الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هل يتقوى الحديث بمجيئه من طرق مرسلة ورأي المؤلف في ذلك
…
فوجب كذلك كونه غير مقبول، وأيضًا فإن العدل لو سئل عمن أرسل عنه؟ فلم يُعدّله، لم يجب العمل بخبره، إذا لم يكن معروف العدالة من جهة غيره، وكذلك حاله إذا ابتدأ الإمساك عن ذكره وتعديله، لأنه من الإمساك عن ذكره غير مُعدّل له، فوجب أن لا يقبل الخبر عنه".
وقال الحافظ ابن حجر في "شرح نخبة الأفكار""ص17" بعد أن ذكر الحديث المرسل في "أنواع الحديث المردود":
"وإنما ذكر في قسم المردود للجهل بحال المحذوف، لأنه يحتمل أن يكون صحابيًا، ويحتمل أن يكون تابعيًا، وعلى الثاني يحتمل أن يكون ضعيفًا، ويحتمل أن يكون ثقة، وعلى الثاني يحتمل أن يكون حُمل عن صحابي، ويحتمل أن يكون حمل عن تابعي آخر وعلى الثاني فيعود الاحتمال السابق ويتعدد، أما بالتجويز العقلي، فإلى ما لا نهاية، وأما بالاستقراء، فإلى ستة أو سبعة، وهو أكثر ما وجد من رواية بعض التابعين عن بعض، فإن عرف من عادة التابعي أنه لا يرسل إلا عن ثقة، فذهب جمهور المحدثين إلى التوقف، لبقاء الاحتمال، وهو أحد قولي أحمد، وثانيهما: يقبل مطلقًا، وقال الشافعي رضي الله عنه: يُقبل إن اعتضد بمجيئه من وجه آخر يباين الطريق الأولى مسندًا كان أو مرسلًا ليترجّح احتمال كون المحذوف ثقة في نفس الأمر"
قلت: فإذا عرف أن الحديث المُرسَل لا يقبل، وأن السبب هو الجهل بحال المحذوف فيرد عليه أن القول بأنه يقوى بمرسل آخر غير قوي لاحتمال أن يكون كل من أرسله إنما أخذه عن راوٍ واحد، وحينئذ ترد الاحتمالات الذي ذكرها الحافظ، وكأن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى قد لاحظ ورود هذا الاحتمال وقوته، فاشترط في المرسل الآخر أن يكون مُرسِله أخذ العلم عن غير رجال التابعي الأول، كما حكاه ابن الصلاح "ص35" وكأن ذلك لَيغلب على الظن أن المحذوف في أحد المرسَلين هو غيره في المرسَل الآخر.
وهذه فائدة دقيقة لم أجدها في غير كلام الشافعي رحمه الله فاحفظها وراعِها فيما يمر بك من المرسَلات التي تذهب البعض إلى تقويتها لمجرد مجيئها من وجهين مرسَلين دون أن يراعوا هذا الشرط المهم.
ثم رأيت شيخ الإسلام ابن تيمية قد نصّ أيضًا على هذا الشرط في كلام له مفيد في أصول التفسير، نقله عنه الحافظ محمد بن عبد الهادي في كتاب له مخطوط في الأحاديث الضعيفة والموضوعة "حديث 405/221"، فقال ابن تيمية رحمة الله تعالى:
"وأما أسباب النزول، فغالبها مرسل، ليس بمسند، لهذا قال الإمام أحمد: ثلاث علوم لا إسناد لها. وفي لفظ: ليس لها
أصل: التفسير والمغازي والملاحم. يعني أن أحاديثها مرسلة، ليست مسندة".
والمراسيل قد تنازع الناس في قَبولها وردها. وأصح الأقوال: أن منها المقبول، ومنها المردود، ومنها الموقوف، فمن عُلم من حاله أنه لا يرسل إلا عن ثقة قُبل مُرسَلُه، ومن عُرف أنه يُرسِل عن الثقة وغير الثقة، كان إرساله رواية عمن لا يُعرف حاله، فهو موقوف. وما كان من المراسيل مخالفًا لما رواه الثقات، كان مردودًا، وإن جاء المرسَل من وجهين، كل من الراويين أخذ العلم عن غير شيوخ الآخر، فهذا يدل على صدقه فإن مثل ذلك لا يُتصور في العادة تماثل الخطأ فيه وتعمد الكذب
…
".
قلت: ومع أن التحقق من وجود هذا الشرط في كل مرسَل من هذا النوع، ليس بالأمر الهيِّن، فإنه لو تحققنا من وجوده، فقد يَردُ إشكال آخر، وهو أنه يحتمل أن يكون كل من الواسطتين أو أكثر ضعيفًا، وعليه يحتمل أن يكون ضعفهم من النوع الأول الذي ينجبر بمثله الحديث على ما سبق نقله عن ابن الصلاح، ويحتمل أن يكون من النوع الآخر الذي لا يقوى الحديث بكثرة طرقه، ومع ورود هذه الاحتمالات يسقط الاستدلال بالحديث المرسل وإن تعددت طرقه. وهذا التحقيق مما لم أجد مَن سبقني إليه، فإن أصبت فمن الله تعالى وله الشكر، وإن أخطأت فمن نفسي، وأستغفر الله من ذنبي.
وبالجملة فالمانع من الاستدلال بالحديث المرسل الذي تعدد مرسِلوه أحد الاحتمالين: الأول: أن يكون مصدر المرسلين واحدًا.
الثاني: أن يكونوا جمعًا، ولكنهم جميعًا ضعفاء ضعفًا شديدًا. وبعد هذه المقدمة نستطيع أن نقول:
إننا لو ألقينا النظر على روايات هذه القصة، لألفيناها كلها مرسَلة، حاشا حديث ابن عباس، ولكن طرقه كلها واهية شديدة الضعف لا تنجبر بها تلك المراسيل، فيبقى النظر في هذه المراسيل، وهي كما علمت سبعة، صح إسناد أربعة منها، وهي مرسل سعيد بن جبير، وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، وأبي العالية "رقم1-3"، ومرسل قتادة، رقم "5" وهي مراسيل يرد عليها أحد الاحتمالين السابقين، لأنهم من طبقة واحدة: فوفاة سعيد بن جبير سنة "95" وأبي بكر بن عبد الرحمن سنة "94"، وأبي العالية -واسمه رفيع مصغرًا- سنة "90" وقتادة سنة بضع عشرة ومائة، والأول كوفي، والثاني مدني، والأخيران بصريان. فجائز أن يكون مصدرهم الذي أخذوا منه هذه القصة ورووها عنه، واحدًا لا غير، وهو مجهول.
وجائز أن يكون جمعًا، ولكنهم ضعفاء جميعًا، فمع هذه الاحتمالات لا يمكن أن تطمئن النفس لقَبول حديثهم هذا، لا سيّما في مثل هذا الحدث العظيم الذي يمسّ المقام الكريم، فلا جَرَم تتابع العلماء على إنكارها، بل التنديد ببطلانها، ولا وجه لذلك من جهة الرواية إلا ما ذكرنا، وإن كنت لم أقف على من صرّح بذلك كما ذكرت آنفًا. قال الفخر الرازي في "تفسيره 6/193":
"روي عن محمد بن إسحاق بن خزيمة1 أنه سئل عن هذه القصة؟ فقال: "هذا من وضع الزنادقة"، وصنّف فيه كتابًا. وقال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي: "هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل" ثم أخذ يتكلم في أن رواة هذه القصة مطعون فيهم، وأيضًا: فقد روى البخاري في "صحيحه" أن
1 هو الإمام ابن خُزَيمة صاحب "الصحيح" المعروف به، وقد تبع الفخر في عزو هذا الكلام لابن خزيمة المحقق الشوكاني في "فتح القدير" "3/447". وأما ابن حيان فعزاه في تفسيره "البحر" لمحمد ابن إسحاق جامع "السيرة النبوية". وتبعه الآلوسي في تفسيره "17/161". والأرجح عندي الأول لأن الحافظ ابن حجر ذكر في "الفتح: 8/354" تبعًا لابن كثير أن ابن إسحاق روى هذه القصة في "السيرة" مطولًا، فهذا يُبعِد نسبة ذلك القول إليه، ولو كان له، لنبّه عليه الحافظ عقب ذلك والله أعلم.