المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌وما يدرك به صواب القول ويجوز - نضرة الإغريض في نصرة القريض

[المظفر بن الفضل]

فهرس الكتاب

- ‌المظفّر بن الفضل العلوي

- ‌الفصل الأول

- ‌في وصف الشعر وأحكامه

- ‌وبيان أحواله وأقسامه

- ‌باب الإشارة

- ‌باب الكناية

- ‌باب الموازنة

- ‌باب التجنيس

- ‌التجنيسُ المُقارب

- ‌تجنيس المعنى

- ‌المُجَنَّسُ المُطْمع

- ‌التجنيس المُبذَل

- ‌المجنس المختلف

- ‌تجنيسُ الخَطّ

- ‌ومنه تجنيس البَعْض: قال القُطاميّ:

- ‌المجنسُ المُتَمَّم

- ‌تجنيسُ القَوافي

- ‌التنجيسُ المماثل

- ‌باب المطابقة

- ‌باب التصدير

- ‌باب الالتفات

- ‌باب الاستطراد

- ‌باب التقسيم

- ‌بابُ التسهيم

- ‌باب الترصيع

- ‌باب الترديد

- ‌بابُ المُقابلة

- ‌باب الاستثناء

- ‌باب الإيغال

- ‌بابُ الاستعارة

- ‌باب التشبيه

- ‌باب الحشو السديد في المعنى المفيد

- ‌باب المتابعة

- ‌باب المَخْلَص المليح إلى الهجاء والمديح

- ‌باب التضمين

- ‌باب تجاهل التعارف

- ‌باب المماتنة والإنفاد والإجازة

- ‌باب السّرقة

- ‌الفصل الثاني

- ‌فيما يجوزُ للشاعر استعمالُه وما لا يجوز

- ‌وما يُدركُ به صواب القولِ ويجوز

- ‌الفصل الثالث

- ‌في فضلِه ومنافِعِه وتأثيرهِ في القلوبِ ومواقعِه

- ‌الفصل الرابع

- ‌في كشفِ ما مُدِحَ به وذُمّ بسببه

- ‌وهل تعاطيهِ أصلح، أم رفضه أوفر وأرجح

- ‌الفصل الخامس

- ‌فيما يجب أنْ يتوخاهُ الشّاعرُ ويتجنَّبَه

- ‌ويطّرحَه ويتطلّبَه

الفصل: ‌وما يدرك به صواب القول ويجوز

لأوجَبَ النقدُ أن يُحْكَمَ باستحقاق التفضيل لصاحب البيت الأخير، وذاك أنّ لقيطَ بن زُرارة ختم بيته بمَثَلٍ جيّد، وأبا نواس ختم بيتَه بتأكيد الكَرَم، ومعناه: أن الممدوحَ يشتري الثناءَ بمالِه على عِلمٍ أنه يجوز أن يفتقرَ، أو يحتاج الى غيره، كما احتاج غيرُه إليه. وأما الآخر فذكَر أنه يُعطي ماله ويشتري به الثّناءَ في الوقت الشديد الذي يجب أن يحفظَ الإنسان فيه مالَه لشدّة الحاجة إليه، وإذا كان يُعطيه في مثل هذا الوقت الصّعب ويبذُلُه أيامَ القَحْط والجَدْب، فكيف يكون في زمانِ الخِصب وتوفّرِ الخيرِ والمَيْرِ. وبمثل هذه الخَصلةِ حُكِمَ لحاتم بن عبد الله الطائي بالجود. وكان حاتم ظَفِراً: إذا قاتَلَ غلبَ، وإذا سُئِلَ وهَبَ، وإذا غنِمَ أنْهَبَ، وإذا أسرَ أطلقَ، وإذا أثْرى أنفق. وكان قد أقسمَ بالله تعالى ألا يقتلَ واحدَ أمّه. وحدّث محمد بن حبيب عن موسى الأحْوَل عن الهيثَم عن مَلحان ابن أخي ماوية امرأة حاتم عن عمّتِه ماوية قالت: أصاب الناسَ سَنَةٌ أذهبت الخُفَّ والظِلْفَ، فبتنا ذات ليلة بأشد جوع ولسنا نملكُ شيئاً، فأخذ حاتم عَدياً وأخذت سَفّانة، فعللناهما حتى ناما، ثم أخذ حاتم يُعللني بالحديث لأنام، فرَقَقْتُ لما بِه من الجهد، فأمسكتُ عن كلامِه وأوهمْتُه أني قد نِمت لينامَ، فنظر من فُتْقِ الخِباء، فإذا شخصٌ مقبلٌ، فرفع رأسَه فإذا امرأة تقول: يا أبا سَفّانة، أتيتُك من عند صِبيَةٍ جِياع، فوثَب مُسرِعاً، وقال: هاتيهم، فوالله لأُشبعنّهم، فلما جاءتْ بهم وأنا مفكّرةٌ فيما يريد أن يصنع، قام عجِلاً الى فرسِه ولم يكُنْ يملك سواه، فذبحَه واشتوى فأشبعهم، ثم قال: والله، إنّ هذا لهُو اللّوم، كيفَ تأكلون وأهل الصِّرم حالهم كحالكم، فجعل يأتي الصِّرْم بيتاً بيتاً ويقول: عليكم النارَ، فاجتمعَ عليه عددٌ لم يتركوا منه شيئاً وهو متقنّعٌ بكسائه قد قعدَ حَجْرةً، فوالله ما ذاق منه لَماظا. فهذا والله الكرمُ المَحْضُ، والجودُ الخالِصُ، وإذا كان جودُه في مثل تلك الحالةِ هكذا فكيف يكون في سواها.

هذا آخِر الفصل الأول، ولعلّ الناظرَ فيه يستطيلُ أبوابَه ويستعظمُ إسهابَه، خصوصاً وقد اشترَطْنا في أوّله الاختصارَ ووعَدْنا أن نتجنّب الإكثار، ولو علِمَ الناظرُ فيه ما قد خلّفناهُ بعدَنا ونبَذْناهُ وراءَنا من المعاني الغريبة، والأشعارِ العجيبةِ، لعرَفَ موضِعَ الاختصار، ووفاءَ ما وعَدْنا به من الاقتصار. هذا مع الإعراضِ عن كثير من أشعار المُحدَثين والمُتَقدمين من المجيدين. واللهُ الموفِّقُ للصّوابِ.

‌الفصل الثاني

‌فيما يجوزُ للشاعر استعمالُه وما لا يجوز

‌وما يُدركُ به صواب القولِ ويجوز

الذي يجوز للشاعر المولّد استعمالُه في شعره من الضرورة هو جميع ما استعملَتْه العرب في أشعارها من الضرورات سوى ما أستَثنيه لك، وأبيّنُه لدَيْك. والمولّد في ضرورات شعره وارتكاب صعابها أعذرُ من العربيّ الذي يقول في لغته بطبعه.

أما الذي لا يجوز للمولّد استعمالُه، ولا يُسامَح في ارتكابِه فهو جميعُ ما يأتي عن العرب لَحْناً لا تسيغُه العربيةُ ولا يجوّزه أهلُها سواء كان في أثناء البيت أو في قافيتِه، فإنّ اللحنَ لا يجوزُ الاقتداءُ به، ولا النزولُ في شُعَبِه.

فمن ذلك اللحنُ الذي سمّوْهُ جرّاً على المجاورة. قال الشاعر:

فيا معشرَ الأعرابِ إنْ جازَ شُرْبُكم

فلا تشربوا ما حَجّ للهِ راكبِ

شَراباً لغزوانَ الخبيثِ فإنّه

يناهيكُم منه بأيْمانِ كاذِبِ

وهذا لَحْن قبيح، وصوابُه ما حجّ لله راكبُ. وقال آخر:

أطوفُ بها لا أرى غيرَها

كما طافَ بالبَيْعَةِ الراهِبِ

جعل الراهبَ مروراً على الجوار وهو لحْنٌ قبيح، وصوابه: كما طاف بالبيعةِ الراهِبُ. وقال آخر:

كأنّ نسْجَ العنكبوتِ المُرْمَلِ

وصوابه المُرْمَلا وأما قول الآخر:

كأنّ ثَبيراً في عرانينِ وَبْلِهِ

كبيرُ أُناسٍ في بِجادٍ مُزمَّلِ

فله وجهٌ قد ذكرهُ أبو الفتح وهو أنه أراد مُزَمَّلٍ فيه، فحذفَ حرف الجرِّ فارتفع الضميرُ فاستتر في اسم المفعول، وقد وردَ من هذا شيء كثير، كقول الآخر:

ص: 41

كأنّما ضرَبَتْ قُدّامَ أعيُنِها

قُطناً بمُسْتَحْصِدِ الأوتارِ محلوجِ

وصوابه محلوجاً. وكل ذلك إنما أتوا به بناءً على ما ورد عن العرب من قولهم: هذا جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ، وليس الخَرِبُ من صفة الضَبّ قال الخليل بن أحمد: قولهم: هذا جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ، إنما ورد عنهم من طريق الغلط، والدليل على ذلك أنهم ثَنَّوا لم يقولوا إلا جُحرا ضَبٍّ خَربان، لأن الغلط ههنا يَبينُ، وإنما وقع في الواحد لاجتماع الجحر والضبّ في الإفراد. وكذلك إذا جمعوا فإن الغلطَ يرتفعُ نحو قولِك: هذه جُحْرَة ضِبابٍ خَرِبَة. والمُحقِقون من أهل العلم لا يُجيزونَ العمل على الجوار، وما نحنُ بالمُغَلِّبين قولاً على قول، ولا لنا في ذلك غرَضٌ، وإنما المُولَّدُ من الشعراء لا يجوز له العمل على المجاورة، ولا ود ذلك لأحد من المولّدين المُجيدين، ولا أجاز العلماءُ بالشعر لهم ذلك، سواء كانت العرب أصابَتْ فيه أو أخطأَتْ، المقصودُ أنه محظورٌ على المولّدين.

ومما لا يجوز للمولَّدين استعمالُه، ما استعملَتْه العربُ من التقديم والتأخير، والفصل الذي لا وجهَ لشيء منه، ولا يجوز للمولّد الحذوُ عليه، ولا الاقتداء به، فإنّه لحنٌ مُستَقبَح، كقول الشاعر:

لها مُقلتا حَوراءَ طُلَّ خميلةً

من الوحشِ ما تنفكُ ترْعى عَرارُها

أراد: لها مُقلتا حوراء من الوحش ما تنفكُ تَرعى خميلةً طُلَّ عُرارُها. وقال الآخر:

فقدْ والشَّكُ بيّن لي عَناءٌ

بوَشْكِ فِراقِهم صُرَدٌ يصيحُ

أراد: فقد بيّن لي صُرَدٌ يصيحُ بوشْكِ فراقِهم والشّكُ عناءٌ. وقال الآخر:

فأصبحتْ بعد خَطِّ بهجتِها

كأنّ قفراً رُسومَها قَلَما

أراد: فأصبحتْ بعدَ بهجتِها قفراً كأنّ قلَماً خطّ رسومَها ومثل ذلك كثير. وقد ترى ما في هذه الأبيات من الفصول والتقديم والتأخير، ومثل هذا لا يجوز للأعراب المتقدمين فضلاً عن المولّدينَ المتأخرين. ولا يجوز لأحدٍ أن يتخذهُ رسْماً يعملُ عليه.

ومما لا يجوز للمولّدين الاقتداءُ به ولا العملُ عليه لأنه لحنٌ فاحشٌ الإقواء في القافية، وذاك أن يعمل الشاعرُ بيتاً مرفوعاً وبيتاً مجروراً، كقول النابغة:

أمِن آلِ ميّةَ رائحٌ أو مُغْتَدِ

عجْلانَ ذا زادٍ وغيرَ مزوَّدِ

زعم البوارحُ أنّ رِحلتَنا غداً

وبذاك خبّرَنا الغُرابُ الأسودُ

ويا للعجب كيف ذهب ذلك عن النابغة مع حُسْنِ نقدِه للشّعر وصحّة ذوقِه وإدراكِه لغوامض أسرارِه، وقد عرَفْتَ ما أخذه عن حسان بن ثابت مما تحارُ الأفكارُ فيه، ولمّا نُبِّه على موضعِ الخطأ لم يصل الى فهمِه ولم يأبَه له حتى غنّت به قَينَةٌ وهو حاضر، فلمّا مدّدَتْ، خبّرَنا الغرابُ الأسودُ، وبيّنت الضمة في الأسود بعد الدال فطِنَ لذلك وعلِم أنّه مُقْوٍ فغيّره وقال: وبذاك تنعابُ الغُرابِ الأسودِ. وكقول مُزرِّد بن ضِرار من أبيات:

ألم تعلمِ الثعلاءُ لا دَرَّ درُّها

فَزارةُ أنّ الحقَّ للضّيفِ واجبُ

ومنه:

تشازَرْتُ فاستشرفْتُه فرأيتُهُ

فقلتُ له: آأنتَ زيدُ الأرانبِ؟

وكقول حسان بن ثابت:

لا بأسَ بالقَوْمِ من طولٍ ومن عِظَمٍ

جِسمُ البِغالِ وأحلامُ العصافيرِ

كأنهم قصبٌ جُوفٌ أسافِلُه

مثَقَّبٌ نفخَتْ فيه الأعاصيرُ

ولا يكون النصب مع الجرّ ولا مع الرفع في الإقواء. ولعمري إن الجميع لحْنٌ مردود، ولا وردَ عنهم شيءٌ من ذلك، وإنما يجتمع الرفعُ والجرُّ لقربِ كل واحد منهما من صاحبِه. ولأنّ الواوَ تُدغَم في الياء، وأنهما يجوزان في الرِّدفِ في قصيدة واحدة، فلما قرُبَت الواو من الياء هذا القُرب تخيّلوا جَوازَها معها وهو خطأ وغلط، وليس للمُقيَّدِ مَجْرى، أعني حركة حرف الروي، وإنما هو للمطلق، وأظنّ أنّ من ارتكبَ الإقواءَ من العرب لم يكنْ ينشِدُ الشِّعرَ مطلقاً، بل ينشدُهُ مُقيَّداً ويقف على قافيتِه، كقول دريد بن الصّمّة:

نظرتُ إليه والرماحُ تنوشُهُ

كوقعِ الصّياصي في النسيجِ المُمَدَّدْ

فأرهبتُ عنه القومَ حتّى تبددوا

وحتى علاني حالِكُ اللون أسْوَدُ

ص: 42

وفي الجملة فهو عُذر لا بأس به.

وروى لي بعضُ مشايخِنا، يرفَعه الى أبي سعيد السيرافي قال: حضرتُ في مجلس أبي بكر بن دُرَيد، ولم أكن قبلَ ذلك رأيتُه، فجلست في ذيل المجلس، فأنشد أحد الحاضرين بيتَين يُعزَوان الى آدم عليه السلام لما قتلَ ابنُه قابيل أخاه هابيل وهما:

تغيّرتِ البلادُ ومَنْ عليها

فوجهُ الأرضِ مُغْبَرٌّ قبيحُ

تغيّر كل ذي حُسْنٍ وطيبٍ

وقَلّ بشاشةُ الوجهِ المليحُ

فقال أبو بكر: هذا شعرٌ قد قيل في صدْر الدنيا وجاء فيه الإقواء، فقلت: إنّ له وجهاً يُخرجه من الإقواء. فقال: ما هو؟ فقلت: حذفُ التنوين من بشاشة لالتقاء الساكنين ونصبُها على التفسير، ورفعُ الوجه بإسناد قَلّ إليه. ولو حُرِّك التنوين لالتقاء الساكنين لكان: وقلَّ بشاشةً الوجهُ المليحُ. فقال لما سمع هذا: ارتفعْ، فرفعَني حتى أقعدَني الى جنبه.

ومما لا يجوز للمولّدين استعمالُه، ولا وردَ لأحد رخصةٌ في مثلِه: الإكفاء، وهو اختلاف حرفِ الرّوي، ومثال ذلك قول الراجز:

بُنَيّ إن البِرَّ شيءٌ هيِّنُ

المَنْطِقُ الطَيِّبُ والطُعَيِّمُ

وقول آخر:

إنْ يأتِني لصٌّ فإنّي لصُّ

أطلسُ مثل الذِئبِ إذْ يعْتَسُّ

سَوْقي حُدائي وصفيري النّسُّ

ومما لا يجوز للمولد استعماله الإيطاء: وهو أن يُقفّي الشاعرُ بكلمة في بيت ثم يأتي بها في بيت آخر يكون قريباً من الأول، فإن تباعدَ ما بين البيتَيْن بما قَدْرُه عشْرةُ أبيات فصاعداً، كان الذّنْبُ مغفوراً، والعيبُ مستوراً، وانتقل من المحظور الى الكراهية فإن كان إحدى القافيتين معرفَةً والأخرى نكرة فقد زالت الكراهية وكان الى الجواز أقرب من الامتناع وقد أوطأتِ العربُ كثيراً. قال النابغة الذبياني:

أو أضعُ البيتَ في خَرساءَ مُظلمةٍ

تُقيِّدُ العَيْرَ لا يَسْري بها الساري

ثم قال بعد أبياتٍ يسيرة:

لا يخفِضُ الرِّزَّ عن أرضٍ ألمّ بها

ولا يضِلُّ على مِصْباحِه السّاري

وقال ابن مُقبِل:

أو كاهتزاز رُدَيْنيٍّ تداولهُ

أيْدي التِّجارِ فزادوا مَتْنَه لِينا

ثم قال بعد أبيات:

نازَعْتُ ألبابَها لبّي بمقتَصَر

من الأحاديثِ حتى زِدنَني لينا

ومما لا يجوز للمولد استعماله السّناد: وهو اختلاف كل حركة قبل حرف الرويّ، كقول عمرو بن الأهتم التغلبي:

ألم تَرَ أنّ تغلِبَ أهْلُ عِزٍّ

جِبالُ معاقلٍ ما يُرْتَقَيْنا

شرِبْنا من دماءِ بني سُلَيْمٍ

بأطرافِ القَنا حتى رَوينا

ففتحةُ القاف وكسرةُ الواو سِناد لا يجوز، لأنّ أحدَ الحَذوَين يتابع الرِدْفَ والآخر يخالفُه. وقد أجاز الخليلُ الضمةَ مع الكسرة ومنع من الضمة مع الفتحة، فإن كان مع الفتحة ضمّة أو كسْرةٌ فهو سِناد. فأم الذي جوّزه فكقول طرَفة:

أرّقَ العينَ خيالٌ لم يَقِرْ

عافَ والرَّكبُ بصحراءَ يُسُرْ

فهذه ضمّة مع كسرة وهو جيد. وأما الذي منع منه وذكر أنه سنادٌ فكقول رؤبة:

وقاتِمِ الأعماقِ خاوي المُخْتَرَقْ

ثم قال:

ألّفَ شتّى ليس بالراعي الحَمِقْ

فجمع بين الفتحة والكسرة.

ثم قال:

مَضْبورةٍ قرواءَ هِرجابٍ فُنُقْ

فأتى بالضمة مع الفتحة والكسرة، وهو سِناد قبيح لا يجوز استعمالُ مثلِه، ومثلُه في القبح والجمع بين الكسرة والفتحة والضمة وقول الأعشى:

غَزاتُكَ بالخيلِ أرضَ العَدْ

وِ فاليومَ من غَزْوَةٍ لم تَخِمْ

وجيشُهُم ينظرونَ الصبا

حَ وجذعانُها كلفيظِ العَجَمْ

قعوداً بما كان من لأْمَةٍ

وهُنّ قِيامٌ يلُكْنَ اللُّجُمّ

وحكى أبو عمر الجَرْمي أنّ الأخفش لم يكن يرى ذلك سِناداً ويقول: قد كثُر مجيء ذلك من فصحاء العرب. والمعوّلُ على ما قاله الخليل لا غير. وأجاز الخليل مجيءَ الياء مع الواو في مثل مَشيبٍ وخطوب، وأميرٍ ووعورٍ، فإن أردفْتَ بيتاً وتركتَ آخر فهو سِناد وعيب لا يُنسَجُ على منوالِه كقول الشاعر:

إذا كنتَ في حاجةٍ مُرسِلاً

فأرسِلْ حكيماً ولا توصِه

ص: 43

وإنْ بابُ أمرٍ عليكَ التوَى

فشاوِرْ لبيباً ولا تَعصِه

فالواو التي في توصِه رِدفٌ، والصاد حرف الروي، وابيت الثاني لي بمُردَف، فهذا سِناد، وهو عيب قبيح قلّما جاء. وقال الخليلُ بن أحمد: رتَّبْتُ البيت من الشعر ترتيب البيت من الشَّعَر يريد الخِباء، قال: فسمّيْتُ الإقواء ما جاء من المرفوع في الشِّعر والمخفوض على قافية واحدة. وإنما سمّيتُه إقواءً لمخالفته، لأن العرب تقول: أقوى الفاتلُ إذا جاءت قوّةٌ من الحبل تخالفُ سائِرَ القُوى. قال: وسمّيْت تغيُّرَ ما قبل حرفِ الرَويّ سِنادا؛ من مساندة بيت الى بيت إذا كان كلُّ واحدٍ منهما مُلقىً على صاحبه، ليس هو مستوياً كهذا، قال: وسمّيْتُ الإكفاءَ ما اضطربَ حرفُ رَويّه فجاء مرةً نوناً ومرة ميماً ومرة لاماً، وتفعل العرب ذلك لقُربِ مَخْرج الميم من النون، كقوله:

بناتُ وطّاءٍ على خدِّ الليلْ

لا يشتكينَ ألماً ما انْقَيْنْ

مأخوذ من قولهم: بيت مُكفأ إذا اختلفَتْ شِقاقُه التي في مؤخَّره والكفاء: الشقة في مؤخر البيت. والإيطاء ردُّ القافية مرتين، كقوله:

ويُخزيكَ يا ابنَ القَيْنِ أيامُ دارِمِ

وعمرو بنُ عمروٍ إذ دَعا يالَ دارِمِ

أوطأ قافيةً على قافيةٍ سماهُ إيطاء.

وأما التَضمين فهو أن يُبنى البيتُ على كلامٍ يكون معناه في بيت يتلوهُ من بعدِه مُقتضِياً له. كقول الشاعر:

وسعْدٌ فسائِلْهُم والرِّبابُ

وسائلْ هَوازنَ عنّ إذا ما

لَقيناهُمُ كيف تعلوهُمُ

بَواتِرُ يَفْرينَ بَيْضاً وهاما

وكل هذه العيوب لا يجوز للمولدين ارتكابُها لأنهم قد عرَفوا قُبْحَها، وشاهَدوا في غيرهم لذْعها ولَفْحَها، والبدوي لم يأبَه لها.

ومما لا يجوز للمولّد استعمالُه كسْرُ نونِ الجمع في مثل قول جرير:

عَرينٌ من عُرَينَةَ ليس منا

برِئْتُ الى عُرَيْنَةَ من عَرينِ

عرَفْنا جعفراً وبني عُبَيدٍ

وأنكرْنا زعانفَ آخرينِ

وهذا لحْن، وصوابه آخرين، مفتوح النون. وقال سُحَيم بن وَثيل:

عذَرْتُ البُزْلَ إنْ هيَ خاطرَتْني

فما بالي وبالُ ابْنَيْ لَبونِ

وماذا يَدَّري الشُّعراءُ منّي

وقد جاوزْتُ رأسَ الأربعينِ

والصواب فتحُ نون الأربعين. وقال الفرزدق يخاطبُ الحجاج بن يوسف لمّا أتاه نَعْي أخيه محمد في اليوم الذي مات فيه ابنُه محمد:

إنّي لَباكٍ على ابني يوسفٍ جزَعاً

ومثلُ فقدِهِما للدين يُبْكيني

ما سدّ حيٌّ ولا ميْتٌ مسَدَّهُما

إلا الخلائِفُ من بعْدِ النبيين

فكسر نون النبيين، والصواب فتحها. وللمبرّد على ذلك كلام. وكل هذا لا يجوز للمولّد الحذو عليه ولا الاحتجاجُ به. ولذلك يقول السيّد الحِمْيَري:

وإنّ لساني مِقْوَلٌ لا يخونُني

وإني لما آتي من الأمرِ مُتْقِنُ

أحوكُ ولا أقْوي ولستُ بلاحِنٍ

وكم قائلٍ للشعرِ يُقْوي ويَلْحَنُ

وقال عديُّ بن الرِّقاع:

وقصيدةٍ قد بتُّ أجمَعُ بينَها

حتى أقوِّمَ مَيْلَها وسِنادَها

نظرَ المثقِّفِ في كُعوبِ قَناتِه

حتى يُقيمَ ثِقافُه مُنْآدَها

وأنشد أبو بكر الصولي قال: أنشدني عون بن محمد الكندي لبعضِهم وملّح:

لقد كان في عينيكَ يا عمروُ شاغِلٌ

وأنفٌ كَثيلِ العَوْدِ عمّا تتَبَّعُ

تتبّعتَ لحناً في كلامِ مُرَقِّشٍ

ووجهُكَ مبنيٌّ على اللحنِ أجمعُ

فعيناكَ إقواءٌ وأنفُكَ مُكْفأٌ

ووجهُك إيطاءٌ فأنتَ المُرقّعُ

ويُروى:

أذناكَ إقواءٌ وأنفُك مُكْفأ

وعيناكَ إيطاءٌ فأنتَ المُرقَّعُ

وقال ابن جُريْج في سوّار بن أبي شُراعة:

وذكرُكَ في الشّعرِ مثل السنا

دِ والخَرْمِ والخزْمِ أو كالمُحالِ

وإيطاءُ شعرٍ وإكافؤهُ

وإقواؤهُ دون ذِكرِ الرُّذالِ

وما عيبَ شِعْرٌ بعَيْبٍ له

كأنْ يُبْتَلى برِجالِ السَّفالِ

ص: 44

يُتاحُ الهِجاءُ لهاجي الهِجا

ءِ داءً عُضالاً لداءٍ عُضالِ

وقد أورَدْنا هذه الأبيات لموضِعِ استقباحِ عُيوبِها وتشبيهِ أحوالِ المَهْجوّ به تأكيداً لقُبْحها في النفسِ وتحريضاً على اجتنابِها لرَفْعِ اللَّبس.

ومما يجوزُ للشاعرِ المولّد ارتكابُه من الضرورة في شعرِه أن يصرفَ ما لا ينصرف لأن أصل الأسماء كلِّها الصرفُ، وإنما طرأتْ عليها عِللٌ منعَتْها من الصَرف، فإذا صرَفَ الشاعرُ ما لا ينصرِف فقد ردّه الى أصله. قال الشعر:

لم تتلفّعْ بفَضْلِ مِئْزَرِها

دعْدٌ ولم تُغْذَ دعدُ بالعُلب

العُلَب جمع علبة وهي قدَحٌ من خشب ضخم يُحلَبُ فيه، فصرَفَ دعداً وترك الصّرْفَ في بيت واحد. وأما أن يأتي الشاعرُ الى ما ينصرفُ فيتركُ صرفَه فلا يجوز لأنه إخراجُ الشيءِ عن أصله، وإخراجُ الأشياءِ عن أصولِها يُفسِدُ مقاييس الكلام فيها. واحتجّ الأخفشُ على جَواز ذلك بقولِ العباس بن مرداس السُّلَميّ وهو:

فما كان حِصْنٌ ولا حابِسٌ

يفوقانِ مِرداسَ في مَجْمَعِ

فترك صرفَ مرداسٍ وهو اسمٌ منصرف. وقال أبو علي: هذا لا يقاس عليه، وأقول: إنّ هذا لا يجوز فعله لأنّه لحن قبيح.

ومما يجوزُ للشاعر المولّد استعماله ضرورةً قصْرُ الممدود ولا يجوز له مدُّ المقصور لأنه خروج عن الأصل، وأماقصْرُ الممدود فهو ردّ الشيء الى أصله. قال الشاعر:

بكَتْ عيني وحُقَّ لها بُكاها

وما يُغني البُكاءُ ولا العويلُ

فقصَرَ البكاءَ ومدّه في بيت واحد.

ومما لا يجوز الاحتجاجُ به في مدِّ المقصور؛ لأنه على غير أصل الوضع الذي اتفقَ العلماءُ عليه قول الفرزدق:

أبا حاضرٍ مَنْ يَزْنِ يظْهَرْ زِناؤهُ

ومن يَشْرَبِ الخُرطومَ يُصبحْ مُسَكَّرا

فمدّ الزِّنى وهو ممدود في لغة أهل نجد، والقَصْر فيه لأهل الحجاز وهي لغة القرآن وعليها الاعتماد وعلّة من مدّ الزِنى أنه جعلَه فعلاً من اثنين، كقولك راميتُه رماء وزانيتُه زناء، ومن قصَرَهُ ذهب الى أنّ الفعل من أحدِهما؛ وفي الجملة فإنّه منقول مقول لا يُقاس غيرُه عليه، ويُكتَبُ الزنى في القصر بالياء لأنّه من: زَنى يَزني. فأما قول الآخر:

سَيُغنيني الذي أغناكَ عني

فلا فَقْرٌ يدومُ ولا غِناءُ

فالرواية الصحيحة أن يكون أوّلُه مفتوحاً لأنّ معنى الغِنى والغَناء واحد، والشعرُ إذا اضطرّ الى مدِّ المقصورِ غيّر أولَه ووجّهَهُ إلى ما يجوز استعمالُه، كقول الراجز:

والمرءُ يُبليه بَلاءَ السِّربالِ

كرُّ الليالي وانتقالُ الأحوال

فلمّا فتح الباء من البلى ساغ له المدّ. ومثلُ هذا كثير.

ويجوز للشاعر الاجتزاء بالضمة عن الواو ضرورة كقول الشاعر:

فبَيْناهُ يَشْري رَحْلَه قال قائلٌ

لمنْ جمَلٌ رِخْوُ المِلاطِ ذَلولُ؟

كان الأصل: فبينا هو، فلما اجتزأ بالضمة حذف الواو.

ويجوز للشاعر المولّد أن يرُدّ المنقوص الى أصله في الإعراب ضرورةً، فيضمّ الياءَ في الرفع ويكسرها في الجرِّ، كما تُفْتَح في النصب لأنّ الضمّة والكسرة منويتان مقدرتان في الياء وإنْ سقطَتا، فيقول في قاضٍ في حال الرفع قاضيٌ وفي حال الجرِّ قاضيٍ، غيرَ مهموز، وكذلك في جواري وغواني. قال الشاعر:

تراهُ وقد فاتَ الرُماةَ كأنّه

أمامَ الكلابِ مُصْغيُ الخَدِّ أصْلَمُ

فضمّ ياءَ مُصغ. وقال عُبيد الله بن قيْسٍ الرُّقيّات:

لا باركَ اللهُ في الغواني هل

يُصبِحْنَ إلا لهنّ مُطَّلَبُ

فكسر الياءَ في الغواني. وقال الآخر:

ما إنْ رأيتُ ولا أرى في مدّتي

كجواريٍ يلعبْنَ في الصحراءِ

فاستعملَ ضَرورتين: إحداهما كسرُ الياء، والأخرى صرفُ ما لا ينصرف. فأما قول الفرزدق:

فلو كان عبدُ اللهِ مولىً هجَوْتُه

ولكنّ عبدَ اللهِ مولى مَوالِيا

فتقديرُه أنه وقفَ على الياء على مذْهَبِ من يقِفُ عليها من العرب. فلما تمّ الاسمُ برجوع لامِه امتنع حينئذ من الصّرف لأنّ وزنَه صار بالياء مفاعل بعد ما كان مفاعٍ، فلما اضطر الى حركته لإقامة الوزن فتحه في موضع الجرّ كما تُفتحُ مساجِدُ.

فأما قول الراجز:

يحْدو ثماني مولَعاً بلِقاحِها

ص: 45

فإنّ الشاعر شبّه ثمانٍ بجوارٍ لفظاً لا معنىً فلم يصرفْهُ. ويجوز للمولّد أن يسَكِّنَ الياء في حال النصب فيُلحِقَ المنصوبَ بالمرفوع والمجرور، كما جاز له أن يحرِّكَ الياءَ في حال الرفع والجرّ فيُلحِقَ المرفوعَ والمجرورَ بالمنصوب. قال أبو العباس المبرد: هذا من أحسن الضرورات لأنهم شبّهوا الياء بالألف، يعني أنهم إذا أسكَنوها في الأحوال الثلاث جَرى المنقوص مَجْرى المقصور فصارَت الياء كالأف؛ إذ الألفُ ساكنةٌ في جميع أحوالها قال الشاعر:

مَهْلاً بني عمِّنا مهْلاً مَوالينا

لا تَنبُشوا بَينَنا ما كان مدْفونا

أسكن الياء في موالينا وهي في موضع نصبٍ. وقال الآخر:

كأنّ أيديهنّ بالقاع القَرِقْ

أيدي جَوارٍ يتعاطيْنَ الورِقْ

أسكن الياءَ في أيديهنّ وهي في محل النصب وأسكنها في أيدي وهي في محلّ الرفع. قال الحطيئة:

يا دارَ هندٍ عفَتْ إلا أثافيها

وقال الفرزدق:

يقلِّبُ رأساً لم يكنْ رأسَ سيِّدٍ

وعيْناً له حَولاءَ بادٍ عُيوبُها

أراد بادياً عُيوبُها فأسكن الياءَ وحذفَها لالتقاء السّاكنين. ويجوز في قول الآخر وقد تقدّم ذكرُه:

يحدو ثماني مُولعاً بلِقاحِها

أن تُسكَّن الياءُ ثم تحذَفَ لأجلِ التنوين فيكون محمولاً على هذه الضرورة فتقول:

يحْدو ثمانٍ مولَعاً بلِقاحِها

ومما يجوز للشاعر المولّدِ استعمالُه، إثباتُ الواو والياء في مثل لم يغْزُ ولم يرْمِ فيقول عند الضورة: لم يغزوَ ولم يرميَ، كأنّه أسْكنَ الواو والياء بعد وُجوب الحَرَكة لهما قال الشاعر:

ألمْ يأتيكَ والأنباءُ تَنمي

بما لاقَتْ لَبونُ بني زِيادِ

كان أصلُه: يأتيُك فحذف الضمة وأسكن الياء كما عرّفتُك.

ومما يجوز استعمالُه، وهو كثيرٌ فاشٍ في الاستعمال، حذفُ التنوين لالتقاء الساكنين. فمن ذلك قول الشاعر:

حُمَيْدُ الذي أمَجٌّ دارُه

أخو الخمرِ ذو الشَيبَةِ الأصْلَعُ

كان ينبغي أن يقول حُمَيدٌ فأسقط التنوين. والأمَجُ الحرُّ والعطش، وأمَجٌ موضع. وقال الآخر:

لتَجِدَنّي بالأميرِ بَرّا

وبالقَناةِ مِدْعَساً مِكَرّا

إذا غُطيفُ السُّلَميُّ فَرّا

كان يجب أن يقول: إذا غُطَيْفٌ، فحذفَ التنوينَ لالتقاء الساكنين. وقال عُبيدُ الله بن قيس الرُقيّات:

كيف نومي على الفراشِ ولمّا

تشملِ الشّامَ غارةٌ شعْواءُ

تُذهِلُ الشيخَ عن بَنيه وتُبدي

عن حِذامِ العقيلةُ العذراء

أراد وتبدي العقيلةُ العذراءُ عن حِذام، والخِدام الخلخال أي ترفع ثوبها للهرب، وقال الشاعر:

فألفَيْتُه غيرَ مُستَعْتِبٍ

ولا ذاكرَ اللهَ إلا قليلا

حسُنَ حذفُ التنوين من ذاكر ونصَبَ اسم الله تعالى به ليوافقَ المعطوفَ عليه في التنكير. وقال:

وحاتِمُ الطائيُّ وهّابُالمِئي

وكان الواجبُ أن يقول وحاتمٌ فحذفَ التنوينَ لالتقاء الساكنين. وقد رُويَ عن أبي عمرو في بعضَ طُرُقِه: (قُلْ هو الله أحدُ اللهُ الصَّمَدُ) ، فحذف التنوينَ من أحدٍ لالتقاء الساكنين، وكذلك حُذف التنوين لالتقاء الساكنين في قراءة من قرأ:(وقالتِ اليهودُ: عُزَيْرُ ابنُ الله) على أنه مبتدأ، وابن الله خبرُه، كقراءةِ مَنْ أثبتَ التنوين، ولا يكون حذف التنوين منه لامتناع الصّرف لأنّ عُزَيْراً ونحوَه ينصرفُ عربياً كان أو عجمياً، وإنما حسُنَ حذفُ التنوين لالتقاء الساكنين كما حسُن حذفُ حروف اللين لذلك. ألا ترى أنه قد جرى مجراها في: لم يكُ زيدٌ قائماً، وقولِه تعالى:(وإن يكُ كاذباً فعليهِ كذِبُه) . وقد أثبتَ الشّاعرُ نونَ مئتي دِرْهمٍ ضرورةً، فقال:

عندي لها مأَتانِ ثوْباً مُعْلَما

ويجوز للمولّد حذفُ نون مِن إذا وليَتْها اللام الساكنة، كقول الشاعر:

أبلِغْ أبا دَختنوشَ مألُكَةً

غيرَالذي قد يُقال مِلْ كذِبِ

أراد أن يقول: من الكذب، فحذف النونَ لسكونها وسُكون اللام بعدها. قال المرقَّش الأكبر:

لم يشْجُ قلبي مِلحوادث إ

لاّ صاحِبي المتْروكُ في تَغْلَمْ

وقال الآخر:

ص: 46

كأنّما مِلآنَ لم يتغيَّرا

وقد مرّ للدارَيْنِ منْ بعدِنا عصْرُ

أراد: من الآن، فحذف. وكذلك حذف النجاشيّ النون من لكن لالتقاء الساكنين فقال:

ولستُ بآتيه ولا أستطيعُهُ

ولاكِ اسْقِني إنْ كان ماؤكَ ذا فضْلِ

وإنّما حذَفوا هذه النون تشبيهاً بالياء المحذوفة للتخفيف في لا أدرِ وقوله تعالى: (ذلكَ ما كنا نبْغِ) لمضارعتِها حروفَ المدِّ واللين، وقال الراجز:

لم يكُ شيءٌ يا إلهي قَبْلَكا

فأمّا قول المُتنبي:

جلَلاً كما بي فلْيَكُ التبريحُ

وقد ذكرنا شرْحَ هذا البيت في الرسالة العلوية، واستوفينا أقسام ما فيه من العُيوب، وإنما نذكر هاهنا وجهَ قُبح حذْفِ النون من فليكن ووجه العُذْرِ له وإنْ كان ضعيفاً. قال أبو الفتح: وليس حذفُ النون من يكن وهي ساكنة قد ضارعَتْ في المخرج والزيادة والسّكونِ والغُنّة حروفَ المدِّ فحُذِفَتْ كما يُحْذَفْنَ، وهي في فليكن التبريح قويّةٌ بالحركةِ، وكان ينبغي ألا يحذفَها انقضى كلامُه. ومعنى هذا القول أنها لو لم تُحذَفْ وجبَتْ حركتُها لسكونها وسكونِ التاء المبدلة من لام التعريف، وإنما حُذِفَت في نحو (وإنْ يكُ كاذِباً فعليهِ كذِبُه) وفي قول الراجز:

لم يكُ شيءٌ يا إلهي قبْلَكا

لمضارعتِها حُروفَ المدِّ واللين والسّكون والغُنّة، فحذَفوها تشبيهاً بالياء المحذوفة للتخفيف في لا أدرِ و (ذلك ما كنا نبغ) و (يومَ يأتِ لا تكلَّمُ نفسٌ) فإذا زال السكون الذي يوجِب شَبَهها بحروف المدّ وجبَ ثباتُها كقوله تعالى:(لم يكنِ اللهُ ليغفرَ لهم) وقبُح حذفُ النون من فليَكُن من جهة أخرى وهو أنه حذَفَ النون مع الإدغام وهذا لا يُعرَف، لأنّ من قال في بني الحارث: بَلْحارِث، لم يقلْ في بني النجار: بنّجّار. ووجهُ العُذرِ عن المتنبي أن يقال: أما صواب الكلام فإثباتُ النون متحركةً، ولكنّ ضرورة الشعر دعَتْه الى ذلك. وقد حكى أبو زيد في النوادِر عن العرب مثل هذه الضرورة فيما أنشدَه لحُسَيْل بن عُرْفُطَة، قال:

لم يكُ الحقُّ على أن هاجَهُ

رسْمُ دارٍ قد تعفّى بالسَرَرْ

غيّر الجِدّةَ من عِرفانها

خُرُقُ الريحِ وطوفانُ المطرْ

وقد حذف النجاشيّ نون لكنْ الخفيفة وهي في موضع حركة في قوله:

فلسْتُ بأتيهِ ولا أستطيعُه

ولاكِ اسْقِني إنْ كان ماؤكَ ذا فضلِ

وإذا كانت لكن وأصلُها لكنّ قد سوّغت الضرورةُ حذفَ نونها بعد حذف النون الأخرى، فحذفُ النون من قوله: فليَكُ التبريح مُسامَحٌ فيه للضرورة. وأما حذفُها مع الإدغام فإننا نحكُمُ بأنه حذفَ النون من فليكن لغيرِ التقاء الساكنين بل، كما حذِفَت في قول القطامي:

ولا يكُ موقفٌ منكِ الوَداعا

وأدخلَ الساكن المُدْغَم بعدَ حذفِها. ومثلُه في الرجزِ القديم:

ومن يكُ الدّهرُ له بالمَرصَدِ

فهذا وجه اجتهاد من يُحاوِل الاعتذار له، وعليه نقْضٌ يُدحِضُ حُجّتَه ويطمِسُ مَحجَّته، وليس هذا موضع الكلام فيه. والأصل أنّ أبا الطيّب أخطأ في ذلك وسلك منه ما ليس للمولّد سلوه، والواجب أن يُتجنَّبَ ما سلكَه من هذه الضرورة.

ويجوز حذفُ الياء من الأيدي والنواحي ومن هي للضرورة. وقال الشاعر:

دارٌ لسُعْدى إذهِ من هَواكا

فحذفَ الياءَ من هي لأنّه أرادَ: إذْ هيَ من هَواكا.

وقال الشعر:

وطِرتُ بمُنْصُلي في يَعْمَلاتٍ

دوامي الأيْدِ يخبطنَ السّريحا

فحذفَ الياءَ من الأيدي، كقول الآخر:

كنَواحِ ريشِ حمامةٍ نجْديّةٍ

ومسَحْتَ باللّثَتَيْن عصْفَ الإثْمِدِ

فأسقط الياءَ من نواحي، ومثلُه:

كفّاكَ كفٌّ لا تليقُ دِرهما

جوداً وأخرى تُعْطِ بالسّيفِ الدَّما

يريد: تعطي، فحذف الياء، وعليه بيتُ الكتاب:

وأخو الغوانِ متى يشأْ يصْرِمْنَهُ

وقد حذفت الواو مع الضمّ كقول الشعر:

إنّ الفقيرَ بيننا قاضٍ حكَمْ

أنْ نرِدَ الماءَ إذا غابَ النُجُمْ

يريدُ النجومَ فحذفَ الواو واكتفى بالضمة. وقوله:

حتى إذا بُلَّتْ حلاقيمُ الحُلُقْ

يريد الحُلُوق، وقال الأخطل:

ص: 47

كلَمْعِ أيدي مثاكيلٍ مسَلَّبةٍ

يُبْدينَ ضَرْسَ بناتِ الدهرِ والخُطُبِ

يريدُ الخطوبَ فحذفَ الواو واجتزأ بالضمة.

ويجوز تسكين الحروف التي يليها الضّمّاتُ والكسراتُ نحو: عضُد وفَخِذ، فيقال: عضْدٌ وفَخْذٌ، قال الأخطل:

أنتم خِيارُ قرَيشٍ عند نسبتِها

وأهلُ بَطْحائِها الأثْرَوْنَ والفَرَعُ

أراد الفَرْعَ فحرّك الراء. وقال الأُقَيشِر الأسدي:

إنّما نشربُ من أموالنا

فسَلوا الشُرْطيَّ ما هذا الغَصَبْ

أراد الشُرَطيَّ بتحريك الراء. ويقال في علِمَ: عَلْمَ، وفي كرُمَ: كَرْمَ، وفي رَجُل: رَجْلٌ، وفي ضُرِبَ: ضُرْبَ، وفي عُصِرَ عُصْرَ. قال الشاعر:

لو عُصْرَ منها البانُ والمِسكُ انعصَرْ

ويقال في مثلا انطَلِقْ: انطَلْقَ، تنقُل حركة اللام الى القاف وسكون القاف الى اللام، كقول الشاعر:

ألا رُبّ مولودٍ وليس له أبٌ

وذي ولدٍ لمْ يلْدَهُ أبوانِ

فحرّك الدالَ بالفتح لما أسْكنَ اللام. فأما قول الآخر، وهو من أبيات الكتاب:

قواطناً مكّةَ من وُرْقِ الحَمي

ويروى أوالِفاً فإنّه أرادَ الحمامَ فحذفَ الألفَ فبقي الحمَمْ، فاجتمعَ حرفان من جنس واحدٍ فأبدَلَ الميمَ الثانيةَ ياءً كما قالوا: تظنّيْتُ بأدَلوا الياءَ من النون. وهذا إنما يجوز استعمالُه ضرورةً في الحِمام خاصّةً نقلاً، ولا يجوز القياسُ عليه في الحمار ولا فيما أشبَه ذلك لأنه شاذّ. ومما حُذِف الألفُ فيه وهو في المفتوح قليلٌ لخفّةِ الألف، قول الشاعر:

مثلُ النَقا لبَّدَهُ صَوْبُ الطِلل

يريدُ الطِلالَ فحذفَ الألِفَ. وقال أبو عثمان في قوله تعالى: (يا أبَتَ) أراد: يا أبتاهُ، فحذفَ الألِف. وقد ضاعف الشاعرُ ما لا يجوزُ أن يُضاعَفَ في غير الشعرِ للضرورة، قال قَنْعَب:

مَهْلاً أعاذِلَ قد جرّبْتِ من خُلُقي

أنّي أجودُ لأقوامٍ وإنْ ضَنِفوا

وقال الراجز:

الحمدُ لله العليِّ الأجْلَلِ

وإنما الوجهُ الصحيح ضنّوا والعليُّ الأجَلُّ. وكل هذه الضرورات إنما يُرَخَّصُ للشاعر في استعمالها عند مضايقِ الكلام واعتياصِ المَرام، لأن الشعرَ مُحِلُّ ارتكابِ الضرورات، واستعمال المحظورات. وقد ألحقَ الشاعرُ نونَ الجمع مع الاسمِ المُضمَر، وهو من الضرورات التي لم تُستَحسَن، فقال في مثل الضّارِبوهُ الضّاربونَه، والخائِفوه: الخائِفونَه، والآمِروهُ الآمِرونَه. قال الشاعر:

همُ القائلون الخيْرَ والآمِرونَهُ

إذا ما خَشُوا من مُحْدَثِ الأمرِ مُفظِعا

فأما حذفُ الإعراب فلا يجوز للعربيّ فضْلاً عن المولّد قال الراجز:

إذا اعوجَجْنَ قلتُ صاحبْ قَوِّمِ

بالدّوِّ أمثالَ السفينِ العُوَّمِ

وأنشد سيبويه:

فاليومَ أشرَبْ غيرَ مُستَحْقِبٍ

إثْماً من الله ولا واغِلِ

يريدُ: أشربُ، فحذفَ الضمّة وهو لحْن، والروايةُ الصحيحة فيه: فاليوم فاشْرَبْ غيرَ مُستَحْقِبٍ.

وأما قطعُ ألِف الوصْلِ فلا يجوز للشاعر المولّدِ استعماله لأنه لحْنٌ وإن كان العربي قد فعل ذلك. قال جميل:

ألا لا أرى إثنينِ أحسَنَ شيمةً

على حَدَثانِ الدّهْرِ مني ومن جُملِ

فقطعَ ألِفَ اثنين وهي ألِفُ وصلٍ.

ويجوز زيادةُ الياءِ فيما كان على وزن مفاعِل فيصير فاعيل مثلُ مساجد ودراهِم فقالوا: مساجيد ودَراهيم. وسبب ذلك أن الشاعر إذا احتاجَ الى إقامة الوزن بطّلَ الحركة فأنشأ عنها حرْفاً من جِنسِها. قال الشاعر يصفُ ناقةً:

تنْفي يَداها الحَصا في كلِّ هاجِرةٍ

نفْيَ الدّراهيمِ تنْقادُ الصياريفِ

وكذاك قولُ ابن هَرْمة: يمُنْتَزاحٍ، يريدُ بمُنْتَزَحٍ من النَزْحِ وقول الآخر: فانظُورُ، أي فانظُرُ.

وقد بيّن النحويون ذلك وشرحوه، وقد جاء في مثل المِفْتاح: المِفْتَح، وفي مثل التأميل: التأمال، وفي مثل الكَلْكَل: الكَلْكال. وهذا يجوز للشاعر المولّد استعماله إذا نقله نقلاً لأنها لغة القوم ولهم التصرُّف فيها، وليس لنا القياس عليها بل نستعمِل ما ورد عنهم نقْلاً. قال الراجز:

أقولُ إذْ خرّت على الكَلْكالِ

يا ناقتي ما جُلتِ من مَجالِ

ص: 48

ويجوز للشاعر المولّد التّصغير في الشّعر من غيرِ ضرورة لمعان في التصغير نذكرُها.

أما التّصغيرُ فعلى أربعة أقسام: قسْمٌ للتحقير كقولَك: رُجَيْلٌ، وقسمٌ للتقليل في المجموع كقولَك: أُجَيْمالٌ، وقسمٌ للتّعظيم كقول عمر رضي الله عنه كُنَيْفٌ مُلئَ علماً. وقال حُباب: أنا جُذَيْلُها المُحَكَّك وعُذَيْقها المُرجَّب. وقال لَبيد:

دُوَيْهيّةٌ تصْفَرُّ منها الأنامِلُ

وقسم للتقريب وذلك في الظروف نحو قولك: فُوَيْقٌ وقُدَيدِمة وقال امرؤ القيس:

ضَليع إذا استَدْبَرْتَه سدّ فرْجَه

بضافٍ فوَيْقَ الأرضِ ليسَ بأعزَلِ

وقال الأعشى:

أبلِغْ يزيدَ بني شيبانَ مألُكةً

أبا ثُبَيْتٍ أما تنفَكُّ تأتَكِلُ

وقال زهير:

فأمّا ما فُويْقَ العِقْدِ منها

فمِنْ أدْماءَ مرْتَعُها خلاءُ

وقال أبو زُبيد الطائي:

يا ابنَ أمّي ويا شُقَيِّقَ نفْسي

أنتَ خلَّيْتَني لأمرٍ شديدِ

وربما حقّروا فعلَ التعجُّبِ للَحاقِه بالأسماءِ إذ عدم تصرُّفُه، ومعنى التَحقير المبالغة في الاستحسان، كما قال:

يا ما أحَيسِنَ غِزْلاناً عرَضْنَ لنا

ويجوز استعمالُ غَدْوٍ في موضِع غدٍ، كقول الشاعر:

وما الناسُ إلا كالدّيارِ وأهلِهابها يومَ حلّوها وغَدْواً بلاقعُويجوز استعمال ليْتي في موضع ليتني كقول الشاعر:

كمُنْيَةِ جابرٍ إذ قال لَيْتي

أصادِفُه وأفقِدُ بعضَ مالي

ويجوز استعمال عِمْ صباحاً في موضع أنعِمْ صباحاً كقول الشاعر:

أتَوْا ناري فقلت مَنونَ أنتُمْ

فقالوا: الجِنُّ، قلت: عِموا ظَلاما

ويجوز التّرخيمُ في غير النداءِ للضرورة كما قال الشاعِر:

لَنِعمَ الفتى تعْشو الى ضوءِ نارِه

طَريفُ بنُ مالٍ ليلةَ الجوعِ والخَصَرْ

يريد طريفَ بنَ مالكٍ فرخّم في غير النداء، كما قال الآخر:

وهذا رِدائي عندَه يَستعيرُه

ليَسْلُبَني عِزّي أمال بنَ حنْظَل

أراد حنظلة فرخّم وهو غيرُ مُنادى. وأما الترخيم في النداء فقد جاء منه في أشعارهم ما لا يُحيط به الإحصاءُ. قال الشاعر:

يا مَرْوَ إنّ مطيّتي محْبوسةٌ

ترجو الحِباءَ وربُّها لمْ ييأسِ

يريد يا مروانُ. وقال آخر:

فقُلتُم تعالَ يا يَزي بنَ مخَرّمِ

فقلتُ لكمْ إني حَليفُ صُداءِ

يريدُ يا يزيد. وقال آخر:

يا حارِ لا أُرْمَيَنْ منكُم بداهيةٍ

أراد يا حارِث، وقد جاءَ عنهم إبدالُ الحرف المتحرك بحرف لا تجري فيه الحركة، وهو من الضرورات التي لا تجوز للشاعر المولّدِ ولا هي بالمستحسنة. قال الشاعر:

له أشاريرُ من لحْمٍ تُتَمِّرُه

من الثّعالي ووخْزٌ من أرانيها

أراد الثعالب فأبدلَ من الباء ياءً، وكذلك أراد أرانبها فأبدل الياء من الباء. ومثله:

ومَنْهَلٍ ليس به حَوازِقُ

ولضَفادي جمِّهِ نَقانِقُ

يريد الضفادع.

ويجوز للشاعر المولّدِ استعمالُ الماضي في موضع المُستقبل واستعمال المستقبل في موضع الماضي. فأما استعمال الماضي في موضع المستقبل فكقوله تعالى: (ونادى أصحابُ النارِ أصحابَ الجنّةِ أنْ أفيضوا علَيْنا من الماء) والمعنى وإذْ ينادي أصحابُ النارِ. وأما استعمالُ المستَقبل في موضع المضي فكقوله تعالى: (ففريقاً كذّبْتُمْ وفريقاً تقتلون)، أراد فريقاً قتلْتُمْ. ومثله (ما يَعبدونَ إلا كما يعبُدُ آباؤهُم من قَبلُ) أوقعَ يعبد موضِعَ عَبدَ. وقال الطِّرمّاح:

وإني لآتيكُم تشَكُّرَ ما مضَى

من الأمسِ واستيجابَ ما كان في غَدِ

وضع كان في موضع يكون. وقال زيادٌ الأعْجَم:

وانْضَحْ جوانبَ قبرِه بدِمائِها

فلقَدْ يكونُ أخا دَمٍ وذبائِحِ

وضع يكونُ في موضع كان.

ص: 49

وقال أبو الفتح: قال أبو عليّ: سألتُ أبا بكرٍ عن الأفعالِ يقَع بعضُها موقعَ بعض فقال: كان ينبغي للأفعال كلِّها أن تكون مِثالاً واحداً لأنها لمعنىً واحد، ولكن خُولِفَ بين صِيغها لاختلاف أحوالِ أزمنَتِها، فإذا اقترنَ بالفعل ما يدلُ عليه من لفظٍ أو حالٍ جازَ وقوعُ بعضِها موقعَ بعضٍ. قال أبو الفتح: وهذا كلام من أبي بكر عالٍ سديدٌ فاعْرفْهُ. وقال أعشى باهِلة:

فإنْ يُصِبْكَ عدوٌّ في مُناوأةٍ

فقد تكونُ لك المَعْلاةُ والظَّفَرُ

وضع تكون في موضع كانت. وقال آخر:

قالتْ جُعادةُ ما لجسمِكَ شاحباً

ولقد يكونُ على الشبابِ نَضيرا

أي: ولقد كان.

ويجوز للشاعر المولّدِ تأنيثُ المذكّرِ وتذكيرُ المؤنث على المعنى وهو أفشى في العُرْفِ والاستعمال من أن يُؤتى عليه بشاهدٍ أو مثالٍ، قال الشاعر:

أتَهجُرُ بيتاً بالحجازِ تلفّعَتْ

به الخوفُ والأعداءُ من كلّ جانبِ

أنّث الخوفَ لأنه ذهب به الى المخافة. ومثله بيتُ الحماسة:

يا أيها الراكِبُ المُزْجي مطيّتُه

سائلْ بني أسَدٍ ما هذه الصّوتُ

أنّث الصوت لأنه ذهب به الى الاستغاثة، وإذا جازَ تأنيثُ المذكر في كلامِهم حمْلاً على المعنى، وهو منهم حمْلُ الأصْل على الفرْعِ، كان تذكيرُ المؤنث أجدرَ بالجَوازِ من حيثُ كان الأصلُ هو التذكير. ومنالحسَنِ الجميلِ ردُّ الفروعِ الى الأصول.

ومن تذكير المؤنث قوله تعالى: (السماءُ مُنفَطِرٌ به) . لأنه تعالى أراد بالسماء السّقْفَ لقوله تعالى: (وجعلنا السّماءَ سَقْفاً محفوظاً) . قال الشاعر:

فلا مُزنَةٌ ودَقَتْ وَدْقَها

ولا أرْضَ أبْقَلَ إبْقالَها

فذكّر لما عَنى بالأرضِ المكانَ، غير أنه ردّ الهاءَ على لفظِ الأرض.

وقال زهير:

لَها أداةٌ وأعوانٌ غدَوْنَ لها

قِتْبٌ وغرْبٌ إذا ما أُفْرغَ انْسَحَقا

غدَوْنَ مؤنثٌ، وإن كان للأعوانِ، لأنه أنّثَ على معنى الجماعة كما تقول: هذه رجال، والقِتْبُ قِتْبُ السّانية، وانسحقَ انصبّ. وأنشد المفضَّل:

فلو كنتُ بالمغلوبِ سيفِ بن ظالمٍ

فتكتُ لعادت قبرَ عوفٍ قرائبُه

ولكن وجدتُ السّهمَ أهونَ فُوقَةً

عليكَ فقد أودى دمٌ أنتَ طالبُه

جعل الفُوق مؤنثاً؛ لأنه أراد ذروته وهي أعلاه، ومثل ذلك كثير.

ومما يجوزُ للشاعر المولّدِ استعمالُه حذف الهمزة عند الضرورة. أنشد سيبويه لعبد الرحمن بن حسّان:

فكنتَ أذَلَّ من وَتِدٍ بقاعٍ

يُشجِّجُ رأسَهُ بالفِهْرِ واج

يريد واجئ. وقال ابنُ هَرْمة:

ليتَ السِّباعَ لنا كانت مجاوِرَةً

وأنّنا لا نرى ممّن نرى أحَدا

إنّ السِّباعَ لتهدا عن فرائِسِها

والناسُ ليسَ بهادٍ شرُّهُم أبدا

يريد ليس بهادئ. وقال آخر:

تقاذَفَهُ الرُوّاد حتى رَمَوْا به

ورَا طَرفِ الشامِ البلادَ الأقاصيا

أراد: وراءَ طَرفِ الشامِ، فقَصرَ الكلمةَ وكان ينبغي ألا يقصُرَها؛ لأن الهمزة أصليةٌ فيها. إلا أن الضرورة ألزمته فقلبها ياءً. وأنشد أبو علي:

إنْ لم أُقاتِل فالبسوني بُرْقُعا

ويجوزُ للشاعر المولّد حذفُ همزةِ الاستفهام للضرورة مع دلالةِ الكلام عليها، كما قال الكُمَيْت:

طَربْتُ وما شوْقاً الى البيض أطْرَبُ

ولا لعِباً مني وذو الشَيْبِ يلعَبُ

أراد: أو ذو الشيب يلعبُ. وقال عِمران بن حِطّان:

وأصبحتُ فيهم آمِناً لا كمَعْشَرٍ

أتوْني فقالوا من ربيعة أو مُضَرْ

أراد: أمِنْ ربيعةَ أو مُضر. وقال ابن أبي ربيعة:

ثمّ قالوا تحبُّها قلت بَهْراً

عدَدَ القَطْرِ والحَصا والتُرابِ

أراد: أتُحِبُها. وقيلَ في قوله تعالى (نِعمةٌ تمُنُّها عليّ) إنّ المُراد: أوَتلكَ نعمةٌ، وإذا صحّ ذلك فقد زالَتِ الضرورة من الشِّعر.

ص: 50