المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌روايات القصة وعِلَلُها ‌ ‌الرواية الأولى … روايات القصة وعِلَلُها: بعد أن فرغنا من ذكر - نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق

[ناصر الدين الألباني]

فهرس الكتاب

الفصل: ‌ ‌روايات القصة وعِلَلُها ‌ ‌الرواية الأولى … روايات القصة وعِلَلُها: بعد أن فرغنا من ذكر

‌روايات القصة وعِلَلُها

‌الرواية الأولى

روايات القصة وعِلَلُها:

بعد أن فرغنا من ذكر الفائدة التي وعدنا بها، أعود إلى ذكر روايات القصة التي وقفنا عليها لكي نسردها رواية رواية، ونذكر عقب كل منها ما فيها من علة فأقول:

1-

عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت هذه الآية: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [النجم: 19]، قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترجى" فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال المشركون: إنه لم يذكر آلهتهم قبل اليوم بخير، فسجد المشركون معه، فأنزل الله:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ..} [الحج: 52] إلى قوله: {عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} [الحج: 55] .

أخرجه ابن جرير "17/ 120" من طريقين عن شعبة عن أبي بشر عنه، وهو صحيح الإسناد إلى ابن جبير، كما قال الحافظ على ما يأتي عنه، وتبعه السيوطي في "الدر المنثور: 4/ 366"، وعزاه لابن المنذر أيضًا وابن مردويه بعد ما ساقه نحوه بلفظ: "ألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلى" الحديث، وفيه:

ص: 10

ثم جاءه جبريل بعد ذلك، قال: إعرض علَّي ما جئتك به، فلما بلغ:"تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترجى" قال جبريل: لم آتك بهذا، هذا من الشيطان! فأنزل الله:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} [الحج: 52] . وهكذا أخرجه الواحدي في "أسباب النزول" من طريق أخرى عن سعيد بن حسن، كما سيأتي.

وقد روي موصولًا عن سعيد، ولا يصح:

رواه البزار1 في "مسنده" عن يوسف بن حماد عن أمية بن خالد، عن شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس -فيما أحسبه، الشك في الحديث- أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بمكة سورة "النجم" حتى انتهى إلى قوله:{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [النجم: 19] ، وذكر بقيته، ثم قال البزار:

1 قلت: وأخرجه الطبراني في "المعجم الكبير: ورقة 162 وجه 2" من نسخة خطية في المكتبة الظاهرية تحت رقم "283 حديث" قال: حدثنا حسين بن إسحاق التستري، وعبدان بن أحمد، قالا حدثنا يوسف بن حماد المعنى به، وفيه:"ألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلى، شفاعتهم ترتجى". ورواه الضياء المقدسي في "المختارة: ق 120/1/2" من طريق الطبراني وابن مرداويه من طرق عن يوسف به.

ص: 11

"لا نعلمه يروى متصلًا إلا بهذا الإسناد، تفرد بوصله أمية بن خالد وهو ثقة مشهور، وإنما يروي هذا من طريق الكلبي عن أبي صالح، عن ابن عباس" كذا في "تفسير ابن كثير: 3/ 129".

وعزا الحافظ في "تخريج الكشاف: 4/ 144" هذه الرواية "للبزار، والطبري، وابن مردويه" وعزوه للطبري سهو، فإنها ليست في تفسيره فيما علمت -إلا إنْ كان يعني غير التفسير من كتبه، وما أظن يريد ذلك، ويؤيدني أن السيوطي في "الدر" عزاها لجميع هؤلاء إلا الطبري، إلا أن السيوطي أوهم أيضًا حيث قال عطفًا على ما ذكر: والضياء في "المختارة" بسند رجاله ثقات، من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ، فذكر الحديث مثل الرواية المرسلة التي نقلناها آنفًا عن الدر نفسه، ومحل الإيهام هو قوله:"بسند رجاله ثقات" بالإضافة إلى أنه أخرجه الضياء في "المختارة" فإن ذلك يوهم أنه ليس بمعلول، وهذا خلاف الواقع، فإنه معلول بتردد الراوي في وصله كما نقلناه عن "تفسير ابن كثير" وكذلك هو في "تخريج الكشاف" وغيره، وهذا ما لم يرد ذِكرُه في سياق السيوطي، ولا أدري أذلك اختصارًا منه، أم من بعض مخرجي

ص: 12

الحديث؟ 1 وأيًا ما كان، فما كان يليق بالسيوطي أن يغفل هذه العلة، لا سيما وقد صرح بما يشعر أن الإسناد صحيح، وفيه من التغرير ما لا يخفى، فإن الشك لا يوثق به، ولا حقيقة فيه، كما قال القاضي عياض في "الشفاء: 2/ 118" وأقره الحافظ في "التخريج" لكنه قال عقب ذلك:

"ورواه الطبري من طريق سعيد بن جبير مرسلًا، وأخرجه ابن مردويه من طريق أبي عاصم النبيل، عن عثمان بن الأسود، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس نحوه، ولم يشك في وصله، وهذا أصح طرق الحديث. قال البزار

".

قلت: وقد نقلنا كلام البزار آنفًا، ثم ذكر الحافظ المراسيل الآتية، ثم قال:"فهذه مراسيل يقوي بعضها بعضًا".

قلت: وفي عبارة الحافظ شيء من التشويش، ولا أدري أذلك منه، أم من النساخ؟ وهو أغلب الظن، وذلك لأن قوله:"وهذا أصح طرق هذا الحديث" إن حملناه على أقرب مذكور، وهو طريق ابن مردويه الموصول كما هو المتبادر، منعنا من ذلك أمور:

1 ثم رأيت السيوطي قد أورده في كتابه "أسباب النزول" على الشك في رفعه فأصاب، فتبين أن لا مسئولية فيه على غيره.

ص: 13

الأول: قول الحافظ عقب ذلك: "فهذه مراسيل يقوي بعضها بعضًا"، فإن فيه إشارة إلى أن ليس هناك إسناد صحيح موصول يعتمد عليه، وإلا لَعرَّج عليه وجعله أصلًا ، وجعل الطريق المرسلة شاهدة ومُقَوية له، ويؤيده الأمر الآتي وهو:

الثاني: وهو أن الحافظ لما رَدّ على القاضي عياض تضعيفه للحديث من طريق إسناد البزار الموصول بسبب الشك، قال الحافظ:"أما ضعفه فلا ضعف فيه أصلًا "قلت: يعني في رواته"، فإن الجميع ثقات، وأما الشك فيه، فقد يجيء تأثيره ولو فردًا غريبًا -كذا- لكن غايته أن يصير مرسلًا، وهو حجة عند عياض وغيره ممن يقبل مرسل الثقة، وهو حجة إذا اعتضد عند من يَرُدّ المرسل، وهو إنما يعتضد بكثرة المتابعات".

فقد سلَّم الحافظ بأن الحديث مُرْسَلٌ، ولكن ذهب إلى تقويته بكثرة الطرق، وسيأتي بيان ما فيه في ردنا عليه قريبًا إن شاء الله تعالى.

فلو كان إسناد ابن مردويه الموصول صحيحًا عند الحافظ، لرد به على القاضي عياض، ولما جعل عمدته في الرد عليه هو كثرة الطرق، وهذا بين لا يخفى.

الثالث: أن الحافظ في كتابه "فتح الباري" لم يُشِرْ أدنى إشارة

ص: 14

إلى هذه الطريق فلو كان هو أصح طرق الحديث، لذكره بصريح العبارة، ولجعله عمدته في هذا الباب كما سبق.

الرابع: أن من جاء بعده -كالسيوطي وغيره- لم يذكروا هذه الرواية.

فكل هذه الأمور تمنعنا من حمل اسم الإشارة "هذا" على أقرب مذكور، وتضطرنا إلى حمله على البعيد، وهو الطريق الذي قبل هذا، وهو طريق سعيد بن جبير المرسل. وهو الذي اعتمده الحافظ في "الفتح" وجعله أصلًا، وجعل الروايات الأخرى شاهدة له، وقد اقتدينا نحن به، فبدأنا أولًا بذكر رواية ابن جبير هذه، وإن كنا خالفناه في كون هذه الطرق يقوي بعضها بعضًا.

قلت: هذا مع العلم أن القدر المذكور من إسناد ابن مردويه الموصول رجاله ثقات رجال الشيخين، لكن لا بد أن تكون العلة فيمن دون أبي عاصم النبيل، ويقوي ذلك، أعني كون إسناده مُعَلًا أنني رأيت هذه الرواية أخرجها الواحدي في "أسباب النزول": ص 233" من طريق سهل العسكري قال: أخبرني يحيى "قلت: هو القطان" عن عثمان بن الأسود، عن سعيد بن جبير قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19-20] ، فألقى الشيطان على لسانه: "تلك الغرانيق العلى وشفاعتهن ترتجى" ففرح بذلك المشركون، وقالوا: قد ذكر آلهتنا، فجاء جبريل عليه السلام إلى

ص: 15

رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إعرض علّي كلام الله، فلما عرض عليه، قال: أما هذا فلم آتك به، هذا من الشيطان، فأنزل الله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} الآية [الحج: 52] .

فرجع الحديث إلى أنه -عن عثمان بن الأسود عن سعيد- مرسل، وهو الصحيح، لموافقته رواية عثمان هذه، رواية أبي بشر عن سعيد.

ثم وقفت على إسناد ابن مردويه ومتنه، بواسطة الضياء المقدسي في "المختارة:60/ 235/ 1" بسنده عنه قال: حدثني إبراهيم بن محمد، حدثني أبو بكر محمد بن علي المقري البغدادي، ثنا جعفر بن محمد الطيالسي، ثنا إبراهيم بن محمد بن عَرْعَرة، ثنا أبو عاصم النبيل، ثنا عثمان بن الأسود، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19-20] ، "تلك الغرانيق العلى، وشفاعتهن ترتجى"، ففرج المشركون بذلك، وقالوا: قد ذكر آلهتنا فجاءه جبريل، فقال: اقرأ علّي ما جئتك به، قال: فقرأ {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19-20] ، "تلك الغرانيق العلى، وشفاعتهن ترتجى"، فقال: ما أتيتك بهذا، هذا عن الشيطان، أو قال: هذا من الشيطان، لم آتك بها! فأنزل الله

ص: 16

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} إلى آخر الآية".

قلت: وهذا إسناد رجاله كلهم ثقات وكلهم من رجال "التهذيب" إلا من دون ابن عرعرة، ليس فيهم من ينبغي النظر فيه غير أبي بكر محمد بن علي المقري البغدادي، وقد أورده الخطيب في "تاريخ بغداد" فقال "3/ 68–69":"محمد بن علي بن الحسن أبو بكر المقرىء، حدث عن محمود بن خداش، ومحمد بن عمرو، وابن أبي مذعور. روى عنه أحمد بن كامل القاضي، ومحمد بن أحمد بن يحي العطشي" ثم ساق له حديثًا واحدًا وقع فيه مكنًا بـ "أبي حرب"، فلا أدري أهي كنية أخرى له، أم تحرفت على الناسخ أو الطابع، ثم حكى الخطيب عن العطشي أنه قال:"توفي سنة ثلاثمائة"، ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا، فهو مجهول الحال، وهو علة هذا الإسناد الموصول، وهو غير أبي بكر محمد بن إبراهيم بن علي بن عاصم الأصبهاني المشهور بابن المقرىء، الحافظ الثقة، فإنه متأخر عن هذا نحو قرن من الزمان، وهو من شيوخ ابن مردويه مات سنة "381" إحدى وثمانين وثلاثمائة، ووقع في "التذكرة: 3/ 172" "ومائتين" وهو خطأ.

فثبت مما تقدم صواب ما كنا جزمنا به قبل الاطلاع على إسناد ابن مردويه "أن العلة فيه فيمن دون أبي عاصم النبيل".

ص: 17