الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد عبّر عنه جماعةٌ فكان أقربَ أقوالهم الى القلب ما ذكرَه عبد الله بن المُعتز، فإنه قال: الاستثناء في الشعر تأكيد مدحٍ بما يُشبهُ الذمَ. فمن ذلك قولُ النابغة:
ولا عيبَ فيهم غيرَ أنّ سُيوفَهُمْ
…
بهِنّ فُلولٌ من قِراع الكتائِبِ
وأما النّحويّون فالاستثناء في الكلام عندهم استخراجُ بعضٍ من كلٍ في حكم شاملٍ بمعنى إلا. وقال أيضاً:
فتىً كمُلَتْ أخلاقُه غيرَ أنّه
…
جوادٌ فما يُبقي من المالِ باقيا
وقال أيضاً:
فتىً تمّ فيه ما يسُرُّ صديقَهُ
…
على أنّ فيه ما يسوءُ الأعاديا
فقوله في البيت الأول غير أنه وفي البيتِ الثاني على أنّ فيه من أبرعِ الاستثناء وأحسنه. وقالوا: أحسنُ ما ورد في هذا النوع قول الربيع بن ضَبّة:
فَنيتُ ولا يَفْنى حديثي ومنطقي
…
وكلّ امرئٍ إلا أحاديثَهُ فانِ
وقال قوم: بل قول الآخر:
فلا تَبعُدَنْ إلا من السوءِ إنّني
…
إليكَ وإن شطّتْ بيَ الدارُ نازِعُ
وقال آخرون: بل قول بعض الأعراب: خَرْقاءُ إلا أنها صَناع. وقد أحسن وأجاد في هذا الباب أبو هِفّان المِهْزَميّ العبدي حيث يقول:
فإن تسألي عنّا فإنّا حُلَى العُلى
…
بني عامرٍ، والأرضِ ذاتِ المناكبِ
ولا عيبَ فينا غيرَ أنّ سماحَنا
…
أضرّ بنا، والبأسُ من كل جانِبِ
فأفنى الرّدى أعمارَنا غيرَ ظالمٍ
…
وأفنى النّدَى أموالَنا غيرَ عائبِ
أبونا أبٌ لو كان للناسِ كلِّهمْ
…
أبٌ مثلُهُ، أغناهُمُ بالمناقِبِ
ومنها:
باب الإيغال
ويسمّى التبليغ، وهو أن يأتي الشاعرُ بالمعنى في البيت تاماً قبل انتهائه الى قافيته، ثمّ يأتي بها لحاجة الشعر إليها، لأن بها يصيرُ الشعرُ شعراً، فيزيدُ البيت رونقاً، والمعنى بلوغاً الى الغاية القُصوى. وقال التّوّزيّ: قلتُ للأصمعي: مَنْ أشعرُ الناس؟ قال: من يأتي الى المعنى الخَسيس فيجعلُه بلفظه كبيراً، أو يقصِد المعنى الكبير فيجعلُه بلفظهِ خسيساً، أو ينقضي كلامُهُ قبل القافية، فإذا احتاج إليها أتى بها وأفاد معنى لم يكن قبلَها، كما قال الأعشى:
كناطِحٍ صخْرَةً يوماً ليَفلِقَها
…
فلم يضِرْها وأوْهى قرنَهُ
…
فقد تمّ المثلُ ثم احتاج الى القافية، فقال الوعل فزادَ معنىً. قال: قلت له: فكيف صار الوعلُ مفضّلاً على كلِّ ناطحٍ، قال: لأنّه ينحطُّ من قُلّةِ الجبل على قرنِه فلا يَضُرُّه. وقال ذو الرمّة:
قِفِ العيسَ في أطْلالِ ميّةَ نسْألِ
…
رُسوماً كأخلاقِ الرِّداءِ
…
فتمّ كلامُه، ثم احتاج الى القافية فقال: المُسَلْسَل، فزاد معنى. ثم قال:
أظنّ الذي يُجْدي عليْكَ سؤالها
…
دُموعاً كتفْصيلِ الجُمانِ
…
فتمّ كلامُه، ثم احتاج الى القافية فقال المُفَصَّلِ فزاد شيئاً لم يكُنْ في البيت. وأبرعُ ما قيلَ في هذا الباب قول امرئ القيس:
كأنه عيونَ الوحْشِ حولَ قِبابِنا
…
وأرْحُلِنا الجَزْعُ الذي لم يُثَقَّبِ
فأتى بالتشبيه قبل القافية، ثم لما جاءَ بالقافية بلّغها الأمدَ البعيدَ في التأكيد للمعنى، لأنّ عيون الوحش تشبه الجزْعَ، خصوصاً إذا ماتت وتغيّرت هيئاتُها، ثم لما أتى بالقافية قال: الجَزْعُ الذي لم يثَقَّب، فزاد المعنى إيضاحاً؛ لأنها بالجزعِ الذي لم يثقب أوقعُ بالتشبيه. وقال أيضاً:
إذا ما جرى شأوينِ وابتلّ عِطْفُه
…
تقولُ هزيزُ الرّيحِ
…
فقد تمّ العرْضُ والتشبيه قبل القافية، فلما أتى بها زادتْ القافية المعنى براعةً ونصاعة وهي قوله: مرّت بأثْأَبِ، وذلك أنّ الأثأب شجرٌ يكون للريح في أضعاف أغصانه حفيفٌ شديد. ومنها:
بابُ الاستعارة
الاستعارة من أشرف صنعة الكلام وأجلّها، وكان القدماء يسمّونها الأمثالَ فيقولون: فلان كثير الأمثال. ولقبُها بالاستعارة ألزمُ لأنه أعَمّ، ولأن الأمثالَ كلَّها ليس تجري مجرى الاستعارة، ألا ترى قول السُّلَيْك بن السُّلَكَة وقد وقع عليه رجلٌ وهو نائم فضغطَه السُلَيكُ، فحبَقَ الرجل، فقال السليك: أضرطاً وأنتَ الأعلى! فأرسلها مثلاً، وقد أورد الشيءَ على حقيقته. ومن أبرع ما قيل في الاستعارة قول ذي الرّمّة:
أقامتْ به حتى ذوى العودُ في الثّرى
…
وساقَ الثُّريّا في مُلاءَتِه الفجْرُ
قال أبو عمرو بن العلاء: كانتْ يدي في يد الفرزدق فأنشدته بيت ذي الرمة، فقال: أُنشِدُكَ أم أدعُك؟ قال: قلت: بل أنشِدْني، فقال: أقامَت به حتى ذوى العودُ والثّرى، ثم قال: العود لا يذوي مهما أقام في الثرى، ثم قال: ولا أعلمُ كلاماً أحسنَ من قوله: وساقَ الثريّا في مُلاءَته الفجْرُ، ولا مُلاءَة له وإنما هي استعارة. وقال ابن المعتزّ: العود لا يذوي ما دام في الثّرى. قال الصّولي: اجتمعتُ وجماعةً من فرسان الشعر عند عبد الله بن المعتز، وكان بعِلمِ البديع محقِّقاً ينْصُرُ دعواه لسانُ مذاكرتِهِ، فلم يبقَ مسلَكٌ من مسالكِ الشر إلا وسلكناه، وأوردْنا أحسن ما قيل في معناه، الى أن قال ابنُ المعتز: ما أحسنُ استعارةٍ للعرب اشتملَ عليها بيتٌ من الشر؟ فقال الأسدي: قول لبيد:
وغداةَ ريحٍ قد كشَفْتُ وقرّةٍ
…
إذْ أصبَحتْ بيدِ الشّمالِ زمامُها
فجعل للشمال يداً وللغداةِ زِماماً، فقال ابن المعتزّ: هذا حسن وغيرُه أحسن منه، وقد أخذَه من قول ثعْلَبة بن صُعَيْر المازني يصفُ نَعامةً وظَليماً:
فتذكّرا ثَقَلاً رثيداً بعدَما
…
ألْقَتْ ذُكاءُ يمينَها في كافِرِ
الثَّقَل: بيضُ النعام، والرثيد: المنضود بعضُه على بعض، وذُكاء: الشمس، وكافر: الليل، جعل للشمس يميناً ملقاةً في الليل. قال: وقول ذي الرّمة أعجب إليّ منه وإنْ تأخّر زمانُه، حيث يقول:
ألا طرَقَتْ مَيٌّ هَيوماً بذِكْرِها
…
