المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ كلام أبي بكر بن العربي في إبطال القصة: - نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق

[ناصر الدين الألباني]

فهرس الكتاب

الفصل: ‌ كلام أبي بكر بن العربي في إبطال القصة:

9-

صديق حسن خان أبو الطيب "1307" في تفسيره "فتح البيان".

10-

محمد عبده المصري الأستاذ الإمام "1323" في رسالة خاصة له في هذه القصة.

وإذا عرفت هذا فلا بأس من ذكر كلمات بعض هؤلاء العلماء، لما فيها من الفوائد والتحقيقات التي تزيد القارئ إيمانًا ببطلان القصة، وتجعله يتبين أن النقد العلمي الرجيح يتفق دائمًا مع النقد الحديثي الصحيح، لأن كلًا منهما يقوم على قواعد علمية دقيقة لا تقبل التغيير والتبديل، وأنا أكتفي هنا بكلمات أربعة منهم. ومن شاء الزيادة فليرجع إلى المصادر الأخرى التي أشرنا إليها، والأربعة هم: 1- ابن العربي 2- القاضي عياض 3- الشوكاني 4- الآلوسي.

1-

‌ كلام أبي بكر بن العربي في إبطال القصة:

قال رحمه الله تعالى بعد أن ذكر سبب نزول آية الحج التي ذكرناها في أول الرسالة ملخصًا من الروايات التي أوردناها:

ص: 48

"اعلموا أنار الله أفئدتكم بنور هداه، ويسَّر لكم مقصد التوحيد ومغزاه، أن الهدى هدى الله، فسبحان من تفضل به على من يشاء ويصرفه عمن يشاء، وقد بيَّنَّا معنى هذه الآية في "فضل تنبيه الغبي على مقدار النبي" بما نرجو به عند الله الجزاء الأوفى في مقام الزلفى، ونحن الآن نجلو بتلك الفصول الغماء، ونرقيكم بها عن حضيض الدهماء إلى بقاع العلماء في عشر مقامات.

المقام الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرسل الله إليه الملَك بوحيه، فإنه يخلق له العلم به حتى بتحقيق أنه رسول من عنده، ولولا ذلك لما صحّت الرسالة، ولا تبينت النبوة، فإذا خلق الله له العلم به تميز عنده من غيره، وثبت اليقين، واستقام سبيل الدين، ولو كان النبي إذا شافهه الملك بالوحي لا يدري، أمَلَكٌ هو، أم شيطان، أم أنسان، أم صورة مخالفة لهذه الأجناس ألقت عليه كلامًا وبلغت إليه قولًا لم يصح أن يقول: إنه من عند الله، ولا تثبت عندنا أنه أمر الله، فهذه سبيل متيقنة، وحالة متحققة لا بد منها، ولا خلاف في المنقول ولا في المعقول فيها، ولو جاز للشيطان أن يتمثل فيها، أو يتشبّه بها ما أمناه على آية، ولا عرفنا منه باطلًا من حقيقة، فارتفع بهذا الفصل اللَبس، وصح اليقين في النفس.

ص: 49

المقام الثاني: أن الله قد عصم رسوله من الكفر، وأَمنه من الشرك، واستقر ذلك من دين المسلمين بإجماعهم فيه وإطباقهم عليه، فمن ادعى أنه يجوز عليه أن يكفر بالله أو يشك فيه طرفة عين، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، بل لا تجوز عليه المعاصي في الأفعال، فضلًا عن أن ينسب إلى الكفر في الاعتقاد، بل هو المنزّه عن ذلك فعلًا واعتقادًا، وقد مهدنا ذلك في كتب الأصول بأوضح دليل.

المقام الثالث: أن الله قد عرّف رسوله بنفسه وبصّره بأدلته، وأراه ملكوت سماواته وأرضه، وعرّفه سنن من كان قبله من إخوته فلم يكن يخفى عليه من أمر الله ما نعرفه اليوم، ونحن حُثالة أمته، ومن خطر له ذلك فهو ممن يمشي مُكِبًّا على وجهه، غير عارف بنبيّه ولا بربه.

المقام الرابع: تأملوا فتح الله إغلاق النظر عنكم إلى قول الرواة الذين هم بجهلهم أعداء على الإسلام ممن صرح بعداوته أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جلس مع قريش تمنى أن لا ينزل عليه من الله وحي1 فكيف يجوز لمن معه أدنى مسكة أن يخطر بباله أن النبي صلى الله عليه وسلم آثر وصل قومه على وصل ربه، وأراد أن لا يقطع أنسه بهم بما ينزل عليه من عند ربه من الوحي الذي كان حياة جسده.

1 انظر السبب السادس من أسباب بطلان القصة متنًا ص 36

ص: 50

وقلبه، وأنس وحشته وغاية أمنيته، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، فإذا جاءه جبريل، كان أجود بالخير من الريح المرسَلة، فيؤثر على هذا مجالسته للأعداء؟!

المقام الخامس: أن قول الشيطان: "تلك الغرانيق العلى، وأن شفاعتهن لترتجى" للنبي صلى الله عليه وسلم قَبِله منه، فالتبس عليه الشيطان بالملَك، واختلط عليه التوحيد بالكفر، حتى لم يفرّق بينهما، وأنا من أدنى المؤمنين منزلة، وأقلهم معرفة بما وفقني الله له، وآتاني من علمه لا يخفى عليَّ وعليكم أن هذا كفر لا يجوز وروده من عند الله، ولو قال أحد لكم لتبادر الكل إليه قبل التفكير بالإنكار والردع والتثريب والتشنيع، فضلًا عن أن يجهل النبي صلى الله عليه وسلم حال القول، ويخفى عليه قوله ولا يتفطن لصفة الأصنام بأنها "الغرانيق العلى وأن شفاعتهن ترتجى" وقد علم علمًا ضروريًا أنها جمادات لا تسمع ولا تبصر، ولا تنطق ولا تضر، ولا تنفع ولا تنصر ولا تشفع، بهذا كله كان يأتيه جبريل الصباح والمساء، وعليه انبنى التوحيد ولا يجوز نسخه من جهة المنقول، فكيف يخفى هذا على الرسول؟! ثم لم يَكْفِ هذا حتى قالوا: إن جبريل عليه السلام لما عاد إليه بعد ذلك ليعارضه فيما ألقي إليه من الوحي كررها عليه جاهلًا بها -تعالى الله عن ذلك- فحينئذ أنكرها عليه جبريل، وقال له:"ما جئتك بهذا! " فحزن النبي صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا

ص: 51

إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ} [الإسراء: 73] فيالله والمتعلمين والعالمين من شيخ فاسد موسوس هامد لا يعلم أن هذه الآية نافية لما زعموا، مبطلة لما رووا وتقوّلوا. وهو:

المقام السادس: وذلك أن قول ابن العربي: "كاد يكون كذا" معناه قارب ولم يكن فأخبر الله في هذه الآية أنهم قاربوا أن يفتنوه عن الذي أوحي إليه، ولم تكن فتنة، ثم قال:{لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ} [الإسراء: 73] وهو:

المقام السابع: ولم يفتر، ولو فتنوك وافتريت لاتخذوك خليلًا، فلم تفتتن ولا افتريت ولا اتخذوك خليلًا، {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ} [الإسراء:74] وهو:

المقام الثامن: {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء:74] ، فأخبر الله سبحانه وتعالى أنه ثبته، وقرر التوحيد والمعرفة في قلبه، وضرب عليه سرادق العِصمة، وآواه في كَنَف الرحمة، ولو وكله إلى نفسه، ورفع عنه ظل عصمته لحظة، لألممت بما راموه ولكنا أمرنا عليك المحافظة، وأشرقنا بنوره الهداية فؤادك، فاستبصر وأزاح عنك الباطل ودحر، فهذه الآية نص في عصمته من كل ما نسب إليه، فكيف يتأولها أحد عدوا عما1 نسب إليه من الباطل إليه؟!

1 كذا في الأصل.

ص: 52

المقام التاسع: قوله: "فما زال مغمومًا مهمومًا حتى نزلت عليه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} [الحج:52] 1، فأما غمه وحزنه، فبأن تمكن الشيطان مما تمكن مما يأتي بيانه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعز عليه أن ينال الشيطان شيئًا وإن قل تأثيره.

المقام العاشر: إن هذه الآية نص في غرضنا، الدليل على صحة مذهبنا، أصل في براءة النبي صلى الله عليه وسلم مما نسب إليه أنه قاله عندنا، وذلك أنه قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج:52] 2، فأخبر الله تعالى أن من سنته في رسله، وسيرته في أنبيائه، أنهم إذا قالوا عن الله قولًا، زاد الشيطان فيه من قبل نفسه، كما يفعل سائر المعاصي، كما تقول: ألقيت في الدار كذا، وألقيت في العِكم3 كذا، وألقيت في الكيس كذا، فهذا نص في أن الشيطان زاد في الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم، لا أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ تلا قرآنا مقطّعًا، وسكت في مقاطع الآي سكوتًا محصلًا، وكذلك كان حديثه مترسلًا فيه

1 انظر الرواية 3، 4، 6.

2 الأصل "تلاوته".

3 بكسر العين: العدل

ص: 53

متأنيًا، فتبع الشيطان تلك السكتات التي بين قوله:{وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 20] وبين قوله تعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} [النجم: 21]، فقال يحاكي صوت النبي صلى الله عليه وسلم:"وأنهن الغرانقة العلى وإن شفاعتهن لترتجى"، فأما المشركون، والذين في قلوبهم مرض لقلة البصيرة وفساد السريرة، فتلوها عن النبي صلى الله عليه وسلم، ونسبوها بجهلهم إليه، حتى سجدوا معه اعتقادًا أنه معهم، وعلم الذين أوتوا العلم والإيمان أن القرآن حق من عند الله، فيؤمنون به، ويرفضون غيره، وتجيب قلوبهم إلى الحق، وتنفر عن الباطل، وكل ذلك ابتلاء من الله، ومحنة، فأين هذا من قولهم؟! وليس في القرآن إلا غاية البيان بصيانة النبي صلى الله عليه وسلم في الإسرار والإعلان، عن الشرك والكُفران، وقد أودعنا إليكم توصية أن تجعلوا القرآن، إمامكم، وحروفه أمامكم، فلا تحملوا عليها ما ليس فيها، ولا تربطوا بها ما ليس منها، وما هدي لهذا إلا الطبري بجلالة قدره وصفاء فكره، وسعة باعه في العلم، وشدة ساعده وذراعه في النظر، وكأنه أشار إلى هذا الغرض، وصوَّب على هذا المرمى فقرطس بعد ما ذكر في ذلك روايات كثيرة باطلة لا أصل لها، ولو شاء ربك لما رواها أحد، ولا سطرها، ولكنه فعال لما يريد، عصمنا الله وإياكم بالتوفيق والتسديد، وجعلنا من أهل التوحيد بفضله ورحمته".

ص: 54