: إن الكريم من عظم جاهه أو كثر ماله أو كثر رجاله واستسلم له النَّاس طائعين ومكرهين، بل الكريم عنده من اتصف بالتقوي.
فالعاقل من راقب الله في السِّرّ والنجوي وعامل النَّاس بالمساواة ولم يراعِ الرتب والدرجات والشرف والسيادات وسوي بينهم وفق تسوية الله لهُمْ في الواجبات والحدود والعبادات.
فتأمل تجد في الموقف بالصَّلاة والحج وكيف يتساوي فيه الامير والمأمور والعَظِيم والحقير والغني والفقير والصعلوك والوزير كلهم بلسان واحد ولهجة صادقة يؤدون العبادة لمولاهم العلي الكبير وهم معترفون بشده الافتقار إليه والعجز والتقصير فتلك هِيَ المساواة كُلّ المساواة التي جَاءَ بها الإسلام ودعي إليها النَّبِيّ ? ومكنها في نفوس أصحابه أي تمكين.
كما ستري ما سنذكره إن شاء الله من عدلهم وإنصافهم وحبهم للمساواة وإيثارهم العدل في الاحكام وتأمل ما في هَذَا الْحَدِيث الشريف وما قاله المصطفي ? وتأمل ما بعده مِمَّا سيأتيك من سيرته أ. هـ.
أخرَجَ ابن عساكر عن عَبْد اللهِ بن حدرد الأسلمي رضي الله عنه أنه كَانَ ليهودي عَلَيْهِ أربعة دراهم فاستعدي عَلَيْهِ فَقَالَ: يا مُحَمَّد إن لي علي هَذَا
أربعة دراهم وقَدْ غلبني عَلَيْهَا، قال: أعطه حقه، قال: والَّذِي بعثك بالحق ما أقدر عَلَيْهَا، قال: أعطه حقه، قال: والَّذِي نفسي بيده ما أقدر عَلَيْهَا قَدْ أخبرته أنك تبعثنا إلي خيبر فأرجو أن تغنمنا شيئاً فأرجع فأقضيه.
قال: أعطه حقه، وكَانَ رسول الله ? إذا قال ثلاثاً لم يراجع فخرج ابن أبي حدرد إلي السوق وعلي رأسه عصابة وَهُوَ متزر ببردة فنزع العمامة فاتزر بها ونزع البرده فَقَالَ: اشتر مني هذه البردة، فباعها منه بأربعة دراهم فمرت عجوز فقَالَتْ: ما لك يا صَاحِب رسول الله ? فأخبرها فقَالَتْ: ها دونك هَذَا البرد لبرد عَلَيْهَا طرحته عَلَيْهِ.
وعن أبي سعيد الخدري قال: جَاءَ أعرابي إلي النَّبِيّ ? يتقاضاه ديناً كَانَ عَلَيْهِ فاشتد عَلَيْهِ حتي قال: أحرج عَلَيْكَ إلا قضيتني فانتهره أصحابه فَقَالُوا: ويحك تدري من تكلم، فَقَالَ: إني أطلب حقي، فَقَالَ النَّبِيّ ?:
هلا مَعَ صَاحِب الحق كنتم ثُمَّ أرسل إلي خولة بنت قيس فَقَالَ لها: إن كَانَ عندك تمر فأقرضينا حتي يأتينا تمر فنقضيك فقَالَتْ: نعم بأبي أَنْتَ وأمي يَا رَسُولَ اللهِ، فأقرضته فقضي الأعرابي وأطعمه.
فَقَالَ: أوفيت أوفي الله لك، فقال: أولئك خيار النَّاس إنه لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع أخرجه ابن ماجة ورواه البزار من حديث عَائِشَة رضي الله عنها مختصراً.
وأخرَجَ الطبراني عن خولة بنت قيس امرأة حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنهما قَالَتْ: كَانَ علي رسول الله وسق من تمر لرجل من بني ساعدة فأتاه يقتضيه فأمر رسول الله ? رجلاً من الأنصار أن يقضيه فقضاه تمراً دون تمره
فأبي أن يقبل فَقَالَ: أترد علي رسول الله ?.
قال: نعم ومن أحق بالعدل من رسول الله ? فاكتحلت عينا رسول الله ? بدموعه، ثُمَّ قال: صدق ومن أحق بالعدل مني لا قدَّسَ الله أمة لا يأخذ ضعيفها حقه من شديدها ولا يتعتعه.
ثُمَّ قال: «يا خولة عديه واقضيه فإنه لَيْسَ من غريم يخرج من عِنْدَ غريمه راضياً إلا صلت عَلَيْهِ دواب الأرض ونون البحار ولَيْسَ من عبد يلوي غريمه وَهُوَ يجد إلا كتب الله عَلَيْهِ في كُلّ يوم وليلة إثماً.
ولما بلغ بنيان قريش موضع الركن اختصم القبائل كُلّ قبيلة تريد أن ترفع الركن إلي موضعه وكادوا يقتتلون علي ذَلِكَ فَقَالَ لهُمْ أبو أمية ابن المغيرة بن عَبْد اللهِ بن عمرو بن مخزوم وكَانَ شريفاً مطاعاً: اجعلوا الحكم بينكم لأول من يدخل من باب الصفا فقبلوا ذَلِكَ منه وكَانَ أول داخل رسول الله ? فَلَمَّا رأوه قَالُوا: الأمِينُ أقبل وكَانَ يسمي في الجاهلية ((الأمِين)) لأمانته وصدقه فَقَالُوا جميعاً رضينا بحكمه.
ثُمَّ قصوا عَلَيْهِ قصتهم فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: هَلُمَّ إلي ثوباً، فأتي به فوضع الركن فيه يعني الحجر الأسود ثُمَّ قال: لتأخذ كُلّ قبيلة بطرف من هَذَا الثوب فحمله من أربعة أطراف أربعة من وجوه القبائل وأشرافها وزعمائها ورفعوه إلي محاذاة موضع الحجر.
فتناوله رسول الله ? من الثوب ووضعه بيده الشريفة في محله فكَانَ الأشراف والزعماء خدماً له ? وفي ذَلِكَ يَقُولُ هبيرة بن وهب المخزومي:
تَشَاجَرَتِ الأحْيَاءُ فِي فَضْلِ خُطَّةٍ
جَرَتْ طَيْرُهُمْ بالنَّحْسِ مِنْ بَعْدِ أَسْعَدِ
تَرَامَوْا بِهَا بالغَضِّ بَعْدَ مَوَدَّةٍ
وَأَوْقَدَ نَاراً بَيْنَهُمْ شَرُّ مُوْقِدِ
فَلَمَّا رَأَيْنَا الأمر قَدْ حَانَ جَدُّهُ
وَلم يَبْق شَيْءٌ غَيْرَ سَلِ المُهَنَّدِ
رَضِيْنَا وَقُلْنَا العَدْلُ أَوّلُ طَالِعٍ
يَجِيءُ مِنَ البَطْحَاءِ مِنْ غَيْرِ مَوْعِدِ
فَفَاجَأنَا هَذَا الأمِيْنُ مُحَمَّدٌ
فَقُلْنَا رَضِيْنَا بالأمِيْنِ مُحَمَّد
بِخَيْرِ قُرَيْشٍ كُلِّهَا أسْوَ شِيْمَةٍ
وَفِي الْيَوْمِ مَعَ مَا يُحْدِثُ اللهُ فِي غَدِ
فَجَاءَ بأَمْرٍ لم يَرَ النَّاسُ مِثْلَهُ
أَعَمَّ وأَرْضَى فِي العَوَاقِبِ والبَدِيْ
أَخَذْنَا بأَطْرَافِ الرِّدَاءِ وكُلُّنَا
لَهُ حِصَّةٌ مِنْ رَفْعِهِ قَبْضَةُ اليَدِ
فَقَالَ ارْفَعُوْا حَتَّى إِذَا مَا عَلَتْ بِهِ
أكُفُّهُمُ وَالَى بِهِ خَيْرُ مُسْنِدِ
وَكُلُّ رَضِيْنَا فِعْلَهُ وَصَنِيْعَهُ
فَأَعْظِمْ بِهِ مِنْ رَأْيٍ هَادٍ وَمُهْتَدِ
وتِلْكَ يَدٌ مِنْهُ عَلَيْنَا عَظِيْمَةٌ
.. يَرُوْحُ بِهَا هَذَا الزَّمَانُ وَيَغْتَدِيْ
…
>?
والأربعة الآخذون بطرف الرداء هم: عتبة بن ربيعة بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف والأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزي بن قصي، وأبو حذيفة ابن المغيرة بن عمرو بن مخزوم بن يقظة، وقيس بن عدي السهمي، وَاللهُ أَعْلَمُ وصلي الله علي مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم. ومِمَّا ينطبق علي الرَّسُول ? ما يلي:
…
فمَا غَابَ عن حِلْمٍ وَلَا شَهِدَ الخِنَا
…
وَلَا اسْتَعْذَبَ العَوْرَاءَ يَوْماً فَقَالَهَا
يَدُوْمُ عَلَى خَيْرِ الخِلالِ ويَتَّقِيْ
…
تَصَرُّمَهَا مِنْ شِيْمَةٍ وَانْتِقَالُهَا
وَتَفْضُلُ أيْمَانَ الرِجَالِ شِمَالُهُ
…
كَمَا فَضَلَتْ يُمْنَى يَدْيِهِ شِمَالهَا
وَيَبْتَذِلُ النَّفْسَ المَصُوْنَةَ نَفْسُهُ
…
إِذَا مَا رَأَى حَقاً عَلَيْهِ ابْتِذَالُهَا
(فَصْلٌ)
وَقَالَ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وسيرة النَّبِيّ ? من آياته وأخلاقه وأقواله وأفعاله وشريعته من آياته وأمته من آياته وكرامَات صالحي أمته من آياته.
وَذَلِكَ يظهر بتدبر سيرته من ولد إلي أن بعث ومن حين بعث إلي أن مَاتَ وبتدبر نسبه وبلده وأصله وفصله فإنه كَانَ من أشرف أَهْل الأرض نسباً من صميم سلالة إبراهيم الَّذِي جعل الله في ذريته النبوة واْلكِتَاب.
فلم يأت نبي من بعد إبراهيم إلا من ذريته وجعل له ابنين إسماعيل وإسحاق وذكر في التوراة هَذَا وهَذَا وبشر في التوراة بما يكون من ولد إسماعيل.
ولم يكن في ولد إسماعيل من ظهر فيما بشرت به النبوات غيره ودعا إبراهيم لذرية إسماعيل بأن يبعث فيهم رسولاً مِنْهُمْ ثُمَّ هُوَ من قريش صفوة بني إبراهيم من بني هاشم صفوة قريش.
ومن مَكَّة أم القري وبلده البيت الَّذِي بناه إبراهيم ودعا النَّاس إلي
حجه، ولم يزل محجوجاً من عهد إبراهيم مذكوراً في كتب الأنبياء بأحسن وصف، وكَانَ من أكمل النَّاس تربية ونشأة لم يزل معروفاً بالصدق والبر والعدل ومكارم الأخلاق وترك الفواحش والظلم وكل وصف مذموم.
مشهوداً له بذَلِكَ عِنْدَ جَمِيع من يعرفه قبل النبوة وممن آمن به وكفر بعد النبوة، لا يعرف له شَيْء يعاب به لا في أقواله ولا في أفعاله ولا في أخلاقه ولا جربت عَلَيْهِ كذبة قط ولا ظلم ولا فاحشة.
وكَانَ خلقه وصورته من أكمل الصور وأتمها وأجمعها للمحاسن الدالة علي كماله، وكَانَ أمياً من قوم أميين لا يعرف لا هُوَ ولا هم ما يعرفه أَهْل اْلكِتَاب ((التَّوْرَاةَ وَالإنجِيلَ)) .
ولم يقَرَأَ من علوم النَّاس ولا جالس أهلها ولم يدع بنبوة إلي أن أكمل الله له أربعين سنة فأتي بأمر هُوَ أعجب الأمور وأعظمها وبكلام لم يسمَعَ الأولون والآخرون بنظيره.
وأخبر بأمر لم يكن في بلده ولا في قومه من يعرف مثله ولم يعرف قبله ولا بعده، لا في مصر من الأمصار ولا في عصر من الأعصار من أتي بمثل ما أتي به ولا من ظهر كظهوره.
ولا من أتي من العجائب والآيات بمثل ما أتي به ولا من دعا إلي شريعة أكمل من شريعته، ولا من ظهر دينه علي الأديان كُلّهَا بالعلم والحجة وباليد والقوة كظهوره.
ثُمَّ إنه اتبعه اتباع الأنبياء وهم الضعفاء من النَّاس وكذبه أَهْل الرئاسة
وعادوه وسعوا في هلاكه وهلاك من تبعه بكل الطرق، كما كَانَ الكفار يفعلون مَعَ الأنبياء وأتباعهم.
والَّذِينَ اتبعوه لم يتبعوه لرغبة ولا لرهبة، فإنه لم يكن عنده مال يعطيهم ولا جهات يوليهم إياها ولا كَانَ له سيف بل كَانَ السيف والجاه والْمَال مَعَ أعدائه، وقَدْ آذوا أتباعه بأنواع الأذي وهم صابرون محتسبون لا يرتدون عن دينهم لما خالطت قُلُوبهمْ حلاوة الإيمان والمعرفة.
وكانت مَكَّة يحجها الْعَرَب من عهد إبراهيم فتجتمَعَ في الموسم قبائل الْعَرَب فيخرج إليهم يبلغهم الرسالة ويدعوهم إلي الله صابراً علي ما يلقاه من تكذيب المكذب وجفاء الجافي وإعراض المعرض إلي أن اجتمَعَ بأَهْل يثرب وكَانُوا جيران اليهود قَدْ سمعوا أخباره مِنْهُمْ وعرفوه.
فَلَمَّا دعاهم علموا أنه النَّبِيّ المنتظر الَّذِي تخبرهم به اليهود وكَانُوا قَدْ سمعوا من أخباره ما عرفوا به مكانته، فإن أمره كَانَ قَدْ انتشر وظهر في بضع عشرة سنة فآمنوا به وتابعوه علي هجرته وهجرة أصحابه إلي بلدهم وعلي الجهاد معه فهاجر هُوَ ومن اتبعه إلي الْمَدِينَة وبها المهاجرون والأنصار لَيْسَ فيهم من آمن برغبة دنيوية ولا برهبة إلا قليلاً من الأنصار أسلموا في الظاهر ثُمَّ حسن إسلام بَعْضهمْ ثُمَّ أذن له في الجهاد ثُمَّ أمر به.
ولم يزل قائماً بأمر الله علي أكمل طريقة وأتمها من الصدق والعدل والوفاء لا يحفظ عَلَيْهِ كذبة واحدة ولا ظلم لأحد ولا غدر بأحد، بل كَانَ أصدق النَّاس وأعدلهم وأبرهم وأوفاهم بالعهد مَعَ اختلاف الأحوال عَلَيْهِ من حرب وسلم وأمن وخوف وغني وفقر وقله وكثرة وظهوره علي الْعَدُوّ
تَارة وظهور الْعَدُوّ عَلَيْهِ تَارة.
وهو علي ذَلِكَ كله ملازم لأكمل الطرق وأتمها حتي ظهرت الدعوة في جَمِيع أرض الْعَرَب التي كانت مملوءة من عبادة الأوثان ومن أخبار الكهان وطاعة المخلوق في الكفر بالخالق وسفك الدِّمَاء المحرمة وقطيعة الأرحام لا يعرفون آخرةً ولا معاداً.
فصاروا أعلم أَهْل الأرض وأدينهم وأعدلهم وأفضلهم وهذه آثار علمهم وعملهم في الأرض وآثار غيرهم يعرف العقلاء فرق ما بين الأمرين وَهُوَ ? مَعَ ظهور أمره وطاعة الخلق له وتقديمهم له علي الأنفس والأموال مَاتَ ولم يخلف درهماً ولا ديناراً ولا متاعاً ولا دابةً إلا بغلته وسلاحه ودرعه مرهونة عِنْدَ يهودي علي ثلاثين وسقاً من شعير ابتاعها لأهله.
وكَانَ بيده عقار ينفق منه علي أهله والباقي يصرفه في مصالح المُسْلِمِيْنَ فحكم بأنه لا يورث ولا يأخذ ورثته منه شيئاً وَهُوَ في كُلّ وَقْت يظهر علي يديه من الآيات وفنون الكرامَاتِ ما يطول وصفه.
ويخبرهم بما كَانَ وما يكون ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن الْمُنْكَر ويحل لهُمْ الطيبات ويحرم عَلَيْهمْ الخبائث ويشرع الشريعة شيئاً بعد شيء.
أكمل الله دينه الَّذِي بعث به وجاءت شريعته أكمل شريعة لم يبق معروف تعرف العقول أنه معروف إلا أمر به ولا منكر تعرف العقول أنه منكر إلا نهي عنهُ.
لم يأمر بشَيءٍ فقيل: ليته لم يأمر به ولا نهي عن شَيْء فقيل: ليته لم ينه عنهُ وأحل الطيبات لم يحرم شيئاً منها كما حرم في شرع غيره وحرم الخبائث لم يحل منها شيئاً كما استحله غيره.
وجمَعَ محاسن ما عَلَيْهِ الأمم فلا يذكر في التوراة والإنجيل والزبور نوع من الخبر عن الله وعن ملائكته وعن الْيَوْم الآخر إلا وقَدْ جَاءَ به علي أكمل وجه وأخبر بأشياء لَيْسَتْ في هذه الكتب.
وأمته أكمل الأمم في كُلّ فضيلة فإذا قيس علمهم بعلم سائر الأمم ظهر فضل علمهم وإن قيس دينهم وعبادتهم وطاعتهم لله بغيرهم ظهر أنهم أدين من غيرهم وإذا قيس شجاعتهم وجهادهم وصبرهم علي المكاره في ذات الله ظهر أنهم أعظم جهاداً وأشجع قلوباً وهذه الفضائل به نالوها ومنه تعلموها وَهُوَ الَّذِي أمرهم بها ا. هـ.
وَقَالَ آخر:
اعْلم أن من شاهد أحواله ? وأصغي إلي سماع أخباره المشتملة علي أخلاقه وأفعاله وأحواله وعاداته وسجاياه وسياسته لأصناف الخلق وهدايته إلي ضبطهم وتألفه أصناف الخلق وقوده إياهم إلي طاعته.
مَعَ ما يحكي من عجائب أجوبته في مضائق الأسئلة وبدائع تدبيراته في مصالح الخلق ومحاسن إشاراته في تفصيل ظاهر الشرع التي يعجز الْفُقَهَاء والعقلاء عن إدراك أوائل دقائقها في طول أعمارهم لم يبق له ريب ولا شك في أن ذَلِكَ لم يكن مكتسباً بحيلة تَقُوم بها القوة البشرية.
بل لا يتصور ذَلِكَ إلا بالاستمداد من تأييد سماوي وقوة إلهية وأن
ذَلِكَ كله لا يتصور لكذب ولا ملبس بل كانت شمائله وأحواله شواهد قاطعه بصدقه حتي أن العرَبيَّ القُحَّ كَانَ يراه فَيَقُولُ: وَاللهِ ما هَذَا وجه كذاب.
فكَانَ يشهد له بالصدق بمجرد رؤيته لشمائله فَكَيْفَ من شاهد أخلاقه ومارس أحواله في جَمِيع مصادره وموارده أ. هـ.
وَقَالَ حسان يرثي رسول الله ?:
بِطَيْبَةَ رَسْمٍ للرَّسُوْلِ وَمَعْهَدُ
مُنِيْرٌ وَقَدْ تَعْفُو الرُّسُوْمُ وتَهْمُدُ
وَلَا تَنْمَحِيْ الآيَاتُ مِنْ دَارِ حُرْمَةٍ
بِهَا مِنْبَرُ الهادِيْ الَّذِِي كَانَ يَصْعَدُ
وَوَاضِحُ آياتٍ وَبَاقِي مَعَالِمٍ
وَرَبْعٌ لَهْ فِيها مُصَلَّى ومَسْجِدُ
بِهَا حُجُرَاتٌ كَانَ يَنْزِلُ وَسْطَهَا
مِنَ اللهِ نُوْرٌ يُسْتَضَاءُ وَيُوْقَدُ
مَعَالِمُ لم تُطْمَسْ عَلَى العَهْدِ آيُهَا
أتَاهَا البِلَى فَالآيُ مِنْهَا تَجْدَّدُ
عَرَفْتُ بِهَا رَسْمَ الرَّسُوْلِ وعَهْدَهُ
وَقَبْراً بِهِ وَارَاهُ فِي التُّرْبِ مَلْحَدُ
وَهَلْ عَدَلَتْ يَوْماً رَزِيَّةٌ هَالِكٍ
رَزِيّةَ يَوْمٍ مَاتَ فِيه مُحَمَّد
…
>?
.. تَقَطَّعَ فِيه مَنْزِلُ الوَحْي عنهُمُ
وَقَدْ كَانَ ذَا نُوْرٍ يَغُورُ ويُنْجِدُ
يَدُلُّ عَلَى الرَّحْمَنِ مَنْ يَقْتَدِيْ بِهِ
وَيُنْقِذُ مِنْ هَوْلِ الخَزَايَا ويُرْشِدُ
إِمَامٌ لَهُمْ يَهْدِيْهُمُ الحَقَّ جَاهِداً
مُعَلِمُ صِدْقٍ إِنْ يُطِيْعُوهُ يَسْعَدُوا
عَفُوٌ عنِ الزَّلَاّتِ يَقْبَلُ عُذْرَهُمْ
وأنْ يُحْسِنُوا فَاللهُ بالْخَيْرِ أَجْوَدُ
فَبَيْنَاهُمُوْا فِي نِعْمَةِ اللهِ بَيْنَهُمْ
دَلِيْلٌ بِهِ نَهْجُ الطَّرِيْقَةِ يُقْصَدُ
عَزِيْزٌ عَلَيْهِ أَنْ يَحِيْدُوْا عن الهُدَى
حَرِيْصٌ عَلَى أَنْ يَسْتَقِيْمُوْا وَيَهْتَدُوْا
عَطُوفٌ عَلَيْهِمْ لَا يُثَنِّيْ جَنَاحَهُ
إِلى كَنَفٍ يَحْنُوْ عَلَيْهِمْ وَيَمْهَدُ
فَبَيْنَاهُمُوْا فِي ذَلِكَ النُّوْرِ إِذْ غَدَى
إِلى نُورِهِمْ سَهْمٌ مِنَ المَوْتِ مُقْصِدُ
فَأَصْبَحَ مَحْمُوْداً إِلى اللهِ رَاجِعاً
يُبَكِّيْهِ جَفْنُ المُرْسَلاتِ ويَحْمَدُ
وأَمْسَتْ بِلَادُ الحُرْمِ وَحْشاً بِقَاعُهَا
لِغَيْبَةِ مَا كانت مِنْ الوَحْي تَعْهَدُ
قِفَاراً سِوَى مَعْمُوْرَةِ اللَّحْدِ ضَافَهَا
.. فَقِيْدٌ يُبَكِّيْهِ بِلَاطٌ وغَرْقَدُ
ومَسْجِدُهُ فَالمُوحِشَاتُ لِفْقْدِهِ
خَلَاءٌ لَهُ فِيه مَقَامٌ وَمَقْعَدُ
فَبَكّىْ رَسُوْلَ اللهِ يَا عَيْنُ عَبْرَةً
وَلَا أعْرِفَنّكَ الدَّهْرَ دَمْعُكِ يَجْمُدُ
وَمَا لَكِ لَا تَبْكِيْنَ ذَا النِّعْمَةِ الَّتِيْ
عَلَى النَّاسِ مِنْهَا سَابِغٌ يَتَغَمَّدُ
فَجُوْدِيْ عَلَيْهِ بالدُّمُوْعِ وأعْولِي
لِفَقْدِ الَّذِي لَا مِثْلَهُ الدَّهْرُ يُوْجَدُ
وَمَا فَقَدْ المَاضُوْنَ مِثْلَ مُحَمَّدٍ
وَلَا مِثْلَهُ حَتَّى القِيَامَةَ يُفْقَدُ
أَعَفَّ وَأَوْفَى ذِمَّةً بَعْدَ ذِمَّةٍ
وَأَقْرَبَ مِنْهُ نَائِلاً لَا يُنَكَّدُ
وأَبْذَلَ مِنْهُ لِلطَّرِيْفِ وتَالِدٍ
إِذَا ظَنَّ مِعْطَاءٌ بِمَا كَانَ يُتْلَدُ
وَأَكْرَمَ حَيّاً فِي البُيُوْتِ إِذَا انْتَمَى
وَأَكْرَمَ جَداً أبْطَحِيّاً يُسَوَّدُ
وأَمْنَعَ ذِرْوَاتٍ وأَثْبَتَ فِي العُلَى
دَعَائِمَ عِزٍّ شَاهِقَاتٍ تُشَيَّدُ
وأَثْبَتَ فَرْعاً فِي الفُرُوْعِ ومَثْبَتاً
وعُوْداً غَذَاهُ المُزْنُ فَالعُوْدُ أَغْيَدُ
.. رَبّاهُ وَلِيْداً فاسْتَتَمَّ تَمَامُهُ
عَلَى أَكْرَمِ الخَيْرَاتِ رَبٌّ مُمَجَّدُ
تَنَاهَتْ وِصَاتُ المُسْلِمِيْنَ بِكَفِّهِ
فَلَا العِلْمُ مَحْبُوسٌ وَلَا الرَّأْيُ يُفْنَدُ
أَقُوْلُ وَلَا يُلْفَى لِقَوْلِيَ عَائِبٌ
مِنَ النَّاسِ إلا عَازِبُ العَقْلِ مُبْعَدُ
ولَيْسَ هَوَائِي نَازِعاً عن ثَنَائِهِ
لَعَلِّيْ بِهِ فِي جَنَّةِ الخُلْدِ أُخْلَدُ
مَعَ المُصْطَفَى أَرْجُوْ بِذَاكَ جِوَارَهُ
وفِي نَيْلِ ذَاكَ الْيَوْمِ أسْعَى وَأَجْهَدُ
…
>?
آخر:
…
سَأَنْظِمُ مِنْ فَخْرِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ
…
لآلِيءَ لَا يَبْلَى جَدِيدُ نِظَامِهَا
تَضَوَّعَ طِيباً عَرْفُهَا فَكَأَنَّهُ
…
تَضَوُّعُ أَزْهَارٍ بَدَتْ مِنْ كِمَامِهَا
سَجَايا أَبَتْ إلا السِّمَاكَيْنِ مَنْزِلاً
…
فَفَاقَ عَلَى العَلْيَاءِ عِلْقُ مَقَامِهَا
خِلَالٌ إِذَا لَاحت قباب لدي علا
…
تُنيفُ فَتَعْلُوهَا قِبَابُ خِيَامِهَا
إِذَا يَمَّمُوا يَوْماً إِمَامَ مَكَارِمٍ
…
فأَحَمَد قَدْ أَضْحَى إِمَامَ إِمَامِهَا
فَكم ذُوْ عُلا أَوْمَا لِدَرْكِ مَقَامِهَا
…
فَمَرَّ وَلم يُدْرِكْ مَرَامِي مَرَامِهَا
وَكم ظَامِيءٍ قَدْ رَامَ يُرْوَى بَرِيِّهَا
…
فَآبَ وقَدْ أَضْحَى عَليلَ أُوَامِهَا
لِذَاكَ العُلَا قَلبِي مَشُوقٌ بِحُبِّهِمْ
…
وقَدْ شوَقْت نَفْسِي بِطُولِ مُقَامِهَا
فَلِلَّهِ عَيْنٌ لَا تَمَلُّ بُكَاءَهَا
…
وقَدْ حُرِمَتْ فِيه لَذِيذَ مَنَامِهَا
وَنَفْسٌ عَلَى بُعْدِ الدِّيَارِ قَرِيحَةٌ
…
تُطَارِحُ فِي البَلْوَى حَمَامَ حِمَامِهَا
وَعُمَرٌ مَضَتْ أَيّامُ شَرْخِ شَبَابِهِ
…
وقَدْ قَدَّ صَرْفُ الدَّهْرِ غُصْنَ قَوامِهَا
.. فَيَا نَسْمَةَ الأسْحَارِ مِنْ نَحْوِ يثْرِبٍ
…
أَلِمِّي بنَفْسٍ قَدْ ذَوَتْ بضِرامِهِا
وَيَا حَادِيَ الأظْعَانِ نَحْوَ قِبَابِهِمْ
…
إلا فَاخْصُصِ العَلْيَا بِطِيبِ سَلَامِهَا
اللَّهُمَّ توفنا مسلمين وألحقنا بعبادك الصالحين الَّذِينَ لا خوف عَلَيْهمْ ولا هم يحزنون وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيع المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(موعظة)
عِبَادَ اللهِ نَحْنُ في زمن بلغ فِيه الفساد مبلغاً ما كَانَ يدور في خلد إنسان وهان عَلَى كثير من النَّاس الْيَوْم أن يتقدموا إلي المعاصي مطمئنين وخف عَلَيْهمْ جداً أن يرتكبوا ما حرم الله عَلَيْهمْ غير هيابين من الله تعالى ولا مبالين بنواهيه.
ولعل زمننا هَذَا ينطبق عَلَيْهِ ما في حديث أنس رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: يأتي عَلَى النَّاس زمان القابض عَلَى دينه كالقابض عَلَى الجمر "، وما في حديث أَبِي هُرَيْرَةِ رضي الله عنه عن النَّبِيّ ? أنه قال: «بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبي للغرباء)) أخرجه مسلم.
وأخرجه الإمام أَحَمَدُ وابنُ ماجة من حديث ابن مسعود بزيادة في آخره وهي –: قيل يَا رَسُولَ اللهِ: ومن الغرباء، قال: «النزاع من القبائل)) ، وأخرجه أبو بكر الآجُرِّي وعنده –: قيل ومن هم يَا رَسُولَ اللهِ، قال: «الَّذِينَ يصلحون إِذَا فسد النَّاس)) .
وأخرجه غيره، وعنده قال: «الَّذِينَ يفرون بدينهم من الفتن)) ، وأخرجه الترمذي من حديث كثير بن عَبْد اللهِ المزني عن أبيه عن جده عن النَّبِيّ ?: ((إن الدين بدأ غريباً وسيرجع غريباً فطوبي للغرباء الَّذِينَ يصلحون ما أفسد
النَّاس من سنتي)) ، وفي حديثه: " قيل ومن هم يَا رَسُولَ اللهِ قال: «الَّذِينَ يصلحون حين فساد النَّاس)) .
أما الْحَدِيث الأول فهو واضح ومنطبق كُل الانطباق عَلَى هَذَا الزمان فيما أري وَاللهُ أَعْلَمُ وَذَلِكَ أنك تري الشر والفساد في كُلّ مكَان منتشراً والْخَيْر نادر الوجود فالفتن في البيوت والأسواق والدكاكين والسيارات والقطارات والطائرات فتن شهوات نساء سافرات وفتن شكوك وإلحاد وشبهات من أناس منحرفين وكتب ضلال ومجلات تحمل في طيها البلايا والشرور وفيديوهات تعلم الفساد أبلغ تعليم وتهيج عَلَيْهِ، حدث فتن يرقق بعضها بعضاً وحوادث الأخري أعظم من الأولي ومن أعظم ما حدث كثرة الخدامين والخدامَاتِ والسواقين والطباخين والمربين فإن ضررهم عَظِيم عَلَى الدين والأخلاق والدُّنْيَا. فانتبه يا من زين له سوء عمله وأتي بكفار أعداء الله ورسوله والْمُؤْمِنِين وأمنهم عَلَى محارمه خدامين أو سواقين أو مربين أو نحو ذَلِكَ عياذَاً بِاللهِ من ذَلِكَ.
شعراً:
…
إِذَا أكْثَرُ الأجَانِبُ فِي بِلَادٍ
تَلَاشَى الأمْنُ وانْتَشَرَ الفَسَادُ
وقَدْ كُنْتُ أَشْكُو مِنْ حَوَادِثَ بُرْهَةٍ
وأسْتَمْرِسُ الأيَامَ وهِي صَحَائِحُ
إِلى أَنْ تَغَشَّتْنِيْ وُقِيْتَ حوَادِثُ
تُحَقِّقُ أَنَّ السَّالِفَاتِ مَنَائِحُ
آخر:
…
ظُلَمٌ تَهَافَتْ آخِذَاتٌ بَعْضُهَا
بالبَعْضِ تَسْتَلِبُ الفُؤَادَ الألْمَعَا
لَا يَسْتَبِيْنُ المَرْءُ فِيها كَفَّهُ
تَذَرُ الحِجَى بالبَاطِلَاتِ مُوَلَّعَا
…
>?
.. وجَهَالَةٌ جَهْلَا يَرْتَعُ أهْلُهَا
فِي حِنْدِسٍ مِنْهَا وَسَاءَتْ مَرْتَعَا
…
>?
وفتن أموال انفتحت عَلَى النَّاس بكثرة وفتن أولاد وبنات وزوجات وزملاء وشركاء وعمال منافقين كذابين لا يصلون ولا يصومون وكثرة مغتابين ونمامين وخداعين ومكارين ومجاهرة بالمعاصي وقلة أنصار وأعوان وكثرة مثبطين عن الأمر بالمعروف والنهي عن الْمُنْكَر ونحو ذَلِكَ مِمَّا يطول ذكره. وقل أن تجد من هؤلاء من يحافظ عَلَى أركَانِ الإسلام.
ولكن المتمسك بدينه القائم بدفع هذه المعارضات والعوائق التي لا يصمد لها إلا أَهْل البصائر واليقين وأَهْل الإيمان المتين الثابتين ثبوت الجبال الراسيات من أفضل خلق الله وأعلاهم درجة عِنْدَ الله وأعظمهم عنده قدراً جعلنا الله وإياكم مِنْهُمْ إنه القادر عَلَى ذَلِكَ.
…
وَهَذَا زَمَانُ الصَّبْرِ مَنْ لَكَ بالّتِي
…
لِقَبْضٍ عَلَى جَمْرِ فَتَنْجُو مِنْ البَلَا
وأما الْحَدِيث الثاني فالإسلام فِي أول أمره غريب قليل لأن النَّاس كَانُوا قبل مبعث رسول الله ? عَلَى ضلاله عامة فَلَمَّا بُعث مُحَمَّدٌ ? لم يستجب له فِي أول الأمر إلا الواحد بعد الواحد من كُلّ قبيلة وكَانَ المستجيب له خائفاً من عشيرته يؤذي غاية الأذي وينال منه وَهُوَ صابر عَلَى ذَلِكَ فِي الله عز وجل.
وكَانَ المسلمون إذ ذاك مستضعفين يشردون كُلّ مشرَّد ويهربون بدينهم إلي الْبِلاد النائية كما هاجروا إلي الحبشة مرتين ثُمَّ هاجروا إلي الْمَدِينَة وكَانَ مِنْهُمْ من يعذب فِي الله ويقتل كعمار وأمه وأبيه وبلال وغيرهم من الصحابة.
ولعله مر بك أثناء اْلكِتَاب ما جري عَلَيْهمْ فِي أول إسلامهم من الأذي فقَدْ ذكرنا نماذج مِنْهُمْ، قال بَعْضهمْ أبيات لا تنطبق إلا عَلَى الصحابة رضوان الله عَلَيْهمْ أجمعين:
قَوْمٌ لَقَدْ آمَنُوْا بِاللهِ خَالِقِهِمْ
وَهَاجَرُوْا وَاتَّقَوا إِثْماً وَعُدْوَانََا
وَجَاهَدُوا فِي سَبِيْلِ اللهِ بَلْ صَبَرُوْا
وَصَابَرُوْا لِذَوِيْ الإشْرَاكِ أَزْمَانَا
تَعَلُّمُ العِلْمِ بالإصْبَاحِ هَمُّهُمُوْا
وَيَنْقَضِيْ لَيْلُهُمْ ذِكْراً وَقُرْآنَا
وَجَامِعُ الأمر إِنْ تَطْلُبْ لِوَصْفِهِمُوْا
نَهَارُهُمْ أَسُدٌ واللَّيْلُ رُهْبَانَا
…
>?
فكَانَ الداخلون فِي الإسلام إذ ذاك غرباء.
ثُمَّ ظهر الإسلام بعد الهجرة إلي الْمَدِينَة وعز وصار أهله ظاهرين كُلّ الظهور ودخل النَّاس بعد ذَلِكَ فِي دين الله أفواجاً وأكمل الله لهُمْ الدين وأتم عَلَيْهمْ النعمة.
وتوفِي رسول الله ? والأمر عَلَى ذَلِكَ وأَهْل الإسلام عَلَى غاية من الاستقامة فِي دينهم وهم متعاضدون متناصرون.
وكَانُوا عَلَى ذَلِكَ فِي زمن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ثُمَّ عمل الشيطان مكائده عَلَى المُسْلِمِيْنَ وألقي بأسهم بينهم وأفشي فيهم فتن الشبهات والشهوات.
ولم تزل هاتان الفتنتان تتزايدان شيئاً فشيئاً حتي استحكمت مكيدة
الشيطان وأطاعه أكثر الخلق فمِنْهُمْ من أطاعه ودخل فِي فتنة الشبهات وَمِنْهُمْ من دخل فِي فتنة الشهوات وَمِنْهُمْ من دخل فِي الفتنتين.
وكل ذَلِكَ مِمَّا أخبر النَّبِيّ ? بوقوعه فأما فتنة الشبهات.
فقَدْ روي عن النَّبِيّ ? من غير وجه: أن أمته ستفترق عَلَى أزيد من سبعين فرقة وأن تلك الفرق فِي النار إلا واحدةً وهي من كانت عَلَى ما هُوَ عَلَيْهِ هُوَ وأصحابه ?.
وعن أبي برزة عن النَّبِيّ ? قال: إنما أخشي عليكم الشهوات التي فِي بطونكم وفروجكم ومضلات الفتن وفِي رواية ومضلات الهوي.
فَلَمَّا دخل أكثر النَّاس فِي هاتين الفتنتين أو إحديهما أصبحوا متقاطعين متباغضين بعد أن كَانُوا إخواناً متحابين متواصلين فإن فتنة الشهوات عمت غالب الخلق ففتنوا بالدُّنْيَا وزهرتها فصَارَت غاية قصدهم لها يطلبون وبها يرضون ولها يغضبون ولها يوالون وعَلَيْهَا يعادون فقطعوا لذَلِكَ أرحامهم وسفكوا دماءهم وارتكبوا معاصي الله بسبب ذَلِكَ.
وأما فتنة الشبهات والأهواء المضلة فبسببها تفرق أَهْل القبلة وصاروا شيعاً وكفر بَعْضهمْ بعض وأصبحوا أعداءً وفرقاً وأحزاباً بعد أن كَانُوا إخوانَاً قُلُوبهمْ عَلَى قلب رجل واحد فلم ينج من هذه الفرق كُلّهَا إلا الفرقة الواحدة الناجية.
وهم المذكورون فِي قوله ?: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين عَلَى الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتي يأتي أمر الله وهم عَلَى ذَلِكَ.
وهم فِي آخر الزمان الغرباء المذكورون فِي هذه الأحاديث الَّذِينَ يصلحون إِذَا فسد النَّاس ويصلحون ما أفسد النَّاس من السنَّة وهم الَّذِينَ يفرون بدينهم من الفتن وهم النزاع من القبائل.
لأنهم قلوا فلا يوَجَدَ فِي كُلّ قبيلة مِنْهُمْ إلا الواحد وقَدْ لا يوَجَدَ فِي بعض القبائل مِنْهُمْ أحد كما كَانَ الداخلون فِي الإسلام فِي أول الأمر كَذَلِكَ.
وفِي مسند الإمام أَحَمَد عن عبادة بن الصامت أنه قال لرجل من أصحابه: يوشك إن طالت بك الحياة أن تري الرجل قَدْ قَرَأَ القرآن عَلَى لسان مُحَمَّد ? فأعاده وأبداه وأحل حلاله وحرم حرامه ونزل عِنْدَ منازله لا يجوز فيكم إلا كما يجوز الحمار الميت.
ومثله قول ابن مسعود: يأتي عَلَى النَّاس زمان يكون المُؤْمِن فِيه أذل من الأمة، وإنما ذل المُؤْمِن آخر الزمان لغربته بين أَهْل الفساد من أَهْل الشبهات والشهوات فكلهم يكرهه ويؤذيه لمخالفة طريقته لطريقتهم ومقصوده لمقصودهم ومباينته لما هم عَلَيْهِ من الشر والفساد والخبث وسائر الصفات القبيحة التي أهونها توريد الكفار والملاهي والمنكرات لبلاد المُسْلِمِيْنَ.
وتجد أكثر من يؤذيه سقطهم وسفلهم ولئامهم لقلة أعوانه وأنصاره وكثرة المخذلين والمرجفين وأعوان إبلَيْسَ وجنوده خذلهم الله ودمرهم.
فكم فتروا عزم آمر بمعروف أو ناهٍ عن منكر بقولهم ما أَنْتَ بمكلف بِهُمْ أتركهم عَلَيْكَ بنفسك ونحو هَذَا الكلام والعياذ بِاللهِ.
شِعْراً:
…
قَرَبَتْ وَحَانَتْ أرْبةٌ لاِرْتِحَالِيْ
…
عن هَذِهِ الدُّنْيَا بِلَا إِشْكَالِ
الأرض قَدْ مَنَعَتْ كَلاهَا والسَّمَا
…
ظَنَّتْ وَذَلِكَ رَائِدُ الأهَوَالِ
ظَهَرَ الفَسَادُ بِبَرَّهَا وَبِبَحْرِهَا
…
وتَنَكَرَتْ أحْوَالُهَا فِي الحَالِ
لم يَبْقَ فِي الدُّنْيَا جَمِيْلٌ ظَاهِرٌ
…
إلا أَقَاصِيْصُ القُرُوْنِ الخَالِ
هَلْ فِي الوَرَى مُتَيَقَضٌ مُتَحَفِّظٌ
…
يَدَعْ الثَّوانِيَ عنهُ فِي الأعمال
وقَدْ تَسْلِبُ الايَّامُ حَالاتِ أَهْلِهَا
وَتَعْدُوْا عَلَى أُسْدِ الرِّجَالِ الثَّعَالِبُ
آخر:
…
إِذَا هَلَكَتْ أُسْدُ العَرِيْنَ وَلم يَكُنْ
لَهَا خَلَفٌ فِي الغِيْلِ سَادَ الثَّعَالِبُ
آخر:
…
لمَّا تَبَدَّلَتِ المَجَالِسُ أَوْجُهاً
غَيْرَ الَّذِيْنَ عهِدْتُ مِنْ عُلَمَائِهَا
وَرَأَيْتُهَا مَحْفُوفَةً بِسِوَى الأوْلَى
كَانُوا وُلَاةَ صُدُرْوِهَا وَفِنَائِهَا
أَنْشَدْتُ بَيْتاً سَائِراً مُتَقَدِّماً
والعَيْنُ قَدْ شَرِقَتْ بِجَارِيَ مَائِهَا
أَمَّا الخِيَامُ فَإِنَّهَا كَخِيَامِهِمْ
وَأَرَى رِجَالَ الحَيِّ غَيْرَ رِجَالِهَا
…
>?
فيا له من زمان يواجه فِيه المُؤْمِن الصابر عواصف الفتن وَرُبَّمَا تمني الموت لما يري من المنكرات التي لا يستطيع لها تغييراً واسمَعَ إلي ما ورد.
فعن محمر عن يحيي بن أبي كثير قال: دخلت عَلَى أبي مسلمة ابن عبد الرحمن وَهُوَ مريض فَقَالَ: إن استطعت أن تموت فمت فوَاللهِ ليأتي عَلَى النَّاس زمان يكون الموت أحب إلي أحدهم من الذهب الأحمر.
قُلْتُ: وفِي زمننا هَذَا موجود فِي كثير من أقطار الأرض مسلمون ينوع عَلَيْهمْ الْعَذَاب عشية وضحاها وبودهم لو ماتوا واستراحوا فالموت أحب إليهم من الذهب الأحمر، وَقَالَ طاووس: لا تحرز دين المرء إلا حفرته.
وروي أن ابن عباس قال لعمر رضي الله عنهما: أكثرت الدُّعَاء بالموت حتي خشيت أن يكون ذَلِكَ أسهل لك عِنْدَ أوان نزوله فلماذَا مللت أما تعين صَالِحاً أو تَقُوم فاسداً قال يا ابن عباس: إني قائل لك قولاً وَهُوَ إليك، قال: قُلْتُ لن يعدوني، قال: كيف لا أحب فراقهم وفيهم ناس كُلّ فاتح فيه للهوةٍ من الدُّنْيَا إما بحق لا ينوء به أو بباطل لا يناله ولولا أن أسأل عنهم لهربت منكم فأصبح الأرض مني بلاقع، وَاللهُ أَعْلم وصلي الله عَلَى مُحَمَّد.
(فَصْلٌ)
ومن كلام أَحَمَد بن عاصم الأنطاكي وكَانَ من كبار التابعين قال: إني أدركت من الأزمنة زمانَاً عاد فِيه الإسلام غريباً كما بدأ إن ترغب فِيه إلي عَالمٍ وجدته مفتوناً بحب الدُّنْيَا يحب التعَظِيم والرياسة، قُلْتُ: وما أكثره فِي زمننا فأمعن نظرك، قال: وإن ترغب فِيه إلي عابد وجدته جاهلاً فِي عبادته مخدوعاً صريعاً غدره إبلَيْس قَدْ صعد به إلي أعلا درجة العبادة وَهُوَ جاهل بأدناها فَكَيْفَ له بأعلاها.
وسائر ذَلِكَ من الرعاع همج عوج ذئاب مختلسة وسباع ضارية وثعالب ضوار هَذَا وصف عيون أَهْل زمانك من حملة العلم والقرآن ودعاة الحكمة، أخرجه أبو نعيم فِي الحلية، فهَذَا وصف أَهْل زمانه، فَكَيْفَ بما حدث بعده من العظائم والدواهي التي لم تخطر بباله ولم تدر فِي خياله من المنكرات.
وعن الحسن البصري أنه قال: لو أن رجلاً من الصدر الأول بعث الْيَوْم ما عرف من الإسلام شيئاً إلا تلك الصَّلاة. قُلْتُ: وفِي زمننا الصَّلاة
جسم بلا روح عِنْدَ كثير من البقايا المتمسكين بها فلا حول ولا قوة إلا بِاللهِ العَلَى العَظِيم وَهُوَ حسبنا ونعم الوكيل.
ثُمَّ قال: والَّذِي نفسي بيده لئن عاش عَلَى هذه المنكرات فرأي صَاحِب بدعة يدعو إلي بدعته وصَاحِب دنيا يدعو إلي دنياه فعصمه الله تعالى وجعل قَلْبهُ يحن إلي ذكر السَّلَف فيتبع آثارهم ويستن بسنتهم ويتبع سبيلهم كَانَ له أجر عَظِيم.
وَقَالَ عَلَى بن أبي طالب: تعلموا العلم تعرفوا به واعملوا به تكونوا من أهله فإنه سيأتي بعد زمان ينكر الحق فِيه سبعة أعشارهم.
وَقَالَ ابن مسعود: يوشك من عاش منكم أن يري منكراً لا يستطيع له غير أن يعلم الله من قَلْبهُ أنه له كاره. قُلْتُ: وقَدْ وقع شيء كثير فِي زمننا وقبله مثل الصور والتلفزيون والفيديو والمذياع والكورة والسفور وحلق اللحية والدخان.
…
لَقَدْ بَانَ لِلنَّاسِ الهُدَى غَيْرَ أنَّهُمْ
…
غَدَوْ ابِجَلا يِبْبِ الهَوَى قَدْ تَجْلْبَبُوْا
آخر:
…
اعْتَزِلْ أَهْلَ المَلَاهِيْ وَالكُرَةْ
…
وَاحْذَرِ الفِدْيُوْ وَتِلْفَازَ الضَّرِرْ
كم بِهَا قَدْ ضَاعَ عُمْرٌ يَا فَتَى
…
لَوْ صُرِفْ فِي طَاعَةٍ نِلْتَ الأجَرْ
وَقَالَ أبو الدرداء: لَوْ خرج إليكم رسول الله ? الْيَوْم ما عرف شيئاً مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ هُوَ وأصحابه إلا الصَّلاة، وعن ابن عباس قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: " من تمسك بسنتي عِنْدَ فساد أمتي فله أجرُ مائة شهيد " رواه البيهقي ورواه الطبراني من حديث أَبِي هُرَيْرَةِ إلا أنه قال: فله أجر شهيد.
وروي الترمذي عن أمية الشعباني قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني فقُلْتُ لم ما تصنع بهذه الآية قال: قُلْتُ: قول الله تعالى " يَا أيها الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكم أَنفُسَكم لَا يَضُرُّكم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ".
قال: أما وَاللهِ لَقَدْ سألت عنهَا خبيراً سألت عنهَا رسول الله ? فَقَالَ: بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن الْمُنْكَر حتي إِذَا رَأَيْت شحاً مطاعاً وهويً متبعاً ودنيا مؤثرةً وإعجابَ كُلّ ذي رأي برأيه فعَلَيْكَ بنفسك ودع عنكَ العوام.
فإن من ورائكم أياماً الصابر فيهن عَلَى دينه كالقابض عَلَى الجمر للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون كعملكم، قال الترمذي: عن ابن مبارك وزَادَ غَيْر عتبة أي الراوي وَهُوَ ابن حكيم خمسين رجلاً منكم، وروي الطبراني من حديث عتبة بن غزوان قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ? من ورائكم أيام الصبر المتمسك فيها يومئذ بمثل ما أنتم عَلَيْهِ كأجر خمسين منكم.
وَقَالَ ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ تعالى:
هَذَا ولِلْمُتَمَسِّكِيْنَ بسُنَّةِ الْـ
مُخْتَارِ عِنْدَ فَسَادِ ذِيْ الأزْمَانِ
أَجْرٌ عَظِيْمٌ لَيْسَ يَقْدُرُ قَدْرَهُ
إلا الَّذِي أَعْطَاهُ لِلإِنْسَانِ
فَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنٍ لَهُ
وَرَوَاهُ أَيْضاً أَحْمَدُ الشَّيْبَانِي
أَثَراً تَضَمَّنَ أَجرْ َخَمْسِيْنَ امْرأً
مِنْ صَحْبِ أَحْمَدَ خِيْرَةِ الرَّحْمنِ
إِسْنَادُهُ حَسَنٌ ومِصْدَاقٌ لَهُ
فِي مُسْلِمٍ فَأَفْهَمْهُ بِالإحْسَانِ
أَنَّ العِبَادَةَ وَقْتَ هَرْجٍ هِجْرَةٌ
حَقاً إِلى وَذَاكَ ذُوْ بُرْهَانِ
هَذَا فكم مِنْ هِجْرِةٍ لَكَ أَيُّهَا السّـ
سُنِّيُ بِالتَّحْقِيْقِ لَا بِأَمَانِ
.. هَذَا وَكم مِن هِجْرِةٍ لهُمْ بِمَا
قَالَ الرَّسُولُ وجَاءَ فِي القُرْآنِ
ولَقَدْ أَتَى مِصْدَاقُهُ فِي التِرْمِذِيُ
لِمَنْ لَهُ أُذَنَانِ وَاعِيَتَانِ
فِي أَجْرِ مُحْيِيْ سُنَّةً مَاتَتْ فَذَا
كَ مَعَ الرَّسُولِ لِمَنْ لَهُ عَيْنَانِ
تَشْبِيْهُ أُمَّتِهِ بِغَيْثٍ أوّلٍ
مِنْهُ وآخِرُهُ فَمُشْتَبِهَانِ
فَلِذَاكَ لَا يُدْرَي الَّذِي هُوَ مِنْهُمَا
قَدْ خُصَّ بِالتَّفْضِيْلِ والرُّجْحَانِ
ولَقَدْ أَتَى أَثَرٌ بِأَنَّ الْفَضْلَ فِي الـ
ـطَرَفَيْنِ أعَنِيْ أَوَّلاً والثَّانِي
والْوَسْطُ ذُوْ ثَبَجٍ فَاعْوَجَ هَكَذَا
جَاءَ الْحَدِيْثُ ولَيْسَ ذَا نُكْرَانِ
ولَقَدْ أَتَى فِي الوَحْيِ مِصْدَاقٌ لَهُ
فِي الثُلَّثَيْنِ وذَاكَ فِي القُرْآنِ
أَهْلُ اليَمِيْنِ فَثُلَّةٌ مَعَ مِثْلِهَا
والسَّابِقُوْنَ أَقَلُّ فِي الحُسْبَانِ
مَا ذَاكَ إلا أَنَّ تَابِعَهُمْ هُمُ الْـ
غُرَبَاءُ لَيْسَتْ غُرْبَةَ الأوْطَانِ
لَكِنَّهَا وَاللهِ غُرْبَةُ قَائِمِ
.. بِالدِّيْنِ بَيْنَ عَسَاكِرِ الشَّيْطَانِ
فَلِذَاكَ شَبَّهَهُمْ بِهِ مَتْبُوْعُهُمْ
فِي الغُرْبَتَيْنِ وَذَاكَ ذُوْ تِبْيَانِ
لم يُشْبِهُوْهُمْ فِي جَمِيْعِ أُمُوْرِهِمْ
مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَيْسَ يَسْتَوِيَانِ
فَانْظُرْ إِلى تَفْسِيْرِهِ الغُرَبَاءَ بِالْـ
مُحْبِيْنَ سُنَّتِهِ بِكُلِّ زَمَانِ
طُوْبَى لّهُمْ والشَّوْقُ يَحْدُوْهُمْ إِلى
أَخْذِ الْحَدِيْثِ وَمُحْكََمِ القُرْآنِ
طُوْبَى لّهُمْ لم يَعْبَؤُا بنُحَاتَةِ الْـ
أفْكَارِ أَوْ بِزُبَالَةِ الأذْهَانِ
طُوْبَى لهُمْ رَكِبُوا عَلَى مَتْنِ العَزَا
ثُمَّ قَاصِدِيْنَ لِمَطْلَعِ الإيمان
طُوْبَى لهُمْ لم يَعْبَؤُا شيئاً بِدَالْـ
أَراءِ إِذ أغْنَاهُمُ الوَحْيَانِ
طُوْبَى لهُمْ وإِمَامُهُمْ دُوْنَ الوَرَى
مَنْ جَاءَ بِالإيمان والفُرْقَانِ
وَاللهِ مَا ائْتَمُّوْا بِشَخْصٍ دُوْنَهُ
إلا إِذَا مَا دَلَّهُمْ بِبَيَانِ
فِي الْبَابِ آثَارٌ عَظِيْمٌ شَأْنُهَا
أَعْيَتْ عَلَى العُلَمَاءِ فِي الأزْمَانِ
.. إِذْ أَجْمَعَ العُلَمَاءُ أَنَّ صَحَابَةَ الـ
مُخْتَارِ خَيْرُ طَوَائِفِ الإنسان
ذَا بِالضَّرُوْرَةِ لَيْسَ فِيه الخُلْفُ بَيْـ
نَ اِثْنَيْنِ مَا حُكِيَتْ بِهِ قَوْلَانِ
فَلِذَاكَ ذِي الأثَارِ أَعْضَلَ أَمْرُهَا
وَبَغَوْا لَهَا التَّفْسِيْرَ بِالإحْسَانِ
فَاسْمَعْ إِذَا تَأْوِيْلَهَا وافْهَمْهُ لَا
تَعْجَلْ بِرَدٍّ مِنْكَ أَوْ نُكْرَانِ
إِنَّ البِدَارَ بِرَدِّ شَيْءٍ لم تُحِطْ
عِلْماً بِهِ سَبَبٌ إَلى الحِرْمَانِ
وَالفَضْلُ مِنْهُ مُطْلَقٌ وَمُقَيَّدُ
وَهُمَا لأَهْلِ الفَضْلِ مَرْتَبَتَانِ
وَالفَضْلُ ذُوْ التَقْيِيْدِ لَيْسَ بِمُوْجِبِ
فَضْلاً عَلَى الإطْلَاقِ مِنْ إِنْسَانِ
لَا يُوْجِبُ التَقْيِيْدُ أَنْ يَقْضِي لَهُ
بِالاسْتِوَاءِ فَكَيْفَ بِالرُّجْحَانِ
إِذْ كَانَ ذُوْ الإطْلَاقِ حَازَ مِنْ الفَضَا
ئِلِ فَوْقَ ذِي التَّقْيِيْدِ بِالإحْسَانِ
فَإِذَا فَرَضْنَا وَاحِداً قَدْ حَازَ نَوْ
عَاً لم يَحُزْهُ فَاضِلُ الإنسان
لم يُوْجِبِ التَّخْصِيْصُ مِنْ فَضْلِ عَلَيْـ
.. ـهِ وَلَا مُسَاوَاةٍ وَلَا نُقْصَانِ
مَا خَلْقُ آدَمَ بِاليَدِيْنِ بِمُوْجِبٍ
فَضْلاً عَلَى المَبْعُوْثِ بِالقُرْآنِ
وَكَذَا خَصَائِصُ مَنْ أَتَى مِنْ بَعْدِهِ
مِنْ كُلِّ رُسْلِ اللهِ بِالبُرْهَانِ
فَمُحَمَّدٌ أَعْلَاهُمُ فَوْقاً وَمَا
حَكمتَ لَهُمْ بِمَزِيَّةِ الرُّجْحَانِ
فَالحَائِزُ الخَمْسِيْنَ أَجْراً لم يَحُزْ
هَا فِي جَمِْيعِ شَرَائِعِ الإيمان
هَلْ حَازَهَا إِذْ كَانَ قَدْ عَدِمَ المُعِيْـ
نَ وَهُمْ فَقَدْ كَانُوْا أْولِي أَعْوَانِ
والرَّبُ لَيْسَ يُضِيْعُ مَا يَتَحَمَّلُ الْـ
مُتَحَمَّلُونَ لأَجْلِهِ مِنْ شَانِ
فَتَحَمُّلِ الْعَبْد الوَحْيِدِ رِضَاهُ مَعْ
فَيْضِ الْعَدُوِّ وَقِلَّةِ الأعْوَانِ
مِمَّا يَدُلَّ عَلَى يَقِيْنٍ صَادِقٍ
وَمَحَبَّةٍ وحَقِيْقَةِ العِرْفَانِ
يَكْفِيه ذُلاً وَاغْتِرَاباً قِلَّةُ الْـ
أَنْصَارِ بَيْنَ عَسَاكِرِ الشَّيْطَانِ
فِي كُلّ يَوْمٍ فِرْقَةٌ تَغْزُوْهُ إِنْ
تَرْجِعْ يُوَافِيه الفَرِيْقُ الثَّانِي
.. فَسَلِ الغَرِيْبَ المُسْتَضَامَ عن الّذِيْ
يَلْقَاهُ بَيْنَ عِدَى بِلا حُسْبَانِ
هَذَا وقَدْ بَعُدَ المَدَى وَتَطَاوَلْ الْـ
عَهْدُ الَّذِي هُوَ مُوْجِبُ الإحْسَانِ
ولِذَاكَ كَانَ كَقَابِضٍ جَمْراً فَسَلْ
أَحْشَاءَهُ عن حَرِّ ذِيْ النِيْرَانِ
وَاللهُ أَعْلم بالَّذِي فِي قَلْبهُ
يَكْفِيه عِلْمُ الوَاحِدِ المَنَانِ
فِي الْقَلْبِ أَمْرٌ لَيْسَ يَقْدُرُ قَدْرَهُ
إلا الَّذِي آتَاهُ لِلإِنْسَانِ
بِرٌ وَتَوْحِيْدٌ وَصَبْرٌ مَعَ رِضَا
وَالشُّكْرُ والتَّحْكِيْمُ لِلْقُرْآنِ
سُبْحَانَ قَاسِمِ فَضْلِهِ بَيْنَ العِبَا
دِ فَذَاكَ مُوْلِ الفَضْلِ والإحْسَانِ
فَالفَضْلُ عِنْدَ اللهِ لَيْسَ بِصُوْرَةِ الْـ
أَعْمَالِ بَلْ بِحَقَائِقِ الإيمان
وَتَفَاضُلُ الأعمال يَتْبَعُ مَا يَقُوْ
مُ بِقَلْبِ صَاحِبَِِهَا مِنْ البُرْهَانِ
حَتَّى يَكُونَ العَامِلَانِ كِلَاهُمَا
فِي رُتْبَةٍ تَبْدُوْ لَنَا بِعِيَانِ
هَذَا وبَيَنْهُمَا كَمَا بَيْنَ السَّمَا
.. والأرض فِي فَضْلٍ وفِي رُجْحَانِ
وَيَكُونُ بَيْنَ ثَوَابِ ذَا وَثَوَابِ ذَا
رُتَبٌ مُضَاعَفَةٌ بِلا حُسْبَانِ
هَذَا عَطَاءُ الرَّبِ جل جلاله
وَبِذَاكَ تُعْرَفُ حِكْمَةُ الرَّحْمنِ
…
>?
وَاللهُ أَعْلم وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آله وصحبه وسلم.
" موعظة "
عِبَادَ اللهِ إن لكم بأبدانكم عناية عظيمة لا تساميها العنايات بل كُلّ حياتكم ذاهبة فيما تبذلونه لخدمة هَذَا البدن من مجهودات ألَيْسَ ليلكمْ ونهاركمْ فِي كد مديم لجمع الأموال وهل كُلّ تلك الأموال إلا وسيلة تصلون بِهَا ما لهَذَا البدن من ملذوذات.
لا بأس بالاعتناء بالبدن لكن بدون هَذَا الإفراط الَّذِي لا يرتضيه العاقل اللبيب لأن البدن مهما أكرم ماله إلي التُّرَاب تتمتع بلذيذ لحمه الديدان والَّذِي ينبغي أن تهتم به وتصرف عنايتك به نفسك قبل جسمك التي أَنْتَ بِهَا من صفوة هَذَا العَالم وعَلَى العناية بِهَا تتوقف سعادتك فِي هذه الحياة وبعد الْمَمَات.
ولهذه النفس غذاء ولعلك تود أن تعرفه وَهُوَ جدير بالاعتناء منك والتقدير والجد لَهُ والتشمير لأن منفعته دنيا وأخرى ولا نسبةَ بينها وبين منفعة هذه الأبدان.
ذَلِكَ الغذاء أو القوت هُوَ أنواع الطاعات كإخلاص الأعمال لله
والذكر لَهُ وَالشُّكْر لَهُ ومحبته وتعظيمه والقيام التام بأركَان الإسلام الشهادتين والصَّلاة والزَّكَاة والصيام والحج وسائر الباقيات الصالحات وأنواع العلوم والمعارف أوحاها الله وأودعها هذه المصنوعات.
والاعتناء بمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم وما إلي ذَلِكَ من أنواع القربات والَّذِي يظهر لنا من حالك وسيرتك أنك فِي شغل شاغل عن الإقبال عَلَى النفس وتغذيتها بما قلنا من أنواع الطاعات ذَلِكَ أن قلبك متعلق بتحصيل غذاء الجسم والاعتناء به فهو الَّذِي نصب عينيك.
ولذَلِكَ تشب وتشيب وتموت وأَنْتَ جاهل بضروريات الدين الإسلامي وَرُبَّمَا مر عَلَيْكَ مدة طويلة بدون أن تتفكَّرَ بنعم الله وتذكره بلسانك وتشكره عَلَى ما أولاك وكَذَلِكَ الآخرة ربما أنها تمضي المدة ولا تذكرها ولا تستعد لها.
وكما أن للأبدان أمراض كثيرة فللنفس أمراض أكثر وأعظم وأخطر وتلك الأمراض هِيَ السيئات التي من وقيها رحم قال الله تعالى: " وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم ".
وكَذَلِكَ من أمراض النفس رذائل الأخلاق والجهل بالشرع الحكيم ولهذه الأمراض دواء نافع بإذن الله أن تتوب توبة نصوحاً إلي الله وتتخلق بضد الْفِعْل أو الخلق الذميم فهل لك شوق إلي هَذَا الدواء الشافِي بإذن الله كما أنك تشتاق بل تهرول وتسرع إلي طبيب الأبدان ومعك ما معك من الْمَال إِذَا أحسست بمرض فِي بدنك وإن لم تجد فِي بلادك ذهبت تطلب الشفاء ولَوْ فِي بلاد الحرية والكفر محكمة القوانين أعداء الله ورسوله والْمُؤْمِنِين.
أما بديع السموات والأرض فلا أراك تلتجي لَهُ إلا عِنْدَ الشدائد وهَذَا وَاللهِ قبيح ممن يدين بدين الإسلام يؤمن بالبعث والنشور، فالتفت يا أخي لنفسك وذكرها بنعم الله عَلَيْكَ لتتمكن محبته وأقبل عَلَيْهَا وعودها عَلَى الآداب الشرعية.
شِعْراً:
…
يَا خَادِمَ الجِسْمِ كم تَسْعَى لِخِدْمَتِهِ
أَتَطْلُبُ الرِّبْحَ مِمَّا فِيه خُسْرَانُ
أَقْبِلْ عَلَى النَّفَسِ واسْتَكْمِلْ فَضَائِلَهَا
فأَنْتَ بِالنَّفْسِ لَا بِالجِسْمِ إِنْسِانُ
…
>?
آخر:
…
أَرَى وُجُوْدَكَ هَذَا لم يَكُنْ عَبَثاً
إلا لِتَكْمُلَ مِنْكَ النَّفْسُ فَانْتَبِهِ
فَاعْدِلْ عن الجِسْمِ لَا تُقْبِلْ عَلَيْهِ وَمِلْ
إِلى رِعَايَةِ مَا الإنسان أَنْتَ بِهِ
فَمُؤْيِسُ النَّفْسِ عن أَهْوَائِهَا يَقِظٌ
وَمُطْوِعُ النَّفْسِ فِيه غَيْرَ مُنْتَبِهِ
واسْلُكْ سَبِيْلَ الهُدَى تَحْمِدْ مَغَبَّتَهُ
فَمَنْهَجُ الحَقِّ بَادٍ غَيْرَ مُشْتَبِهِ
…
>?
إِذَا فهمت ذَلِكَ فاعْلم أن غذاء نفسك ودوائها عِنْدَ أَهْل العلم العاملين به الَّذِينَ يصدقون أقوالهم بأفعالهم المعظمون للشريعة الَّذِينَ إِذَا رأيتهم ذكرت الله الَّذِينَ لا يتشبهون بأعداء الله ولا يجاهرون بالمعاصي الصادعون بالحق الَّذِينَ لا تأخذهم فِي الله لومة لائمٍ الَّذِينَ لا تهمهم الدُّنْيَا وزخارفها البراقة.
وكَذَلِكَ موجود الدواء الَّذِي ذكرنا فِي كتب العلماء السلفيين أتباع الصحابة والتابعين كالائمة الأربعة والموفق وابن أبي عمر وشيخ الإسلام وابن القيم وابن رجب وابن مفلح وابن كثير ومن تتلمذ عَلَى كتبهم ممن جَاءَ بعدهم واقتفي أثرهم وسار عَلى نهجهم فجزاهم الله عن الإسلام والمُسْلِمِيْنَ خيراً.
شِعْراً:
…
عِلْمُ الْحَدِيثِ أَجَلَّ السُؤْالِ والوَطَرِ
…
فَاقّطَعْ بِهِ العَيْشَ تَعْرِفْ لَذَّةَ العُمُرِ
وانْقُلْ رِحَالَكَ عن مَغْنَاكَ مُرْتَحِلاً
…
لِكَي تَفُوْزَ بِنَقْلِ العِلْمِ والأثَرِ
وَلَا تَقُلْ: عَاقَنِي شُغْلٌ فلَيْسَ يًرَى
…
فِي التَّرْكِ لِلعِلْمِ مِنْ عُذَرٍ لِمُعْتَذِرِ
وَأَيُ شُغْلٍ كَمِثْلِ العِلْمِ تَطْلُبُهُ
…
وَنَقْلِ مَا قَدْ رَوَوْا عن سَيِدِ البَشَرِ؟
ألْهَىْ عن العِلْمِ أَقْوَاماً تَطْلُبُهُمْ
…
لَذّاتِ دُنْياً غَدَوْا مِنْهَا عَلَى غَرَرِ
وَخَلَفُوا مَالَهُ حَظٌ وَمَكْرُمَةٌ
…
إِلى الَّتِي هُيَ دَأْبُ الهُونِ والخَطَرِ
وأَيُ فَخْرٍ بِدُنْيَاهُ لَا بَقَاءَ لَهَا
…
وَبِالعَفَافِ وَكَسْبِ العِلْمِ فَافْتَخِرِ
يَفْنَى الرِّجَالُ وَيَبْقَى عِلْمُهُمْ لَهُمُ
…
ذِكْراً يُجَّدِدُ فِي الآصَالِ والبُكُرِ
وَيَذْهَبُ المَوُتَ بِالدُّنْيَا وَصَاحِبِهَا
…
ولَيْسَ يَبْقَى لَهُ فِي النَّاسِ مِنْ أَثَرِ
تَظُنُّ أَنَّكَ بالدُّنْيَا أَخُوُ كِبَرٍ
…
وأَنْتَ بِالجَهْلِ قَدْ أَصْبَحْتَ ذَا صِغَرِ
لَيْسَ الكَبْيِرُ عَظِيْمُ القَدْرِ غَيْرَ فَتَى
…
مَا زَالَ بَالعِلْمِ مَشْغُولاً مَدَى العُمُرِ
قَدْ زَاحَمَتْ رُكْبَتَاهُ كُلُّ ذِي شَرَفٍ
…
فِي العِلْمِ والحِلْمِ لَا فِي الفَخْرِ والبَطَرِ
فَجَالِسِ العُلًماءِ المُقْتَدَى بِهِمُ
…
تَسْتَجْلِبِ النَفْعَ أَوْ تَأمَنْ مِنَ الضَّرَرِ
هُمْ سَادَةُ النَّاسِ حَقاً وَالجُلُوسُ لَهُمْ
…
زِيَادَةٌ هَكَذَا قَدْ جَاءَ فِي الخَبَرِ
والمَرْءُ يَحْسَبُ مِنْ قَوْمٍ يُصَاحِبُهُمْ
…
فَارْكَنْ إِلى كُلِّ صَافِي العِرْضَ عن كَدَرِ
فَمَنْ يُجَالِسْ كَرِيْماً نَالَ مَكَرْمَةً
…
ولم يَشِنْ عِرضَهُ شَيْءٌ مِنْ الغِيْر
كصَاحِبِ العِطْرِ إِنْ لم تَسْتَفِدْ هِبَةً
…
مِنْ عِطْرِهِ لم تَخِبْ مِنْ رِيْحِهِ العَطِرِ
وَمَنْ يُجَالِسْ رَدِيءَ الطَّبْعِ يُرْدِ بِهِ
…
ونَالَهُ دَنَسٌ مِنْ عِرْضِهِ الكَدِرِ
كصَاحِبِ الكِيْرِ إِنْ يَسْلم مُجَالِسُهُ
…
مِنْ نَتْنِهِ لم يُوَقَّ الحَرْقَ بِالشَّرَرِ
وَكُلُ مَنْ لَيْسَ يَنْهِاهُ الحَيَاءُ وَلَا
…
تَقْوَى فَخَفْ كُلَّ قُبْحٍ مِنْهُ وانْتَظِرِ
وَالنَّاسُ أخْلَاقُهُمُ شَتَّى وَأَنْفُسُهُمْ
…
مِنْهُمْ بَصِيرُ وَمِنْهُمْ مُخْطِئُ النَّظَرِ
وَأَصُوْبُ النَّاسِ رَأْياً مَنْ تَصَرُّفُهُ
…
فِي مَا بِهِ شَرَفُ الألْبَابِ وَالفِكَرِ
وَارْكَنْ إِلى كُلِّ مَنْ فِي وِدِّهِ شَرَفٌ
…
مِنْ نَابِهِ القَدْرِ بَيْنَ النَّاسِ مُشْتَهِرِ
فَالمَرْءُ يَشْرُفُ بِالأخْيَارِ يَصْحَبُهُمْ
…
وَإِنْ يَكُنْ قَبْلُ شيئاً غَيْرَ مُعْتَبَرِ
إِنَّ العَقْيِقَ لَيَسُمْوُ عِنْدَ نَاظِرِهِ
…
إِذَا بَدَا وَهُوَ مَنْظُومُ مَعَ الدُّرَرِ
والمَرْءُ يَخْبُثُ بِالأشْْرَارِ يَألَفُهُمْ
…
وَلَوْ غَدَا حَسَنَ الأخلاق وَالسِّيَرِ
فَالمَاءُ صَفْوٌ طَهُورٌ فِي أَصَالَتِهِ
…
حَتَى يُجَاوِرَهُ شَيْءٌ مِنْ الكَدَرِ
فَكُنْ بِصَحْبِ رَسُولِ اللهِ مُقْتَدياً
…
فَإنهُمْ لِلّهُدَى كَالأنْجُمِ الزُّهُرِ
وَإِنْ عَجَزْتَ عن الحَدِ الَّذِي سَلَكُوا
…
فَكُنْ عن الحُبِ فِيهمْ غَيْرَ مُقْتَصِرٍ
وَالحَقْ بِقَوْمٍ إِذَا لَاحَتْ وُجُوهُهُمُ
…
رَأْيْتَهَا مِنْ سَنَا التَّوْفِيقِ كَالقَمَرِ
أضْحَوْا مِنَ السَنَةِ العَلْيَاءِ فِي سَنَنِ
…
سَهْلٍ وَقَامُوْا بِحِفْظِ الدِّيْنِ وَالأثَرِ
أَجَلُّ شَيْءٍ لَدَيْهِمْ: قَالَ أَخْبَرَنَا
…
عن الرَّسُولِ بِمَا قَدْ صَحَّ مِنْ خَبَرِ
هَذِي المَكَارِمُ لَا قَعْبَانِ مِنْ لَبَنِ
…
وَلَا التَّمَتُعَ بِاللَّذَاتِ وَالأشَرِ
لَا شَيْءَ أَحْسَنَ مِنْ: قَالَ لِرَّسُوُل وَمَا
…
أَجَلٌّ مِنْ سَنَدٍ عن كُلِّ مُشْتَهِرِ
وَمَجْلِسٍ بَيْنَ أَهْلِ العِلْمِ جَادَ بِمَا
…
حَلَا مِنَ الدُرِ أَوْ حُلّيٌ مِنَ الدُّرَرِ
يَوْمٌ يَمُرُّ وَلم أَرْوِ الْحَدِيثَ بِهِ
…
فَلَسْتَ أَحْسِبُ ذَاكَ الْيَوْمَ مِنْ عُمُرِي
فَإِنَّ فِي دَرْسِ أَخْبَارِ الرَّسُولِ لَنَا
…
تَمَتُّعاً فِي رِيَاضِ الْجَنَةِ الخُضُرِ
.. تَعَلُلاً إِذْ عَدِمْنَا طِيْبَ رُؤْيَتِهِ
…
مَنْ فَاتَهُ العَيْنُ هَدّا الشَوْقَ بِالأثَرِ
كَأَنَهُ بَيْنَ ظَهْرِيْنَا نُشَاهِدُهُ
…
فِي مَجْلِسِ الدَّرْسِ بِالآصَالِ وَالبُكُرِ
زَيْنُ النُبُوَةِ عَيْنُ الرُّسْلِ خَاتِمُهُمْ
…
بَعْثاً وَأَوّلُهُمْ فِي سَابِقِ القَدَرِ
صَلَى عَلَيْهِ إِلَهُ العَرْشِ ثُمَّ عَلَى
…
أشْيَاعِهِ مَا جَرَى طَلِّ عَلَى زَهَرِ
مَعَ السَّلامِ دَوَماً والرِّضَا أَبَداً
…
عن صَحْبِهِ الأكْرمِيْنَ الأنْجُمِ الزُّهُرِ
وعن عَبِيْدِكَ نَحْنُ المُذْنِبِيْنَ فَجُدْ
…
بِالأمْنِ مِنْ كُلِّ مَا نَخْشَاهُ مِنْ ضَرَرِ
وَتُبْ عَلَى الكُلِّ مِنَا واعْطِنَا كَرَماً
…
دُنْيا وأُخْرَى جَمِيْعَ السُؤْلِ وَالوَطَرِ
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ محبتك فِي قلوبنا وقوها ووفقنا لشكرك وذكرك وارزقنا التأهب والاستعداد للقائك واجعل ختام صحائفنا كلمة التَّوْحِيد وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
قال ابن رجب رحمه الله: عَلَى حديث ابن عباس المتضمن لوصية النَّبِيّ ? فإنه تضمن وصايا عظيمة وقواعد كلية من أهم أمور الدين وأجلها حتي قال الإمام أبو الفرج ابن الجوزي فِي كتابه صيد الخاطر: تدبرت هَذَا الْحَدِيث فأدهشني وكدت أطيش ثُمَّ قال فوا أسفاً من الجهل بهَذَا الْحَدِيث وقلة الفهم لمعناه.
فقوله ?: " احفظ الله: يحفظك يعني احفظ حدود الله وحقوقه وأوامره ونواهيه، وحفظ ذَلِكَ هُوَ الوقوف عِنْدَ أوامره بالامتثال وعِنْدَ نواهيه بالاجتناب وعِنْدَ حدوده فلا يتجاوز ولا يتعدي ما أمر به إلي ما نهي عنهُ ".
ودخل فِي ذَلِكَ فعل الواجبات جميعاً وترك المحرمَاتَ كُلّهَا كما فِي حديث ثعلبة المرفوع: " إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحرم حرمَاتَ فلا تنتهكوها وحد حدوداً فلا تعتدوها ". وَذَلِكَ يدخل فِي حفظ حدود الله كما ذكره الله تعالى فِي قوله: " والحافظون لحدود الله " وَقَالَ تعالى: " هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ، مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنِ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ ".
وفسر الحفيظ هاهنا بالحافظ لأوامر الله وفسر بالحافظ لذنوبه حتي يرجع منها، وكلاهما يدخل فِي الآية. ومن حفظ وصية الله لعباده وامتثلها فهو داخل أيضاً، والكل يرجع إلي معني واحد.
وقَدْ ورد فِي بعض ألفاظ حديث يوم المزيد فِي الْجَنَّة، إن الله تعالى يَقُولُ لأَهْل الْجَنَّة إِذَا استدعاهم لزيارته وكشف لهُمْ الحجاب:" مرحباً بعبادي الَّذِينَ حفظوا وصيتي ورعوا عهدي وخافوني بالغيب وكَانُوا مني عَلَى كُلّ حال مشفقين ".
فأمره ? لابن عباس أن يحفظ الله يدخل فِيه هَذَا كله. ومن أعظم ما يجب حفظه من المأمورات الصلوات الخمس، قال الله تعالى:" وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ".
وَقَالَ ?: " من حافظ عَلَيْهَا كَانَ لَهُ عِنْدَ الله عهدٌ أن يدخله الْجَنَّة ".
وفِي حديث آخر: " من حافظ عليهن كن نوراً وبرهانَاً ونجاةً يوم القيامة " وكَذَلِكَ الطهارة فإنها مفتاح الصَّلاة.
وَقَالَ النَّبِيّ ?: " لا يحافظ عَلَى الوضوء إلا مُؤْمِنٌ فإن الْعَبْد تنتفض طهارته ولا يعلم بذَلِكَ إلا الله، فالمحافظة عَلَى الوضوء للصلاة دَلِيل عَلَى ثبوت الإيمان فِي الْقَلْب.
ومِمَّا أمر الله بحفظه الإيمان لما ذكره كفارة اليمين قال: " ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكم إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكم ". فإن الإيمان كثيراً ما تقع من النَّاس وموجباتها مختلفة.
فتَارة يجب بِهَا كفارة يمين وتَارة يجب فيها كفارة مغلظة وتَارة يلزم بِهَا
المحلوف عَلَيْهِ من طلاق ونحوه. فمن حفظ أيمانه دل عَلَى دخول الإيمان فِي قَلْبهِ.
وكَانَ السَّلَف كثيراً ما يحافظون عَلَى الأيمان فمِنْهُمْ من كَانَ لا يحلف بِاللهِ البتة. وَمِنْهُمْ من كَانَ يتورع حتي يكفر فيما شك فِيه الحنث.
ووصي الإمام أَحَمَد رحمه الله عِنْدَ موته أن يخرجَ عنهُ كفارة يمين.
وَقَالَ أظن أني حنثت فِي يمين حلفتها. وقَدْ روى عن أيوب عليه السلام: أنه كَانَ إِذَا مر باثنين يحلفان بِاللهِ ذهب فكفر عنهما يمينهما لئلا يأثمان وهما لا يشعران.
ولهَذَا لما حلف عَلَى ضرب امرأته مائة جلدة أفتاه الله بالرخصة لحفظه لأيمانه وأيمان غيره. وقَدْ اختلف العِلماء هل تتعدي الرخصة إلي غيره أم لا؟
وَقَالَ يزيد بن حبيب: بلغني أن من حملة العرش من يسيل من عينيه أمثال الأنهار من البُكَاء فإِذَا رفع رأسه قال: سبحانك ما تخشي حق خشيتك فَيَقُولُ الله تعالى: " لكن الَّذِينَ يحلفون باسمي كاذبين لا يعلمون ذَلِكَ " وقَدْ ورد التشديد العَظِيم فِي الحلف الكاذب بِاللهِ.
ولا يصدر كثرة الحلف بِاللهِ إلا من الجهل بِاللهِ تعالى وقلة هيبةٍ فِي الصدور. ومِمَّا يلزم المُؤْمِن حفظه رأسه وبطنه كما فِي حديث ابن مسعود رضي الله عنه المرفوع: " الاستحياء من الله حق الحياء أن يحفظ الرأس ما وعي ويحفظ البطن وما حوي " أخرجه الإمام أَحمَدُ والترمذي. وحفظ البطن وما حوى يتضمن حفظ الْقَلْبِ عن الإصرار عَلَى محرم.
وقَدْ جمَعَ الله ذَلِكَ كله فِي قوله تعالى: " إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلّ أُولئِكَ كَانَ عنهُ مَسْؤُولاً ". ويدخل فِي حفظ البطن وما حوي حفظه من إدخال الحرام إليه من المأكولات والمشروبات.
اللَّهُمَّ طهر قلوبنا من النفاق وعملنا منَ الرياء وألسنتنا من الكذب وأعيننا من الخيانة وآذَاننا عن الاستماع إلي ما لا يرضيك وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
وَقَالَ رحمه الله: ومِمَّا يجب حفظه من المنهيات حفظ اللسان والفرج.
وفِي حديث أَبِي هُرَيْرَةِ رضي الله عنه: " من حفظ ما بين لحييه وما بين رجليه دخل الْجَنَّة " أخرجه الحاكَم، وأخرجه البخاري من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه عن النَّبِيّ ? ولفظه:" من يضمن لي ما بين لحييه ورجليه أضمن لَهُ الْجَنَّة ".
وفِي مسند الإمام أَحَمَد عن أبي موسي عن النَّبِيّ ? قال: " من حفظ ما بين فقميه وفرجه دخل الْجَنَّة ". وقَدْ أمر الله بحفظ الفرج خاصة ومدح الحافظين قال الله تعالى: " قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ "، وَقَالَ:" والحافظين فروجهم والحافظات " وَقَالَ تعالى: " وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَأنهُمْ فَإنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ "
وقَدْ روى عن أبي إدريس الخولاني: أن أول ما وصى الله به آدم عِنْدَ إهباطه إلي الأرض بحفظ فرجه وأن لا يضعه إلا فِي حلال.
قوله: " بحفظك " يعني: أن من حفظ حدود الله وراعي حقوقه حفظه الله فإن الجزاء من جنس الْعَمَل كما قال تعالى: " وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكم " وَقَالَ: " فاذكروني أذكركمْ ".
وَقَالَ: " إن تنصروا الله ينصركم ". وحفظ الله تعالى لعبده يتضمن نوعين: أحدهما حفظه لَهُ فِي مصالح دنياه كحفظه فِي بدنه وولده وأهله وماله.
وفِي حديث ابن عمرو رضي الله عنهما قال: لم يكن رسول الله ? يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح: " اللَّهُمَّ إني أسألك العافية فِي الدُّنْيَا والآخرة، اللَّهُمَّ إني أسألك العفو والعافية فِي ديني ودنياي وآخرتي وأهلي ومالي، اللَّهُمَّ استر عوراتي وآمن روعاتي واحفظني من بين يدي ومن خلفِي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي ". أخرجه الإمام أَحَمَدُ وَأَبُو دَاود والنسائي وابن ماجة.
وهَذَا الدُّعَاء منتزع من قول الله تعالى: " لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ " الآية. قال ابن عباس رضي الله عنهما: هم الملائكة يحفظونه بأمر الله فإِذَا جَاءَ القدر خلوا عنهُ. وَقَالَ عَلَى رضي الله عنه: إن مَعَ كُل رجل ملكين يحفظانه مِمَّا لم يقدر فإِذَا جَاءَ القدر خليا بينه وبينه وإن الأجل جنة حصينة.
وَقَالَ مجاهد: ما من عبد إلا لَهُ ملك يحفظه فِي نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام فما من شَيْء يأتيه إلا قال وراءك إلا شيئاً قَدْ أذن الله فِيه فيصيبه. ومن حفظ الله للعبد أن يحفظه فِي صحة بدنه وقوته وعقله وماله.
قال بعض السَّلَف: العَالِم لا يحزن، وَقَالَ بَعْضهمْ: مَن حفِظَ القرآنَ
متع بعقله، وتأول ذَلِكَ بَعْضهمْ عَلَى قوله:(ثُمَّ رددناه أسفل سافلين إلا الَّذِينَ آمنوا وعملوا الصالحات) .
وكَانَ الطيب أبو الطبري قَدْ جاوز المائة سنة وَهُوَ ممتع بعقله وقوته فوثب يوماً من سفينة كَانَ فيها إلي الأرض وثبة شديدة فعوتب عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ: هذه جوارح حفظناها فِي الصغر فحفظها الله عَلَيْنَا فِي الكبر.
وعكس هَذَا أن الجنيد رأي شيخاً يسأل النَّاس فَقَالَ: إن هَذَا ضيع الله فِي صغره فضيعه الله فِي كبره. وقَدْ يحفظ الله الْعَبْد بصلاحه فِي ولده وولد ولده كما قيل فِي قوله تعالى: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً} إنهما حفظا بصلاح أبيهما.
وَقَالَ مُحَمَّد بن المنكدر إن الله ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده وقريته التي هُوَ فيها والدويرات التي حولها فما يزالون فِي حفظ الله وستره. وَاللهُ أَعْلم وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
وَقَالَ رحمه الله:
ومتي كَانَ الْعَبْد منشغلاً بطاعة الله تعالى يحفظه فِي تلك الحال كما فِي مسند الإمام أَحمَد عن حميد بن هلال عن رجل قال: أتيت النَّبِيّ ? فإِذَا هُوَ برَبِّي بيتنا فَقَالَ: " إن امرأة كانت فِيه فخرجت فِي سرية من المُسْلِمِيْنَ وتركت ثنتي عشرة عنزاً وصيصيتها قال: ففقدت عنزاً وصيصيتها كانت تنسج بها.
فقَالَتْ: يا رب إنك قَدْ ضمنت لمن خرج فِي سبيلك أن تحفظ عَلَيْهِ ولأني قَدْ فقدت عنزاً من غنمي وصيصيتي وإني أنشدك عنزي وصيصيتي وإني أنشدك عنزي وصيصيتي.
قال: فجعل رسول الله ? يذكر شدة مناشدتها ربِهَا تبارك وتعالى. قَالَ رَسُولُ اللهِ ? ": فأصبحت عنزها ومثلها وصيصيتها ومثلها وهاتيك فأتها إن شئت " قال: فقُلْتُ بل أصدقك.
وكَانَ بعض السَّلَف بيده الميزان يزن به دراهم فسمَعَ الآذَان فنهض ونفضها عَلَى الأرض وذهب إلي الصَّلاة فَلَمَّا عاد جمعها فلم يذهب منها شيء.
ومن أنواع حفظ الله لمن حفظه فِي دنياه أن يحفظه من كُلّ شر كُلّ من يريده بأذي من الجن والإنس كما قال تعالى: (ومن يتق الله يجعل لَهُ مخرجاً) قَالَتْ عَائِشَة رضي الله عنها: يكفِيه غم الدُّنْيَا وهمها.
وَقَالَ الربيع بن خيثم: يجعل لَهُ مخرجاً من كُل ما ضاق عَلَى الناس. وكتبت عَائِشَة رضي الله عنها إلي معاوية: إن اتقيت الله كفاك الناس. وإن اتقيت النَّاس لم يغنوا عنكَ من الله شيئاً.
وكتب بعض الخلفاء إلي عمرو الغفاري كتاباً يأمره فِيه بأمرٍ يخالف كتاب الله، فكتب إليه: إني نظرت فِي كتاب الله فوجدته قبل كتاب أمير الْمُؤْمِنِين وإن السماوات والأرض لَوْ كانتا رتقاً عَلَى امرء فاتقي الله عز وجل جعل لَهُ مخرجاً والسلام. وأنشد بَعْضهمْ: بتقوي الإلَه نجا من نجا.
كتب بعض السَّلَف إلي أخيه: أما بعد فإنه من اتقي الله فقَدْ حفظ نَفْسه ومن ضيع تقواه فقَدْ ضيع نَفْسهُ والله الغني عنه.
شِعْراً:
…
عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللهِ فِي كُلِّ حَالَةٍ
…
تَجِدْ نَفْعَهَا يَوْمَ الحِسَابِ المُطَوَّلِ
ألا إِنَّ تَقْوَى اللهِ خَيْرُ بِضَاعَةٍ
…
وَأَفْضَلُ زَادِ الضَّاعِنِ المُتَحَمِلِ
آخر:
…
وَلَا خَيْرَ فِي طُوْلِ الحَيَاةِ وعَيْشِهَا
…
إِذَا أَنْتَ مِنْهَا بِالتُّقَى لم تُزَوَّدِ
ومن عجيب حفظ الله لمن حفظه: أن يجعل الحيوانات المؤذية بِالطَّبْعِ حافظة لَهُ من الأذي وساعية فِي مصالحه كما جري لسفينة مولي النَّبِيّ ? حيث كسر به المركب وخرج إلي جزيرة فرأي السبع فَقَالَ: يا أبا الحارث أَنَا سفينة مولي النَّبِيّ ? فجعل يمشي حوله ويدله عَلَى الطَرِيق حتي أوقفه عَلَيْهَا ثُمَّ جعل يهمهم كأنه يودعه وانصرف عنه.
وكَانَ أبو إبراهيم السايح قَدْ مرض فِي برية بقرب دير فَقَالَ لَوْ كنت عِنْدَ باب الدير لنزل الرهبان فعالجوني. فَجَاءَ السبع فاحتمله عَلَى ظهره حتي وضعه عَلَى باب الدير فرآه الرهبان فأسلموا وكَانُوا أربعمائة.
وكَانَ إبراهيم بن أدهم نائماً فِي بستان وعنده حية فِي فمها طاقة نرجس فما زالت تذب عنهُ الذباب حتي استيقظ. فمن حفظ الله حفظه من الحيوانات المؤذية بِالطَّبْعِ وجعل تلك الحيوانات حافظة له.
ومن ضيع الله ضيعه بين خلقه حتي يدخل عَلَيْهِ الضَّرَر ممن كَانَ يرجو أن ينفعه ويصير أخص أهله به وأرفقهم به يؤذيه.
كما قال بَعْضهمْ: إني لأعصي الله فأعرف ذَلِكَ فِي خلق خادمي وحماري. يعني أن خادمه يسوء خلقه عَلَيْهِ ولا يطيعه وحماره يستعصي عَلَيْهِ فلا يواتيه لركوبه. فالْخَيْر كله مجموع فِي طاعة الله والإقبال عَلَيْهِ، والشر كله مجموع فِي معصية الله.
شِعْراً:
…
إِذَا انْتَسَبَ النَّاسُ كَانَ التَقيُّ
…
بِتَقْوَاهُ أَفْضَلَ مَنْ يَنْتَسِبُ
وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَكْسِبْ بِهِ
…
مِنَ الحَظِّ أَفْضَلَ مَا يُكْتَسَبُ
وَمَنْ يَتْخِذْ سَبَباً لِلنَّجَاةِ
…
فَإِنَّ تُقَى اللهِ خَيْرُ السَّبَبُ
اللَّهُمَّ نورقلوبنا بنور الإيمان وثبتها عَلَى قولك فِي الحياة الدُّنْيَا وفِي الآخرة وَاجْعَلْنَا هداة مهتدين وتوفنا مسلمين وألحقنا بعبادك الصالحين يا أكرم
الأكرمين ويا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
النوع الثاني من الحفظ وَهُوَ أشرفها وأفضلها: حفظ الله تعالى لعبده فِي دينه فيحفظ عَلَيْهِ دينه وإيمانه فِي حَيَاتهُ عن الشبهات المردية والبدع المضلة والشهوات المحرمة ويحفظ عَلَيْهِ دينه عِنْدَ موته فيتوفاه عَلَى الإسلام.
قال الحكم بن أبان عِنْدَ أبي مكي: إِذَا حضر الرجل الموت يُقَالُ للملك: شم رأسه، قال: أجد فِي رأسه القرآن، قال: شم قَلْبه، قال: أجد فِي قَلْبه الصيام، قال: شم قدميه، قال: أجد فِي قدميه القيام، قال: حفظ نَفْسه فحفظه الله عز وجل. أخرجه بن أبي الدنيا.
وقَدْ ثَبِّتْ فِي الصحيحين من حديث البراء بن عازب أن النَّبِيّ ? علمه أن يَقُولُ عِنْدَ منامه: "اللَّهُمَّ إن قبضت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين".
وفِي حديث عمر عن النَّبِيّ ? أنه علمه أن يَقُولُ: " اللَّهُمَّ احفظني بالإسلام قائماً واحفظني بالإسلام قاعداً واحفظني بالإسلام راقداً ولا تطع فِي عدواً ولا حاسداً " أخرجه ابن حبان فِي صحيحه.
وكَانَ النَّبِيّ ? إِذَا ودع من يريد السفر يَقُولُ لَهُ: " استودع الله دينك وأمانتك وخواتيم أعمالك ". وفِي رواية وكَانَ يَقُولُ: "إن الله إِذَا استودع شيئاً حفظه " أخرجه النسائي وغيره.
وأخرج الطبراني حديثاً مرفوعاً: "إن الْعَبْد إِذَا صلي الصَّلاة عَلَى وجهها صعدت إلي الله ولها برهان كبرهان الشمس وَتَقُول لصاحبِهَا: حفظك الله كما حفظتني، وإِذَا ضيعها لفت كما يلف الثوب الخلق ثم
يضرب بِهَا وجه صاحبِهَا وَتَقُول: ضيعك الله كما ضيعتني".
وكَانَ عمر رضي الله عنه يَقُولُ فِي خطبته: اللَّهُمَّ اعصمنا بحفظك وثبتنا عَلَى أمرك. ودعا رجل لبعض السَّلَف أن يحفظه الله. فَقَالَ: يا أخي لا تسألن عن الحفظ الدنيوي قَدْ يشترك فِيه البر والفاجر، فالله تعالى يحفظ عَلَى المُؤْمِن دينه وبين ما يفسده عَلَيْهِ بأسباب قَدْ لا يشعر بِهَا العبد.
وقَدْ يكون ما يكرهه وهَذَا كما حفظ يوسف عليه السلام قال تعالى: (كَذَلِكَ لنصرف عنهُ السُّوء والفحشاء) وعصمه الله منها من حيث لا يشعر وحال بينه وبين أسباب المعاصي المهلكة. كما رآي معروف الكرخي شباباً يتهاونون فِي الْخُرُوج إلي القتال فِي فتنة فَقَالَ: اللَّهُمَّ احفظهم فقيل لَهُ: تدعو لهؤلاء؟ فَقَالَ: إن حفظهم لم يخرجوا إلي القتال.
وسمَعَ عمرُ رجلاً يَقُولُ: اللَّهُمَّ إنك تحول بين المرء وقَلْبهُ فحل بيني وبين معاصيك فأعجب عمر ودعا لَهُ بخَيْر: وروي ابن عباس رضي الله عنهما فِي قوله تعالى: (يحول بين المرء وقلبه) قال: يحول بين المُؤْمِن وبين المعصية التي تجره إلي النار.
حج بعض المتقدمين فبات بمَكَّة مَعَ قوم فهمَّ بمعصية فسمَعَ هاتفاً يهتف يَقُولُ: ويلك ألم تحج فعصمه الله مِمَّا همَّ به. وخرج بَعْضهمْ مَعَ رفقة إلي معصية فَلَمَّا هم بمواقعتها هتف به هاتف: كُلّ نفس بما كسبت رهينة " فتركها.
ودخل رجل غيضة ذات شجر فَقَالَ: لَوْ خلوت ها هنا بمعصية من كَانَ يراني؟ فسمِعَ صوتاً ملأ بين حافتي الغيضة: ألا يعلَمُ من خلق وَهُوَ اللطيف الخبير.
وهم رجل بمعصية فخرج إليها فمر فِي طريقه بقاص عَلَى النَّاس فوقف عَلَى حلقته فسمعه يَقُولُ: أيها الهامُّ بالمعصية أما علمت أن خالق الهمة مطلع عَلَى همتك فوقع مغشياً عَلَيْهِ فما أفاق إلا من توبة.
وَمِنْهُمْ من عصم نَفْسهُ بموعظة جرت عَلَى لسان من أراد منه الموافقة عَلَى المعصية كما جري لأحد الثلاثة الَّذِينَ دخلوا الغار وانطبقت عَلَيْهمْ الصخرة، فإنه لما جلس من تلك المرأة مجلس الرجل من امرأته قَالَتْ لَهُ يا عَبْد اللهِ اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه فقام عنها.
وكَذَلِكَ الكفل من بني إسرائيل كَانَ لا يتورع عن معصية فأعجبته امرأة فأعطاها ستين ديناراً فَلَمَّا قعد منها مقعد الرجل من امرأته ارتعدت وقَالَتْ: أكرهتك؟ قَالَتْ: لا، ولكن عمل ما عملته قط وإنما حملني عَلَيْهِ الحاجة.
فَقَالَ: تخافين الله ولا أخافه ثُمَّ قام عنهَا ووهب لها الدنانير، وَقَالَ: وَاللهِ لا يعصي الله الكفل أبداً ومَاتَ من ليلته فأصبح مكتوباً عَلَى بابه قَدْ غفر الله للكفل.
أخرج الإمام أَحَمَد والترمذي حديثه هَذَا من حديث ابن عمر مرفوعاً.
وراود رجل امرأة عن نفسها وأمرها بغلق الأبواب فقلعت وقَالَتْ: بقي باب واحد. قال: أي باب؟ قَالَتْ: الْبَاب الَّذِي بيننا وبين الله تعالى فلم يتعرض لها.
وراود رجل أعرابية قال: لها ما يرانَا إلا الكواكب. قَالَتْ: فأين مكوكبِهَا وهَذَا كله من ألطاف الله تعالى وحيلولته بين الْعَبْد ومعصيته.
قال الحسن وذكر أَهْل المعاصي: هانوا عَلَيْهِ فعصوه ولَوْ عزوا عليه
فعصمهم، وَقَالَ بشر: ما أصر عَلَى معصية الله كريم ولا آثر الدُّنْيَا عَلَى الآخرة حليم. وَاللهُ أَعْلم وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آله وصحبه وسلم.
(فصل)
ومن أنواع حفظ الله لعبده فِي دينه: أن الْعَبْد قَدْ يسعي فِي سبب من الدنيا؛ الولايات أو التجارات أو غَيْرَ ذَلِكَ فيحول الله بينه وبين ما أراده لما يعلم لَهُ من الخيرة فِي ذَلِكَ وَهُوَ لا يشعر مَعَ كراهته لذلك.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: إن الْعَبْد ليهم بالأمر من التجارة أو الإمارة فينظر الله إليه فَيَقُولُ للملائكة: اصرفوه عنهُ فإني إن يسرته لَهُ أدخلته النار فيصرفه الله عنهُ فيظِلّ يتطير يَقُولُ: سبقني فلان. دهاني فلان وما هُوَ إلا فضل الله عز وجل.
وأعجب من هَذَا الْعَبْد قَدْ يطلب باباً من أبواب الطاعات ولا يكون فِيه خَيْر لَهُ فيحول الله بينه وبينه صيانة لَهُ، وَهُوَ لا يشعر.
وأخرج الطبراني وغيره حديث أنس مرفوعاً، يَقُولُ الله عز وجل:"إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الغني ولَوْ أفقرته لأفسده ذَلِكَ، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الفقر ولَوْ أغنيته لأفسده ذلك".
وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الصحة ولَوْ أسقمته لأفسده ذَلِكَ وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا السقم ولَوْ صححته لأفسده ذلك.
وإن من عبادي من يطلب باباً من العبادة فاكفه عنهُ كيلا يدخله العجب. إني أدبر. إني أدبر عبادي بعلمي بما فِي قُلُوبهمْ إني عليم خبير".
كَانَ بعض المتقدمين يكثر سؤال الشهادة فهتف به هاتف إنك إن غزوت أسرت وإن أسرت تنصرت فكف عن سؤاله وفِي الجملة فمن حفظ حدود الله وراعي حقوقه تولي الله حفظه فِي أمور دينه ودنياه وفِي دنياه وآخرت.
وقَدْ أخبر الله تعالى: أنه ولي الْمُؤْمِنِين وأنه يتولي الصالحين وَذَلِكَ يتضمن أنه يتولي مصالحهم فِي الدُّنْيَا والآخرة ولا يكلهم إلي غيره. قال تعالى: (الله ولي الَّذِينَ آمنوا يخرجهم من الظلمَاتَ إلي النور) وَقَالَ تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} وَقَالَ تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} وَقَالَ تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} .
فمن قام بحقوق الله فإن الله يتكفل لَهُ بالقيام بجَمِيع مصالحه فِي الدُّنْيَا والآخرة. فمن أراد أن يتولي الله حفظه ورعايته فِي أموره كُلّهَا فليراع حقوق الله عليه.
ومن أراد أن لا يصيبه شَيْء مِمَّا يكره فلا يأت شيئاً مِمَّا يكرهه الله. كَانَ بعض السَّلَف يدور عَلَى المجالس وَيَقُولُ: من أحب أن تدوم لَهُ الغاية فليتق الله.
وَقَالَ العمري الزاهد لمن طلب منه الوصية: كما تحب أن يكون الله لك فهكَذَا كن لله عز وجل. وفِي بعض الآثار يَقُولُ الله: (وعزتي وجلالي لا أطلع عَلَى قلب عبد فأعلم أن الغالب عَلَيْهِ حب التمسك بطاعتي إلا توليت سياسته وتقويمه) .
وفِي بعض الكتب المتقدمة يَقُولُ الله عز وجل: (ابن آدم لا تعلمني ما يصلحك ابن آدم اتقني. . . ونم حيث شئت) .
والمعني: أنك إِذَا قمت بما عَلَيْكَ لله من حقوق التقوي فلا تهتم بعد ذَلِكَ بصالحك فإن الله هُوَ أعلم بِهَا منك وَهُوَ يوصلها إليك عَلَى أتم الوجوه من غَيْرَ اهتمام منك بها.
وفِي حديث جابر رضي الله عنه أن النَّبِيّ ? قال: "من كَانَ يحب أن يعلم منزلته عِنْدَ الله فلينظر كيف منزلة الله عنده فإن الله ينزل الْعَبْد منه حيث أنزله من نفسه ".
فهَذَا يدل عَلَى أنه عَلَى قدر اهتمام الْعَبْد بحقوق الله وبأداء حقوقه مراعاة حقوقه ومراعاة حدوده واعتنائه بذَلِكَ وحفظه لَهُ يكون اعتناؤه به وحفظه له.
فمن كَانَ غاية همه رضي الله عنه وطلب قربه ومعرفته ومحبته وخدمته فإن الله يكون لَهُ عَلَى حسب ذَلِكَ كما قال تعالى: (فاذكروني أذكركم "، " وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم) بل هُوَ سُبْحَانَهُ أكرم الاكرمين فهو يجازي بالحسنة عشراً ويزيد.
ومن تقرب منه شبراً تقرب منه ذراعاً، ومن تقرب من ذراعاً تقرب منه باعاً ومن أتاه يمشي أتاه هرولة. ما يؤتي الإنسان إلا من قبل نَفْسه ولا يصيبه المكروه إلا من تفريطه فِي حق ربه عز وجل.
قال عَلَي رضي الله عنه: لا يرجوَنَّ عبد إلا ربه ولا يخافن إلا ذنبه. قال بَعْضهمْ: من صفِي صفِي له، ومن خلط خلط عليه. وَقَالَ مسروق: من راقب الله فِي خطرت قَلْبهُ عصمه الله فِي حركات جوارحه وبسط له. هَذَا المعني يطول جداً. وفيما أشرنا إليه كفاية ولله الحمد والمنة.
شِعْراً:
…
إِذَا صَدَرَتْ مِنْكَ الذُّنُوْبُ فَدَاوِهَا
…
بِرَفْعِ يَدِ فِي اللَّيْلِ واللَّيِلُ مُظْلِمُ
وَلَا تَقْنَطَنْ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَمَّا
…
قُنُوْطُكَ مِنْهَا مِنْ خَطَايَاكَ أَعْظَمُ
فَرَحْمَتُهُ لِلْمُحْسِنِيْنَ كَرَامَةٌ
…
وَرَحْمَتُهُ لِلْمُذْنِبِيْنَ تَكَرُّمُ
اللَّهُمَّ ثبتنا عَلَى قولك الثابت فِي الحياة وبعدها، وَاجْعَلْنَا مِنْ عبادك المفلحين الَّذِينَ نورت قُلُوبهمْ بمعرفتك، وأهلتهم لخدمتك، وحرستهم من عَدُوّكَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ، بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
وقوله ? تجده أمامك وفِي رواية أخري تجاهك معناه: أن من حفظ حدود الله راعي حقوقه وَجَدَ الله معه فِي جَمِيع الأحوال يحوطه وينصره ويحفظه ويوفقه ويؤيده ويسدده فأنه قائم عَلَى كُلّ نفس بما كسبت.
وهو تعالى {مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} قال قتادة: ومن يتق الله ومن يتق الله يكن معه. ومن يكن الله معه فمعه الفئة التي لا تغلب والحارس الَّذِي لا ينام والهادي الَّذِي لا يضل.
كتب بعض السَّلَف إلي أخ لَهُ أما بعد: إن كَانَ الله معك فمن تخاف وإن كَانَ عَلَيْكَ فمن ترجو والسلام. وهذه المعية الخاصة بالمتقين غَيْرُ المعية العامة المذكورة فِي قوله تعالى: (وهو معكم أينما كنتم) وقوله: {وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} .
فإن المعية الخاصة تقتضي النصر والتأييد والحفظ والاعانة، كما قال تعالى لموسي عليه السلام وهارون:{لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} وقوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} .
وكَانَ النَّبِيّ ? قَدْ قال لأبي بكر الصديق رضي الله عنه فِي تلك الحال: " ما ظنك باثنين الله ثالثهما ".
فهَذَا غَيْرُ المعني المذكور فِي قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} فإن ذَلِكَ عام لكل جماعة.
ومن هَذَا المعني الْخَاص الْحَدِيث الالهي وقوله فِيه: "ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتي أحبه فإِذَا أحببته كنت سمعه الَّذِي يسمَعَ به وبصره الَّذِي يبصر به ويده التي يبطش بِهَا ورجله التي يمشي بها " إلي غَيْرَ ذَلِكَ من نصوص اْلكِتَاب والسنة الدالة عَلَى قرب الرب سُبْحَانَهُ ممن أطاعه واتقاه وحفظ حدوده وراعاه.
دخل بنان الحمال البرية عَلَى طَرِيق تبوك فاستوحش فهتف به هاتف: لم تستوحش؟ ألَيْسَ حبيبك معك؟ فمن حفظ الله وراعي حقوقه وجده أمامه وتجاهه عَلَى كُلّ حال فليستأنس به وليستغن به عن خلقه.
وفِي الْحَدِيث: " أفضل الإيمان أن يعلم الْعَبْد أن الله معه حيث كان " أخرجه الطبراني وغيره وبسط هَذَا القول يطول جداً.
كَانَ بعض العِلماء الربانيين كثير السفر وحده فخرج النَّاس مرة معه يودعونه فردهم.
اللَّهُمَّ يا من خلق الإنسان فِي أحسن تقويم وبقدرته التي لا يعجزها شَيْء يحيي العظام وهي رميم. نسألك أن تهدينا إلي صراطك المستقيم صراط الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وأن تغفر لنا ولوالدينا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ الاحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
وَقَالَ رحمه الله عَلَى قوله ?: "تعرف إلي الله فِي الرخاء يعرفك فِي الشدة ": المعني: أن الْعَبْد إِذَا اتقي الله وكَانَ بينه وبينه معرفة فعرفه ربه فِي الشدة وعرفه عمله فِي الرخاء فنجاه من الشدائد بتلك المعرفة.
وهذه أيضاً معرفة خاصة تقتضي القرب من الله عز وجل ومحبته لعبده وإجابته لدعائه ولَيْسَ المراد بِهَا المعرفة العامة، فإن الله لا يخفِي عَلَيْهِ حال أحد من خلقه كما قال تعالى:{هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} وَقَالَ تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ} .
وهَذَا التعرف الْخَاص هُوَ المشار إليه فِي الْحَدِيث الإلهي: " لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتي أحبه" إلي أن قال: "ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه ".
اجتمَعَ الفضيل بشعوانة العابدة فسألها الدُّعَاء، فقَالَتْ: يا فضيل وما بينك وبينه، إن دعوته أجابك. فشهق الفضيل شهقة خر مغشياً عليه.
وَقَالَ أبو جعفر السائح: أتي الحسن إلي حبيب أبي مُحَمَّد هارباً من الحجاج فَقَالَ: يا أبا مُحَمَّد احفظني من الشرط هم عَلَى أثري.
فَقَالَ: يا أبا سعيد ألَيْسَ بينك وبينه من الثِّقَة ما تدعوه فيسترك من هؤلاء، ادخل البيت، فدخل الشرط عَلَى أثره فلم يروه فذكروا ذَلِكَ للحجاج فَقَالَ: بل كَانَ فِي بيته إلا أن طمس عَلَى أعينهم فلم يروه.
ومتي حصل هَذَا التعرف الْخَاص للعبد معرفة خاصة بربه توجب لَهُ الإنس به والحياء منه. وهذه معرفة خاصة غَيْر معرفة الْمُؤْمِنِين العامة. ومدار العارفين كلهم عَلَى هذه المعرفة وهَذَا التعرف وإشاراتهم تومئ إلي هذا.
سمَعَ أبو سليمان رجلاً يَقُولُ: سهرت البارحة فِي ذكر النساء. فَقَالَ: ويحك أما تستحي منه يراك ساهراً فِي ذكَر غيره؟ ولكن كيف تستحي ممن لا تعرف؟
وَقَالَ أَحَمَد بن عاصم الأنطاكي: أحب أن لا أموت حتي أعرف مولاي. ولَيْسَ معرفته الإقرار به، ولكن المعرفة الَّذِي إِذَا عرفته استحييت منه. وهذه المعرفة الخاصة والتعرف الْخَاص توجب طمأنينة الْعَبْد بربه وثقته به فِي إنجائه من كُلّ شدة وكرب وتوجب استجابة الرب دعاء عبده.
لما اختفِي الحسن البصري من الحجاج قيل لَهُ: لَوْ خرجت فإنَا نخاف أن يدل عليك. فبكي ثُمَّ قال: أخرج من مصري وأهلي وإخواني، إن معرفتي برَبِّي ونعمه عَلَى أن سينجيني منه إن شَاءَ الله تعالى. فما ضره الحجاج بشَيْء، ولَقَدْ كَانَ يكرمه بعد ذَلِكَ إكراماً شديداً.
وَقَالَ رجل لمعروف: هيجك عَلَى الانقطاع والعبادة ذكر الموت والبرزخ والْجَنَّة والنار؟ فَقَالَ معروف: أي شَيْء هَذَا إن ملكاً هَذَا كله بيده إن كانت بينك وبينه معرفة كفاك جَمِيع هذا.
وَاللهُ أَعْلم. وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آله وصحبه وسلم.
(فَصْلٌ)
ومِمَّا يبين هَذَا ويوضحه الْحَدِيث الَّذِي أخرجه الترمذي من حديث أَبِي هُرَيْرَةِ رضي الله عنه عن النَّبِيّ ?: "من سره أن يستجيب لَهُ عِنْدَ الشدائد فليكثر الدُّعَاء فِي الرخاء ".
وخرج ابن أبي الدُّنْيَا وابن أبي حَاتِم وابن جرير وغيرهم من حديث يزيد الرقاشي عن أنس يرفعه: " إن يونس عليه السلام لما دعي فِي بطن الحوت قَالَتْ الملائكة: يا رب هَذَا صوت معروف فِي بلاد غريبة؟ فَقَالَ الله: أما تعرفون ذلك؟ قَالُوا: ومن هو؟
قال: عبدي يونس. قَالُوا: عبدك يونس الَّذِي لم يزل يرفع عملاً متقبلاً ودعوة مستجابة؟ قال: نعم. قَالُوا: يا رب أفلا ترحم ما كَانَ يصنع فِي الرخاء فتنجيه به فِي البلاء؟ قال: بلي فأمر الله الحوت فطرحه بالعراء.
وَقَالَ الضحاك بن قيس: اذكروا الله فِي الرخاء يذكركم فِي الشدة. إن يونس عليه السلام كَانَ يذكر الله فَلَمَّا وقع فِي بطن الحوت قال الله تعالى: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} .
وإن فرعون كَانَ طاغياً ناسياً لذكر الله فَلَمَّا أدركه الغرق قال: آمنت. فَقَالَ الله تعالى: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} .
وَقَالَ رشدين بن سعد: قال رجل لأبي الدرداء رضي الله عنه: أوصني، فَقَالَ: اذكر الله فِي السراء يذكرك فِي الضراء فإن الْعَبْد إِذَا ذكر فِي السراء فنزلت به ضراء فدعا الله عز وجل قَالَتْ الملائكة: صوت معروف فشفعوا له.
وإِذَا كَانَ لَيْسَ بدعاء فِي السراء فنزلت به ضراء فدعا الله عز وجل قَالَتْ الملائكة صوت لَيْسَ بمعروف فلا يشفعون له.
وحديث الثلاثة الَّذِينَ دخلوا الغار وانطبقت عَلَيْهمْ الصخرة يشهد لهَذَا أيضاً. فإن الله فرج عنهم بدعائهم بما كَانَ سبق مِنْهُمْ من الأعمال الصَّالِحَة الْخَالِصَة فِي حال الرخاء من بر الوالدين وترك الفجور وأداء الامانة الخفية.
فإِذَا علم: أن التعرف إلي الله فِي الرخاء يوجب نعرفة الله لعبده فِي الشدة فلا شدة يلقاها الْعَبْد فِي الدُّنْيَا أعظم من شدة الموت وهي أَهْوَن مِمَّا بعدها إن لم يكن مصير الْعَبْد إلي خير. وإن كَانَ مصيره إلي خَيْر فهي آخر شدة يلقاها.
فالواجب عَلَى الْعَبْد: الاستعداد للموت قبل نزوله، بالأعمال الصَّالِحَة والمبادرة إلي ذَلِكَ فإنه لا يدري المرء متي تنزل به هذه الشدة من ليل أو نهار. وذكر الأعمال الصَّالِحَة والمبادرة إلي ذَلِكَ فإنه لا يدري المرء متي تنزل به هذه الشدة من ليل أو نهار. وذكر الأعمال الصَّالِحَة عِنْدَ الموت مِمَّا يحسن ظن المُؤْمِن بربه ويهون عَلَيْهِ شدة الموت ويقوي رجاءه.
قال بَعْضهمْ: يستحبون أن يكون للمرء خيبة من عمل صالح ليكون أَهْوَن عَلَيْهِ عِنْدَ نزول الموت أو كما قال. وكَانُوا يستحبون أن يموت الرجل عقب طاعة عملها من حج أو جهاد أو صيام.
وَقَالَ النخعي: كَانُوا يستحبون أن يكون للمرء خيبة من عمل صالح ليكون أَهْوَن عَلَيْهِ عِنْدَ نزول الموت أو كما قال. وكَانُوا يستحبون أن يموت الرجل عقب طاعة عملها من حج أو جهاد أو صيام.
وَقَالَ النخعي: كَانُوا يستحبون أن يلقنوا الْعَبْد محاسن عمله عِنْدَ موته لكي يحسن ظنه بربه.
قال أبو عبد الرحمن السلمي فِي مرضه: كيف لا أرجو رَبِّي وقَدْ صمت لَهُ ثمانين رمضان. ولما احتضر أبو بكر ابن عياش وبكوا عَلَيْهِ قال: لا تبكوا
فإني ختمت القرآن فِي هذه الزاوية ثلاثة عشر ألف ختمة. وروي أنه قال لابنه: أتري إن الله يضيع لأبيك أربعين سنة يختم كُل ليلة.
وَقَالَ بعض السَّلَف لابنه عِنْدَ موته ورآه يبكي قال: لا تبكي فما أوتي أبوك قط. وختم آدم بن أبي إياس القرآن وَهُوَ مسجي للموت ثُمَّ قال: بحبي لك إلا رفقت بي فِيه ذَا المصرع؟ كنت أؤملك لهَذَا كنت أرجوك لهَذَا لا إله إلا الله، ثُمَّ قضي رحمه الله.
وكَانَ عبد الصمد الزاهد يَقُولُ عِنْدَ موته: سيدي لهَذَا الساعة خبأتك حقق حسن ظني بك. وَقَالَ ابن عقيل عِنْدَ موته وقَدْ بكي النسوة: قَدْ وقفت منه خمسين سنة فدعوني أتهنأ بلقائه.
ولما هجم القرامطة عَلَى الحجاج وقتلوهم فِي الطواف وكَانَ عَلَى بن باكوية الصوفِي يطوف فلم يقطع الطواف والسيوف تأخذه حتي وقع.
تضرعٌ إلي فاطر السموات والأرض وثناء عليه
يَا مَنْ عَلَيْهِ مَدَى الأيامِ مُعْتَمَدِي
…
إِلَيْكَ وَجَّهْتُ وَجْهِي لَا إِلى أَحْدِ
يِا مَالِكَ المُلْكِ يَا مُعْطِيَ الجَزِيْلَ لِمَنْ
…
يَرْجُوْ نَدَاهُ بِلَا مَنٍ وَلَا نَكَدِ
مَا لِي سِوْاكَ وَمَا لِي غَيْرَ بَابِكَ يَا
…
مَوْلَايَ فَامْحُ بِعَفْوٍ مَا جَنَتْْهُ يَدِي
وانْعِمْ وأَمْطِر عَلَيْنَا رَحْمَةً فَلَنَا
…
عَوُائِدٌ مِنْكَ بِالإحْسَانِ وَالْمَدَدِ
وانْظُرْ إِليْنَا فَكم أَوْلَيْتَنَا نِعَماً
…
مَا أَنْ تَمُرُّ عَلَى بَالٍ وَلَا خَلِدِ
يَا مَنْ يُجْيِبُ دُعَائِيْ عِنْدَ مَسْأَلَتِي
…
وَمَنْ عَلَيْهِ وَإِنْ أَخَطَأتُ مُعْتَمَدِي
وَاللهُ أَعْلم. وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم.
(فَصْلٌ)
وَقَالَ رحمه الله: فمن أطاع الله واتقاه فِي حَيَاتهُ تولاه الله عِنْدَ وفاته عَلَى الإيمان وثبته بالقول الثابت فِي القبر عِنْدَ سؤال الملكين ودفع عنهُ عذاب القبر وآنس وحشته فِي تلك الوحدة والظلمة.
قال بعض السَّلَف: إِذَا كَانَ الله معك عِنْدَ دخول القبر فلا بأس عَلَيْكَ ولا وحشة. ورؤي بعض الصالحين فِي النوم بعد موته فسئل عن حاله فَقَالَ: يؤنسني رَبِّي عز وجل فمن كَانَ الله سبحانه وتعالى أنيسه فِي ظلمَاتَ اللحود إِذَا فارق الدُّنْيَا وتخلي عنها. وفِيه ذَا يَقُولُ بَعْضهمْ:
فَيَا رَبُّ كُنْ لِي مُؤْنِساً يَوْمَ وَحْشَتِي
…
فإني بما أنزلته لمصدق
وَمَا ضَرَّنِي أَنِي إِلى اللهِ صَائِرٌ
…
وَمَنْ هُوَ مِنَ أَهْلِي أَبَرُ وَأَشْفَقُ
وكَذَلِكَ أهوال القيامة وأفزاعها وشدائدها إِذَا تولي الله عبده المطيع لَهُ فِي الدُّنْيَا أنجاه من ذَلِكَ كله. قال قتادة فِي قوله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} . قال: (من الكرب عِنْدَ الموت ومن أفزاع يوم القيامة) .
وَقَالَ عَلَى بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما فِي هذه الآية: ينجيه من كُلّ كرب فِي الدُّنْيَا والآخرة.
وَقَالَ زيد بن أسلم فِي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} . قال: يبشر فِي ذَلِكَ عِنْدَ موته وفِي قبره ويوم البعث فإنه لفِي الْجَنَّة، وما ذهبت فرحة البشارة من قلبه.
وَقَالَ ثابت البناني فِي هذه الآية: بلغنا أن المُؤْمِن يبعثه الله من قبره يتلقاه الملكَانَ اللذان كانَا معه فِي الدُّنْيَا فيقولان لَهُ لا تخف ولا تحزن فيؤمن الله خوفه ويقر عينه.
فما من عظيمة تغشي النَّاس يوم القيامة إلا وهي للمُؤْمِن قرة عين لما هداه الله ولما كَانَ يعمل فِي الدنيا. خرج ذَلِكَ كله ابْن أَبِي حَاتِم وغيره.
وأما من لم يتعرف إلي الله فِي الرخاء فلَيْسَ لَهُ أن يعرفه فِي الشدة لا فِي الدُّنْيَا ولا فِي الآخرة، وشواهد هَذَا مشاهدة حالهم فِي الدُّنْيَا وحالهم فِي الآخرة أشد وما لهُمْ من ولي ولا نصير.
قوله ?: "إِذَا سألت فاسأل الله" أمر بإفراد الله تعالى بالسؤال ونهي عن غيره من الخلق.
وقَدْ أمر سبحانه وتعالى بسؤاله فَقَالَ: {وَاسْأَلُواْ اللهَ مِن فَضْلِهِ} . وفِي الترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاًَ: " من لا يسأل الله يغضب عليه ".
وفِيهِ أيضاً عن أَبِي هُرَيْرَةِ رضي الله عنه: " اسألوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل".
وفِيهِ أيضاً: "إن الله يحب الملحين فِي الدعاء ".
وفِي حديث آخر: " ليسأل أحدكم حاجته كلها حتي يسأل شسع نعله إِذَا انقطع ". وفِي هذَا المعني أحاديث كثيرة.
وفِي النهي عن سؤال الخلق أحاديث كثيرة صحيحة. وفِي حديث ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً: " لا يزال الْعَبْد يسأل وَهُوَ غني حتي يخلق وجهه فلا يكون لَهُ عِنْدَ الله وجه ".
وقَدْ بايع النَّبِيّ ? جماعة من الصحابة عَلَى أن لا يسألوا النَّاس شيئاً مِنْهُمْ الصديق رضي الله عنه وأبو ذر وثوبان.
وكَانَ أحدهم يسقط سوطه وخطام ناقته فلا يسأل أَحَداً أن يناوله إياه رضي الله عنهم. واعلم أن سؤال الله تعالى دون خلقه هُوَ المتعين عقلاً وشرعاً.
وَذَلِكَ من وجوه متعددة منها أن السؤال فِيهِ بذل لماء الوجه وذل للسائل وَذَلِكَ لا يصلح إلا لله وحده. فلا يصلح الذل إلا لله بالعبادة والمسألة وَذَلِكَ من غاية المحبة الصادقة.
سئل يوسف بن الحسين: ما بال المحبين يتلذذون بذلهم فِي المحبة فأنشد:
ذُلَّ الفَتَى فِي الحُبِ مَكْرُمَةٌ
…
وَخُضُوعُهُ لِحَبِيْبِهِ شَرَفُ
وهَذَا الذل وهذه المحبة لا تصلح إلا لله وحده وهذه حَقِيقَة العبادة التي يختص بِهَا الإله الحق.
كَانَ الإمام أَحمَدُ رحمه الله يَقُولُ فِي دعائه: اللَّهُمَّ كما صنت وجهي عن السجود لغيرك فصنه عن المسألة لغيرك.
وَقَالَ أبو الحسين الأقطع: كنت بمَكَّة سنة فأصابتني فاقة وضرر فكنت كُلَّما أردت أن أخرج إلي المسألة هتف بي هاتف يَقُولُ: الوجه الَّذِي تسجد لي به تبذله لغيري. انتهي كلامه رَحِمَهُ اللهُ تعالى.
وَاللهُ أَعْلم وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم.
(فَصْلٌ)
وَقَالَ ابن القيم رحمه الله:
للعبد ستر بينه وبين الله وستر بينه وبين النَّاس فمن هتك الستر
الَّذِي بينه وبين الله هتك الله الستر الَّذِي بينه وبين الناس.
للعبد رب هُوَ ملاقيه، وبيت هُوَ ساكنه، فينبغي لَهُ أن يسترضي ربه قبل لقائه، ويعمر بيته قبل انتقاله إليه.
إضاعة الوَقْت أشد من الموت، لأن إضاعة الوَقْت تقطعك عن الله والدار الآخرة، والموت يقطعك عن الدُّنْيَا وأهلها.
الدُّنْيَا من أولها إلي آخرها لا تساوي غم ساعة فَكَيْفَ بغم العمر كله. محبوب الْيَوْم يعقب المكروه غداً، ومكروه الْيَوْم يعقب المحبوب غداً.
أعظم الرِّبْح فِي الدُّنْيَا: أن تشغل نفسك كُلّ وَقْت بما هُوَ أولي بِهَا وأنفع لها فِي معادها.
كيف يكون عاقلاً من باع الْجَنَّة بما فيها بشهوة ساعة.
المخلوق إِذَا خفته استوحشت منه وهربت منه والرب تعالى إِذَا خفته أنست به وقربت إليه. لَوْ نفع العلم بلا عمل لما ذم الله سُبْحَانَهُ أحبار أَهْل اْلكِتَاب، ولَوْ نفع الْعَمَل بلا إخلاص لما ذم المنافقين.
إِذَا جري عَلَى الْعَبْد مقدور يكرهه فله فِيهِ ست مشاهد:
أحدها: مشهد التَّوْحِيد وأن الله هُوَ الَّذِي قدره وشاءه وخلقه وما شَاءَ الله كَانَ وما لم يشأ لم يكن.
الثاني: مشهد العدل وأنه ماض فِيهِ حكمه عدل فِيهِ قضاؤه.
الثالث: مشهد الرحمة وإن رحمته فِيه ذَا المقدور غالبة لغضبة وانتقامه ورحمته وعفوه.
الرابع: مشهد الحكمة وإن حكمته سُبْحَانَهُ اقتضت ذَلِكَ لم يقدره سدي ولا قضاه عبثاً.
الخامس: مشهد الحمد وأن لَهُ سُبْحَانَهُ الحمد التام عَلَى ذَلِكَ مِنْ جَمِيعِ وجوهه.
السادس: مشهد العبودية وأنه محض من كُلّ وجه تجري عَلَيْهِ أحكام سيده وأقضيته بحكم كونه ملكه وعبده فيصرفه تحت أحكامه القدرية كما يصرفه تحت أحكامه الدينية فهو محل لجريان هذه الأحكام عليه.
الاجتماع بالإخْوَان قسمان:
أحدهما: اجتماع عَلَى مؤانسة الطبع وشغل الوَقْت، فهَذَا مضرته أرجح من منفعته، وأقل ما فِيهِ أنه يفسد الْقَلْب ويضيع الوقت.
الثاني: الاجتماع بِهُمْ عَلَى التعاون عَلَى أسباب النجاة والتواصي بالحق والصبر، فهَذَا من أعظم الغنيمة وأنفعها.
ولكن فِيهِ ثلاث آفات:
إحداها: تزين بَعْضهمْ لبعض.
الثَّانِيَة: الكلام والخلطة أكثر من الحاجة.
الثالثة: أن يصير ذَلِكَ شهوة وعادة ينقطع بِهَا عن المقصود.
وبالجملة: فالاجتماع والخلطة لقاح، إما للنفس الأمارة، وإما للقلب والنفس المطمئنة والنتيجة مستفادة من اللقاح فمن طاب لقاحه طابت ثمرته.
وهذه الأرواح الطيبة لقاحها من الملك والخبيثة لقاحها من الشيطان
وقَدْ جعل الله سُبْحَانَهُ بحكمته الطيبات للطيبين والطيبين والطيبين للطيبات وعكس ذلك.
بين الْعَبْد وبين الله والْجَنَّة قنطرة تقطع بخطوتين خطوة عن نَفْسه، وخطوة عن الخلق فيسقط نَفْسه ويلغيها فيما بينه وبين النَّاس ويسقط النَّاس ويلغيهم فيما بينه وبين الله؛ فلا يلتفت إلا إلي الله من دله عَلَى الله وعَلَى الطَرِيق الموصلة إليه.
من عرف نَفْسه اشتغل بإصلاحها عن عيوب الناس.
من عرف ربه اشتغل به عن هوي نفسه.
أنفع الْعَمَل أن تغيب فِيه عن النَّاس بالإخلاص وعن نفسك بشهود المنة فلا تري فِيه نفسك ولا تري الخلق.
دخل النَّاس النار من ثلاثة أبواب: باب شبهة أورثت شكاً فِي دين الله، وباب شهوة أورثت تقديم الهَوَى عَلَى طاعته ومرضاته، وباب غضب أورث العدوان عَلَى خلقه.
أصول الخطايا كُلّهَا ثلاثة: الكبر، وَهُوَ الَّذِي أصار إبلَيْس إلي ما أصاره والحرص، وَهُوَ الَّذِي أخرج آدم من الجنة.
والحسد، وَهُوَ الَّذِي جرأ أحد ابني آدم عَلَى أخيه. فمن وقي شر هذه الثلاثة فقَدْ وقي الشر، فالكفر من الكبر، والمعاصي من الحرص، والبغي والظلم من الحسد.
جمَعَ النَّبِيّ ? فِي قوله: "فاتقوا الله وأجملوا فِي الطلب" بين مصالح الدُّنْيَا والآخرة.
فالآخرة ونعيمها ولذاتها، إنما تنال بتقوي الله وراحة القلب
والبدن وترك الاهتمام والحرص الشديد والتعب والعناء والكد والشقاء فِي طلب الدُّنْيَا، إنما ينال بالإجمال فِي الطلب.
فمن اتقي الله فاز بلذة الآخرة ونعيمها، ومن أجمل فِي الطلب استراح من نكد الدُّنْيَا وهمومها، فالله المستعان:
قَدْ نَادَتِ الدُّنْيَا عَلَى نَفْسِهَا
…
لَوْ كَانَ فِي ذَي الخُلُقِ مَنْ يَسْمَعُ
كم وَاثِقٍ بِالعَيْشِ أَهْلَكَتْهُ
…
وَجَامِعٍ فَرَقَتْ مَا يَجْمَعُ
سر التوكل عَلَى الله وحقيقته: هُوَ اعتماد الْقَلْب عَلَى الله وحده، فلا يضر مباشرة الأسباب مَعَ خلَوْ الْقَلْب من الاعتماد عَلَيْهَا والركون إليها، كما لا ينفعه قوله: توكلت عَلَى الله، مَعَ اعتماده عَلَى غيره وركونه إليه وثقته به.
فتوكل اللسان شَيْء، وتوكل الْقَلْب شيء. كما أن توبة اللسان مَعَ إصرار الْقَلْب مَعَ اعتماده عَلَى غيره وركونه إليه وثقته به.
فتوكل اللسان شَيْء، وتوكل الْقَلْب شيء. كما أن توبة اللسان مَعَ إصرار الْقَلْب مَعَ اعتماد قَلْبهُ عَلَى غيره، مثل قوله: تبت إلي الله وَهُوَ مصر عَلَى معصيته مرتكب لها.
اتباع الهَوَى وطول الأمل، مادة كُلّ فساد، فإن اتباع الهَوَى يعمي عن الحق معرفة وقصداً، وطول الأمل ينسي الآخرة ويصد عن الاستعداد لها.
إِذَا أراد الله بعبد خيراً جعله معترفاً بذنبه، ممسكاً عن ذنب غيره، جواداً بما عنده، محتملاً لأذي غيره، وإن أراد به شراً عكس ذَلِكَ عليه.
العقول المقيدة بالتَّوْفِيق، تري أن ما جَاءَ به الرَّسُول ? هُوَ الحق الموافق للعقل والحكمة.
والعقول المضروبة بالخذلان، تري المعارضة بين العقل والنقل وبين الحكمة والشرع.
أقرب الوسائل إلي الله، ملازمة السنة والوقوف معها فِي الظاهر والباطن ودوام الافتقار إلي الله، وإرادة وجهه وحده بالأقوال والأفعال.
وما وصل أحد إلي الله إلا من هذه الثلاثة، وما انقطع عنهُ أحد إلا بانقطاعه عنهَا أو عن أحدها.
الأصول التي انبني عَلَيْهَا سعادة الْعَبْد ثلاثة، ولكل واحد منها ضد، فمن فقَدْ ذَلِكَ الأصل حصل عَلَى ضده، التَّوْحِيد وضده الشرك، والسنة وضدها البدعة، والطاعة وضدها المعصية.
ولهذه الثلاثة ضد واحد وَهُوَ: خلَوُ الْقَلْب من الرغبة فِي الله وفيما عنده، ومن الرهبة منه وما عنده.
إِذَا استغني النَّاس بالدُّنْيَا، فاستغن أَنْتَ بِاللهِ، وإِذَا فرحوا بالدُّنْيَا فافرح أَنْتَ بِاللهِ، وإِذَا أنسوا بأحبابهم فاجعل أنسك بالله.
وإِذَا تعرفوا إلي ملوكهم وكبرائهم وتقربوا إليهم لينالوا بِهُمْ العزة والرفعة، فتعرف أَنْتَ إلي الله وتودد إليه، تنل بذَلِكَ غاية العز والرفعة.
قال بعض الزهاد: ما علمت أن أَحَدا سمَعَ بالْجَنَّة والنار تأتي عَلَيْهِ ساعة لا يطيع الله فيها بذكر أو صلاة أو قراءة أو إحسان. فَقَالَ لَهُ رجل إني أكثر البُكَاء فَقَالَ: إنك إن تضحك وأَنْتَ مقر بخطيئتك خَيْر من أن تبكي وأَنْتَ مدل بعملك، وأن المدل لا يصعد عمله فوق رأسه.
فَقَالَ: أوصني فَقَالَ: دع الدُّنْيَا لأهلها كما تركوا هم الآخرة لأهلها، وكن فِي الدُّنْيَا كالنحلة، إن أكلت أكلت طيباً، وإن أطعمت أطعمت طيباً، وإن سقطت عَلَى شَيْء لم تكسره ولم تخدشه.
النعم ثلاثة: نعمة حاصلة يعلم بِهَا الْعَبْد، ونعمة منتظرة يرجوها، ونعمة هُوَ فيها لا يشعر بها. فإِذَا أراد إتمام نعمته عَلَى عبده، عرفه نعمته الحاضرة، وأعطاه من شكره قيداً يقيدها به حتي لا تشرد فإنها تشرد بالمعصية وتبقي بالشكر، ووفقه لعمل يستجلب به النعمة المنتظرة، وبصره بالطرق التي تسدد وتقطع طريقها، ووفقه لاجتنابِهَا، وإِذَا بِهَا قَدْ وافقته إليه عَلَى أتم الوجوه، وعرفه النعم التي هُوَ فيها ولا يشعر بها.
ويحكي أن أعرابياً دخل عَلَى الرشيد فَقَالَ: أمير الْمُؤْمِنِين ثَبِّتْ الله عَلَيْكَ النعم التي أَنْتَ فيها بإدامة شكرها، وحقق لك النعم التي ترجوها بحسن الظن به ودوام طاعته، وعرفك النعم التي أَنْتَ فيها ولا تعرفها لتشكرها، فأعجبه ذَلِكَ منه وَقَالَ: ما أحسن تقسيمه.
قال شقيق بن إبراهيم: أغلق باب التَّوْفِيق عن الخلق من ستة أشياء: اشتغالهم بالنعمة عن شكرها، ورغبتهم فِي العلم وتركهم العمل والمسارعة إلي الذنب وتأخَيْر التوبة، والاغترار بصحبة الصالحين وترك الاقتداء بأفعالهم، وإدبار الدُّنْيَا عنهم وهم يتبعونها، وإقبال الآخرة عَلَيْهمْ وهم معرضون عنها.
قُلْتُ: وأصل ذَلِكَ: عدم الرغبة والرهبة، وأصله ضعف اليقين، وأصله ضعف البصيرة، وأصله مهانة النفس ودناءتها، واستبدال الَّذِي هُوَ أدني بالَّذِي هُوَ خير.
النَّاس مُنْذُ خلقوا لم يزالوا مسافرين، ولَيْسَ لّهُمْ حط من رحالهم إلا فِي الْجَنَّة أو النار، والعاقل يعلم أن السفر مبني عَلَى المشقة وركوب الأخطار، ومن المحال عادة أن يطلب فِيه نعيم ولذة وراحة، إنما ذَلِكَ بعد انتهاء السفر.
ومن المعلوم أن كُلّ وطأة قدم، أو كُلّ من آنات السفر غَيْر واقفة، ولا المكلف واقف، وقَدْ ثَبِّتْ أنه سافر عَلَى الحال التي يجب أن يكون المسافر عَلَيْهَا من نهيئة الزَادَ الموصل، وإِذَا نزل أو نام أو استراح، فعَلَى قدم الاستعداد للسير.
لله عَلَى الْعَبْد فِي كُلّ عضو من أعضائه أمر، وله عَلَيْهِ فِيه نهي، وله فِيه نعمة، وله فِيه منفعة ولذة، فإن قام فِي ذَلِكَ العضو بأمره واجتنب فِيه نهيه. فقَدْ أدي شكر الله عَلَيْهِ فِيه، وسعي فِي تكميل انتفاعه ولذته به، وإن عطل أمر الله ونهيه فِيه، عطله الله من انتفاعه بذَلِكَ العضو، وجعله من أكبر أسباب ألمه ومغرته.
وله عَلَيْهِ فِي كُلّ وَقْت من أوقاته عبودية تقدمه إليه وتقربه منه، فإن شغل وقته بعبودية الوَقْت، تقدم به إلي ربه، وإن شغله بهوي أو راحة وبطالة تأخر، فالْعَبْد لا يزال فِي تقدم أو تأخر، ولا وقوف فِي الطَرِيق البتة.
قال تعالى: {لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} .
وَاللهُ أَعْلم وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آله وصحبه وسلم.
وَقَالَ القحطاني رحمه الله:
يَا أَيُّهَا السُّنيُّ خُذْ بِوَصِيَّتِي
…
وَأخْصُصْ بِذَلِكَ جُمْلَةَ الإخْوانِ
وَاقْبِلْ وَصِيَّةَ مُشْفِقٍ مَتَوَدِّدٍ
…
وَأسْمَعْ بِفَهْمٍ حَاضِرٍ يَقْظَانِ
كُنْ فِي أُمُورِكَ كُلِّهَا مُتَوَسِّطاً
…
عَدْلاً بِلَا نَقْصٍ وَلَا رُجْحَانِ
واعْلم بِأَنَّ اللهَ رَبٌّ وَاحِدٌ
…
مُتَنَزَّهٌ عن ثَالِثٍ أَوْ ثَانِ
.. الأوَّلُ المُبْدِي بِغَيْرِ بِدَايَةٍ
…
والآخِرُ المُفْنِي وَلَيْسَ بِفَانِ
رُكْنُ الدَّيانَةِ أَنْ تُصَدِّقَ بِالقَضَا
…
لَا خَيْرَ فِيٍ بَيْتٍ بِلا أَرْكَانِ
فَاقْصِدْ هُدِيْتَ وَلَا تَكُنْ مُتَغَالِياً
…
إِنَّ القُدُوْرَ تَفُورُ بِالغَلَيَانِ
دِنْ بِالشَّرِيْعَةِ واْلكِتَابِ كِلَيْهِمَا
…
فَكِلَاهُمَا لِلّدِينِ وَاسِطَتَانِ
وإِذَا دُعِيْتَ إِلى أَدَاءِ فَرْيْضَةٍ
…
فَأنْشَطْ وَلَا تَكُ فِي الإجَابَةِ وَانِ
قُمْ بِالصَّلَاةِ الخَمْسِ واعْرِفْ قَدْرَهَا
…
فَلَهُنَّ عِنْدَ اللهِ أَعْظَمُ شَانِ
لَا تَمْنَعَنَّ زَكَاةَ مَالِكَ ظَالِماً
…
فَصَلاتَنَا وَزَكَاتَنَا أُخْتَانِ
لَا تَعْتَقِدْ دِيْنَ الرَّوافِضِ أِنَّهُمْ
…
أَهْلُ المُحَالِ وَشِيعَةُ الشَّيْطَانِ
إٍِنَّ الرَّوافِضَ شّرُّ مَنْ َوِطىءَ الحَصَا
…
مِنْ كُلِّ إِنْسٍ نَاطِقٍ أَوْ جَانِ
مَدَحُوا النَّبِيَّ وَخَوَّنُوا أَصْحَابَهُ
…
وَرَمَوْهُمْ بِالظُّلْمِْ والعُدْوَانِ
قُلْ إِنَّ خَيْرَ الأنْبِياءِ مُحَمَّدٌّ
…
وَأَجَلُّ مَنْ يَمْشِي عَلَى الكُثْبَانِ
قُلْ خَيْر قَوْلٍ فِيٍ صَحَابَةِ أََحْمَدٍ
…
وامْدَحْ جَمِيعَ الآلِ والنِّسْوانِ
دَعْ مَا جَرَى بَيْنَ الصَحَابَةِ فِي الوَغَى
…
لِسُيُوفِهِمْ يَوْمَ الْتَقَى الجَمْعَانِ
لَا تَقْبَلَنَّ مِنَ التَّوَارِخِ كُلَّ مَا
…
جَمَعَ الرُّواةُ وَخَطَ كُلُّ بَنَانِ
ارْوِ الْحَدِيثَ المُنْتَقَى عن أَهْلِهِ
…
سِيْمَا ذَوِي الأحْلَامِ والأسْنَانِ
واحْفَظْ لأَهْلِ البَيْتِ وَاجِبَ حَقِّهِمْ
…
وَاعْرِفْ عَلِياً أيَّمَا عِرْفَانِ
لَا تَنْتَقِصْهُ وَلَا تَزِدْ فِي قَدْرِهِ
…
فعَلَيْهِ تَصْلَى النَّارَ طَائِفَتَانِ
إِحْدَاهُمَا لَا تَرْتَضِيْهِ خَلِيْفَةً
…
وَتَنُصُّهُ الأخْرى إِلهاً ثَانِ
احْذَرْ عِقَابِ اللهِ وَارْجُ ثَوَابَهُ
…
حَتَّى تَكُونَ كَمَنْ لَهُ قَلْبَانِ
وإِذَا خَلَوْتَ بِريَبَةٍ فِي ظُلْمَةٍ
…
وَالنَفْسُ دَاعِيَةٌ إِلى الطُغْيَانِ
فاسْتَحْيْ مِنْ نَظَرِ الإلَه وَقُلْ لَهَا
…
إِنَّ الَّذِي خَلَقَ الظَّلَامَ يَرَانِي
.. كُنْ طَالِباً لِلّعِلْمِ واعْمَلْ صَالِحاً
…
فَهُمَا إِلى سُبْلِ الهُدَى سَبَبَانِ
لَا تَعْصِ رَبَّكَ قَائِلاً أَوْ فَاعِلاً
…
فَكِلَاهُمَا فِي الصُّحْفِ مَكْتُوبَانِ
جَمِّلْ زَمَانَكَ بِالُّسُكوِت فَإِنَّهُ
…
زَيْنُ الحَلِيْمِ وَسِتْرَةُ الحَيْرانِ
كُنْ حِلْسَ بَيْتِكَ إِنْ سَمِعْتَ بِفِتْنَةٍ
…
وَتَوَقَّ كُلُّ مُنَافِقٍ فَتَّانِ
أَدَ الفَرائِضَ لَا تَكُنْ مُتَوانِياً
…
فَتَكُونَ عِنْدَ اللهِ شَرَّ مُهَانِ
أَدَمِ السِّوَاكَ مَعَ الوُضُوءِ فَإِنَّهُ
…
مُرْضِي الإلهِ مُطهَّرِ الأسْنَانِ
سَمِّ الإلَه لَدَى الوُضُوءِ بِنْيَّةٍ
…
ثُمَّ اسْتَعِذْ مِنْ فِتْنَةِ الوَلْهَانِ
فَأَسَاسُ أَعْمَالِ الوَرَى نِيَّاتُهُمْ
…
وعَلَى الأسَاسِ قَواعِدُ البُنْيَانِ
لَا تَلْقَ رَبَّكَ سَارِقاً أَوْ خَائِناً
…
أَوْ شَارِباً أَوْ ظَالِماً أَوْ زَانِي
أَيْقِنْ بِأَشْرَاطِ القِيَامَةِ كُلِّهَا
…
واسْمَعْ هُدِيتَ نَصِيْحَتِي وَبَيَانِ
أَحْسِنْ صَلَاتَكَ رَاكِعاً أَوْ سَاجِداً
…
بِتَطْمْؤُنٍ وَتَرَفُّقٍ وَتَدَانِ
حَصِّنْ صِيَامَكَ بِالسُّكُوتِ عن الخَنَا
…
أَطْبِقْ عَلَى عَيْنَيْكَ بِالأجْفَانِ
لَا تَمْشِ ذَا وَجْهَيْنِ مِنْ بَيْنِ الوَرَى
…
شَرُّ البَرْيَّةِ مَنْ لَهُ وَجْهَانِ
لَا تَحْسُدَنْ أَحَداً عَلَى نَعْمَائِهِ
…
إِنَّ الحَسُودَ لِحُكَمِ رَبِّكَ شَانِ
لَا تَسْعَ بَيْنَ الصَّاحِبَيْنِ نَمِيْمَةً
…
فَلأَجْلِهَا يَتَبَاغَضُ الخِلَانِ
وَتَحَرَّ بِرَّ الوَالِدّيْنِ فَإِنَهُ
…
فرض عَلَيْكَ وطاعة السلطان
" فِي غَيْرِ مَعْصِيَةِ الإلَهِ فَإِنَهُ
…
لَا طَاعَةٌ لِلْخَلْقِ فِي العِصْيَانِ
لَا تَخْرُجَنَّ عَلَى الإمام مُحَارِباً
…
ولَوْ أَنَّهُ رَجُلِ مِنَ الحُبْشَانِ
وَمَتَى أُمِرْتَ بِبِدْعَةٍ أَوْ زَلَّةٍ
…
فَاهْرُبْ بِدِيْنِكَ آخِرَ البُلْدَانِ
الدِّيْنُ رَأْسُ الْمَالِ فاسْتَمْسِكْ بِهِ
…
فَضَيَاعُهُ مِنْ أَعْظَمِ الخُسْرَانِ
لَا تَخْلُ بِامْرَأةٍ لَدَيْكَ بِرِيْبَةٍ
…
لَوْ كُنْتَ فِي النُّسَّاكِ مِثْلَ بَنَانِ
.. واغْضُضْ جُفُونَكَ عن مُلَاحَظَةِ النِّسَا
…
وَمَحَاسِنِ الأحْدَاثِ وَالصِّبْيَانِ
واحْفِرْ لِسِرِّكَ فِي فُؤَادِكَ مَلْحَداً
…
وادْفِنْهُ فِي الأحْشَاءِ أَيَّ دِفَانِ
لَا يَبْدُ مِنْكَ إِلى صَدِيقِكَ زَلَّةٌ
…
واجْعَلْ فُؤَادَكَ أَوْثَقَ الخُلَاّنِ
لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الذُّنُوبِ صِغَارَهَا
…
فَالقَطْرُ مِنْهُ تَدَفُّقُ الخِلْجَانِ
وَإِذَا نَذَرْتَ فَكُنْ بِنَذْرِكَ مُوَفْياً
…
فَالنَّذْرُ مِثْلُ العَهْدِ مَسْئُولَانِ
لَا تَشْغَلَنّ بِعَيْبِ غَيْرِكَ غَافِلاً
…
عن عَيْبِ نَفْسِكَ إِنَّهُ عَيْبَانِ
لَا تُفْنِ عُمْرَكَ فِي الجِدَالِ مُخَاصِماً
…
إِنَّ الجِدَالَ يُخِلُّ بِالأدْيَانِ
وَاحْذَّرْ مُجَادَلَةَ الرِّجَال فَإِنَّهَا
…
تَدْعُو إِلى الشَّحْنَاءِ وَالشَّنَآنِ
وَإِذَا اضْطُرِرْتَ إِلى الجِدَالِ وَلم تَجِدْ
…
لَكَ مَهْرَباً وَتَلَاقَتَ الصَّفَانِ
فَاجْعَلْ كِتَابَ اللهِ دِرْعاً سَابِغاً
…
وَالشَّرْعَ سَيْفَكَ وَابْدُ فِي المَيْدَانِ
وَالسُّنَةَ البَيْضَاءَ دُوْنَكَ جُنَّةًَ
…
وَارْكَبْ جَوَادَ العَزْمِ فِي الجَوَلَانِ
واثْبُتْ بِصَبْرِكَ تَحْتَ ألْوَيِةِ الهُدَى
…
فَالصَّبْرُ أَوْثَقُ عُدَّةِ الإنسان
واطْعن بِرُمْحِ الحَقِ كُلَّ مُعَانِدٍ
…
للهِ دَرُّ الفَارِسِ الطَّعَانِ
واحْمِلْ بِسَيْفِ الصِّدْقِ حَمْلةَ مُخْلِصٍ
…
مُتَجَرِّدٍ للهِ غَيْرَ جَبَانِ
وَإِذَا غَلَبْتَ الخَصْمِ لَا تَهْزَأْ بِهِ
…
فَالعُجْبَ يُخْمِدُ جَمْرَةَ الإنسان
لَا تَغْضَبَنَّ إِذَا سُئِلْتَ وَلَا تَصِحْ
…
فَكِلَاهُمَا خُلُقَانِ مَذْمُومَانِ
كُنْ طُوْلَ دَهْرِكَ سَاكِتاً مُتَواضِعاً
…
فَهُمَا لِكُلِّ فَضِيْلَةٍ بَابَانِ
واخْلَعْ رِدَاءَ الكِبْرِ عنكَ فَإِنَّهُ
…
لَا يَسْتَقِلُّ بِحَمْلِهِ الكَتِفَانِ
كُنْ فَاعِلاً لِلّخَيْرِ قَوَّإلا لَهُ
…
فَالقَوْلُ مِثْلُ الْفِعْلِ مُقْتَرِنَانِ
مِنْ غَوْثِ مَلْهُوْفٍ وَشَبْعَةِ جَائِعٍ
…
وَدِثَارِ عُرْيَانٍ وَفِدْيَةِ عَانِ
فَإِذَا فَعَلْتَ الْخَيْرَ لَا تَمْنُنْ بِهِ
…
لَا خَيْرَ فِي مُتَمَدِّحٍ مَنَانِ
.. اشْكُرْ عَلَى النَّعْمَاءِ واصْبِرْ لِلْبَلَا
…
فَكِلَاهُمَا خُلُقَانِ مَمْدُوْحَانِ
لَا تَشْكُوَنَّ بِعِلّةٍ أَوْ قِلَّةٍ
…
فَهُمَا لِعِرَضِ المَرْءِ فَاضِحَتَانِ
صُنْ حُرَّ وَجْهِكَ بِالقَنَاعَةِ إِنَّمَا
…
صَوْنَ الوُجُوهِ مُرُوْءَةُ الفِتْيَانِ
بِاللهِ ثِقْ وَلَهُ أَنِبْ وَبِهِ اسْتَعِنْ
…
فَإِذَا فَعَلتَ فَأَنْتَ خَيْرُ مُعَانِ
وَإِذَا عَصَيْتَ فَتُبْ لِرَّبِكَ مُسْرِعاً
…
حَذَرَ الْمَمَاتِ وَلَا تَقُلْ لم يَانِ
وَإِذَا ابْتُلِيْتَ بِعُسْرَةٍ فَاصْبِرْ لَهَا
…
فَالعُسْرُ فَرْدٌ بَعْدَهُ يُسْرَانِ
لَا تَتَّبِعْ شَهَوَاتِ نَفْسِكَ مُسْرِفاً
…
فَاللهُ يُبْغِضُ عَابِداً شَهْوَانِي
اعْرِضْ عن الدُّنْيَا الدَّنيَّةِ زَاهِداً
…
فَالزُّهْدُ عِنْدَ أُولِي النُّهَى زُهْدَانِ
زُهْدّ عن الدُّنْيَا وَزُهْدّ فِي الثَّنَا
…
طُوبَى لِمَنْ أَمْسَى لَهُ الزُّهْدَانِ
وَاحْفَظْ لِجَارِكَ حَقَّهُ وَذِمَامَهُ
…
وَلِكُلَِّ جَارٍ مُسْلِمٍ حَقَّانِ
واضْحَكْ لِضَيْفِكَ حِيْنَ يُنْزِلُ رَحْلَهُ
…
إِنَّ الكَرِيْمَ يُسَرُّ بِالضَّيِفَانِ
وَصِلْ ذَوِي الأرْحَامِ مِنْكَ وَإِنْ جَفَوْا
…
فَوِصَالُهُمْ خَيْرٌ مِنْ الهِجْرانِ
وَاصْدُقْ وَلَا تَحْلِفْ بِرَبِكَ كَاذِباً
…
وَتَحَرَّ فِي كَفَّارَةِ الإيمان
وَتَوَقَّ أَيْمَانَ الغَمُوسِ فَإِنَّهَا
…
تَدَعْ الدّيَارَ بِلَاقِعَ الحِيْطَانِ
أَعْرِضْ عن النِّسْوانِ جُهْدَكَ وانْتَدِبْ
…
لِعِنْاقِ خَيْراتٍ هُنَاكَ حِسَانِ
فِي جَنَّةٍ طَابَتْ وَطَابَ نَعْيْمُهَا
…
مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ بِهَا زَوْجَانِ
إِنْ كُنْتَ مُشْتَاقاً لَهَا كَلِفاً بِهَا
…
شَوْقَ الغَرِيْبِ لِرُؤْيَةِ الأوْطَانِ
كُنْ مُحْسِناً فِي مَا اسْتَطَعْتَ فَرُبَما
…
تُجْزَى عن الإحْسَانِ بِالإحْسَانِ
واعْمَلْ لِجَنَّاتِ النَّعِيْمِ وَطِيْبِهَا
…
فَنَعِيْمُهَا يَبْقَى وَلَيْسَ بِفَانِ
قُمْ فِي الدُّجَى واتْلُ اْلكِتَابَ وَلَا تَنَمِ
…
إلا كَنَوْمَةِ حَائِرٍ وَلْهَانِ
فَلَرُبَما تَأْتِي المَنِيَّةُ بَغْتَةً
…
فَتُسَاقُ مِنْ فُرُشٍ إِلى الأكْفَانِ
.. يَا حَبَّذَا عَيْنَانِ فِي غَسَقِ الدُجَى
…
مِنْ خَشْيَةِ الرَّحْمَنِ بَاكِيَتانِ
لَا تَجْزَعَنَّ إِذَا دَهَتْكَ مُصِيْبَةٌ
…
إِنَّ الصَّبْورَ ثَوَابُهُ ضِعْفَانِ
فَإِذَا ابْتُلِيْتَ بِنَكْبَةٍ فَاصْبِرْ لَهَا
…
اللهُ حَسْبِي وَحْدَهُ وَكَفَانِي
وعَلَيْكَ بِالفِقْهِ المُبَيِّنِ شَرْعَنَا
…
وَفَرَائِضِ المِيْرَاثِ وَالقُرْآنِ
أَمْرِرْ أَحَادِيثَ الصِّفَاتِ كَمَا أَتَتْ
…
مَنْ غَيْرَ تَحْرِيْفٍ وَلَا هَذَيَانِ
هُوَ مَذْهَبُ الزُّهْرِيُ وَوَافَقَ مَالِكٌ
…
وَكِلَاهُمَا فِي شَرْعِنا عَلَمَانِ
واللهُ يَنْزِلُ كُلَّ آخِرِ لَيْلَةٍ
…
بِسَمَائِهِ الدُّنْيَا بِلَا كِتْمَانِ
فَيَقُولُ هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُجِيْبُهُ
…
فَأَنَا القَرْيِبُ أُجِيْبُ مَنْ نَادَانِي
والأصْلُ أَنَّ اللهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ
…
شَيْءٌ تعالى الرَّبُّ ذُو الإحْسَانِ
صَلَّى الإلَهُ عَلَى النَّبِيّ مُحَمَّدٍ
…
مَا نَاحَ قَمْرِيٌّ عَلَى الأغْصَانِ
وعَلَى جَمِيْعِ بَنَاتِهِ وَنِسَائِهِ
…
وعَلَى جَمِيْعِ الصَّحْبِ والإخْوانِ
(موعظة)
عِبَادَ اللهِ: أين الَّذِينَ سادوا وشادوا أوطاننا، وحكموا وأحكموا بنيانَا، وجمعوا فحشدوا أموالاً وأعوانَاً عوضوا بأرباح الهَوَى خسرانَاً، وبدلوا بإعزاز الكبر والتجبر هوانَاً وأخرجوا من ديارهم بعد الجموع وحدانَاً، وما استصحبوا مِمَّا جمعوا إلا أكفاناً.
نصِيْبُكَ مِمَّا تَجْمَعَ الدَّهْرَ كُلَّهُ
…
رِدَاً أنِ تُطْوَى فِيه مَا وَحَنُوْطُ
آخر:
…
فَمَا تَزَوَدَ مِمَّا كَانَ يَجْمَعُهُ
…
سِوَى حَنُوطِ غَدَاةِ البَيْنِ فِي خَرَقِ
وغَيْرَ نِفْحَةِ أَعْوَادٍ تُشَبُ لَهُ
…
وَقَلّ ذَلِكَ مِنْ زَادٍ لِمُنْطَلِقِ
يحملون عَلَى الأعناق ولا يسمون ركبانَاً، وينزلون بطون الألحاد ولا يسمون ضيفانَاً، متقاربين فِي القبور ولا يسمون جيراناً.
أولَيْسَ قَدْ رأينا كيف ينقلون ولا كفانَا، فيا من قَدْ بقي من عمره القليل ولا يدري متي يقع الرحيل، كأنك بطرفك حين الموت يسيل والروح تنزع والكرب ثقيل، والنقلة قَدْ قربت وأين المقيل، أفِي الْجَنَّة ونعيمها والسلسبيل أم فِي الجحيم وأنكالها وأغلالها وبئس المقيل.
يا من تعد أنفاسه استدركها، يا من ستفوته أيامه أدركها، إن أعز الخلق عَلَيْكَ نفسك فلا تهلكها كم أغلقت باباً عَلَى قبيح، وكم أعرضت عن قول المخلص النصيح، أعظم الله أجرك فِي عمر قَدْ مضي ما رزقت فِيه العفو ولا الرضي.
انقضت فِيه اللذات كمن قضي، وصَارَت الحسرات من الشهوات عوضاً، قال الله جَلَّ وَعَلا وتقدس {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} وَقَالَ تعالى {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} وَاللهُ أَعْلم وصلي الله عَلَى مُحَمَّد.
" موعظة "
عِبَادَ اللهِ: ما هذه الغَفْلَة وأنتم مستبصرون وما هذه الرقدة وأنتم مستيقظون كيف نسيتم الزَادَ وأنتم راحلون، أين من كَانَ قبلكم إلا تتفكرون أما رأيتك كيف نازلهم المنون {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} .
عِبَادَ اللهِ: لَوْ حضرت القُلُوب لجرت من العيون عيون فكأنكمْ بالآلام قَدْ اعترضت، وبالأجسام قَدْ انقضت، وبالأوصال قَدْ فصلت، فرحم الله عبداً أعتق نَفْسهُ من رق شهواتها ونظر لها قبل مماتها وأخذ من جدته عتاداً لفقره وادخر من صحته زَاداً لقبره قبل أن يفوت زمن الاستدراك بوقوع الهلاك.
فكأنكم بالموت قَدْ حل العراص، وأنشب مخالبيه فِي الأرواح للاقتناص، وأين لكم الفلات فلات حين مناص ثُمَّ يقومون للحساب والجزاء والقصاص.
وإِذَا الخلائق قَدْ حشرت، وإِذَا الصحف نشرت، وإِذَا جهنم
قَدْ سيقت ومرارة الندم قَدْ ذيقت، فستنطق عليكم الجوارح وتنشر حين الِقَضَاءِ الفضائح.
فيا خجل المقصرين ويا أسف المذنبين ويا حَسْرَة المفرطين ويا سوء منقلب الظالمين، قال الله جَلَّ وَعَلا وتقدس وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء} .
وَقَالَ تعالى: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} .
خَفِ اللهُ فِي ظُلْمِ الوَرَى واحْذَرَنَّهُ
…
وَخَفْ يَوْمَ عَضَ الظَالِمِونَ عَلَى اليَدِ
وَاللهُ أَعْلم وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وآله وسلم.
فصل: قال بعض السَّلَف: ما سبقهم أبو بكر بكثرة صوم ولا صلاة ولكن بشَيْء وقر فِي صدره.
وَقَالَ بَعْضهمْ: الَّذِي كَانَ فِي صدر أبي بكر رضي الله عنه المحبة لله والنصيحة لعباده
وَقَالَ طائفة من العارفين: ما بلغ من بلغ بكثرة صيام ولا صلاة ولكن بسخاوة الأنفس وسلامة الصدر والنَّصِيحَة للأمة، زَادَ بَعْضهمْ: وبذم نفوسهم.
وَقَالَ آخر: إنما تفاوتوا بالإرادات ولم يتفاوتوا بكثرة الصيام والصلوات.
وذكر لأبي سليمان: طول أعمار بني إسرائيل وشدة اجتهادهم فِي الأعمال، وأن من النَّاس من غبطهم بذَلِكَ، فَقَالَ: إنما يريد الله منكم صدق النِّيْة فيما عنده. أو كما قال.
وَقَالَ ابن مسعود رضي الله عنه لأصحابه: أنتم أكثر صوماً وصلاةً من أصحاب مُحَمَّد ?، وهم كَانُوا خيراً منكم، قَالُوا: وبما ذاك؟ قال: كَانُوا أزهد منكم فِي الدُّنْيَا وأرغب فِي الآخرة.
يشير إلي الصحابة رضي الله عنهم فاقوا عَلَى من بعدهم بشدة تعلق قُلُوبهمْ بالآخرة ورغبتهم فيها وإعراضهم عن الدُّنْيَا وتحقيرها وتصغيرها.
وهذه الحال ورثوها من نبيهم ?، فإنه كَانَ أشد الخلق فراغاً بقَلْبهُ من الدُّنْيَا وتعلقه بِاللهِ والدار الآخرة مَعَ ملابسته للخلق بظاهره، وقيامه بأعباء النبوة وسياسة الدين والدنيا.
وكَذَلِكَ خلفاؤه الراشدون بعده، وكَذَلِكَ أعيان التابعين لهُمْ بإحسان كالحسن وعمر بن عَبْد الْعَزِيز وقَدْ كَانَ فِي زمأنَّهُمْ من هُوَ أكثر مِنْهُمْ صوماً، اللَّهُمَّ ارزقنا حبك وحب من يحبك وحب الْعَمَل الَّذِي يقربنا إلي حبك، اللَّهُمَّ ثَبِّتْ إيماننا ثبوت الجبال الراسيات ووفقنا للعمل بالباقيات الصالحات واعصمنا يا مولانَا عن المحرمَاتَ والمشتبهات واغفر لنا جَمِيع الخطايا والزلات وافتح لدعائنا باب القبول والإجابات يا أجود الأجودين وأكرم الأكرمين وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
وَقَالَ ابن رجب رحمه الله عَلَى " قوله ? فِي حديث أَبِي هُرَيْرَةِ وعَائِشَة رضي الله عنهما فسددوا وقاربوا: المراد بالتسديد الْعَمَل بالسداد، وَهُوَ القصد والتوسط فِي العبادة فلا يقصر فيما أمر به، ولا يتحمل منها ما لا يطيقه".
قال النضرُ بنُ شُمَيْلٍ: السداد القصد فِي الدين والسبيل، وكذا
المقاربة، المراد التوسط بين التفريط والإفراط فهما كلمتان بمعني واحد أو متقارب، وَهُوَ المراد بقوله فِي الرواية الأخري:" عليكم هدياً قاصداً ".
قوله: وأبشروا يعني أن من مشي فِي طاعة الله عَلَى التسديد والمقاربة فليبشر، فإنه يصل ويسبق الدائب المجتهد فِي الأعمال فإن طريقة الاقتصاد والمقاربة أفضل من غيرها.
فمن سلكها فليبشر بالوصول فإن الاقتصاد فِي سنة خَيْر من الاجتهاد فِي غيرها. وخَيْر الهُدَى هدي مُحَمَّد ?، فمن سلك طريقه كَانَ أقرب إلي الله من غيره.
ولَيْسَتْ الفضائل بكثرة الأعمال البدنية، لكن بكونها خالصة لله صواباً عَلَى متابعة السنة وبكثرة معارف القُلُوب وأعمالها.
فمن كَانَ بِاللهِ أعلم وبدينه وأحكامه وشرائعه أعلم، وله أخوف وأحب وأرجي فهو أفضل ممن لَيْسَ كَذَلِكَ، وإن كَانَ أكثر منه عملاً بالجوارح.
وإلي هَذَا المعني الإشارة فِي حديث عَائِشَة رضي الله عنها بقول النَّبِيّ ?: "سددوا وقاربوا واعلموا أنه لن يدخل أَحَداً منكم عمله الْجَنَّة، وإن أحب الأعمال إلي الله أدومها وإن قل".
فأمر بالاقتصاد فِي الْعَمَل وأن يضم إلي ذَلِكَ الْعَمَل بأحب الأعمال إلي الله، وبأن الْعَمَل وحده لا يدخل الجنة.
وصلاةً، ولكن لم يصل إلي ما وصلت إليه قُلُوب هؤلاء من ارتحاله عن الدُّنْيَا وتوطنها فِي الآخرة.
فأفضل النَّاس من سلك طَرِيق النَّبِيّ ? وخواص أصحابه فِي الاقتصاد فِي العبادة البدنية والاجتهاد فِي الأحوال القبلية فإن سفر الآخرة يقطع بسير القُلُوب لا بسير الأبدان.
جَاءَ رجل إلي بعض العارفين فَقَالَ لَهُ: قطعت إليك مسافة، فَقَالَ لَهُ: لَيْسَ هَذَا الأمر بقطع المسافات، فارق نفسك بخطوة وقَدْ حصل لك مقصودك. قال أبو يزيد: رَأَيْت رب العزة فِي المنام فقُلْتُ لَهُ: يا رب كيف الطَرِيق إليك؟ قال: اترك نفسك وتعال.
ما أعطيت أمة ما أعطيت هذه الأمة ببركة متابعة نبيها ?، حيث كَانَ أفضل الخلق، وهديه أكمل الهُدَى مَعَ ما يسر الله عَلَى يديه من دينه، ووضع به الآصار والأغلال عن أمته، فمن أطاعه فقَدْ أطاع الله وأحبه الله، واهتدي بهدي الله.
فمن جملة ما حصل لأمته ببركته وتيسير شريعته أن من صلي مِنْهُمْ العشاء فِي جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلي الفجر فِي جماعة فكأنما قام الليل كله، فيكتب لَهُ قيام ليلة وَهُوَ نائم عَلَى فراشه، ولا سيما إن نام عَلَى طهر وذكر حتي تغلبه عيناه.
ومن صام مِنْهُمْ ثلاثة أيام من كُلّ شهر فقَدْ صام الشهر كله وَهُوَ صائم لبقية الشهر فِي ضيافة الله، ومفطر لَهُ فِي رخصه والطاعم الشاكر لَهُ أجر الصائم الصابر. ومن نوي أن يقوم من الليل فغلبته عَيْنَاهُ فنام كتب لَهُ ما نوي، وكَانَ نومه عَلَيْهِ صدقة.
وَقَالَ أبو الدرداء: يا حبذا نوم الأكياس وإفطارهم كيف يسبقون سهر الحمقي وصيامهم. ولهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيث الصحيح: "رب قائم حظه من قيامه السهر، وصائم حظه من صيامه الجوع والعطش" رواه الطبراني وأَحمَدُ بنُ حنبل.
وَقَالَ بَعْضهمْ: كم من مستغفر ممقوت وساكت مرحوم، وهَذَا استغفر وقَلْبهُ فاجر، وهَذَا ساكت وقَلْبهُ ذاكر، وَقَالَ بَعْضهمْ: لَيْسَ الشأن فيمن يقوم الليل، إنما الشأن فيمن ينام عَلَى فراشه ثُمَّ يصبح وقَدْ سبق الركب.
اللَّهُمَّ وفقنا لما وفقت إليه القوم وأيقظنا من سنة الغَفْلَة والنوم وارزقنا الاستعداد لذَلِكَ الْيَوْم الَّذِي يربح فِيه المتقون، اللَّهُمَّ وعاملنا بإحسانك وَجَدَ عَلَيْنَا بِفَضْلِكَ وامتنانك وَاجْعَلْنَا مِنْ عبادك الَّذِينَ لا خوف عَلَيْهمْ ولا هم يحزنون اللَّهُمَّ ارحم ذلنا بين يديك واجعل رغبتنا فيما لديك، ولا تحرمنا بذنوبنا، ولا تطردنا بعيوبنا، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
وَقَالَ رحمه الله:
قوله ?: " اغدوا وروحوا وشَيْء من الدلجة ". كقوله فِي الرواية الأخري: " استعينوا بالغدوة والروحة وشَيْء من الدلجة ". يعني أن هذه الأوقات الثلاثة تَكُون أوقات السير إلي الله بالطاعات، وهي آخر الليل وأول النَّهَارَ وآخره.
وقَدْ ذكر الله هذه الأوقات فِي قوله تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً} . وَقَالَ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} ، وَقَالَ:{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} .
وذكر الله تعالى الذكر فِي طرفِي النَّهَارِ فِي مواضع كثيرة من كتابه كقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} وَقَالَ: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} . وقال: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} وَقَالَ: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} .
فهذه الأوقات الثلاثة منها وقتان وهما أول النَّهَار وآخره يجتمَعَ فِي كُل من هذين الوقتين عمل واجب هُوَ تطوع فأما الْعَمَل الواجب فهو صلاة الصبح وصلاة العصر وهما من أفضل الصلوات الخمس، وهما البردان اللذان من حافظ عَلَيْهِمَا دخل الْجَنَّة، وقَدْ قيل فِي كُلّ مِنْهُمَا أنها الصَّلاة الوسطي.
وأما الْعَمَل التطوع فهو ذكر الله بعد صلاة الصبح حتي تطلع الشمس، وبعد العصر حتي تغرب الشمس. وقَدْ وردت النصوص الكثيرة فِي أذكار الصباح والمساء وفِي فضل من ذكر الله حيث يصبح وحيث يمسي.
وقَدْ روي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً: " ابن آدم اذكرني ساعة من أول النَّهَارَ وساعة من آخره أغفر لك ما بين ذَلِكَ إلا الكبائر أو تتوب منها ". وكَانَ السَّلَف لآخر النَّهَارَ أشد تعظيماً من أوله.
قال ابن المبارك: بلغنا أنه من ختم نهاره بذكر الله كتب نهاره كله ذكراً. وَقَالَ أبو الجلد: بلغنا أن الله تعالى ينزل مساء كُلّ يوم إلي السماء الدُّنْيَا ينظر إلي أعمال بني آدم.
عَلَيْكَ يَاذَا الجَلَالِ مُعْتَمَدِي
…
طُوبَى لِمَنْ كُنْتَ أَنْتَ مَوْلَاهْ
طُوبَى لِمَنْ بَاتَ خَائِفاً وَجِلاً
…
يَشْكُوا إِلى ذِي الجَلَالِ بَلْوَاهْ
وَمَا بِهِ عِلَّةٌ وَلَا سَقَمٌ
…
أَكْثَرَ مِنْ حُبّهِ لِمَوْلَاهْ
ورأي بعض السَّلَف أبا جعفر القاري فِي المنام فَقَالَ لَهُ: قل لأبي حازم – يعني الأعرج الزاهد الكيس: إن الله وملائكته يتراءون مجلسك بالعشيات. والظاهر أن أبا حازم كَانَ يقص عَلَى النَّاس آخر النهار.
وقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيث أن الذكر بعد الصبح أفضل من أربع رقاب وبعد العصر أحب من ثمان. وأيضاً فيوم الْجُمُعَة آخره أفضل من أوله لما يرجي فِي آخره من ساعة الإجابة.
ويوم عرفة آخره أفضل من أوله لأنه وَقْت الوقوف. وكَذَلِكَ آخر الليل أفضل من أوله، وَكَذَا قال السَّلَف، واستدلوا بحديث النزول الإلهي. وهَذَا كله مِمَّا يرجح به قول من قال أن صلاة العصر هِيَ الوسطي.
وأما الوَقْت الثالث فهو الدلجة. والإدلاج سير آخر الليل، والمراد هنا الْعَمَل فِي آخر الليل وَهُوَ وَقْت الاستغفار كما قال تعالى:{وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} وَقَالَ: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} .
وهو آخر أوقات النزول الإلهي المتضمن لاستعراض حوائج السائلين، واستغفار المذنبين، وتوبة التائبين، وسط الليل للمحبين للخلوة بحبيبهم، وآخر الليل للمذنبين يستغفرون من ذنوبهم، من عجز عن مُشَارَكَة المحبين فِي الجري معهم فِي ذَلِكَ المضمار فلا أقل من مُشَارَكَة المذنبين فِي الاعتذار.
ورد فِي بعض الآثار: أن العرش يهتز من السحر. قال طاووس ما كنت أظن أن أَحَدًا ينام فِي السحر.
وفِي الْحَدِيث الَّذِي خرجه الترمذي: " من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل. سير الدلجة آخر الليل يقطع به سفر الدُّنْيَا والآخرة ".
ولهَذَا الْحَدِيث الَّذِي أخرجه مسلم: " إِذَا سافرتم فعليكم بالدلجة فإن الأرض تطوي بالليل " وقَدْ دخل الأشتر عَلَى عَلَي رضي الله عنه وَهُوَ يصلي فأنشد:
اصْبِرْ عَلَى مَضَضِ الإدْلَاجِ بِالسَّحَرِ
…
وفِي الرَّواحِ عَلَى الطَاعَاتِ وَالبُكَرِ
لَا تَضْجَرَنّ وَلَا يُعْجِزْكَ مَطْلَبُهَا
…
فَالهَمُ يَتْلَفُ بَيْنَ اليَأْسِ وَالضَّجَرِ
إِنّي رَأَيْتُ وفِي الأيَّامِ تَجْرُبَةٌ
…
لِلصَّبْرِ عَاقِبَةٌ مَحْمُودَةُ الأثَرِ
وَقَلَّ مَنْ جَدَّ فِي أَمْرٍ تَطَلّبَهُ
…
واسْتَصْحِبَ الصَّبْرَ إلا فَازَ بِالظَفَرِ
اللَّهُمَّ ألحقنا بعبادك الصالحين الأبْرَار، وآتنا فِي الدُّنْيَا حسنة وفِي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا، وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ الأحياء مِنْهُمْ والميتين، بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وصلي الله عَلَى سيدنا مُحَمَّد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
وَقَالَ رحمه الله:
وقوله ?: " والقصد القصد تبلغوا ". حث عَلَى الاقتصاد فِي العبادة، والتوسط فيها بين الغلَوْ والتقصير"، ولذَلِكَ كرره مرة بعد مرة. وفِي مسند البزار من حديث حذيفة رضي الله عنه: ما أحسن القصد فِي الفقر، وما أحسن القصد فِي الغني، وما أحسن القصد فِي العبادة.
وكَانَ مطرِّفُ بن عَبْد اللهِ بن الشخِّيْر قَدْ اجتهد فِي العبادة فَقَالَ له
أبوه: خَيْر الأمور أوسطها، الحسنة بين السيئتين، وشر السير القحقحة أن يلح فِي شدة السير حتي تَقُوم عَلَيْهِ راحلته وتعطب فيبقي منقطع به سفره، انتهي.
ويشهد لهَذَا الْحَدِيث المروي عن عَبْد اللهِ بن عمرو رضي الله عنهما مرفوعاً: "إن هَذَا الدين متين فأوغل فِيه برفق ولا تبغض إلي نفسك عبادة الله، فإن المنبت لا سفراً قطع ولا ظهراً أبقي فاعمل عمل امريء يظن أنه لن يموت إلا هرماً وَاحْذَر حذر امريء يخشي أن يموت غداً" أخرجه حميد بن زنجويه وغيره.
وفِي تكرير أمره بالقصد إشارة إلي المداومة عَلَيْهِ فإن شدة السير والاجتهاد مظنة السآمة والانقطاع، والقصد أقرب إلي الدوام، ولهَذَا جعل عاقبة القصد البلوغ. قال أدلج: بلغ المنزل.
فالمُؤْمِن فِي الدُّنْيَا يسير إلي ربه حتي يبلغ إليه كما قال تعالى: (يا أيها الإنسان إنك كادح إلي ربك كدحاً فملاقيه) وَقَالَ تعالى: (واعبد ربك حتي يأتيك إليقين)، قال الحسن: يا قوم: المداومة فإن الله لم يجعل لعمل المُؤْمِن أجلاً دون الموت ثُمَّ تلي هذه الآية.
وَقَالَ أيضاً: نفوسكم مطاياكم فأصلحوا مطاياكم تبلغكم إلي ربكم عز وجل. وإصلاح المطايا، الرفق بِهَا وتعاهدها بما يصلحها من قوتها والرفق بِهَا فِي سيرها، فإِذَا أحس بِهَا بتوقف فِي السير تعاهدها تَارة بالتشويق وتَارة بالتخويف حتي تسير.
قال بعض السَّلَف: الرجَاءَ قائد والخوف سائق، والنفس بينهما، كالدابة الحرون، فمتي فتر قائدها وقصر سائقها وقفت فتحتاج إلي الرفق بِهَا والحدو لها حتي يطيب لها السير.
قال خليد العصري: إن كُلّ حبيب يحب أن يلقي حبيبه فأحبوا ربكم وسيروا إليه مسيراً جميلاً لا مصعداً ولا مميلاً، فغاية السير يوصل المُؤْمِن إلي ربه، ومن لا يعرف الطَرِيق إلي ربه لم يسلك إليه فِيه، فهو والبهيمة سواء.
قال ذو النون: السفلة من لا يعرف الطَرِيق إلي الله ولا يتعرفه. والطَرِيق إلي الله هُوَ سلوك صراطه المستقيم الَّذِي بعث الله به رسوله وأنزل به كتابة وأمر الخلق كلهم بسلوكه والسير فيه.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: الصراط المستقيم، تركنا مُحَمَّد ? فِي أدناه وطرفه فِي الْجَنَّة، وعن يمينه جواد وثُمَّ رِجَال يدعون من مر بِهُمْ، فمن أخذ فِي تلك الجواد انتهت به إلي النار، ومن أخذ عَلَى الصراط انتهي به إلي الجنة. ثُمَّ قَرَأَ:(وأن هَذَا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) أخرجه ابن جرير وغيره.
فالطَرِيق الموصل إلي الله واحد، وَهُوَ صراطه المستقيم، وبقية السبل كُلّهَا سبل الشيطان، من سلكها قطعت به عن الله، وأوصلته دار سخطه وغضبه وعقابه، فربما سلك الإنسان فِي أول أمره عَلَى الصراط المستقيم ثُمَّ ينحرف عنهُ آخر عمره فيسلك بعض سبل الشيطان فيقطع عن الله فيهلك.
"إن أحدكم ليعمل بعمل أَهْل الْجَنَّة حتي ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو باع فيعمل بعمل أَهْل النار فيدخل النار" وَرُبَّمَا سلك بالرجل أولاً بعض سبل الشيطان ثُمَّ تدركه السعادة فيسلك الصراط المستقيم فِي آخر عمره فيصل به إلي الله.
والشأن كُلّ الشأن فِي الاستقامة عَلَى الصراط المستقيم من أول السير إلي الله (ذَلِكَ فضل الله يؤتيه من يشاء)(والله يدعو إلي دار السَّلام ويهدي من يشاء إلي صراط مستقيم) . ما أكثر من يرجع أثناء الطَرِيق وينقطع، فإن القُلُوب بين أصبعين من أصابع الرحمن (يثَبِّتْ الله الَّذِينَ آمنوا بالقول الثابت) .
خَلِيْليَّ قُطّاعٌ الطَرِيقِ إِلى الحِمَا
…
كَثِيرٌ وَأَمَّا الوَاصِلُونَ قَلِيْلُ
وفِي الْحَدِيث الصحيح الإلهي (القدسي) يَقُولُ الله عز وجل: (من تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً، ومن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً ومن أتاني يمشي أتيته هرولة".
وفِي المسند زيادة: "والله أعلا وأجل والله أعلا وأجل"، وفِيه أيضاً: يَقُولُ الله: (ابن آدم قم إلي وامش إلي أهرول إليك) .
اللَّهُمَّ أعذنا بمعافاتك من عقوبتك وبرضاك من سخطك واحفظ جوارحنا من مخالفة أمرك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ الأحياء مِنْهُمْ جوارحنا من مخالفة أمرك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وآله وصحبه.
(فَصْلٌ)
الوصول إلي الله نوعان: أحدهما فِي الدُّنْيَا، والثاني فِي الآخرة. فأما الوصول الدنيوي فالمراد به: أن القُلُوب تصل إلي معرفته، فإِذَا عرفته أحبته، وأنست به فوجدته منها قريباً، ولدعائها مجيباً، كما فِي بعض الآثار:" ابن آدم اطلبني تجدني فإن وجدتني وجدت كُلّ شَيْء، وإن فتك فاتك كُلّ شيء ".
الصراط المستقيم فِي الدُّنْيَا يشتمل عَلَى ثلاث درجات: درجة الإسلام، ودرجة الإيمان، ودرجة الإحسان. فمن سلك درجة الإسلام إلي أن يموت عَلَيْهَا منعته من الخلود فِي النار، ولم يكن لَهُ بد من دخول الْجَنَّة، وإن أصابه قبل ذَلِكَ ما أصابه.
ومن سلك عَلَى درجة الإيمان إلي أن يموت عَلَيْهَا منعته من دخول النار بالكلية فإن الإيمان يطفئ لهب نار جهنم حتي تَقُول: يا مُؤْمِن جز فقَدْ أطفأ نورك لهبي.
وفِي المسند عن جابر رضي الله عنه مرفوعاً: "لا يبقي بر ولا فاجر إلا دخلها فتَكُون عَلَى المُؤْمِن برداً وسلاماً كما كانت عَلَى إبراهيم، حتي إن للنار ضجيجاً من بردهم، هَذَا ميراث ورِثَه المحبونه من حال أبيهم إبراهيم عليه السلام".
ومن سلك عَلَى درجة الإحسان إلي أن يموت عَلَيْهَا وصل بعد الموت إلي الله: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} . وفِي الْحَدِيث الصحيح: "إِذَا دخل أَهْل الْجَنَّة الْجَنَّة نادي مناد يا أَهْل الْجَنَّة إن لكم عِنْدَ الله موعداً يريد أن ينجزكموه.
فيقولون: ما هو؟ ألم يبيِّض وجوهنا؟ ألم يثقل موازيننا؟ فوَاللهِ ما أعطاهم الله شيئاً أحب إليهم، ولا أقر لأعينهم من النظر إليه، وَهُوَ الزيادة، ثُمَّ تلا: لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} .
كل أَهْل الْجَنَّة يشتركون فِي الرواية ولكن يتفاوتون فِي القرب فِي حال الرؤية. عموم أَهْل الْجَنَّة يرون ربهم يوم المزيد وَهُوَ يوم الْجُمُعَة، وخواصهم ينظرون إلي وجه الله فِي كُلّ يوم مرتين بكرة وعشياً. العارفون لا يسليهم عن محبوبهم قصر ولا يرويهم دونه نهر.
وَيَرُونَهُ سُبْحَانَهُ مِنْ فَوقِهِمْ
…
نَظَرَ العِيَانِ كَمَا يُرَى القَمَرانِ
هَذَا تَوُاتَرَ عن رَسُوْلِ اللهِ لم
…
يُنْكِرُهُ إلا فَاسِدُ الإيمان
وَأَتَى بِهِ القُرّآنُ تَصْرِيَحاً وَتَعْـ
…
ـريْضاً هُمَا بسِيَاقِهِ نَوْعَانِ
وَهِيَ الزِيادَةُ قَدْ أَتَتْ فِي يُونُسٍ
…
تَفْسِيرَ مَنْ قَدْ جَاءَ بِالقُرّآنِ
وَهِيَ المَزْيِدُ كَذَاكَ فَسَرَهُ أَبُو
…
بَكْرٍ هُوَ الصِدْيِقُ ذُوْ الإيمان
وعَلَيْهِ أَصْحَابُ الرَّسُولِ تَتَابَعُو
…
هُمْ بَعْدَهُمْ تَبَعِيَةَ الإحْسَانِ
اللَّهُمَّ امنُنْ عَلَيْنَا بإصلاح عيوبنا واجعل التقوي زادنا وفِي دينك اجتهادنا وعليك توكلنا واعتمادنا وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
وفِي المسند عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً: "إن أدني أَهْل الْجَنَّة منزلة لينظر فِي ملكه ألفِي سنة يري أقصاه كما يري أدناه، ينظر إلي أزواجه وخدمه، وإن أفضلهم منزلة لمن ينظر إلي وجه الله تبارك وتعالى كُلّ يوم مرتين" وأخرجه الترمذي، ولفظه "إن أدني أَهْل الْجَنَّة منزلة لمن ينظر إلي أزواجه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة".
وأكرمهم عَلَى الله من ينظر إلي وجهه غدوة وعشياً ثُمَّ قَرَأَ رسول الله ?: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ولهَذَا المعني قَالَ رَسُولُ اللهِ ? فِي الْحَدِيث الصحيح حديث جرير بن عَبْد اللهِ البجلي: " إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون فِي رؤيته ". قال: " فإن استطعتم إلا تغلبوا عَلَى صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل
غروبِهَا فافعلوا ". ثُمَّ قَرَأَ {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} .
ولما كَانَ هذان الوقتان فِي الْجَنَّة وقتان للرؤية فِي خواص أَهْل الْجَنَّة، خص ? عَلَى المحافظة عَلَى الصَّلاة فِي هذين الوقتين فِي الدُّنْيَا فمن حافظ عَلَى هاتين الصلاتين فِي الدُّنْيَا فِي هذين الوقتين وصلاهما عَلَى أكمل وجوههما وخشوعهما وحضورهما وأدبهما فإنه يرجي لَهُ أن يكون ممن يري الله فِي هذين الوقتين فِي الْجَنَّة، لا سيما إن حافظ بعدهما عَلَى الذكر وأنواع العبادات حتي تطلع الشمس أو تغرب.
فإن وصل الْعَبْد ذَلِكَ بدلجة آخر الليل فقَدْ اجتمَعَ لَهُ السير فِي الأوقات الثلاثة وهي: الدلجة، والغدوة، والروحة، فيوشك أن يعقبه الصدق فِي هذَا السير الوصول الأعظم إلي ما يطلبه فِي مقعد صدق عِنْدَ مليك مقتدر.
من لزم الصدق فِي طلبه أداه الصدق إلي مقعد الصدق. {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ} .
المحب لا يقطع السؤال عمن يحب ويتحسس الأخبار وينسم الرياح ويستدل بآثار السلوك عَلَى الطَرِيق إلي محبوبه.
لَقَدْ كبرت همة الله مطلوبِهَا وشرفت نفس الله محبوبِهَا {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} .
مَا لِلْمُحْبِ سِوَى إِرَادَةَ حُبِهِ
…
إِنَّ المُحِبَ بِكُلِّ بَرٍ يُصْرَعُ
قيمة كُلّ امريءٍ ما يطلب، فمن كَانَ يطلب الله فلا قيمة لَهُ من طلب الله فهو أجل من أن يقوم. ومن طلب غيره فهو أخس من أن يكون لَهُ قيمة.
قال الشبلي: من ركن إلي الدُّنْيَا أحرقته بنارها فصار رماداً تذروه الرياح، ومن ركن إلي الآخرة أحرقته بنورها فصار سبيكة ذهب ينتفع به، ومن ركن إلي الله أحرقه نور التَّوْحِيد فصار جوهراً لا قيمة له.
اللَّهُمَّ هب لنا ما وهبته لأوليائك وتوفنا وأَنْتَ راض عنا وقَدْ قبلت اليسير منا وَاجْعَلْنَا يا مولانَا من عبادك الَّذِينَ لا خوف عَلَيْهمْ ولا هم يحزنون وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يا أرحم الراحمين.
وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
فِي قوله تعالى: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} هذه الآية كانت تشتد عَلَى الخائفين من العارفين، فإنها تقتضي أن من العباد من يبدو لَهُ عِنْدَ لقاء الله ما لم يكن يحتسب لَهُ، ولهَذَا قال عمر رضي الله عنه: لَوْ أن لي ملك الأرض لافتديت به من هول المطلع.
وفِي الْحَدِيث: " لا تمنوا الموت فإن هول المطلع شديد، وإن من سعادة المرء أن يطول عمره ويرزقه الله الإنابة ".
وَقَالَ بعض حكماء السَّلَف: كم موقف خزي يوم القيامة لم يخطر عَلَى بالك قط. ونظير هَذَا قوله تعالى: {لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} واشتمل عَلَى ما هُوَ أعم من ذَلِكَ وَهُوَ أن يكون لَهُ أعمال يرجو بِهَا الْخَيْر فتصير هباءً منثوراً وتبدل سيئاتٍ. وقَدْ قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ
كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} .
وَقَالَ: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً} .
وَقَالَ الفضيل فِي هذه الآية: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} قال: عملوا أعمالاً وحسبوا أنها حسنات فإِذَا هِيَ سيئات. وقريب من هَذَا أن يعمل الإنسان ذنباً يحتقره ويستهون به فيكون هُوَ سبب هلاكه. كما قال تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ} .
وَقَالَ بعض الصحابة: إنكم تعملون أعمالاً هِيَ فِي أعينكم أدق من الشعر، كنا نعهدها عَلَى عهد رسول الله ? من الموبقات، وأصعب من هَذَا زين لَهُ سوء عمله فرآه حسناً. قال تعالى:{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} .
قال ابن عيينة: لما حضرت مُحَمَّد بن المنكدر الوفاة جزع فدعوا لَهُ أبا حازم فَجَاءَ فَقَالَ لَهُ ابن المنكدر: إن الله يَقُولُ: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} فأخاف أن يبدو لي من الله ما لم أكن أحتسب. فجعلا يبكيان جميعاً. أخرجه ابن أبي حاتم. وزَادَ ابن أبي الدنيا. فَقَالَ لَهُ أهله: دعوناك لتخفف عَلَيْهِ فزدته فأخبرهم بما قال.
وَقَالَ الفضيل بن عياض: أخبرت عن سليمان التيمي أنه قيل لَهُ: أَنْتَ أَنْتَ ومن مثلك؟ فَقَالَ مه لا تقولوا هَذَا لا أدري ما يبدو لي من الله. سمعت الله يَقُولُ: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} .
وكَانَ سفيان الثوري يَقُولُ عِنْدَ هذه الآية: ويل لأَهْل الرياء من
هذه الآية، وهَذَا كما فِي حديث الثلاثة الَّذِينَ هم أول من تسعر بِهُمْ النار، العَالم والمتصدق والمجاهد. وكَذَلِكَ من عمل أعمالاً صَالِحَة وكانت عَلَيْهِ مظَالم فهو يظن أن أعماله تنجيه فيبدو لَهُ ما لم يكن يحتسب، فيقتسم الغرماء أعماله كُلّهَا ثُمَّ يفضل لهُمْ فضل فيطرح من سيئاتهم عَلَيْهِ ثُمَّ يطرح فِي النار.
وقَدْ يناقش الحساب فيطلب منه شكر النعم فتَقُوم أصغر النعم فتستوعب أعماله كُلّهَا وتبقي بقية فيطالب بشكرها فيعذب.
ولهَذَا قال عليه الصلاة والسلام: " من نوقش الحساب عذب أو هلك". وقَدْ يكون لَهُ سيئات تحبط بعض أعماله أو أعمال جوارحه سوي التَّوْحِيد فيدخل النار.
وفِي سنن ابن ماجة من رواية ثوبان مرفوعاً: " إن من أمتي من يجيئ بأعمال أمثال الجبال فيجعلها الله هباءً منثوراً ". وفِيه: " وهم قوم من جلدتكم ويتكلمون بألسنتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون من الليل ولكنهم قوم إِذَا خلوا بمحارم الله انتهكوها ".
وأخرجَ يعقوب بن أبي شيبة وابن أبي الدُّنْيَا فِي حديث سالم مولي أبي حذيفة مرفوعاً: " ليجَاءَ يوم القيامة بأقوام معهم من الحسنات مثل جبال تهامة، حتي إِذَا جئ بِهمْ جعل الله أعمالهم هباءً ثُمَّ أكبهم فِي النار ".
قال سالم: خشيت أن أكون منهم. فَقَالَ أما أنَّهُمْ كَانُوا يصومون ويصلون ويأخذون هنيهة من الليل، لعلهم كَانُوا إِذَا عرض لهُمْ شَيْء سراً حراماً أخذوه فأدحض الله أعمالهم. وقَدْ يحبط الْعَمَل بآفة من رياء خفِي أو عجب به ونحو ذَلِكَ ولا يشعر به صاحبه.
قال ضيغم العابد: إن لم تأت الآخرة بالسرور لَقَدْ اجتمَعَ عليه
الأمران هم الدُّنْيَا وشقاء الآخرة. فقيل لَهُ: كيف لا تأتيه الآخرة بالسرور وَهُوَ يتعب فِي دار الدُّنْيَا ويدأب؟ قال: كيف القبول، كيف بالسلامة.
ثُمَّ قال: كم من رجل يري أنه قَدْ أصلح عمله يجمَعَ ذَلِكَ كله يوم القيامة ثُمَّ يضرب به وجهه، ومن هنا كَانَ عامر بن عبد قيس وغيره يقلقون من هذه الآية:{إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} .
وَقَالَ ابن عون: لا تثق بكثرة الْعَمَل، فإنك لا تدري يقبل منك أم لا، ولا تأمن ذنوبك فإنك لا تدري هل كفرت عنكَ أم لا؟ لأن عملك عنكَ مغيب كله لا تدري ما الَّذِي صانع به. وبكي النخعي عِنْدَ الموت وَقَالَ: أنتظر رسول رَبِّي ما أدري أيبشرني بالْجَنَّة أو النار؟
وجزع غيره عِنْدَ الموت، قيل لَهُ تجزع؟ قال: إنما هِيَ ساعة ولا أدري أين يسلك بي؟ وجزع بعض الصحابة عِنْدَ موته، فسئل عن حاله فَقَالَ: إن الله قبض خلقه قبضتين، قبضة للجنة وقبضة للنار ولست أدري فِي أي القبضتين أنا؟
ومن تأمل هَذَا حق التأمل أوجب لَهُ القلق فإن ابن آدم متعرض لأهوال عظيمة من ذَلِكَ، الوقوف بين يدي الله عز وجل ودخول النار ويخشي عَلَى نَفْسهِ الخلود فيها بأن يسلب إيمانه عِنْدَ الموت، ولم يأمن المُؤْمِن شيئاً من هذه الأمور {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَاّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} . فتحقق هَذَا، يمنع ابن آدم القرار.
إِذَا افْتَكَرَ اللَّبِيْبُ رَآى أُمُوْراً
…
تَرُدُ الضَّاحِكَاتِ إِلى الوُجُوْمِ
رأي بَعْضهمْ قائلاً يَقُولُ لَهُ:
وَكَيْفَ تَنَامُ العَيْنُ وَهِيَ قَرْيْرَةٌ
…
وَلم تَدْرِ فِي أَيْ المَحَلَيْنِ تَنْزِلُ؟
وسئل بعض الموتي وكَانَ مجتهداً عن حاله؟ فأنشد يَقُولُ:
ولَيْسَ يَعْلَمُ مَا فِي القَبْرِ دَاخِلَهُ
…
إلا الإلَهُ وَسَاكِنِ الأجْداثِ
وَقَالَ غيره:
أَمَا وَاللهِ لَوْ عَلِمَ الأنَامُ
…
لِمَا خُلِقُوا لِمَا غَفَلُوا وَنَامُوا
لَقَدْ خُلِقُوا لِمَا لَوْ أبْصَرَتْهُ
…
عُيِونُ قُلُوبِهِمْ تَاهُوا وَهَامُوا
مَمَاتٌ ثُمَّ قَبْرٌ ثُمَّ حَشْرٌ
…
وَتَوبِيْخٌ وأَهْوالٌ عِظَامُ
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ إيماننا بك ومحبتك فِي قلوبنا ثبوت الجبال الراسيات واعصمنا يا مولانَا مِنْ جَمِيعِ الموبقات ووفقنا للعمل بالباقيات الصالحات وارفع منازلنا فِي فسيح الجنات وارزقنا النظر إلي وجهك الكريم يا حكيم يا عليم يا حي يا قيوم وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. . .
(فَصْلٌ فِي الرِّيَاءِ)
اعْلم عصمنا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع المُسْلِمِيْنَ أن القُلُوب تمرض كما تمرض الأبدان بل مرضها أشد ومن أمراضها الرياء وَهُوَ من أخطر أمراض القُلُوب ومن الأوباء الأخلاقية الضارة التي تحتاج إلي علاج دائم ويقظة مستمرة وَهُوَ مأخوذ من الرؤيا لأن المرائي يري النَّاس فعله للخَيْر ليثنوا عَلَيْهِ ويحمدوه ويأمنوه فيستولي بذَلِكَ عَلَى قُلُوبهمْ فيكون لَهُ سلطان عَلَيْهمْ يصل به
إِلى لَذَّتِهِ وَيَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى تَحْصِيلِ شَهَوَاتِهِ وَهَذَا الرِّيَاء إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ رَجُلٍ قَصُرَ نَظَرَهُ وَرَقَّ دِينُهُ فَإِن هَذَا هُوَ الَّذِي يَتَصَوَّرُ أَنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْهُ يُصَلِّي كَثِيراً أَوْ رَأَوْهُ يُطِيلُ الصَّلاة أَوْ يَصُومُ النَّوَافِلَ أَوْ يَحُجُّ أَوْ يَتَصَدَّقَ أَوْ يَفْعَلُ أَيَّ فَعْلٍ مِنْ أَفْعَالِ الْخَيْرِ يَحْسِنُونَ بِهِ الظَّنَّ وَيُعَامِلُونَهُ مُعَامَلَةً خَاصَّةً تَتْرُكُهُ فِي دُنْيَاهُ فِي سُرُور.
شِعْراً:
…
كُنْ بِخُمُولِ النُّفُوسِ قَانِعْ
…
لا تَطْلُبْ الذكْرَ فِي الْمَجَامِعْ
فَلَنْ يَزَالَ الْفَتَى بِخَيْرٍ
…
مَا لم تُشِر نَحْوَهُ الأصَابِعْ
وَأَمَّا الْعَاقِلُ بَعِيدُ النَّظَرِ صَادِقُ الإيمان فَإِنَّهُ يَعْلم عِلْماً يَقِيناً لا يَشُوبُهُ الظَّنُّ أَنَّ الأمر كُلّهُ دُنْيًا وَأخْرَى للهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ الْعَالم كُلَّهُ أَعْجَزُ مِنْ أَنْ يَدْفَعَ أَجَلاً أَوْ يُكْثِرَ رِزْقاً أَوْ يُجِيرَ مِنْ نَائِبَةٍ تَنْزِلُ عَلَى الإنسان كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ ?: «وَاعْلم أَنَّ الأمَّةَ لَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْء لم يَنْفَعُوكَ إلا بِشَيْء قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْء لم يَضُرُّوكَ إلا بِشَيْء قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ)) . فَإِذَا كَانَ الْخَلْقُ بِهَذَا الضَّعْفِ فَلا يَلْتَفِتُ لِمُرَاآتِهِمْ إلا مَنْ كَانَ سَخِيفَ الْعَقْلِ وَضَعِيفَ الدِّيْن عَلَى أَنَّ رِيَاءَ الْمُرَائِي لا يَخْفِي حَتَّى عَلَى الْخَلْقَ غَالِباً فَإِنَّ حَرَكَاتِهِ لا تَشْتَبِهُ بِأَعْمَالِ الْمُخْلِصِينَ الَّذِينَ قَدْ اسْتَوَتْ ظَوَاهِرُهُمْ وَبَوَاطِنُهُمْ عَلَى السَّوَاءِ.
قَالَ عَلَى كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ: لِلْمُرَائِي ثَلاثُ عَلامَاتٍ أَوْلاً أَنَّهُ يَكْسَلُ إِذَا كَانَ وَحْدَهُ وَيَنْشَطُ إِذَا كَانَ فِي النَّاسِ وَيَزِيدُ فِي الْعَمَل إِذَا أَثْنِيَ عَلَيْهِ النَّاسُ وَيَنْقُصُ إِذَا ذُمَّ وَقَدْ وَرَدَتْ آيَاتُ وَأَحَادِيثُ وَآثَارٌ تَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الرِّيَاءِ وَأَنَّهُ مَمْقُوتٌ مِنْهَا قَوْلُ اللهِ تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} وَقَالَ تعالى: {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ} .
قَالَ مُجَاهِد: هُمْ أَهْلُ الرِّيَاءِ، وَقَالَ تعالى: {َمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ
عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} نَزَلَ ذَلِكَ فِي مَنْ يَطْلُبُ الأجَر وَالْحَمْدَ بِعِبَادَاتِهِ وَأَعْمَالِهِ.
وَأَمَّا الأحَادِيث فَعن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ? يَقُولُ: «إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعْمَتَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيها؟ قَالَ: قَاتَلْتَ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لأَنْ يُقَالُ هُوَ جَرِيءٌ فَقَدْ قِيل ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أَلْقِيَ فِي النَّارِ.
وَرَجَلٌ تَعَلم الْعِلم وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعْمَتَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلتَ فِيه قَالَ تَعَلمتَ الْعِلم وَعَلمتَهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنِ قَالَ كَذِبْتَ وَلَكِنَّكَ تَعَلمتَ لِيُقَالُ عَالم وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالُ هُوَ قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أَلْقِيَ فِي النَّارِ وَرَجَلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَال فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيه اقَالَ مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيه إلا أَنْفَقْتَ فِيه لَكَ قَالَ كَذِبْتَ وَلِكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالُ هُوَ جَوَّادٌ فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أَلْقِيَ فِي النَّارِ)) . رَوَاهُ مُسْلم وَالنِّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّان.
وَعن عَبْدِ اللهِ بن عمرو بنِ العاصِ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَخْبِرْنِي عن الْجِهَادِ وَالْغَزْوِ فَقَالَ: «يَا عَبْدَ اللهِ بن عَمْرِو إِنْ قَاتَلْتَ صَابِراً مُحْتَسِباً بَعَثَكَ اللهُ صَابِراً مُحْتَسِباً وَإِنْ قَاتَلْتَ مُرَائِياً مُكَاثِراً بِعَثَكَ اللهُ مُرَائِياً مُكَاثِراً يَا عَبْدَ اللهِ بنَ عَمْروٍ عَلى أَيِّ حَالٍ قَاتَلْتَ أَوْ قُتِلْتَ بَعَثَكَ اللهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ)) . رواه أبو داود.
وَعن أَبِي بن كَعْبٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «بَشِّرْ هَذِهِ الأمَّةَ بِالسَّنَا وَالرِّفْعَةِ وَالدِّينِ وَالتَّمْكِينِ فِي الأرض فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ عَمِلَ الآخرة لِلدُّنْيَا لم
يَكُنْ لَهُ فِي الآخرة مِنْ نَصِيبٍ)) . رَوَاهُ أَحَمَدُ وَابنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكم وَالْبَيْهَقِي، إِذَا فَهِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلم أَنَّ هُنَاكَ أُمُوراً خَمْسَةً 1- مُرَاءٍ وَهُوَ الْعَابِدُ الَّذِي يُظْهِرُ خِصَالَ الْخَيْر 2- ومُرَائي وَهُمْ الْخَلْقُ الَّذِينَ يُظْهِرُ الْمُرَائِي لَهُمْ أَعْمَالَهُ 3- وَمُرَاء لأَجْلِهِ وَهُوَ الْجَاهُ وَالْمَالُ وَالسُّلْطَانُ وَحُبُّ الْحَمْدِ وَكَرَاهَةُ الذَّمِّ وَرِيَاءٌ وَهُوَ قَصْدُ إِظْهَارِ الْعِبَادَةِ لذَلِكَ الْغَرَضِ، وَالْمُرَاؤن بالعبادات أَقْسَامٌ، الْقِسْمُ الأوَّلُ الْمُرَاؤُنَ فِي الْعَقَائِدَ الدِّينِيَّةِ وَهُمْ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ لِلنَّاسِ أنَّهُمْ مُوَحِّدُونَ يَشْهَدُونَ أَنَّ لا إِله إلا اللهِ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ خِلافَ ذَلِكَ أَوْ يُظْهِرُونَ أنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ جَنَّةٍ أَوْ نَارٍ وَيُظْهِرُونَ لِلنَّاسِ أنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْمَلائِكَةِ وَيُصَدِّقُونَ بِوُجُودِهِمْ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ فِي قُلُوبِهِمْ غَيْرَ ذَلِكَ وَلا رَيْبَ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ كُفْرٌ نَاقِلٌ عن الْمِلَّةِ الإسلاميَّةِ بِالْكُلِّيَّةِ لأَنَّهُ تَكْذِيبٌ للهِ وَلِرَسُولِهِ وَصَاحِبُه إِنْ لم يَتُبْ فَهُوَ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ.
قَالَ اللهُ تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} فَهَذَا لِلْمُرَائِي الشِّرير الذَّلِق اللسانِ الَّذِي إِذَا تَكَلم رَاقَ كَلامُهُ لِلسَّامِعِ وَظَنَّهُ يَتَكَلم بِكَلامٍ نَافِعٍ وَيُؤَكَّد هَذَا الْمُرَائِي مَا يَقُولُ بِأَنَّهُ يُخْبِرُ أَنَّ اللهَ يَعْلم أَنْ مَا نَطَقَ بِهِ مُوَافِقٌ وَمُطَابِقٌ لِمَا فِي قَلْبهُ وَهُوَ كَاذِبٌ فِي ذَلِكَ لأَنَّهُ يُخَالِفُ قَوْلُه فِعْلَه.
وَقَالَ تعالى فِي الآية الأخرى: {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكم إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} .
وَمَا أَكْثَرَ أَشْبَاهِ هَؤلاءِ فِي زَمَنِنَا مِنْ مُنْكِرِي الْجِنِّ وَالْمَلائِكَة وَالْبَعْثَ مِمَّنْ نَجِدُهُمْ يَجْبَنُونَ عِنْدَ الْمُوَاجَهَةِ وَيَتَظَاهَرُونَ بِالإيمان عِنْدَ لِقَاءِ الْمُؤْمِنِينَ
وَيَعْتَرِفُونَ بِوُجُودِهِمْ لِيَتَّقُوا الأذَى وَلِيَتَّخِذُوا هَذَا السِّتَارَ وَسِيلَةً لِلأذَى وَإِذَا انْفَرَدُوا مَعَ أَوْلِيَائِهِمْ مِنْ شَيَاطِينِ الإنس صَرَّحُوا بِمُعْتَقَدَاتِ قُلُوبِهِمْ وَتَفَكَّهُوا بِأَكْلِ لُحُومِ الْمُؤْمِنِين وَطَعنوا فِي الدِّين وَحَمَلَتِهِ وَصَرَّحُوا بِإنْكَارِ الْجِنِّ وَالْمَلائِكَةِ وَهَؤُلاءِ كَفَرَةٌ مُنَافِقُونَ وَالرِّيَاءُ فِي الْعَقِيدَة عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ أَكْبَرِ دَرَجَاتِ الرِّيَاءِ وَأَشَدَّهَا أَثَراً وَضَرَراً.
الْقِسْمُ الثَّانِي: الْمُرَاؤُنَ فِي الْفَرَائِضِ وَالأرْكَانَ الشَّرْعِيَّةِ هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ أَرْكَانَ الدِّينِ مِنْ صَلاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَحَجٍ أَمَامَ النَّاسِ مِنْ أَجْلِ غَرَضٍ مِن الأغْرَاضِ الَّتِي ذَكَرتُ آنِفًا فَإِذَا خَلا الْوَاحِدُ مِنْهُمْ بِنَفْسِهِ لم يَعْمَلْ شيئاً فَلْوَلا الْغَرَضُ الَّذِي يُرِيدُ تَحْقِيقَهُ مَا صَامَ وَلا صَلَّى وَلا حَجَّ وَلا زَكَّى فَهَذَا الْعَمَلُ بَاطِلٌ لأَنَّهُ لم يُرِدْ بِهِ وَجْهَ اللهِ فَعن أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «تُعْرَضُ أَعْمَالُ بَنِي آدَمَ بَيْنَ يَدَى اللهِ عز وجل يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي صُحُفٍ مُخَتَّمَةٍ فَيَقُولُ اللهُ أَلْقُوا هَذَا وَاقْبَلُوا هَذَا فَتَقُولُ الْمَلائِكَةُ يَا رَبُّ وَاللهِ مَا رَأَيْنَا مِنْهُ إلا خَيْراً فَيَقُولُ إِن عَمَلَهُ كَانَ لِغَيْرَ وَجْهِي وَلا أَقْبَلُ الْيَوْمَ مِن الْعَمَلِ إلا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهِي.
صَاحَ اسْتَمِعْ نُصْحًا أَتَاكَ مُفَصَّلاً
كَتَفَصُّلِ الْعِقِيَانِ فَوْقَ لَئَآلِي
بَادِرْ بَقَايَا عُمْرِكَ الْفَانِي فَلا
تَصْرِفْهُ إلا فِي الرِّضَا الْمُتَوَالي
وَاشْغَلْ فُؤَادَكَ دَائِباً مُتَفَكِّراً
فِي مَا يَلِيقُ بِمَنْصِبِ الإجْلالِ
وَاخْلِصْ عِبَادَتَكَ الَّتِي بَاشَرْتَهَا
فِي الْقَوْلِ وَالأحوال وَالأفْعَالِ
…
>?
.. وَاشْغلْ بِذِكْرِ اللهِ قَلْبَكَ لاهِجاً
بِصِفَاتِهِ الْعُلْيَا بِلا إِمْلالِ
وَاجْعَلْ مَمَاتَكَ نَصْبَ عَيْنَيْكَ إِنَّهُ
أَوْلَى الأمُورِ وَأَنْصَحُ الأحوال
وَاعْلم بِأَنَّكَ بَعْدَ ذَاكَ مُحَاسِبٌ
فَاضْبُطْهُ لا تَكُ فِيه ذَا إِهْمَالِ
وَاعْلم بِأَنَّكَ بَعْدَ ذَلِكَ صَائِرٌ
إِمَّا إِلى بُؤْسٍ أَوْ الإفْضَالِ
وَادْأَبْ عَلَى حِفْظِ الشَّرِيعَةِ سَالِكًا
سُبْلَ الْهُدَى لا قَالِياً أَوْ غَالِي
وَابْدَأْ بِحِفْظِ الْقَلْبِ عن شُبُهَاتِهِ
وَاعْرَفْ مَسَاوِيهَا عَلَى الإجْمَالِ
ثُمَّ اسْقِهِ مَاءَ الْحَيَاةِ بِوَاعِظٍ
مِنْ مُحْكم التَّنْزِيلِ فِي إِجْلالِ
وَاحْرِسْ فَرَاغَكَ بِالتَّذَكُّرِ إِنَّهُ
عُمُرٌ إِذَا مَا ضَاعَ مِنْكَ لَغَالي
وَاحْفَظْ جَوَارِحَكَ الَّتِي أُوتِيتَهَا
عن كُلِّ مَا يَقْضِي بِكُلِّ نَكَالِ
وَاعْلم بِأَنَّكَ مَا خُلِقْتَ سَبَهْللاً
فَاعْبُدْ آلهَ الْعَرْشِ بِالإقْبَالِ
وَاجْعَلْ سَلاحَكَ دَعْوَةً بِإِنَابَةٍ
.. وَالْجَأْ إِلىمَوْلاكَ غَيْرَ مُبَالِي
وَاسْأَلْهُ لا تَسْأَمْ فَإِنَّكَ عَبْدُهُ
فَهُوَ الْكَرِيمُ وَرَبُّ كُلِّ نَوَالِ
يَا رَبُّ فَاقْطَعْ عن فُؤَادِي كُلَّ مَا
أَرْجُوهُ إلا مِنْكَ مِنْ آمَالِ
وَاغْسِلْهُ مِنْ دَرَنِ الذُّنُوبِ فَإنَّهُ
مَرَضُ الْقُلُوبِ وَمُوجِبُ الإعْلالِ
وأَرِحْهُ مِنْ مَرَضِ الرِّيَاءِ فَإِنَّهُ
أَصْلُ الْفَسَادِ وَأَفْسَدُ الأشْغَالِ
وَاخْتُمْ بِنَا بِالْخَيْرِ عَاجِلِهِ الَّذِي
تَبْدُو حَلاوَةُ ذَوْقِهِ بِمَآلِ
وَاجْعَلْ صَلاتَكَ دَائِمًا تَتْرَى عَلَى
كِنْزِ الْمَعَالِي السَّيِدِ الْمِفْضَالِ
وَكَذَا عَلَى آلٍ لَهُ وَصَحَابَةٍ
أَهْلِ الْعُلا وَالْعِزِّ وَالإجْلالِ
…
>?
(فَصْلٌ)
وَأَقْبَحُ أَنْوَاعُ الرِّيَاءِ: مَا فُعِلَ لِلْحُصُولِ عَلَى لَذَّةِ مُحَرَّمَةٍ كَأَنْ يَحْتَالَ عَلَى الْفِسْقِ بامْرَأَةٍ أَوْ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى سَلْبِ مَالٍ ظُلْماً وَعُدْوَانَاً أَوْ يَتَوَسَّلُ بِهِ إِلى إِيذَاءِ بَرِيءٍ فِي عِرْضِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ دِينِهِ وَصَاحِبُ هَذَا الْعَمَلِ مُعَرَّضٌ نَفْسه لِلْمُجَازَاتِ عَلَى عَمَلِهِ أَشَدَّ الْجَزَاءِ وَالْعِقَابِ عَلَيْهِ أَسْوَأَ الْعِقَابِ فِي يَوْمٍ يُؤْخَذُ فِيه الْمُجْرِمُونَ بِالنَّوَاصِي إِنْ لم يَتُبْ مِنْ عَمَلِهِ ذَلِكَ تَوْبَةً نَصُوحاً.
وِمِنْ أَنْوَاعِ الرِّيَاءِ الرِّيَاءُ فِي الْفَرَائِضِ الدِّينِيَّةِ لِلْحُصُولِ عَلَى لَذَّةٍ مُبَاحَةٍ.
شِعْراً:
…
لا يَغُرَّنَّكَ تَعْوِيجُ الْعنق
…
وَلِبَاسُ الصُّوفِ وَالثَّوْبِ الْخَلَقْ
.. وَخُشُوعِ الْمَرْءِ فِي ظَاهِرِهِ
…
وَهُوَ فِي الْخَلْوَةِ تِنِّينٌ حنِقْ
يَبْلَعُ الْفِيلَ مُسِراً فَإِذَا
…
بَلَعَ الذَّرَّةَ فِي الْجَهْرِ اخْتَنَقْ
وِمِنْ أَنْوَاعِ الرِّيَاءِ، الرِّيَاءُ فِي الْفَرَائِضِ الدِّينِيَّةِ لِلْحُصُولِ عَلَى لَذَّةٍ مُبَاحَةٍ.كَأَنْ يَحْتَالَ بِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ عَلَى الْحُصُولِ عَلَى مَالٍ بِطَرِيقِ الْهِبَةِ وَنَحْوِهَا وَلَوْلا هَذَا الْغَرَضَ مَا قَامَ بِأَدَائِهَا وَهَذَا شِرْك بِاللهِ بَلْ فِي الْحَقِيقَة عِبَادَةٌ لِلشَّهْوَةِ لا للهِ وَلَوْ كَانَ عِنْدَ صَاحِبِ هَذَا الْعَمَلِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِن الأدَبِ وَالْحَيَاءِ لَخَجِلَ مِنْ خَالِقِهِ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُخْلِصَ الْعِبَادَةَ لَهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَلَكِنَّهُ بَدَلاً مِنْ ذَلِكَ قَدْ جَعَلَ عِبَادَتَهُ وَسِيلَةً لاقْتِنَاصِ الْمَلاذِ وَالْحُصُولِ عَلَى الشَّهَوَاتِ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: الْمُرَاؤُونَ بِالنَّوَافِلِ الَّتِي يُؤَدُّونَهَا فِي حَضْرَةِ النَّاسِ وَيَتْرُكُونَهَا إِذَا خَلَوْا أَوْ يَجِيدُونَ الْفَرَائِضَ وَيُطِيلُونَهَا فِي حَضْرَةِ النَّاسِ وَإِذَا انْفَرَدُوا خَفَّفُوا وَهَذَا أَيْضاً قَبِيحٌ وَلَكِنَّهُ دُونَ الأوَّلِ وَوَجْهُ قُبْحِهِ أَنَّ عِبَادَةَ اللهِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ خَالِصَةٌ لَهُ لا يَشُوبِهَا رِيَاءٌ أَبَداً فَمَنْ يُؤَدِّيهَا لَغَرَضٍ مِنْ الأغْرَاضِ فَقَدْ أَشْرَكَ فِيه مَعَ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ غَبِيٌّ مَمْقُوتٌ يَسْتَحِقُّ الذَّمِّ وَالْعِقَابَ إِنْ لم يَتُبْ لأَنَّهُ قَدْ اسْتَهَانِ بِعِبَادَةِ اللهِ وَجَعَلَهَا وَسِيلَةً لِلْحُصُولِ عَلَى الأغْرَاضِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالشَّهَوَاتِ الْجِسْمَانِيَّةِ مَعَ أَنَّ النَّوَافِلَ مَثَلاً لم تُشْرَعْ إلا لِلْحُصُولِ عَلَى الثَّوَابِ الْكَثِيرِ وَالدَّرَجَاتِ الرَّفِيعَةِ عِنْدَ اللهِ تعالى فَانْقَلَبَتْ عَلَى الْمُرَائِي بِهَا شَرّاً وَوَبَإلا بِفِعْلِهَا رِيَاءً وَأَصْبَحَ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا عِقَاباً وَذَلِكَ فَسَادٌ وَخَلَلٌ عَظِيمٌ فَكم مِنْ إِنْسَانٍ يُرَائِي يَتَظَاهَرُ بِالصَّلاحِ وَيَتَبَاعَدُ عن مُحَقِّرَاتِ الذُّنُوبِ وَنَفْسِهِ فَاجِرَةٌ لا يَتَوَرَّعُ مِنْ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَاسْتِحْلالِهَا بِأَدْنَى الْوَسَائِل وعِنْدَ مُعَامَلَتِهِ فِي بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ اسْتِئْجَارٍ يَظْهَرُ مَخْبَرُهُ عَكْسَ مَنْظَرِهِ عَلَى حَدِّ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
مَا فِي الْكَثِيرِينَ إلا الْمَكْرَ وَالْمَلَقُ
…
شَوْكٌ إِذَا اخْتُبَرُوا زَهْرٌ إِذَا رَمِقُوا
فَإِنْ دَعَاكَ إِلى قُرْبِ بِِِهِمْ قَدَرٌ
…
فَدَارَهِمْ وَاقْتَربْ مِمَّنْ بِهُمْ تَثِقُ
هُمْ أُمُّ غَيْلانَ لا أَصْلٌ وَلا ثَمَرٌ
…
وَلا نَسِيمٌ ولا ظِلٌّ وَلا وَرَقُ
جَفُّوا مِنْ اللؤم حَتَّى لَوْ أَصَابَهُمْ
…
ضُوءُ السُّهَى فِي ظَلامِ اللَّيْلِ لا احْتَرَقُوا
لَوْ صَافَحُوا الْمُزْنَ مَا ابْتَلَتْ أَنَامِلُهُمْ
…
وَلَوْ يَخُوضُونَ بَحْرَ الصِّينِ مَا غَرِقُوا
آخر:
…
قَوْمٌ هُموا شَرُّ خَلْقِ اللهِ كُلِّهِمُ
…
وَأَخْبَثُ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا وَفِي الدِّينِ
هُمْ فِي الظَّوَاهِرِ زُهَّادٌ أَوْلو وَرَعٍ
…
وَفِي الْبَوَاطِنِ إِخْوَانُ الشَّيَاطِينِ
يُحَرِّمُونَ الَّذِي حََلَّ الإلَه لَهُمْ
…
وَيَسْتَبِيحُونَ أَمْوَالَ الْمَسَاكِينِ
يَا بِئْسَ مَا فَعَلُوا يَا بِئْسَ مَا تَرَكُوا
…
وَهُمْ يُعِدُّونَ فِينَا بِالْمَلايِينِ
آخر:
…
مِنْ أَيّ نَوَاحِي الأرض ألقَى رِضَاكم
…
وَأَنْتُمْ أُنَاسٌ مَا لِمَرْضَاتِهِمْ نَحْوُ
فَلا حَسَنٌ نَأْتِي بِهِ تَقْلِبُونَهُ
…
وَلا إِنْ أَسَأنَا كَانَ عِنْدَكم عَفْوُ
وَيَقُولُ الآخر فِي الْمُرَائِينَ بِأَعْمَالِهم:
أَظْهَرُوا لِلنَّاسِ زُهْداً
…
وَعَلَى الدِّينَارِ دَارُوا
وَلَهُ صَلَّوْا وَصَامُوا
…
وَلَهُ حَجُّوا وَزَارُوا
لَوْ يُرَى فَوْقَ الثُّريّا
…
وَلَهُمْ رِيشٌ لَطَارُوا
آخر:
إِنَّ الْجَلِيسَ يَقُولُ الْخَيْر تَحْسِبَهُ
…
خَيْراً وَهَهْيَهَاتَ فَانْظُرْ مَا بِهِ الْتَمَسَا
قال ابن رجب رحمه الله: واعْلم أن الْعَمَل لغَيْر الله أقسام فتَارة يكون رياءً محضاً كحال المنافقين كما قال تعالى: {وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلَاةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَاّ قَلِيلاً} .
وهَذَا الرياء المحض لا يكاد يصدر عن مُؤْمِن فِي فرض الصَّلاة والصيام وقَدْ يصدر فِي الصدقة أو الحج الواجب أو غيرهما من الأعمال الظاهرة أو التي يتعدي نفعها فإن الإخلاص فيها عزيز وهَذَا الْعَمَل لا يشك مسلم أنه حابط وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة وتَارة يكون الْعَمَل لله ويشاركه الرياء فإن شاركه من أصله فالنصوص الصحيحة تدل عَلَى بطلانه أيضاً وحبوطه.
شِعْراً:
…
دَعِ الرِّيَاءَ لِمَنْ لَذَّ الرِّيَاءُ لَهُ
…
فَإِنَّهُ الشِّرْكُ فَاحْذَرْ زَلَةَ القَدَمِ
وَمُتْ عَلَى المِلَّةِ السَمْحَاءِ مَوْتَ فَتَى
…
رَأي الْمَمَاتَ عَلَيْهَا أَكْرَمَ الكَرَمِ
آخر:
…
يُلْبِسُ اللهُ فِي العَلَانْيَةِ الْعَبْدَ الَّذِي
…
كَانَ يَخْتَفِي فِي السَّرِيْرَةِ
حَسَناً كَانَ أَوْ قَبِيْحاً سَيُبْدَى
…
كُلُّ مَا كَانَ ثُمَّ مِنْ كُلِّ سِيَرةِ
فَاسْتَحِ مِنَ اللهِ أَنْ تُرائِي لِلنَّاسِ
…
فإِنَّ الرِّيَاءَ بِئْسَ الذَّخِيْرَةِ
وفِي صحيح مسلم عن أَبِي هُرَيْرَةِ رضي الله عنه عن النَّبِيّ ? قال يَقُولُ الله تبارك وتعالى: أَنَا أغني الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك معي فِيه غيري تركته وشركه، وأخرجه ابن ماجه ولفظه فأنَا منه بريء وَهُوَ للذي أشرك.
وأخرج الإمام أَحمَدُ عن شداد بن أوس عن النَّبِيّ ? قال: من صلي يرائي فقَدْ أشرك ومن تصدق يرائي فقَدْ أشرك فإن الله عز وجل يَقُولُ: أَنَا خَيْر قسيم لمن أشرك بي شيئاً فإن جدة عمله قليله وكثيره لشريكه الَّذِي أشرك به أَنَا عنهُ غني، وأخرج الإمام أَحمَدُ والترمذي من حديث أبي سعيد ابن أبي فضالة وكَانَ من الصحابة قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: إِذَا جمَعَ الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فِيه نادا مناد من كَانَ أشرك فِي عمل عمله لله فليطلب ثوابه من عِنْدَ غَيْر الله عز وجل، فإن الله أغني الشركاء عن الشرك انتهي وَاللهُ أَعْلم.
(فَصْلٌ)
القسم الرابع: من المرائين المتحدثين بأعمالهم بعد تمامها كأن يَقُولُ الواحد: صليت كَذَا وصمت كَذَا وحججت كَذَا من أفعال الْخَيْر وهَذَا وإن كَانَ لا يحبط الْعَمَل الَّذِي تم عَلَى وجه صحيح إلا أنه ينظر إلي مقصده من التحدث بذَلِكَ فإن كَانَ فساداً كَانَ محرماً وإن كَانَ فراراً من ذم النَّاس ورغبة فِي مدحهم بدون أن يقصد منها الوصول إلي غرض غَيْرَ ذَلِكَ كَانَ ملوماً من جهة واحدة وأنه قصد رياء النَّاس بطاعة الله وقَدْ علمت أن ذَلِكَ لا يجوز.
القسم الخامس: المراؤون بالهيئة والزي فتري الواحد من هؤلاء يتكلف الْعَمَل عَلَى نحول بدنه واصفرار وجهه كي يظهر بمظهر العابد الَّذِي أضناه وأنهكه السهر وانحل جسمه الصوم وَمِنْهُمْ من يتكلف خفض صوته أو يلبس ثوباً يختلف عن أثواب أهله وبني جنسه ليلفت أنظار النَّاس إليه هَذَا النوع من الرياء سخيف جداً لا يتأثر به إلا ضعاف العقول صغار النُّفُوس وكل هؤلاء من شرار النَّاس الَّذِينَ يجب عَلَى النَّاس أن يحذروا مِنْهُمْ ويمقتوهم ولا يبالوا بِهُمْ ولا بحليهم وأزيائهم.
شِعْراً:
…
تَقُوْمُ إِذَا مَا قِمْتَ تَشْفَعُ خُطْبَةً
…
تُخَوِّفُ فِيه وَالدِمُوعُ تَزَيَّعُ
كَأَنَّكَ صَيَّادٌ تَسِيْلُ دُمُوْعُهُ
…
مِنَ البَرْدِ وَالصَّيَادُ يَفْرِي وَيَقْطَعُ
يَجُذٌّ رِقَابَ الطَيِّرِ مِنْ غَيْرِ رَحْمَةٍ
…
وعَيْنَاهُ مِنْ بَرْدِ العَشِيَّةِ تَدْمَعُ
تُزَهَّدُ فِي الدُّنْيَا وأَنْتَ بِنَهْبِهَا
…
مُلِحُّ عَلَى الدُّنْيَا تَكُدٌّ وَتَجْمَعٌ
آخر:
…
أَرَى النَّاسَ فِي الدُّنْيَا كَرَاعٍ تَنَكَرَتْ
…
مَراعِيهِ حَتَى لَيْسَ فِيهنَّ مَرْتَعُ
فَمَاءٌ بِلَا مَرْعَى وَمَرْعَى بِغَيْرِ مَاءِ
…
وَحَيْثُ تَرَى مَاءً فَمَرْعَى وَمَسْبَعُ
ثُمَّ اعْلم: أن النِّيْة عَلَيْهَا مدار عَظِيم مدار الثواب والعقاب فإن المرء يتحدث بعمله الصالح أو يظهره ليكون قدوة صَالِحَة لهُمْ ومثإلا حسناً يقتدون به لا يريد بذَلِكَ إلا وجه الله وابتغاء مرضاته بنشر الفضيلة وإحيائها بين النَّاس من غَيْرَ أن ينظر إلي مدحهم لَهُ وذمهم لَهُ فلا يثنيه شَيْء عن عمل الصالحات ولا يغريه عَلَيْهَا رضاء أحد من النَّاس عَلَى أن يكون يقظاً نبيهاً لا يجعل للغرور والعجب إليه سبيلاً فإن عمله عَلَى ذَلِكَ الوجه الحسن لا يكون رياءً بل ربما يكون مستحباً إن تأكد من اقتداء النَّاس به فِي عمله الصالح وكَذَلِكَ تنظر الشريعة الإسلامية الكريمة إلي جَمِيع الأعمال فإن ترتب عَلَى الْعَمَل فسادٌ كانَ مذموماً وإن ترتب عَلَيْهِ صلاحٌ كَانَ ممدوحاً فجَمِيع أحكامها مبنية عَلَى جلب المصالح ودرء المفاسد وكلها ترمي إلي تهذيب النُّفُوس وتطهير
القُلُوب وتربية النوع الإنساني أحسن تربية وتأديبه أفضل الأدب ويكفِي فِي ذَلِكَ قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} .
وختاماً فعَلَى العاقل أن يتفكر ويعلم مضرة الرياء وما يفوته من صلاح قَلْبهُ وما يحرم عنهُ من التَّوْفِيق وما يتعرض لَهُ من العقاب والمقت الشديد والخزي الظاهر فمهما تفكر الإنسان وقابل ما يحصل لَهُ من العباد والتزين لّهُمْ فِي الدُّنْيَا بما يفوته فِي الآخرة وبما يحبط عَلَيْهِ من ثواب الأعمال فإنه يسهل عَلَيْهِ قطع الرغبة عنهُ كمن يعلم أن العسل لذيذ ولكن إِذَا بان لَهُ أن فِيه سماً أعرض عنهُ ثُمَّ أي غرض لَهُ فِي مدحهم وإيثار ذم الله لأجل حمدهم ولا يزيده حمد النَّاس رزقاً ولا أجلاً ولا ينفعه يوم فقره وفاقته.
وأما الطمَعَ فيما فِي أيدي النَّاس فبأن يعلم أن الله تعالى هُوَ الرزاق وَهُوَ المسخر للقُلُوب بالمنع والإعطاء وأن الخلق مضطرون فيه.
ولا رازق إلا الله ومن طمَعَ فِي الخلق لم يخل من الذل والخيبة وإن وصل إلي المراد لم يخل عن المنة والمهانة فَكَيْفَ يليق بعاقل أن يترك ما عِنْدَ الله برجَاءَ كاذب ووهم فاسد وقَدْ يصيب وقَدْ يخطيء وإِذَا أصاب فلا تفِي لذته بألم منته ومذلته.
شِعْراً:
…
أَمِنْ بَعْدِ غَوْصِي فِي عُلُومِ الحَقَائِقِ
وَطُولِ انْبِسَاطِي فِي مَوَاهِبِ خَالِقِي
وفِي حِيْنَ إشْرَافِي عَلَى مَلَكُوتِهِ
أَرَى طَالِباً رِزْقاً إِلى غَيْرَ رَازِقِ
وَأَيَّامُ عُمْرِ المَرْءِ مُتْعَةُ سَاعَةٍ
تَجِيءُ حَثِيْثاً مِثْلَ لمحَةِ بَارِقِ
…
>?
.. وَقَدْ آذَنَتْ نَفْسِي بِتَقْوِيْضِ رَحْلِهَا
وَأَسْرَعَ فِي سَوْقِي إِلى المَوْتِ سَائِقِي
وَإِنِّي وَإِنْ أَوْغَلْتُ أَوْ سِرْتُ هَارِباً
مِنَ المَوْتِ فِي الآفَاقِ فَالمَوْتُ لَاحِقِي
آخر:
…
شَادَ الأنَامُ قُصُورَهُمْ وَتَحَصَّنُوا
مِنْ كُلِّ طَالِبِ حَاجَةٍ أَوْ رَاغِبِ
فَارْغَبْ إِلى مَلِكِ المُلُوكِ وَلَا تَكُنْ
يَا ذَا الضَّراعَةِ طَالِباً مِنْ طَالِبِ
…
>?
وأما ذم الخلق لَهُ فلا يحذر منه فإنه لا يزيده ذمهم شيئاً ما لم يكتبه الله عَلَيْهِ ولا يعجل أجله ولا يؤخر رزقه ولا يجعله من أَهْل النار إن كَانَ من أَهْل الْجَنَّة ولا يبغضه إلي الله ولا يؤخر رزقه ولا يجعله من أَهْل النار إن كَانَ من الَّذِينَ يحبهم الله فالعباد كلهم عجزة لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً فإِذَا قرر فِي قَلْبهِ آفة هذه الأسباب وضررها فترت رغبته عَنِ الرياء وأقبل عَلَى الله قَلْبهُ والعاقل لا يرغب فيما يكثر ضرره ويقل نفعه فهَذَا دواء نافع قالع للرياء من أصله بإذن الله فهَذَا من الأدوية العلمية القالعة مغارس الرياء من أصله بإذن الله وأما الدواء العملي فهو أن يعود نَفْسه إخفاء العبادات وإغلاق الأبواب دونها كما تغلق الأبواب دون الفواحش فلا تنازعه نَفْسُهُ إلي طلب غَيْر الله به. وبالتالي:
فمن كَانَ ذا عقل وعلم وبصيرة عرف شدة حاجته يوم القيامة وشدة فقره إلي صافِي الحسنات فخشي أن يأتي ذَلِكَ الْيَوْم بصلاة أو صيام أو حج أو جهاد أو نحو ذَلِكَ من الأعمال لم يخلصه لله فيحبط عمله فتصير حسناته أنقص من سيئاته ولَوْ كَانَ أخلص الْعَمَل لله فِي الدُّنْيَا لرجحت حسناته عَلَى سيئاته فيدخل الْجَنَّة فَلَمَّا فاته ذَلِكَ الإخلاص فلا تسأل عن ذهاب نفسه
حسرات فيخاف اللبيب ذَلِكَ فيغلب عَلَى عقله حذر الرياء والتصنع للعباد ويقبل عَلَى تصحيح عمله وتنقيته من شوائب الرياء حتي يوافِي به يوم القيامة خالصاً صواباً.
"موعظة" عِبَادَ اللهِ: أوصيكم ونفسي بتقوي الله فالزموها، وأحثكم عَلَى الأعمال الصَّالِحَة فاغتنموها، إن الزمان يطوي بكم مسافة الأعمار لا شك وأنتم راحلون عن هذه الدار فيا معشر الشيوخ ماذَا تنتظرون بعد المشيب وهل بعده إلا الموت فإن الموت قريب إنه لَيْسَ إلي البقاء من سبيل فماذَا تزودتم للرحيل ويا معشر الشباب أنفقتم غرر الأعمار عِنْدَ المذياع والكرة ونحو ذَلِكَ مِمَّا يصدكم عن ذكر الله وعن الصَّلاة ويا معشر التجار لَقَدْ ضاعت أعماركم فِي ألووَكم ربح فلان وَكم بيع البيت الفلاني والأرض الفلانية وخذ هذه الجريدة وأعطني الأخري إلا صرفتم بعض الوَقْت إلي المسابقة إلي غرف الْجَنَّة وأراضيها وأنفقتم بعض ما وهبكم الله من المكاسب إلي ما يرضي الله من تفقَدْ الفقراء الَّذِينَ لَيْسَ لّهُمْ موارد لا قليلة ولا كثيرة ممن يستعينون بِهَا عَلَى طاعة الله ومن مساجد تحتاج إلي ترميم أو فرش وإلي إنشاء مساجد عِنْدَ من لَيْسَ عندهم شَيْء منها أو إلي طباعة مصاحف طباعة جيدة فتوزعوها عَلَى التالين للقرآن آناء الليل والنَّهَارَ أو طبع كتب دينية فيها تقوية للشريعة ونشر لمحاسن الإسلام ككتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وابن رجب وابن مفلح وابن كثير والموفق والمجد والشَّيْخ المجدد الشَّيْخ مُحَمَّد بن عبد الوهاب ونحوهم من العلماء العاملين بعلمهم المصلحين المخلصين الَّذِينَ لا تأخذهم فِي الله لومة لائم نسأل الله أن ييسر لنا فِي هذَا الزمان أمثالهم لنصر دينه إنه القادر عَلَى ذلك.
شعراً:
…
نَصَحْتُكَ لَا تَصْحَبْ سِوَى كُلّ فَاضِلٍ
…
كَرِيْمِ السَّجَايَا بِالتَّعَفُّفِ وَالظَّرْف
وَلَا تَعْتَمِدْ غَيْرَ الكِرَامِ فَوَاحِدٌ
…
مِنَ النَّاسِ إَنْ حَصَّلْتَ خَيْرٌ مِنَ الألف
شِعْراً:
الْمَالُ يَذْهَبُ حِلَّهُ وَحَرَامَهُ
طُرّاً وَتَبْقَى فِي غَدٍ آثَامَهُ
لَيْسَ التَّقِيُّ بِمُتَّقِ لإلاهِهِ
حَتَى يَطِيبُ شَرَابُهُ وطَعَامُهُ
وَيَطِيبُ مَا يَحْوِي وَيَكْسِبُ كَفُّهُ
وَيَكُوْنُ فِي حُسْنِ الْحَدِيثِ كَلَامُهُ
نَطَقَ النَّبِيُّ لَنَا بِهِ عن رَبِّهِ
فعَلَى النَّبِيِّ صَلَاتُهُ وَسَلَامُهُ
…
>?
اللَّهُمَّ طهر قلوبنا من النفاق وعملنا من الرياء وطهر مكسبنا من الربا وألسننا من الكذب ووفقنا لمصالحنا واعصمنا عن ذنوبنا وقبائحنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عَلَيْهِ ضمائرنا وأكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.
فصل فِي الكبر والعجب
اعْلم وفقنا وَإِيَّاكَ وَجَمِيع المُسْلِمِيْنَ: أن مِمَّا يتأكد تحريمه واجتنابه فِي رمضان وغيره الكبر والإعجاب لأنهما يسلبان الفضائل ويكسبان الرذائل ولَيْسَ لمن استولينا عَلَيْهِ قبول النصح ولا قبول التأديب لأن المتكبر يعتقَدْ فِي نَفْسه أنه جليل عَظِيم متعال عن رتبة المتعلمين والكبر فِي اللغة العزة والعظمة ومثله الكبرياء وقَدْ فسر ? الكبر بأنه بطر الحق وغمط النَّاس والكبر والعجب من الصفات النفسية المرذولة التي كثيراً ما تثير الْغَضَب والحقد وتورث العداوة والبغضاء وتورث الاحتقار والازدراء بِالنَّاسِ واغتيابهم
ويجافِي بين الصدق وكظم الغيظ وقبول النصح ويعمي المرء عن عيوبه ويحول بينه وبين العلم والانقياد للحق.
والكبر نوعان: أحدهما التكبر عَلَى الحق وَهُوَ رده ودفعه وعدم قبوله وَهُوَ عَالم به سواء كَانَ من حقوق الله أو من حقوق عباده فمعني بطر الحق رده وجحده وَهُوَ عَالم به فكل من رد الحق فإنه مستكبر عنهُ بحسب ما رد من الحق ومعني غمط النَّاس احتقارهم وتنقصيهم وَذَلِكَ ناشَيْء عن عجب الإنسان بنفسه وتعاظمه عَلَيْهمْ فالعجب بالنفس يحمل عَلَى التكبر عَلَى الخلق واحتقارهم والاستهزاء بِهُمْ وتنقيصهم بقوله أنه ممتاز عنهُ بما سما به فِي نظر نَفْسه وإذن يري ذَلِكَ الغَيْر فِي درجة منحطة عن درجته فيعتقد حينئذ أن مستواه فوق مستوي غيره وَذَلِكَ هُوَ الكبر بعينه فالعجب عنهُ نشأ الكبر وعَلَى أصله تفرع.
وللكبر أسباب كثيرة فقَدْ تَكُون عن صفة كمال كالعلم والنسب والجاه والسُّلْطَان وَرُبَّمَا نشأ عن غرور ووهم بحيث يعتقَدْ أنه أكمل من غيره خطأ وجهلاً وهَذَا برهان عَلَى نقص عقله ولذا يَقُولُ مُحَمَّد بن عَلَى الباقر ما دخل قلب امرءٍ شَيْء من الكبر إلا نقص من عقله مثل ما دخل من ذَلِكَ قل أو كثر.
فإن كَانَ الكبر ناشئاً عن العلم كَانَ صاحبه مثالاً سيئاً وقدوة رديئة، خصوصاً إِذَا دفعه الكبر إلي صفة ذميمة كالحسد والحقد، أو أفضي به إلي ارتكاب مظلمة من المظالم بيده أو لِسَانه، فإن ضرر هَذَا لا يقدر، لأن النَّاس يقتدون بالعلماء فِي أقوالهم وأفعالهم، فيستسهلون عِنْدَ ذَلِكَ ارتكاب الجرائم، ويستبيحون الاتصاف بالصفات الذميمة، وفِي هذَا شرٌّ عَظِيم، وأيضاً فإن العَالم المتكبر ينصرف النَّاس عنه وينفضون من حوله، فلا ينتفع
بعلمه إلا من يوافقه عَلَى هواه فلا يرده عن خطأ، ولا يشير عَلَيْهِ بحق ولا يزاحمه فِي غرض ومثل هَذَا لا فائدة من تعليمه لأنه ناقص النفس ضعيف الإرادة ومن كَانَ هَذَا شأنه فإن علمه وبال عليه.
أما العلم النافع فهو الَّذِي يرَبِّي الأنفس، ويطهرها من الصفات الرديئة، ويعرف الْعَبْد ربه ونفسه وخطر أمره، وهَذَا يورث الخشية والتواضع، فيكون صاحبه مثإلا حسناً فِي النَّاس، وقدوة صَالِحَة فِي الأقوال والأفعال.
وإن كَانَ الكبر ناشئاً عَن النسب فإنه ربما يكون سبباً للطعَن فِي ذَلِكَ النسب، وحمل النَّاس عَلَى اعتقاد أنه نسب رديء العنصر، خسيس الأصل، فإن النسب الشريف هُوَ الَّذِي يترتب عَلَيْهِ آثار صَالِحَة تدل عَلَى رفعته وكرمه، أما من يتكبر ويظلم ويؤذي عِبَادَ اللهِ ويحتقرهم فإنه لا يكون من عنصر طيب، ولا من أصل كريم غالباً، وقَدْ يتهم النَّاس من يفعل ذَلِكَ بأنه ولد زنا، وَذَلِكَ أن الله وصف النمام والفاجر والمناع للخَيْر بالوصف الذميم كما تقدم وَذَلِكَ لأن الأعمال الفاجرة تتبع خبث المني غالباً، ما لم ييسر الله لولد الزنا بيئة صَالِحَة يترَبِّي فيها وينزع من نَفْسه تلك الصفات الرديئة التي ورثها من أصله واكتسبهَا من والديه.
وإن كَانَ الكبر ناشئاً عَن الجاه والسُّلْطَان فإنه غالباً يفضي إلي شر أنواع الظلم وانتهاك المحارم من حقوق الله وحقوق خلقه، فما ترتب عَلَيْهِ مظلمة أو ضياع حق فهو الكبر الضار.
وأما العزة التي ينشأ عنهَا ما ينفع النَّاس، وما يحفظ كرامة المرء وعدالته ومكانته، مثل ترفع الحاكم عَن مخالطة العوام ومجالستهم ومجاملتهم بما يسقط هيبته أو يطعمهم فِي قضائه أو يسهل لهُمْ الإخلال بما
يقتضيه الشرع، فإن مثل هَذَا لا يعد تكبراً لأنه إِذَا أهمله الإنسان لم يكن جديراً بالحكم إنما الكبر الممنوع هُوَ أن لا يبالي بِهمْ فلا يسمَعَ شكوي ضعيفهم ولا يسمح لَهُ بالدنو منه ليعبر عن مظالمه، أو يحقد عَلَى من توسع فِي الدفاع عن نَفْسه بما لا يرضيه، أو أعرض عن سماع النَّصِيحَة واستكبر عن الْعَمَل بالحق، فإنه فِي هذه الحال يكون متكبراً مذموماً ممقوتاً.
…
لِكُلِّ بَنِي الدُّنْيَا مُرَادٌ وَمَقْصَدٌ
وَإِنَّ مُرَادِي صِحَّةٌ وَفَرَاغُ
لأَبْلُغَ فِي عِلْمِ الشَّرِيْعَةِ مَبْلَغاً
يَكُونُ بِهِ لِي فِي الجِنَانِ بَلَاغُ
ففِي مِثْلَ هَذَا فَلْيُنَافِسْ أُولِي النُّهَى
وَحَسْبِي مِنَ الدُّنْيَا الغَرُوْرِ بَلَاغُ
فَمَا الفَوْزُ إلا فِي نَعِيْمٍ مُؤَبَّدٍ
بِهِ العَيْشُ رَغْدٌ وَالشَّرَابُ يُسِاغُ
…
>?
اللَّهُمَّ إنَا نسألك العفو والعافية فِي ديننا ودنيانَا وأهلنا وأموالنا ونسألك أن تغفر لنا ولوالدينا وَجَمِيع المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين.
" موعظة "
عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ توعد اللهُ عباده الَّذِينَ يخالفون أمره ويعرضون عن مراقبته وينصرفون عن عبادته وذكره ويجترؤون عَلَى معاصيه بشديد غضبه وعَظِيم سخطه وحذرهم بأسه وانتقامه فما بال المُسْلِمِيْنَ بعد القرون الأولي ودخولهم فِي هذه الأزمان عمدوا إلي محارم الله فارتكبوها ومنهياته فاستباحوها ومأموراته فاجتنبوها ونبذوها وقطعوا الأسباب بينهم وبين خالقهم ورازقهم
وعادوا بمر الشكوي من تغَيْر الأحوال وانتزاع البركة من الأرزاق والآجال ولَيْسَ الغريب أن تذهب البركة من أرزاق العصاة وأموالهم فإن الله جَلَّ وَعَلا يغار عَلَى أوامره أن تجتنب ومحارمه أن ترتكب عِبَادَ اللهِ إن المحافظة عَلَى أوامره التي أمركم بِهَا فِي كتابه وعَلَى لسان نبيه مُحَمَّد ? بمنزلة العهد والميثاق بينكم وبينه تعالى أن يحوطكم برحمته ويسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة وأن يكون معكمْ بالعون والتَّوْفِيق فإِذَا حاربتموه بارتكاب معاصيه وإهمال أوامره فقَدْ حاربتم بديع السماوات والأرض ذا القوة المتين ولستم بمعجزيه أن يرسل عليكم عذاباً فِي الدُّنْيَا ولعذاب الآخرة أشد وأبقي عِبَادَ اللهِ اتقوا الله وراقبوه فِي سركم وجهركمْ وإياكمْ أن تظنوا أن الله يهمل المسيء فلا يجازيه ولا يحاسبه عَلَى جرمه وذنبه الَّذِي اقترفه ومن ظن ذَلِكَ كَانَ من الَّذِينَ يخادعون الله والَّذِينَ آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون يا عِبَادَ اللهِ: قَدْ كَانَ قبلكم من الأمم من اصطفاهم الله عَلَى علم عَلَى العالمين وآتاهم من الآيات ما فِيه بلاغ للعابدين وأسبغ عَلَيْهم نعمه ظاهرة وباطنة فما رعوها حق رعايتها وقَالُوا نَحْنُ أبناء الله وأحباؤه فَلَمَّا أفسدوا فِي الأرض لم تغن عنهم النذر شيئاً وأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} وفِي الْحَدِيث إن الله ليملي للظَالمِ فإِذَا أخذه لم يفلته.
شِعْراً:
…
نَامَتْ جُفُونُكَ وَالمَظْلُومُ مُنْتَبِهٌ
…
يَدْعُو عَلَيْكَ وَعْيُنُ اللِه لم تَنَمِ
آخر:
…
وَمَا مِنْ يَدٍ إلا يَدُ اللهِ فَوقَهَا
…
وَلَا ظَالِمٌ إلا سَيُبْلَى بِظَالِمِ
آخر:
…
خَفِ اللهَ فِي ظُلْمِ الوَرَى واحْذَرَنَّهُ
…
وَخَفْ يَوْمَ عَضَ الظَالِمِونَ عَلَى اليَدِ
وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ عن ذَاكَ غَافِلاً
…
وَلَكِنّهُ يُمْلِي لِمَنْ شَاءَ إِلى الغَدِ
وَلَا تَغْتَررْ بِالحِلْمِ عن ظُلْمِ ظَالِمٍ
…
سَيَأخُذُهُ أَخْذاً وَبِيْلاً وعن يَدِ
آخر:
…
إِذَا المَرْءُ أحْمَى نَفْسَه كُلَّ شَهْوَةٍ
…
... لِصِحَّةِ أيَّامٍ تَبِيْدُ وَتَنْفَدُ
فَمَا بَالُهُ لَا يَحْتَمِي عن حَرَامِهَا
…
لِصِحَّةِ مَا يَبْقَى لَهُ وَيُخَلَّدُ
اللَّهُمَّ ثبتنا عَلَى نهج الاستقامة وأعذنا من موجبات الحَسْرَة والندامة يوم القيامة وخفف عنا ثقل الأوزار، وارزقنا عيشة الأبْرَار وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.
(وفِي كتاب الأخلاق)
قال: والكبر أنواع وأعظم أنواع الكبر عَلَى الله وعَلَى رسله، وهَذَا شر أنواع الكبر، لأن الإنسان ضعيف المخلوق من ماء مهين، الَّذِي يصرعه أضعف الحيوانات إِذَا سلطه الله عَلَيْهِ لا يليق به ولا يحل لَهُ أن يتكبر عَلَى من خلقه وأوجده ومنه يستمد بقاءه ويحتاج إليه فِي كُلّ لحظة وفِي كُل حركة وسكون.
ومن جهل قدر ربه فهو من بهيمة الأنعام أو أضل، كما أخبر الله عمن استكبروا عَلَيْهِ وعَلَى رسله، وكيف يجهل الإنسان قدر إلههِ القادر القاهر الَّذِي أبدع العَالَم عَلَى أحسن إحكام وأدق تكوين وله سُبْحَانَهُ فِي كُلّ جزء من خلقه شاهد واضح الدلالة، وحجة ظاهرة البيان، تدل عَلَى أنه هُوَ ذَلِكَ الصانع الَّذِي {َيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} فمن تكبر عَلَى الله فلم يؤمن بذاته وصفاته أو استكبر عن عبادته فإنه سيري نتيجة كبريائه ذلاً وصغاراً وعذاباً أليماً يوم البعث والنشور، فضلاً عما يصيب كثيراً من
المتكبرين عن عبادة الله من الانتقام الدنيوي، كما وقع للنمرود وفرعون وغيرهم من المتكبرين.
وأما المتكبر عَلَى رسل الله فهو كالمتكبر عَلَى الله فِي نتيجته فإن جزاءه الخلود فِي نار جهنم، لأنَّهُمْ إنما جاءوا بِتَوْحِيدِ اللهِ وتنزيهه عن كُلّ ما لا يليق به، وهداية النَّاس إلي سبيل السعادة، فمن استكبر عَلَيْهمْ ولم يؤمن بِهُمْ فقَدْ كفر بربه وخسر خسرانَاً مبيناً.
ولَقَدْ قال المستكبرون من قريش: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} يريدون الوليد بن المغيرة من مَكَّة وأبا مسعود الثقفِي من أَهْل الطائف، دفعهم الكبر إلي أن يطلبوا من هُوَ عندهم وفِي زعمهم أعظم رئاسة من المُصْطَفَى ? لأنه غلام يتيم وإن كَانَ من أطهر أصلابهم وأشرف أنسابهم فرد الله عَلَيْهمْ بقوله {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} ، ذَلِكَ أنَّهُمْ جهلة متهورون غلاظ القُلُوب حسدة لم يقدروا الله الَّذِي خلقهم والَّذِينَ من قبلهم، الحكيم الَّذِي يضع الأشْيَاءِ مواضعها وينزل الأمور منازلها.
وروي مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: كنا مَعَ رسول الله ? ونَحْنُ ستة نفر فَقَالَ المشركون: اطرد هؤلاء عنكَ فَإنَّهُمْ وإنَّهُمْ، قال فكنت أَنَا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان نسيت اسميهما، قال فوقع فِي نفس النَّبِيّ ? من ذَلِكَ ما شَاءَ الله فحدث به نَفْسه، فأنزل الله عز وجل {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} وروي عن خباب بن الأرت – فِي سبب نزول هذه الآية – قال: جَاءَ الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري فوجدوا النَّبِيّ ? قاعداً مَعَ بلال وعمار وصهيب وخباب، فِي ناس من الضعفاء من الْمُؤْمِنِين، فَلَمَّا رأوهم حقروهم، فخلوا به فَقَالُوا: إنَا نحب أن تجعل لنا منك مجلساً تعرف لنا به
الْعَرَب فضلنا، فإن وفود الْعَرَب تأتيك، فنستحي أن يرانَا الْعَرَب قعوداً مَعَ هذه الأعبد فإِذَا نَحْنُ جئناك فأقمهم عنا، فإِذَا نَحْنُ فرغنا فاقعدهم إن شئت، قال "نعم"، قَالُوا: فاكتب لنا عَلَيْكَ كتاباً، فدعا بالصحيفة، ليكتب لهُمْ، ودعا علياً ليكتب، فَلَمَّا أراد ذَلِكَ ونَحْنُ قعود فِي ناحية، إذ نزل جبريل عليه السلام، فَقَالَ:{وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} ثُمَّ ذكر الأقرع وصاحبه فَقَالَ: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاء مَنَّ اللهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} .
ثُمَّ ذكرنا فَقَالَ: {وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} فرمي رسول الله ? بالصحيفة ودعانَا فأتيناه وَهُوَ يَقُولُ {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} فدنونا منه حتي وضعنا ركبنا عِنْدَ ركبتيه فكَانَ رسول الله ? يجلس معنا فإِذَا أراد أن يقوم قام وتركنا فأنزل الله {وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} يَقُولُ لا تعد عيناك عنهم تجالس الأشراف {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} أما الَّذِي أغفل قَلْبه عن الذكر فهو عيينة بن حصن والأقرع، وأما فرطاً فهلاكاً، فإِذَا بلغنا الساعة التي كَانَ يقوم فيها قمنا وتركناه حتي يقوم، وإلا صبر أبداً حتي نقوم، رواه ابن أبي شيبة ورواه أبو نعيم.
ومعني هَذَا أن هذين الرجلين حملهما الكبر والأنفة عَلَى احتقار بعض هؤلاء الْمُؤْمِنِين لضعفهم من جهة الْمَال والنسب فطلبا من النَّبِيّ ? أن يختصهم بمجلس لا يشمل هؤلاء الضعفاء وفِي رواية أنَّهُمْ يؤمنون به إن فعل ذَلِكَ وكَانَ ? حريصاً عَلَى إيمان النَّاس، كما ذكر الله عنهُ بقوله {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} .
وَقَالَ {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} وَقَالَ {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} وَقَالَ: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} ورأي أن هَذَا لا يضر أصحابه خصوصاً بعد أن يدخل هذان معهما، فإن الدين كفيل بإذن الله فِي تهذيبهما فأجابهما إلي طلبهما.
شعراً:
الدِّيْنُ رُوْحٌ بِهِ تَحْيَا الأنَامُ كَمَا
…
دَمَارُهَا أَبَداً بِالكُفْرِ يَنْحَتِمُ
وَالكُفْرُ شَيْنٌ بِهِ الإصْلَاحُ مُنْعَدِمٌ
…
وَالدِّيْنٌ زَيْنٌ بِهِ الأحوال تَنْتَظِمُ
ولكن الله تعالى الَّذِي شرع الدين وَهُوَ الَّذِي فوق عباده جميعاً أبي عَلَى نبيه ذَلِكَ وأعلمه أنه لا يبالي بالمتكبرين، ولا يحفل بدخولهم فِي دينه، ما دامت أنفسهم متأثرة بالعزة الكاذبة واحتقار الْمُؤْمِنِين لأن دينه تعالى قَدْ جَاءَ بالِقَضَاءِ عَلَى هذه الرذيلة ولم يجعل الاحترام وعلو الهمة والمنزلة ورفعة القدر مرتبطاً برفعة النسب أو كثرة الْمَال أو الجاه والسُّلْطَان، وإنما جعل ذَلِكَ مرتبطاً بالعلم النافع وتقوي الله، ولذا قال لنبيه {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} وَقَالَ:{وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} الآية فصدع ? بأمر الله تعالى وبلغ ما أوحي إليه.
شِعْراً:
…
رَغِبْتُ عن الدُّنْيَا لِعِلْمِيَ أَنَّهَا
مَحَلُّ حَيَاةِ المَرْءِ فِيه إبَلَاغُ
وقَدْ لَاحَ فِي فَوْدَيَّ شَيْبٌ عَلَى الرَّدَى
دَلِيْلٌ وفِيه مَا أَرَدْتُ بَلَاغُ
وَأَمَّلْتُ مِنْ مَوْلَايَ نَظْرَةَ رَحْمَةٍ
يَكُوْنُ بِهَا مِنِّي إِليْهِ بَلَاغُ
…
>?
.. فَأحْظَى إِذَا الأبْرَارُ قِيْلَ لَهُمْ غَداً
هَلِمُّوا إِلى دَارِ النَّعِيْمِ فَرَاغُوا
رَأَيْتُ بَنَيْها مَا رَمَتْهُمُ سِهَامُهَا
فَطَاشَتْ وَلَا حُمَّ الحِمَامُ فَرَاغُوا
فَعُجِبْتُ إِلى دَارِ البَقَاءِ بِهِمَّتِي
فَعِنْدِي عنهَا رَاحَةٌ وَفَرَاغُ
…
>?
اللَّهُمَّ مكن محبة القرآن فِي قلوبنا ووفقنا لتلاوته آناء الليل والنَّهَارَ اللَّهُمَّ وارزقنا الْعَمَل به والدعوة إليه واجعله حجة لنا وقائداً لنا إلي جنتك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين.
" موعظة "
عِبَادَ اللهِ: إنما يسعد المسلمون أن يتبعوا الحق ويدعوا إليه ولا تأخذهم فِي الله لومة لائم ويقبلوا النَّصِيحَة ممن ينصحهم ويعملوا بِهَا راضية نفوسهم شاكرة ألسنتهم غَيْرَ مستكبرين ولا متعنتين ولم يعمهم الهَوَى عن اتباع الحق إذ ذاك تكمل لهُمْ السعادة ويتم لهُمْ النَّعِيم وقَدْ فشا فِي النَّاس داء الكبر واستحكَم ولا أقصد بذَلِكَ من الكبر الخيلاء والتبختر فقط وإنما أقصد كبر المتكبر عن قبول نصح الناصح وإرشاد المشترشد فإن الأولَ وإن كان شراً لكن الثاني شر منه فإن المرء إذا لم يقبل نصيحة الناصح كَانَ راضياً عن نَفْسه ومتي رضي عن نَفْسه عميت عن عيوبِهَا فلا يؤثر فيها نصح ولا ينفع معها إرشاد لأن الغرور متحكم فيها والشهوات محيطة بِهَا فإِذَا أراد الله بعبده خيراً بصره بعيوب نَفْسه فأصلحها واتهمها دائماً بالنقص وطالبِهَا بالكمال حتي تلتحق بالنُّفُوس الزكية والأرواح الطاهرة وهكَذَا كَانَ سلفنا الصالح
فكَانَ أمير الْمُؤْمِنِين عُمَرُ بنُ الْخَطَّاب رضي الله عنه يَقُولُ: رحم الله امرأً أهدي إلي عيوب نفسي وكَانُوا إِذَا أرشدهم أخٌ من إخوأنهمْ إلي عيب فِي نفوسهم فرحوا بهَذَا التنبيه وطهروا نفوسهم منه وشكروا من نصحهم وجعلوا نصيحته منة لَهُ عَلَيْهمْ ولم يأنفوا أو لم يستكبروا لأنَّهُمْ يتهمون نفوسهم ويرونها ناقصة ويسعون إلي رفعتها إلي أوج الكمال وبهَذَا بلغوا ما بلغوا ونالوا ما نالوا، يا عِبَادَ اللهِ: كيف نرضي عن نُفُوسنا والله جَلَّ وَعَلا يَقُولُ: (إن النفس لأمارة بالسوء) عِبَادَ اللهِ: من منا بلغ معشار ما بلغه عمر فِي كمال نَفْسه وقوة إيمانه وشدة يقينه وقَدْ كَانَ يَقُولُ لأصحابه: من رأي منكم فِيَّ اعوجاجاً فليقومه هكَذَا كَانَ ظنه رضي الله عنه بنفسه عَلَى جلالة قدره وعلو منزلته فِي دينه وكل ما كَانَ أكبر كَانَ أقل إعجاباً بنفسه وأكثر مطالبة لها بسلوك طَرِيق الحق.
شِعْراً:
…
نَالُوا بِذَلِكَ فَرْحَةً وَسُرُوراً
…
وَسَعَوْا فَأَصْبَحَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورَا
قَوْمٌ أَقَامُوْا لِلإِلَهِ نُفُوسَهُمْ
…
فَكَسَا وُجُوْهَهُمُ الوَسِيمَةَ نُوْرَا
تَرَكُوْا النَّعِيْمَ وَطَلَّقُوا لَذَّاتِهِمْ
…
زُهْداً فَعَوَّضَّهُمْ بِذَاكَ سُرُوْرَا
قَامُوا يُنَاجُوْنَ الإلَهَ بِأّدْمُعٍ
…
تَجْريْ فَتَحْكِي لُؤْلُؤاً مَنْثُورَا
سَتَروْا وُجُوهَهُمُوْا بِأَسْتَارِ الدُّجَى
…
لَيْلاً فَأَضْحَتْ فِي النَّهَارِ بُدُوْرَا
عَمِلُوا بِمَا عَلِمُوا فَجَادُوْا بالَّذِي
…
وَجَدُوْا فَأَضْحَتْ حَظُّهُمْ مَوْفُورَا
وإِذَا بَدَا لَيْلٌ سَمِعْتَ أَنِيْنَهُمْ
…
وَشَهِدْتَ وَجْداً مِنْهُمُوْا وَزَفْيِرَا
تَعِبُوْا قَلِيلاً فِي رِضَا مَحْبُوبِهِمْ
…
فَأَرَاحَهُمْ يَوْمَ المَعَادِ كَثِيْرَا
صَبَرُوا عَلَى بَلْوَاهُمُوا فَجَزَاهُمُوْا
…
يَوْمَ القِيَامَةِ جَنَّةً وَحَرِّيْرَا
اللَّهُمَّ اجعلنا من أَهْل الصلاح والنجاح والفلاح، ومن المؤيدين بنصرك وتأييدك ورضاك وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
وأما التكبر عَلَى خلق الله فهو من شر الرذائل وأسوأ الصفات، لأنه يستلزم مظَالم شائنة وجرائم ممقوتة وقَدْ يفضي به ذَلِكَ إلي التكبر عَلَى الله وعَلَى رسله لأن الله تعالى نهي عن ارتكاب تلك المظَالم، وحذر عاقبة شرها، فلم يبال به ولم يخشَ وعيده، ولم يخف بطشه، وفِي ذَلِكَ كبر وعتو وتمرد.
وأيضاً فإن المستعظم عَلَى عبد من عِبَاد اللهِ لا يصغي لقوله مهما كَانَ حقاً مفروضاً ولا يدخر مجهوداً فِي رده بالْبَاطِل وهَذَا من أَخْلاق الكافرين الَّذِينَ يستكبرون عَلَى الله فمن أجل ذَلِكَ حرم الله الكبر ونهي عنه نهياً شديداً1 هـ بتصرف.
وقَدْ وردت آيات وأحاديث فِي ذم الكبر والنهي عنهُ من ذَلِكَ آية سورة الأعراف المشيرة إلي حرمان الحق وعمي الْقَلْب عن معرفة آيات الله تعالى وفهم أحكامه، قال تعالى:{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لَاّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ} .
وَقَالَ تعالى: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} وَقَالَ: {إنه لا يحب المستكبرين} وَقَالَ تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً} وَقَالَ: {وَلَا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} وَقَالَ: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً} . وعن أَبِي هُرَيْرَةِ رضي الله عنه أن رسول الله ? قال: " لا
ينظر الله يوم القيامة إلي من جر إزاره بطراً ". متفق عَلَيْهِ، وعنه أن رسول الله ? قال: " بينما رجل يمشي فِي حلة، تعجبه نَفْسهُ مرجل رأسه، يختال فِي مشيته خسف الله به فهو يتجلجل فِي الأرض إلي يوم القيامة ". متفق عليه.
وعن ثوبان رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: "من مَاتَ وَهُوَ بريء من الكبر والغلول والدين دخل الجنة ". رواه الترمذي واللفظ لَهُ والنسائي، وابن ماجه وابن حبان فِي صحيحه.
وعن أبي سعيد وأَبِي هُرَيْرَةِ رضي الله عنهما قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: " يَقُولُ الله عز وجل: العزُّ إزاري والكبرياء ردائي، فمن نازعني شيئاً مِنْهُمَا عذبته ". رواه مسلم بلفظ "يَقُولُ الله عز وجل: العزُّ إزاره، والكبرياء رداؤه، فمن ينازعني عذبته ".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: " يَقُولُ الله جَلَّ وَعَلا: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحداً مِنْهُمَا ألقيته فِي النار". رواه ابن ماجة واللفظ لَهُ وابن حبان فِي صحيحه.
وعن حارثة بن وهب رضي الله عنه قال سمعت رسول الله ? يَقُولُ: " إلا أخبركم بأَهْل النار؟ . كُلّ عتل جواظ مستكبر ". رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله ? قال: "من تواضع لله درجة يرفعه الله درجة حتي يجعله الله فِي أعَلَى عليين ومن تكبر عَلَى الله درجة يضعه الله درجة، حتي يجعله فِي أسفل سافلين، ولَوْ أن أحدكم يعمل فِي صخرة صماء لَيْسَ عَلَيْهَا باب ولا كوة لخرج ما غيبه للناس كائناً ما كان" رواه ابن ماجة وابن حبان فِي صحيحه.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النَّبِيّ ? قال: " احتجت الْجَنَّة والنار فقَالَتْ النار: فِيَّ الجبارون والمتكبرون، وقَالَتْ الْجَنَّة: فيَّ
ضعفاء المُسْلِمِيْنَ ومساكينهم، فقضي الله بينهما: إنك الْجَنَّة رحمتي أرحم بك من أشاء، وإنك النار عذابي أعذب به من أشاء، ولكليكما عَلَىَّ ملؤها ". رواه مسلم.
وعن أبي سلمة ابن عبد الرحمن بن عوف قال: التقي عَبْدُ اللهِ بنُ عمر وعبدُ الله بنُ عمرو بن العاص رضي الله عنهم عَلَى المروة فتحدثا ثُمَّ مضي عَبْدُ اللهِ بنُ عمرو وبقي عَبْدُ اللهِ بنُ عمر يبكي فَقَالَ لَهُ رجل: ما يبكيك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: هذا. يعني عَبْد اللهِ بن عمرو زعم أنه سمَعَ رسول الله ? يَقُولُ: "من كَانَ فِي قَلْبهِ مثقال حبة من خردل من كبر كبَّه الله لوجهه فِي النار ". رواه أَحَمَد ورواته رواة الصحيح. بلغ يا أخي هَذَا الْحَدِيث حاملي الماجستير والدكتوراه والبكالوريوس والعالمية ونحوهم من يرون النَّاس بعين الاحتقار والتنقص لما عندهم من الكبر والعجب والعظمة.
شِعْراً:
…
لَوْ عَرَفَ الإنسان مِقْدَارِهِ
…
لم يَفْخَرِ المَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ
أَمْسَ الَّذِي مَرَّ عَلَى قُرْبِهِ
…
يَعْجَزُ كُلُّ الخَلْقِ عن رَدِّهِ
آخر:
لَا تَفْخَرَنَّ بِمَا أُوْتِيْتَ مِنْ نِعَمٍ
…
عَلَى سِوَاكَ وَخَفْ مِنْ مَكْرِ جَبَّارِ
فأَنْتَ فِي الأصْلِ بِالفَخَّارِ مُشْتَبِهٌ
…
مَا أَسْرَعَ الكَسْرَ فِي الدُّنْيَا لِفَخَّارِ
آخر:
اعْجَبْ لِمُحْتَكِرِ الدُّنْيَا وَبَانِيْهَا
وعن قَرِيْبٍ عَلَى كُرْه يُخَلّيْهَا
دَارٌ عَواقِبُ مَفْرُوْحَاتِهَا حَزَنٌ
إِذَا أَعَارَتْ أَسَاءَتْ فِي تَقَاضِيْهَا
يَا مَنْ يُسَرُّ بِأَيَّامٍ تَسِيْرُ بِهِ
إِلى الفَنَاءِ وَأَيَّامٍ يُقَضِّيْهَا
…
>?
.. قِفْ فِي مَنَازِلِ أَهْلِ العِزَّ مُعْتَبِراً
وانْظُرْ إِلى أَيِّ شَيْءٍ صَارَ أَهْلُوهَا
صَارُوْا إِلى حَدَثٍ فِيه مَحَاسِنُهُمْ
عَلَى الثَّرَى وَدَوِيُ الدُوْدِ يَعْلُوهَا
…
>?
اللَّهُمَّ يسرنا لليسري وجنبنا العسري وَاجْعَلْنَا هداة مهتدين وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.
" موعظة "
عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ كانت القُلُوب موضع العناية التامة عِنْدَ السَّلَف الصالح لأنَّهُمْ يعلمون كما قال النَّبِيّ ?: " إِذَا صلحت صلح الجسد كله" وَذَلِكَ لأنها مبدأ الحركات البدنية، والإرادات النفسانية، فإن صدرت من القُلُوب إرادة صَالِحَة تحرك البدن حركة طاعة، وإن صدرت عنهَا إرادة فاسدة تحرك البدن حركة فاسدة، فهو كملك والأعضاء كالرعية، ولا شك أن الرعية تصلح بصلاح الملك وتفسد بفساده، وكَانَ واجباً عَلَيْنَا أن نكون كما كَانَ سلفنا فِي العناية بهاتيك القُلُوب لأن بِهَا سعادتنا بإذن الله وبِهَا شقاؤنا، ولكن يا للأسف ما كَانَ من ذَلِكَ شَيْء والَّذِي كَانَ منا أننا أهملنا قلوبنا إهمالاً تتجرح لَهُ القُلُوب، وتذوب لَهُ الأكباد ولذَلِكَ نشأ فينا نتيجة الإهمال كثرة الأمراض فِي القُلُوب وتشعبت وأعضلت وصعب شفاؤها، وانعدم أطباؤها ومن وصل إلي هَذَا الحد فهو فِي خطر عظيم.
فمن الأمراض التي أزمنت فِي قلوبنا مرض الرياء الَّذِي لا يكاد يسلم منه إلا النوادر، ومن الأمراض التي أصبنا بِهَا مرض العجب، ولهَذَا يعتقد
الصغَيْر منا والكبير الكمال فِي نَفْسه ومن اعتقَدْ ذَلِكَ فِي نَفْسه هوي لأنه لا يلتفت إلي ما به كمال الرِّجَال، ومرض ينتج مرضاً آخر هُوَ مرض الكبر وصف الأنذال والأرذال والجهال، والمتكبر لا ينظر إليه بعين الرِّضَا والكبر ينشأ عنهُ مرض الحسد والحسود يتمني زَوَال نعمة الله عن خلقه، والحسد يولد الحقد الَّذِي ربما حمل صاحبه عَلَى قتل من لا ذنب له إلا ما أولاه الله من النعم، ولَيْسَ هَذَا كُل ما فِي قلوبنا من الأمراض بل فيها مرض البخل والشح الَّذِي وصل بنا إلي منع الزَّكَاة أو بعضها، وغَيْرَ ذَلِكَ كثير وكلها أمراض مهلكات، ونَحْنُ لا نهتم بقلوبنا ولا بأمراضها وإنما نهتم بأمراض أجسامنا، ونبادر فِي علاجها إلي المستشفيات، وأمراضها يسيرة بسيطة بِالنِّسْبَةِ إلي أمراض القُلُوب، ونهتم أيضاً بجمال ظواهرنا فنبالغ فِي تحسين ملابسنا ومراكبنا ومساكننا ومجالسنا وأبداننا، انظر إلينا عِنْدَ الذهاب إلي مقر الْعَمَل لتعجب من تغفيلنا وانخداعنا، ولَوْ كانت عنايتنا بالقُلُوب كعنايتنا بالملابس فقط ما كنا بهذه الحالات المحزنات.
شِعْراً:
…
تَفَكَّرْتُ فِي الدُّنْيَا فَأبْصَرْتُ رُشْدَهَا
…
وَذَلَّلْتُ بِالتَّقْوى مِنْ اللهِ حَدَّهَا
أَسَأْتُ بِهَا ظَناً فَأَخْلَفْتُ وَعْدَهَا
…
وَأَصْبَحْتُ مَوْلَاهَا وَقَدْ كُنْتُ عَبْدَهَا
آخر:
…
خَلِيْلَّيْ قُوْمَا فاحْمِلَا لِي رِسَالَةً
وَقُولَا لِدُنْيَانَا الَّتِي تَتَصَنَّعُ
عَرَفْنَاكِ يَا خَدَاعَةَ الخَلْقِ فَاذْهَبِي
أَلَسْنَا نَرَى مَا تَصْنَعِيْنَ وَنَسْمَعُ
فَلَا تَتَجَلَّيْ لِلْعُيُونِ بِزِيْنَةٍ
فَإِنَّا مَتَى مَا تَسْفُرِي نَتَقَنَّعُ
نُغَطِي بِثَوْبِ اليَأْسِ عنكَ عُيُوبَنَا
إِذَا لَاحَ يَوْماً مِنْ مَخَازِيْكِ مَطْمَعُ
…
>?
آخر:
…
رَتَعنا وَجُلْنَا فِي مَرَاعِيْكِ كُلِّهَا
فلم يَهْنَنَا فِي مَا رَعَيْنَاهُ مَرْتَعُ
…
>?
آخر:
…
يَا آمِرِيْ بِاقْتِنَاءِ الْمَالِ مُجْتَهِداً
…
كَيْمَا أَعِيْشُ لِمَالِي فِي غَدٍ رَغَداً
هَبْنِيْ بِجَهْدِيَ قَدْ أَصْلَحْتُ أَمَرْ غَدٍ
…
فَمَنْ ضَمِيْنِيْ بِتَحْصِيْلِ الحَيَاةِ غَداً
اللَّهُمَّ أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الْبَاطِل باطلاً وجنبنا اتباعه، واغفر لنا ولولدينا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
عن حذيفة رضي الله عنه قال: كنا مَعَ النَّبِيّ ? فِي جنازة قال: "ألا أخبركم بشر عِبَادِ اللهِ؟ : الفظ المستكبر، إلا أخبركم بخَيْر عِبَادِ اللهِ؟ الضعيف المستضعف لله، ذو الطمرين لا يؤبةَ لَهُ لَوْ أقسم عَلَى الله لأبره" رواه أَحَمَد ورواته رواة الصحيح إلا مُحَمَّد بن جابر.
وعن عَبْد اللهِ بن سلام رضي الله عنه: أنه مر فِي السوق وعَلَيْهِ حزمة من حطب، فقيل لَهُ ما يحَمَلَكَ عَلَى هَذَا، وقَدْ أغناك الله عن هذا؟ قال أردت أن أدفع الكبر، سمعت رسول الله ? يَقُولُ "لا يدخل الْجَنَّة من فِي قَلْبهِ خردلة من كبر" رواه الطبراني بإسناد حسن والأصبهاني إلا أنه قال ذرة من كبر.
وعن عمرو بن شعيب رضي الله عنه عن أبيه عن جده قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر فِي صور الرِّجَال يغشاهم الذل من كُل مكَانَ يساقون إلي سجن فِي جهنم يُقَالُ لَهُ بولس، تعلوهم نار الأنيار يسقون من عصارة أَهْل النار طينة الخبال. رواه النسائي والترمذي واللفظ له
وَقَالَ: حديث حسن وعن عَبْد اللهِ بن مسعود رضي الله عنه عن النَّبِيّ ? قال: "لا يدخل الْجَنَّة من كَانَ فِي قَلْبهُ مثقال ذرة من كبر" فَقَالَ رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة قال: إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس" رواه مسلم والترمذي.
وعَن ابن عمر رضي الله عنهما أن النَّبِيّ ? قال: "من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة فَقَالَ أبو بكر رضي الله عنه:يَا رَسُولَ اللهِ إن إزاري يسترخي إلا أن أتعاهده. فَقَالَ لَهُ رسول الله ?: "إنك لست ممن يفعله خيلاء" رواه مالك والبخاري واللفظ له.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله ? يَقُولُ: "من تعظم فِي نَفْسه واختال فِي مشيته لقي الله تبارك وتعالى وَهُوَ عَلَيْهِ غضبان" رواه الطبراني فِي الكبير واللفظ لَهُ ورواته محتج بِهم فِي الصحيح والحاكم بنحوه وَقَالَ صحيح عَلَى شرط مسلم.
وعن خولة بنت قيس رضي الله عنهما أن النَّبِيّ ? قال: "إِذَا مشت أمتي المطيطأ، وخدمتهم فارس الروم، سلط بَعْضهمْ عَلَى بعض" رواه ابن حبان فِي صحيحه ورواه الترمذي وابن حبان أيضاً من حديث ابن عمر، وروري عن أسماء بنت عميس رضي الله عنها، قَالَتْ: سمعت رسول الله ? يَقُولُ: "بئس الْعَبْد عبد تخيل واختال ونسي الكبير المتعال، بئس الْعَبْد عبد تجبر واعتدي، ونسي الجبار الأعلَى، بئس الْعَبْد عبد سها ولها، ونسي المقابر والبلي، بئس الْعَبْد عبد عتي وطغي، ونسي المبتدأ والمنتهي بئس الْعَبْد عبد يختل الدُّنْيَا بالدين، بئس الْعَبْد عبد يختل الدين بالشبهات، بئس الْعَبْد عبد طمَعٌ يقوده، بئس الْعَبْد عبد هوي يضله، بئس الْعَبْد عبد رغب يذله رواه الترمذي.
شِعْراً:
…
لَا تَبِخَلَنَّ بِدُنَياً وَهْيَ مُقِبْلَةٌ
…
فَلَا يَضُرُّ سِوَى التَّبْذِيْرُ وَالسّرَفُ
وَإِنْ تَولَّتْ فَأحْرَى أَنْ تَجُودَ بِهَا
…
فَالشُّكْرُ مِنْهَا إِذَا مَا أَدْبَرَ خَلِفُ
آخر:
…
إِنَّ المَؤُنَةَ وَالحِسَابَ كِلَيْهِمَا
…
قُرِنَا بِهَذَا الدَّرْهَمِ المَذْمُوْمِ
كَلِفَ الأنَامُ بِذِمِّهِ وَبِضَمِّهِ
…
فَتَعَجَّبُوْا لِمُذَمّمٍ مُضْمُوْمِ
وعن أَبِي هُرَيْرَةِ عنهُ قال قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: " ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم، شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر" رواه مسلم والنسائي، وعنه رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: " أربعة يبغضهم الله البياع الحلاف والفقير المختال، والشَّيْخ الزاني، والإمام الجائر ". رواه النسائي وابن حبان فِي صحيحه.
وعنه رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: " عرض عَلَى أول ثلاثة يدخلون النار: أمير مسلط، وذو ثروة من مال لا يؤدي حق الله فِيه، وفقير فخور" رواه ابن خزيمة وابن حبان فِي صحيحه.
وأخرَجَ ابن ماجه والحاكم وصحح إسناده أن رسول الله ? بصق يوماً عَلَى كفه ووضع أصبعه عَلَيْهِ وَقَالَ: "يَقُولُ الله تعالى: ابن آدم أتعجزني وقَدْ خلقتك من مثل هذه؟ حتي إِذَا سويتك وعدلتك، مشيت بين بردين، وللأرض منك وئيد، جمعت ومنعت، حتي إِذَا بلغت التراقي، قُلْتُ أتصدق، وأني أوان الصدقة" وَاللهُ أَعْلم وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم.
شِعْراً:
…
دَعِ الكِبْرَ واجْنَحْ لِلتَّوَاضُعِ تَشْتَمِلْ
…
وِدَادَ مَنِيْعِ الوِدِّ صَعْبٌ مَرَاقُهُ
وَدَاوِ بِلِيْنٍ مَا جَرَحْتَ بِغِلْظَةٍ
…
فَطِبُّ كَلَامِ المَرْءِ طِيْبُ كَلَامِهِ
آخر:
…
حَقَيق بِالتَوَاضُعِ مَنْ يَمُوْتُ
…
وَيَكْفِي المَرْءَ مِنْ دُنْيَاهُ قُوْتُ
فَمَا لِلْمَرْءِ يُصْبِحُ ذَا هَمُوُمٍ
…
وَحِرْصٍ لَيْسَ يُدْرِكُهُ النُعُوْتُ
فَيَا هَذَا سَتَرْحَلُ عن قَرِيْبٍ
…
إِلى قَوْمٍ كَلَامُهُمُ السُكُوْتُ
آخر:
…
تَذَلَّلْ لِمَنْ إِنْ تَذَلَلْتَ لَهُ
…
يَرَى ذَاكَ لِلْفَضْلِ لَا لِلْبَلَهْ
.. وَجَانِبْ صَدَاقَةَ مَنْ لم يَزَلْ
…
عَلَى الأصْدِقَاءِ يَرَى الفَضْلَ لَهُ
آخر:
…
إِذَا تَاهَ الصَّدِيْقُ عَلَيْكَ كِبْراًُ
…
فَتِهْ كِبْراً عَلَى ذَاكَ الصَّدِيْقِ
فَإيْجَابُ الحُقُوْقِ بِغَيْرِ رَاعِ
…
حُقُوُقَكَ رَأْسُ تَضْيِيْعِ الحُقُوْقِ
آخر:
…
تَواضَعْ إِذَا مَا نِلْتَ فِي النَّاسِ رِفْعَةً
…
فَإِنَّ رَفْيعَ القَوْمِ مَنْ يَتَوَاضَعُ
وَدَاوِمْ عَلَى حَمْدِ الإلهِ وَشُكْرِهِ
…
وَذْكر لَهُ فَهُوَ الَّذِي لَكَ رَافِعُ
آخر:
…
يَا غَافِلاً عن سَاعَةٍ مَقْرُوْنَةٍ
…
بِنَوَادِب وَصَوَارِخٍ وَثَوَاكِلِ
قَدِّمْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ مَوْتِكَ صَالِحاً
فَالمَوْتُ أَسْرَعُ مِنْ نُزُوْلِ الهَاطِلِ
حَتَّامَ سَمْعُكَ لَا يَعِي لِمُذَّكِرٍ
وَصَمِيْمُ قَلْبِكَ لَا يَلِيْنُ لِعَاذِلِ
تَبْغِي مِنَ الدُّنْيَا الكَثْيِرَ وَإِنَمَا
يَكْفِيكَ مِنْ دُنْيَاكَ زَادُ الرَّاحِلِ
آيُ اْلكِتَابِ يَهُزُّ سَمْعَكَ دَائِماً
وَتَصُمُّ عنهَا مُعْرِضاً كَالغَافِلِ
كم لِلإِلَهِ عَلَيْكَ مِنْ نِعَمٍ تُرَى
وَمَوَاهِبٍ وفَوَائِدٍ وَفَوَاضِلِ
كم قَدْ أَنَالَكَ مِنْ مَوَانِحِ طَوْلِهِ
فَأسْألْهُ عَفْواً فَهُوَ غَوْثُ السَّائِلِ
…
>?
اللَّهُمَّ مكن حبك فِي قلوبنا وألهمنا ذكرك وشكرك ووفقنا لامتثال طَاعَتكَ وأمرك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين.
" موعظة "
عِبَادَ اللهِ: من تكبر أذله ومن تواضع لله رفعه الله والمتكبرون يحشرون يوم القيامة فِي صور الذر تطؤهم النَّاس لهوانهم عَلَى الله تعالى المتكبرون شرار الخلق وأَهْل النار كُل جعظري جواظ مستكبر، المتكبر يشمخ بأنفه إِذَا تكلَم، ويجافِي مرفقيه عن جنبيه لاوياً عَنقه، يقارب خطاه إِذَا مشي، متطاولاً عَلَى إخوانه، مترفعاً عَلَى أقرانه، ينظر النَّاس شظراً بمؤخر العين، متقدماً عَلَيْهمْ إِذَا مشي، محتقراً للعامة، ولا فرق عنده بينهم وبين الحمير استهجإلا منه لهُمْ، فالمتكبر لا يحب للمؤمنين ما يحب لنفسه، لأنه لا يقدر عَلَى ذَلِكَ، ولا يقدر عَلَى التواضع وَهُوَ رأس أَخْلاق المتقين، ولا يقدر عَلَى ترك الحقد، ولا يقدر أن يدوم عَلَى الصدق، ولا يقدر عَلَى ترك الْغَضَب، ولا عَلَى كظم الغيظ، ولا يسلم من الازدراء بِالنَّاسِ واحتقارهم ولا يسلم من اغتيابهم وتنقيصهم، لأن فِيه من العظمة والعزة والكبرياء، ما يمنعه من ذَلِكَ، فما من خلق ذميم إلا وصَاحِب الكبر والعظمة مضطر إليه، ليحفظ به عزه وعظمته، وما من خلق محمود إلا وَهُوَ عاجز عنهُ خوفاً من أن يفوته عزه وعظمته، ولذَلِكَ ورد فِي الْحَدِيث أنه لا يدخل الْجَنَّة من فِي قَلْبهِ مثقال ذرة من كبر، ومِمَّا جَاءَ فِي وصية لقمان لابنه {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} ومن تعاليم ربنا لهذه الأمة ونبيها عليه الصلاة والسلام، بقول الله تعالى:{وَلَا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} فيا أيها المتكبر الناظر فِي عطفِيه، المتعاظم فِي نَفْسه، إن شأنك حقير، وقدرك صغَيْر ولست بمحسوب فِي العير، ولا فِي النفير، وما لك عِنْدَ عاقل من حساب، ولا تقدير، لا قليل ولا كثير، فهون عَلَيْكَ، وارفق بنفسك، فإنك مغرور، يا مسكين وتدبر كلام رب العالمين {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} ، {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} وذم الكبر فِي القرآن كثير، والمتكبر
عدو لله ولنفسه وللناس، ويقصر فِي الواجب ويدعي ما لَيْسَ لَهُ ويتشدق فِي الكلام، ويتألق فِي اللباس، وإنه لثقيل فِي حركاته وسكناته، بغيض فِي أمره ونهيه، ومجالسته، ومؤاكلته ومشاربته، والويل كُل الويل لمن صاهره أو شاركه أو ربطته به صلة، لأن داء الكبر يعدي ويسري فتبعد السلامة من المقترب منه رأي بعض أَهْل العلم من يختال فِي مشيته فغمز جنبه، ثُمَّ قال لَيْسَتْ هذه مشية من فِي بطنه خراء، وكيف يتكبر من أوله نطفة مذرة، وآخره جيفة قذرة وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يحمل البول والعذرة، هَذَا أكبر برهان عَلَى أنه دنس جاهل مجهول نكرة ممتلئاً كبراً وإعجاباً بنفسه وسمعة، ورياءً، ولؤماً وشؤماً وشرهاً فهو أشبه شَيْء بالدخان يملأ الفضاء ويتك صدور النَّاس وأصله من القمامَاتَ والأوساخ المبعثرة، نسأل الله أن يقلل هَذَا النوع المنحط وأن يكثر ضده من أَهْل التواضع واللين والعطف والحنان: قال الله تعالى {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} اللَّهُمَّ أنظمنا فِي سلك عبادك الأخيار ونجنا بِرَحْمَتِكَ من عذاب النار وأسكنا الْجَنَّة مَعَ أوليائك الأبْرَار وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
وللكبر آثار تظهر عَلَى الجوارح كُلّهَا تدور حول ذَلِكَ النظر، فتري المتكبر إن سمح بممشاه مَعَ النَّاس يكون متقدماً عَلَيْهمْ، حريصاً جداً أن يكونوا كلهم خلفه، وتراه إن جلس معهم ورضي أن يكونوا جلساءه، محتفظاً بصدر المجلس مستقلاً به ويسره أن يصغوا إلي كلامه، ويؤلمه كلام غيره وتجده ينتظر من النَّاس أن يتلقوا كلامه بالقبول والتصديق.
شِعْراً:
…
وَمُسْتَعْبَدٍ إِخْوَانَهُ بِثَرَائِهِ
…
لَبِسْتُ لَهُ كِبْراً أَبَرَّ عَلَى الكِبْرِ
وَقَدْ زَادَنِيْ تِيْهَاً عَلَى مُتَكَبِّرٍ
…
أَرَانِيَ أَغْنَى وَإِنْ كُنْتُ ذَا فَقْرِ
آخر:
…
حَجَابٌ وَإِعْجَابٌ وَفَرْطُ تَصَلُّفٍ
…
وَمَدُّ يَدٍ نَحْوَ العُلَى بِتَكَلُّفِ
ولَوْ كَانَ هَذَا مِنْ وَرَاءِ كِفَايَةٍ
…
عَذَرْنَا وَلَكَنْ مِنْ وَرَاءِ تَخَلُفِ
آخر:
…
يَا قَلْيلَ القَدْرِ مَوْفُورَ الصَّلَفْ
…
والَّذِي فِي التِيْهِ قَدْ حَازَ السَّرَفْ
كُنْ لَئِيْمَاً وَتَوَاضَعْ تُحْتَمَلْ
…
أَوْ سَخِيَاً يُحْتَمَلْ مِنْكَ الصَّلَفْ
آخر:
…
فَخَرٌ بِلَا حَسَبٍ عُجْبٌ بِلَا أَدَبِ
…
كِبْرٌ بِلَا نَشَبٍ هَذَا مِنَ العَجَبِ
آخر:
…
الْمَرُء يُعْجِبُنِيْ وَمَا كَلمتُهُ
…
ويُقَالُ لِيْ هَذَا اللَبِيْبُ اللَّهْذَمُ
فَإِذَا قَدَحْتُ زِنَادَهُ وَوَرَيْتَهُ
…
فِي الكَفِّ زَافَ كَمَا يَزْيِفُ الدِرْهَمُ
ومن آثار الكبر: تصعير الخد، والنظر شزراً، وإطراق رأسه، وجلوسه متربعاً أو متكئاً.
وتظهر آثار الكبر أيضاً فِي أقوال المتكبر حتي فِي صوته ونغمته وصيغة كلامه فِي الإيراد وقيل لأحمق تكبر وقام ساخطاً عَلَى أستاذه لماذَا قمت فَقَالَ دخلت ولم يحترمني وجلست فلم يكرمني ولم يدر من أَنَا واستشهد بقول الشاعر:
(ولَوْ كَانَ إِدْرَاكُ الهُدَى بِتَذَلُلٍ
رَأَيْتُ الهُدَى أَنْ لَا أَمِيْلَ إِلى الهُدَى)
…
>?
آخر:
…
كَالثَّوْرِ عَقْلاً وَمِثْلُ التَّيِسِ مَعْرِفَةً
…
... فَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الحَقِّ والفَنَدِ
الجَهْلُ شَخْصٌ يُنَادِي فَوْقَ هَامَتِهِ
…
لَا تَسْأَلِ الرَّبْعَ مَا فِي الرَّبْعَ مِنْ أَحَدِ
آخر:
…
وَمَنْ أمَنَ الآفَاتِ عُجْباً بِرَأْيِهِ
…
أَحَاطَتْ بِهِ الآفَاتُ مِنْ حَيْثُ يَجْهَلُ
آخر:
…
وَمَا رَفَعَ النَفْسَ الوَضِيْعَةَ كَالتُقَى
…
وَلَا وَضَعَ النَّفَسَ الرَّفِيعَةَ كَالكُفْرِ
ويظهر أيضاً أثر الكبر فِي مشيه وتبختره وقيامه وجلوسه وحركاته وسكناته وفِي تعاطيه لأفعاله، وفِي سائر تقلباته فِي أحواله وأقواله وأعماله.
وفِي كتاب الخمول والتواضع لابن أبي الدُّنْيَا عن أبي بكر الهذلي قال: بينما نَحْنُ مَعَ الحسن، إذ مر عَلَيْهِ ابن الأهتم يريد المنصور وعَلَيْهِ جباب خز، قَدْ نضد بعضها فوق بعض عَلَى ساقه، وانفرج عنهَا قباؤه وهو
يمشي ويتبختر، إذ نظر إليه الحسن نظرة فَقَالَ: أف أف، شامخ بأنفه ثاني عطفه، مصعر خده، ينظر فِي عطفِيه أي حميق ينظر فِي عطفِيه فِي نعم غَيْرَ مشكورة ولا مذكورة، غَيْرَ المأخوذ بأمر الله فيها، ولا المؤدي حق الله منها وَاللهِ أن يمشي أحدهم طبيعته يتلجلج تلجلج المجنون فِي كُل عضو منه نعمة وللشيطان بِهَا لعنة، فسمعه ابنُ الأهتم، فرجع يعتذر إليه، فَقَالَ: لا تعتذر إليَّ وتب إلي ربك، أما سمعت قول الله تعالى:{وَلَا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} .
ورأي ابن عمر رجلاً يخطر فِي مشيته فَقَالَ: إن للشياطين إخواناً.
وروي عن عَلَى بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال: من أراد أن ينظر إلي رجل من أَهْل النار فلينظر إلي رجل قاعد وبين يديه قوم قيام، وَقَالَ أنس: لم يكن شخص أحب إليهم من رسولِ الله ?، وكَانُوا إِذَا رأوه لم يقوموا لَهُ لما يعلمون من كراهته لذلك.
ومن آثار الكبر أن المتكبر يحرص جداً عَلَى أن يمشي معه غيره ويكون الماشي معه خلفه، وكَانَ عبد الرحمن بن عوف لا يعرف من بين عبيده إذ كَانَ لا يظهر فِي صورة ظاهرة، ومشي قوم خلف الحسن البصري فمنعهم، وكَانَ ? فِي بعض الأوقات يمشي مَعَ بعض أصحابه فيأمرهم بالتقدم ويمشي فِي غمارهم، إما لتعليم غيره أو لينفِي عن نَفْسه وساوس الشيطان بالكبر والإعجاب.
ومن آثار الكبر أن يستنكف من جلوس غيره معه بالقرب منه إلا أن يجلس بين يديه، والتواضع خلافه، ومنها أن لا يتعاطي شغلاً فِي بيته، وقَدْ كَانَ النَّبِيّ ? كما روت عَائِشَة – فِي مهنة أهله يعني خدمتهم، من آثار الكبر أن لا يحمل متاعه إلي بيته ولَوْ كَانَ لا يثقله، وَهُوَ خلاف التواضع، فقَدْ كَانَ ? يفعل ذَلِكَ، وَقَالَ عَلَى كرم الله وجهه: لا ينقص الرجل الكامل من
كماله من شَيْء إلا عياله، وكَانَ أبو عبيدة يحمل سطلاً لَهُ من خشب إلي الحمام وَهُوَ أمير.
وَقَالَ ثابت بن مالك: رَأَيْت أبا هريرة أقبل من السوق يحمل حزمة حطب وَهُوَ يومئذ خليفة لمروان، فَقَالَ أوسع الطَرِيق للأمير يا ابن مالك، وعن الأصبغ بن نباتة قال: كأني أنظر إلي عمر رضي الله عنه معلقاً لحماً فِي يده اليسري وفِي يده اليمني الدرة يدور فِي الأسواق حتي دخل رحله، وَقَالَ بَعْضهمْ رَأَيْت علياً رضي الله عنه قَدْ اشتري لحماً بدرهم فحمله فِي ملحفته، فقُلْتُ لَهُ أحمل عنكَ يا أمير الْمُؤْمِنِين، فَقَالَ لا، أبو العيال أحق أن يحمل.
وروي أن عمر بن عَبْد الْعَزِيز أتاه ليلة ضيف وكَانَ يكتب فكاد السراج يطفأ، فَقَالَ الضيف: أقوم إلي المصبح فأصلحه فَقَالَ: لَيْسَ من كرم الرجل أن يستخدم ضيفه، قال: أفأنبه الغلام؟ فَقَالَ: هِيَ أول نومة نامها. فقام فأخذ البطة فملأ المصباح زيتاً، فَقَالَ الضيف: قمت أَنْتَ بنفسك يا أمير المؤمنين! فَقَالَ: ذهبت وأنَا عمر ورجعت وأنَا عمر ما نقص مني شَيْء وخَيْر النَّاس من كَانَ عِنْدَ الله متواضعاً ومن آثار الكبر تطويل الشارب الضي يسمي شنبات كأنها ريش الجعل إِذَا ابتدأ بالطيران أو نزل قبل أن يدخله، قال الله تعالى:{أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} .
وكَذَلِكَ إمالة العقال إلي الجبهة أو إلي جانب الرأس.
ومن آثاره إسبال الثياب والتفاخر بها.
وحكي أن مطرف بن عَبْد اللهِ بن الشخِّيْر نظر إلي المهلب بن أبي صفرة وعَلَيْهِ حلة يسحبِهَا ويمشي الخيلاء، فَقَالَ مطرف: يا عَبْد اللهِ ما هذه المشية التي يبغضها الله ورسوله فَقَالَ المهلب: أما تعرفني وتنهاني مِمَّا رَأَيْت فَقَالَ: بل أعرفك أولك نطفة مذرة وآخرك جيفة قذرة وحشوك فيما بين ذَلِكَ بول وعذرة، قال بعضهم.
شِعْراً:
…
يَا مَنْ تَلَبَّسَ أَثْوَاباً يَتِيْهُ بِهَا
…
تِيْهَ المُلُوكِ عَلَى بَعْضِ المَسَاكِيْنِ
مَا غَيْرَ الجُلُّ أَخْلَاقَ الحَمِيْرِ وَلَا
…
نَقْشُ البَرَاذِعِ أَخْلَاقَ البَرَاذِيْنِ
آخر:
…
مَليءٌ بِبَهْرٍ وَالتِفَاتَ وَسَعْلَةِ
…
وَمَسْحَةِ عُثْنُوْنٍ وَفَتْلِ الاصَابِعِ
آخر:
…
أَيُهَا المُدَعِي الفِخَارَ دَعِ الفَخُـ
…
رِ لِذِيْ الكِبْرِيَاءِ وَالجَبَرُوْتُ
نَسْجُ دَاوُوْدُ لم يُفِدْ لَيْلَةَ الغَا
…
رِ وَكَانَ الفِخَارِ لِلْعنكَبُوتُ
وَبَقاءُ السَّمَنْدَلِ فِي لَهَبِ النَّا
…
رِ مُزِيْلٌ فَضِيْلَةَ اليَاقُوتُ
يَا مُظْهِرَ الكِبْرِ إِعْجَاباً بِصُورَتِهِ
…
????
…
انْظُرْ خَلَاكَ فَإِنَّ النَّتْنَ تَثْرِيْبُ
…
????
…
لَوْ فَكَّرَ النَّاسُ فِي مَا فِي بُطُونِهِمْ
…
????
…
مَا اسْتَشْعَرَ الكِبْرَ شُبَّانُ وَلَا شِيْبُ
…
????
…
هَلْ فِي ابْنِ آدَمَ مِثْلَ الرَّأْسِ مَكْرُمَةً
…
????
…
بِأَرْبَعٍ هُوَ فِي الاقْدَارِ مَضْرُوْبُ
…
????
…
أَنْفٌ يَسِيْلُ وَأُذْنٌ رِيْحُهَا سَهِكٌ
…
????
…
وَالعَيْنُ مُرْفَضَّةٌ وَالثَّغْرُ مَلْعُوْبُ
…
????
…
يَا ابْنَ التُّرَابِ وَمَأكُوْلَ التُرَابِ غَداً
…
????
…
اقْصُرْ فَإِنَّكَ مَأْكُوْلٌ وَمَشْرُوْبُ
…
>?
…
????ومن آثاره: جعل خاتم ذهب أو ساعة فيها ذهب. ومن آثار الكبر جعل الكبكات فِي أكمام الثياب، وَقَالَ زيد بن وهب: رَأَيْت عُمَر بن الْخَطَّاب رضي الله عنه خرج إلي السوق، وبيده الدرة، وعَلَيْهِ إزاره فِيه أربع عشرة رقعة بعضها من جلد وعوتب عَلَى كرم الله وجهه فِي إزار مرقوع، فَقَالَ: يقتدي به المُؤْمِن ويخشع لَهُ القلب. أين هؤلاء من أَهْل زماننا المظلم. ومن آثار الكبر: الأكل أو الشرب باليسار وَهُوَ خلاف السنة والعقل
والأدب. فإن اليسار لما يستكره كالاستجمار والاستنجَاءَ والتمخط وإخراج ما فِي الأنف. أو فِي الجروح من صديد وغسل الأوساخ والنجاسات، أو لما يحرم ويستقذر كالدخان والخمر، وإليمني عَلَى العكس للأكل والشراب والتسوك والتطيب، وتقديمها للسلام وللمناولة ونحو ذَلِكَ مِمَّا هُوَ لائق بها.
شِعْراً:
…
وَتَاهَ سَعِيْدٌ أَنْ أُفِي د وِلَايَةً
…
وَقُلِّدَ أَمْراً لم يَكُنْ مِنْ رِجَالِهِ
وَأَدْبَرَ عَنِّي عِنْدَ إِقْبَالِ حَظِهِ
…
وغَيْرَ حَالِيْ عِنْدَهُ حُسْنُ حَالِهِ
وَضَاقَ عَلَى حَقّي بِعُقْبِ اتَّسَاعِهِ
…
فَأَوْسَعْتُهُ عُذْراً لِضِيْقِ احْتِمَالِهِ
وقَدْ يصل الكبر ومثله العجب – بصاحبه إلي أن يورده موارد الكفر برب العالمين، كما حصل للمتكبرين عَلَى الله ورسله، فمن ذَلِكَ ما روي أن رجلاً كَانَ جالساً فِي طَرِيق فمرت به امرأة فقَالَتْ: يا عَبْد اللهِ كيف الطريق؟ فَقَالَ يا هناة أمثلي يكون من عبيد الله؟ وخطب رجل آخر فِي النَّاس، فَلَمَّا انتهي من خطبته قال لَهُ بعض الناس. أكثر الله من أمثالك فَقَالَ لهُمْ: لَقَدْ كلفتم الله شططا. أي أمراً بعيداً ومشقاً نعوذ بِاللهِ تعالى من حاله. وحالة أمثاله قللهم الله فِي المُسْلِمِيْنَ.
وآخر أضل راحلته فالتمسها فلم يجدها فَقَالَ: إن لم يرد الله إلي راحلتي لا صليت لَهُ صلاة أبداً، فالتمسها النَّاس فوجدوها، فَقَالُوا لَهُ: قَدْ رد الله عَلَيْكَ راحلتي فصل، فَقَالَ: إن يميني يمين مصر، كأنه يهدد الله، نعوذ بِاللهِ من ذَلِكَ وآخر دخل مسجد البصرة فبسط ناس لَهُ أرديتهم تعظيماً لَهُ، فمشي عَلَيْهَا وَقَالَ لرجل يماشيه:(لمثل هَذَا فليعمل العاملون) اقتباساً من آية الصافات، إلي هَذَا الحد يصل الكبر بأهله قال ابن القيم رحمه الله:
وَسَلِ العِيَاذَ مِنَ التَّكَبُرِ والهَوَى
فَهُمَا لِكُلِ الشَّرِ جَامِعَتَانِ
وَهُمَا يَصُدَانِ الفَتَى عن كُلِّ طُرْ
قِ الْخَيْر إِذْ فِي قَلْبِهِ يَلِجَانِ
فَتَراهُ يَمْنَعُهُ هَوَاهُ تَارَةً
والكِبْرُ أُخْرَى ثُمَّ يَجْتَمِعَانِ
…
>?
.. وَاللهِ مَا فِي النَّارِ إلا تَابِعٌ
هَذَيْنِ فَاسْألْ سَاكِنِي النِيْرَانِ
…
>?
آخر:
…
قَدْ يَطْفَحُ اللُّؤْمُ حَتَى إِنَّ صَاحِبِهِ
…
يَنْسَي الحَيَاةَ فَيَغْدُ يَدَعِي الكَرَمَا
إِنَّ الجَهَالَةَ إِنْ كانَتْ قَذَى بَصَرٍ
…
رَأى الضَلَالَ هُدَىً واسْتَسْمَنَ الوَرَمَا
كم مِنْ أَرَاذِلَ أَطْغَتْهَا سَفَهَاتُّهَا
…
حَتَى إدَّعَتْ وَهِيَ أَذْنَاباً لَهَا الشَمَمَا
إِنْ عُدَّتْ الوَحْشُ مَا عُدَّتْ وَلَا بَقَرٌ
…
أَوْ عُدَّتْ الطَيْرُ مَا عُدَّتْ وَلَا رَخَمَا
وَالنَّاسُ كَالنَّاسِ فِي خَلْقٍ وَبَيْنَهُمُوْا
…
فِي الخُلْقِ بُوْنٌ فَذَا أرْضٌ وَذَا سَمَا
ونصيب المتكبر من النَّاس أن يزدروه ويحتقروه ويمتهنوه ويمقتوه، ويعملوا خلاف ما يفهمون أنه يحبه مِنْهُمْ حتي يدعوه يغلي من معاملتهم غيظاً وحقداً، ولَوْ أمكن النَّاس أن يجعلوا المتكبر دائماً فِي غموم وهموم لما تأخروا عن ذَلِكَ، فالنَّاس لّهُمْ كرامة يفعلون بمن يكرهونه من أجل أنه يحتقرهم ويمتهن كرامتهم ويري نَفْسهُ فوقهم فهم يدركون أنه لئيم لا يتوضع إلا إِذَا أهنته ولا يعرف نَفْسهُ إلا إِذَا احتقرته وعاملته مثل معاملته وأنه ينطبق عَلَيْهِ قول الشاعر:
فِي النَّاس مَنْ لَا يُرْتَجَى نَفْعُهُ
…
إلا إِذَا مُسَّ بِأَضْرَارِ
كَالعُودِ لَا تَطْمَعُ فِي رِيْحِهِ
…
إلا إِذَا أُحْرِقَ بِالنَّارِ
آخر:
…
يَا مَنْ تَبَرَّمَتِ الدُّنْيَا بِطَلْعَتِهِ
…
كَمَا تَبَرَّمَتِ الأجْفَانُ بِالسُّهُدِ
يَمْشِي عَلَى الأرض مُخْتَإلا فَأحْسِبُهُ
…
لِثِقْلِ طَلْعَتِهِ يَمْشِي عَلَى كَبِدِي
آخر:
…
لَا تَلْطَفَنَّ بِدِي لُؤْمٍ فَتُطْغِيَهُ
…
أَغْلَظْهُ يَأْتِيَكَ مِطْوَاعاً وَمِذْعَانَا
إِنَّ الحَدِيْدَ تُليْنُ النَّارُ قَسْوَتَهُ
…
ولَوْ صَبَبَتْ َعَلَيْهِ البَحْرَ مَا لَانَا
آخر:
…
الكَلْبُ إِنْ جَاعَ لم يُعْدِمْكَ بَصْبَصَةً
…
وَإِنْ يَنَلْ شِبْعَةٍ يَنْبَحْ عَلَى الاثَرِ
آخر:
…
أَهِنْ عَامِراً تَكْرُمْ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا
…
أَخُوْ عَامِرٍ مَنْ مَسَّهُ بِهَوَانِ
آخر:
…
إِنَّ ذَا اللُّؤْمِ إِذَا أَكْرَمْتَهُ
…
حَسِبَ الاكْرَامَ حَقاً لِزمَكْ
فَأَهِنْهُ إِنَّهُ مِنْ لُؤْمِهِ
…
إِنْ تَسُمْهُ بِهَوَانٍ أَكْرَمَكْ
آخر:
…
اثْنِانِ بُغْضُهُمْ غَالِباً عِنْدَ الكَثِيْرِ
…
مُتَكَبِرُ فِي نَفْسِهِ وَبَخْيِلُ
وأما نصيب المتكبر من الله فكما سمعت من الآيات الكريمة، والأحاديث الشريفة التي إِذَا سمعها المتواضع الموفق فتش عَلَى نَفْسهُ خشية أن يكون قَدْ دخل عَلَيْهِ الكبر وَهُوَ غَافِل عنه.
عَجِبْتُ لِمَا تَتَوْقُ النَّفْسُ جَهْلاً
…
إِلَيْهِ وَقَدْ تَصَرَّمَ لاِنْبِتَاتِ
وَعِصْيَانِي العَذُوْلَ وَقَدْ دَعَانِي
إِلى رُشْدِي وَمَا فِيه نَجَاتِي
أُؤَمِّلُ أَنْ أَعِيْشَ وَكُلُّ يَوْمٍ
بِسَمْعِيْ رَنَّةٌ مِنْ مُعْوِلَاتِي
وَأَيْدِي الحَافِريْنَ تَكِلُّ مِمَّا
تُسَوِّيْ مِنْ مَسَاكِنَ مُوْحِشَاتِ
نُرَاعُ إِذَا الجَنَائِزُ قَابَلَتْنَا
وَنَسْكُنُ حِيْنَ تَخْفَى ذَاهِبَاتِ
كَرَوْعَةِ ثُلَّةٍ لِظُهُورِ ذِئْبٍ
فَلَمَّا غَابَ عَادَتْ رَاتِعَاتِ
فَإِنْ أَمَّلْتَ أَنْ تَبْقَى فَسَائِلْ
بِمَا أَفْنَى القُرُوْنَ الخَالِيَاتِ
فكم مِنْ ذِي مَصَانِعَ قَدْ بَنَاهَا
وَشَيَّدَهَا قَلِيْلُ الخَوْفِ عَاتِي
قَلِيلُ الهَمِّ ذِيْ بَالٍ رَخِيٍ
أَصَّمَ عن النَّصَائِحِ والعِظَاتِ
…
>?
.. فَبَاتَ وَمَا يُرَوَّعُ مِنْ زَوَالٍ
صَحِيْحَاً ثُمَّ أَصْبَحَ ذَا شِكَاتِ
فَبَاكَرهُ الطَّبِيْبُ فَرِيْعَ لَمَّا
رَآهُ لَا يُجِيْبُ إَلى الدُّعَاةِ
فَلَوْ أَنَّ المُفَرِّطَ وَهُوَ حَيٌ
تَوْخَّى البَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ
لَفَازَ بِغِبْطَةٍ وَأَصَابَ حَظَاً
وَلم يَغْشَ الامُوْرَ المُوْبِقَاتِ
فَيَالَكِ عِنَدَهَا عِظَةً لِحَيٍ
وَيَا لَكِ مِنْ قُلُوبٍ قَاسِيَاتِ
وَكُلُ أَخِي ثَرَاءٍ سَوْفَ يُمْسِي
عَدِيمَاً والجَمِيْعُ إِلى شَتَاتِ
كَأَنْ لم يُلْفَ شَيْءٌ مَا تَقَضَّى
وَلَيْسَ بِفَائِتٍ مَا سَوْفَ يَأْتِي
…
>?
اللَّهُمَّ إنَا نعوذ بك من سوء الِقَضَاءِ وشماتة الأعداء، وعضال الداء، وخيبة الرجَاءَ وزَوَال النعمة وفجأة النقمة، ونسألك أن تغفر لنا ولوالدينا، وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ، بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.
فَصْلٌ وللكبرعلاج قَدْ ذكره العلماء: أولاً أن يعرف الإنسان ربه ويعرف نَفْسهُ، فإنه إِذَا عرف ربه حق المعرفة علم أنه لا تليق العظمة والكبرياء إلا بِاللهِ، وإِذَا عرف نَفْسهُ علم أنه ضعيف ذليل لا يليق به إلا الخضوع لله والتواضع والذلة، قال الله تعالى:{قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ} .
وَقَالَ تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً} ففِي الآيات الإشارة إلي خلق الإنسان وإلي آخر أمره وإلي وسطه، أما أوله فهو أنه لم يكن شيئاً مذكوراً وقَدْ كَانَ فِي حيز العدم دهوراً، ثُمَّ خلقه العزيز الحكيم من تراب ثُمَّ من نطفة ثُمَّ من علقة ثُمَّ من مضغة ثُمَّ جعله عظاماً ثُمَّ كسا العظام لحماً، فقَدْ كَانَ هَذَا بداية وجوده أولاً جماداً لا يسمَعَ ولا يبصر ولا يحس ولا يتحرك ولا ينطق ولا يبطش ولا يدرك ولا يعلم، كَذَا خلقه الله.
ثُمَّ امتن عَلَيْهِ فَقَالَ: {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} أي بينه وأوضحه وسهله، كما فِي قوله تعالى:{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} فالله جَلَّ وَعَلا هُوَ الَّذِي أحيا الإنسان بعد أن كَانَ جماداً ميتاً، تراباً أولاً ونطفة ثانياً، وأسمعه بعد أن كَانَ أصم وبصره بعد ما كَانَ فاقَدْ البصر، وقواه بعد الضعف، وعلمه بعد الجهل، كما قال تعالى:{وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .
فمن كَانَ هَذَا أوله، وهذه أحواله، فمن أين لَهُ البطر والأشر والكبرياء والخيلاء؟ وَهُوَ الضعيف الحقير بِالنِّسْبَةِ إلي قدرة البارئ جَلَّ وَعَلا كما قال تعالى:{أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاء مَّهِينٍ} وَقَالَ: {خلقناهم مِمَّا يعلمون} وَقَالَ: {فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ، خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ} فليتأمل العاقل هل يليق الكبر بمن هَذَا أوله، وآخره أنه يسلب روحه وسمعه وبصره وعلمه وقدرته وحسه وإدراكه وحركته وجماله وَجَمِيع أحواله، فيعود كما كَانَ أولاً جماداً، لا يبقي إلا شكل أعضائه وصورته فِيه ولا حركة، ثُمَّ يوضع فِيه ذَا التُّرَاب فيصير جيفة منتناً، كما كَانَ فِي الأول نطفة مذرة، تبلي أعضاؤه وتتفتت أجزاؤه، وتنخر عظامه ويصير رميماً وفاتاً ويأكل الدود أجزاءه،
ويكون جيفةً يهرب منه كُلّ حيوان ويستقذره الإنسان، وأحسن أحواله أن يعود تراباً كما كَانَ، ثُمَّ يحييه الَّذِي خلقه أول مرة فيقاسي البَلاء والشدائد وأهوال المعجزات، فيخرج من قبره كما أخبر تعالى بقوله:{يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} فينظر إلي قيامة قائمة، وسماء منفرجة مشققة، وأرض مبدلة، وجبال مسيرة، ونجوم منكدرة، وشمس منكسفة، وأحوال مظلمة وملائكة غلاظ شداد، وجهنم تزفر قال تعالى:{وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} ينظر إليها المجرم فيتحسر، ويري صحائف منشورة، فَيُقَالُ:{اقْرَأْ كَتَابَكَ} فِيه جَمِيع عمله من أوله إلي آخره {يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} قال تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} ، وَقَالَ:{وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} .
فما لمن هَذَا حاله ومآلهُ والتكبر والتعاظم والتجبر، بل مآله وللفرح فِي لحظة واحدة، فضلاً عن الأشر والبطر، قال ?:" لَوْ تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ولما تلذذتم بالنساء عَلَى الفرش ". فهَذَا من أحسن الطرق لتذليل النفس وحملها عَلَى الخضوع التواضع لله الَّذِي لَهُ الكبرياء فِي السماوات والأرض وَهُوَ العزيز الحكيم.
وأما العلاج الثاني فهو: التواضع لله بالْفِعْل ولسائر الخلق بالمواظبة عَلَى أَخْلاق المتواضعين المتبعين لطريقة سيد المرسلين ومن جملتها ما فيها من التواضع بالمثول قائماً وبالركوع والسجود " إنما أَنَا عبد آكل كما يأكل العبد" وقَدْ ذكرنا نموذجاً من تواضعه ? فِي فضل التواضع من أحب الزيادة فيرجع إليه قال بعض من رضي بالكفاف وقنعه
الله بما آتاه ومن عَلَيْهِ بالتواضع.
…
أَيَا لَائِمِي مَالِي سِوَى البَيْتِ مَوْضِعٌ
أَرَى فِيه عِزاً إِنَّهُ لِي أَنْفَعُ
فِرِاشِي وَنَطْعِي فَرْوَتِي فَرَجِيْتِي
لِحَافِي وَأَكْلِيْ مَا يَسُدُ وَيُشْبِعُ
وَمَرْكُوْبِيَ الآنَ الأتَانُ وَنَجْلُهَا
لأَخَلَاقِ أَهْلِ الدِّيْنِ وَالعِلْمِ أَتْبَعُ
وَقَدْ يَسَرَ اللهُ الكَرِيْمُ بِفَضْلِهِ
غِنَى النَّفْسِ مَعَ شَيْءٍ بِهِ أَتَقَنَّعُ
أوْفِرُهُ لِلأَهْلِ خَوْفاً يَرَاهُمْ
عَدُوٌ بِعَيْشٍ ضَيِّقٌ فَيُشَنَّعُ
وَأصْبِرُ فِي نَفْسِي عَلَى مَا يَنُوْبُنِي
وَأَطْلُبُ عَفْوَ اللهِ فَالعَفْوُ أَوْسَعُ
وَمَا دُمْتُ أَرْضَى بِاليَسِيْرِ فَإِنَّنِي
غَنِيٌ لِغَيْرِ اللهِ مَا كُنْتُ أَخْضَعُ
وَرَبِّيَ قَدْ آتَانِي الصَّبْرَ وَالغِنَى
عن النَّاسِ فِي هَذَا لِيَ العِزُ أَجْمَعُ
وَقَدْ مَرَّ مِنْ عُمْرِي ثَلَاثٌ أَعُدُّهَا
وَسِتُونَ فِي رَوْضٍ مِنَ اللُّطْفِ أَرْتَعُ
وَوَجْهِيَ مِنْ ذُلِّ التَّبَذُلِ مُقْفِرٌ
مُقِلٌ وَمِنْ عِزِّ القَنَاعَةِ مُوْسَعُ
…
>?
.. وَمِنْ حُسْنِ ظَنِّي أَنَّ ذَا يَسْتَمِرُ لِي
…
إِلى المَوْتِ إِنَّ اللهَ يُعْطِي وَيَمْنَعُ
وَإِنَّيَ لَا أَلْجَأُ إِلى غَيْرِ بَابِهِ
…
فَأَبْقَى كَمَا قَدْ قِيْلَ وَالقَوْلُ يُسْمَعُ
نُوقِّعُ دُنْيَانَا بِتَمْزِيْقِ دِيْنِنَا
…
فَلَا دِيْنُنَا يَبْقَى وَلَا مَا نُرَقِعُ
فَطُوْبَى لِعَبْدٍ آثَرَ اللهَ رَبَّهُ
…
وَجَادَ بِدُنْيَاهُ لِمَا يُتَوْقَّعُ
اللَّهُمَّ انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، ووفقنا للعمل بما فهمتنا، اللَّهُمَّ إن كنا مقصرين فِي حفظ حقك، والوفاء بعهدك، فأَنْتَ تعلم صدقنا فِي رجَاءَ رفدك، وخالص ودك، اللَّهُمَّ أَنْتَ أعلم بنا منا، فبكمال جودك تجاوز عنا، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ، الأحياء مِنْهُمْ والميتين، بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.
فصل: ولا يتم التواضع بعد المعرفة إلا بالْعَمَل، ولذَلِكَ أمر الْعَرَب الَّذِينَ تكبروا عَلَى الله ورسوله بالإيمان وبالصَّلاة جميعاً، وقيل الصَّلاة عماد الدين، وفِي الصَّلاة أسرار لأجلها كانت عماد الدين، ومن جملتها ما فيها من التواضع بالمثول قائماً وبالركوع والسجود، قال حكيم بن حزام: بايعت النَّبِيّ ? عَلَى أن لا آخر قائماً، فبايعه ? ثُمَّ فقه وكمل إيمانه بعد ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ السجود عندهم هُوَ منتهي الذلة والضعة أمروا به لتنكسر بذَلِكَ خيلاؤهم، ويزول كبرهم، ويستقر التواضع فِي قُلُوبهمْ، وبه أمر سائر الخلق، فإن الركوع والسجود والمثول قائما هُوَ الَّذِي يقتضيه التواضع فكَذَلِكَ من عرف نَفْسهُ، فينظر كُلّ ما يتقاضاه الكبر من الأفعال فليواظب عَلَى نقيضه، حتي يصير التواضع لَهُ خلقاً، فإن القُلُوب لا تتخلق بالأخلاق المحمودة إلا بالعلم والعمل.
شِعْراً:
…
إِذَا المَرْءُ لم يَحْفَظْ ثَلَاثاً فَخَلّهِ
…
وَرَى الظَّهْرِ وَاصْحَبْ طَالِباً لِلسَّلَامَةِ
فَأْوَّلُهَا الإخْلَاصُ للهِ وَحْدَهُ
…
وَثَانِيْهَا تَابِعْ مَنْ أَتَى بِالرِّسَالَةِ
وَثَالِثُهَا جَنِّبْ هُدِيْتَ تَكَبُراً
…
لِتَسْلَمَ مِنْ نَّارِ الجَحِيْمِ العَظِيْمَةِ
ومن كَانَ يعتريه الكبر من جهة النسب، فليداو قَلْبهُ بأمرين أولاً: أن هَذَا جهل من حيث أنه تقوي وتعزز بكمال غيره وإنما يحصل لَهُ بكماله.
قال الشاعر:
لَعَمْرُكَ مَا الإنسان إلا ابْنُ يَوْمِهِ
…
عَلَى مَا تَجَلَّى يَوْمَهُ لَا ابْنُ أَمْسِهِ
وَمَا الفَخْرُ بِالعَظْمِ الرَّمِيْمِ وَإِنَّمَا
…
فِخَارُ الَّذِي يَبْغِي الفِخَارَ بِنَفْسِهِ
وَقَالَ آخر فيمن افتخر بآبائه ذوي الشرف مَعَ رداءته فِي نَفْسهُ:
لَئِنْ فَخَرْتَ بِآبَاءٍ ذَوِي شَرَفٍ
…
لَقَدْ صَدَقْتَ وَلَكِنْ بِئْسَ مَا وَلَدُوْا
آخر:
…
وَإِذَا افْتَخَرْتَ بِأَعْظَمٍ مَقْبُورَةٍ
…
فَالنَّاسُ بَيْنَ مُكَذِبٍ وَمُصَدِقِ
فَاقِمْ لِنَفْسِكَ بِانْتِسَابِكَ شَاهِداً
…
بِحَدِيْثِ مَجْدٍ لِلْقَدِيْمِ مُحَقِّقِ
آخر:
…
إِذَا المَرْءُ لم تَسْتَأنِفْ المَجْدَ نَفْسُهُ
…
فَلَا خَيْرَ فِي مَا أَوْرَثَتْهُ جُدُوْدُهُ
آخر:
…
وَمَا يُجْدِي افْتِخَارُكَ بِالاوَالِي
…
إِذَا لم تَفْتَخِرْ فَخْراً جَدِيْداً
الثاني أن يعرف نسبه الحقيقي، فيعرف أباه وجده فإن أباه القريب نطفة قذرة، وجده الْبَعِيد تراب ذليل، وقَدْ عرفه الله تعالى نسبه فَقَالَ جل علا:(الَّذِي أحسن كُلّ شَيْء وبدأ خلق الإنسان من طين، ثُمَّ جعل نسله منن سلالة من ماء مهين) فمن أصله التُّرَاب المهين الَّذِي يداس بالأقدام ثُمَّ خمر طينه حتي صار حمأً مسنوناً كيف يتكبر؟
شِعْراً:
…
عَجِبْتُ مِنُ مُعْجَبٍ بِصُوْرَتِهِ
…
وَكَانَ بِالأمْسِ نُطْفَةٌ مَذِرَةْ
وَفِي غَدٍ بَعْدَ حُسْنِ طَلَعَتِهِ
…
يَصْيِرُ فِي اللَّحْدِ جِيْفَةً قَذِرَةْ
وَهُوَ عَلَى تِيْهِهِ وَنَخْوَتِهِ
…
مَا بَيْنَ جَنْيْهِ يَحْمِلُ العَذِرَهْ
آخر:
…
إِذَا كَبُرَتْ نَفْسُ الفَتَى قَلَّ عَقْلُهُ
…
وَأَمْسَى وَأْضْحَى سَاخِطاً مُتَعَتِّبَا
وَإِنْ جَاءَ يَسْتَقْضِي مِنَ النَّاسِ حَاجَةٌ
…
يَرَى أَنَّهَا حَقٌ عَلَيْهمْ مُرَتَّبَا
وَإِنْ طَالَبُوهُ أَوْ أَبَوْهُ بِحَقْهِمْ
…
لَوَى وَجْهَهُ غَيْظَاً عَلَيْهِمْ وَقَطَّبَا
يَرَى أَنَّ كُلَّ النَّاسِ قَدْ خُلِقُوا لَهُ
…
عَبِيْداً وَفِي كُلِّ القُلُوبِ مُحَبَّبَا
فَلَا يَرْتَضِي إِنْ لم يَكُنْ تَحْتَ أَمْرِهِ
…
مِنَ الكَوْنِ يَجْرِي مَا أَرَادَ وَمَا أَبَى
وَاللهُ أَعْلم وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم.
(فَصْلٌ)
وإن كَانَ التكبر بالجمال فدواؤه أن ينظر إلي باطنه نظر العقلاء، ولا ينظر إلي الظاهر نظر البهائم، ومهما نظر إلي باطنه رأي من القبائح ما يكدر عَلَيْهِ تعززه بالجمال، فإن الأقذار فِي جَمِيع أجزائه، فالرجيع فِي أمعائه، والبول فِي مثانته والمخاط فِي أنفه، والبزاق فِي فمه، والوسخ فِي أذنيه، والدم فِي عروقه، والصديد تحت بشرته والصنان تحت إبطه، يغسل الغائط بيده كُلّ يوم مرتين أو ثلاثاً ليخرج من باطنه ما لَوْ عاينه لاستقذره، فضلاً عن أن يمسه أو يشمه، فهل يليق بمن هذه حآله الكبر والتعاظم. كلا ما يليق به إلا التواضع للذي أوجده.
وفِي أول أمره خلق من النطفة وفِي بطن أمه يتغذي بدم الحيض، وأخرج من مجري البول مرتين، قال طاووس لعمر بن عَبْد الْعَزِيز – قبل توليه الخلافة وزهده فِي الدُّنْيَا –: ما هذه مشية من فِي بطنه خراء، إذ رآه يتبخر، فإِذَا نظر إلي أنه خلق من ماء مهين، وأسكن فِي أقذار، وسيموت فيصير جيفة لم يفتخر بجمآله الَّذِي هُوَ كخضراء الدمن، كيف ولَوْ كَانَ جمآله باقياً، وجسمه عن هذه الأشْيَاءِ خَالِيًا، لكَانَ يجب عَلَيْهِ أن لا يتكبر، ويعلم أن هَذَا عرضة للزَوَال بمرض أو حرق أو قرحة أو برص أو تشويه، فمعرفة هَذَا تماماً تنزع بإذن الله من الْقَلْب داء الكبر والعجب لمن أكثر تأملها.
شِعْراً:
…
لَيْسَ الكَرِيْمُ الَّذِي إِنْ نَالَ مَكْرُمَةً
…
أَوْ نَالَ مَالاً عَلَى إِخْوَانِهِ تَاهَا
الحُرُيَرْ دَادُ لِلإِخْوَانِ مَرْحَمَةً
…
إِنْ نَالَ فَضْلاً مِنَ الرَحْمَنِ أوجَاهَا
وإن كَانَ التكبر بالقوة فالعلاج أن يعلم أن القوة لله جميعاً ويعلم ما سلط عَلَيْهِ من العلل والأمراض، وأنه لَوْ أصابه عود يسير ودخل فِي لحمه لأقلق راحته، وأقض مضجعه ولَوْ وجع أصبع أو عرق من عروق بدنه لتألم وصار أعجز من كُلّ عاجز، وأذل من كُلّ ذليل، وأن البعوضة والجرثومة الدقيقة إِذَا سلطت عَلَيْهِ أهلكته وإن حمي ساعة تحلل من بدنه ما لا ينجبر بالمدة الكثيرة، قال الشاعر:
وَلَا تَمْشِيْ فَوْقَ الأرض إلا تَوَاضُعاً
فَكم تَحْتَهَا قَوْمٌ هُمُو مِنْكَ أَرْفَعُ
وَإِنْ كُنْتَ فِي عِزٍّ رَفِيع وَمِنْعَةٍ
فَكم مَاتَ مِنْ قَوْمٍ هُمُوا مِنْكَ أَمْنَعُ
…
>?
فمن كَانَ هذه حاله فلا يليق به الكبر، ثُمَّ من البهائم ما هُوَ أقوي بكثير منه، وأي افتخار وتعاظم فِي صفة يسبقه فيها الحمار. والبغل والثور والفيل.
وإن كَانَ التكبر بالْمَال فبأن يعرف ويعلم أنه عرض زائل، وفِي معناه التكبر بكثرة الأتباع والأنصار، ويُقَالُ لها كثرة الشعبية، وكَذَلِكَ التكبر بولاية السلاطين والأمراء، وكل ذَلِكَ تكبر بأمر خارجي أي خارج عن ذات الإنسان وهَذَا أقبح أنواع الكبر، فإن المتكبر بماله أو عقاره لَوْ ذهب ماله أو انهدم عقاره أو تلف لعاد فِي لحظة ذليلاً من أذل الخلق وكل متكبر بأمر خارج عن ذاته من أجهل الخلق، كيف والمتكبر بالْمَال لَوْ تأمل لرأي فِي إليهود والنصاري وغيرهم من الكفرة من يزيد عَلَيْهِ فِي الْمَال والتجمل والثروة، فأف لشرف يسبقك به يهودي ونحوه، ويأخذه سارق أو نحوه فِي لحظة،
فيعود صاحبه ذليلاً حقيراً مفلساً.
وإن كَانَ الكبر بالعلم - وَهُوَ أعظم الآفات، وأغلب الأدواء وأبعدها عن قبول العلاج إلا بشدة شديدة، ولذَلِكَ قال عمر رضي الله عنه: العَالم إِذَا زل بزلته عَالم فيعجز العَالم أن لا يستعظم نَفْسهُ بالإضافة إلي الجاهل، لكثرة ما نطق به الشرع من فضائل العلم وأهله – فَلابُدَّ للعَالم من معرفة أمرين: أحدهما أن يعلم أن حجة الله عَلَى أَهْل العلم آكد، وأنه يحتمل من الجاهل ما لا يحتمل من العَالم، قال الله تعالى:{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} فإن من عصي الله عَلَى علم ومعرفة أعظم جناية ممن عصي الله عَلَى جهل، لأن العَالم لم يقض حق نعمة الله عَلَيْهِ ولذَلِكَ قال النَّبِيّ ?:" يجَاءَ بالرجل يوم القيامة فيلقي فِي النار فتندلق أقتابه فيدور بِهَا كما يدور الحمار فِي الرحي فيجتمَعَ إليه أَهْل النار، فيقولون: يا فلان ما لك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهي عن الْمُنْكَر فَيَقُولُ بلي كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهي عن الْمُنْكَر وآتيه" رواه البخاري ومسلم. فإِذَا تفكر فيما أمامه من الخطر العَظِيم وعلم ما كَانَ عَلَيْهِ السَّلَف الصالح الصحابة فمن بعدهم من التواضع والخوف مِمَّا أمامهم من الأهوال والكربات والشدائد، امتنع بإذن الله من الكبر، فقَدْ كَانَ بعض الصحابة يَقُولُ: ليتني لم تلدني أمي، وَيَقُولُ الآخر ليتني شجرة تعضد ويأخذ الاخر تبنة وَيَقُولُ: يا ليتني كنت هذه التبنة، وَيَقُولُ الآخر: ليتني كنت طيراً أوكل، وَيَقُولُ الآخر: ليتني لم أكن شيئاً مذكوراً.
شِعْراً:
…
لَا يُدْرِكُ العَلْيَا عَلَى التَّحْقِيْقِ
…
إلا مَنِ اسْتَقَامَ فِي الطَّرِيْقِ
وَجَنَّبَ الِّتلْفَازِ وَالمِذْيَاعَ
…
وَكُورَةً وَسَائِرَ المَلَاهِي
شِعْراً:
وَأَحْسَنُ أَخْلَاقِ الفَتَى وَأَجَلُّهَا
…
تَوَاضُعُهُ لِلنَّاسِ وَهُوَ رَفِيعُ
وَأْقْبَحُ شَيْءٍ أَنْ يَرَى المَرْءُ نَفْسَهُ
…
رَفِي عاً وَعِنْدَ العَالَمِيْنَ وَضِيْعُ
الثاني: أن العَالم يعرف أن الكبر لا يليق إلا بِاللهِ عز وجل الَّذِي (إلَيْسَ كمثله شَيْء وَهُوَ السميع البصير) وأنه إِذَا تكبر صار ممقوتاً عِنْدَ الله بغيضاً، وقَدْ أحب الله منه أن يتواضع، وأن يفكر فِي خطر الخاتمة، فكم من إنسان مزدري محتقر لكفره أو فسقه فتح الله عَلَيْهِ باب التوبة والإنابة، فأقبل عَلَى الله فسعد بذَلِكَ وشهد لَهُ بالْجَنَّة كعمر رضي الله عنه، وبالعكس فكم من إنسان عمل بعمل أَهْل الْجَنَّة زمناً طويلاً وفِي آخر الأمر عمل بعمل أَهْل النار فيدخلها كثعلبة وبلعام ونحوهما ممن ارتد عن الإسلام وفِي حديث ابن مسعود قوله ?:"إن أحدكم ليعمل بعمل أَهْل الْجَنَّة حتي ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عَلَيْهِ اْلكِتَاب فيعمل بعمل أَهْل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أَهْل النار حتي ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عَلَيْهِ اْلكِتَاب فيعمل بعمل أَهْل الْجَنَّة فيدخلها" متفق عليه.
فمهما بلغ المرء من العلم والتقي والورع والزهد فهو فِي خطر من سوء الخاتمة التي عَلَيْهَا المدار، فبملاحظتها يتلاشي الكبر بإذن الله.
ومن أضر ما عَلَى كثير من عِلماء هَذَا الزمان الشهادات الحالية التي يسمونها دكتوراه وماجستير وعالمية وبكالوريوس ونحو ذَلِكَ لأن من حصل عَلَيْهَا رآي من لم يحصل عَلَيْهَا بعين الاحتقار والامتهان والازدراء ومَعَ ذَلِكَ فهي عِنْدَ بَعْضهمْ مضعفة للتوكل عَلَى الله من قبل الرزق يؤيد ذَلِكَ ما يجري عَلَى ألسنة كثير مِنْهُمْ بقولهم لمن لم يحصل عَلَيْهَا أمن حياتك أحصل عَلَى شهادة. ونسوا قول الله تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَاّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا} وقوله {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} وقوله {وَعَلَى اللهِ
فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} . وكثير من أولئك أهملوا التوكل عَلَى الله وتوكلوا عَلَى الشهادة المذكورة.
شِعْراً:
…
سَعَى رِجَالٌ لِنَيْلِ الرِزْقِ واجْتَهَدُوْا
…
لَابُدَّ مِنْ سَبَبٍ للّرِزْقِ فِي الطْلَبِ
حُسْنُ الدُّعَاءِ مَفَاتِيْحُ الغِنَى وَعَلَى
…
رَبِّ العِبَادِ إِجَابَاتُ المَطَالِيْبِ
أَتَطْلُبُ رِزْقَ اللهِ مِنْ عِنْدَ غَيْرِهِ
وَتُصْبِحُ منْ خَوْفِ العَوَاقِبِ آمِنَا
وَتَرْضَى بِصَرَّافٍ وَإِنْ كَانَ مُشّرِكاً
ضَمِيْناً وَلَا تَرْضَى بِرَبِكَ ضَامِنَا
كَأَنَّكَ لم تقَرَأَ بِمَا فِي كِتَابِهِ
فَأَصْبِحْتَ مَنْحُولَ اليَقِيْنِ مُبَايِنَا
…
>?
يشير إلي قول الله تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَاّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا} وقوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ} .
ومن أمعن نظره فِي النَّاس وسبرهم وَجَدَ ذَلِكَ بكثرة، ووَجَدَ عندهم من الطغيان والأبهة والكبر الشَيْء الكثير، يظهر ذَلِكَ عَلَى ألسنتهم وهيئاتهم نسأل الله العصمة لنا ولإخواننا المُسْلِمِيْنَ.
…
بَاتُوا عَلَى قُلَلِ الاجْبَالِ تَحْرِسُهُمْ
غُلْبُ الرِّجَالِ فَلم تَنْفَعْهُمْ القُلَلُ
واسْتُنْزِلُوا بَعْدَ عِزٍ عن مَعَاقِلِهِمْ
إِلى مَقَابِرِهِمْ يَا بِئْسَ مَا نَزَلُوْا
نَادَاهُمْ صَارِخٌ مِنْ بَعْدَمَا دُفِنُوا
أَيْنَ الاسِرَّةُ وَالتِيْجَانُ وَالحُلَلُ
أَيْنَ الوُجُوهُ الَّتِي كاَنَتْ مُحَجَّبَةً
مِنْ دُوْنِهَا تُضْرَبُ الاسْتَارُ وَالكِلَلُ
…
>?
.. فَأَفْصَحَ القَبْرُ عنهُمْ حِيْنَ سَاءَلَهُمْ
تِلْكَ الوُجُوهُ عَلَيْهَا الدُوْدُ يَقْتَتِلُ
قَدْ طَالَمَا أَكَلُوا فِيهٍا وَمَا شَرِبُوا
فَأَصْبَحُوا بَعْدَ طُوْلِ الأكْلِ قَدْ أُكِلُوْا
وَطَالَمَا كَنَزُوا الأموال وادَّخَرُوا
فَخَلَّفُوهَا عَلَى الأعْدْاءِ وَارْتَحَلُوْا
وَطَالَمَا شَيَّدُوا دُوْراً لِتُحْصِنَهُمْ
فَفَارَقُوا الدُوْرَ والأهْلِيْنَ وانْتَقَلُوْا
أَضْحَتْ مَسَاكِنُهُمْ وَحْشاً مُعَطَّلَةً
وَسَاكِنُوهَا إِلى الأجْدَاثِ قَدْ رَحَلُوا
سَلِ الْخَلِيفَةَ إِذْ وَافَتْ مَنِيَّتُهُ
أَيْنَ الجُنُوْدُ وَأَيْنَ الخَيْلُ وَالخَوَلُ
أَيْنَ الكُنُوزَ الَّتِي كَانَتْ مَفَاتِحُهَا
تَنُوْءُ بِالعُصْبَةِ المُقْوِيْنَ لَوْ حَمَلُوْا
أَيْنَ العَبِيْدُ الَّتِي أَرْصَدْتَهُمْ عُدَداً
أَيْنَ الحَدِيْدُ وَأَيْنَ البِيْضُ وَالأسَلُ
أَيْنَ الفَوَارِسُ وَالغِلْمَانُ مَا صَنَعُوا
أَيْنَ الصَوَارِمُ وَالخِطِّيَةُ الذُبُلُ
أَيْنَ الكُمَاةُ أَلم يَكْفُوا خَلِيْفَتَهُمْ
لَمَّا رَأْوْهُ صَرِيْعاً وَهُوَ يَبْتَهِلُ
.. أَيْنَ الكَمَاةُ الَّتِي مَاجُوا لِمَا غَضِبُوا
أَيْنَ الحُمَاةُ الَّتِي تُحْمَى بِهَا الدُوَلُ
أَيْنَ الرُمَاةُ أَلم تَمْنَعْ بِأّسْهُمِهِمْ
لَمَّا أَتَتْكَ سِهَامُ المَوْتِ تَنْتَصِلُ
هَيْهَاتَ مَا كَشَفُوا ضَيْماً وَلَا دَفَعُوْا
عنكَ المَنِيَّةَ إِذْ وَافَى بِكَ الأجَلُ
وَلَا الرُّشَى دَفَعَتْهَا عنكَ لَوْ بَذَلُوْا
وَلَا الرُّقَى نَفَعَتْ فِيها وَلَا الحِيَلُ
مَا سَاعَدُوّكَ وَلَا وَاسَاكَ أَقْرَبُهُمْ
بَلْ سَلَّمُوكَ لَهَا يَا قُبْحَ مَا فَعَلُوْا
مَا بَالُ قَبْرِكَ لَا يَأْتِي بِهِ أَحَدٌ
وَلَا يَدُوْرُ بِهِ مِنْ بَيْنِهِمْ رَجُلُ
مَا بَالُ ذِكْرِكَ مَنْسِياً وَمُطْرَحاً
وَكُلُهُمُ بِاقْتِسَامِ الْمَالِ قَدْ شُغِلُوْا
مَا بَالُ قَصْرِكَ وَحْشاً لَا أَنِيْسَ بِهِ
يَغْشَاكَ مِنْ كَنَفَيِهِ الرَوْعُ والوَهَلُ
لَا تُنْكِرَنَّ فَمَا دَامَتْ عَلَى مَلِكٍ
إلا أَنَاخَ عَلَيْهِ المَوْتِ والوَجَلُ
وَكَيْفَ يَرّجُو دَوَامَ العَيْشِ مُتَّصِلاً
وَرُوْحُهُ بِجِبَالِ المَوْتِ مُتَّصِلُ
وجِسْمُهُ لِبُنَيَّاتِ الرَّدَى غَرَضٌ
.. وَمَالُهُ زَائِلٌ عنهُ ومُنْتَقِلُ
…
>?
اللَّهُمَّ امنن عَلَيْنَا بإصلاح عيوبنا واجعل التقوي زادنا وفِي دينك اجتهادنا وعَلَيْكَ توكلنا واعتمادنا اللَّهُمَّ ثبتنا عَلَى نهج الاستقامة وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيع المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين.
فَصْلٌ فِي الْغَضَبِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْه
اعْلم وفقنا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع المُسْلِمِيْنَ وجنبنا وَإِيَّاكَ وإياهم كُلّ خلق رذيل: أن مِمَّا يتأكد اجتنابه فِي رمضان وفِي غيره الْغَضَب إلا أن تنتهك محارم الله فيغضب لما يغضب الله ويملك نَفْسهُ فيما عدا ذَلِكَ إلا أن يبغي عَلَيْهِ وتعريف الْغَضَب أنه قوة أودعها الله فِي الإنسان تثور من باطنه فتحمله عَلَى الدفاع عما يحبه من الأغراض وتدفعه إلي البطش بكل ما يؤذيه فإِذَا اعتدي عَلَيْهِ معتد أو حيل بينه وبين أغراضه تثور تلك القوة فيغلي دمه وينتشر فِي العروق ويرتفع إلي أعالي البدن فيظهر أثره عَلَى الوجه والعينين.
والْغَضَب من مداخل الشيطان إلي قلب الإنسان فإن الْغَضَب غول العقل وإِذَا ضعف جند العقل هجم جند الشيطان ومهما غضب الإنسان لعب الشيطان به كما يلعب الصبية بالكرة.
وللغضب ثلاث درجات: أولاً درجة الاعتدال وَذَلِكَ بأن يغضب ليدفع عن دينه أو نَفْسهِ أو ماله أو يغضب ليدافع عن الحقوق العامة ونصرة المظلومين وتلك الحالة هِيَ التي من أجلها خلق الله الْغَضَب فهو مخلوق لحكمة ولولا أن الله جعل ذَلِكَ فِي الإنسان لفسدت الأرض بانتشار الفوضي وتقويض دعائم النظم الاجتماعية والدينية لأن من لا يغضب لعرضه لا يغار لنسائه فتختلط الإنساب وتعم الفوضي فِي ذَلِكَ الْبَاب ويصبح الإنسان
كالحيوانات التي يسطو بعضها عَلَى بعض بدون غيرة ولا حمية ولا معرفة لما يترتب عَلَى ذَلِكَ من التناسل الَّذِي به حياة النوع الإنساني وبقاء العمران إلي الاجل الَّذِي قدره الله لَهُ فِي ذَلِكَ الوجود.
ومن لا يغضب لنفسه فإنه يكون معرضاً للزَوَال من هَذَا الوجود أو معرضاً لأن يسخره غيره كما تسخر الدواب التي لا تغضب لنفسها.
ومن لا يغضب لمآله فإنه لا يلبث أن يسلبه النَّاس منه ويصبح فقيراً معدماً وإِذَا فشي سلب الْمَال فإن نظام الْعَمَل يتعطل وتبطل الأعمال التجارية والصناعية والزراعية ويعتمد النَّاس عَلَى سلب بَعْضهمْ بعضا.
ومن لا يغضب لدينه فإنه فِي الغالب لا يستقر عَلَى دين لأن اختلاف طبائع النَّاس واختلاف أنظارهم من أكبر البواعث عَلَى اختلاف معتقداتهم فمن لا يغار عَلَى دينه يكون عرضة لتقليد القوي فِي كُلّ ما يراه فينتقل من دين إلي دين.
وهكَذَا فخلق الله الْغَضَب ليحمي النَّاس بَعْضهمْ بعضاً فيستقر النظام ويقف كُلّ واحد عِنْدَ الحد الَّذِي قدر الله لَهُ فِيه ذه الحياة قال الله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} . وَقَالَ تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} .
وللغضب أسباب كثيرة تختلف باختلاف أحوال النَّاس وطبائعهم واستعدادهم للتأثر بالأشْيَاءِ فنذكر طرفاً منها ليجتنبِهَا الإنسان، فمنها الجدال والمزح والسخرية بِالنَّاسِ نعوذ بِاللهِ والاستهزاء بِهُمْ وإطلاق اللسان في
السب واللعن والغيبة ومن ذَلِكَ الكبر والعجب لأن المتكبر المعجب بنفسه يتأثر كُلَّما فاته ما يعتقَدْ أنه ينافِي عظمته وخيلاءه فإِذَا طالبه أحد بحق اهتاج غضبه وهكَذَا إِذَا نهي عن رذيلة لأنه من سخافة عقله يعتقَدْ أنه كامل من كُلّ وجه فلا يصح لأحد عنده أن يأمره أو ينهاه أو يقف فِي سبيله أو يتقدم عَلَيْهِ وَهُوَ فِي الواقع ناقص من كُلّ وجه ويحاول أن يجبر نقصه بكبريائه وعظمته وَهُوَ مغرور.
…
وَمَنْ جَهِلَتْ نَفْسُهُ قَدْرَهُ
رَأَى غَيْرُهُ مِنْهُ مَا لَا يَرَى
…
>?
ومن أسباب الْغَضَب مصاحبة الاشْرَار الَّذِينَ لا يفرقون بين الممدوح والمذموم من الْغَضَب فيحسبون التهور والطيش شجاعة ويعدون طغيان الْغَضَب الموجب للظلم رجولة ويتبجحون بذَلِكَ فَيَقُولُ الواحد مِنْهُمْ: أَنَا الَّذِي لا أصبر عَلَى مكروه، ولا عَلَى مكر ولا أحتمل من أحد أمراً، ومعناه حَقِيقَة: لا عقل فِي ولا حلم يذكر فِي معرض الفخر بالجهل فإِذَا سمعه الجاهل رسخ فِي ذهنه حسن الْغَضَب وحب التشبه بالقوم فيقوي به الْغَضَب، ومهما اشتدت نار الْغَضَب وقوي اضطرامها أعمت صاحبِهَا وأصمته عن كُلّ موعظة فإِذَا وعظ لم يسمَعَ بل زاده ذَلِكَ غضباً وإِذَا استنار بنور عقله وراجع نَفْسهُ لم يقدر إِذَا ينطفئ نور العقل وينمحي فِي الحال بدخان الْغَضَب والعياذ بالله.
فإن معدن الفكر الدماغ ويتصاعد عِنْدَ شدة الْغَضَب من غليان دم الْقَلْب دخان مظلم إلي الدماغ يستولي عَلَى معادن الفكر وَرُبَّمَا يتعدي إلي معادن الحس فتظلم عينه وتسود عَلَيْهِ الدُّنْيَا ويكون دماغه عَلَى مثال كهف اضطرمت فِيه النار فاسود جوه وحمي مستقره وامتلأت بالدخان جوانبه وكان
فِيه سراج فانمحي أو انطفأ فلا تثَبِّتْ فِيه قدم ولا يسمَعَ فِيه كلام ولا يري فِيه صورة ولا يقدر عَلَى إطفائه لا من داخل ولا من خارج بل ينبغي أن يصبر إلي أن يحترق جَمِيع ما يقبل الاحتراق فكَذَلِكَ يفعل الْغَضَب فِي الْقَلْب والدماغ، وَرُبَّمَا تقوي نار الْغَضَب فتفني الرطوبة التي فيها حياة الْقَلْب فيموت صاحبه غيظاً كما تقوي النار فِي الغار فيتفكك وتهدم أعإليه عَلَى أسفله وَذَلِكَ لأبطال النار ما فِي جوانبه من القوة الممسكة الجامعة لأجزائه فهكَذَا حال الْقَلْب عِنْدَ الْغَضَب نسأل الله العافية والسلامة.
وبالحَقِيقَة فالسَّفِي نَة فِي متلاطم الأمواج عِنْدَ اضطراب الرياح فِي لجة البحر أحسن حالاً وأرجي سلامة من النفس المضطربة غيظاً إذ فِي السَّفِي نَة من يحتال ويتسبب لتسكينها وتدبيرها وينظر لها ويسوسها بإذن الله وأما الْقَلْب فهو صَاحِب السَّفِي نَة وقَدْ سقطت حيلته إذ أعماه الْغَضَب وأصمه انتهي.
ومن أسباب الْغَضَب: فوات اللذات والشهوات من مطعم ومشرب ومسكن ونحو ذَلِكَ لكن إن كانت هذه الأشْيَاءِ مملوكة لَهُ وحيل بينه وبينها، فإن كَانَ بدون مبرر شرعي فله أن يغضب حتي يسترده ويكون فِيه ذه الحالة لَيْسَ مذموماً ثُمَّ إن كَانَ الَّذِي فاته ضرورياً لَهُ كَانَ الْغَضَب واجباً من أجله وإن كَانَ كمالياً كَانَ الْغَضَب من أجله جائزاً وإن كَانَ حراماً عَلَيْهِ أو غَيْرَ مملوك لَهُ كَانَ الْغَضَب مذموماً.
شِعْراً:
…
لَا تَغْضَبَنَّ عَلَى امْرِئٍ
…
لَكَ مَانِعٌ مَا فِي يَدَيِهِ
واغْضَبْ عَلَى الطَّمِعَ الَّذِي
…
اسْتَدْعَاكَ تَطْلُبُ مَا لَدَيِهِ
ومن أسباب الْغَضَب: الوشايات والنمائم فمن النَّاس من يغضب لمجرد وشاية نقُلْتُ إليه عن بعض النَّاس أو لمجرد نميمة بلغته من نمام بدون أن يتثَبِّتْ فِي الأمر فيعتدي عَلَى الأبرياء بإزالتهم عن أعمالهم، أو نقلهم عنهَا إلي محلات لا يرغبونها، أو يتسبب لقطع ما هُوَ ماش لهُمْ من
أرزاق أو يؤذيهم فِي أبدأنهم أو يقدح فِي أعراضهم أو ينشز الزوجة أو بالعكس بأن ينشز الزوج إلي غَيْرَ ذَلِكَ من الجرائم التي تترتب عَلَى الْغَضَب وَرُبَّمَا كانت الكلمة التي نقُلْتُ إليه عَلَى فرض صدورها لا تساوي شيئاً من غضبه، وَذَلِكَ شر ما يترتب عَلَى الْغَضَب من الظلم فعَلَى من كانت نَفْسهُ تتأثر بمثل ذَلِكَ أن يعالجها بالتثَبِّتْ حتي إِذَا تأكد من صدق ما نقل إليه كَانَ لَهُ الحق فِي أن يدفع عن نَفْسهُ بقدر ما أصابه بدون بغي ولا عدوان والعفو فِي مثل هذه الحالِ أفضل خصوصاً إِذَا أنكر المنقول عنهُ ما نسب إليه فإن الإنكار اعتذار يستوجب الرأفة والرحمة وبالتالي فمن نظر الدُّنْيَا بعين البصيرة والاعتبار هان عَلَيْهِ كُلّ شَيْء وسامح أخاه المسلم وقبل ميسور عذره واحتسب الاجَر عِنْدَ الله والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
شِعْراً:
…
سَكَنْتُكَ يَا دَارَ الفَنَاءِ مُصَدِّقاً
بِأَنِّي إِلى دَارِ البَقَاءِ أَصِيْرُ
وَأَعْظَمُ مَا فِي الأمر أَنِّي صَائِرٌ
إِلى عَادِلٍ فِي الحُكْمِ لَيْسَ يَجُوْرُ
فَيَا لَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ أَلْقَاهُ عِنْدَهَا
وَزَادِي قَلِيْلٌ والذُّنُوبُ كَثِيْرُ
فَإِنْ أكُ مُجْزِياً بِذَنْبِي فَإِنَّنِي
بِشَرِّ عِقَابِ المُذْنِبِيْنَ جَدِيْرُ
وَإِنْ يَكُ عَفْوٌ ثُمَّ عني وَرَحْمَةٌ
فَثُمَّ نَعِيْمٌ دَائِمٌ وَسُرُوْرُ
…
>?
اللَّهُمَّ جد عَلَيْنَا بكرمك، وأفض عَلَيْنَا من نعمك، وتغمدنا بِرَحْمَتِكَ وعاملنا برأفتك ووفقنا لخدمتك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ، بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
ومن أسباب الْغَضَب المشاحة فِي البيع والشراء: فيغضب الواحد إِذَا لم تكن السومة تناسب القيمة أو ساومه ولم يشتر أو لم يقرضه أو لم يعنْه أو نحو ذَلِكَ والْغَضَب فِي مثل هذه الأحوال حماقة لا مبرر لها لأنه ما دام لم يعتد عَلَى حقه فلَيْسَ لَهُ أن يغضب وعَلَيْهِ أن يعتدل فِي بيعه وشرائه، وأن يمرن نَفْسهُ عَلَى احتمال ما يقع عادة عِنْدَ البيع والشراء من النزاع وأن يمرن نَفْسهُ دائماً عَلَى التواضع ويذكرها بعظمة الله ويفهمها بأنه ضعيف مخلوق من ماء مهين، وأنه صائر إلي الفناء، وأنه سيكون عظاماً بالية يوطأ بالأقدام كما قيل:
…
يُدَّفِنُ بَعْضُنَا بَعْضاً وَتَمْشِي
أَوَاخِرُنَا عَلَى هَامِ الأوَالِي
…
>?
ومن كَانَ هَذَا شأنه فلا يليق به التكبر فيحقر خلق الله ويطغي عَلَيْهمْ الَّذِينَ ربما رفعهم الله عَلَيْهِ قال بعضهم.
…
لَا تَحْقِرنَّ أَبَيْتَ اللَّعْنِ ذَا أَدَبٍ
فَكم وَضِيْعٍ مِنْ الأقْوَامِ قَدْ رَئِسَا
…
>?
.. فَرُبَّ قَوْمٍ حَقَرْنَاهُمْ فَلم نَرَهُمْ
أَهْلاً لِخِدْمَتِنَا كَانُوا لَنَا رُؤَسَا
…
>?
فإِذَا نزعت نَفْسهُ إلي التواضع فإنه لا يتألم لتلك الاعتبارات التي يتألم منها المتكبرون وبهَذَا بإذن الله يدفع عن نَفْسهِ سرعة الْغَضَب إلي أن تقل حدتها وتذهب ثورتها وهَذَا أهم ما تعالج به أنفس المستعدين بفطرتهم للغضب وأما من كانت سرعة غضبه لَيْسَتْ طبيعة لَهُ ولكنها اكتسبت بالعادة والمخالطة فإنه يعالج بأمور أولاً اجتناب مصاحبة الأشْرَار والبعد عنهم، ثانياً: اجتناب الأسباب المثيرة للغضب آنفاً ثالثاً تعليمه أنه لَيْسَ للإنسان أن يغضب إلا من أجل دينه أو نَفْسهِ أو عرضه أو ماله وما زَادَ عَلَى هَذَا فهو رذيلة مذمومة يجب عَلَى العاقل أن يتنبه لها ولا يذرها تتسلط عَلَيْهِ فتضيع سلطة العقل ويصبح الإنسان عرضة للهلاك فِي الدُّنْيَا والآخرة وحسبك فِي ذم الْغَضَب أن النَّبِيّ ? خطب فِي الناس عصر يوم من الأيَّام فكَانَ مِمَّا قاله لهُمْ: "إن بني آدم خلقوا عَلَى طبقات شتي ألا وإن مِنْهُمْ البطيء الْغَضَب سريع الفيء والسريع الْغَضَب سريع الفيء والبطيء الْغَضَب بطيء الفيء فتلك بتلك ألا وإن مِنْهُمْ بطيء الفيء سريع الْغَضَب ألا وخيرهم بطيء الْغَضَب سريع الفيء وشرهم سريع الْغَضَب بطيء الفيء ألا وإن مِنْهُمْ حسن الِقَضَاءِ حسن الطلب وَمِنْهُمْ سيء الِقَضَاءِ حسن الطلب وَمِنْهُمْ سيء الطلب حسن الِقَضَاءِ فتلك بتلك ألا وإن مِنْهُمْ سيء الِقَضَاءِ سيء الطلب ألا وخيرهم الحسن الِقَضَاءِ الحسن الطلب وشرهم سيء الطلب ألا وإن الْغَضَب جمرة فِي قلب ابن آدم أما رأيتم إلي حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه وسيئات الْغَضَب كثيرة ونتائجه الوخيمة أكثر. فمن أحس بشَيْء من ذَلِكَ فليلصق بالأرض ". رواه الترمذي.
ومن سيئاته: أن الطلاق غالباً يحدث عن غضب، ومن سيئاته أن الفراق بين الأقارب والأولاد يقع غالباً عن غضب.
ومن سيئاته: إتلاف بعض الْمَال أو كله.
شِعْراً:
…
إِذَا المَرْءُ لم يَغْلِبْ مِنَ الغَيْضِ سَوْرَةً
…
فلَيْسَ وإِنْ فَضَّ الصَّفَا بِشَدِيْدِ
ومن سيئاته: أنه ربما قضي عَلَى نَفْسهِ أو عَلَى أولاده بسبب غضبه ومن سيئات الْغَضَب أن الإنسان إِذَا غضب أطلق لِسَانه بالقذف والغيبة والنميمة والبهت والاستهزاء والسخرية والشتم والسب وسائر أنواع المعاصي التي تقضي عَلَى حسناته إن كَانَ لَهُ حسنات وإلا فتوقره من سيئات عدوه ولَوْ ملك نَفْسهُ لسلم من ذَلِكَ كله.
ومن سيئاته: أنه يفضي إلي المهاترات الشفهية وتبادل السباب بين المتخاصمين وهَذَا لا يجوز وَكم من معارك تبتذل فيها الأعراض وتعدو الشتائم المحرمة عَلَى الحرمَاتِ البعيدة ولَيْسَ لهذه الآثام الغليظة من علة إلا تسلط الْغَضَب، وضياع الأدب، ولذَلِكَ كَانَ ضبط النفس عِنْدَ سورانه دَلِيل قدرة محمودة ورزانة عقل وحسبك دليلاً عَلَى ذَلِكَ ما ورد عَنِ ابن مسعود قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: "ما تعدون الصرعة فيكم"؟ قَالُوا: الَّذِي لا تصرعه الرجال. قال "لا. ولكن الَّذِي يملك نَفْسهُ عِنْدَ الغضب" وراه مسلم.
وَقَالَ رجل للنبي ?: أوصني ولا تكثر عَلَىَّ لعَلَى لا أنسي. قال: " لا تغضب ". وروي أَبُو هُرَيْرَةِ أن رجلاً قال: يَا رَسُولَ اللهِ مرني بعمل وأقلل. قال: " لا تغضب ". ثُمَّ أعاد عَلَيْهِ فَقَالَ: " لا تغضب ". ثُمَّ أعاد عَلَيْهِ فَقَالَ: " لا تغضب ". رواه البخاري، وَقَالَ ابن عمر: قُلْتُ لِرَسُولِ اللهِ ?: قل لي قولاً وأقلله، لعَلَى أعقله. فَقَالَ:" لا تغضب ". فأعدت عَلَيْهِ مرتين، كُلّ ذلك
يرجع إلي " لا تغضب ". أخرجه أبو يعَلَى بسند حسن وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةِ: قال النَّبِيّ ?: " لَيْسَ الشديد بالصرعة، وإنما الشديد الَّذِي يملك نَفْسهُ عِنْدَ الغضب" متفق عَلَيْهِ، وَقَالَ ابن عمر: قال النَّبِيّ ?: " من كف غضبه ستر الله عورته ". أخرجه ابن أبي الدنيا.
وإليك بعض الآثار: قال عَبْد اللهِ بن مسعود: انظروا إلي الرجل عِنْدَ غضبه وأمانته عِنْدَ طمعه وما علمك بحلمه إِذَا لم يغضب وما علمك بأمانته إِذَا لم يطمَعَ، وكتب عمر بن عَبْد الْعَزِيز إلي عامله: أن لا تعاقب عِنْدَ غضبك وإِذَا غضبت عَلَى رجل فاحبسه فإِذَا سكن غضبك فأخرجه فعاقبه عَلَى قدر ذنبه، وَقَالَ عَلَى بن زيد: أغلظ رجل من قريش لعمر بن عَبْد الْعَزِيز القول فأطرق عمر زمانَاً طويلاً ثُمَّ قال أردت أن يستفزني الشيطان بعز السُّلْطَان فأنال منك الْيَوْم ما تناله مني غداً.
وَقَالَ بَعْضهمْ لابنه: يا بني لا يثَبِّت العقل عِنْدَ الْغَضَب كما لا تثَبِّت الروح فِي الحي فِي التنانير المسجورة ومِمَّا يروي عن ذي القرنين أنه لقي ملكاً من الملائكة فَقَالَ: علمني عِلماً أزداد به إيمانَاً ويقيناً قال: لا تغضب فإن الشيطان أقدر ما يكون عَلَى ابن آدم حين يغضب فرد الْغَضَب بالكظم وسكنه بالتودة وَإِيَّاكَ والعجلة، وعن ابن عباس قال: لما قدم عيينة بن حصن نزل عَلَى ابن أخيه الحر بن قيس: وكَانَ من النفر الَّذِينَ يدنيهم عمر، إذ كَانَ القراء أصحاب مجلس أمير الْمُؤْمِنِين عمر ومشاورته كهولاً كَانُوا أو شبانَاً فَقَالَ عيينة يا ابن أخي استأذن لي أمير الْمُؤْمِنِين فاستأذن لَهُ فَلَمَّا دخل قال: هيه يا ابن الخطاب فوَاللهِ ما تعطينا الجزل ولا تحكم بيننا بالعدل فغضب عمر حتي هم أن يوقع به فَقَالَ الحر يا أمير الْمُؤْمِنِين إن الله
يَقُولُ لنبيه ?: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} وإن هَذَا من الجاهلين، فوَاللهِ ما جاوزها عمر حين تلاها عَلَيْهِ وكَانَ وقافاً عِنْدَ كتاب الله وإنما غضب عمر رضي الله عنه وهم بردع الأعرابي لتطاول الأعرابي عَلَيْهِ لأنه لم يدخل ناصحاً أو مشيراً بخَيْر وإنما دخل عَلَيْهِ فِي سلطانه ليشتمه دون مبرر وليسأله عطاءً جزيلاً عَلَى غَيْر عمل فَلَمَّا ذكر عمر بأن هَذَا من الجاهلين أعرض عنهُ وتركه ينصرف سالماً وفِي الْحَدِيث "من كظم غيظاً وَهُوَ يقدر أن ينفذه، دعاه الله يوم القيامة عَلَى رؤوس الخلائق حتي يخيره فِي أي الحور العين.
شِعْراً:
…
مَنْ لِي بِإِنْسَانٍ إِذَا أَغَضَبْتُهُ
…
وَجَهِلْتُ كَانَ الحِلْمُ رَدَّ جَوَابِهِ
وَتَرَاهُ يُصْغِي لِلْحَدِيْثِ بِسَمْعِهِ
…
وَبِعَقْلِهِ وَلَعَلَّهُ أَدْرَى بِهِ
إِذَا مَا سَفِيه نَالَنِي مِنْهُ نَائِلٌ
…
مِنَ الذَّمِ لم يَحْرُجْ بِمَوقِفِهِ صَدْرِي
أَعُوْدُ إِلى نَفْسِي فَإِنْ كَانَ صَادِقاً
…
عَتِبْتُ عَلَى نَفْسِي وَأَصْلَحْتُ مِنْ أَمْرِي
وَإلا فَمَا ذَنْبِي إِلى النَّاسِ إِنْ طَغَى
…
هَوَاهَا فَمَا تَرْضَى بِخَيْرٍ وَلَا شَرٍّ
تَنَبَهْ قُبَيْلَ المَوْتِ إِنْ كُنْتَ تَعْقِلُ
فَعَمَا قَلِيْلٍ لِلْمَقَابِرِ تُنْقَلُ
وَتُمْسِي رَهِيْناً لِلْقُبُورِ وَتَنْثَنِي
لَدِي جَدَثٍ تَحْتَ الثَرَى تَتَجَنْدَلُ
فَرِيْداً وَحِيْداً فِي التُّرَابِ وِإِنْمَا
قَرِيْنُ الفَتَى فِي القَبْرِ مَا كَانَ يَعْمَلُ
فَوَا أَسَفاً مَا يَفْعَلُ الدُوْدُ وَالثَرَى
بِوَجْهٍ جَمِيْلٍ كَانَ للهِ يَخْجَلُ
وَمَا يَفْعَلُ الجِسْمُ الوَسِيْمُ إِذَا ثَوَى
وَصَارَ ضَجِيْعَ القَبْرِ يَعْلُوْهُ جَنْدَلُ
…
>?
.. وَبَطْنِي بَدَا فِيه الرَّدَى ثُمَّ لَوْ تَرَى
دَقِيْقَ الثَّرَى فِي مُقْلَتِي يَتَهَرْوَلُ
أَعَيَنْايَ جُوْدَا بِالدُمُوعِ عَلَيْكُمَا
فَحُزْنِي عَلَى نَفْسِي أَحَقُ وَأَجْمَلُ
وَيَا مُدَّعِي حُبِي هَلُّمَ بِنَا إِذَا
…
بَكَى النَّاسُ نَبْكِي لِلْفِرَاقِ وَنُهْمِلُ
دَعِي اللَّهْوَ نَفْسِي واذْكُرِي حُفْرَةَ البِلَى
وَكَيْفَ بِنَا دُوْدُ المَقَابِرِ يَفْعَلُ
إِلى اللهِ أَشْكُو لَا إِلى النَّاسِ حَالَتِي
إِذَا صِرْتُ فِي قَبْرِي وَحِيْداً أُمَلْمَلُ
…
>?
اللَّهُمَّ يا حي يا قيوم يا عَلَى يا عَظِيم أبرم لهذه الأمة أمرَ رشد يعز فِيه أَهْل طَاعَتكَ ويذل فِيه أَهْل معصيتك ويؤمر فِيه بالمعروف وينهي فِيه عن الْمُنْكَر اللَّهُمَّ بارك فِي أعمارنا وأصلح أعمالنا ونياتنا وذرياتنا وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.
" موعظة "
عِبَادَ اللهِ: من عِبَادِ اللهِ من ترونه سيء الخلق، عنيفاً شرساً فِي كُلّ حال إن قال فعنف قوله ينطق بالكلمة فلعنفها تحدث من الشر ما لا يحكيه المقال إن مثل هَذَا لا تطول معه عشرة نساء ولا صداقة رِجَال ولا يجد قلباً يعطف عَلَيْهِ ولَوْ كَانَ فِي أشد الأحوال ولَوْ قيل لك إن البهائم تنفر منه لعنفه وشراسته فصدِّق هَذَا المقال وللناس عذر واضح فِي نفورهم من هَذَا العنيف السيء الأخلاق ولا لوم عَلَيْهمْ إِذَا فارقوه الفراق الَّذِي لَيْسَ بعده من تلاق فإن
الطباع البشرية متفقة عَلَى بغض العنْف وكيف يحب النَّاس من يؤذيهم بأقواله وأفعاله بسبب وبغَيْر سبب فالعنيف شؤم عَلَى نَفْسه قبل أن يكون شؤماً عَلَى سواه وَرُبَّمَا عم شؤمه دنياه وأخراه قال ?: "من يحرم الرفق يحرم الْخَيْر كله" رواه مسلم وأَحَمَد وأبو داود وابن ماجه، وفِي الْحَدِيث الآخر: "إن الله تعالى رفيق يحب الرفق، ويعطي عَلَى الرفق ما لا يعطي عَلَى العنف رواه مسلم أما الرفيق: فهو الْعَبْد الحسن الخلق الوقور الحليم الَّذِي أينما كَانَ ومتي كَانَ تصبو إليه القُلُوب لأنه إن قال فقوله حلَوْ لأنه أديب حكيم وإن فعل فأفعاله ترشد إلي تعلمِ الأدب ولَيْسَ بنو آدم الَّذِينَ يحبون الرفق، بل يشاركهم فِي ذَلِكَ سائر الحيوانات، وإن شئت فَانْظُرْ مبلغ حنين تلك الحيوانات إليهم فكن رفيقاً أيها المُؤْمِن تجمَعَ بين حب الله وحب عباده ولَيْسَ بعد ذَلِكَ لذوي النهي أرب، اللَّهُمَّ اختم لنا بخاتمة السعادة وَاجْعَلْنَا ممن كتبت لّهُمْ الحسني وزيادة وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيع المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.
فَصْلٌ فِي بَيَانِ تَحْرِيْمِ الحَسَدْ
اعْلم وفقنا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع المُسْلِمِيْنَ وجنبنا وَإِيَّاكَ وإياهم كُلّ خلق ذميم: أن مِمَّا يتأكد اجتنابه فِي كُل زمان ومكَانَ الحسد إذ هُوَ من الذُّنُوب المهلكات، ومعني الحسد: أن يجد الإنسان فِي صدره وقَلْبهُ ضَيِّقاً وحرجاً وكراهية لنعمة أنعم الله بِهَا عَلَى عبد من عباده فِي دينه أو دنياه حتي أنه ليحب زوالها عنهُ وَرُبَّمَا تمني ذَلِكَ أو سعي فِي إزالتها وحسبك بذمه وقبحه أن الله تعالى أمر رسوله ? أن يتعوذ من شر الحاسد كما أمر بالاستعاذة من شر
الشيطان قال الله تعالى: {وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} .
والحرص والحسد من مداخل الشيطان إلي الْقَلْب فمهما كَانَ الْعَبْد حريصاً عَلَى كُلّ شَيْء أعماه وأصمه قال ?: " حبك للشَيْء يعمي ويصم ". ونور البصيرة هُوَ الَّذِي يعرف مداخل الشيطان فإِذَا غطاه الحسد والحرص لم يبصر فحينئذ يجد الشيطان فرصة فيحسن عِنْدَ الحريص كُلّ ما يوصله إلي شهواته وإن كَانَ منكراً وفاحشاً، فبالحسد لعنَ إبلَيْس وجعل شيطانَاً رجيماً وأما الحرص فإنه أبيح لآدم الْجَنَّة كُلّهَا إلا الشجرة، فأصاب حاجته إبلَيْس من آدم بالحرص فأكل من الشجرة التي نهاه الله عنها.
ومن أجل أن الحسد بهذه الدرجة ورد فِيه تشديد عَظِيم حتي قال فِيه الرَّسُول ?: "الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب" رواه أبو داود وابن ماجه، وَقَالَ ?:"لا يجتمَعَ فِي جوف عبد غبار فِي سبيل الله، وفيح جهنم ولا يجتمَعَ فِي جوف عبد الإيمان والحسد" رواه ابن حبان فِي صحيحه ورواه البيهقي.
والَّذِي يجب أن يفهم من هَذَا الْحَدِيث: أن الإيمان الصادق الكامل الَّذِي يستحضر صاحبه أن كُلّ أفعال الله لحكمة لا يجتمَعَ مَعَ الحسد الَّذِي يغضب من فعل الله وقسمته وَيَقُولُ ? فِي الحسد:"لا يزال النَّاس بخَيْر ما لم يتحاسدوا" رواه الطبراني، والمعني وَاللهُ أَعْلم: أنَّهُمْ إِذَا تحاسدوا ارتفع الْخَيْر مِنْهُمْ وكيف لا يرتفع مِنْهُمْ الْخَيْر وكل مِنْهُمْ يتمني أن يزول الْخَيْر الَّذِي عِنْدَ أخيه، ونهي ? عن الحسد فَقَالَ:"ولا تحاسدوا" والحسد نتيجة من نتائج الحقَدْ وثمرة من ثمراته المترتبة عَلَيْهِ فإن من يحقد عَلَى إنسان يتمني زَوَال نعمته ويغتابه وينم عَلَيْهِ ويعتدي عَلَى عرضه، ويشمت فِيه لما يصيبه
من البَلاء، وغَيْرَ ذَلِكَ من الصفات المذمومة التي لا تليق بالإنسان وكثيراً ما تري الحاسد ينقب عن مساوئ المحسود فيبرزها عَلَى صفة الذم والتثريب فينتبه المحسود لها ويتجنبِهَا فيكون السبب فِي إزالتها عدوه الحاسد كما قيل:
…
عُدَاتِي لَهُمْ فَضْلٌ عَلَيَّ وَمِنَةً
فَلَا أَذْهَبَ الرّحْمَنُ عَنّي الأعَادِيَا
هُمُوْا بَحَثُوْا عن زَلَّتِي فاجْتَنَبْتُهَا
وَهُمْ نَافَسُونِي فَاكْتَسَبْتُ المَعَالِيَا
…
>?
وَيَقُولُ الآخر:
…
وَإِذَا أَرَادَ اللهُ نَشْرَ فَضِيْلَةٍ
طُوِيَتْ أَتَاحَ لَهَا لِسَانَ حُسُودِ
لَوْلَا اشْتِعَالُ النَّارِ فِي جزل الغَضَا
مَا كَانَ يُعْرِفُ طِيْبُ رِيْحِ العُوْدِ
آخر:
…
مُحَسَّدُوْنَ وَشَرُّ النَّاسِ مَنْزِلَةً
مَنْ عَاشَ فِي النَّاسِ يَوْماً غَيْرَ مَحْسُودِ
آخر:
…
إِنّي حُسِدْتُ فَزَادَ اللُه فِي حَسَدِي
لَا عَاشَ مَنْ عَاشَ يَوماً غَيْرَ مَحْسُودِ
مَا يُحْسَدُ المَرءُ إلا مِنْ فَضَائِلِهِ
بِالعِلْمِ والظُّرْفِ أَوْ بِالْبَأسِ والجُوْدِ
آخر:
…
سُبْحَانَ مَنْ َسَّخَر لِي حَاسِدِي
…
يُحْدِثُ لِي فِي غَيْبَتِي ذِكْرَا
لَا أَكْرَهُ الغِيْبَةَ مِنَ حَاسِدِيْ
…
يُفِيدُنِيْ الشُهْرَةَ وَالأجْرَا
وكفِي بالحقَدْ ذماً أن يكون الحسد ثمرة من ثمراته وأثراً من آثاره.
شِعْراً:
…
فَلَا تَحْسِدَنْ يَوماً عَلَى فَضْلِ نِعْمَةٍ
…
فَحَسْبُكَ عَاراً أَنْ يُقَالَ حَسُوْدُ
آخر:
…
ألا قُلْ لِمَنْ كَانَ لِي حَاسِداً
…
أَتَدْرِيْ عَلَى مَنْ أَسَأَتَ الأدَبْ
أَسَأَتَ عَلَى اللِه فِي فِعْلِهِ
…
لأَنَّكَ لم تَرّضَ لِي مَا وَهَبْ
وفِي الغالب أن الحسد يكون بين النظراء والزملاء وأرباب الصناعات والمراتب والمناصب الحكومية فالتاجر يحسد التاجر والصانع يحسد الصانع والنجار يحسد النجار والفلاح يحسد الفلاح وأرباب الجاه يحسدون أرباب الجاه وذوو المناصب الحكومية يحسد بَعْضهمْ بعضاً ومن الأمثال المتداولة قولهم عدو المرء من يعمل عمله وللحسد أعاذنا الله وَجَمِيع المُسْلِمِيْنَ منه مراتب.
أحدها أن يتمني زَوَال النعمة عن الغَيْر، ويعمل ويسعي فِي الوسائل المحرمة الظالمة ويسعي فِي إساءته بكل ما يستطيع وهَذَا الغاية فِي الخبث والخساسة والنذالة وهذه الحالة هِيَ الغالبة فِي الحساد خصوصاً المتزاحمين فِي صفة واحدة فإن من يربح مِنْهُمْ ربحاً كبيراً أو يظفر بلذة يرقبِهَا غيره فإن ذَلِكَ الغَيْر يحسده عَلَى ما حصل لَهُ من ذَلِكَ ويسعي إلي حرمانه فِي ذَلِكَ الرِّبْح ليظفر هُوَ به ويكثر ذَلِكَ فِي طلاب المناصب والجاه.
المرتبة الثَّانِيَة: أن يتمني زَوَال النعمة ويحب ذَلِكَ، وإن كانت لا تنتقل إليه، وهَذَا أيضاً فِي غاية الخبث، ولكنها دون الأولي.
الثالثة أن يجد من نَفْسهِ الرغبة فِي زَوَال النعمة عن المحسود سواءً انتقُلْتُ إليه أو إلي غيره ولكنه فِي جهاد مَعَ نَفْسهِ وكفها عن ما يؤذي خوفاً من الله تعالى وكراهية فِي ظلمِ عِبَادِ اللهِ ومن يفعل هَذَا يكون قَدْ كفِي شر غائلة الحسد، ودفع عن نَفْسهِ العقوبة الأخروية ولكن ينبغي لَهُ أن يعالج نَفْسهُ من هَذَا الوباء حتي يبرأ منه.
الحالة الرابعة: أن يتمني زَوَال النعمة عن الغَيْرِ، بغضاً لذلك
الشخص، لسبب شرعي، كأن يكون ظالماً يستعين عَلَى مظالمه بهذه النعمة فيتمني زوالها ليريح النَّاس من شره ومثل أن يكون فاسقاً يستعين بهذه النعمة عَلَى فسقه وفجوره، فيتمني زَوَال المغل هَذَا عنهُ ليريح العباد والْبِلاد من شره القاصر والمتعدي، فهَذَا لا يسمي حسداً مذموماً وإن كَانَ تعريف الحسد يشمله، ولكنه فِي هذه الحال يكون ممدوحاً لاسيما إِذَا كَانَ يترتب عَلَيْهِ عمل يدفع هَذَا الظلم والعدوان ويردع هَذَا الظالم.
الحالة الخامسة: أن يحب ويتمني لنفسه مثلها فإن لم يحصل لَهُ مثلها فلا يحب زوالها عن صاحبِهَا فهَذَا لا بأس به إن كَانَ كالنعم الدنيوية كالْمَال المباح والجاه المباح وإن كَانَ من النعم الدينية كالعلم الشرعي والعبادة الشرعية كَانَ محموداً كأن يغبط من عنده مال حلال ثُمَّ سلط عَلَى هلكته فِي الحق من واجب ومستحب فإن هَذَا من أعظم الأدلة عَلَى الإيمان ومن أعظم أنواع الإحسان وَكَذَا من آتاه الله الحكمة والعلم فوفق لنشره، كما فِي الْحَدِيث:" لا حسد إلا فِي اثنتين رجل آتاه الله مالاً، فسلطه عَلَى هلكته فِي الحق، ورجل آتاه الله الحكمة، فهو يقضي بِهَا ويعلمها ".
فهذان النوعان من الإحسان لا يعادلهما شَيْء إلا إن ترتب عَلَيْهِ وساوس شيطانية، وخواطر نفسانية تجر الإنسان إلي مواضع الخطر التي تفسد عمله كأن يَقُولَ فِي نَفْسهِ أَنَا أحق منه بهَذَا فهَذَا اعتراض عَلَى حكمة الله وقسمته ولا يجوز ذَلِكَ:
شِعْراً:
…
عَيْنُ الحَسُودِ عَلَيْكَ الدَّهْرَ حَارِسَةٌ
…
تُبْدِي المَسَاوِئ والإحْسَانَ تُخْفِيه
يَلْقَاكَ بِالبِشْرِ بِيَدْيِهِ مُكَاشَرَةً
…
والْقَلْبُ مَضْطَغِنٌ فِيه الَّذِي فِيه
إِنْ الحَسُودَ بِلَا جُرْمٍ عَدَاوَتُهُ
…
فلَيْسَ يَقْبَلُ عُذْراً فِي تَجَنِيَّهِ
آخر:
…
عَلَيْكَ أَخَي بِالتُّقَى وَلُزُوْمه
…
وَلَا تُكْثِرَنْ مَا فِيه زَيْدٌ وَلَا عَمْرُوْ
فَزَهْرَةُ ذِي الدُّنْيَا سَرِيْعٌ ذُبُولُهَا
…
وفِي نَهْي طَهَ لِلّنَّبِي لَنَا ذِكْرُ
وَكُنْ مُنْشِداً مَا قَالَ بَعْضُ أُوْلِي النُهَى
…
فَكم حِكْمَةٍ غَرَّاءَ قَيَّدَهَا الشِّعْرُ
(إِذَا المَرْءُ جَازَ الأرْبَعِيْنَ وَلم يَكُنْ
…
لَهُ دُوْنَ مَا يَأْتِي حَيَاءٌ وَلَا سِتْرُ)
(فَدَعْهُ وَلَا تَنْفُسْ عَلَيْهِ الَّذِي أَتَى
…
وَإِنْ مَدَّ أَسْبَابَ الحَيَاةِ لَهُ العُمْرُ)
آخر:
أَأَقْصُدُ بِالمَلَامَةِ قَصْدَ غَيْرِي
…
وَأَمْرِي كُلُّهُ بَادِي الخِلَافِ
إِذَا عَاَش امْرُؤٌ خَمْسِيْنَ عَاماًَ
…
ولم يُرَ فِيه آثَارُ العَفَافِ
فَلَا يُرْجَى لَهُ أَبَداً رَشَادٌ
…
فقَدْ أَرْدَى بِنِّيَتِهِ التَّجَافِي
وَلِمَ لَا أَبْذُلُ الإنْصَافَ مِنِي
…
وَأَبْلُغُ طَاقَتِي فِي الانْتِصَافِ
لِي الوَيْلَاتُ إِنْ نَفَعَتْ عِظَاتِي
…
سِوايَ ولَيْسَ لِي إلا القَوَافِي
(فَصْلٌ)
ثُمَّ اعْلم أن للحسد أسباباً.
الأول: العداوة والبغضاء وهَذَا أشد أسباب الحسد.
الثاني: التعزز والترفع وَهُوَ أن يثقل عَلَيْهِ أن يرتفع عَلَيْهِ غيره فإِذَا أصاب أحد زملائه ولاية أو مالاً خاف أن يتكبر عَلَيْهِ وَهُوَ لا يطيق تكبره وافتخاره عليه.
السبب الثالث الكبر وَهُوَ أن يكون فِي طبعه أن يتكبر عَلَيْهِ ويستحقره ويستصغره ويستخدمه فإِذَا نال ولايةً خاف أن لا يحتمل تكبره ومن التكبر والتعزز كَانَ حسد أكثر الكفار لِرَسُولِ اللهِ ? إذ قَالُوا: كيف يتقدم علينا
غلام يتيم فنطأطئ رؤوسنا له. فَقَالُوا {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} .
السبب الرابع التعجب كما أخبر الله عن الأمم الماضية إذ {قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلَاّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا} فتعجبوا من أن يفوز برتبة الرسل والوحي والقرب من الله بشر مثلهم فحسدوهم وأحبوا زَوَال النعمة عنهم.
الخامس الخوف من فوت مقصد من المقاصد وَذَلِكَ يختص بمتزاحمين عَلَى مقصود واحد وَذَلِكَ مثل الضرات عِنْدَ زوجهن والتلاميذ عِنْدَ الأستاذ والإخوة فِي التزاحم عَلَى نيل المنزلة فِي قلب الأبوين ليتوصل به إلي مقاصد الكرامة والْمَال وخدام الملك فِي نيل المنزلة من قلبه.
السادس حب الرياسة وطلب الجاه لنفسه من غَيْرِ توصل به إلي مقصود وَذَلِكَ كالرجل الَّذِي يريد أن يكون عديم النظير فِي فن من الفنون إِذَا غلب عَلَيْهِ حب الثناء والمدح واستفزه الفرح بما يمدح به، فإنه لَوْ سمِعَ بنظيرأً لَهُ فِي أقصي أقطار الأرض لساءه ذَلِكَ، وأحب موته أو زَوَال تلك النعمة التي عِنْدَ الَّذِي يشاركه بِهَا فِي المنزلة من شجاعة أو علم أو صناعة أو جمال أو ثروة أو نحو ذلك.
السابع: خبث النفس وحبِهَا للشر وشحها بالْخَيْر لعِبَادِ اللهِ، فتجد المتصف بذَلِكَ إِذَا ذكر لَهُ اضطراب ونكبات تصيب النَّاس وإدبارهم وفوت مقاصدهم وتنغيص عيشهم استنار وجهه وفرح به وصار يبثه وَرُبَّمَا أتي بإشاعته فِي صورة الترحم والتوجع فهو أبداً يحب الإدبار لغيره ويبخل بنعمة الله عَلَى عباده كأنه يؤخذ ما أعطاهم الله من ماله وخزانته، عَلَى أنه لَيْسَ بينه
وبينهم عداوة وهَذَا لَيْسَ لَهُ سبب إلا التعمق فِي الخبث والرذالة والنذالة والخساسة فِي الطبع اللئيم ولذَلِكَ يعسر معالجة هَذَا السبب لأنه جهول ظلوم ولَيْسَ يشفِي علة صدره ويزيل حزازة الحسد الكامن فِي قَلْبهِ إلا زَوَال النعمة فحينئذ يتعذر الدواء أو يعز ومن هَذَا قول بعضهم.
وَكُلٌّ أُدَاوِيْهِ عَلَى قَدْرِ دَائِهِ
سِوَى حَاسِدِي فَهْيَ الَّتِي لَا أَنَالُهَا
وَكَيْفَ يُدَاوِيْ المَرْؤُ حَاسِدَ نِعْمَةٍ
إِذَا كَانَ لَا يُرْضِيْهِ إلا زَوَالُهَا
…
>?
قال بَعْضهمْ: رَأَيْت أكثر النَّاس إلا من عصم الله وقليل ما هم يتعجلون الشقاء والهم والتعب لأنفسهم فِي الدُّنْيَا ويحتقبون عَظِيم الإثم الموجب للنار فِي الآخرة بما لا يحظون معه بنفع أصلاً من نيات خبيثة يحرصون عَلَيْهَا من تمني الغلاء المهلك للناس وللصغار ومن لا ذنب لَهُ وتمني أشد البَلاء لمن يكرهونه وقَدْ علموا يقيناً أن تلك النيات الفاسدة لا تعجل شيئاً مِمَّا يتمنونه أو توجب كونه وأنَّهُمْ لَوْ وصفوا نياتهم وحسنوها لتعجلوا الرَّاحَة لأنفسهم وتفرغوا بذَلِكَ لمصالح أمورهم، ولا اقتنوا عَظِيم الأجَر فِي المعاد، من غَيْر أن يؤخر ذَلِكَ شيئاً مِمَّا يريدونه أو يمنع كونه، فأي غبن أعظم من هذه الحال التي نبهنا عَلَيْهَا 1 هـ.
وأما الأسباب الأخري فيتصور إزالتها فِي المعالجة، وقَدْ تجتمع أسباب الحسد المذكور كُلّهَا فِي شخص واحد أو أكثرها.
…
أَعْطَيْتُ كُلَّ النَّاسِ مِنْ نَفْسِي الرِّضَا
…
إلا الحَسُودَ فِإَنَّهُ أَعْيَانِي
لَا أَنَّ لِي ذَنْباً لَدَيْهِ عَلِمْتُهُ
…
إلا تَظَاهُرُ نِعْمَةِ الرَّحْمَنِ
..
يَطْوِيْ عَلَى حُنْقٍ حَشَاهُ لأًنْ رَأى
…
عِنْدِيْ كَمَالُ غِنَى وَفَضْلُ بَيَانِ
مَا إِنْ أَرَى يُرْضِيِهِ إلا ذِلْتِي
…
وذَهَابُ أَمْوَالِي وَقَطْعُ لِسَانِي
وقَدْ ذكر العلماء للحسد دواءً فأولاً أن تعرف أنه ضرر عَلَيْكَ فِي الدين والدُّنْيَا ولا ضرر به عَلَى المحسود لا فِي الدُّنْيَا ولا فِي الدين بل ينتفع به فيهما جميعاً أما ضرره فِي الدين فلأنه سخط لِقَضَاءِ الله وقدره، وكراهة لنعمته عَلَى عبده المُؤْمِن وانضم إليه غش المسلم وترك نصحه وترك الْعَمَل بقوله ?:" لا يؤمن أحدكم حتي يحب لأخيه ما يحب لنفسه ". وانضم أيضاً إلي ذَلِكَ أنه شارك إبلَيْس وهذه خبائث تأكل الحسنات وأما ضرره فِي الدُّنْيَا فإنه الألم النقد الحاضر والْعَذَاب الدائم.
وأما كونه لا ضرر عَلَى المحسود فواضح لأن النعمة لا تزول بالحسد وأما منفعته فِي الدُّنْيَا للمحسود فهو أن أهم مقاصد أكثر أبناء الدُّنْيَا إيصال الضَّرَر والهم إلي أعدائهم وَهُوَ متوفر فِي الحسد وقَدْ فعل الحاسد بنفسه مرادهم فأَنْتَ بالحَقِيقَة عدو لنفسك وصديق لعَدُوّكَ ومَعَ هَذَا كله فقَدْ أدخلت السرور عَلَى إبلَيْسَ وَهُوَ أعدي عدو لك ولغيرك ولَوْ عقُلْتُ تماماً لعكست وكلفت نفسك نقيض الحسد إذ أن كُلّ مرض يعالج بضده فمثلاً يكلف لِسَانه الثناء عَلَيْهِ من غَيْرِ كذب ويلزم نَفْسهُ بره إن قدر فهذه الأفعال تعمل مقاربة تطيب قلب المحسود ويحب الحاسد ويصير ما يتكلفه أولاً طبعاً آخراً ولا يعمل بوساوس الشيطان إن هَذَا عجز ونفاق وخوف لأن ذَلِكَ من خدعه ومكائده فهَذَا الدواء إلا أنه مر قل من يقدر عَلَيْهِ قال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} الآية وبالتالي فإن خَيْر ما للمرء أن يكون مستريحاً فِي دنياه لعل الله أن يجعله من أَهْل الْجَنَّة فِي أخراه.
وفِي الدُّنْيَا فِي أمن وفِي رغد هَذَا شَيْء متحقق وقديماً قيل:
..
يَا طَالِبَ العَيْشِ فِي أَمْنٍ وَفِي دَعَةٍ
رَغْداً بَلَا قَتَرٍ صَفْواً بَلَا كَدَرِ
خَلِّصْ فُؤَادَكَ مِنْ غِلٍّ وَمِنْ حَسَدٍ
فَالغِلُّ فِي الْقَلْبِ مِثْلُ الغِلِّ فِي العُنُقِ
…
>?
آخر:
…
مَتَى تَجْمَعَ الحَسْدَ العَمِيْقَ وَغِيْبَةً
…
وَنَماً وَكَذِباً تَخْتَطِبْكَ المَنَاصِبُ
وَإِنْ تجْمَع الإخْلَاصَ والزُهْدَ وَالتُقَى
…
وَعِْلماً وَحِلْماً تَجْتَنِبْكَ المَرَاتِبُ
آخر:
…
(لَمَا عَفَوْتَ وَلم أحْقِدْ عَلَى أَحَدٍ
…
أَرَحْتُ نَفْسِيَ مِنْ هَمِّ العَدَاَواتِ)
(إِنّي أُحَيّي عَدُوّي عِنْدَ رُؤْيَتِهِ
…
لأَدْفَعَ الشَرَّ عَنِّي بِالتَّحِيَاتِ)
وَقَالَ آخر:
إِلْقِ الْعَدُوِّ بِوَجْهِ لا قُطُوبَ بِهِ
يَكَادُ يَقْطُرُ مِنْ مَاءِ البَشَاشَاتِ
فَأحَزَمُ النَّاسِ مَنْ يَلْقَى أَعَادِيَهُ
فِي جِسْمِ حِقْدٍ وَثَوْبٍ مِنْ مَوَدَاتِ
آخر:
…
أُجَامِلُ أَقْوَاماً حَيَاءً وَقَدْ أَرَى
صُدُوْرَهُمُ بَادٍ عَلَى مِرَاضُهَا
…
>?
والطَرِيق الوحيد أن تعلم تماماً أن الْخَيْر كله فِي أن لا يكون فِي نفسك لأحد من المُسْلِمِيْنَ غش ولا تحسد أَحَداً عَلَى خَيْر أعطاه الله إياه ثُمَّ أي ضرر
يحصل لك لَوْ كَانَ غيرك فوقك فِي الْمَال أو فِي المنصب، إنه مسكين، ما نقص من دنياك ولا من آخرتك مثقال ذرة.
وإِذَا رَأَيْت قلبك صافياً محباً لإخوانك من المُسْلِمِيْنَ الْخَيْر كارهاً لهُمْ ما تكره لنفسك، فهذه بشارة للمستقيم، وليسمَعَ إلي ما ورد عن أنس بن مالك قال كنا جلوساً عِنْدَ رسول الله ? فَقَالَ "يطلع الآن عليكم رجل من أَهْل الْجَنَّة فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه، قَدْ علق نعَلَيْهِ بيده الشمال.
فَلَمَّا كَانَ الغد قال النَّبِيّ ? مثل مقالته أيضاً فطلع الرجل عَلَى مثل حاله الأول فَلَمَّا قام النَّبِيّ ? تبعه عَبْد اللهِ بن عمرو أي تبع ذَلِكَ الرجل فَقَالَ إني لاحيتُ أبي، فأقسمت أني لا أدخل عَلَيْهِ ثلاثاً، فإن رَأَيْت أن تؤريني إليك حتي تمضي فعلت قال نعم قال أنس فكَانَ عَبْد اللهِ يحدث أنه بات معه تلك الثلاث الليالي فلم يره يقوم من الليل شيئاً غَيْرَ أنه إِذَا تعارَّ من الليل ذكر الله عز وجل وكبر، حتي قام لصلاة الفجر.
قال عَبْد اللهِ غَيْرَ أني لم أسمعه يَقُولُ إلا خيراً فَلَمَّا مضت الثلاث الليالي وكدت أن أحتقر عمله قُلْتُ يا عَبْد اللهِ لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجر ولكن سمعت رسول الله ? يَقُولُ لك ثلاث مرات يطلع عليكم الآن رجل من أَهْل الْجَنَّة فطلعت أَنْتَ الآن فأردت أن آوي إليك فأنظر عملك فأقتدي بك فلم أرك عملت كبير عمل فما الَّذِي بلغ بك ما قَالَ رَسُولُ اللهِ ? قال ما هُوَ إلا ما رَأَيْت فَلَمَّا وليت دعاني فَقَالَ ما هُوَ إلا ما رَأَيْت غَيْرَ أني لا أجد فِي نفسي لأحد من المُسْلِمِيْنَ غشاً ولا حسداً عَلَى خَيْر أعطاه الله إياه فَقَالَ عَبْد اللهِ هذه التي بلغت بك رواه أَحَمَد بإسناد صحيح.
شِعْراً:
…
كُلُّ العَدَاوَاتِ قَدْ تُرْجَى مَوَدَّتُهَا
…
إلا عَدَاوَةَ مَنْ عَادَاكَ مِنْ حَسَدِ
فَإِنَّهَا نُكْتَةٌ فِي الْقَلْبِ ثَابِتَةٌ
…
ولَيْسَ يَدْفَعُهَا شَيْءٌ سِوَى الصَّمَدِ
آخر:
…
إِنَّ العَرَانِيْنَ تَلْقَاهَا مُحَسَّدَةً
…
وَلَا تَرَى لِلِئَامِ النَّاسِ حُسَّادَا
ج
آخر:
…
مَا ضَرِنْي حَسَدُ اللِّئَامِ وَلم يَزَلْ
…
ذُوْ الفَضْلِ يَحْسُدُهُ ذَوُوْ النُقْصَانِ
يَا بُؤْسَ قَوْمٍ لَيْسَ جُرْمُ عَدُوّهِمْ
…
إلا تَتَابُعُ نَعْمَةِ الرَّحْمَنِ
موعظة: عِبَادَ اللهِ إن داء الحسد من أعظم الأدواء، والابتلاء به من أشد البلوي، يحمل صاحبه عَلَى مركب صعب، ويبعده عن التقوي، ويركبه الأهواء فيظِلّ ويغوي، يضيق صدر الحسود وينفطر قَلْبهُ إِذَا رأي نعمة الله عَلَى أخيه المسلم فيعاني من البؤس واللأوي، ما لا يستطيع أن يبث معه ما يجده من الحزن والقلق، ولا يقدر عَلَى الشكوي، إلا إلي الشيطان ونفسه الأمارة بالسُّوء أو من هُوَ مثله فِي الحسد، فقاتل الله الحسود لا يفعل الْخَيْر ولا يحبه لإخوانه المسلمين، غاية أمنيته زَوَال نعمة الله عن عباده إنه بعمله سالك طَرِيق إبلَيْسَ لعنه الله، فما أوقع الشيطان فِي معصية الله إلا حسده لأبينا آدم وامتناعه من السجود بعد ما أمره الله، وما حمل قابيل عَلَى قتل هابيل إلا حسده لأخيه حيث تقبل الله منه قربانه الَّذِي أراد به وجه الله والدار الآخرة وما منع المشركين والمترفين من اتباع الرسل إلا الحسد والكبر، وما حمل أَهْل اْلكِتَاب عَلَى كراهة الدين الإسلامي وصرف المُسْلِمِيْنَ عن كتاب الله والإيمان بسيد الرسل وخاتمهم إلا ما ذكره الله عنهم {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} الآية، وَقَالَ ?:" الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ". الحاسد لا يضمر إلا غدراً ولا يعمل إلا شراً ولا يدبر إلا مكراً. وجملة القول أن الحاسد ميسر للعسري لا تجدي معه المواعظ والنصائح وقَدْ قيل إن بضاعة إبلَيْسَ خمسة أصناف يبيعها من قوم معروفين، وهي الحسد وأهله العلماء، وأَهْل الحرفة الواحدة، أي كُلّ من يتفق عملهم مسلمين أو غَيْر مسلمين، والكبر وأهله الأنذال والسفلة والسفهاء والحمقاء ومن لا خَيْر فِيه من المحترفين المنحرفين.
شِعْراً:
…
لِكُلِّ امْرِىءٍ شَكْلُ مِنْ النَّاسِ وَحْدَهُ
…
فَأَرْجَحُهُمْ عَقْلاًً أَقَلُهُمْ شَكْلا
وَكُلُ أُنَاسٍ يُعْرَفُوْنَ بِشَكْلِهِمْ
…
فَأْكْثَرُهُمْ شَكْلاً أَقَلُهُمْ عَقْلا
وَإِنَّ كَبِيْرَ العَقْلِ لَيْسَ بِوَاجِدٍ
…
لَهُ بَيْنَ أَلْفٍ حِيْنَ يَفْقِدُهُ مِثْلا
وَكُلُ سَفِيهٍ طَائِشٍ إِنْ فَقَدْتَهُ
…
وَجَدْتَ لَهُ فِي كُلِّ زَاوْيَةٍ عِدْلا
آخر:
…
فَشَرْطُ الفِلاحَةِ غَرْسُ النَّبَات
…
وَشَرْطُ الرّيَاسَةِ غَرْسُ الرِجَّال
فَإِنْ لم تُعَاشِرْ سِوَى كَامِلٍ
…
بَقِيْتَ وَحِيْداً لِعِزِّ الكَمَال
والجور والطغيان، وأهله الملوك والأمراء والوزراء والعظماء، وأعوأنهُمْ من الفسقة والمجرمين، والكيد وأهله النساء، والنمامين والدلالين، والمنسببين وبئست البضاعة بضاعة الشيطان، ويا حَسْرَة المشترين، ويا ندامتهم {يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ} قيل إنه كَانَ رجل يغشي أحد الملوك فيقوم بحذاء الملك فَيَقُولُ أحسن إلي المحسن بإحسانه، فإن المسيء سيكفيكه إساءته، فحسده رجل عَلَى ذَلِكَ المقام، والكلام فسعي به إلي الملك، فَقَالَ إن هَذَا الَّذِي يقوم بحذائك وَيَقُولُ وَيَقُولُ ما يَقُولُ يزعم أنك أبخر، فَقَالَ لَهُ الملك وكيف يصح ذَلِكَ عندِي، قال تدعوه إليك فإنه إِذَا دنا منك وضع يده عَلَى أنفه لئلا يشم رائحة البخر، فَقَالَ لَهُ انصرف حتي أنظر وأتحقق ذَلِكَ، فخرج من عِنْدَ الملك، فدعا الحاسد ذَلِكَ الرجل إلي منزله فأطعمه طعاماً فِيه ثوم فخرج الرجل من عنده وذهب إلي الملك عَلَى عادته وقام بحذاء الملك فَقَالَ أحسن إلي المحسن بإحسانه فإن المسيء سيكفيكه إساءته فَقَالَ لَهُ الملك ادن مني، فدنا منه ووضع يده عَلَى فِيه، مخافة أن يشم الملك منه رائحة الثوم فَقَالَ الملك فِي نَفْسهِ ما أري فلانَا إلا صدَقَ، قال وكَانَ الملك لا يكتب بخطه إلا بجائزةٍ أو صلةٍ فكتب له كتاباً بخطه إلي عاملهِ قال فيه إذا أتاك حاملُ كتابي هَذَا فاذبحه واسلخه، واحش جلده تبناً وابعث به إلي، وأخذ اْلكِتَاب وخرج فلقيه الرجل الَّذِي سعي به إلي الملك وكذب عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: ما هَذَا اْلكِتَاب قال خط الملك لي به صلة فَقَالَ هبه لي فَقَالَ هُوَ لك
فأخذه، الساعي ومضي به إلي عامل الملك، فَقَالَ لَهُ العامل: فِي كتابك أني أذبحك وأسلخك فَقَالَ إن اْلكِتَاب لَيْسَ لي، فالله الله، فِي أمري حتي تراجع الملك مراجعة فذبحه وسلخه وحشي جلده تبناً، وأرسله للملك كعادته وَقَالَ مثل قوله، فتعجب الملك، ثُمَّ عاد الرجل إلي الملك كعادته وَقَالَ مثل قوله، فتعجب الملك، وَقَالَ لَهُ ما فعل اْلكِتَاب، فَقَالَ لقيني رجل هُوَ فلان فاستوهبه مني فوهبته لَهُ، قال لَهُ الملك إنه ذكر لي أنك تزعم أني أبخر قال ما قُلْتُ ذَلِكَ، قال فلم وضعت يدك عَلَى فيك قال لأنه أطعمني طعاماً فِيه ثوم فكرهت أن تشمه، قال صدقت، ارجع إلي مكانك، فقَدْ كفِي المسيء إساءته فَانْظُرْ يا أخي كيف دارت عَلَى الباغي الدوائر واسأل ربك أن يعافيك من هذه الأمراض الفتاكة التي ربما قضت عَلَى حَيَاته وأوصلته فِي الآخرة نار جهنم.
وختاماً فعَلَى اللبيب أن يتجنب الحسد فإنه من خلق الأدنياء وصفة الجهلاء فإن أبصرت بقائم فاعضده ويسر لَهُ السبيل حسب استطَاعَتكَ وإن رَأَيْت نعمة أسبغها الله عَلَى عبد من عباده فاسع إلي مثلها بقلب طاهر ووجدان نقي لعلك أن تبلغها بإذن الله.
فعزيزة النفس إن أبصر غيره فِي أمر يثني عَلَيْهِ به، أو رآه فِي منزلة يغبط عَلَيْهَا فلا يجول فِي وهمه أن يحسده عَلَى نعمته أو يحط من منزلته بل يسعي كُلّ السعي لينال مثل مناله ويرقي مثل رقيه فإن زادت فِيه عزة النفس والإباء فلا يرضي لنفسه إلا بما فوق ذَلِكَ المقام:
شِعْراً:
…
أَسَأْتُ فَمَا عُذْرِيْ إِذَا انْكَشَفَ الغِطَا
وَأَظْهَرَ رَبُّ العَرْشِ مَا أَنَا أسْتُرُ
…
>?
.. إِذَا اللهُ نَادَانِي بِيَوْمِ قِيَامَةٍ
تَعَدَّيْتَ حَدَّ العِلْمِ هَلْ أَنْتَ تُوْجَزُ
أَسَأْتَ إِلى خَلْقِي وَحَقِّي تَرَكْتَهُ
فَأَيْنَ الحَيَا مِنِّي فَإِنِّي أَكْبَرُ
دَعَوْتَ إِلى عِلْمٍ وَأَظْهَرْتَ حِكْمَةً
وأَنْتَ عَلَى الدُّنْيَا عَكُوْفٌ مُشَمِّرُ
وَخَالَفْتَ مَا قَدْ قُلْتَ وَازْدَدْتَ غَفْلَةً
وَقَلْبُكَ لِلَّذَاتِ وَالغِشِّ يُضْمِرُ
ظَنَنْتَ بِأَنِّي مُهْمِلٌ لامْرِءٍ عَصَى
كَأَنَّكَ لم تَعْلم بِأَنَّكَ تُحْشَرُ
هُنَالِكَ يَمْتَازُ المُسِيْؤُنَ كُلُّهُمْ
فَوَا حَسْرَتَا إِنْ كُنْتُ مِمَّنْ يُحَسَّرُ
فَيَا حَيُّ يَا قَيُّوْمُ يَا خَيْرَ رَاحِمٍ
وَمَنْ هُوَ لِلْزَّلَاتِ وَالذَّنْبِ يَغْفِرُ
عَصَيْتُكَ مِنْ لُؤْمِي وَنْفِسي ظَلمتُهَا
وَذَنْبِي فِي عُمْرِي يَزِيْدُ وَيَكْثُرُ
وَلَكِنَّنِي إِنْ جِئْتُ ذَنْباً وَزَلَّةً
أْرَجِيْكَ يَا رَحْمَنُ لِلْوَهْنِ تَجْبُرُ
وَتَغْفِرُ لِي ذَنْبِيْ وَتُصْلِحُ عِيْشَتِيْ
وَتَرْحَمُ آبَائِي فَإِنَّكَ تَقْدِرُ
.. وَأَرْجُوْكَ يَا رَحْمَنُ إِذْ مَا سَتَرْتَنِي
بِدُنْيِايَ فِي يَوْمِ القِيَامَةِ تَسْتُرُ
…
>?
اللَّهُمَّ حبب إلينا الإيمان وزينه فِي قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان وَاجْعَلْنَا مِنْ الراشدين وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيع المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.
" موعظة "
إخواني إن فِي مواعظ الأيَّام والليالي لعبرة لذوي البصائر ركائب أموات تزعج عن مقصورات القصور ثُمَّ تحمل إلي مضائق القبور، فكم قَدْ شاهدتم من شخصيات فِي الأرض، قَدْ وضعت، وَكم قَدْ عاينتم من أبدان ناعمة فِي الأكفان قَدْ لفت وإلي مضيق الإلحاد قَدْ زفت فيا لها من غاية يستبق إليها العباد ويا لَهُ من مضمار يتناوبه جواد بعد جواد ويا لَهُ من هول شديد يعقبه أهوال شداد فتنة قبور وحشر فِي موقف مهيل موقف فِيه تنقطع الإنساب وتخضع فِيه الرقاب وتنسكب فِيه العبرات وتتصاعد فِيه الزفرات ذَلِكَ موقف تنشر فِيه الدواوين، وتنصب فِيه الموازين، ويمد فِيه الصراط، وحينئذ يقع الامتياز فناج مسلم ومكردس فِي النار.
دخل عمر بن عَبْد الْعَزِيز رحمه الله عَلَى سابق البربري وَهُوَ يتمثل بالأبيات المشهورة من قصيدة الأعشي.
…
أَجِدَّكَ لم تَذْكُرْ وِصَاةَ مُحَمَّدٍ
نَبِّي الإلَهِ حِيْنَ أَوْصَى وَأَشْهَدَا
إِذَا أَنْتَ لم تَرْحَلْ بِزَادٍ مِنَ التُّقَى
وَأَبْصَرْتَ بَعْدَ المَوْتِ مَنْ قَدْ تَزَوَّدَا
…
>?
.. نَدِمْتَ عَلَى أَنْ لَا تَكُوْنَ كَمِثْلِهِ
وَأَنَّكَ لم تُرْصِدْ كَمَا كَانَ أَرْصَدَا
…
>?
فغشي عَلَى عمر رحمه الله فَلَمَّا أفاق قال زدنا فَقَالَ القصيدة التي تلي:
…
بِسْمِ الَّذِي أُنِْزلَتْ مِنْ عِنْدِهِ السُّوَرُ
الحَمْدُ للهِ أَمَّا بَعْدُ يَا عُمَرُ
إِنْ ُكْنَت تَعْلَمُ مَا تُبْقِي وَمَا تَذَرُ
فَكُنْ عَلَى حَذَرٍ قَدْ يَنْفَعُ الحَذَرُ
وَاصْبِرْ عَلَى القَدَرِ المَقْدُوْرِ وَارْضَ بِهِ
وَإِنْ أَتَاكَ بِمَا لَا تَشْتَهِي القَدَرُ
فَمَا صَفَى لامْرِىءٍ عَيْشٌ يُسَرُّ بِهِ
إلا وَأَعْقِبَ يَوْماً صَفْوُهُ كَدَرُ
قَدْ يَرْعَوِي المَرْءُ يَوْماً بَعْدَ هَفْوَتِهِ
وَتُحْكِمُ الجَاهِلَ الأيَّامُ وَالعِبَرُ
إِنَّ التُّقَى خَيْرُ زَادٍ أَنْتَ حَامِلُهُ
وَالبِّرُ أَفْضَلُ مَا تَأْتِي وَمَا تَذَرُ
مَنْ يَطْلُبِ الجَوْرَ لَا يَظْفُرْ بِحَاجَتِهِ
وَطَالِبُ العَدْلِ قَدْ يُهْدَى لَهُ الظَّفَرُ
وفِي الهُدَى عِبَرٌ تُشْفَى القُلُوْبُ بِهَا
كَالغَيْثِ يَحْيَى بِهِ مِنْ مَوْتِهِ الشَّجَرُ
ولَيْسَ ذُوْ العِلْمِ بِالتَّقْوَى كَجَاهِلِهَا
وَلَا البَصِيْرُ كَأَعْمَى مَالَهُ بَصَرُ
…
>?
.. والذِّكْرُ فِيه حَيَاةٌ لِلْقُلُوبِ كَمَا
تَحْيَا الْبِلَادُ إِذَا مَا جَاءَهَا المَطَرُ
والعِلْمُ يَجْلَو العَمَى عن قَلْبِ صَاحِبِهِ
كَمَا يُجَلَّى سَوادَ الظُّلْمَةِِ القَمَرُ
لَا يَنْفَعُ الذِّكْرُ قَلْباً قَاسِياً أَبَدَاً
وَهَلْ يَلِيْنُ لِقَوْلِ الوَاعِظِ الحَجَرُ
مَا يَلْبَثُ المَرْءُ أَنْ يَبْلَى إِذَا اخْتَلَفَتُ
يَوْماً عَلَى نَفْسِهِِ الرَّوْحَاتُ وَالبِكَرُ
والمَرْءُّ يَصْعَدُ رَيْعَانُ الشَّبَابِ بِهِ
وَكُلُّ مُصْعِدَةٍ يَوْماً سَتَنْحَدِرُ
وَكُلُّ بَيْتٍ سَيَبْلَى بَعْدَ جِدَّتِهِ
وَمِنْ وَرَاءِ الشَّبَابِ المَوْتُ وَالكِبَرُ
والمَوْتُ جَسْرٌ لِمَنْ يَمْشِيْ عَلَى قَدَمٍ
إِلى الأمُورِ الَّتِي تُخْشَى وتُنْتَظَرُ
فَهُمْ يَمُرُّونَ أَفْوَاجاً وَتَجْمَعُهُمْ
دَارٌ يَصِيْرُ إِلَيْهَا البَدْو والحَظَرُ
كم جَمْعُ قَوْمٍ أشَتَّ الدّهْرُ شَمْلَهُمْ
وَكُلُّ شَمْلٍ جَمِيْعٍ سَوْفَ يَنْتَثِرُ
وَرُبَّ أَصْيَدَ سَامَ الطَّرْفِ مُقْتَضِباً
بِالتّاجِ نِيْرَانُهُ لِلْحَرْبِ تُسْتَعِرُ
.. يَظَلُّ مُفْتَرِشَ الدِّيْبَاجِ مُحْتَجِباً
عَلَيْهِ تُبْنِى قِبَابُ المُلْكِ والحُجَرُ
إِلى الفَنَاءْ وَإِنْ طَالَتْ سَلَامَتُهُمْ
مَصِيْرُ كُلِّ بَنِي أنثَى وَإِنْ كَبُرُوا
إِذَا قَضَتْ زُمَرٌ آجَالهَا نَزَلَتْ
عَلَى مَنَازِلِهِمْ مِنْ بَعْدِهَا زُمَرُ
أَصْبَحْتُمْ جُزُراً لِلْمَوْتِ يَأْخُذُكُمْ
كَمَا البَهَائِمُ فِي الدُّنْيَا لَكُمْ جُزُرُ
أَبَعْدَ آدَمَ تَرْجُونَ الخُلُودَ وَهَلْ
تَبْقَى الفُرُوْعُ إِذَا مَا الأصْلُ يَنْعَقِرُ
ولَيْسَ يَزْجُرُكُمْ مَا تُوعَظُونَ بِهِ
والبَهْمُ يَزْجُرُهَا الرَّاعِي فَتَنْزَجِرُ
لَا تَبْطُرُوْا وَاهْجُرُوا الدُّنْيَا فَإِنَّ لَهَا
غِباً وَخِيْماً وَكُفْرُ النِّعْمَةِ البَطَرُ
ثُمَّ اقْتَدُوا بِالأوْلَى كَانُوا لَكُمْ غُرَراً
ولَيْسَ مِنْ أُمَّةٍ إلا لَهَا غُرَرُ
مَتَى تَكُونُوا عَلَى مِنْهَاجِ أَوَّلِكُمْ
وَتَصْبِرُوا عن هَوَى الدُّنْيَا كَمَا صَبَرُوْا
مَا لِي أَرَى النَّاسَ والدُّنْيَا مُوَليِّةٌ
وَكُلُّ حَبْلِ عَلَيْهَا سَوْفَ يَنْبَتِرُ
لَا يَشْعُرُونَ إِذَا مَا دِيْنَهُمْ نُقِصُوا
.. يَوْماً وَإِنْ نُقِصَتْ دُنْيَاهُمْ شَعِرُوا
حَتَى مَتَى أَكُ فِي الدُّنْيَا أَخَا كَلَفٍ
فِي الخَدَّ مِنّي إِلى لَذّاتِهَا صَعَرُ
وَلَا أَرَى أَثَراً لِلذِّكْرِ فِي جَسَدِي
وَالحَبْلُ فِي الحَجَرِ القَاسِي لَهُ أَثَرُ
لَوْ كَانَ يُسْهِرُ لَيْلِي ذِكْرُ آخِرَتِي
كَمَا يُؤَرِّقُنِي لِلْعَاجِلْ السَّفَرُ
إِذَاً لَدَاوَيْتُ قَلْباً قَدْ أَضَرَّ بِهِ
طُوْلُ السَّقَامِ وَكَسْرُ العَظْمِ يَنْجَبِرُ
ثُمَّ الصَّلاةُ عَلَى المَعْصُوْمِ سَيِّدِنَا
مَا هَبَتْ الرِّيْحُ وَاهْتَزَّتْ بِهَا الشَّجَرُ
…
>?
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ إيماننا ثبوت الجبال الراسيات واشرح صدورنا للإسلام وثبتنا عَلَيْهِ وَاجْعَلْنَا مِنْ حزبك المفلحين وعبادك الصالحين الَّذِينَ لا خوف عَلَيْهمْ ولا هم يحزنون وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
قال ابن القيم رحمه الله:
أركَانَ الكفر أربعة: الكبر والحسد والْغَضَب والشهوة فالكبر يمنعه الانقياد والحسد يمنعه قبول النَّصِيحَة وبذلها والْغَضَب يمنعه العدل والشهوة تمنعه التفرغ للعبادة فإن انهدم ركن الكبر سهل عَلَيْهِ الانقياد وإِذَا انهدم ركن الحسد سهل عَلَيْهِ قبول النصح وبذله وإِذَا انهدم ركن الْغَضَب سهل عَلَيْهِ العدل والتواضع وإِذَا انهدم ركن الشهوة سهل عَلَيْهِ الصبر والعفاف والعبادة.
وزَوَال الجبال عن أماكنها أيسر من زَوَال هذه الأربعة عمن بُلِيَ بِهَا ولا
سيما إِذَا صَارَت هيئات راسخة وملكات وصفات ثابتة فإنه لا يستقيم لَهُ معها عمل البتة. ولا تزكو نَفْسهُ مَعَ قيامها بِهَا، وكُلَّما اجتهد فِي الْعَمَل أفسدته عَلَيْهِ هذه الأربعة وكل الآفات متولدة منها وإِذَا استحكمت فِي الْقَلْب أرته الْبَاطِل فِي صورة الحق والحق فِي صورة الْبَاطِل والمعروف فِي صورة الْمُنْكَر والْمُنْكَر فِي صورة المعروف وقربت منه الدُّنْيَا وبعدت منه الآخرة.
وإِذَا تأملت كفر الأمم رأيته ناشيئاً منها وعَلَيْهَا يقع الْعَذَاب وتَكُون خفته وشدته بحسب خفتها وشدتها فمن فتحها عَلَى نَفْسه فتح عَلَيْهِ أبواب الشرور كُلّهَا عاجلاً وآجلاً، ومن أغلقها عن نَفْسه أغلق عنهُ أبواب الشرور، فإنها تمنع الانقياد والإخلاص والتوبة والإنابة وقبول الحق ونصيحة المُسْلِمِيْنَ والتواضع لله ولخلقه.
(ومنشأ هذه الأربعة) : من جهله بربه وجهله بنفسه فإنه لَوْ عرف ربه بصفات الكمال ونعوت الجلال. وعرف نَفْسهُ بالنقائص والآفات، لم يتكبر ولم يغضب لها، ولم يحسد أَحَداً عَلَى ما آتاه الله، فإن الحسد فِي الحَقِيقَة نوع من معاداة الله، فإنه يكره نعمة الله عَلَى عبده، وقَدْ أحبهَا الله ويحب زوالها عنهُ، والله يكره ذَلِكَ، فهو مضاد لله فِي قضائه وقدره ومحبته وكراهته، ولذَلِكَ كَانَ إبلَيْس عدوه حَقِيقَة، لأن ذنبه كَانَ عن كبر وحسد. فقلع هاتين الصفتين بمعرفة الله وتوحيده، والرِّضَا به وعنه، والإنابة إليه وقلع الْغَضَب بمعرفة النفس، وأنها لا تستحق أن يغضب لها، وينتقم لها فإن ذَلِكَ إيثار لها بالرِّضَا والْغَضَب عَلَى خالقها وفاطرها وأعظم ما تدفع به هذه الآفة أن يعودها أن تغضب لَهُ سُبْحَانَهُ وترضي لَهُ فكُلَّما دخلها شَيْء من الْغَضَب والرِّضَا لَهُ خرج منها مقابله من الْغَضَب والرِّضَا لها وَكَذَا بالعكس.
وَقَالَ رحمه الله: أساس كُلّ خَيْر أن تعلَمَ أن ما شَاءَ الله كَانَ وما لم يشأ لم يكن، فتيقن حينئذ أن الحسنات من نعمه فتشكره عَلَيْهَا، وتتضرع إليه أن لا يقطعها عنكَ، وأن السيئات من خذلانه وعقوبته، فتبتهل إليه أن يحول بينك وبينها، ولا يكلك فِي فعل الحسنات وترك السيئات إلي نفسك وقَدْ أجمَعَ العارفون عَلَى أن كُلّ خَيْر أصله بتوفيق الله للعبد وكل شر أصله خذلانه لعبده وأجمعوا عَلَى أن التَّوْفِيق أن لا يكلك الله إلي نفسك وأن الخذلان هُوَ أن يخلي بينك وبين نفسك فإِذَا كَانَ كُلّ خَيْر فأصله التَّوْفِيق وَهُوَ بيد الله لا بيد الْعَبْد فمفتاحه الدُّعَاء والرغبة والرهبة إليه فمتي أعطي الْعَبْد هَذَا المفتاح فقَدْ أراد أن يفتح لَهُ ومتي أضله عن المفتاح بقي باب الْخَيْر مرتجاً دونه، وَقَالَ أمير الْمُؤْمِنِين عُمَر بن الْخَطَّاب إني لا أحمل هم الإجابة ولكن أحمل هم الدُّعَاء فإِذَا أُلهِمتُ الدُّعَاء فإن الإجابة معه وعَلَى قدر نية الْعَبْد وهمته ومراده ورغبته فِي ذَلِكَ يكون توفيقه سُبْحَانَهُ وإعانته فالمعونة من الله تنزل عَلَى العباد عَلَى قدر همهم ونياتهم ورغبتهم ورهبتهم والخذلان ينزل عَلَيْهمْ عَلَى حسب ذَلِكَ فالله سُبْحَانَهُ أحكم الحاكمين، وأعلم العالمين يضع التَّوْفِيق فِي مواضعه اللائقة به والخذلان فِي مواضعه اللائقة به، وَهُوَ العليم الحكيم وما أتي من أتي إلا من قبل إضاعة الشكر وإهمال الافتقار والدُّعَاء ولا ظفر بمشئة الله وعونه إلا بقيامه بالشكر وصدق الافتقار والدُّعَاء وملاك ذَلِكَ الصبر فإنه من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد فإِذَا قطع الرأس فلا بقاء للجسد.
…
عَلَيْكَ بِتَقْوى اللهِ يِا نَفْسُ سَرْمَدَا
وَلَا تُلْحِقِي بِالخَلْقِ ضُرّاً تَعَمُّدَا
…
>?
.. وَلَا تَحْسِدِي حَيّاً وَلَوْ جَارَ واعْتَدَى
عَلَيْكَ فَمَا يَحْيَى البُغَاةُ مُخَلَّدَا
تَدُوْرُ عَلَى البَاغِي الدَّوَائِرُ عنوةً
وَيَحْيَى سَعِيْدَ ذُوْ الفَضِيْلَةِ أَمْجَدَا
وَكُلُّ حَسُودٍ يَنْخَرُ الحِقْدُ قَلْبَهُ
يَذُوْبُ كَشَمْعٍ فِي سَعِيْرٍ تَوَقَّدَا
يَعِيْشُ وَنَارُ الغَيْضِ تُحْرِقُ كَبِدَهُ
وَإِنْ مَاتَ أَضْحَى الجَمْرُ فِيه مُجَدَّدَا
فَجَازِ أَخَا فَضْلٍ وَرَاعِ ذِمَامَهُ
وَسَامِحْ عَدُواً إِنْ قَلَاكَ وَنَدَّدَا
فَإِنّي رَأَيْتُ الفَضْلَ خَيْرَ ذَخِيْرَةٍ
لِمَنْ رَامَ قَبْلَ المَوْتِ أَنْ يَتَزَوَّدَا
…
>?
موعظة
ج
إخواني إن الغَفْلَة عن الله مصيبة عظيمة قال تعالى: (ولا تكونوا كالَّذِينَ نسوا الله فأنساهم أنفسهم) فمن غفل عن ذكر الله وألهته الدُّنْيَا عن الْعَمَل للدار الآخرة أنساه الْعَمَل لمصالح نَفْسه فلا يسعي لها بما فِيه نفعها ولا يأخذ فِي أسباب سعادتها وإصلاحها وما يكملها وينسي كَذَلِكَ أمراض نَفْسه وقَلْبه وآلامَه فلا يخطر بباله معالجتها ولا السعي فِي إِزَالَة عللها وأمراضها التي تؤل إلي الهلاك والدمار وهَذَا من أعظم العقوبات فأي عقوبة أعظم من عقوبة من أهمل نَفْسهُ وضيعها ونسي مصالحها وداءها ودواءها وأسباب سعادتها وفلاحها وحياتها الأبدية فِي النَّعِيم الْمُقِيم ومن تأمل هَذَا الموضع تبين لَهُ أن كثيراً من الخلق قَدْ نسوا أنفسهم وضيعوها وأضاعوا
حظها وباعوها بثمن بخس بيع المغبون ويظهر ذَلِكَ عِنْدَ الموت ويتجلي ذَلِكَ كله يوم التغابن {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ} الآية.
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ إيماننا بك ثبوت الجبال الراسيات ونور قلوبنا بنور الإيمان وَاجْعَلْنَا هداة مهتدين وأصلح أولاًدنا واغفر لآبائنا وأمهاتنا واجمعنا وإياهم مَعَ عبادك الصالحين فِي جنات النَّعِيم وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آله وأصحابه أجمعين.
(قال فِي منهاج القاصدين)
[فصل] اعْلم أن الْقَلْب بأصل فطرته قابل للهدي، وبما وضع فِيه من الشهوة والهَوَى، مائل عن ذَلِكَ، والتطارد فِيه بين جند الملائكة والشياطين دائم، إلي أن ينفتح الْقَلْب لأحدهما فيتمكن ويستوطن، ويكون اختيار الثاني اختلاساً، كما قال تعالى {مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} وَهُوَ الَّذِي إِذَا ذكر الله خنس وإِذَا وقعت الغَفْلَة انبسط، ولا يطرد جند الشياطين من الْقَلْب إلا ذكر الله تعالى، فإنه لا قرار لَهُ مَعَ الذكر. واعْلم أن مثل الْقَلْب كمثل حصن، والشيطان عدو يريد أن يدخل الحصن ويملكه ويستولي عَلَيْهِ، ولا يمكن حفظ الحصن إلا بحراسة أبوابه، ولا يقدر عَلَى حراسة أبوابه من لا يعرفها ولا يتوصل إلي دفع الشيطان إلا بمعرفة مداخله، ومداخل الشيطان وأبوابه. . صفات الْعَبْد، وهي كثيرةإلا أَنَا نشير إلي الأبواب العظيمة الجارية مجري الدروب التي لا تضيق عن كثرة جنود الشيطان.
فمن أبوابه العظيمة: الحسد، والحرص. فمتي كَانَ الْعَبْد حريصاً عَلَى شَيْء، أعماه حرصه، وأصمه، وغطي نور بصيرته التي يعرف بِهَا مداخل الشيطان. وكَذَلِكَ إِذَا كَانَ حسوداً فيجد الشيطان حينئذٍ الفرصة،
فيحسن عِنْدَ الحريص كُلّ ما يوصله إلي شهوته، وإِذَا كَانَ منكراً أو فاحشاً، ومن أبوابه العظيمة.
الْغَضَب، والشهوة، والحدة فإن الْغَضَب غول العقل، وإِذَا ضعف جند العقل هجم حينئذ الشيطان فلعب بالإنسان. وقَدْ روي أن إبلَيْسَ يَقُولُ: إِذَا كَانَ الْعَبْد حديداً، قلبناه كما يقلب الصبيان الكرة.
ومن أبوابه: حب التزين فِي المنزل، والأثاث فلا يزال يدعو إلي عمارة الدار، وتزيين سقوفها وحيطانها، والتزين بالثياب، والأثاث، فيخسر الإنسان طول عمره فِي ذلك. ومن أبوابه: الشبع فإنه يقوي الشهوة، ويشغل عن الطاعة. ومنها الطمَعَ فِي النَّاس، فإن من طمَعَ فِي شخص، بالغ بالثناء عَلَيْهِ بما لَيْسَ فِيه، وداهنه ولم يأمره بالمعروف، ولم ينهه عن المنكر. ومن أبوابه: العجلة، وترك التثَبِّتْ وقَدْ قال النَّبِيّ ?:" العجلة من الشيطان، والتأني من الله تعالى ". ومن أبوابه: حب الْمَال، ومتي تمكن من الْقَلْب أفسده وحمله عَلَى طلب الْمَال من غَيْر وجهه، وأخرجه إلي البخل وخوفه الفقر فمنع الحقوق اللازمة. ومن أبوابه: حمل العوام عَلَى التعصب فِي المذاهب، دون الْعَمَل بمقتضاها ومن أبوابه أيضاً حمل العوام عَلَى التفكر فِي ذات الله تعالى وصفاته، وفِي أمور لا تبلغها عقولهم حتي يشككهم فِي أصل الدين. ومن أبوابه: سوء الظن بالمُسْلِمِيْنَ فإن من حكم عَلَى مسلم بسوء ظنه، احتقره وأطلق فِيه لِسَانه، ورأي نَفْسهُ خيراً منه. وإنما يترشح سوء الظن بخبث الظان، لأن المُؤْمِن يطلب المعاذير للمؤمنين والمنافق يبحث عن عيوبهم.
وينبغي للإنسان أن يحترز عن مواقفهم التهم، لئلا يساء به الظن،
فهَذَا طرف من مداخل الشيطان وعلاج هذه الأفات سد المداخل بتطهير الْقَلْب من الصفات المذمومة، وسيأتي الكلام عَلَى هذه الصفات إن شَاءَ الله تعالى مفصلاً.
وإِذَا قلعت عن الْقَلْب أصول هذه الصفات، بقي للشيطان بالْقَلْب خطرات واجتيازات من غَيْر استقرار فيمنعه من ذَلِكَ ذكر الله تعالى، وعمارة الْقَلْب بالتقوي. ومثل الشيطان كمثل كلب جائع يقرب منك، فإن لم يكن بين يديك لحم وخبز، فإنه ينزجر بأن تَقُول لَهُ: اخسأ، وإن كَانَ بين يديك شَيْء من ذَلِكَ وَهُوَ جائع، لم يندفع عنكَ بمجرد الكلام، فكَذَلِكَ الْقَلْب الخالي عن قوت الشيطان ينزجر عنهُ بمجرد الذكر. فأما الْقَلْب الَّذِي غلب عَلَيْهِ الهَوَى فإنه يرفع الذكر إلي حواشيه فلا يتمكن الذكر من سويدائه، فيستقر الشيطان فِي السويداء. وإِذَا أردت مصداق ذَلِكَ، فتأمل فِي صلاتك، وانظر إلي الشيطان كيف يحدث قلبك فِي مثل ذَلِكَ الموطن، بذكر السوق، وحساب العالمين، وتدبير أمر الدُّنْيَا واعْلم أنه قَدْ عفِي عن حديث النفس ويدخل فِي ذَلِكَ ما هممت به، ومن ترك ذَلِكَ خوفاً من الله تعالى كتبت لَهُ حسنة، وإن تركه لعائق رجونا لَهُ المسامحة، إلا أن يكون عزماً، فإن العزم عَلَى الخطيئة خطيئة بدَلِيل قوله ?:" إِذَا التقي المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول فِي النار، قيل: ما بال المقتول؟ قال: إنه كَانَ حريصاً عَلَى قتل صاحبه ".
وكيف لا تقع المؤاخذة بالعزم، والأعمال بالنِّيْة، وهل الكبر والرياء إلا أمور باطنة؟ ولَوْ أن إنسانَاً رأي عَلَى فراشه أجنبية ظنها زوجته لم يأثم بوطئها، ولَوْ رأي زوجته وظنها أجنبية أثم بوطئها، وكل هذ معلق بعقَدْ القلب.
وقَدْ ورد فِي الْحَدِيث أن النَّبِيّ ? كَانَ يَقُولُ "يا مثَبِّتْ القُلُوب ثَبِّتْ قلوبنا عَلَى دينك، يا مصرف القُلُوب اصرف قلوبنا إلي طاعتك". وفِي حديث آخر: "مثل الْقَلْب كمثل ريشة بأرض فلاة تقلبِهَا الرياح" واعْلم أن القُلُوب فِي الثبات عَلَى الْخَيْر والشر والتردد بينهما ثلاثة: الأول قلب عمر بالتقوي، وزكي بالرياضة، وطهر عن خبائث الأخلاق، فتنفرج فِيه خواطر الْخَيْر من خزائن الغيب، فيمده الملك بالهُدَى.
الْقَلْب الثاني: قلب مخذول، مشحون بالهَوَى، ودنيس بالخبائث ملوث بالأخلاق الذميمة فيقوي فِيه سلطان الشيطان لاتساع مكانه، فيضعف سلطان الإيمان، ويمتلئ الْقَلْب بدخان الهَوَى، فيعدم النور، ويصير كالعين الممتلئة بالدخان لا يمكنها النظر؛ ولا يؤثر عنده زجر ولا وعظ.
والْقَلْب الثالث: قلب يبتدئ فِيه خاطر الهَوَى، فيدعوه إلي الشر، فيلحقه خاطر الإيمان، فيدعوه إلي الخير. مثاله، أن يحمل الشيطان حملة عَلَى العقل، ويقوي داعي الهَوَى، وَيَقُولُ: أما تري فلانَاً وفلانَاً كيف يطلقون أنفسهم فِي هواها حتي يعد جماعة من العلماء، فتميل النفس إلي الشيطان، فيحمل الملك حملة عَلَى الشيطان، وَيَقُولُ: هل هلك إلا من نسي العاقبة، فلا تغتر بغَفْلَة النَّاس عن أنفسهم، أرَأَيْت لَوْ وقفوا فِي الصيف فِي الشمس ولك بيت بارد، أكنت توافقهم أم تطلب المصلحة؟ أفتخالفهم فِي حر الشمس، ولا تخالفهم فيما يؤول إلي النار فتميل النفس إلي قول الملك، ويقع التردد بين الجندين، إلي أن يغلب عَلَى الْقَلْب ما هُوَ أولي به، فمن خلق للخَيْر يسر لَهُ ومن خلق للشر يسر لَهُ قال تعالى {فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء} اللَّهُمَّ وفقنا لما تحبه وترضاه.
شِعْراً:
…
إِلى كم إِذَا مَا غِبْتُ تُرْجَى سَلَامتي
…
وقَدْ قَعَدْتْ بِي الحَادِثَاتُ وَقَامَتِ
وَعُمّمْتُ مِنْ نَسْجِ القَتِيْرِ عِمَامَةً
…
رُقُومُ البِلَى مَرْقُومَةٌ بِعِمَامَتِي
وَكُنْتَ أَرَى لِي فِي الشَّبَابِ عَلَامَةً
…
فَصِرْتُ وَإِنّي مُنْكِرٌ لِعَلَامَتَي
ومَا هِيَ إلا أَوْبَةٌ بَعْدَ غَيْبَةٍ
…
إِلى الغَيْبَةِ القُصْوَى فَثَمَّ قِيَامَتِي
كَأَنِيْ بِنَفْسِي حَسْرَةً وَنَدَامَةً
…
تُقَطَّعُ إِذْ لم تُغْنِ عني نَدَامَتِي
مُنَى النَّفْسِ مِمَّا يُوْطِيءُ المَرْءَ عَشْوَةً
إِذَا النَّفْسُ جَالَتْ حَوْلَهُنَّ وَحَامَتِ
وَمَنْ أَوْطَأَتْهُ نَفْسُهُ حَاجَةً فَقَدْ
أَسَاءَتْ إِليْهِ نَفْسُهُ وَألامَتِ
أَمَا والَّذِي نَفْسِيْ لَهُ لَوْ صَدَقْتُهَا
لَرَدَّدْتُ تَوْبِيْخِي لَهَا وَمَلَامَتِي
فَلِلَّهِ نَفْسٌ أَوْطَأَتْنِي مِنَ العَشَا
حُزُوْناً وَلَوْ قَوَّمْتُهَا لَاسْتَقَامَتِ
وللهِ يَوْمُ أَيَّ يَومٍ فَظَاعَةً
وَأَفْظَعُ مِنْهُ بَعْدَ يَوْمُ قِيَامَتِي
وللهِ أَهْلِي إِذْ حَبَوْنِيْ بِحُفْرَةٍ
وَهُمْ بِهَوانِي يَطْلُبُونَ كَرَامَتِي
وللهِ دُنْيَا لَا تَزَالُ تَرَدُّنِي
إِبَاطِيْلُهَا فِي الجَهْلِ بَعْدَ اسْتِقَامَتِي
…
>?
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ إيماننا بك ومحبتك فِي قلوبنا ثبوت الجبال الراسيات واعصمنا يا مولانَا مِنْ جَمِيعِ الموبقات ووفقنا للعمل بالباقيات الصالحات
وارفع منازلنا فِي فسيح الجنات وارزقنا النظر إلي وجهك الكريم يا حكيم يا عليم يا حي يا قيوم وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. .
(فَصْلٌ)
تكلم أحد العلماء فِي بيان مداخل الشيطان إلي القلوب
فَقَالَ رحمه الله اعْلم أن الْقَلْب مثاله مثال حصن رفيع والشيطان عدو يريد أن يدخل الحصن ويملكه ويستولي عليه.
ولا يقدر عَلَى حفظ الحصن إلا بحراسة أبواب الحصن ومداخله ومواقع ثلمه، ولا يقدر عَلَى حراسة أبوابه من لا يعرف أبوابه.
وحماية الْقَلْب عن فساد الشيطان فرض عين واجب عَلَى كُلّ عبد مكلف، وما لا يتوصل إلي الواجب إلا به فهو واجب.
ولا يتوصل إلي دفع الشيطان إلا بمعرفة مداخله، فصَارَت معرفة مداخل الشيطان واجبة.
ومداخل الشيطان وأبوابه صفات الْعَبْد نحو الشهوة والْغَضَب والحدة والطمَعَ وغيرها وهي كثيرة، ولكنا نشير إلي معظم وسائله فِي إغواء الخلق وتسلطه عَلَيْهمْ بِهَا إن شَاءَ الله.
وجملتها وسائل عشرة نذكرها ونذكر كيفية علاجها والتخلص منها، فهذان تقريران.
التقرير الأول: فِي ذكرنا الوسيلة الأولي الحسد والحرص، فمن حصل عَلَى هاتين الخصلتين عمي وصم، وهما من أعظم مداخل الشيطان وأكبر وسائله.
وقَدْ روي أن نوحاً عليه السلام لما ركب البحر وحل فِي السَّفِينَة من كُلّ زوجين اثنين كما أمر فرأي فِي السَّفِينَة شيخاً لم يعرفه.
فَقَالَ لَهُ نوح: من أدخلك؟ قال: دخلت لأصيب قُلُوب أصحابك فتَكُون قُلُوبهمْ معي وأبدأنهُمْ معك.
فَقَالَ نوح: أخرج يا عدو الله فإنك رجيم، فَقَالَ إبلَيْسُ: خمس أهلك بهن النَّاس وسأحدثك مِنْهُمْ بثلاث، ولا أحدثك باثنين.
فأوحي إلي نوح إنه لا حَاجَة لك إلي الثلاث، مره يحدثك بالاثنين.
فَقَالَ: ما الاثنتان؟ فَقَالَ: هما اللتان لا تكذباني، هما اللتان لا تخلفاني بهما أهلك النَّاس الحرص والحسد.
فبالحسد لعنت وجعلت شيطانَاً رجيماً، والحرص أصبت حاجتي من آدم، أبيح لآدم الْجَنَّة كُلّهَا إلا الشجرة التي عرف بِهَا فوسوست لَهُ حتي أكلها.
الوسيلة الثَّانِيَة: الشهوة والْغَضَب فإنهما من أعظم المكايد للشيطان، فمهما غضب الإنسان لعب لَهُ الشيطان، وعن بعض الأنبياء أنه قال لإبلَيْسَ: بأي شَيْء تغلب ابن آدم؟ قال: آخذه عِنْدَ الْغَضَب وعِنْدَ الهوي.
وظهر إبلَيْسُ لراهب، فَقَالَ: أي أَخْلاق بني آدم أعون لك عليهم؟ فَقَالَ: الحدة، إن الْعَبْد إِذَا كَانَ حديداً قلبناه كما تقلب الصبيان الكرة.
وقيل لإبلَيْسَ: كيف تقلب ابن آدم؟ فَقَالَ: إِذَا رضي جئت حتي أكون فِي قَلْبهِ، وإِذَا غضب جئت حتي أكون عَلَى رأسه.
الوسيلة الثالثة: حب الشهوات والزينة فِي الدُّنْيَا فِي الثياب والأثاث والدور والمراكب، فإن الشيطان إِذَا رأي ذَلِكَ غالباً عَلَى قلب إنسان باض فِيه وفرخ.
فلا يزال يدعوه إلي عمارة الدُّنْيَا وتزيين سقوفها وحيطانها وتوسيع الأبنية، ويدعوه إلي التزين بالأثواب النفيسة ويستسخره طول عمره.
فإِذَا أوقعه فيها فقَدْ استغني عن معاودته فإن بعض ذَلِكَ يجر إلي بعض، فلا يزال يؤديه من شَيْء إلي شَيْء إلي أن يستاق إليه أجله فيموت وَهُوَ فِي بحر الأماني يعوم، وفِي سبيل الضلال يخوض، ومن ذَلِكَ يخشي سوء الخاتمة نعوذ بِاللهِ منها.
الوسيلة الرابعة: الطمَع، فإِذَا كَانَ الطمَع غالباً عَلَى الْقَلْب لم يزل الشيطان يحسن لَهُ التصنع لمن طمَعَ فِيه حتي يصير المطموع فِيه كأنه معبوده.
وقَدْ قال الرَّسُول ? "إياكم واستشعار الطمَع فإنه يشرب الْقَلْب شدة الحرص ويختم عَلَى القُلُوب بطابع حب الدُّنْيَا، وَهُوَ مفتاح كُلّ سيئة، وسبب إحباط كُلّ حسنة".
هَذَا هُوَ الغاية فِي الْخُسْرَانُ والهلاك.
الوسيلة الخامسة: العجلة فِي الأمور وكثرة الطيش والفشل، وروي عن رسول الله ? أنه قال "الأناة من الله والعجلة من الشيطان".
وروي أنه لما ولد عيسي عليه السلام أتت الشياطين إبلَيْسَ فَقَالُوا: أصبحت الأصنام قَدْ نكست رؤوسها فَقَالَ: هَذَا حادث قَدْ حدث مكانكم فطار حتي جَاءَ خافقي الأرض.
فلم يجد شيئاً فوَجَدَ عيسي عليه السلام قَدْ ولد وإِذَا الملائكة قَدْ حفت حوله.
فَقَالَ لهُمْ إن نبياً قَدْ ولد البارحة، ما حملت أنثي قط ولا وضعت إلا وأنَا بحضرتها إلا هَذَا فاستيأسوا من عبادة الأصنام بعد هذه اللَّيْلَة ولكن ائتوا بني آدم من قبل الخفة والعجلة.
عصمنا الله وإياكم من الزلل ووفقنا لصالح الْعَمَل وهدانَا بفضله
سبيل الرشاد وطَرِيق السداد إنه جل شأنه نعم المولي ونعم النصير وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
الوسيلة السادسة: الفتنة بالدراهم والدنانير وسائر أصناف الأموال والعروض والدواب والعقارات وكل ما يكون فضله عَلَى قدر الحاجة والقوت فهو مستقر الشيطان.
وروي أن الرَّسُول ? لما بعث، قال إبلَيْس لشياطينه: لَقَدْ حدث أمر فانظروا ما هُوَ، فانطلقوا ثُمَّ جاءوا وقَالُوا: ما ندري قال إبلَيْس: أَنَا آتيكم بالخبر.
فذهب وجَاءَ، قال: قَدْ بعث مُحَمَّد ?، قال: فجعل يرسل شياطينه إلي أصحاب الرَّسُول ? فينصرفون خائبين، فيقولون: ما صحبنا قوماً قط مثل هؤلاء، نصيب مِنْهُمْ ثُمَّ يقومون للصلاة فيمحون ذلك.
فَقَالَ إبلَيْس: رويداً بِهُمْ عسي الله أن يفتح لهُمْ الدُّنْيَا فهناك تصيبون حاجتكم منهم.
الوسيلة السابعة: البخل وخوف الفقر فإن البخل هُوَ أصل لكل خطيئة، وروي عن إبلَيْسَ لعنه الله أنه قال: ما غلبني ابن آدم فلن يغلبني فِي ثلاث، آمره أن يأخذ الْمَال من غَيْر حقه وينفقه فِي غَيْر حقه ويمنعه من مستحقه.
وَقَالَ سفيان الثوري: لَيْسَ للشيطان سلاح عَلَى الإنسان مثل خوف الفقر، فإِذَا قبل ذَلِكَ منه أخذ فِي الْبَاطِل ومنع من الحق وتكلم بالهَوَى وظن بربه السُّوء، وَهُوَ من أعظم الآفات عَلَى الدين.
الوسيلة الثامنة: سوء الظن بالمُسْلِمِيْنَ وقَدْ قال تعالى {اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} .
ومن حكم بشَيْء عَلَى غيره بالظن فإن الشيطان يبعثه عَلَى أن يطول فِيه اللسان بالغيبة فيهلك، أو يقصر فِي القيام بحقوقه أو يتواني فِي إكرامه أو ينظره بعين الاحتقار أو يري نَفْسهُ خيراً منه.
وكل ذَلِكَ من المهلكات، فمهما رَأَيْت إنسانَاً يسيء الظن بِالنَّاسِ طالباً لعيوبهم فاعْلم أنه خبيث فِي الباطن، فإن المُؤْمِن يطلب المعاذير، والمنافق يطلب العيوب للخلق.
الوسيلة التاسعة: الشبع من الطعام والتأنق فِي المآكل الفاخرة، فإن الشبع يقوي الشهوات وهي أسلحة الشيطان التي بِهَا يصول.
وروي أن إبلَيْسَ ظهر يوماً ليحيي بن زكريا عليه السلام فرأي عَلَيْهِ معاليق من كُلّ شَيْء، فَقَالَ لَهُ يحيي عليه السلام: ما هذه المعاليق.
فَقَالَ: هذه هِيَ الشهوات التي أصيب بِهَا بني آدم، فَقَالَ: هل لي منها شَيْء؟ فَقَالَ: ربما شبعت فتثاقلت عن الصَّلاة وعن الذكر.
فَقَالَ: هل غَيْرَ ذلك؟ قال: لا، فَقَالَ يحيي: لله عَلَىَّ أن لا أملأ بطني، فَقَالَ إبلَيْس: عَلَى لله لا أنصح مسلماً.
الوسيلة العاشرة: تعاطي العوام الَّذِينَ لم يمارسوا العلوم ولم يتبحروا فيها بالتفكير فِي ذات الله عز وجل وصفاته وفِي الأمور التي لا تبلغها عقولهم حتي يؤدي ذَلِكَ إلي الاعتقادات الكفرية وهم لا يشعرون.
وهم فِي غاية ما يكونون من الفرح والسرور والاطمئنان إلي ما وقع فِي صدورهم.
وهم فِي غاية الخطأ ويظنون أن ما اعتقدوه هُوَ العلم والبصيرة، فما هَذَا حاله يكون من أعظم الأبواب للشيطان فِي اللعب بعقولهم وإيقاعهم فِي الأمور المكروهة.
فهذه وسائل الشيطان ومداخله إلي الْقَلْب وهي كثيرة، وفيما ذكرناه تنبيه عَلَى ما ورائها.
وبالجملة فلَيْسَ فِي الآدمي صفة مذمومة إلا وهي سلاح للشيطان ومدخل من مداخله.
التقرير الثاني: فِي بيان العلاج فِي دفعها وإزالتها، اعْلم أن علاج هذه الأمور وإزالتها إنما يكون بالدُّعَاء إلي الله والالتجَاءَ إليه فِي دفعها وإزالتها، وبالاجتهاد فِي قلع هذه الصفات المذمومة عن الْقَلْب، والعناية فِي ذكر الله عز وجل، فهذه دوافع ثلاثة نذكرها.
الدافع الأول: يكون باللجَاء إلي الله بالدُّعَاء راجياً منه تحصيل الألطاف الخفية فِي إبعاد الشياطين وإزالتهم، وعن عبد الرحمن بن أبي ليلي، قال: كَانَ الشيطان يأتي الرَّسُول ? وبيده شعلة نار فيقوم بين يديه وَهُوَ يصلي فيقَرَأَ ويتعوذ فلا يذهب.
فأتي جبريل عليه السلام إلي النَّبِيّ ? فَقَالَ لَهُ ?: قل أعوذ بكلمَاتِ الله التامَاتِ التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما يلج فِي الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها.
ومن شر فتن الليل والنَّهَار وطوارق الليل والنَّهَار إلا طارقاً يطرق بخَيْر يا رحمن، فطفيت شعلته وخر وجهه.
وعن الحسن البصري أنه قال: نبئت أن جبريل أتي إلي رسول الله ?، فَقَالَ: إن عفريتاً من الجن يكيدك فإِذَا أويت إلي فراشك فاقَرَأَ آية الكرسي.
وعن الرَّسُول ? أنه قال: أتاني شيطان فنازعني ثُمَّ نازعَني فأخذت بحلقه والَّذِي بعثني بالحق ما أرسلته حتي وجدت برد لِسَانه عَلَى يدي، ولولا دعوة أخي سليمان لأصبح طريحاً حتي تنظروا إليه.
الدافع الثاني: العناية فِي إِزَالَة هذه الصفات المذمومة من القُلُوب وقلعها منها فإن الشيطان مثل الكلب فِي التسلط عَلَى الإنسان.
فإِذَا كَانَ الإنسان متصفا بهذه الصفات الذميمة من الْغَضَب والحسد والحرص والطمَع وغيرها كَانَ بمنزلة من يكون بين يديه خبز ولحم فإن الكلب لا محالة يتهور عَلَيْهِ ويتوثب ولا يندفع غالباً إلا بمشقة شديدة، وإن لم يكن متصفاً بِهَا لم يطمَع فِيه لأنه لا داعي لَهُ هنالك ويكون دفعه بأسهل ما يكون وأيسره فإنه يندفع بالنهر والخسا والزجر، فتزال بنقائضها.
فيزال الْغَضَب بالرضاء والسكينة، ويزال الكبر بالتواضع، ويزال الحسد بمعرفة حق المحسود وأن الَّذِي اختص به فضل من الله فلا يمكن دفعه.
ويزال الطمَع بالورع والاكتفاء بما أعطاه الله عز وجل، ويزال الحرص بتحقيق حال الدُّنْيَا وانقطاعها بالموت.
وهكَذَا تفعل فِي كُل خصلة مذمومة بالاجتهاد فِي إزالتها.
الدافع الثالث: ذكر الله تعالى، وإليه الإشارة بقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ منَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} .
والمعني أنَّهُمْ إِذَا ألمَّ بقُلُوبهمْ شيء من هذه الصفات الذميمة فزعوا إلي ذكر الله تعالى وتذكروه، فعِنْدَ ذَلِكَ يحصل التبصر لهُمْ فِي عواقب أمورهم.
نعم الذكر لا يكون طارداً للشيطان إلا إِذَا كانت القُلُوب معمورة بالخوف والتقوي.
فأما إِذَا كانت خالية عن ذَلِكَ فربما يكون الذكر غَيْرَ مُجْدٍ، ومثال هَذَا من يطمَعَ فِي شرب الدواء قبل الاحتمي والمعدة مشحونة بغليظ الطعام ويطمَع فِي أنه ينفعه كما ينفع الَّذِي يشربه بعد الاحتمي وتخلية المعدة عَن الأطعمة.
فالذكر هُوَ الدواء والتقوي هُوَ الاحتمي، فإِذَا حصل الذكر فِي قلب فارغ عن غَيْر الذكر اندفع الشيطان كما تندفع العلة بنزول الدواء فِي معدة خالية عَن الأطعمة كما أشار إليه تعالى بقوله:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} .
اللَّهُمَّ إنا نسألك حياة طيبة، ونفساً تقيةً، وعيشةً نقيةً، وميتةً سويةً، ومرداً غَيْر مخزٍ ولا فاضحٍ.
اللَّهُمَّ اجعلنا من أَهْل الصلاح والنجاح والفلاح، ومن المؤيدين بنصرك وتأييدك ورضاك يا رب العالمين.
" اللَّهُمَّ مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الْخَيْر إنك عَلَى كُل شيء قدير ".
يا ودود يا ذا العرش المجيد يا مبدئ يا معيد يا فعال لما تريد نسألك بنور وجهك الَّذِي ملأ أركَانَ عرشك وبقدرتك التي قدرت بِهَا عَلَى جَمِيع خلقك وبِرَحْمَتِكَ التي وسعت كُلّ شيء لا إله إلا أَنْتَ أن تغفر ذنوبنا وسيئاتنا وأن تبدلها لنا بحسنات إنك جواد كريم رؤوف رحيم.
اللَّهُمَّ افتح لدعائنا باب القبول والإجابة وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيع المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين.
(فَصْلٌ)
قال رجل للحسن يا أبا سعيد أينام الشيطان فتبسم وَقَالَ لَوْ نام لاسترحنا.
فإِذَاً لا خلاص للمُؤْمِن منه نعم سبيل إلي دفعه وتضعيف قوته قال
النَّبِيّ ?: " إن المُؤْمِن ينضي شيطانه كما ينضي أحدكم بعيره فِي سفره ".
وَقَالَ ابن مسعود: شيطان المُؤْمِن مهزول
وَقَالَ قيس بن الحجاج قال لي شيطاني دخلت فيك وأنَا مثل الجزور وأنَا الآن مثل العصفور قُلْتُ ولم ذاك قال تذيبني بذكر الله تعالى.
وعن أبي بكر رضي الله عنه قال قَالَ رَسُولُ اللهِ ? عليكم بلا إله إلا الله والاستغفار فأكثروا مِنْهُمَا فإن إبلَيْسَ قال أهلكت بني آدم بالذُّنُوب وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار.
فَلَمَّا رَأَيْت ذَلِكَ أهلكتهم بالأهواء وهم يحسبون أنَّهُمْ مهتدون رواه الحافظ أبو يعَلَى الموصلي وَقَالَ مجاهد ما من شيء أكسر لظهر إبلَيْسَ من " لا إله إلا الله ".
وَقَالَ عباس الدوري سمعت يحيي بن معين يَقُولُ كنت إِذَا دخلت منزلي قرأت آية الكرسي مرة.
فبينما أَنَا ذات ليلة أقرؤها فإِذَا هاتف يَقُولُ كم تقَرَأَ هذه لَيْسَ أحد يحسن يقرؤها غيرك.
فقُلْتُ مجيباً لَهُ وأري هَذَا يسؤك وَاللهِ لأزيدنك فصرت أقرؤها فِي اللَّيْلَة خمسين مرة أو ستين مرة قال عباس فحدثت مُحَمَّد بن سهل فَقَالَ كَانَ جرياً عَلَى الإنس والجن أو كما قال.
وَقَالَ بشر بن منصور عن وهيب بن الورد خرج رجل إلي الجبانة بعد ساعة من الليل فسمَعَ حساً وأصواتاً شديدةً وجئ بسرير وجَاءَ شيء جلس عَلَيْهِ واجتمَعَ إليه جنود.
ثُمَّ صرخ من لي بعروة بن الزبير فلم يجبه أحد حتي تابع ما شَاءَ الله من الأصوات فَقَالَ واحد مِنْهُمْ أَنَا أكفيكه.
قال: فتوجه نحو الْمَدِينَة وأنَا أنظر ثُمَّ أوشك الرجعة فَقَالَ لا سبيل إلي عروة قال ويلك لم يَقُولُ كلمَات إِذَا أصبح وإِذَا أمسي فلا يخلص إليه.
قال الرجل فَلَمَّا أصبحت قُلْتُ لأهلي جهزوني فأتيت الْمَدِينَة فسألت عنهُ حتي دللت عَلَيْهِ فإِذَا شيخ فقُلْتُ شيئاً تقوله إِذَا أصبحت وإِذَا أمسيت.
فأبي أن يخبرني فأخبرته بما رَأَيْت وبما سمعت فَقَالَ ما هُوَ غَيْر أني أَقُول إِذَا أصبحت.
آمنت بِاللهِ العَظِيم وكفرت بالجبت والطاغوت واستمسكت بالعروة الوثقي لا انفصام لها والله سميع عليم.
إِذَا أصبحت قُلْتُ ثلاث مرات وإِذَا أمسيت قُلْتُ ثلاث مرات.
وعن ابن عباس أنه قال إن الشياطين قَالُوا لإبلَيْسَ يا سيدنا إنا لنفرح بموت العَالم ما لا نفرح بموت العابد والعَالم لا نصيب منه.
قال انطلقوا فانطلقوا إلي عابد وأتوه فِي عبادته فَقَالُوا نريد أن نسألك فَقَالَ سل.
فَقَالَ إبلَيْسُ هل يقدر ربك أن يجعل الدُّنْيَا فِي جوف بيضة قال لا أدري قال أترونه كفر فِي سماعه.
ثُمَّ جَاءَ إلي رجل عَالم فِي حلقة يضاحك أصحابه فَقَالُوا إنا نريد أن نسألك فَقَالَ سل.
فَقَالَ هل يقدر ربك أن يجعل الدُّنْيَا فِي جوف بيضة قال نعم قال كيف.
قال يَقُولُ كن فيكون، قال أترون ذَلِكَ لا يعدو نَفْسهُ هَذَا يفسد عَلَىَّ عالَمَاً كثيراً.
.. حَيَاتُكَ فِي الدُّنْيَا قَلِيْلُ بَقاؤُهَا
…
وَدُنْيَاكَ يَا هَذَا شَدِيْدُ عناؤُهَا
وَلَا خَيْرَ فِيه غَيْرَ زَادٍ مِنَ التَّقَي
…
يُنَالُ بِهِ جَنَّاتُ عَدْنٍ وَمَاؤُهَا
بَلَى إِنّهَا لِلْمُؤْمِنِينَ مَطِيّةً
…
عَلَيْهَا بُلُوغُ الْخَيْرِ وَالشَرُّ دَاؤُهَا
وَمَنْ يَزْرَعِ التَقْوى بِهَا سَوْفَ يَجْتَنِي
…
ثِمَاراً مِنَ الفِرْدَوْسِ طَابَ جَنَاؤُهَا
نُؤَمّلُ أَنْ نَبْقَى بِهَا غَيْرَ أَنَّنَا
…
عَلَى ثِقَةٍ أَنَّ الْمَمَاتَ انْتِهَاؤُهَا
فَكُنْ أَيُهَا الإنسان فِي الْخَيْرِ رَاغِباً
…
يَلُوحُ مِنَ الطَّاعَاتِ فِيكَ بَهَاؤُهَا
وَجَانِبْ سَبِيْلَ الغَيِّ وَاتْرُكْ مَعَاصِياً
…
يُذِيبُكَ مِنْ نَّارِ الجَحِيْمِ لَظَاؤُهَا
فَلَابُدَّ يَوْماً أَنْ تَمُوْتَ بِمَشْهَدٍ
…
يُسَاعِدُ مَنْ نَاحَتْ عَلَيْكَ بُكَاؤُهَا
وَتَنْزِل قَبْراً – لَا أَبَالَكَ – مُوْحِشاً
…
تَكُونُ ثَرَى أَمْ عَلَيْكَ ثَرَاؤُهَا
وَتَبْقَى بِهِ ثَاوٍ إِلى الحَشْرِ وَالجَزَا
…
وَنَفْسُكَ يَبْدُو فِي الحِسَابِ جَزَاؤُهَا
فَإِمَّا تَكُونُ النَّفْسُ ثَمَّ سَعِيدَةً
…
فَطُوْبَى وَإلا فَالضَّرِيْعُ غِذاؤُهَا
يُسَاقُ جَمِيْعُ النَّاسِ فِي مَوْقِفِ القَضَا
…
وَتُنْشَرُ أَعْمَالٌ يَبِيْنُ وَبَاؤُهَا
هُنَالِكَ تَبْدُو لِلْعِبَادِ صَحَائِفٌ
…
فَتُوضَعُ فِي المِيْزَانِ وَالذَنْبُ دَاؤُهَا
وَكم مِنْ ذَلِيْلٍ آخِذٍ بِشِمَالِهِ
…
صَحِيفَتَهُ السَّوْدَا الشَّدِيدُ بَلَاؤُهَا
وَآخَرُ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ آخِذٌ
…
صَحِيفَتَهُ البَيْضَاءَ طَابَ لِقَاؤُهَا
فَيَأْتِي نَبِيُّ اللهِ لِلرَّبِ سَاجِداً
…
فَيُثْنِي بِنَعْمَاءِ يَجْلُّ ثَنَاؤُهَا
فَيْدْعُوْهُ رَبُّ العَرْشِ: سَلْنِي فَإِنَّنِي
…
لِنَفْسِكَ بِالمَحْبُوْبِ عِنْدِي رِضَاؤُهَا
فَقَالَ: إِلَهِي أُمَّتِي مِنْكَ تَرْتَجْيِ
…
لأَشْفَعَ بَعْدَ الإذْنِ فَهْوَ مُنَاؤُهَا
فَيُعْطِيهِ مَوْلَاهُ الكَرِيْمُ شَفَاعَةً
…
لأُمَّتِهِ الغَرَّاءِ طَابَ هَنَاؤُهَا
فَيَرْجِعُ طَهَ مُسْتَقِيْمٌ سُرُورُهُ
…
تَخَالُ بِهِ البُشْرَى جَلِياً ضِيَاؤُهَا
فَيَحْمَدُ مَوْلَاهُ الجَلِيْلَ ثَنَاؤُهُ
…
عَلَى نِعَمٍ لَا يُسْتَطَاعُ انْحِصَاؤُهَا
هُنَالِكَ أَمِّ المُصْطَفَى جَنَّةَ العَلَا
…
وَأُمَّتُهُ تَقْفُوْا كَذَا شُهَدَاؤُهَا
وَيَسْقِي رَسُولُ اللهِ مَنْ شَاءَ كَوْثَراً
…
بَآنِيَةٍ عَدَّ النَّجُومِ اقْتِفَاؤُهَا
فَيَارِبُّ أَوْرِدْنَا جَمِيْعاً لِحَوْضِهِ
…
لِتُرْوَى نُفُوْسٌ مِنْهُ طَالَ ظَمَاؤُهَا
وَأتْمِمْ لَنَا حُسْنَ الخِتَامِ إِذَا دَنَتْ
…
وَفَاةٌ وَحَانَتْ لِلْحَيَاةِ انْمِحَاؤُهَا
وَهَوِّنْ عَلَى الرُّوْحِ الْمَمَاتَ فَإِنَّهَا
…
تُحِبُّ البَقَا لَكِنْ لِقَاكَ هَواؤُهَا
وفِي القَبْرِ ثَبْتْهَا عَلَى قُوْلِكَ الهُدَى
…
إِذَا سُئٍلَتْ كَيْ يَسْتَقِيْمَ بَقَاؤُهَا
وَإِنْ نُفِخَتْ فِي الصُّوْرِ نَفْخَةُ بَعْثِنَا
…
فَقُلْ أَنْتُمُ أَهْلُ اليَمْيِنِ أولَاؤُهَا
فنَحْنُ اعْتَمَدنَا الفَضْلَ مِنْكَ مَعَ الرَّجَا
…
فَحَقَّقْ رَجَا نَفْسٍ لَدَيْكَ رَجَاؤُهَا
وَصَلِّ عَلَى المُخْتَارِ طَهَ مُحَمَّدٍ
…
شَفِيعِ البَرَايَا يَوْمَ يَأْتِي نِدَاؤُهَا
وَآلِ وَأَصْحَابِ مَدَى الدَّهْرِ مَا بَدَا
…
نَهَارٌ وَمَا جَنَّ اللَّيَالِي دُجَاؤُهَا
انتهى
اللَّهُمَّ إنك تعلم سرنا وعلانيتنا وتسمَعَ كلامنا وتري مكاننا لا يخفِي عَلَيْكَ شيء من أمرنا نَحْنُ البؤساء الفقراء إليك المستغيثون المستجيرون بك نسألك أن تقيض لدينك من ينصره ويزيل ما حدث من البدع والمنكرات ويقيم علم الجهاد ويقمَع أَهْل الزيغ والكفر والعناد ونسألك أن تغفر لنا ولوالدينا وَجَمِيع المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين.
موعظة
إخواني أين أحبابكم الَّذِينَ سلفوا أين أترابكم الَّذِينَ رحلوا وانصرفوا، أين أصحاب الأموال وما خلفوا.
ندموا والله عَلَى التفريط يا ليتهم عرفوا هول مقام يشيب منه الوليد، إِذَا {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} .
فواعجباً لك كُلَّما دعيت إلي الله توانيت، وكُلَّما حركتك المواعظ إلي الخيرات أبيت، وعَلَى غيك وجهلك تماديت، وَكم حذرت من المنون فما التفت إلي قول الناصح وتركته وما باليت.
يا من جسده حي ولكن قَلْبهُ ميت، ستعاين عِنْدَ قدوم هادم اللذات ما لا تشتهي وتريد {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} .
كم أزعج الموت نفوساً من ديارها، وَكم أتلف البلي من أجساد منعمة لم يدارها، وَكم أذل فِي التُّرَاب وجوها ناعمة بعد رفعتها واستقرارها.
انتبه يا أخي فالدُّنْيَا أضغاث أحلام، ودار فناء لَيْسَتْ بدار مقام، ستعرف وتفهم نصحي لك بعد أيام.
وما غاب عنكَ ستراه عَلَى التمام إِذَا أكشف الغطاء عنكَ وصار بصرك حديد، وهناك تندم ولات ساعة ندم.
شِعْراً:
قُلْ لِلَّذِي أَلِفَ الذُّنُوبَ وأجْرَمَا
…
وغَدَ عَلَى زَلَاّتِهِ مُتَنَدِمَا
لَا تَيْأَسَنْ واطْلُبَ كَرِيماً دَائِمَاً
…
يُوْلِي الجَمِيْل تَفَضُلاً وتَكَرُّمَا
يَا مَعْشَرَ العَاصِيْنَ جُوْدٌ وَاسِعٌ
…
عِنْدَ الإلَه لِمَنْ يَتُوبُ ويَنْدَمَا
يَا أَيُّهَا الْعَبْدُ المُسِيء إِلى مَتَى
…
تُفْني زَمَانَكَ فِي عَسَى ولَرُبَّمَا
بَادِرْ إِلى مَوْلَاكَ يَا مَنْ عُمْرُهُ
…
قَدْ ضَاعَ فِي عِصْيَانِهِ وتَصَرَّمَا
واسْأَلَهُ تَوفِيقاً وعَفْواً ثُمَّ قُلْ
…
يَا رَّبُ بَصِرْنِي وَزِلْ عني الْعَمَا
ثُمَّ الصَّلَاة عَلَى النَّبِيّ أَجَلُّ مَنْ
…
قَدْ خُصَّ بِالتَّقْرِيْبِ مِنْ رَّبِ السَّمَا
وعَلَى صَحَابَتِهِ الأفَاضَلِ كُلّهِمِ
…
مَا سَبَّحَ الدّاعِي الإلَه وعَظَّمَا
اللَّهُمَّ أنظمنا فِي سلك حزبك المفلحين، وَاجْعَلْنَا مِنْ عبادك المخلصين، وآمنا يوم الفزع الأكبر يوم الدين، واحشرنا مَعَ الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
قال أحد العلماء:
اعلم أن الْقَلْب كالحصن وعَلَى ذَلِكَ الحصن سور وللسور أبواب وفِيه ثُلَمٌ وساكنه العقل والملائكة تتردد إلي ذَلِكَ الحصن وإلي جانب الحصن ريض (وَهُوَ المكَانَ يؤوي إليه)
وفِيه الهَوَى والشياطين تختلف إلي ذَلِكَ الريض من غَيْر مانع والحرب قائم بين أَهْل الحصن وأَهْل الريض والشياطين لا تزال تدور حول الحصن تطلب غَفْلَة الحارس والعبور من بعض الثلم وأن لا يفتر الحراسة لحظة فإن الْعَدُوّ لا يفتر.
وينحصر الشيطان فِي ستة أجناس لا يزال بابن آدم حتي ينال منه واحداً منها أو أكثر.
أحدها شر الكفر والشرك.
ثانياً البدعة.
ثالثا كبائر الذُّنُوب.
رابعاً الصغائر.
ثُمَّ الاشتغال بالمباحات عن الاستكثار من الطاعات
ثُمَّ الاشتغال بالمفضول عن الفاضل.
والأسباب التي يعتصم بِهَا الْعَبْد من الشيطان عشرة.
أولها الاستعاذة بِاللهِ.
ثانياً قراءة المعوذتين.
ثالثا قراءة آية الكرسي.
رابعاً قراءة البقرة.
خامساً قراءة أول سورة حم المُؤْمِن إلي {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} .
سابعاً لا إله إلا الله وحده لا شريك لَهُ له الملك والحمد وَهُوَ عَلَى كُلّ شيء قدير مائة مرة.
ثامناً كثرة ذكر الله.
تاسعاً الوضوء مَعَ الصَّلاة.
عاشراً إمساك فضول النظر والكلام والطعام ومخالطة النَّاس. انتهي وختاماً فأَهْل التقوي لا يتعذرعَلَيْهمْ سد أبواب الشيطان وحفظها بالحراسة أي الأبواب الظاهرة والطرق الجلية التي تفضي إلي المعاصي الظاهرة.
وإنما يتعثرون فِي طرقه الغامضة فَأنَّهُمْ لا يهتدون إليها فيحرسونها لأن الأبواب المفتوحة إلي الْقَلْب للشيطان كثيرة.
وباب الملائكة باب واحد وقَدْ التبس ذَلِكَ الْبَاب الواحد بهذه الأبواب الكثيرة، فالْعَبْد فيها كالمسافر الَّذِي يبقي فِي بادية كثيرة الطرق غامضة.
المسالك فِي ليلة مظلمة فلا يكاد يعلم الطَرِيق إلا بعين بصيرة وطلوع شمس مشرقة.
والعين البصيرة هاهنا هِيَ الْقَلْب المصفِي بالتقوي والشمس المشرقة هي
العلم العزير المستفاد من كتاب الله وسنة رسوله ? فيما يهتدي به إلي غوامض طرقه وإلا فطرقة كثيرة وغامضة.
قال عَبْد اللهِ بن مسعود رضي الله عنه خط لنا رسول الله ? يَوْماً خطاً وَقَالَ " هَذَا سبيل الله " ثُمَّ خط خطوطاً عن يمين الخط وعن شماله ثُمَّ قال " هذه سبل عَلَى كُلّ سبيل شيطان يدعو إليه ".
ثُمَّ تلا: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكم عن سَبِيلِهِ} .
وَقَالَ أحد العلماء يجب عَلَى المُؤْمِن أن يحب العلماء العاملين بعلمهم حَقِيقَة البعيدين عن الانهماك فِي الدُّنْيَا البعيدين عن الرياء وحب الشهرة والظهور والوقوع فِي أعراض النَّاس الغافلين.
السالمين من الحسد والكبر والعجب ويلازم مجالسهم ويسألهم عما أشكل عَلَيْهِ ويتعظ بنصحهم.
ويجتنب الأعمال القبيحة ويتخذ الشيطان عدواً كما قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكم عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} .
أي فعادوه بطاعة الله تعالى ولا تطيعوه فِي معاصي الله تعالى وكونوا عَلَى حذر منه فِي جَمِيع أحوالكمْ وأفعالكمْ وعقائدكمْ.
وإِذَا فعلتم فعلاً فتفطنوا لَهُ فإنه ربما يدخل عليكم الرياء، ويزين لكم القبائح والفواحش واستعينوا عَلَيْهِ بربكم، وتعوذوا بِاللهِ منه.
المهم أنك إِذَا علمت أن الشيطان لعنه الله لا يغفل عنكَ أبداً فلا تغفل عمن ناصيتك بيده وَهُوَ الله جل جلاله وتقدست أسماؤه وصفاته الزم ذكره وحمده وشكره.
فالشيطان عدو مسلط عَلَى الإنسان ومقتضي ذَلِكَ أن لا يوَجَدَ منه غَفْلَة ولا فترة عَن التزيين والإغواء والإضلال.
قال تعالى إخباراً عما قاله إبلَيْسُ: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعن أَيْمَانهمْ وَعن شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} وَقَالَ: {بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأرض وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} .
اللَّهُمَّ اجعلنا من المتقين الأبْرَار وأسكنا معهم فِي دار القرار، اللَّهُمَّ وفقنا بحسن الإقبال عَلَيْكَ والإصغاء إليك ووفقنا للتعاون فِي طَاعَتكَ والمبادرة إلي خدمتك وحسن الأدب فِي معاملتك والتسليم لأَمْرِكَ والرِّضَا بقضائك والصبر عَلَى بَلائِكَ وَالشُّكْر لنعمائك، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وآله أجمعين.
(فَصْلٌ)
قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكم عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} الآية
إِذَا فهمت ذَلِكَ فعَلَيْكَ بتحقيق العبودية لله، والتوكل عَلَيْهِ، والافتقار فِي أحوالك إليه، واستعاذتك به من شر عَدُوّكَ وعدوه، فبذَلِكَ تنجو من سلطته، وتنجو من غائلته.
قال الله جَلَّ وَعَلا: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} وَقَالَ جَلَّ وَعَلا: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} .
فمن تحقق بهذه الصفات العلية من الإيمان بِاللهِ تعالى، والعبودية به والتوكل عَلَيْهِ، واللجَاء والافتقار إليه، والاستعاذة، والاستجارة به، كيف يكون لعدو الله عَلَيْهِ سلطان، والله حبيبه وولي حفظه ونصره.
وفِي وصية رسول الله ? لابن عباس: " احفظ الله يحفظك احفظ الله
تجده أمامك تعرف إلي الله فِي الرخاء يعرفك فِي الشدة ".
فالشأن فِي الْعَبْد يكون بينه وبين ربه معرفة خاصة بقَلْبه بحيث تجده قريباً منه يستأنس به فِي خلوته ويجد حلاوة ذكره ودعائه ومناجاته وخدمته.
ولا يجد ذَلِكَ إلا من أطاعه فِي سره وعلانيته ومتي وَجَدَ الْعَبْد هَذَا فقَدْ عرف ربه وصار بينه وبينه معرفة خاصة.
فإِذَا سأله أعطاه وإِذَا دعاه أجابه والْعَبْد لا يزال فِي كرب وشدائد فِي الدُّنْيَا، وفِي البرزخ، وفِي الموقف، فإِذَا كَانَ بينه وبين ربه معرفة خاصة كفاه الله ذَلِكَ كله.
وهَذَا هُوَ المشار إليه فِي وصية رسول الله ? لابن عباس تعرف إلي الله فِي الرخاء يعرفك فِي الشدة.
فالعلم ما عرف الْعَبْد ربه، ودله عَلَيْهِ حتي عرفه، ووحده وأكثر من ذكره، وحمده وشكره وأنس به، واستحيا من قربه، وعبده كأنه يراه.
فالشأن كله فِي أن الْعَبْد يستدل بالعلم عَلَى ربه، فيعرفه فإِذَا عرف ربه فقَدْ وجده منه قريباً، ومتي وجده منه قريباً قربه إليه وأجاب دعاءه.
كما فِي الأثر الإسرائيلي ابن آدم اطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدت كُلّ شيء.
فأصل العلم العلم بِاللهِ الَّذِي يوجب خشيته ومحبته والقرب منه والإنس به، ثُمَّ يتلوه العلم بأحكام الله، وما يحبه ويرضاه من الْعَبْد من قول أو عمل أو حال أو اعتقاد.
فمن تحقق بهذين العلمين كَانَ علمه عِلماً نافعاً، وحصل لَهُ العلم النافع والْقَلْب الخاشع والنفس القانعة والدُّعَاء المسموع.
ومن فاته هَذَا العلم النافع وقع فِي الأربع التي استعاذ منه النَّبِيّ ?، وصار علمه وبإلا وحجةً عَلَيْهِ فلم يتنفع به.
لأنه لم يخشع قَلْبهُ لربه ولم تشبع نَفْسهُ من الدُّنْيَا، بل ازداد حرصاً عَلَيْهَا وطلباً لها، ولم يسمَع دعاؤه، لعدم امتثاله لأوامر ربه، وعدم اجتنابه لما يسخطه ويكرهه.
هَذَا إن كَانَ علمه عِلماً يمكن الانتفاع به وَهُوَ المتلقي عن اْلكِتَاب والسنة.
فإن كَانَ متلقي من غَيْر ذَلِكَ فهو غَيْر نافع فِي نَفْسه ولا يمكن الانتفاع به بل ضرره أكثر من نفعه.
وعلامة هَذَا العلم الَّذِي لا ينفع أن يكسب صاحبه الزهو والفخر والخيلاء وطلب العلو والرفعة فِي الدُّنْيَا والمنافسة فيها وطلب مباهاة العلماء ومماراة السفهاء ويصرف به وجوه النَّاس
وقَدْ ورد عن النَّبِيّ ? أن من طلب العلم ليجاريَ به العلماء أو ليماريَ به السفهاء ويصرف به وجوه النَّاس أدخله الله النار.
ولبعض العلماء:
يَقُولُونَ لِي هَلَاّ نَهَضَتَ إِلى العُلَا
…
فَمَا لَذَّ عَيْشُ الصَّابِرِ المُتَقَنِّعِ
وَهَلَا شَدَدْتَ العِيْسَ حَتَى تَحُلَّها
…
بِمِصْرٍ إِلى ظِلِ الجَنَابِ المُرَفِعِ
فَفِيها قُضَاةٌ لَيْسَ يَخْفَى عَلَيْهُمُوا
…
تَعَيَّنُ كَوْنَ العِمْ ِغَيْرَ مُضَيَّعِ
وَفِيها شُيُوخُ الدِيْنِ وَالفَضْلِ وَالأوْلَى
…
يُشِيْرُ إِليْهِمْ بَالعُلَا كُلُّ أُصْبُعِ
وَفِيها وَفِيها وَالمَهَانَةُ ذِلَّةٌ
…
فَقُمُ واسْعَ وَاقْصِدْ بَابَ رِزْقِكَ وَاقْرَعِ
فقُلْتُ نَعْمْ أَسْعَى إِذَا شِئْتُ أَنْ أُرِى
…
ذَلِيْلاً مُهَاناً مُسْتَخَفاً بِمَوَضِعِي
وَأَسْعَى إِذَا مَا لَذَّ لي طُوْلُ مَوْقِفِي
…
عَلَى بَابِ مَحْجُوْبِ اللِقَاءِ مُمَنَّعِ
وَأَسْعَى إِذَا كَانَ النِفَاقُ طَرِيْقَتِي
…
أَرُوْحُ وَأَغْدُوْ فِي ثِيَابِ التَّصَنُّعِ
وَأَسْعَى إِذَا لم يَبْقَ فِي بَقِيَّةٌ
…
أُرَاعِيْ بِهَا حَقَّ التُّقَى وَالتَّوَرُعِ
.. فَكم بَيْنَ أَرْبَابِ الصُدُوْرِ مَجَالِساً
…
تُشَبُّ بِهَا نَّارُ الغَضَى بَيْنَ أَضْلُعِيْ
وَكم بَيْنَ أَرْبَابِ العُلُوْمِ وَأَهْلِهَا
…
إِذَا بَحَثُوْا فِي المُشْكِلَاتِ بِمَجْمَعِ
مُنَاظَرَةً تُحْمِي النُّفُوسَ فَتَنْتَهِي
…
وَقَدْ شَرَعُوا فِيها إِلى شَرِّ مَشْرَعِ
إِلى السَّفَهِ المُزْرِيْ بِمَنْصِبِ أَهْلِهِ
…
أَوْ الصَّمْتِ عن حَقٍ هُنَاكَ مُضَيَّعِ
فَإِمَّا تَوَقَّى مَسْلَكَ الدِيْنِ وَالتُقَى
…
وَإِمَا تَلَقَّى عُصَّة المُتَجَرّعِ
آخر:
…
أنِسْتُ بِلأَوَاءِ الزَمَانِ وَذِلِهِ
…
فَيَا عِزَّةَ الدُّنْيَا عَلَيْكِ سَلَامُ
إِلى كم أُعَانِي تِيْهَهَا وَدَلَالَهَا
…
أَلم يَأْنِ عنهَا سَلْوُة وَسَامُ
وقَدْ أَخْلَقَ الأيَّامُ جِلْبَابَ حُسْنِهَا
…
وَأَضْحَتْ وَدِيْبَاجُ البَهَاءِ مَسَامُ
عَلَى حِيْنِ شَيْبٍّ قَدْ ألَمَّ بَمَفْرِقِي
…
وَعَادَ رُهَامُ الشَّعْرِ وَهُوَ ثَغَامُ
طَلَائِعُ ضَعْفٍ قَدْ أَغَارَتْ عَلَى القُوَى
…
وَثَارَ بِمَيْدَانِ المِزَاجِ قَتَامُ
فَلَا هِيَ فِي بُرْجِ الجَمَالِ مُقِيْمَةٌ
…
وَلَا أَنَا فِي عَهْدِ المُجُونِ مُدَامُ
تَقَطَّعَتْ الأسْبَابُ بَيْنِي وَبَيْنَهَا
…
ولم يَبْقَ فِينَا نِسْبَةٌ وَلِئَامُ
وَعَادَتْ قَلُوصُ العَزْمِ عَنِّي كَلِيْلَةً
…
وقَدْ جُبَّ مِنْهَا غَارِبٌ وَسَنَامُ
كَأَنِّي بِهَا والْقَلْبُ زُمَّتْ رِكَابُهُ
…
وَقِّوَض أَبْيَاتٌ لَهُ وَخِيَامُ
وَسِيْقَتْ إِلى دَارِ الخُمُولِ حُمُولُهُ
…
يَحُنُّ إِلَيْهَا وَالدُمُوعُ رُهَامُ
حَنِيْنَ عَجُولٍ غَرَّهَا البَوُّ فَانْثَنَتْ
…
إِلَيْهِ وَفِيها أَنَّةٌ وَضُغَامُ
تَوَلَّتْ لَيَالٍ لِلْمَسَرَّاتِ وَانْقَضَتْ
…
لِكُلِّ زَمَانٍ غَايَةٌ وَتَمَامُ
فَسَرْعَانَ مَا مَرَّتْ وَوَلَّتْ وَلَيْتَهَا
…
تَدُوْمُ وَلَكِنْ مَا لَهُنَّ دَوَامُ
دُهُورٌ تَقَضَّتْ بِالمَسَرَّاتِ سَاعَةً
…
وَيَوْمُ تَوَلَّى بِالمَسَاءَةِ عَامُ
فَلِلَّهِ دَرُّ الغَمِ حَيْثُ أَمَدَّنِي
…
بِطُولِ حَيَاةٍ والهُمُومُ سِهَامُ
أَسِيْرُ بِتَيْمَاءِ التَّحَيُرِ مُفْرَداً
…
وَلِي مَعَ صَحْبِي عِشْرَةٌ وَنَدَامُ
وَكم عِشْرَةٍ مَا أَوْرَثَتْ غَيْرَ عُسْرَةٍ
…
وَرُبَّ كَلَامِ فِي القُلُوبِ كُلَامُ
فَمَا عِشْتُ لَا أنْسَى حُقُوقَ صَنِيْعِهِ
…
وَهَيْهَاتَ أَنْ يُنْسَى لَدَيَّ ذِمَامُ
كَمَا اعْتَادَ أَبْنَاءُ الزَّمَانِ وَأَجْمَعَتْ
…
عَلَيْهِ فِئَامٌ إِثْرَ ذَاكَ قِيَامُ
خَبَتْ نَارُ أعْلَامِ المَعَارِفِ وَالهُدَى
…
وَشُبَّ لِنِيْرَانِ الضَّلَالِ ضُرَامُ
وكَانَ سَرِيْرُ العِلْمِ صَرْحاً مُمَرَّداً
…
... يُنَاغِي القِبَابَ السَّبْعَ وَهِي عِظَامُ
مَتِيْناً رَفِيعاً لَا يُطَارُ غُرابُهُ
…
عَزيْزاً مَنِيْعاً لَا يَكَادُ يُرَامُ
يَلُوحُ سَنَا بَرْقِ الهُدَى مِنْ بُرُوْجِهِ
…
كَبَرْقٍ بَدَا بَيْنَ السِّحَابِ يُشَامُ
فَجَرَّتْ عَلَيْهِ الرَاسِيَاتُ ذُيُولَهَا
…
فَخَرَّتْ عُرُوشٌ مِنْهُ ثُمَّ دَعَامُ
وَسِيْقَ إِلى دَارِ المُهَانَةِ أهْلُهُ
…
مَسَاقَ أَسَيْرٍ لَا يَزَالُ يُضَامُ
كَذَا تَجْرِيَ الأيَّامُ بَيْنَ الوَرَى عَلَى
…
طَرَائِقَ مِنْهَا جَائِرٌ وَقَوَامُ
فَمَا كُلُّ مَا قَدْ قِيْلَ عِلْمٌ وَحِكْمَةٌ
…
وَمَا كُلُّ أَفْرَادِ الحَدِيْدِ حُسَامُ
وَلِلدَّهْرِ ثَارَاتٌ تَمْرُّ عَلَى الفَتَى
…
نَعِيْمٌ وَبُؤْسٌ، صِحَّةٌ وَسَقَامُ
وَمَنْ يَكُ فِي الدُّنْيَا فَلَا يَعْتِبَّنْهَا
…
فلَيْسَ عَلَيْهَا مَعْتَبٌ وَمَلَامُ
أَجِدَّكَ مَا الدُّنْيَا وَمَاذَا مَتَاعُهَا
…
وَمَاذَا الَّذِي تَبْغِيْهِ فَهُوَ حُطَامُ
تَشَكَّلَ فِيها كُلُّ شَيِءٍ بِشَكْلِ مَا
…
يُعَانِدُهُ وَالنَّاسُ عنهُ نِيَامُ
تَرَى النَّقْصَ فِي زِي الكَمَالِ كَأَنَّمَا
…
عَلَى رَأْسِ رَبَّاتِ الحِجَالِ عِمَامُ
فَدَعْهَا وَنَعْمَاهَا هَنِيْئاً لأَهْلِهَا
…
وَلَا تَكُ فِيها رَاعِياً وَسَوَامُ
تَعَافُ العَرَانِيْنُ السِمَّاطَ عَلَى الخِوَى
…
إِذَا مَا تَصَدَّى لِلطَّعَامِ طَغَامُ
عَلَى أَنَّهَا لَا يُسْتَطَاعُ مَنَالُهَا
…
لِمَا لَيْسَ فِيه عُرْوَةٌ وَعِصَامُ
ولَوْ أَنْتَ تَسْعَى إِثْرَهَا أَلْفُ حَجَّةٍ
…
وَقَدْ جَاوَزَ الطِبْيَيْنِ مِنْكَ جِزَامُ
.. رَجَعْتَ وقَدْ ضَلَّتْ مَسَاعِيْكَ كُلُّهَا
…
بِخُفَيْ حُنَيْنٍ لَا تَزَالُ تُلامُ
هَبِ إِنَّ مَقَالِيْدَ الأمُورِ مَلَكْتَهَا
…
وَدَانَتْ لَكَ الدُّنْيَا وَأَنْتَ هُمَامُ
وَمُتِّعْتَ باللَّذْاتِ دَهْراً بِغِبْطَةٍ
…
ألَيْسَ بِحَتْمً بَعْدَ ذَلِكَ حِمَامُ
فَبَيْنَ البَرايَا والخُلُودِ تَبَايُنٌ
…
وبَيْنَ الْمَنَايَا والنُّفُوسِ لِزَامُ
قَضَيَّة أنْقادَ الأنَامُ لِحُكْمِهَا
…
ومَا حَادَ عنهَا سَيِدٌ وغُلَامُ
ضَرُورْيَةُ تَقِضْيْ العُقُولُ بِصِدْقِهَا
…
سَلْ إِنْ كَانَ فِيها مِرْيَةٌ وخِصَامُ
سَلْ الأرض عن حَالِ المُلُوكِ الَّتِي خَلَتْ
…
لَهُمْ فَوقَ، فَوقَ الفْرْقَدَيْنِ مَقَامُ
اِبوْابِهْمِ لِلوافِدْيْنَ تَرَاكُمُ
…
بِأعْتَابِهِم لِلعَاكِفْيِنَ زِحَامُ
تُجْبكَ عن أَسْرارِ السُيُوفِ الَّتِي جَرَتْ
…
عَلَيْهِمْ جَواباً لَيْسَ فِيه كَلَامُ
بِأْنَّ الْمَنَايَا أَقَصْدَتْهمُ نِبَالُهَا
…
ومَا طَاشَ عن مَرْمَى لَهُنَّ سِهَامُ
…
وَسيِقُوا مَسَاقَ الغَابِرينَ إَلى الرَدَي
…
وَأْفْقَرَ مِنْهُمْ مَزَلٌ وَمَقَامُ
وَحُلوا مَحَلاً غَيْرَ مَا يَعْهَدُوْنَهُ
…
فلَيْسَ لَهُمْ حَتَّى القِيَامُ قِيَامُ
ألَمَّ بِهِمْ رَيبُ المَنُوْنِ فَعَالَهُمْ
…
فَهُمْ بَيْنَ أَطْبَاقِ الرُغَامِ رُغَامُ
اللَّهُمَّ خفف عنا الأوزار وارزقنا عيشة الأبْرَار واصرف عنا شر الأشْرَار واعتق رقابنا ورقاب آبائنا وأمهاتنا من النار يا عزيز يا غفار يا كريم يا ستار ويا حليم يا جبار وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
(فَصْلٌ)
فِي فضائل الاستغفار
يستحب الإكثار من الاستغفار فِي كُلّ وَقْت، ويتأكد فِي الزمان الفاضل، والمكَانَ الفاضل، قال تعالى:{وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ} وَقَالَ: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وَقَالَ تعالى: {وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} وَقَالَ تعالى، مخبراً
عن نوح: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكم إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكم مِّدْرَاراً * وَيُمْدِدْكم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكم جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكم أَنْهَاراً} الاية، وَقَالَ تعالى:{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلا اللهُ} وَقَالَ تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلم نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَّحِيماً} .
وعن شداد بن أوس – رضي الله عنه – عن النَّبِيّ ? قال: " سيد الاستغفار أن يَقُولُ الْعَبْد: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي، لا إله إلا أَنْتَ، خلقتني وأنَا عبدك، وانَا عَلَى عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عَلَى، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، إنه لا يغفر الذُّنُوب إلا أَنْتَ ".
وعن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: إنَا كنا لنعد لِرَسُولِ اللهِ صلي الله عَلَيْهِ وسلم فِي المجلس يَقُولُ: " رب إغفر لي، وتب عَلَى، إنك أَنْتَ التواب الغفور " مائة مرة.
وعن عَبْد اللهِ بن بسر – رضي الله عنه – قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: " طوبي لمن وَجَدَ فِي صحيفته: استغفاراً كثيراً ".
وعن أَبِي هُرَيْرَةِ – رضي الله عنه – قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: " إن الله عز وجل ليرفع الدرجة للعبد الصالح فِي الْجَنَّة فَيَقُولُ: يا رب، أني لي هذه؟ فَيَقُولُ: باستغفار ولدك لك ".
وعن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: " من لزم الاستغفار جعل الله لَهُ من كُلّ هم فرجاً ومن كُلّ ضيق مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب ".
وعَن الأغر المزني – رضي الله عنه – قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: " إنه ليغان عَلَى قلبي، وإني لأستغفر الله فِي الْيَوْم مائة مرة ".
وَقَالَ حذيفة: كنت ذرب اللسان عَلَى أهلي، فقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَقَدْ خشيت أن يدخلني لساني النار، فَقَالَ النَّبِيّ ?:" فأين أَنْتَ من الاستغفار، فإني أستغفر الله فِي الْيَوْم مائة مرة " أخرجه النسائي.
وعن زيد مولي رسول الله ?، أنه سمَعَ النَّبِيّ ? يَقُولُ:" من قال: أستغفر الله الَّذِي لا إله إلا هُوَ الحي القيوم، وأتوب عَلَيْهِ غفر لَهُ، وإن كَانَ قَدْ فرَّ من الزحف " رواه أبو داود.
وعن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – عن النَّبِيّ ? قال: " من قال حين يأوي إلي فراشه: أستغفر الله الَّذِي لا إله إلا هُوَ الحي القيوم، وأتوب إليه – ثلاث مرات – غفرتْ لَهُ ذنوبه، وإن كانت عدد رمل عالج، وأن كانت عدد أيام الدُّنْيَا " رواه الترمذي.
وعن أنس – رضي الله عنه – سمعت رسول الله ? يَقُولُ: " قال الله تعالى: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك عَلَى ما كَانَ منك ولا أبالي، يا ابن آدم، لَوْ بلغت ذنوبك عنان السماء ثُمَّ استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم إنك لَوْ أتيتني بقراب الأرض خطايا ثُمَّ لقيتني لا تشرك بي شيئاً أتيتك بقرابِهَا مغفرة " رواه الترمذي. وَاللهُ أَعْلم وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم.
فصل: وعن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – عن النَّبِيّ ? قال: " قال إبلَيْسُ: وعزتك لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم فِي أجسادهم، فَقَالَ: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهُمْ ما استغفروني ".
وعن الزبير – رضي الله عنه – أن رسول الله ? قال: " من أحب أن تسره صحيفته فليكثر فيها من الاستغفار ".
وعن أَبِي هُرَيْرَةِ – رضي الله عنه – عن الرَّسُول ? قال: " إن الْعَبْد إِذَا أخطأ خطيئة نكتت فِي قَلْبهُ نكتة، فإن هُوَ نزع واستغفر صقلت، فإن عاد زيد فيها حتي تعلَو قَلْبهُ، فذَلِكَ الران الَّذِي ذكره الله تعالى:{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} .
وروي عن أنس – رضي الله عنه – أن رسول الله ? قال: " إن للقُلُوب صدأً كصدأ النُّحاس، وجلاؤها الاستغفار ".
وروي عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: كَانَ رسول الله ? فِي مسيرة، فَقَالَ:" استغفروا الله، فاستغفرنا، فَقَالَ أتموها سبعين مرة فأتممناها، فَقَالَ رسول الله ?: ما من عبد ولا أمة يستغفر الله فِي يوم سبعين مرة إلا غفر الله لَهُ سبعمائة ذنب، وقَدْ خاب عبد أو أمة عمل فِي يوم وليلة أكثر من سبعمائة ذنب ".
وعن أَبِي هُرَيْرَةِ – رضي الله عنه – قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: " والَّذِي نفسي بيده لَوْ لم تذنبوا لذهب الله تعالى بكم
ولجَاءَ بقوم يذنبون فيستغفرون الله تعالى فيغفر لهم" رواه مسلم.
وفِي حديث سلمان: "فاستكثروا فِيه من خصلتين ترضون بهما ربكم وخصلتين لا غني لكم عنهما، فأما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم فشهادة أن لا إله إلا الله، والاستغفار وأما التي لا غني لكم عنهما فتسألونه الْجَنَّة وتعوذون به من النار".
فهذه الخصال الأربع المذكورة فِي الْحَدِيث كُلّ منها سبب للمغفرة والعتق من النار، فأما كلمة الإخلاص فإنها تهدم الذُّنُوب وتمحوها محواً، ولا تبقي ذنباً، ولا يسبقها عمل، وهي تعدل عتق الرقاب الَّذِي يوجب العتق من النار، ومن قالها خالصاً من قَلْبهُ حرمه الله عَلَى النار.
وأما كلمة الاستغفار فمن أعظم أسباب المغفرة فإن الاستغفار دعاء بالمغفرة، ودعاء الصائم إِذَا اجتمعت لَهُ الشروط وانتفت الموانع مستجاب حال صيامه وعِنْدَ فطره.
وفِي حديث أَبِي هُرَيْرَةِ: "ويغفر الله إلا لمن أبي، قَالُوا يا أبا هريرة ومن يأبي؟ قال: يأبي أن يستغفر الله".
وَقَالَ لقمان لابنه: يا بني عوِّد لسانك الاستغفار، فإن لله ساعات لا يرد فِيه سائلاً، وقَدْ جمَعَ الله بين التَّوْحِيد والاستغفار، فِي قوله:{فاعْلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك} .
وفِي بعض الآثار: أن إبلَيْسَ قال: أهلكت النَّاس بالذُّنُوب وأهلكوني بالاستغفار ولا إله إلا الله.
والاستغفار ختام الأعمال الصَّالِحَة كُلّهَا فيختم به الصَّلاة والحج والقيام فِي الليل ويختم به المجالس، فإن كانت ذكراً كَانَ كالطابع عَلَيْهَا وإن كانت لغواً كَانَ كفارة لها، فكَذَلِكَ ينبغي أن يختتم صيام رمضان بالاستغفار يرقَعُ ما تخرق من الصيام باللغو والرفث "ويجتهد فِي الإكثار من الأعمال والتقلل من شواغل الدُّنْيَا والإقبال عَلَى الآخرة ما دام فِي قيد الحياة".
تضرع إلي رب العزة والجلال:
اسْتَغْفِرُ اللهَ عَمَا كَانَ مِنْ زَلَلٍ
…
وَمِنْ خَطَإٍ تَخَطَّا بِالمُصِيْبَاتِ
ولَيْسَ إلا إِلى الرَّحْمَنِ مُنْتَجِعِي
…
فَهْوُ العَلِيْمُ بِأَحْوَالِي وَنِيَّاتِ
وَهْوَ الرَّحْيِمُ وَمَلْجَأ مَنْ يَلْوذُ بِهِ
…
الكَاشِفُ الغَمِ الْقَاضِي لِحَاجَاتِ
وَقَدْ مَدَدْتُ حِبَالِي رَاجِياً فَرَجاً
…
وَمُنْشِداً قِيْلَ دَاعٍ ذِي امْتِحَانَاتِ
فَقُلْتُ مُشْتَكِياً مَا قَالَ مُبْتَهِلاً
…
بِاللهِ مُرْتَجِياً تَفْرِيْجَ أَزْمَاتِ
فَصِل حِبَالِي وَأوصَالِي بِحَبْلِكَ يَا
…
ذَا الكِبْرِيْاءِ وَحَقَّق فِيكَ رَغْبَاتِي
أنَا الذَّلِيْلُ أَنَا المِسْكِيْنُ ذُو شَجَنِ
…
أنَا الفَقْيِرُُ إِلى رَبِّ السَمَواتِ
أنَا الكَسِيْرُ أَنَا المُحْتَاجُ يَا أَمَلِي
…
جُدْ لِي بِفَضْلِكَ وَاعْفُ عن خَطِيْئَاتِ
أنَا الغَرِيْبُ فَلَا أَهْلٌ وَلَا وَطَنٌ
…
أنَا الوَحِيْدُ فَكُنْ لِي فِي مُلِمَّاتِ
أنَا العُبَيْدُ الَّذِي مَا زِلْتُ مُفْتَقِراً
…
إِلَيْكَ يَا سَيْدِي فِي كُلِّ حَالاتِ
لَا أَسْتَطِيْعُ لِنَفْسِي جَلْبَ مَنْفَعَةٍ
…
وَلَا عن النَّفْسِ لِي دَفْعَ المَضَرّاتِ
مَا لِي سِوَاكَ وَلَا لِي عنكَ مُنْصَرَفٌ
…
ذَكْرَاكَ فِي الْقَلْبِ قُرْآنِي وَآيَاتِ
أَنْتَ القَدِيْرُ عَلَى جَبْري بِوَصْلِكَ لِي
…
أَنْتَ العَلْيْمُ بِأَسْرَارِ الخَفِياتِ
أَدْعُوكَ يَا سَيِّدي يَا مُشْتَكَى حَزَنِي
…
يَا جَابِرِي يَا مُغِيثِي فِي مُهِمَاتِ
فَانْظُرْ إِلى غُرْبَتِي وَارْحَمْ ضَنَا جَسَدِي
…
يَا رَاحِمَ الخَلْقِ يَا بَارِي البَرْيَاتِ
وَقَدْ دُهِيْتُ فَلم يُسْمَعْ وقُلْتُ فَمَا
…
أَجْدَى لَدَى نَاصِرِي فَاسْمَعْ شِكَايَاتِ
أَنْتَ المُغِيْثُ وأَنْتَ المُسْتَعَانُ وَلَا
…
تَخْفَى عَلَيْكَ إِرَادَتِي وَغَايَاتِ
وَنَاصِرِي غَاضَنِي بَلْ هَاضَنِي وَشَفَا
…
أَوْغَارُ قَوْمٍ بَغُوْا واعُظْمَ لَوًعَاتِ
يَا قَادِراً قَاهِراً مَنْ كَانَ ذَا عَنَتٍ
…
أَنْتَ القَدْيْرُ لِقَهْرِ الظَالِمِ العَاتِ
يَا رَبِّ فَاغْفِرْ لِمَنْ لم يَدْرِ مَا قَصْدُوا
…
وَمَا أَرَادَ الأعَادِي مِنْ مَصرّاتِ
وأَنْتَ يَا سَيِدْي يَا مَنْتَهَى أْمَلِي
…
تَدْرِي وَتَعْلَمُ مَقْصُودِي وَنِيَاتِ
والرَّاحِمُ الكَافِلُ الكَافِي لآمَلِهِ
…
المَاجِدُ الغَافِرُ المَاحِي لِزَلَاتِ
وَمَا اقْتَرَحْتُ وَمَا قَدْ كُنْتَ مُجْتَرِحاً
…
مِنَ الذُّنُوبِ فَإِنّي ذُو الخَلِيْاتِ
وَابْسُطْ بِفَضْلِكَ لِي مَا كُنْتَ آمَلَهُ
…
يَا مَنْ لَهُ الفَضْلُ مَحْضاً فِي البَّريَاتِ
وَمَنْ لَهُ الجُوْدُ وَالمَوجُودُ أَجْمَعُهُ
…
والخَلْقُ والأمر ثُمَّ الكَائِنُ الآتِي
وَعَبْدُكَ المُشْتَكِي وَالمُرْتَجِي فَرَجاً
…
لَاطِفْهُ وَارْحَمْهُ وَاحْفُفْ بِالعِنَايَاتِ
وَصِلْ يَا رَبِّ مَا هَبَّ النَسِيْمُ وَمَا
…
غَنَى الحَمَامُ عَلَى أَفْنَانِ أيْكَاتِ
عَلَى النَّبِيّ الأمِيْنِ المُصْطَفَى شَرَفاً
…
وَالآلِ والصَحْبِ أصْحَابِ الكْرَامَاتِ
اللَّهُمَّ يا عَالم الخفيات ويا سامَعَ الأصوات ويا باعث الأموات ويا مجيب الدعوات ويا قاضي الحاجات يا خالق الأرض والسموات أَنْتَ الله الأحد الصمد الَّذِي لم يلد ولم يولد ولم يكن لَهُ كفواً أحد الوهاب الَّذِي لا يبخل والحليم الَّذِي لا يعجل لا رادَّ لأَمْرِكَ ولا معقب لحكمك نسألك أن تغفر ذنوبنا وتنور قلوبنا وتثَبِّتْ محبتك فِي قلوبنا وتسكننا دار كرامتك إنك عَلَى كُل شَيْء قدير وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين.
شِعْراً:
…
تَزَوَّجَتِ البَطَالَةُ بِالتَّوَانِيْ
…
فَأَوْلَدَهَا غُلَاماً مَعَ غُلَامَةْ
فَأَمَّا الابْنُ فَسَمَّوْهُ بِفَقْرِ
…
وَأَمَا البِنْتُ سَمَّوْهَا نَدَامَةْ
حث عَلَى المبادرة إلي الأعمال الصالحة
إِذَا هَبَّتْ رِيَاحُكَ فَاغْتَنِمْهَا
…
فَإِنَّ لِكُلِّ خَافِقَةٍ سُكُونُ
وَإِنْ دَرَّتْ نِيَاقُكَ فَاحْتَلِبْهَا
…
فَمَا تَدْرِي الفَصِيْلُ لِمَنْ يَكُونُ