وأيْدي الثُريّا جُنَّحٌ في المغاربِ
وقال بعضُنا: قولُ لبيد أحسن:
ولقد حَمَيْتُ الحيَّ تحمِلُ شكَّتي
…
فُرُطٌ، وشاحي إذ غدَوْتُ لجامُها
يقال: فرسٌ فُرُط إذا تقدّم الخيلَ وسبقها. قال ابنُ المعتز: هذا حسن، وانظروا الى قول الهُذَليّ:
ولو أنني استودَعْتُهُ الشّمسَ لارتَقَتْ
…
إليه المنايا عينُها ورسولُها
ثم قال: هذا بديع، وأبدعُ منه في استعارة لفظ الاستيداع قولُ الحُصَيْن بن الحُمام المُرّي حيث يقول:
نُطاردُهُم نستودِعُ البيضَ هامَهُمْ
…
ويستودعونا السَّمْهَريَّ المُقَوَّما
في هذا البيت معنىً لطيف يدلّ على إقدامهم وتأخّر خصومهم، فاعرِفْه من لفظه، وقال بعضُنا: قول ذي الرمة أحسن:
أقامت به حتى ذَوى العودُ في الثّرى
…
وساق الثريّا في مُلاءَتِه الفجْرُ
فقال ابنُ المعتز: هذا هو الغاية، وذو الرمة أبدعُ الناس استعارة. قال الصّولي: فكأنه والله نبّهني على ذي الرمّة، فقلت: بل قوله أحسن:
ولما رأيتُ الليلَ والشمسُ حيّةٌ
…
حياةَ الذي يقضي حُشاشةَ نازِعِ
فقال ابن المعتز: اقتَدَحْتَ زنْدَك فأوْرَى يا أبا بكر، هذا بارعٌ جداً، ولكن قد سبقَه الى هذه الاستعارة جرير وأجاد بقوله:
تُحْيي الرّوامِسُ رَبْعَها فتُجِدُّهُ
…
بعدَ البِلَى، وتُميتُهُ الأمطار
قال: وهذا بيت حسن قد جمع الاستعارة والمُطابقة، لأنه جاء فيه بالإحياء والإماتة والبِلى والجِدّة، ولكنْ ذو الرّمة قد استولى ذِكرَ الإحياء والإماتة في موضع آخر فأحسنَ بقوله:
ونَشْوانَ من طِولِ النُعاس كأنّهُ
…
بحَبْلَين في أنشوطةٍ يترجّحُ
إذا ماتَ فوق الرّحْلِ أحْيَيْتُ روحَه
…
بذِكْراكِ والعيسُ المراسيل جُنَّحُ
قال الصّولي: وانصرفْنا وما من الجماعة إلا من قد غمرَهُ بحْرُ ابنِ المعتز في عِلم الشعر، وحُسْن تصرّفهِ في الكلام.
وأقول: إنّ أوّل مَن استعارَ في الشِّعر امرؤ القيس، فمن استعاراته قولُه:
وليلٍ كموْجٍ اليَمِّ مُرْخٍ سُدولَه
…
عليّ بأنواع الهمومِ ليَبْتَلي
فقلت له لما تمطّى بجَوْزِه
…
وأردف أعْجازاً وناءَ بكَلكَلِ
وقال زهير:
صَحا القلبُ عن سَلْمى وأقصرَ باطلُهْ
…
وعُرِّيَ أفراسُ الصِّبى ورَواحلُهْ
قال الأصمعي: أول من عرّى أفراس الصِّبى طُفَيل بقوله:
فأصبحتُ قد عنّفْتُ بالجهلِ أهلَه
…
وعُرِّيَ أفراسُ الصِّبى ورواحِلُهْ
وقال العُدَيْل بن الفَرْخ:
تكون لنا بيضُ السيوف مَعاذَةً
…
إذا طِرْن بالأيدي كلَمْحِ العقائِقِ
وقال أيضاً:
مَن الطاعِنُ الجبّار، والخيلُ بينها
…
عجاجٌ تهادى نقْعُهُ بالسّنابِكِ
الاستعارة تَهادى، والقرينةُ بالسنابك. وقال مُزاحم العُقَيْلي:
سجَنْتُ الهوى في الصّدْرِ حتى تطلّعَتْ
…
بناتُ الهوى يُعْوِلْنَ من كلِّ مُعْوِلِ
جعل صدرَه سِجناً للهوى، وجعل للهوى بناتٍ، وإنما يعني همومَه، وجعلها متَطلِّعةً، وجعلها مُعْوِلَةً، وهذه من الاستعارات الحسَنةِ. وقالت الخنساء:
لدى مأزِقٍ بينها ضيِّقٍ
…
تجُرُّ المنيةُ أذْيالَها
جعلتْ للمنية أذيالاً وجعلَتْها مجرورةً والقرينة لفظية. وقال مُزاحم العُقيلي يصِف فَلاةً:
تموتُ الرياحُ الهُوجُ في حَجَراتِها
…
وهيهاتَ من أقطارِها كلُّ مَنْهَل
وقال جرير:
ورأيت راحلةَ الصِّبا قد قصّرتْ
…
بعدَ الذّميلِ وملّتِ التَّرحالا
وقال أيضاً:
غداةَ ابتَقرْنا بالسيوفِ أجِنّةً
…
من الحرْبِ في مَنْتوجَةٍ لم تُطَرَّقِ
ابتقرنا، افتعلنا من البَقر وهو شقُّ البطن للحُبْلى وغيرها، فاستعار للحرب بطناً وأوجب عليها بَقْراً، واستخراج جنينها. والتطريق أن يعْسُرَ خروج الولد، وهذه استعارة للحرب حسنة. وقال العائذي:
ونحنُ بنو حربٍ غذَتْنا بثَدْيِها
…
وقد شمِطَتْ أصداغُها وقرونُها
وقال حاجب بن زُرارة:
ومِثلي إذا لم يُجْزَ أكرَمَ سعيهِ
…
تكلّمُ نُعْماه بفِيها فتَنطِقُ
ومن هذا البيت أخذ نُصَيْب قولَه:
فعاجُوا فأثْنَوا بالذي أنتَ أهلُهُ
…
ولو سكَتوا أثنَتْ عليكَ الحقائِبُ
وقال الفرزدق:
والشيبُ ينهضُ في الشبابِ كأنّهُ
…
ليلٌ يَصيحُ بجانبَيْهِ نهارُ
أخذهُ ابنُ هَرْمة فقال:
وقد صاحَ في الليلِ النّهارُ كأنّه
…
خِلافَ الدُجى أقرابُ أبْلَقَ أقْرَحا
وقال ابن مُقْبِل:
لدُنْ غُدْوَةً حتى نزَعْنَ عشيّةً
…
وقد مات شطرُ الشّمْسِ والشطْرُ مُدْنِفُ
وقال سليمان بن عمّار السُلَميّ:
وموْلًى كداءِ البطنِ ليسَ بزائلٍ
…
تدِبُّ أفاعيه لَنا والعقارِبُ
أقام قوارصَ كلامِه مقامَ الأفاعي والعقارب، وهذه استعارة حسنة قرينتُها لفظية وهي قوله: تدِبُّ. وقال جَحْشُ بن زيدٍ الحَنَفي:
فَطَمْنا بني كعبٍ عن الحرب بعدَها
…
ولاقَوْا من الأبطال وقعاً غَشَمْشَما
القرينةُ في هذا البيت معنويّة، وذلك أنه قد استقرّ عندَهُم تشبيهُ الحرب بالناقة على صِفاتٍ مختلفة، وأنهم يذكرون أخلافها وأنها تدِرُّ وتُحلب، فلما استقرّ عندَهم وكثُرَ بينهم كان اطِّراحُه وإيرادُه عندهم واحداً، وهذا معنى لطيف فاعْرفْهُ. وقال عجلان بنُ لأيٍ الثّعلبي:
عجِبْتُ لداعي الحرب والحربُ شامِذٌ
…
لَقاحٌ بأيْدينا تُحَلُّ وتُرْحَلُ
الشامِذُ: الناقةُ شَمذت تشْمِذُ بالكسر شِماذاً إذا لُقِحَتْ فشالَت بذنَبِها. وقال صابرُ بنُ صفوان الهُذَلي الحنَفيّ:
وقدأشعلَتْ نيرانَها الشمسُ واصْطَلى
…
بها غَضْوَرُ البيداءِ حتى تلهّبا
وقال المُحْرِز بن المُكعبِر الضّبّي:
سالتْ عليهِ شِعابُ العِزِّ حين دَعا
…
أصحابَهُ بوجوهٍ كالدنانيرِ
هذه استعارة حسنة قرينتُها لفظية، وهي قولُه: سالتْ عليه شعابُ العِزِّ فذكر السّيْلَ مع الشِعاب، ولو قال: سالَ عليه العزُّ لم يكُ حسَناً. وقال رجلٌ من بَلْعنبر: