الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قومٌ إذا الشرُّ أبْدى ناجِذَيْهِ لهُمْ
…
طاروا إليه زَرافاتٍ ووِحدانا
وأنشد الأصمعي:
وما زِلتُ أرْشو الدّهرَ صَبْراً على التي
…
تَسوءُ الى أن سرّني فيكُمُ الدّهْرُ
جعل الصبْرَ رِشوةَ للدهر ليُعينَه وهي استعارة حسنة. وقال قُرْطُ بن حارثة العامري الكلبي:
إنّما شيّبَ الذُؤابةَ مني
…
وشجاني تناصرُ الأحزانِ
الاستعارةُ في تناصر. وقال أبو دَهْبَل الجُمَحي:
أقول والرّكْبُ قد مالَتْ عمائِمُهمْ
…
وقد سَقى القومَ كأس النّشوةِ السّمَرُ
وقال ذو الرمة:
سقاهُ الكَرى كأسَ النُعاسِ فرأسُهُ
…
لدِين الكَرى من آخِر الليل ساجِدُ
وقال حمزة بن بَيْض الحنَفيّ:
وأقام في رأسي المشيبُ فراعَني
…
ضيفٌ لَعَمْرُ أبيكَ ليسَ برائِمِ
وحنَى قناتي ثمّ وتّر قوسَه
…
ورَمى بأسْهُمِهِ فشكّ قوائِمي
وقال الأفوهُ الأْوديّ:
إنما نِعْمةُ قومٍ مُتعَةٌ
…
وحياةُ المرءِ ثوْبٌ مُستعار
جعل الحياةَ ثوباً وجعله مُسْتعاراً. وقال ابنُ ميّادة يصف الألحاظ:
وبَرَيْنَ، لمّا أن أردْنَ نِضالَنا
…
نَبْلاً بلا ريشٍ ولا بِقداحِ
لما استقرّ النبلُ للحظ استعار النضال والريشَ، والقرينة هنا لفظيّة. وقال الآخر:
أخذْنا بأطرافِ الأحاديثِ بيننا
…
وسالَتْ بأعناقِ المطيِّ الأباطِحُ
وقال عمر بن أبي ربيعة المخْزومي:
وهْيَ مكنونةٌ تحيّرَ منها
…
في أديمِ الخدّيْنِ ماءُ الشّبابِ
وأنشد ثعْلَب:
إذا ما أتاهُ السائِلونَ توقّدَتْ
…
عليهِ مصابيحُ الطّلاقَةِ والبِشْرُ
وقال مِحْجَن بن عُطارِد العنْبري:
تُحدّثُني أنّ البليّةَ قد أتَتْ
…
وأنّ سِنينَ المحْلِ قد صاحَ هامُها
وهذه استعارة حسنة. والاستعاراتُ في المنظوم والمنثور تتجاوز حدَّ كل حدٍ محصور، فيما أتينا به مَقْنَع.
ومن الألقاب المقدّم ذكرها:
باب التشبيه
قال أبو عمرو بن العلاء: وقال الأصمعي: أحسنُ التشبيه ما كان فيه تشبيهان في تشبيهين، كقول امرئ القيس:
كأنّ قلوبَ الطّيرِ رطْباً ويابِساً
…
لدى وَكْرِها العُنّابُ والحشَفُ البالي
وإنما خصّ قلوبَ الطير لأنها أطيبُها، وقيل: إن الجارحَ إذا صاد الطائرَ أتى بقلبه الى فِراخِه طُعْماً دون باقي لحمِه، فلا يزالُ في وَكْرِه من قلوب الطير طريٌّ وقديمٌ لكثرة صيدِه، كما قال أبو زبيد الطائي:
يظَلُّ مُغِبّاً عندَه من فرائِسٍ
…
رُفاتُ حُطامٍ أن أو غريضٌ مُشَرْشَرُ
رفاتٌ قديمة، وغريضٌ طري.
