الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رد الحافظ ابن حجر وتعقبنا عليه
…
إن الشيطان هو الذي ألقى ذلك في سكتة النبي صلى الله عليه وسلم بين الآيتين، محاكيًا نغمة النبي صلى الله عليه وسلم وأشاع ذلك المشركون عنه صلى الله عليه وسلم، ولم يقدح ذلك عند المسلمين لحفظه السورة قبل ذلك على ما أنزلها الله، وتحققهم من حال النبي صلى الله عليه وسلم في ذمّ الأوثان وعيبها على ما عرف منه، وقد حكى موسى بن عُقبة في مغازيه نحو هذا وقال:"إن المسلمين لم يسمعوها، وإنما ألقى الشيطان ذلك في أسماع المشركين وقلوبهم"1 ويكون ما روي من حزن النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الإشاعة والشبهة وسبب هذه الفتنه.
ردُّ الحافظ على ابن العربي والقاضي عِياض وتعقبنا عليه:
وأما قول الحافظ في "الفتح" بعد أن نقل خلاصة عن الوجوه التي تقدمت عن الإمامين المذكورَيْن في إعلال القصة وتوهينها:
"وجميع ذلك لا يتمشى على قواعد، فإن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها، دلّ ذلك على أن لها أصلًا، وقد ذكرت أن ثلاثة أسانيد منها على شرط الصحيح، وهي مراسيل يحتج بمثلها من يحتج بالمرسل، وكذا من لا يحتج به لاعتضاد بعضها ببعض".
1 قلت: ونحوه في رواية عروة "رقم 6 ص 24- 25"، وإن كان في آخرها ما يخالف هذا وقد نقلت رواية موسى بن عقبه عن ابن كثير فيما تقدم "ص 19".
فأقول: إن هذا الجواب ليس بالقوي على إطلاقه لما بيَّنّا فيما تقدم أن تقوية الحديث بكثرة الطرق ليس قاعدة مضطردة، نعم من ذهب إلى الاحتجاج بالمرسل مطلقًا أو عند اعتضاده، ففي الجواب رد قوي عليه، كالقاضي عياض وغيره ممن يقبل مرسل الثقة1 أما نحن فهو غير وارد علينا لما أوردنا من الاحتمالات التي تمنع الاحتجاج بالحديث المرسل ولو من غير وجه، ولعل هذا مذهب الحافظ ابن كثير حيث قال عند تفسيره للآية السابقة "3/229":
"قد ذكر كثير من المفسرين ها هنا قصة الغرانيق، وما كان من رجوع كثير من المهاجرة إلى أرض الحبشة، ظنًا منهم أن مشركي قريش قد أسلموا، ولكنها من طرق كلها مرسلة، ولم أرها مسندة من وجه صحيح".
فإن ابن كثير يعلم أن بعض هذه المراسيل التي أشار إليها أسانيدها صحيحة إلى مُرْسِلها، فلو كان بعضها يعضد بعضًا عنده وتقوي القصة بذلك، لما ضعفها بحجة أنه لم يرها مسندة من وجه صحيح وهذا بيِّن لا يخفى ثم إن من الغريب أن الحافظ ابن حجر مع ذهابه إلى تقوية
1 تخريج الكشاف "4/112"
القصة يرى أن فيها ما يُستنكر وأنه يجب تأويله فيقول بعد كلامه الذي نقلته آنفًا: "وإذا تقرر ذلك تعيَّن تأويل ما وقع فيها مما يستنكر وهو قوله: "ألقى الشيطان على لسانه: "تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى" فإن ذلك لا يجوز حمله على ظاهره لأنه يستحيل عليه صلى الله عليه وسلم أن يزيد في القرآن عمدًا منه، وكذا سهوًا إذا كان مغايرًا لما جاء به من التوحيد لمكان عصمته".
ثم ذكر الحافظ مسالك العلماء في تأويل ذلك، ثم اعتمد على الوجه الأخير منها. وهو الذي نقلناه عن القاضي عياض قبيل هذا الفصل، وقلنا إنه رجَّحه، ثم قال الحافظ:"وهذا أحسن الوجوه، ويؤيِّده ما تقدم في صدر الكلام عن ابن عباس من تفسير تمنَّى بـ"تلا".
فينتج من ذلك أن الحافظ رحمه الله، قد سَّلم أن الشيطان لم يتكلم على لسان النبي صلى الله عليه وسلم بتلك الجملة، وإنما ألقاها الشيطان بلسانه في سكتة النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا لا يتفق البتة مع القول بصحة القصة، أو أن لها أصلًا، فإن كان يريد بذلك أن لها أصلًا في الجملة، أعني بدون هذه الزيادة، فهذا ليس هو موضع خلاف بينه وبين العلماء الذين ردّ عليهم قولهم ببطلان القصة، وإنما الخلاف في الجملة التي تزعم الروايات أن الشيطان ألقاها
على لسانه صلى الله عليه وسلم فإذ قد صرح الحافظ بإنكارها وتنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عنها فنستطيع أن نقول لحضرة السائل:
إن الحافظ متفق مع ابن كثير -وغيره ممن سبقه ولحقه- على إنكار القصة على ما وردت في الروايات حتى التي صحَّحها الحافظ، وأما ما بقي منها مما لا يتنافى مع عصمة النبي صلى الله عليه وسلم، فلا خلاف في إمكان وقوعها، بل الظاهر أن هذا القدر هو الذي وقع بدليل ظاهر آية الحج حسبما تقدم تفسيرها في أوائل الرسالة1.
نعم يرد على الحافظ هنا اعتراضان:
الأول: تليينه العبارة في إنكار تلك الزيادة، لأنه إنما أنكرها بطريق تأويلها! وحقه أن ينكرها من أصلها، لأن التأويل الذي زعمه ليست تفيده تلك الزيادة أصلًا، لأن الحافظ يقول:"إن الشيطان هو الذي ألقى بلسانه في سكتة النبي صلى الله عليه وسلم". وهي تقول: "إن الشيطان ألقى على لسان النبي صلى الله عليه وسلم" فأين هذا من ذلك؟!
1 وبعد كتابة ما تقدم رأيت شيخ الإسلام ابن تيمية يميل إلى تثبيت القصة بالقدر المذكور، وأن قوله: "تلك الغرانيق العلى
…
" لم يلفظ به الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما ألقاه الشيطان في أسماعهم. راجع كلامه في الفتاوى "2/282".
الثاني: تشنيعه القول على ابن العربي والقاضي عياض لإنكارهما القصة، ومع أنه يعلم أنهما أنكراها لم فيها من البواطيل التي لا تتفق مع القول بعصمة الرسول الكريم، منها هذه الزيادة التي وافقها الحافظ على استنكارها، مع فارق شكلي وهو أنهما كانا صريحين في إنكارها من أساسها، بينما الحافظ إنما أنكرها بطريق تأويلها –زعم-.
ومن هنا يتبين لك ضعف ما قاله في رده على القاضي في "تخريج الكشاف".
"وأما طعنه فيه باختلاف الألفاظ فلا تأثير للروايات الواهية في الرواية القوية، فيعتمد من القصة على الرواية الصحيحة، أي: يُعتمد على الرواية المتابعة، وليس فيها وفيما تابعها اضطراب والإضطراب في غيرها، وأما طعنه من جهة المعنى فله أسوة كثيرة من الأحاديث الصِّحاح التي لا يؤخذ بظاهرها، بل يرد بالتأويل المعتمد إلى ما يليق بقواعد الدين".
قلت: إن هذا الرد ضعيف، لأن الرواية الصحيحة التي أشار إليها هي رواية ابن جُبير المتقدمة وفيها كما في غيرها من الروايات المتابعة الأمر المستنكر باعترافه، بل في بعض الروايات عن سعيد ما هو أنكر من ذلك وهو قوله:
"ثم جاءه جبريل بعد ذلك فقال: إعُرض علي ما جئتك به، فلما بلغ "تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى" قال له
جبريل: لم آتك بهذا، وهذا من الشيطان!! " وقد جاء هذا في غير رواية سعيد كما تقدم، ولازمه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد انطلى عليه وحي الشيطان واختلط عنده بوحي الرحمن، حتى لم يميِّز بينهما، وبقي على هذه الحالة ما بقي، إلى أن جاءه جبريل في المساء! سبحانك هذا بهتان عظيم وافتراء جسيم
فاتضح أن ليس هناك رواية معتمدة صحيحة بالمعنى العلمي الصحيح، وأن الرواية التي صححها الحافظ قد أنكر بعضها هو نفسه فأين الإعتماد.
وأما قوله: "إن حديث الغرانيق له أسوة بكثير من الأحاديث الصحيحة"، فصحيح لو صح إسناده وأمكن تأويله، وكلا الأمرين لا نسلِّم به. أما الأول فلما علمت من إرساله من جميع الوجوه حاشا ما اشتد ضعفه من الموصول، وإنها على كثرتها لا تعضده. وأما الأمر الآخر فلأن التأويل الذي ذهب إليه الحافظ رحمه الله هو في الحقيقة ليس تأويلًا، بل هو تعطيل لحقيقة الجملة المستنكرة، وهو أشبه ما يكون بتأويلات بل تعطيلات القرامطة والرافضة للآيات القرآنية والأحاديث المصطفوية. تأييدًا لمذاهبهم الهدّامة وآرائهم الباطلة، خلافًا للحافظ رحمه الله فإنه إنما فعل ذلك دفاعًا عن مقام الحضرة النبوية والعصمة المحمدية، فهو مشكور على ذلك ومأجور، وإن كان مخطئًا عندنا في ذلك التأويل مع تصحيح القصة.