المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌وهل تعاطيه أصلح، أم رفضه أوفر وأرجح - نضرة الإغريض في نصرة القريض

[المظفر بن الفضل]

فهرس الكتاب

- ‌المظفّر بن الفضل العلوي

- ‌الفصل الأول

- ‌في وصف الشعر وأحكامه

- ‌وبيان أحواله وأقسامه

- ‌باب الإشارة

- ‌باب الكناية

- ‌باب الموازنة

- ‌باب التجنيس

- ‌التجنيسُ المُقارب

- ‌تجنيس المعنى

- ‌المُجَنَّسُ المُطْمع

- ‌التجنيس المُبذَل

- ‌المجنس المختلف

- ‌تجنيسُ الخَطّ

- ‌ومنه تجنيس البَعْض: قال القُطاميّ:

- ‌المجنسُ المُتَمَّم

- ‌تجنيسُ القَوافي

- ‌التنجيسُ المماثل

- ‌باب المطابقة

- ‌باب التصدير

- ‌باب الالتفات

- ‌باب الاستطراد

- ‌باب التقسيم

- ‌بابُ التسهيم

- ‌باب الترصيع

- ‌باب الترديد

- ‌بابُ المُقابلة

- ‌باب الاستثناء

- ‌باب الإيغال

- ‌بابُ الاستعارة

- ‌باب التشبيه

- ‌باب الحشو السديد في المعنى المفيد

- ‌باب المتابعة

- ‌باب المَخْلَص المليح إلى الهجاء والمديح

- ‌باب التضمين

- ‌باب تجاهل التعارف

- ‌باب المماتنة والإنفاد والإجازة

- ‌باب السّرقة

- ‌الفصل الثاني

- ‌فيما يجوزُ للشاعر استعمالُه وما لا يجوز

- ‌وما يُدركُ به صواب القولِ ويجوز

- ‌الفصل الثالث

- ‌في فضلِه ومنافِعِه وتأثيرهِ في القلوبِ ومواقعِه

- ‌الفصل الرابع

- ‌في كشفِ ما مُدِحَ به وذُمّ بسببه

- ‌وهل تعاطيهِ أصلح، أم رفضه أوفر وأرجح

- ‌الفصل الخامس

- ‌فيما يجب أنْ يتوخاهُ الشّاعرُ ويتجنَّبَه

- ‌ويطّرحَه ويتطلّبَه

الفصل: ‌وهل تعاطيه أصلح، أم رفضه أوفر وأرجح

إنّك يا بِشْرُ لَذو وهمٍ وهمّْ

في زَجْرِكَ الطّيْرَ على إثْرِ النّدَمْ

أَبْشرْ بوقْعٍ مثلِ شُؤبوبِ الرِّهَمْ

وقطْعِ كفّيكَ ويُثْنى بالقَدَمْ

وباللسان بعدَها وبالأشَمّْ

إنّ ابنَ سُعْدى ذو عِقابٍ ونِقَمْ

فلما أتوا به قال له أوسٌ: هجَوْتَني ظالماً، فاختَر بين قطْع لسانِك وحبسِك في سَرَبٍ حتى تموت، وبين قطعِ يديك ورجليْك وتخليةِ سبيلك. ثم دخل على أمِّه سُعْدى وقد سَمِعَتْ كلامه فقالت له: يا بُنيّ لقد مات أبوك فرَجوْتُك لقومِك عامةً، وقد أصبحتُ - والله - لا أرجوك لنفسِك خاصةً، ويحكَ أزَعَمْتَ أنّك قاطِعٌ رَجُلاً شاعِراً؟ ومتى كانت الشعراءُ تُعامَل بغير الإحسان؟ فإنْ كنتَ زعمتَ أنّه هجاك، فمَنْ يمحو إذاً ما قالَه فيك؟ قال: فما أصنَعُ به؟ قالت: تكسوهُ حُلَّتَكَ وتحْمِلُهُ على راحلتِك وتأمُرُ له بمائة ناقة، عساهُ يغسِلُ بمديحِهِ هجاءَهُ. فخرج من عندِها فخلّى سبيلَه وأحسنَ إليه وفعل أضعافَ ما أمرتْهُ به أمّه. فامتدحَه بِشْرٌ فأكثر، ورَحضَ عنه الدَّنَس والوَضَر.

قال الأخفش: مدحَ بِشْرٌ أوساً وأهلَ بيتِه مكان كلِّ قصيدةٍ هجاهم بها قصيدةً، وكان قد هجاهُم بخَمسٍ فمدحَهُم بخمس. فمن ذلك كلمته المختارة:

كَفى بالنّأي من أسماءَ كافِ

وليسَ لحُبّها إذ طالَ شافِ

فكان الأمرُ كما قالَتْهُ أمّه، إذ مَحا بِشْرٌ بمدحِه ذَمَّه.

وفي هذا الباب من تأثير الشِّعْرِ وزَماجِرِ أسودِ الغِضابِ، ما يكثرُ منه العجبُ العُجاب، وفيما أوردناهُ كفاية لذوي الألباب.

‌الفصل الرابع

‌في كشفِ ما مُدِحَ به وذُمّ بسببه

‌وهل تعاطيهِ أصلح، أم رفضه أوفر وأرجح

أمّا مدْحُ الشّعرِ على لسان النبيّ صلى الله عليه وسلم وألسُنِ الصحابةِ رضوانُ اللهِ تعالى عليهم أجمعين فكثيرٌ غزير، لا يُنْكِرُ ذلك إلا غمْرٌ من الأدبِ فقير. وفي الاقتداء بهِم والاقتفاء لمنهجِهم رشادٌ لا يضِلُّ سالكُه، ومِهادٌ لا يُزَحْزَح مالِكُه، وزَنْدٌ لا يُصلِدُ قادِحُه، وإمدادٌ لا يُنزَفُ ماتِحُه. فمن ذلك قولُه صلى الله عليه وسلم: (

منَ الشعرِ لَحِكمة) ، وفي موضع آخر (إنّ من الشعرِ لحِكما) . هذا قولُه، وهو صلى الله عليه وسلم لا ينطبقُ عن الهَوى بعدَ أن قال الله تعالى في شأن داودَ عليه السلام:(وآتَيْناهُ الحِكمةَ وفصْلَ الخِطابِ) . وقال تعالى: (ولوطاً آتَيناهُ حُكْماً وعِلْماً) ، فجعل صلى الله عليه وسلم بعضَ الشِّعر جُزْءاً من الحكمةِ التي خصّ اللهُ تعالى بها أنبياءَه ووصفَ بها أصفياءَه، وامتنّ عليهم بذلك إذ جعلَهم مخصوصينَ بها من قِبَلِه، ومغمورينَ بفخرِها من جهَتِه، وناهيكَ بذلكَ فضيلةً للشعرِ والشعراء، ومَزيّةً عظُمَ بها قدرُ الأدبِ والأدباء. وقال صلى الله عليه وسلم لحسّان بن ثابت:(أنت حسّانُ ولسانُك حُسام) ، وهذا الكلام من بابِ الجِناس المُطْمِع. ولولا الشعرُ لما جعلَ لسانَه حُساماً على المجاز، لمضائِه في القول والرَّهْبَة من قوارصِه، كما يمضي الحُسامُ في الضريبةِ ويُخاف من غُروبِه عند المُصيبة. وقالصلى الله عليه وسلم لحسّان أيضاً:(أجِبْ عني، اللهُمَّ أيّدُهُ بروح القُدُس) . وقالَتْ عائشةُ رضي الله عنها: وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسّان منبراً في المسجد ينافحُ عنه بالشعرِ عليه. ويقول رسولُ الله صلى الله عليه وسلم (إنّ اللهَ تعالى ليؤيد حسّانَ بروحِ القُدُس) وقال له: (أُهْجُهُم) أو قال: (هاجِهِم وجبريلُ معَك) . وحدّثتْ عائشةُ أنها سمِعَتْ رسول الله عليه الصلاة والسلام يقولُ لحسان: (إنّ روحَ القُدُسِ لا يزالُ يؤيّدُك ما نافَحْتَ عن الله تعالى وعن رسولهِ عليه السلام .

وروى ابنُ أبي بُرَيْدَة فيما أسنَدَه قال: أعان جبريل عليه السلام حسّانَ بنَ ثابت في مديحهِ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم بسبعينَ بيْتاً، وفيهَ نظَرٌ. وفي غيرِ خبرٍ أنّه صلى الله عليه وسلم قال لحسّان:(هيِّج الغطاريفَ على بني عبد مُناف، واللهِ لَشِعرُكَ أشدّ عليهم من وقْعِ السِّهام في غلَسِ الظّلام) .

ص: 64

ورُويَ أن قُرَيشاً لما هجَتِ الأنصارَ أتَوْا رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم واستأذنوهُ في هِجائِهِمْ فأذِن لهم، فأتَوْا كعبَ بنَ مالكٍ وكان وصّافاً للحَربِ، فعمِلَ شِعراً فقال لهُم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:(ما صنَعَ شيئاً) . فأتوا عبدَ الله بنَ رَواحة وكان وصّافاً للجنّة، فقال شعراً، وأتَوْا به النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال:(ما صنَعَ شيئاً)، فأتَوْا حسّانَ بنَ ثابت فقال: ما كنتُ لأفعلَ حتى يأمرَني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وكان حسّان أعرفَ الناسِ بهجاءِ قُرَيشٍ في الجاهلية، فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: يا حسّانُ إنّ أبا سُفيان قد هَجاني وقرابَتُه مني ما قد عرَفْتَ، فكيفَ تصنعُ؟ فقال: يا رسولَ الله لأسُلّنَّكَ منهُ كما تُسَلُّ الشّعْرَةُ منَ العجينِ، فقال له: هلْ عندَكَ من شِعرٍ يا حسّان؟ فأخرجَ لسانَه فإذا هو مثلُ ذنبِ الحيّة. فقال لهُ: اذْهَبْ فإنّ جبريلَ معكَ. فكان ممّا هجا حسّان به أبا سُفيان قولُه:

وأنتَ منوطٌ نِيطَ في آلِ هاشمٍ

كما نِيطَ خلفَ الرّاكبِ القَدَحُ الفرْدُ

وقال صلى الله عليه وسلم: (أمرتُ عبدَ الله بن رَواحة فقالَ وأحسنَ، وأمرتُ كعبَ بنَ مالك، فقال وأحسنَ، وأمرتُ حسّانَ بنَ ثابت فشَفَى واشْتَفى) . وقال عبدُ الله بنِ عبّاس: تعلّموا الشِّعرَ فإنّه أولُ عِلْم العربِ وهو ديوانُ الأدب، وعليكم بشعرِ أهلِ الحجاز، فإنّه شِعرُ الجاهليّة وقد عُفيَ عنهُ. وقال عمرُ بنُ الخطابِ رضي الله عنه: تحفّظوا الأشعارَ وطالِعوا الأخبار، فإنّ الشِّعرَ يدعو الى مكارم الأخلاقِ ويعلِّمُ محاسِنَ الأعمالِ، ويبعثُ على جميلِ الأفعالِ، ويفتُقُ الفِطْنةَ، ويشحَذُ القريحةُ، ويحدو على ابتناءِ المناقبِ وادّخار المكارمِ، وينهى عن الأخلاقِ الدنيئةِ، ويزجُرُ عن مُواقَعَةِ الريَبِ، ويحضُّ على معاني الرُتَبِ. وقال أبو بكرٍ الصديق رضي الله عنه: علِموا أولادَكم الشعرَ فإنّهُ يعلّمُهم مكارمَ الأخلاقِ. وأوْصَى الرشيدُ الكسائيَّ بالأمينِ والمأمون، فكانَ من جملةِ وصيتِه: ورَوِّهِما من الشِّعرِ فإنّهُ أوفى أدبٍ يحُضُّ على معالي الرُتَب. وقالَ معاوية: علّموا أولادَكم الشِّعرَ فإنّي أدركتُ الخِلافةَ ونلتُ الرئاسةَ ووصلتُ الى هذه المنزلةِ بأبياتِ ابنِ الإطنابةِ، فإنني يومَ الهرير كُلّما عزمتُ على الفِرارِ أنشدتُ قولَه:

أبَتْ لي عِفّتي وأبى بَلائي

وأخْذي الحمدَ بالثَّمنِ الرّبيحِ

وقولي كُلّما جشَأَتْ وجاشَتْ

مكانَكِ تُحْمَدي أو تَسْتَريحي

فأثبتُ وأقول: مكانكِ تُحمَي أو تستَريحي.

ولمّا قدِمَ الحجاجُ بنُ يوسفَ العراقَ جَفا الشُعَراءَ جفاءً اتصلَ خبرُهُ بعبدِ الملكِ بنِ مروان فكتب إليه: بسمِ اللهِ الرّحمن الرّحيم، من عبدِ اللهِ عبدِ المَلك الى الحجّاج بنِ يوسف، أمّا بعدُ: فقد بلغَني عنك أمرٌ كذّبَ فَراستي فيك، وأخلفَ ظنّي عندَك، وهو إعراضُكَ عن الشِّعْرِ والشُعراء؛ فإنّكَ لا تعرِفُ فضيلةَ الشِّعْرِ ولا تعْلَمُ مواضِعَ كلامِ الشُعراءِ ومواقِعَ سهامِهِم، أوَ ما علِمتَ يا أخا ثقيف أنّ بالشعرِ بقاءَ الذِكْرِ ونماءَ الفخْرِ، وأنّ الشعراءَ طُرُزُ المملكةِ، وحُليّ الدولة، وعناوينُ النِّعمةِ، وتمائِمُ المَجْدِ، ودلائِلُ الكرمِ، وأنهم يحُضّونَ على الأفعالِ الجميلةِ، وينهوْنَ عن الخلائِقِ الذميمةِ، وأنهم سَنّوا سبيلَ المكارِمِ لطُلاّبِها ودلّوا بُغاةَ المحامِد على أبوابِها، وأنّ الإحسانَ إليهم كرَمٌ، والإعراضَ عنهم لُؤمٌ وندَمٌ، فاسْتَدْرِكْ فارِطَ تفريطِكَ، وامْحُ بصوابِك وحْيَ أغاليطِك.

ص: 65

ومن فضيلة الشِّعرِ أنّ العُلَماءَ بالأدبِ لا يستطيعونَ نظْمَ البيتِ الفَذِّ منه، مع عدَمِ الطبيعةِ في نظمِهِ والمِنْحَةِ من اللهِ تَعالى في تأليفِه لقولِه تعالى:(وما علّمناهُ الشّعرَ وما ينْبغي له) ، فعَزى تعليمَهُ إليهُ سُبحانَه وجعلَه من جُملةِ هِباتِه للمخلوقِ وزينتِه التي يكسوها من يشاءُ، كما قال تعالى:(يَزيدُ في الخَلْقِ ما يشاءُ) . ولولا أن تكون هذه المَزيّةُ، والفضيلةُ السَّنِيَّةُ، مَوْهِبةً من اللهِ تعالى لما تعسَّرَتْ على العُلماءِ مع معرفَتِهم بأدواتِها وقبضِهم على أزِمّةِ آلاتِها، وتسهّلَتْ على الخِلْوِ من الأدبِ، والنِّضْوِ في مسارح ذلكَ الصَّبَبِ حتى يقولَ ما لا يعرفُ تعليلَهُ، وينظمَ ما يجهلُ فروعَهُ وأصولَهُ.

ومن فضيلةِ الشعرِ أنّ الكلامَ المنثورَ، وإنْ راقَتْ ديباجتُهُ ورَقّتْ بهجَتُهُ، وحسُنَتْ ألفاظُهُ، وعَذُبَتْ مناهلُهُ، إذا أنشدَه الحادي، وأوردَه الشادي، ومدّ به صوتَهُ المطرِبُ، ورفَعَ به عقيرتَهُ المنشدُ، لا يُحرّكُ رزيناً، ولا يُسلي حزيناً، ولا يُظهِرُ من القلوبِ كميناً، ولا يخَوِّنُ من الدّمْعِ أميناً. فإذا حُوِّلَ بعينِهِ نظماً، ووُسِمَ بالوزنِ وَسْماً، ولَجَ الأسماعَ بغيرِ امتناع، ومَلَكَ القلوبَ كما تُملَكُ الإماء في الحروب، وقبضَ على الجوارحِ قبْضَ الجبائِرِ على الجرائِحِ، فكمْ من نَفْسٍ استعادَتْ بهِ نفسَها، وكمْ من مُهْجَةٍ ذهبَ بها واختلَسها، وكم من كريمٍ أحياهُ ومن لئيمٍ أرداه، وكم من فقيرٍ أغناهُ، وكم من غنيٍّ أخلاه، فضيلةٌ لم تكنْ إلا لهُ أبداً. والشِّعرُ معدِنُ تفضيلٍ وإعجازٍ يُشَجِّعُ الجبانَ الوَكِل، فلا فرار عندَهُ ولا نَكَل. ويسمَحُ البخيلُ وإنْ برِمَ، ويسْتَصبي الشّيْخَ وإنْ هرِم. فمُعْجزاتُه باديةٌ، وآياتُه رائحةٌ غاديةٌ.

وأما من ذهبَ الى ذَمِّه وتنَقُّصِه لسوءِ فهمِه، فإنّما هو مُتَمسِّكٌ بشُبَهٍ لم يعْرِفْ تأويلَها، مُسْتَنِدٌ الى حُجَجٍ لم يعلمْ تعليلَها، خابِطٌ في عشواءَ مُظلِمَةٍ، مُتورِّطٌ في خوْضِ وعْثاءَ مُؤلمة.

والذي تمسّكَ به الذامُّ قولُه عليه السلام: (لأنْ يمتلئَ جوفُ أحدِكم قَيْحاً حتى يَرِيَهُ خيرٌ لهُ من أنْ يمتلئَ شِعْراً) . القَيْحُ: المِدّة لا يُخالطُها دَمٌ، ويَرِيَه: من الوَرْي والاسم الوَرى بالتحريكِ، ومنهُ الدُّعاء: سلّطَ اللهُ تعالى عليهِ الوَرى وحُمّى خَيْبَرى. يُقالُ ورَى القَيْحُ جوفَهُ يَرِيَهُ وَرْياً إذا أكلَهُ.

قال عبدُ بن الحَسْحاس:

وراهُنَّ رَبّي مثْلَ ما قدْ ورَيْنَني

وأحْمى على أكبادِهِنّ المكاوِيا

وهذا حديثٌ يشهدُ لنفسِه بأنهُ صلى الله عليه وسلم قصدَ به زماناً مُعَيَّناً، وخصّ به قوماً مُعَيّنينَ، ولم يُجِزْه على الإطلاق؛ دليلُ ذلك ما مدحَ الشّعرَ به وأعظمَهُ بسببه، وكونُه عليه السلام سمِعَ الشِّعْرَ في الرّجزِ والقصيد، واستَنْشدَهُ وتمثّلَ به مكسورَ الوزنِ، وفي رِواية: صحيحَ الوزنِ، وأمرَ شراءَه بهجاء مَنْ هجاهُ، وحثّ عليه ودعا إليه. ولهُ شعراءٌ معروفونَ من الأنصار وغيرهِم، ولم يبْقَ أحدٌ من صحابتهِ إلا وقال الشِّعْرَ قليلاً أو كثيراً، وأنشدَ واسْتنشدَ وتمثّل به واحتجّ، وكاتَبَ وراسلَ. وإذا ثبَتَ أنه لقومٍ مخصوصين، وبطَلَ أنه للعمومِ والإطلاقِ، كانَ في تأوُّلهِ ضرْبٌ من التّكَلُّفِ.

ولا بأسَ بذكرِ شيءٍ مما قد تأوّلهُ بهِ العلماءُ. فمن ذلك ما رواهُ الكلبيُّ عن أبي صالحٍ عن أبي هريرة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: (لأن يمتلئَ جوفُ أحدِكم قيْحاً حتى يَرِيَهُ خيرٌ له من أن يمتلئَ شِعراً هُجيتُ به) ، وفي حديث عائشةَ رضيَ الله تعالى عنها من مهاجاةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم.

قُلنا: هذا حديثٌ لا يَصِحُّ من وجوهٍ: منها: أنّ الكلبيّ قد طعَنَ عليهِ أصحابُ الحديثِ، وقولُه غيرُ موثوقٍ به عندَهم.

ومنها أنّ حِفْظَ البيت الواحد مما هُجِيَ النّبيُّ صلى الله عليه وسلم به، يَري قَيْحُهُ ولا يَتوارى قُبْحُه فضلاً أن يمتلئَ الجوفُ به.

ص: 66

ومنها أنّهُ لو أراد بهِ هِجاءَ نفسِه الشريفةِ لصرّحَ بكُفْرِ المُتَلفِّظ به فضلاً عن المتحفِّظِ له المالئِ بطنَه به؛ إذ لا خِلافَ بينَ المسلمين أنّ مَنْ سَبّ رسولَ الله فقد كفَر، والسبُّ جزء من الهَجْو. وإذا بطَلَ ذلك كان المرادُ به ذمَّ من جعلَ دأبَهُ تحفُّظَ الأشعارِ الرقيقةِ، والأهاجي الدقيقةِ حتى شغلَهُ ذلك عن معرفة ما يجبُ عليه من أمر دينه وإصلاحِ دنياه.

وقيل: إنّما عنَى شُعراءَ أعداء اللهِ وأعداءِ رسولِه الذين هجَوْا وثلّموا أعراضَ أصحابِه، ورَثَوْا قتلَى المُشركين ببَدْرٍ وغيرِه، وأبّنوهُم وذَكروا فضلَهم. ولما كان حفظُ ذلك من الأوضارِ الدنيئة، قابلَهُ صلى الله عليه وسلم بالقَيْحِ الذي تعافُه النفسُ وتنفرُ منهُ الطبيعةُ مُبالغةً في قَذارتِه.

وقال أحمدُ بنُ حنبل رحِمَه اللهُ تعالى: إنّما يُكْرَه من الشِّعرِ الهجاءُ والرقيقُ الذي يُتَشبَّبُ فيهبالنساء فتَهيجُ له قلوبُ الفتيان. فأما سوى ذلك فما أنفَعهُ.

وقال النضْرُ: كيفَ تمتلئُ أجوافُنا - يعني بالشِّعرِ - وفيها القرآنُ والفِقْهُ والحديثُ وغيرُ ذلك. وإنما كان هذا في الجاهلية، فأما اليومَ فلا، وتمسَّكَ الذامُّ للشِّعرِ والشُعراء بقوله تعالى:(والشعراءُ يتّبِعُهم الغاوُونَ، ألَمْ ترَ أنّهم في كلِّ وادٍ يَهيمون وأنهم يقولون ما لا يَفعلونَ) . والجوابُ عن ذلك أنّ المتمسِّكَ بذلكَ المُحْتَجّ به لا عِلْمَ له بمعاني القرآن المجيد، فإن هذه الآية مختصةٌ بشعراء الجاهلية.

ورُوي عن عِكرمة أنه قال: معنى هذه الآية أنّ شاعرَيْن تَهاجَيا بالجاهلية، فكان مع كلّ واحدٍ منهما فريقٌ من الناس يتّبعُهُ، ويحفظُ عنه ما يختَرِعهُ.

ورُوي عن الحسنِ في قوله تعالى: (ألمْ تَرَ أنهم في كلّ وادٍ يهيمون) أنه قال: قد رأينا أودِيَتَهم التي كان يهيمونَ فيها مرّةً في مديحٍ ومرّةً في هجاء.

ورُويَ عن ابن مجاهدٍ أنه قال: إنّما يَهيمونَ في كلّ فنٍّ يَفْتَنّونَ فيه من فنونِ الشعرِ.

وقيل في قوله تعالى: (وأنّهم يقولونَ ما لا يَفعلون) ، أي يدّعونَ على أنفسهم أنهم قتَلوا وما قتَلوا، وزَنَوْا وما فعلوا، وما شابَه ذلك

وأقوالُ المفسّرينَ في ذلك كثيرةٌ شهيرة، ولا نزاعَ في اختصاصِ الآية بشعراء الجاهلية حتى نُبسِّطَ القولَ في ذلك. ثم مِنْ جهْلِ المحتجّ على الشُعراء بهذهِ الآية كونهُ لم يعلمْ بمَنْ استُثْني فيها، وتَلا أوَّلها ونسِيَ آخرَها وهو قولُه تعالى:(إلا الذين آمنوا وعمِلوا الصالحاتِ وذكَروا اللهَ كثيراً وانتصَروا من بعدِ ما ظُلِموا) . الذين آمنوا هُمُ المُخضرمونَ كانوا جاهليةً وأدركَهُم الإسلامُ فحسُنَ إيمانُهم، ثمّ وصفَهم تعالى بعمَلِ الصالحات لما أجابوا مُنادي الرسولِ واتّبَعوا سُنّتَهُ القويمةَ ووقفوا عندَ أوامرهِ ونواهيهِ، وأثنى عليهم بكثرة ذكرِهم لله تعالى، وذَكَر حُلومَهُم الرزينةَ بقوله:(وانتصَروا من بعدِ ما ظُلِموا) . فإنّهم لما هجَتْهُمْ قُريشٌ وهيّجَتْهُم، وبدأتْهُم بالأذى وأحفظَتْهم، استأذنوا الرسول صلى الله عليه وسلم، فأذِن لهم في الانتصارِ منهم، فكيفَ تركَ ذكْرَ هؤلاءِ وما قد وصفَهُم اللهُ تعالى به، واحتجّ بذكرِ شعراء الجاهلية، لوْلا العدولُ عن الحقّ والحَيرَة في تلكَ الطُرق.

ص: 67

وتمسّك الذّامُّ للشِّعر والشُعراء بقول مَنْ قال: الشعرُ أخبثُ طُعمة تؤْكَل، وأفحشُ صِناعةٍ تفعمَل، وأرجسُ قِدْحٍ يُلْمَس، وأبخسُ ثوبٍ يُلبَس، لأن قولَ شاعرِه زُورٌ وثناءهُ غُرورٌ، ولفظهُ فُجور، وهو مُستثْقَلٌ مهجور، إنْ بعُدَ خِيفَ شَذاهُ، وإن قرُبَ لم يُومَنْ أذاه، وإنما غايةُ الشاعر إذا اسحنفرَ في مَيدانِه، وأطلقَ عِنانَ لسانِه، وتبوّعَ في القولِ بجُهدِه، وتدرّع في الوصفِ بجدِّه، واحتفلَ لبلوغِ شأوهِ عندَ من يجتديهِ، وترامَى الى أقصى بُغْيَتِه عندَ من يعتريه ويعتفيه، أن يُفرِّقَ في وصفِ جمَلٍ ويُطنِبَ في مساءلة طَلَل، ويبكي على رسْمٍ داثرٍ، ويقِفَ ويستوقفَ على رُمادٍ ثائر، ويرحِّل النوقَ والجمالَ، ويصفَ قطْعَ المفاوزِ وتعسُّفَ الرمالِ، ويذكرَ ورودَ المياهِ الأواجنِ، ومصاحبةَ الغِلانِ والسَّعالى في تلك المخارمِ. وأيُّ عقْلٍ أقلُّ، ورأيٍ أجوَرُ وأضلُّ، من عقلِ رجُل انتصبَ لسماعِ ذلك، ورأي شاعرٍ أتعبَ نفسَه وكدّ حِسّهُ في وصفِ بقَرٍ وسؤالِ حجرٍ.

ثم إنّ الشاعرَ إذا نظمَ قِطعةً، واختطفَ معنىً، استصغرَ من الشعراء الصّدْرَ الأوّل، واستحقرَ من العلماءِ الخليل والمفَضَّل، وليس عنده سوى لُمَع قد أخذها من بطون الكُتبِ وصحّفها من مُتونِ الصُّحُف، ولم يتدرّجْ الى معرفة أدبٍ بطولِ صُحْبَة ولا بقديمِ رياضةٍ، وإذا لم تَطُلِ الصُحبةُ لم تُعرَفِ المظَنّةُ، وللعِلمِ سرٌّ، مَنْ قصّر عن مكانِه لم يُعَدَّ من إخوانِه.

وكم من شاعرٍ قد ابتُلي به مَنْ أنعمَ عليه وأحسنَ إليه، فقابلَ الإحسانَ بالإساءةِ، والإنعامَ بالانتقام، وحُسْنِ الصنيع بقُبحِ التضييع، حتى أذاقَه بعدَ حلاوةِ مدائحهِ ومرارةَ هجائه، وجرّعهُ غُصَص ثَلبه ومضضَ ذمّه، ناقِضاً لما أبرَم، هادِماً لما شيّدَ، ومكذِّباً نفسه فيما قدّم، لا تصْرِفُه عنهُ أنَفَةٌ، ولا يرْدَعُهُ حياءٌ، ولا يقذُعُه دينٌ، ولا يزَعُهُ تُقَى.

وكم من كريمِ الطرفينِ، عالي الجدَّيْن، صريح النسب، صحيحِ الحسَب، عظيم الرُتَب، شريفِ الأم والأب، قد قذَفَه بهَجْو، زَنيمٌ في نسبهِ، لئيمٌ في ادّعاءِ أبٍ غيرِ أبيه، وضيعٌ قدْرُه، حقيرٌ أمرُه.

وكم من حُرّةٍ كريمةٍ وعفيفةٍ مأمونةٍ، ومخَدَّرةٍ مصونةٍ، قد هتَك الهجوُ خِدرَها، وكشفَ عنها سِتْرَها، فشمِلَها العارُ، وحلّ بها الشَّنار؛ فهي لا تطيقُ لذلك دِفاعاً ولا تجدُ منه امتناعاً. وأيّ مصيبةٍ أعظمُ ورزِيّةٍ آلمُ من شاعرٍ رمَى حُرمةَ مُحسنٍ إليه بقَذْعِه، ووسمَ جهةَ مُنعمٍ عليه بقذفِه، فلزمَهُ عارُ هجائهِ لزومَ طوْقِ الحمامةِ، الى يومِ القيامة، وإنما يُكرَمُ الشاعرُ مخافةً من شرِّه، وحَذَراً من بذيء لسانِه وقلِّ دينِه وعدمِ مُروءَتِه. وقد قال عليه السلام:(إنّ شرّ الناسِ من أُكرِمَ مخافةً من شرِّه) .

ومتى أنشدَكَ شاعرٌ هِجاءً قد مزّق به عِرْضَ مُسلمٍ أو عَرَضَ عليكَ سبّاً قد قذَفَ به حُرمةَ بريءٍ مُستسْلِمٍ، فإنما قصدَ بذلك أن يُريَك حُمّتَه، ويذيقَكَ سِمامَهُ، ويعرِّفَكَ كيف يفوِّقُ سِهامَهُ، ويخوِّفَك ميسَمَهُ، ويحذِّرَكَ مِكواتَهُ.

فكم من كريمٍ جعلَهُ الشعرُ بخيلاً، وصريحٍ في قومهِ تركَه دخيلاً، وشُجاعٍ صيرهُ جباناً، وأمين غادرَه خَوّاناً. ألا ترى الى أبي نواسٍ وإحسنِ بني برْمَكٍ إليه، وإقبالِه بالمدائِحِ عليهم، وإقبالِهم بالصِّاتِ عليه؛ فمن جملةِ قوله فيهم:

سَلامٌ على الدُنيا إذا لم يكُنْ بها

بَنو برْمَكٍ من رائِحينَ وغادِ

وقد عرفَ الناسُ كافةً اشتهارَ بني برمَكٍ بالجودِ واختصاصَهم ببذلِ الموجودِ، فلم يستحي أبو نواس من إحسانِهم إليهِ وتكذيبِ الناس له حتى وسمَهُمْ بالبُخلِ، ودعاهُم بالشح، خارقاً للإجماعِ فيهم، وجاحداً لاصطناعِهم له، حتى قال من جُملة هجائِه فيهم:

بني برْمَكٍ باللّؤْمِ والبُخْلِ أنتُمُ

حقيقونَ لكِنْ قد يُقالُ مُحالُ

وقد يهجو جعفراً:

ولو جاءَ غيرُ البُخْلِ من عندِ جَعْفَرٍ

لما أنزلوهُ منه إلاّ على حُمْقِ

أرى جعفراً يزدادُ لؤماً ودقّةً

إذا زادَهُ الرحمنُ في سَعَةِ الرِّزْقِ

وكذلك صنع أبو نواس مع الخَصيب فإنّه بعد قوله فيه:

ص: 68

إذا لم تزُرْ أرضَ الخصيبِ رِكابُنا

فأيُّ فتىً بعدَ الخصيبِ تزورُ

يقول:

خُبْزُ الخصيبِ مُعلَّقٌ بالكَوْكَبِ

يُحْمى بكلِّ مثقّفٍ ومشَطَّبِ

وهذا أبو الطّيِّبِ وفدَ على كافورٍ الإخشيديّ مُستَميحاً، وقدِمَ عليه يوسِعُه ثناءً ومديحاً، فمِنْ جُملةِ قوله فيه:

قواصِدَ كافورٍ تَوارِكَ غيرِه

ومَنْ قصَدَ البحْرَ استقلّ السواقِيا

فلما واصلَهُ كافورٌ بصلاتِهِ وأسرفَ في بذْلِ أموالِه لهُ وأعطياتِهِ، كرّ راجعاً عليه بذَمِّه، نافثاً في فَمِ عِرضِهِ قواتِلَ سمِّه. وقد قال عليه السلام:(حرامٌ على النفسِ الخَبيثَةِ أنْ تخرجَ من دارِ الدُنيا حتى تُسيءَ الى مَنْ أحسنَ إليها) . ولما سُئِلَ أبو الطيبِ عن موجِبِ ذمِّه كافوراً زعمَ أنه منعَهُ من قصدِ المُلوكِ، وإراقةِ ماءِ محيّاه لدى الغني والصُّعلوك، وضمِنَ له على نفسهِ العوَضَ عمّا خيّلتْهُ المطامعُ في ذلكَ الغرَض. ولم يقدرْ على الاحتجاجِ بتقصيرٍ صدرَ من كافور، فهل هذا ذنبٌ استحقّ بهِ أن يقولَ بعدَ ذلك المدح فيه:

من علّمَ الأسودَ المَخْصيَّ مَكرُمَةً

أقَوْمُهُ البيضُ أمْ آباؤهُ الصِّيدُ

ولو عدَدْنا مَنْ فعلَ ذلك من الشُعراء، ومن قابَلَ منهم الإحسانَ بالذّمِّ والهجاءِ، لصنَّفْنا في ذلك كُتُباً، وأوردْنا منه طريفاً عجَباً.

هذا زُبدَةُ من مَخَّضَ وِطابَهُ في ذمِّ الشعرِ والشُعراء، ونبذِه ونبْذِهمْ من الجَفوةِ بالعَرا والعراء. وسنذكُرُ الجوابَ عن ذلك مختصراً إن شاءَ اللهُ تعالى.

الجوابُ وبالله التوفيق: اعْلَمْ أيّها الذامُّ، أصلحكَ اللهُ تعالى، أنّ الحقّ غيرُ ما توخّيْتَ، والصِّدقَ غيرُ ما آخيْتَ، ومَنْ نازَعَ في أمرٍ ولم ينافِرْ الى حاكمٍ غيرِ نفسِه، لم يظْفَرْ بمحجّةٍ حُجَجِه وكشْفِ لَبْسِه، ومن سوّلَ لهُ الشيطانُ في خلواتِه أمْراً فرضيَ بهِ، وأطْباهُ هواهُ لغرَضٍ فقادَه الجهلُ إليه، لم يزَلْ في مضَلّةٍ عن الحقِّ وحَيْرةٍ مظلمةٍ في تلك الطُرُق؛ والعُجْبُ بالرأي آفةُ العقلِ، والقلوبُ مع الأهواءِ سريعةُ التقلُّبِ؛ سيّما إذا لم يكنْ لَها قائدٌ من الإنصافِ بصير، ولا معينٌ من الإرشادِ نصير. ولم يكُنْ لأوَدِها مثقِّفٌ ولا مُقوِّمٌ، ولا في مُجْهِلها هادٍ ولا معلِّم، ومن رضيَ شيئاً شَنِئَ ضدّهُ، واحتجّ لباطلِه جُهْدَه، وتسخّطَ ما خالَفَه، وأنكرَ منه ما عرَفَه، وكان لِما انهدَم منه مُشيِّداً، ولما شرَدَ من محاسنِهِ مقيّداً، وعمّا عرضَ عن مساوئِهِ حَيوداً مُعْرِضاً.

وليسَ من العدلِ ما أنتَ عليهِ، ولا من الإنصافِ ما ذهبتَ إليه، والعِلمُ غير ما توهّمتَ، والأدبُ ليسَ كما زعمتَ. وإنّما العِلمُ مَنيعُ الحِمى، صعْبُ المُرتَقى، لا يُنالُ بالمُنى، ولا يُدرَك بالهُوَيْنا، ولن يَحْظى به إلا مَنْ أحبّهُ لنفسِه ونفاستِه، وطلبَهُ لذاتِه ولَذاذتِه، وتعشُّقَه لعَيْنِه ومزيّتِه، وكانَ مُؤْنِسَهُ في الوحشَةِ، وثانيه عندَ الوَحْدةِ، يتكثّرُ به لدى القِلّةِ، ويعتزُّ بهِ في حالِ الذِلّةِ. ولن يُعطيكَ بعضَهُ حتى تُعطِيَهُ جملتَك، ولا يُصحِبُ إليكَ حتى تُلقيَ نفسكَ عليه، وربّما كان مع ذلك عزيزاً عليك مرامُه، بعيداً من يَدِكَ منالُه. ألا تراهُ لمّا دخلَ فيه مَنْ ليسَ هو منه، واقتنعَ باسمِه دونَ عَيْنِه وجسمِه، كيفَ ذهبَ بهاؤه، وغاضَ رونقُه، واستحالَتْ نضارتُه، وتعطّلَتْ سُنَنُه وطُمِسَ سَنَنُه، واستُخِفَّ بقدرِهِ واستُهينَ بأمرِه، ونُبِذَتْ رسومُه، وأقْوَتْ رُبوعُه، ونُقِضَتْ شروطُه، واستُحْدِثَتْ فيه البِدَعُ، وظهرتْ فيه الشُنَعُ، كقولِ الأول:

لمّا ادّعى العِلْمَ أقوامٌ سواسيةٌ

مثل البهائمِ قدْ حُمِّلْنَ أسفارا

غاضَتْ بشاشَتُهُ واغتاضَ حاملُهُ

وصوِّعَ الروضُ منه واكتسى عارا

ص: 69

ويجبُ، أيها الذامُّ أن تعلمَ أنّ الشعرَ كلامٌ، وفي الكلام الجيِّدُ والرديءُ، وما يُكتسَب به الثوابُ، وما يُجتَلَبُ به العقابُ، وما تُبتاعُ به الجنان، وما تُشْتَرى به النيرانُ. فكيفَ يُطلَقُ الذّمُّ على الجميع، ويُؤْخَذ الرفيعُ بالوضيعِ، ويُلحِقُ بالشعرِ كلِّه كراهيةً تختصُّ ببعضِه. وقد قال عليه السلام:(الشّعرُ كلامٌ، حسنُهُ كحَسَنِ الكلامِ، وقبيحُه كقبيحِ الكلام) .

واعْلَمْ أنّ الشُعراءَ بشَرٌ وفي البشر الصالِحُ والطالِحُ، والعاقِلُ والجاهلُ، والمحمودُ والمذموم. وليس من العقل والعدْلِ أن نجِدَ في رجلٍ خَلّةً مذمومةً فنَذُمَّ من أجلِها كلَّ من تسمّى باسمِه، وكلَّ منْ انتسبَ الى أصلهِ وجِذْمِه، وكلَّ داخلٍ في صناعتِه، وكلَّ معدودٍ من جماعتِه. وهل يَحسُنُ باللبيبِ العاقلِ أن يَرى كاتِباً لحّاناً، رديئاً خطُّه، مُخطِئاً شكلُه ونَقْطُه، فيَذُمَّ من أجلِه كلَّ كاتبٍ، ويُبْعِدَ لبُغضِه كلَّ ضابطٍ وحاسِب؟ هل يُعَدُّ فاعلُ ذلك في جملةٍ المكلّفين؟ كلاّ واللهِ ولا في زُمرةِ المحَصِّلين.

وكذلك كلُّ صِناعةٍ إذا برّز واحدٌ فيها وأجادَ، فما يستحقُّ جميعُ أهلِها المدْحَ، كما أنه إذا قصّر واحدٌ فيها وأخطأ لا يُلْحَقُ بكلّ أهلِها الذّمُّ، وإنما من العدلِ والإنصافِ، وشِيَمِ الكُرَماءِ الأشرافِ، أنْ يُعْطى كلُّ شيءٍ قِسطَه، ويوفَّى كلُّ ذي قسمٍ حقَّهُ، فيُلْحَقُ المدحُ بأربابِه والذمُّ بأصحابه، كما قال سبحانه وتعالى فيمن يستحقُّ المدحَ:(نِعْمَ العبدُ إنّهُ أوّابٌ) . وقال تعالى فيمن يستحقّ الذّمَّ: (عُتُلٍّ بعد ذلك زَنيم) ولا يفجَرُّ الإنسانُ مع هَواهُ، الى غايةٍ تهوي به في رَداه.

واعلَمْ أيُّها الذامُّ أنّ الشِّعرَ صِناعةٌ عزيزة شريفةٌ يخْلُدُ ذكرُها خُلودَ الدّهرِ، ويَبْقى فخرها بقاءَ الأبدِ. ومن لم يجْرِ في مَيْدانِ النّظْمِ، ولم يبرِّز في رِهانِ الحِذْقِ والفَهْمِ، ولم تَرُضْ قَريحتَهُ رياضةُ القَريض، ولم يدْعَكْ خاطرَهُ تنافُرُ القوافي دعْكَ الأديمِ، وتأبى عليه المعاني إباءَ الصّعْبِ الجَموحِ، وتعْتاصُ عليه الألفاظ العذبةُ الحلوةُ اعتياصَ البطيءِ الطليحِ، ويصعُبُ عليه ردُّ الشواردِ من مقاصدِه، ويمتنعُ عليه الخروجُ من النّمَطِ الموضوعِ والحدِّ المحدود الى غيرِه من التّفنُّنِ في الصّفاتِ والتشبيهاتِ، لم يعلمْ بحقائقِ الشِّعْرِ ودقائقِ المعاني، ولم يعرفْ هل يستحقُّ قائلُهُ المدحَ أو الذمَّ، اللهمّ إلا إن كان مُقلِّداً لا مُنتقِداً.

وأما صفةُ العربِ للديارِ والآثارِ، ووقوفُهم على الرسومِ والأطلالِ، وتشبيهُ النّساءِ بالظِّباءِ والآجالِ، الى غيرِ ذلك من صفاتِ المخارمِ والفِجاجِ، والتهويمِ والإدلاجِ، فإنهم في ذلك مَعْذورونَ غيرُ ملومينَ، لأنهمْ جَرَوْا فيه على سُنن السّلَفِ ورسمِ من تقدّم منهم. ولم يصِفوا وينْعَتوا ويشبّهوا ويمْدَحوا ويذمّوا إلا ما هو تِجاهَ أعينهِم لا يُعاينون غيرَهُ، ولا يُعانون سِواه، ولكلِّ قوْمٍ سُنّةٌ بها يَستنّونَ، ووتيرةٌ عليها يَحومون وإليها يَرْمون. فمن أضاعَ ذلك منهم كان خارِجاً عن مذهبِه، مخالِفاً لطبيعتِه، ساقِطاً من وراءِ حدّه.

كما أنّ المولَّدَ من الشُعراء إذا ترَكَ صفاتِ القدودِ القويمةِ والخدودِ الوسيمةِ والألحاظِ الرطبة، والألفاظ العذبة، والتشبيهِ بالوردِ والندِّ والكثيب، والغصنِ الرطيب وما أشبهَ ذلك، وتعاطى صفات الديار، والآثارِ والمذانبِ والآبارِ، والسانيةِ والغرْبِ، والرِّشاءِ والعِناج والكَرَبِ، وغير ذلك، كان خارجاً عن حالِه، مُخالِفاً لمَذْهَبِه ورجالِه، مُستَهْجَناً فيما يورِدُهُ من ذلك، متكلِّفاً لما يُلفِّقُهُ منه. ولكلّ قومٍ مذهبٌ يليقُ بهم ويُسْتَحْسَن منهم.

وأوّل مَنْ شرَع ذلك واستنّه للعربِ فاتبعوهُ، وفتَح لهم بابَهُ فاقتحموهُ ووَلَجوهُ، امرؤ القيس بن حُجْرٍ، فاستحسنَتِ الأعرابُ صفاتِه وتشبيهاتِه، وسلكوا سبيلَه، وتقبّلوا مذْهبَه وقِيلَهُ.

ص: 70

فاعرفْ أيّها الذامُّ ذلك، وإياكَ أن تتعرَّضَ لذمِّ فضيلةٍ جليلةٍ قد مُدِحَتْ على لسانِ سيّدِ البَشَر، وأشرَفِ مُضَرَ، أو تنالَ من أديبٍ ذي خصيصةٍ لا تُرتَقى درَجَتُها ولا تُتقَى فِراسَتُها، فكم من رفيعٍ اتّضعَ، وعزيزٍ ذَلّ وخضَعَ، بتعدِّيه على الأدباءِ وتنقُّصِهِ منازلَ الفُضَلاء، ومن بُنيانٍ انهدم، وسُلطانٍ عُدِمَ، وقِرانٍ عبَرَ، وشَرْعٍ نُسِخَ، وعَقْدٍ مُحْكَم فُسِخَ، ومعالِمُ الشِّعرِ قائمةٌ لا تُلوى، وأعلامُه منشورةٌ لا تُطوى، ورياضُهُ مونِقَةٌ غيرُ خاويةٍ، وأغصانُه مورِقةٌ غيرُ ذاويةٍ، يُحلِّمُ السفيهَ، ويُجمِلُ النبيهَ، ويُريقُ الدماءَ ويحقُنُها، ويذيلُ الأعراضَ ويحصِّنُها، يقرِّبُ المآربَ الشاسعةَ ويُنئيها، ويبعدُ المطالبَ الواسعةَ ويدنيها، وينفعُ ويضرُّ، ويسوء ويسرُّ، ويعزِلُ ويولّي، ويُفقِر ويُغني:

فمن ذا رأى في الوَرى خَصْلةً

تقرِّبُ نأياً وتُنْئِي قريبا

تُميتُ وتُحيي بأقوالِها

وتُفقِرُ خصماً وتُغني حَبيبا

وأما قولُنا في أول الفصل: وهل تعاطيه أصلَحُ أم رفضُه أوفر وأرجحُ، فالجواب: كيفَ يكون ترْك الفضائلِ خيراً من تعاطيها، واجتنابُ المناقِبِ أصلحَ من مواصلَةِ مَعالِيها، وما علِمْنا أنّ أحداً من البشَرِ استطاعَ نظمَ الشِّعرِ وكان فيه مُجيداً، وتركَ ذلك، ولم يكنْ يشتهرُ به وينتسبُ إليه، إلا أن يكونَ فيه مُقَصّراً، وعن السوابقِ سُكَيتاً آخِراً، فيجوزُ أن يتركَهُ لعجزِه عنه، ونفوذِ جيّدِه منه. كما نُقِلَ عن المأمونِ لمّا قيلَ له: هلاّ نظمتَ شِعراً، فقال: يأْباني جيّدُه وآبى رَديئَه، وله مع هذا أشعارٌ كثيرة مشهورة.

ولو عدّدْنا مَنْ تعاطى نظْمَ الشِّعرِ من الخُلفاءِ، والملوكِ والأمراءِ والوزراءِ، والقُضاةِ والزُهّادِ، والقوادِ والعلماء والأشْرافِ، لأفرَدْنا له كِتاباً يجِلُّ رقمُهُ ويثقُلُ حجمُه. حتى إنّ جماعةً من ملوكِ بني بُوَيْه رَشَوْا جماعةً من الشُّعراءِ حتى نظَموا لهم أشعاراً فنَسبوها الى أنفسهِم، ودوّنوها على ألسنتِهم؛ لِما في ذلك من المنزلةِ الرفيعةِ، والخَلّةِ الجميلةِ، والمَنْقَبَةِ الجليلةِ، والفضيلةِ النبيلة. ولولا ذلك لما تحلّوْا بحُلِيّه ولا تزَيّنوا بجلابيبِه.

ص: 71

وقد رُويَ عن جماعةٍ من الصّحابةِ أشعارٌ كثيرةٌ حتى دوّنوا لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ديواناً، ورَوَوْا فيه أشعاراً حِساناً. فأما النبي صلى الله عليه وسلم فقد قال اللهُ تعالى فيه:(وما علّمناهُ الشِّعرَ وما ينْبَغي له) ليكونَ ذلك أبلغَ في الحُجّةِ على من زعَم أنه كاهِنٌ، ومرةً ساحِرٌ، ومرة (شاعرٌ نتربّصُ به ريْبَ المنون) ، (وقالوا أساطيرُ الأوّلينَ اكتَتبَها) ، وقالوا (أضغاثُ أحلامٍ بل افتراهُ بل هو شاعِرٌ) . فمنعَهُ الله تعالى من الشعر تكْرِمَةً له لمّا كان الشّعرُ ديْدَنَ أهلِ عصرِه الذي بُعِثَ فيه، وحُظِرَ عليه ذلك دَلالةً على صِدقِه وشهادةً على بُطلانِ قوْلِ المُبْطلينَ في حقِّه، وتنزيهاً له من افترائِهم عليه، وزيادةً في الحجّةِ له. وأنزلَ عليه القرآنَ المجيدَ الذي (لا يأتيه الباطلُ من بين يَدَيْهِ ولا مِن خَلْفِه) الذي لو اجتمَعَتِ الإنْسُ والجنُّ على أن يأتُوا بمثلِه، ولو كان بعضُهم لبعضٍ ظهيراً ما أتَوْا. فأقبل صلى الله عليه وسلم يتحدّاهُم فريقاً فريقاً بأن يأتُوا بمثلِه، فلا يَقْدِرونَ عليه. ولو كان شعْراً وطالبَهم بمثلِه لسهُلَ عليهم، وكان موجوداً لديهم. وما كان منْعه صلى الله عليه وسلم من الشعر إلا فضيلةً ومصلحةً وإكراماً وتطهيراً. وليس على الشعرِ بذلك نقيصةٌ ولا عارٌ، ولو كان كلُّ ما منَعَهُ الله تعالى منه حتى لا يرتابَ المُبطلونَ نقيصةً لذلك الفنِّ لكانَتِ الكتابةُ نقيصةً لمّا جعلَهُ اللهُ أمِّياً لا يكتبُ ولا يقرأ؛ ليكونَ أوْكَدَ سبباً، وأعلى شأناً، وأشهرَ مكاناً، ولذلك قال الله عز وجل تعالى:(وما كنتَ تتْلو من قبْلِه من كتابٍ ولا تخُطُّه بيَمينِكَ إذاً لارتابَ المُبْطلونَ) . فإن كان منْعُه من الشِّعرِ مذمةً ونقيصةً للشعرِ والشُعراءِ، فمنْعُهُ من الكتابةِ مذمّةٌ ونقيصةٌ للكتابةِ والكتّابِ، ومعاذَ اللهِ أن يقولَ ذلك عاقلٌ، والله تعالى يقول:(اقرأْ وربُّكَ الأكْرَم الذي علّمَ بالقلَم) وقال تعالى: (كِراماً كاتِبين) يعني الملائكةَ.

وقد جعلَ اللهُ تعالى أهلَ بيتِ رسولِه صلى الله عليه وسلم وأصحابه وإخوانه كُتّاباً وحُسّاباً، كما جعلَ منهم شُعراء ورُجّازاً. وكان من أزواجِه صلى الله عليه وسلم مَنْ يكتبُ ويقرأ؛ وهنّ حَفْصَةُ بنتُ عُمر، وعائشةُ بنتُ أبي بكر، وأمُّ سَلَمة، رحِمَهُم الله تعالى جميعاً.

ورَوَوْا عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يومَ الأحزابِ ينقلُ الترابَ ويقول:

اللهمَّ لولا أنتَ ما اهْتَدَيْنا

ولا تصَدّقْنا ولا صلَّيْنا

ورووْا عنه عليه السلام أنه كان يومَ حُنَيْن على بغلتِه البيضاءَ وهو يقول:

أنا النّبيُّ لا كَذِبْ

أنا ابنُ عبدِ المطّلِبْ

ورووْا أنه صلى الله عليه وسلم أصابَ إصْبَعَهُ الشريفةَ حجَرٌ فدَمِيَتْ، فقال:

هل أنتِ إلا إصبَعٌ دمِيتِ

وفي سبيلِ اللهِ ما لَقيتِ

وأقول: إنّ هذه الأخبارَ إذا صحّتْ فإنه صلى الله عليه وسلم كان يتمثّل بها ولا يُقيمُ وزْنَها تصديقاً وتسليماً لِما أخبرَ الله تعالى به وهو أصدقُ قيلاً. فإنهُ يمكنُ أنهُ قد كان يقول: اللهمّ ما اهتدَيْنا لولا أنتَ ولا صلّيْنا ولا تصدّقْنا، ويقول: أنا النبيّ لا كَذِبا، أنا ابنُ عبدِ المُطّلِب، ويقول: هل أنتِ إلا إصبعٌ دمِيَتْ، وفي سبيل الله ما لقِيَتْ. أو ما يقاربُ هذا، وإنْ كانت هذه الأخبارُ غيرَ متَّفَقٍ عليها، فقد سقط التعليلُ.

ص: 72

وقيل: دخل أبو علي المَنْقَريُّ على المأمونِ وكان متّكئاً على فُرُشِه، قال له المأمون: بلغَني أنكَ أمِّيٌّ، وأنك لا تقيمُ الشِّعرَ، وأنّكَ تَلْحَنُ، فقال: يا أمير المؤمنين، أمّا اللّحنُ فربما سبَقَ لساني بشيء منه، وأما الأمّيّةُ وكسرُ الشعرِ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكتبُ ولا يُقيمُ الشِّعرَ. فاستوى المأمون جالساً وقد ظهرَ الغضبُ على وجهه وقال: ويلَك. سألتُك عن ثلاثةِ عيوبٍ فيكَ فزدْتَني رابعاً؛ وهو جهلُك وحمقُك، يا جاهل! إنّ ذلك كان في النّبي صلى الله عليه وسلم فضيلةً، وهو فيكَ وفي أمثالِك نقيصةٌ ورذيلةٌ، وإنما مُنِع النبي من ذلك لنفي الظِّنةِ عنهُ، لا لِعيبٍ في الشِّعر والكتابةِ، ولا لنَقْصٍ لحِقَهما. فلما سمِعَ المنقريُّ ذلك قال: صدقتَ يا أميرَ المؤمنين، رُبَّ ظنٍّ عثَرَ على وهْنٍ.

وقيل: من شرفِ ولَدِ فاطمةَ بنتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ ما مِنْ أحدٍ وإنْ عظُمَ بيتُه وشرُفَ محتِدفه إلا ويودّ أنه فاطميٌّ. وكذلك أقول أنا: إنّ ما مِنْ أحدٍ وإنْ غلا قدرُه وعلا ذكرُه إلا ويودُّ أنه يحسِنُ قولَ الشِّعر، ويستطيعُ نظمَه، ليتجمّلَ به ويتزيّنَ بنسبه.

وقال بعضُ النّاس: فما تقولُ في قوله صلى الله عليه وسلم: (امرؤ القيسِ حاملُ لواءِ الشُّعراءِ يقودُهم الى النار)، وهلْ هذا مدْحٌ للشعرِ أم ذمّ؟ قلت: إذا تأملتَ المقصدَ وحقّقْتَ المُرادَ وجدتَ المعنى ينساقُ الى مدحِ الشعرِ، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أرادَ حاملَ لواءِ شعراءِ الجاهلية والكفارِ، الذي هجَوا رسول الله وهجوا المُسلمين واستحقّوا النار بكُفْرِهم لا بشعرِهم، ولا خِلافَ ولا نِزاعَ بين العُلماءِ في ذلك. ولو أراد العمومَ لدخلَ تحت ذلك أصحابُه المقطوعُ لهم بالجنّةِ، وأولياؤه المؤمنونَ به، والمهاجرونَ والأنصارُ والتابعون. ومعاذَ الله أنْ يذهبَ الى ذلكَ مسلِمٌ أو يقول به عاقلٌ أو عالِم. وإنما كان مقصِدُه صلى الله عليه وسلم تفخيمَ حال امرئ القيسِ وتعظيم أمرِه وتقديمَ شِعرِه على أكفائِهِ ونُظرائِه، وأنهُ استحقّ عليهم التقديمَ والتفضيلَ بجَوْدَةِ شعرِه، وحُسْنِ معانيهِ وواقعِ تشبيهاتِه، فجعلَهُ لذلك عميدَهُم وسيِّدَهم والمتقدِّمَ عليهم وقائدَهُم. ولم يكنْ يستحقّ بكفرِه إلا النارَ وبحسنِ شِعره إلا التقدّمَ على الشُعراءِ، فكانت هذه الصّفةُ بهِ خليقةً، وسمَتُها به حقيقةً.

فقدْ ظهرَ لك مدحُ الشِّعرِ في مَطاوي هذا الذمِّ. ومثْلُ ذلكَ ما حكاهُ الأصمعيُّ أنّ أعرابياً أتى ابنَ عمٍّ لهُ، فسألهُ في مهْرٍ لزِمَهُ فلم يعْطِهِ شيئاً وردّهُ خائباً، فأتى رجلاً من المجوسِ وشكى إليهِ ما كان من ابن عمّه، فأعطاهُ المجوسيُّ ما التمسَه، وأطلقَ لهُ ما كان ابنُ عمه عنه حبَسَه، فأنشأ قائلاً:

كفاني المجوسيُّ مَهْرَ الرّبابِ

فِدىً للمجوسيِّ خالٌ وعمّْ

شُهِدْتُ عليكَ بطيبِ المُشاشِ

وأنّكَ أنتَ الجَوادُ الخِضَمّْ

وأنّكَ سيّدُ أهلِ الجحيمِ

إذا ما تردّيْتَ فيمَنْ ظَلَمْ

تُجاورُ فرعونَ في قعْرِه

وهامانَ والمكتَني بالحَكَمْ

لا ريبَ في أن الأعرابيَّ لم يُرِدِ الغضَّ والوضْعَ من المجوسيّ مع إحسانِه إليه عندَ حرمانِ ابن عمّه له، سيما وقد فدُ بطرفَيْه: خالِه وعمهِ، ولكنّه أرادَ تفخيمَ أمرِ المجوسيّ فجعله سيّدَ أهلِ الجحيمِ ومجاوِراً لفرعونَ وهامانَ وأبي جَهْل بن هشام، إذ لم يكن المجوسيُّ يستحقُّ إلا النّارَ، ولو كان مستَحقّاً للجنةِ لجعلَهُ مع أبرارها وأشرافِها، والمعنى ظاهر.

وقيلَ لمّا سمِعَ حسّانُ قولَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في حقِّ امرئ القيس قال: وَدِدْتُ أنه قال ذلك فيَّ وأنا المُدَهْدَهُ في النار، حِرْصاً على بلوغِ الغاية القُصوى التي أوجبَتْ تفضيلَ امرئ القيس على سائر نُظرائِه، وتقديمَه على جميع أكفائِه. وسأل بعضُ الناس عن قولِ الرضيِّ الموسويّ:

ما لكَ ترْضى أن يُقالَ شاعرٌ

بُعْداً لها من عدَدِ الفَضائِلِ

قُلنا: الرضيُّ كان طالِبَ منزلةٍ عظيمةٍ، ومحدِّثاً نفسَه بأمورٍ جسيمة:

مُنىً إنْ تَكُنْ حقاً تكن أحسنَ المنى

وإلا فقدْ قضّى بها زمناً رغْدا

ص: 73

فكلّ فضيلةٍ نبيلةٍ ومَنقَبة جليلةٍ عندَ بُغْيَتِه مُستَصْغَرةٌ، وكلُّ درجةٍ رفيعةٍ، وحوزةٍ منيعةٍ، عندَ طلبتِه نازلةٌ سهلةٌ، فمرادُه أن يقول: كيفَ ترضى لنفسِكَ أن يُقالَ عنك: هذا شاعِرٌ، مقتصراً على هذه السّمةِ، ومقتنعاً بهذه المنزلة، وواقِفاً على هذه الغاية، وتترك الجِدَّ والاجتهادَ في إدراكِ الرتبة التي أنت مؤمِّلُها، وتحصيلِ الأمنيّةِ التي أنتَ طالبُها. ثم قال: بُعْداً لها من عدَدِ الفضائِلِ، أي بُعْداً لهذه الفِعْلَةِ مما يعدَّدُ في الفضائلِ التي خُصصتَ بها، حثّاً لنفسِه وتحريضاً لها في طلَبِ أمْرٍ هو من الشِّعْرِ أعْلى محَلاًّ، وأغلى حِليّآً، وأوفى شرَفاً، وأوفرُ قيمةً، وأعزُّ موضِعاً، ولم يقصِدْ أنّ الشِّعرَ خَصلةٌ مرذولةٌ وخَلّةٌ مذمومةٌ. وكيف يذهبُ الى ذلك أو يدّعيهِ أو يقولُه، وبالشِّعرِ شُهِرَ اسمُهُ وأضاءَ نجمُهُ، وتوفّرَ من الأدبِ قِسْمُه، وأغرضَ في الفَخْرِ سهْمُه، وأفنى فيه عمرَهُ، وقضّى بمصاحَبتهِ دهرَهُ، ولو ادّعى أنّ الشِّعرَ خَلّةٌ رذيلةٌ ومنزلةٌ وضيعةٌ، لم يُلْتفَتْ إلى زعمِه، ولا اتّسَقَ له أن يحُجَّ بذلك حُجّةَ خصمِه، ولا قولُه فيه مقبول ولا مُسلّم إليه.

وقد تقدّم من قولِ الرسول صلى الله عليه وسلم في مدحِه ووصفِه وأقوالِ صحابتِه ما يدْحَضُ كلَّ حجةٍ، ويوضحُ في الفُلْجِ كلَّ محَجّةٍ. ومما يدُلّ على أن الرضيَّ كان يحدِّثُ نفسَهُ بما تُسْتَصْغَرُ معه المراتبُ الجليلةُ، والفضائلُ النبيلةُ، ما كاتَبَهُ به أبو إسحاق الصابئ الكاتب، إمّا مُستهزِئاً بهِ لاهياً، أو صادِقاً في مدحِه متناهياً، وهو:

أبا حسَنٍ لي في الرّجالِ فِراسةٌ

تعوّدْتُ منها أن تقولَ فتَصْدُقا

وقد خبّرَتْني عنكَ أنّك ماجِدٌ

ستَرقَى من العَلياءِ أبعَدَ مُرْتَقى

فوفّيْتُك التعظيمَ قبلَ أوانِه

وقُلتُ: أطالَ اللهُ للسيِّدِ البَقا

وأضمرتُ منهُ لفظةٍ لم أبُحْ بها

إلى أن أرى إظْهارَها ليَ مُطْلَقا

يعني: السلامُ عليكَ يا أميرَ المؤمنين.

فإنْ عِشْتُ أو إنْ مِتُّ فاذكرْ بِشارَتي

وأوْجِبْ بها حَقّاً عليكَ مُحَقِّقا

وكنْ ليَ في الأولادِ والأهْل حافِظاً

إذا ما اطمأنّ الجَنْبُ في مَضْجَعِ النّقا

لا ريبَ عندي أنّ أبا إسحاقَ لاهٍ في قولهِ، وأنّ باطنَهُ فيه ضدُّ ظاهرِه، وإنما أتاهُ بما يوافِقُ غرَضَهُ وتحدّثُه به نفسُه؛ ليحرِّكَ بمجونهِ ساكنَ منْجَنونهِ، كما قيلَ في المثلِ حرِّكْ لَها حُوارَها تحِنّ. وأعجبُ من هذا قبولُه لقولِه، وإجابتُه له بقصيدةٍ، منها:

لَئِنْ برَقَتْ مني مَخائِلُ عارِضٍ

لعَيْنَيْكَ تقضي أنْ يجودَ ويُغدِقا

فليسَ بساقٍ قبلَ رَبْعِكَ مَربعاً

وليسَ براقٍ قبلَ جوِّكَ مُرْتَقى

وإنْ صدّقَتْ منه الليالي مَخيلةً

فكُنْ بجديدِ الماءِ أوّلَ من سَقى

وإنْ تَرَ ليْثاً لابداً لفريسةٍ

يُراصِدُ غِرّاتِ المقاديرِ مُطْرِقا

فما ذاكَ إلا أنْ يوفِّرَ طُعْمَها

عليكَ إذا جلّى إليها وحقّقا

فإنْ راشَني دهْرٌ أكنْ لكَ بازِياً

يسُرُّكَ محصوراً ويُرضيكَ مُطلَقا

أشاطِرُكَ العِزَّ الذي أستَفيدُه

بصَفْقَةِ راضٍ إنْ غَنِيتَ وأمْلَقا

فتَذهبُ بالشّطرِ الذي كلُّهُ غِنىً

وأذهبُ بالشطرِ الذي كلُّه شَقا

فغَيْري إذا ما طارَ غادرَ صَحْبَهُ

دُوَيْنَ المعالي واقعينَ وحلّقا

لعلّ الليالي أنْ يبلِّغْنَ مُنْيَةً

ويقْرَعَنْ لي باباً من الحظِّ مُغْلَقا

نَظارِ ولا تَسْتَبْطِ عزْمي فلَنْ تَرَى

عَلوقاً إذا ما لَمْ تَجِدْ مُتَعلَّقا

وإن قعَدَتْ بي السِّنُّ عنها فإنهُ

سينهضُ بي مَجْدي إليها مُحَقِّقا

فمَنْ في نفسِه مثلُ هذا كيفَ يَرى الاقتناعَ بمرتَبةِ الشعرِ ولا يقول: بُعْداً لها من عدَدِ الفضائل.

ص: 74