وقال الأصمعي: إنّ الجارحَ يأتي بالصّيد الى وَكره فيأكلُ لحمَه ويتركُ قلبَه فما يبْرَح في وَكره من قلوب الطير رطبٌ ويابس، لهذه العلّة خصّ قلوبَ الطيرِ دون غيرها. وقال بشارُ بن برد: ما زلت منذ سمعت بيتَ امرئ القيس أحاول أن أقارب تشبيهين بتشبيهين فلا أستطيعُ حتى قلت:
كأنّ مُثارَ النّقْعِ فوقَ رؤوسِهمْ
…
وأسيافنا، ليلٌ تهاوَتْ كواكِبُهْ
أخذَه بشّار من قول كُلثوم العتّابي:
تبْني سنابِكُها من فوقِ هامِهمُ
…
سَقفاً كواكِبُهُ البيضُ المَباتيرُ
وحكى الأصمعيُّ قال: استدعاني الرشيدُ بعضَ الأيامِ فراعني رُسُلُه، ولم أفتأْ أنْ مثُلْتُ بحَضرتِه، وإذا في المجلس يحيى بن خالد وجعفر والفضل. فاستدناني فدنوتُ، وتبيّن ما عَراني من الوجَل فقال: ليُفْرِخْ روْعُك، فما أردْناكَ إلا لما يُراد له أمثالُك. فمكثتُ الى أن ثابَتْ إليّ نفسي، ثمّ بسَطني وقال: إني نازعتُ هؤلاء، وأشار الى يحيى وجعفر والفضل، في أشعَر بيت قالَتْه العربُ في التشبيه، ولم يقعْ إجماعُنا على بيت يكون الإيماءُ إليه دون غيره، فأردناك لفصْلِ هذه القضية واجتناء ثمَرةِ الخِطار فقلت: يا أمير المؤمنين، إن التعيينَ على بيت واحد في نوع واحد قد توسّعَتْ فيه الشعراء ونصبَتْهُ مَعْلماً لأفكارها ومَسرَحاً لخواطرِها، لَبَعيدٌ أن يقعَ النصُّ عليه، ولكنّ أحسن الشعراء تشبيهاً امرؤ القيس. قال: في ماذا؟ قلت: في قوله:
كأنّ عُيونَ الوحشِ حول قِبابِنا
…
وأرْحُلِنا الجَزْعُ الذي لم يُثَقَّبِ
وقوله:
كأنّ قلوبَ الطّيْرِ رَطْباً ويابساً
…
لدى وَكرِها العُنّابُ والحشَفُ البالي
وقوله:
سَمَوْتُ إليها بعدَ ما نامَ أهلُها
…
سُموَّ حَبابِ الماء حالاً على حالِ
قال: فالتفَت الرشيدُ الى يحيى وقال: هذه واحدة، فقد نصّ على امرئ القيس أنه أبرعُ الناس تشبيهاً، قال: فقال يحيى: هي لك يا أميرَ المؤمنين، ثم قال الرشيد: فما أبْرَعُ تشبيهاتِه عندَك؟ قلت: قوله في صفة فرس:
كأنّ تشَوُّفَهُ في الضُحى
…
تشوُّفُ أزرقَ ذي مِخْلبِ
إذا بُزَّ عنه جِلالٌ له
…
تقولُ سَليبٌ ولم يُسلَبِ
قال الرشيد: هذا حسَن، وأحسنُ منه قوله:
فرُحْنا بِكابْنِ الماءِ يُجنَبُ وسْطَنا
…
تصَوَّبُ فيه العيْنُ طوراً وتَرْتَقي
فقال جعفر: هو التحكيم يا أميرَ المؤمنين، قال: كيف؟ قال: ليَذْكُرْ أميرُ المؤمنين ما كان وقع اختيارُه عليه ونحن نذكر ما اخترناه ويكونُ الحُكْمُ واقعاً من بعد، فقال الرّشيد: أغْرَضْتَ، قال الأصمعي: فاستحسنتُها منه، يقال: أغْرَضَ الرجلُ إذا قارب الصوابَ. ثم قال الرشيد: ليبدأ يحيى، فقال يحيى: أحسنُ الناس تشبيهاً النابغةُ في قوله:
نظَرَتْ إليكَ بحاجةٍ لم تَقْضِها
…
نظَرَ المريضِ الى وجوهِ العُوَّدِ
وقوله:
فإنّك كالليلِ الذي هو مُدرِكي
…
وإنْ خِلتُ أنّ المُنْتَأى عنكَ واسعُ
وقوله:
مِنْ وحْش وَجْرَةَ مَوْشيٌّ أكارِعُهُ
…
طاوي المَصير كسَيْفِ الصَّيْقَلِ الفَرِدِ
قال الأصمعي: فقلتُ: أما تشبيهُ مرَضِ العين فحسَنٌ، إلا أنه هجّنَهُ بذكرِ العِلّة وتَشبيهِ المرأة بالعليل، وأحسنُ منه قولُ عَديّ بن الرِّقاع:
وسْنانُ أقصَدهُ النُّعاسُ فرنّقَتْ
…
في عينِه سِنةٌ وليس بنائِمِ
وأما تشبيه الإدراك بالليل والنهار فيما يُدركانِهِ فقد كان من سبيله أن يأتي بما ليس له قسيمٌ حتى يأتيَ بمعنىً ينفردُ به، ولو شاءَ قائِلٌ أن يقول: إنّ قولَ النَّمِريّ في هذا المعنى أحسن، لوجدَ مساغاً، وهو:
ولو كنتُ بالعَنْقاءِ أو بأُسومِها
…
لَخِلتُكَ إلا أن تصُدَّ تَراني
وأما قولُه: كسَيْفِ الصيقل الفرِد، فالطِّرمّاح أحقُّ بهذا المعنى منه، لأنه أخذَه فجوّدَه وزاد عليه، وإنْ كان النابغةُ افترَعَه، قال الطّرمّاح:
يبدو وتُضمِرُهُ البلادُ كأنّه
…
سيفٌ على شرفٍ يُسَلُّ ويُغْمَدُ
فقد جمع في هذا البيت استعارةً لطيفةً بقوله: تُضمِرُهُ، وشبّه شيئين بشيئين، بقولِه: يبدو ويَخْفى، ويُسَلّ ويُغْمَد، وهو طِباقٌ حسَن، وفيه حسْن التفسير وصحّة المُقابلة. قال الأصمعي: فاسْتَبْشرَ الرشيدُ حتى برَقَتْ أساريرُ وجهه، فخِلْتُ برْقاً ومضَ منها، وقال ليحيى: فضَلْتُك وربِّ الكعبة، وامتقع لوْن يحيى فكأنّ المَلَّ ذُرَّ عليه فقال الفضلُ: لا تعجَلْ يا أمير المؤمنين حتى يمُرّ ما قلته بسَمْعِه. فقال: قل، قال الفضل: أحسنُ الناس عندي تشبيهاً طرَفَةُ بقوله:
يشقُّ حَبابَ الماءِ حيْزومُها بها
…
كما قسَم التُّرْبَ المُفايلُ باليدِ
المفايلُ الذي يجمع الترابَ ويقسمه نصفين أو ثلاثاً ويجعلُ فيه خبيئاً، والفَيالُ الاسم بغير همز. فشبّه شَقَّ السفينة الماءَ بصدرِها بشَقِّهم التُّرابَ، وقوله:
لعَمْرُكَ إنّ الموتَ، ما أخطأ الفتى،
…
لكالطِّوَلِ المُرْخَى وثِنْياهُ باليَدِ
وقوله:
ووَجهٍ كأنّ الشمسَ ألقَتْ رداءَها
…
عليه، نقيَّ اللونِ لمْ يتخدّدِ
قال الأصمعي: هذا حسنٌ كلّه وغيرُه أحسن منه، وقد شرِكَهُ في هذه المعاني جماعة من الشعراء. وبعدُ فطرَفَة صاحبُ واحدة، لا يُقْطَع بقوله على البُحور، وإنما يُعَدّ مع أصحاب الواحدة. قال: ومَنْ أصحاب الواحدة؟ قال: الحارث بن حِلِّزة، والأسْعَرُ الجُعَفي، والأفْوَهُ الأوديّ، وعلقمَةُ الفحْل، وسُويد بن أبي كاهِل، وعمرو بن كلثوم، وعمرو بن مَعْديكرِب. قال الأصمعي: فاسْتخَفّتِ الرشيدَ الأريحيّة فقال: ادْنُ، فإنّك جَحيشُ وحدَك، قال: فزاد في عيني نُبْلاً. فقال جعفر متمثِّلاً: لبِّثْ قليلاً يلحَقِ الهَيْجا حمَلْ. يعرِّضُ بأنه يجوز أن يلحَقَ هو ما يحاوله. فقال الرشيد:
فاتَتْك واللهِ السوابِقُ في المَدى
…
وجئْتَ سُكَيتاً ذا زوائد أرْبَعا
قال: ورأيت الحميّةَ في وجهه. فقال جعفر: على شَريطةِ حِلمِك يا أمير المؤمنين، فقال: أتراه يسع غيرَك ويضيقُ عنْك!؟ فقال جعفر: لستُ أنصّ على شاعر واحد أنه أحسن الناس تشبيهاً في بيت واحد، ولكنّ قول امرئ القيس من أحسن التشبيه حيث يقول:
كأنّ غُلامي إذْ عَلا حالَ مَتْنِه
…
على ظَهْر بازٍ في السّماءِ محلِّقِ
وقال عَديُّ بن الرِّقاع:
يتعاوَرانِ من الغُبار مُلاءَةً
…
غبْراءَ مُحْكَمَةً هما نَسَجاها
تُطوى إذا علَوا مكاناً ناشِزاً
…
وإذا السنابكُ أسْهَلَتْ نَشَراها
وقول النابغة:
فإنّك شمسٌ والملوكُ كواكِبٌ
…
إذا طلَعَتْ لم يَبْد منهنّ كوْكَبُ
من هذا المعنى أخذ نُصَيْبٌ قولَه:
هو البدرُ والناسُ الكواكبُ حولَهُ
…
وهل تُشبِهُ البدرَ المُضيءَ الكواكبُ
قال الأصمعي: هذا كلّه ناصعٌ بارع وغيرُه أبرع منه، وإنما يحتاج أن يقع التعيين على ما اخترعه قائلُه فلمْ يتعرّض له، أو تعرّض له شاعرٌ فوقَع دونه.
فأما قول امرئ القيس: على ظهر بازٍ في السماء محلقِ، فمن قول أبي داؤد:
إذا شاءَ راكبُه ضمَّهُ
…
كما ضمّ بازٌ إليه الجَناحا
وأما قول عديّ: يتعاوران من الغبار مُلاءة، فمن قول الخنساء:
جارَى أباهُ فأقْبَلا وهُما
…
يتعاوَران مُلاءَةَ الحُضْرِ
وأول من نطق بهذا المعنى شاعرٌ جاهلي من بني عُقيل، قال من أبيات:
قِفارٌ مَرَوْرات يَحارُ بها القَطا
…
ويُضحي بها الجأبانِ يعتَركانِ
يُثيرانِ من نسجِ العَجاج عليهما
…
قَميصَيْنِ أسْمالاً ويرتديانِ
وأما قول النابغة: فإنّك شمسٌ البيت، فقد تقدّمه فيه شاعر قديم من شعراء كِندة يمدحُ عمرو بن هند وهو أحقّ به من النابغة إذ كان أبا عُذْرَتِه:
تكادُ تميدُ الأرضُ بالناس أن رأَوْا
…
لعمرو بنِ هِنْدٍ غضبةً وهو عاتبُ
هو الشمسُ فاقَتْ يومَ سعْدٍ فأفضلَتْ
…
على ضوءٍ والملوكُ كواكبُ
قال: فكأنني والله ألقَمْتُ جعْفَراً حجراً، واهتزّ الرشيد من فوق سريره أشَراً فكاد يطيرُ عجباً وطرباً وقال: يا أصمعيّ اسمَعْ ما وقع اختياري عليه الآن. فقلت: ليَقُلْ أمير المؤمنين، أحسنَ الله توفيقَه. قال: قد عيّنْتُ على ثلاثة أشعارٍ أُقسم بالله إني أملِكُ قصَبَ السَّبْقِ بأحدِها؛ فهل تعرفُ يا أصمعيُّ تشبيهاً أفخم وأعظم في أحقر مشبَّهٍ وأصغرِه في أحسن مَعْرِضٍ من قول عنترة:
وخَلا الذُّبابُ بها فليس ببارِحٍ
…
غَرِداً كفعلِ الشّاربِ المترَنِّم
غرِداً يسِنُّ ذِراعَهُ بذراعِهِ
…
قَدْحَ المُكبِّ على الزِّنادِ الأجذَمِ
ثم قال: يا أصمعيّ، هذا من التشبيهات العُقم، فقلت: هو كذلك يا أمير المؤمنين، وبمجدِك آليتُ ما سمعتُ أحداً وصف في شعرٍ شيئاً أحسن من هذه الصفة، ولا استطاع بلوغ هذه الغاية. قال: مهْلاً لا تعجَلْ، أتعرِفُ أحسنَ من قولِ الحُطيئة في وصف لُغام ناقتِه أو تعلم أحداً قبلَه أو بعده شبّه تشبيهَهُ حيث يقول:
ترى بين لَحْيَيْها إذا ما تبغّمَتْ
…
لُغاماً كبيتِ العنكبوتِ المُمَدَّدِ
قال: فقلت: ما علِمْتُ أحداً تقدّمه أو أشار الى هذا المعنى بعدَه، قال: أفتعرفُ أبرعَ وأوقَع من تشبيهِ الشَّماخ لنعامةٍ سقط ريشُها وبقي أثرُهُ في قوله:
كأنّما مُنْثَني أقماعِ ما مَرَطَتْ
…
منَ العَفاءِ بِلِيتَيْها الثآليلُ
فقلت: لا والله، فالتفت إلى يحيى وقال: أوَجَبَ؟ قال: وجَبَ. قال: أفأزيدُك؟ قال: وأيُّ خيرٍ لم يزدني منهُ أميرُ المؤمنين؟ قال: قول النابغة الجَعْدي:
رَمى ضِرْعَ نابٍ فاستهلّ بطَعْنَةٍ
…
كحاشيةِ البُرْدِ اليَماني المُسَهَّمِ
ثم التفت الى الفضْل فقال: أوجبَ؟ قال: وجب، فقال: أأزيدُك؟ قال: ذاك الى أمير المؤمنين، قال: قول الأعرابي:
بها ضرْبُ أنْدابِ العَفايا كأنّه
…
ملاعِبُ وِلدانٍ تخُطُّ وتصْمَعُ
ثم التفتَ الى جعفَر فقال: أوجَبَ؟ قال: وجبَ. قال: أفأزيدك؟ فقال: لأمير المؤمنين عُلوّ الرأي، قال: قول عديّ بن الرِّقاع:
تُزْجي أغَنَّ كأنَّ إبرةَ رَوْقِه
…
قلمٌ أصابَ من الدَّواةِ مِدادَها
قال: ثم أطرقَ الرّشيد، ورفعَ طرْفَه وقال: يا أصمعي، أتُراك، تغبُنُني عقلي بانحطاطِك في هواي؟ فقلت: كلا والله يا أمير المؤمنين إنّك لتَجِلُّ عن الحَرْش قال: انظرْ حسناً، قلت: قد نظرتُ، قال: فالسبق لمَنْ؟ قلت: لأمير المؤمنين. قال: قد أسهَمْتُك منه العُشُر، والعُشُر كثير، ثم رمى بطرفِه الى يحيى فقال: المالَ، تهَدُّداً ووعيداً، فما كان إلا كلا ولا، حتى نُضّدت البِدرُ بين يديه فكادَت تحولُ بيني وبينه، ورأيتُ ضوءَ الصبح قد غلبَ ضوءَ الشمعِ، فأشار الى خادمٍ على رأسه فدفعَ إليّ من المال، وهو ثلاثة ألف ألف دِرهَم، ثلاثين بَدْرة، فانصرفتُ بها الى المنزل، ونهض عن مجلسه. فكانت أسعدَ ليلةٍ ابتسمَ بها صباحٌ عن ناجزِ الغنى.
قال بشار: ولما نظمتُ قولي كأنّ مثار النّقْعِ البيت وقد تقدم ذكرُه، عُدتُ أوردتُ المعنى في أقرب لفظٍ فقلت:
من كلِّ مُشتَهِرٍ في كفِّ مُشتهرٍ
…
كأنّ غُرَّتَهُ والسّيفَ نجْمانِ
فشبّهْتُ غُرّةَ الرجل والسيفَ بنجمين. وتبعهُ مسلم بن الوليد فقال:
في جحَلٍ تُشرقُ الأرضُ الفضاءُ به
…
كالليلِ أنجمُهُ القُضْبانُ والأسَلُ
وأخذَه منصور النَّمِريّ فقال:
ليلٌ من النّقْعِ لا شمسٌ ولا قمرٌ
…
إلا جَبينُك والمَذْروبةُ الشُّرعُ
ولرجلٍ من بني أسد يقول:
حلَقَ الحوادثُ لمّتي فترَكْنَني
…
رأساً يصِلُّ كأنّهُ جُمّاحُ
وزَكا بأصداغي وقَرْنِ ذُؤابَتي
…
قبَسُ المَسيبِ كما زكا المِصباحُ
جُمّاح: وجمعه جَماميح، وهو سهمٌ صفر لا زُجَّ له، يُجعلُ في رأسه طين كالكتلة يلعبُ بهاالصبيان. وقريب من هذا التشبيه قول الآخر وله حكاية:
ورُحْتُ برأسٍ كالصُخَيْرةِ أشرفَتْ
…
عليها عُقابٌ ثمّ طارَ عُقابُها
وراح بها ثوْرٌ ترِفُّ كأنّها
…
سلاسِلُ برقٍ وبْلُها وانسكابُها
وأنشد أبو زيد:
كأنّ مُلْقى زِمامٍ عندَ ركبتها
…
على الجَدالةِ أيْنٌ غيرُ مُنسابِ
وقال أبو دؤاد الإيادي:
تنازعُ مَثْنى حضْرَميٍّ كأنّهُ
…
حُبابُ نقاً يتلوهُ مُرتَجِلٌ يرمي
وقال النابغة الذُبياني:
مَقذوفةٌ بدخيسِ النّحضِ بازِلُها
…
له صريفٌ، صَريفَ القَعْوِ بالمَسَدِ
هذا يسمّونه أهلُ البديع التشبيهَ المُعرّى، فإذا شبّهوا ما لهُ حركة وجرسٌ نَصَبوا كما قالوا: صريفٌ صريفَ، نصباً، وإذا لم يكن كذلك رفَعوا كما يقول القائلُ: له رأسٌ رأسُ الأسدِ، رفعاً.
ومنه تشبيهٌ بالفِعْلِ وهو قولُهم: هو يفعَلُ فِعْلَ الكرامِ، ويحْلَمُ حِلمَ الأحنف. والمعنى: يفعَلُ فِعْلاً كفعلِ الكرامِ، ويحْلُم حِلْماً كحِلْمِ الأحْنَفِ. ومنه قوله تعالى:(وترى الجِبالَ تحسَبُها جامدةً وهي تمرُّ مرّ السّحابِ) . وقال عنترة في تشبيه الألوية:
كتائبُ تُزْجى، فوقَ كلِّ كَتيةٍ
…
لواءٌ كظِلِّ الطّائِرِ المتصرِّفِ
وله في تشبيه القتلى:
كأنّهم بجَنْبِ الشِّعْبِ صرْعَى
…
تساقَوْا بينهم كأسَ المُدامِ
وله في تشبيه الدّمعِ:
أفَمِنْ بُكاءِ حمامةٍ في أيْكةٍ
…
فاضَتْ دُموعُك فوقَ ظهْرِ المحْملِ
كالدُرِّ أو نظْمِ الجُمانِ تقطّعَتْ
…
منهُ مَعاقِدُ سِلْكِه لم يوصَلِ
وقال أبو نَضْلَة يموتُ بن المُزَرِّع:
والبدرُ يجنحُ للغروبِ كأنّما
…
قد سَلّ فوقَ الماءِ سيفاً مُذهَبَا
وله:
لم أنْسَ دِجلةَ والدُجى مُتصرِّمٌ
…
والبدرُ في أفقِ السماءِ مغَرِّبُ
فكأنّها فيهِ رِداءٌ أزرقٌ
…
وكأنه فيه طِرازٌ مُذْهَبُ
قال أبو محَلِّم يصفُ الشمسَ:
مُخبَأَةٌ أمّا إذا الليل جنّها
…
فتَخْفى وأمّا بالنهارِ فتَظْهَرُ
وقال الكندي يصف الثُريّا:
إذا ما الثُريّا في السّماءِ تعرّضتْ
…
تعَرُّضَ أثناءِ الوِشاحِ المُفَضَّلِ
وقال ذو الرّمّة:
ورَدْتُ اعتِسافاً والثُريّا كأنّها
…
على قمّة الرأسِ ابنُ ماءٍ محَلِّقُ
وقال قيسُ بنُ الأسْلَت، وأجاد:
وقد لاحَ في الصُبحِ الثُريّا لمنْ رأى
…
كعُنْقودِ مُلاّحيّةٍ حينَ نوّرا
وقال يزيد ابن الطّثْريّة:
إذا ما الثُريّا في السماءِ كأنّها
…
جُمانٌ وهَى من سِلْكهِ فتبدّدا
وقال بعضهم:
فاغتنمْ شُربَها فقد فضحَ الليْ
…
لَ هلالٌ كأنّه فِتْرُ زَنْدِ
والثُريّا خفّاقَةٌ في رِواق ال
…
غربِ تهْوي كأنّها رأسُ فهدِ
وقال الحِمْيَريّ في قتْلى عليّ عليه السلام:
ترى الطّيرَ مثلَ النِّسا حولَهُ
…
غدَوْنَ الى مُدنَفٍ عُوَّدا
وقال أعرابي في تشبيه الدُروع:
عليها كالنِّهاءِ مُضاعَفاتٍ
…
من الماذيِّ لم تَؤُدِ المُتونا
وقال أبو دؤاد الإيادي:
وأعدَدْتُ للحَرْبِ فَضْفاضةً
…
تضاءلُ في الطّيِّ، كالمِبْرَدِ
وقال كعبُ بن سعدٍ الغَنَوي:
وقومٍ يجُرّونَ الثيابَ كأنّهم
…
نَشاوَى وقد نبّهْتَهم لرَحيلِ
يصفُهم بالنُعاس. وقال زهير في تشبيهِ آثارِالديارِ بالنقوش في الأكفِ والمعاصم:
ودرٌ لها بالرَّقْمَتَيْنِ كأنّها
…
مراجِعُ وشْمٍ في نَواشِرِ مِعْصَمِ
وقال عنترة في تشبيه حَنَكِ الغُراب:
خرِقُ الجَناحِ كأنّ لَحْيَيْ رأسِهِ
…
جلَمانِ بالأخْبارِ هشٌ مولَعُ
وقال الراعي يصفُ قانصاً جَعْدَ شعرِ الرأس:
فكأنّ ذروةَ رأسِهِ من شعرِه
…
زُرِعَتْ فأنبتَ جانباها الفُلْفُلا
وقال ذو الرُّمّة:
وليلٍ كجِلْبابِ العروسِ ادّرَعْتُهُ
…
بأربعةٍ والشّخْصُ في العين واحدُ
قال مضرِّس بن رِبْعي يصفُ نعامة:
صَعراءُ عاريةُ الأخادِعِ رأسُها
…
مثلُ المِدَقِّ وأنفُها كالمِسْرَدِ
وقال النابغة يصفُ النسورَ:
تَراهُنّ خلْفَ القومِ زُوراً عيونُها
…
جُلوسَ الشّيوخِ في مُسوكِ الأرانِبِ
وقالت أختُ عمرو ذي الكلْب وأحسنتْ:
تمشي النسورُ إليه وهيَ لاهيةٌ
…
مشْيَ العَذارَى عليهنّ الجَلابيبُ
وقال ذو الرّمّة في تشبيه الرّملِ بأوراكِ العَذارَى:
ورمْلٍ كأوراكِ العَذارى قطَعْتُه
…
إذا لبسَتْهُ المظلِماتُ الحَنادِسُ
ولقد أبدعَ السّيِّدُ الحِميريّ وأحسنَ في وصفِ أمير المؤمنين علي بن أبي طالبٍ رضي الله عنه، وتشبيهه بريح عادٍ ولم يُسْبَقْ الى ذلك:
لكِنْ أبو حسَنٍ، واللهُ أيّدَهُ
…
قد كان عندَ اللِقا للطّعْنِ مُعتادا
إذا رأى معْشَراً حرباً أنامَهُمُ
…
إنامَةَ الرِّيحِ في أبياتها عادا
وقال الكِنْدي:
جمعْتُ رُدَيْنيّاً كأنّ سِنانَه
…
سَنا لهَبٍ لم يتّصِلْ بدُخانِ
وأنشد الحامض:
كأنّ ما يسقطُ من لُغامِها
…
بيْتُ عَكْنَباتٍ على زِمامِها
هذا كبيت الحطيئة وقد تقدّم ذكرُه، والمعنى أنه شبّه اللُّغام ببيتِ العنكبوت لاجتماعِهما في النحافة، وبُعدِهما عن الكثافة. يُقال: عَنْكَبوتٌ وعَكَنْباةٌ كما قالوا: عقابٌ وعقنباة ويقال: عنكباء، وفي هذا تعليلٌ يطول شرحُه وليس هذا موضِعُه. وقال معقِّرُ البارقي في تشبيهه الجيوش:
وقد جمَعا جمْعاً كأنّ زُهاءَهُ
…
جَرادٌ سَفا في هَبْوَةٍ مُتطايرُ
وقال أيضاً: