الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الموقف من الفتاوى الشاذة، من مفتيها، والآخذ بها
[السُّؤَالُ]
ـ[ما موقف عامة الناس من الفتاوى الشاذة التي كثرت مؤخراً، مثل من أفتى بفك السحر بالسحر وغيرها من الفتاوى؟ وهل ننكر على من عمل بهذه الفتاوى؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
الواجب قبل الكلام عن المستفتي أن نبدأ بالمفتي نفسه، فنقول: يجب على كل مسلم أن يحفظ عليه لسانه في الكلام على شرع الله تعالى بما لا يعلم، وليعلم كل مسلم أن القول على الله تعالى بغير علم من كبائر الذنوب، بل قد قرنه الله تعالى بالشرك، فقال:(قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) الأعراف/33.
قال ابن القيم رحمه الله:
"فرتَّب المحرمات أربع مراتب، وبدأ بأسهلها، وهو الفواحش، ثم ثنَّى بما هو أشدُّ تحريماً منه، وهو الإثم والظلم، ثم ثلَّث بما هو أعظم تحريماً منهما، وهو الشرك به سبحانه، ثم ربَّع بما هو أشدُّ تحريماً من ذلك كله، وهو: القول عليه بلا علم، وهذا يعم القول عليه سبحانه بلا علم في أسمائه، وصفاته، وأفعاله، وفي دينه، وشرعه" انتهى.
" إعلام الموقعين "(1 / 38) .
وقد رأينا في زماننا هذا عجباً، رأينا السياسي يفتي، والممثل يفتي، والإعلامي يفتي، بل حتى الراقصة تفتي! وأصبحت الفتوى حقاً لكل من هبَّ ودبَّ، وصار أهل الباطل من أصحاب القنوات الفضائية، والصحف اليومية والأسبوعية يلمعون هؤلاء، ويقدمونهم للناس على أنهم أصحاب علم، وأهل هدى، وعلى مثل هذا بكى ربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ الإمام مالك رحمه الله، ففي " إعلام الموقعين " لابن القيم (4 / 207، 208) قال: رأى رجلٌ ربيعةَ بن أبي عبد الرحمن يبكي، فقال: ما يبكيك؟ فقال: استُفتي مَن لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم، قال: ولَبعضُ مَن يفتي ههنا أحق بالسجن من السرَّاق.
ثم قال ابن القيم:
"قال بعض العلماء: فكيف لو رأى ربيعة زماننا، وإقدام مَن لا علم عنده على الفتيا، وتوثبه عليها، ومد باع التكلف إليها، وتسلقه بالجهل والجرأة عليها، مع قلة الخبرة، وسوء السيرة، وشؤم السريرة، وهو من بين أهل العلم منكر، أو غريب فليس له في معرفة الكتاب والسنَّة، وآثار السلف، نصيب" انتهى.
وليعلم المفتي أنه يوقِّع عن ربه تعالى بما ينسبه للشرع من أحكام، وقد كان السلف الصالح يتدافعون الفتيا، وكلٌّ يحول السائل إلى غيره، حتى تعود للأول منهم، والجرأة والعجلة في الفتوى ليستا محمودتين من صاحبهما، بل الواجب التأني، والتمهل، قبل إصدار الفتوى.
قال أبو شهاب الحناط: سمعت أبا حصين – وهو عثمان بن عاصم – يقول: إن أحدهم ليفتي في المسألة، ولو وردت على عمر: لجَمَع لها أهل بدر.
" سير أعلام النبلاء "(5 / 416) .
وليكن قول " لا أدري " شعاراً له في حياته فيما لا يعرفه من أحكام الشرع، وهذه ملائكة الرحمن تقول ذلك فيما لا تدريه، قال تعالى:(وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) البقرة/31،32. وليتجنب الغرائب من الأقوال، والشذوذات من الفتوى، وليتجنب ما لا يحسن الناس فهمه، أو ما يسبب رقة دين، أو فحش سلوك، كما يفعله من يوزع الفتاوى في طول الأرض وعرضها بإباحة المعازف، والتمثيل للنساء والرجال، وغير ذلك، وكما فعله من نشر فتوى جواز فك السحر بسحر مثله؛ فإن هذا يعني جواز فتح مكاتب للسحرة! وإيقاف الإنكار عليهم واستتابتهم، ويعني التواصي بين الناس على أفضل ساحر! وأوثق ساحر! وأرخص ساحر! ، ولذا لا يتصور صدور مثل تلك الفتاوى المفسدة لدين الناس وخلقهم من مفتٍ يعلم ما وصلت إليه أحوال الناس من البُعد عن الشرع.
ثانياً:
يجب الإنكار على كل من اتبع هواه في الأخذ بفتاوى المتساهلين من المفتين، أو بمن عرف بتبني الفتاوى الشاذة، القائمة على حب المخالفة.
ونحن نعلم أن من واجب الجاهل أن يسأل في دينه، وأن يقلد من يستفتيه، ولكن هذا الأمر ليس على إطلاقه، وبخاصة إذا علمنا أن ذاك العامي الجاهل يتقصد الأخذ بمن عرف عنه قلة العلم، أو قلة الدين، وإذا كنا ننكر على ذلك المفتي نفسه، فإننا ننكر أيضاً على العامي الذي يعلم أنه متساهل في الفتوى ثم يذهب يستفتيه ويأخذ بفتواه.
وقد كان الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعلم ما تُحدثه الفتاوى المختلفة بين الناس، وكان موقفه منها صارماً، وأصرم منه موقفه فيمن يأتي بالشاذ من الأقوال.
روى ابن أبي شيبة في " مصنفه "(1 / 313) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: اخْتَلَفَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ فِي الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ، فَقَالَ أُبَيٌّ: ثَوْبٌ، وَقَالَ: ابْنُ مَسْعُودٍ: ثَوْبَانِ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمَا عُمَرُ فَلَامَهُمَا، وَقَالَ: إِنَّهُ لَيَسُوؤُنِي أَنْ يَخْتَلِفَ اثْنَانِ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ، فَعَنْ أَيِّ فُتْيَاكُمَا يَصْدُر النَّاسُ؟ أَمَّا ابْنُ مَسْعُودٍ فَلَمْ يَأْلُ، وَالْقَوْلُ مَا قَالَ أُبَيٌّ.
وروى مالك في " الموطأ "(3 / 512) عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَنَّهُ مَرَّ بِهِ قَوْمٌ مُحْرِمُونَ بِالرَّبَذَةِ، فَاسْتَفْتَوْهُ فِي لَحْمِ صَيْدٍ وَجَدُوا نَاسًا أَحِلَّةً يَأْكُلُونَهُ، فَأَفْتَاهُمْ بِأَكْلِهِ، قَالَ: ثُمَّ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: بِمَ أَفْتَيْتَهُمْ؟ قَالَ: فَقُلْتُ: أَفْتَيْتُهُمْ بِأَكْلِهِ، قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ أَفْتَيْتَهُمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ لَأَوْجَعْتُكَ.
فكم يا تُرى من يستحق أن يوجع بسبب فتوى شاذة نسبها لشرع الله تعالى المطهَّر، كمن أفتى الموظفة أن تُرضع زميلها في العمل لترتفع الخلوة! وكمن أفتى بإباحة تقبيل الرجل للمرأة الأجنبية لقتل الشهوة! وكمَن أفتى بجواز تزوج المشرك من مسلمة! وكمن أفتى بجواز الفوائد الربوية! وهكذا في سلسلة ليس لها آخر، ينفخ الشيطان في نفس مصدرها وقائلها أنه أهلٌ للفتوى، وأنه ليس عليه أن يبالي بمن يخالفه.
ونحن لا ننكر وجود خلاف بين العلماء في مسائل الفقه، لكنا ننكر على المفتي تتبع الأقوال الشاذة والمهجورة منها، وننكر جعل ذلك الخلاف سبيلاً لاختراع أقوال باطلة ينسبها لدين الله تعالى، وهي ليست منه؛ ليرضي بها قاعدته! أو ساسته.
قال الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله:
"ولم يفلح مَن جعل مِن هذا الخلاف سبيلاً إلى تتبع رخص المذاهب، ونادر الخلاف، وندرة المخالف، والتقاط الشواذ، وتبني الآراء المهجورة، والغلط على الأئمة، ونصبها للناس دينًا وشرعاً
…
.
ومنها: إصدار الفتاوى الشاذة الفاسدة، مثل الفتوى بجواز الفوائد الربوية، وشهادات الاستثمار، وسندات الخزينة، وفتوى إباحة التأمين، وفتوى إباحة السفور، وفتوى إباحة الاختلاط، وكلها فتاوى شاذة فاسدة، تمالئ الرغبات، وبعض التوجهات" انتهى.
" المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد بن حنبل "(1 / 107، 108) .
والواجب على العامي أن يسأل أهل العلم الذين يثق بدينهم وعلمهم، أما من عرف بالتساهل وتتبع الرخص، وعدم الحرص على اتباع السنة، فلا يجوز لأحد أن يستفتيه، ولا أن يعمل بما يفتيه به. وينظر جواب السؤال رقم (112123) .
والله المستعان
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب