المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تقريظ فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله الجبرين - نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم - المقدمة

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌[موسوعة نظرة النعيم]

- ‌الإشراف العام

- ‌لجنة الإعداد:

- ‌لجنة المراجعة والضبط:

- ‌لجنة اللغة والتدقيق والفهرسة:

- ‌إعداد السيرة النبوية:

- ‌إعداد المقدمة التربوية:

- ‌الإدارة والمتابعة:

- ‌برامج الحاسب الآلي:

- ‌الجمع والتنضيد

- ‌[من شارك في إعداد هذه الموسوعة]

- ‌[محتويات المقدمة]

- ‌[محتويات الموسوعة]

- ‌مقدمة الطبعة الثالثة

- ‌[تقديم الناشر]

- ‌الحاجة لهذه الموسوعة:

- ‌أهداف الموسوعة وتحديات المستقبل:

- ‌اقتراحات وتوصيات:

- ‌الثمرات المرجوة:

- ‌روح الأمل والمستقبل:

- ‌نصر الله وعد الحق:

- ‌شكر وتقدير:

- ‌تقريظ لمعالي الدكتور: عبد الله بن عبد المحسن التركي

- ‌تقريظ فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله الجبرين

- ‌تقديم فضيلة الشيخ الدكتور/ صالح بن عبد الله بن حميد

- ‌الغاية والهدف:

- ‌أصول البناء في هذه الموسوعة علما ومنهجا:

- ‌الخاتمة

- ‌ثراء في الإيمان…وثروة في لغة القرآن

- ‌مقدمة اللجنة اللغوية

- ‌فصاحة الرسول صلى الله عليه وسلم:

- ‌الحياة والنفس الإنسانية بقلم: عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن ملّوح

- ‌تمهيد:

- ‌تكليف الإنسان وابتلاؤه:

- ‌العلاقة بين الإنسان والحياة:

- ‌بين الابتلاء وحسن الخلق:

- ‌الأخلاق الكريمة والعبادة:

- ‌الإيمان ومكارم الأخلاق:

- ‌العبادة ونور الفطرة:

- ‌ إغواء الشيطان

- ‌إرسال الرسل:

- ‌ الصراط المستقيم

- ‌الابتلاء والصراط المستقيم

- ‌النفس الإنسانية

- ‌النفس لغة:

- ‌النفس اصطلاحا:

- ‌قوى النفس الناطقة:

- ‌أقسام النفس الإنسانية:

- ‌صفات النفس الإنسانية:

- ‌أولا: النفس المطمئنة (حقيقة الطمأنينة وعلامتها) :

- ‌النفس المطمئنة وفرح القلب:

- ‌كمال القلب ونعيمه وسروره (بالطمأنينة) :

- ‌سجود القلب:

- ‌اليقظة أول مفاتيح الخير وهي (منشأ الطمأنينة) :

- ‌اليقظة أول منازل النفس المطمئنة:

- ‌ثانيا: النفس اللوامة:

- ‌ثالثا: النفس الأمارة:

- ‌قرين النفس المطمئنة:

- ‌قرين النفس الأمارة:

- ‌مقتضيات النفس المطمئنة والنفس الأمارة:

- ‌صراع النفس الأمارة مع النفس المطمئنة:

- ‌خصائص وعجائب النفس الأمارة:

- ‌فضيلة الاستعاذة من شر النفس الأمارة وقرينها:

- ‌اعرف نفسك:

- ‌النفس ومراحل الحياة الإنسانية:

- ‌علاقة النفس الإنسانية بالكون:

- ‌النفس الإنسانية ودورها في المجال الأخلاقي:

- ‌الدور الأخلاقي للنفس المطمئنة:

- ‌الدور الأخلاقي للنفس الأمّارة:

- ‌الدور الأخلاقي للنفس اللوامة:

- ‌الابتلاء والقيم الخلقية:

الفصل: ‌تقريظ فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله الجبرين

‌تقريظ فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله الجبرين

عضو هيئة الإفتاء- الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء الحمد لله الذي أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة ورضي لنا الإسلام دينا وأرسل الرسل إلى الخلق مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، أحمده سبحانه وأشكره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في إلهيته وأفعاله وأسمائه وصفاته، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي هدى الله به الأمة من الضلال وأرشدهم به من الغواية وأخرجهم به من الظلمات إلى النور، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته ومن سار على نهجه واتبع هداه وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد

فإن ربنا جل وعلا لما أوجد هذا الكون بما فيه من عجائب المخلوقات كان من بين من خلقه نوع الإنسان الذي ميزه بالعقل والإدراك وفضله على كثير من خلقه كما قال تعالى وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا «1» وكان من آثار هذا التكريم والتفضيل أن خصهم بالتكليف فأمرهم بعبادته وطاعته ونهاهم عن معصيته ومخالفته، وأرسل إليهم الرسل وأنزل الكتب لبيان شرائعه التي كلف بها عباده وشرح لهم دينه الذي فرض عليهم اعتناقه، وختم أولئك الرسل بنبينا محمد بن عبد الله الهاشمي النبي الأمي صلى الله عليه وسلم وجعل شريعته خاتمة الشرائع، وكان من لوازم ختم النبوة به أن عمم رسالته إلى الأحمر والأسود والعربي والعجمي والجن والإنس والقاصي والداني ومن آثار ذلك أن جعل دينه صالحا ومناسبا في كل زمان ومكان، وقد ضمن الله تعالى لهذه الشريعة الظهور، ولأهلها التمكين والنصر والغلبة بجميع أنواعها قال الله تعالى وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً «2» ولقد صدق الله وعده- وهو لا يخلف الميعاد- فأظهر المؤمنين الصادقين في صدر هذه الأمة ونصرهم على أعدائهم، ومكن لهم في البلاد حتى انتشر هذا الدين وظهر وغلب على سائر الأديان، ونصر الله أهله وقواهم به قال تعالى وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ «3» وقال تعالى إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ

«4» فجند الله هم أهل شريعته ودينه. ولهم الغلبة بالسيف والسنان، وبالحجة واللسان، وذلك أن ربهم معهم يؤيدهم ويقويهم إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ «5» ثم إنه تعالى تضمن لأهل هذه الشريعة الحياة السعيدة الطيبة والراحة والطمأنينة وسرور القلب ونعيمه في هذه الحياة الدنيا قبل الآخرة، فقال تعالى مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ «6» والواقع أكبر دليل

(1) سورة الإسراء: آية 70.

(2)

سورة النور: آية 55.

(3)

سورة المنافقون: آية 8.

(4)

سورة الصافات: آية 173.

(5)

سورة آل عمران: آية 160.

(6)

سورة النحل: آية 97.

ص: 42

وشاهد على تحقق ذلك، فإن أهل الإسلام كلما سلمت عقائدهم وصلحت أعمالهم وأحوالهم وابتعدوا عن الكفر والشرك والمعاصي وتبرءوا من الكفار وأعمالهم وأخلصوا دينهم لله تعالى فإنهم يحيون في هذه الدنيا في أعظم الراحة والسرور ويغتبطون بدينهم ويقتنعون بما رزقهم الله، وتطمئن قلوبهم بذكر الله، ويرضون ويسلمون لقضائه وقدره، ذلك أن هذه الشريعة الإسلامية فيها الهدى والرشاد ودين الحق الذي تضمنته رسالة هذا النبي الكريم قال الله تعالى هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ* «1» والهدى هو البيان والدلالة والإرشاد بمعنى أن من اتبعه كان مهتديا سائرا على النهج القويم والصراط المستقيم الذي لا يزيغ من سلكه على حد قوله تعالى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى «2» وذلك يدل بوضوح أنه مشتمل على كل ما تمس إليه حاجة البشر مما يتعلق بعباداتهم وقرباتهم وبمعاملاتهم وشئون حياتهم، وذلك من وصف هذه الرسالة بالهدى ودين الحق فإن الحق ضد الباطل، وهذا وصف مطابق للواقع لأن كل ما جاء به هذا الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام حق وصدق بعيد كل البعد عن اللهو والباطل والفساد بل مشتمل على كل قول يدحض أي باطل ويدمغه كما في قول الله تعالى بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ «3» فلا بد أن هذا الدين الحق قد اشتمل على كل خير ودل الأمة على ما هو الأصلح لهم في معاشهم ومعادهم وأوضح لهم المنهاج القويم الذي يؤدي بمن سلكه إلى النجاة في الدنيا والآخرة.

وقد وصف الله كتابه المنزل على هذا النبي الكريم بأنه هدى وشفاء قال الله تعالى وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ «4» وهذه الأوصاف الشريفة الرفيعة تقتضي أنه مشتمل على كل خير وأن الشريعة التي اشتمل على بيانها واضحة المنهاج كاملة في أهدافها ومقاصدها وحاجاتها، كما تقتضي من كل المخاطبين اعتناقه وتقبل كل تعاليمه والسير على نهجه وشدة التمسك به رغم ما قد يحصل من عوائق أو ضيق حال أو أذى أو تعذيب في سبيل هذه الشريعة الغراء وذلك ما عمل به الرعيل الأول وصدر هذه الأمة حتى ظفروا بالمطلوب وحصلوا على خيري الدنيا والآخرة.

(1) سورة الصف: آية 9.

(2)

سورة طه: آية 123.

(3)

سورة الأنبياء: آية 18.

(4)

سورة الإسراء: آية 82.

ص: 43

لقد بين الله تعالى في هذا القرآن أصول الدين وأشار إلى مسائله وقال في حقه وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ «1» فعموم قوله تعالى تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ يصدق على أصول الأحكام وأسس العقائد وقواعد الدين وهذا هو السر في وصف الدين بالكمال قال الله تعالى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً «2» وهذه الآية نزلت في حجة الوداع في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم فقد تضمنت أن هذا الدين قد كمله الله وأتمه وأكمل الشرائع والأدلة وسائر الأحكام فقد بين الله في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ما يلزم العباد من الطاعات والقربات التي هي حقوق الله عليهم فبين لهم أولا أنه ربهم ومالكهم، ولفت أنظارهم إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من الآيات وعجائب المخلوقات التي فطر الله جميع الخلق على الاعتراف بأنها صنعه وإبداعه كقوله عز وجل أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً «3» . وقوله أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها «4» الآيات

إلخ وقوله: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ «5» ونحو ذلك، ثم بين لهم حيث أقروا بأن ما في الكون كله لله، فهو الخالق المنفرد بإيجاد المخلوقات أنه وحده

(1) سورة النحل: آية 89.

(2)

سورة المائدة: آية 3.

(3)

سورة المرسلات: آية 25.

(4)

سورة النازعات: آية 27.

(5)

ق: آية 6.

ص: 44

المستحق لأن يفرد بالعبادة، فلا يجعل له شريك في الدعاء أو الرجاء أو التوكل أو الخضوع والركوع والسجود أو غيرها من أنواع العبادة، بل على الخلق أن يخصوه بكل أنواع التذلل والإخبات، وأن ينيبوا إليه ويعظموه حق التعظيم، لأنه ربهم وهم ملكه وعبيده وهو المنعم عليهم المتفضل عليهم بجزيل الإنعام، فمتى صدوا عنه وأعرضوا عن عبادته فقد كفروا بربهم وبدلوا نعمة الله كفرا وصرفوا لغيره خالص حقه، لذلك دعا الله العباد إلى عبادته وحده لا شريك له، وكرر الأمر بذلك وأبدى وأعاد في ذلك وضرب لهم الأمثلة، وبكّت أولئك المشركين وبين حال ما عبدوه من دون الله وأنها مخلوقة مثلهم ولا تملك لأنفسها شيئا فضلا عن عابديها كما وصف نفسه عز وجل بصفات الكمال ونعوت الجلال التي تتضمن إحاطته بالمخلوقات، وعلمه بالأول والآخر وسمعه وبصره المحيط بالقاصي والداني، وكل وصف يقتضي عظمته وكبرياءه وقر به من العباد، ووصف نفسه بالأولية والبقاء والدوام والفضل والإنعام ونحو ذلك مما يستلزم خضوع العباد له، وإنابتهم إليه وإخلاص الدين له، ولما كانت العبادة مجملة لا دخل للعقل في معرفة مفرداتها وأمثلتها تضمن شرع الله ورسالة رسوله بيانها وإيضاح أنواعها فبين لهم العبادات البدنية كالصلاة والصوم والحج والجهاد والاعتكاف في المساجد ونحوها وشرح لهم جميع متعلقاتها وأركانها وشروطها وصفاتها التي تكون بها مجزئة تبرأ بها الذمة وتسلم من العهدة، كما بين لهم النوافل منها، ورغبهم في الإكثار من القربات التي يترتب عليها جزيل الثواب، وهكذا حثهم على العبادات القولية؛ فأمرهم بذكره ودعائه تضرعا وخفية، وبتلاوة كتابه، وبالدعوة إلى دينه، كما أمر بأداء العبادات المالية، فأخبرهم بما يجب عليهم في أموالهم من زكاة ونذر وصدقة ونفقة، وبما لهم من الثواب إذا تبرعوا له بشيء من أموالهم فأنفقوه في سبيله، وهكذا أوضح لهم سائر القربات التي هي حقه على العباد، وبها يتحقق وصفهم بالعبودية له وحده. ولم يقتصر على هذا القدر من البيان بل تطرق إلى أمورهم المالية الأخرى، وأوضح لهم وجوه المكاسب ومداخل الأموال، وما يحل منها وما لا يحل وحرم عليهم الكثير من المعاملات التي تحتوى على ضرر بالغير، من مكر ورشوة وربا وغش وسرقة ونهب وغصب إلخ

وأباح لهم سائر المكاسب التي لا شبهة في حلها وهكذا تطرق إلى بقية الأحكام المالية فأوضح ما يحل منها وما لا يحل ولم يقف البيان الشرعي عند هذا الحد، بل بين الله في رسالة رسوله صلى الله عليه وسلم أحكام العقود التي لها صلة بالغير من المسلمين أو غيرهم كعقد الذمة والأمان والصلح والمعاهدات. وعقد النكاح وملك اليمين وما يتصل بذلك للحاجة الضرورية في هذه الحياة إلى أمثال ذلك، وهكذا أيضا شرع الحدود والعقوبات البدنية والمالية لما لها من الآثار الملموسة في استتباب الأمن واستقرار الحياة، فلما كان من طبع الإنسان- إلا من عصم الله- الميل إلى الشهوات والملذات ولو محرمة أو إلى الأشر والبطر أو إلى الظلم والاعتداء أو إلى السلب والنهب والسرقة والاختلاس ونحو ذلك فلو ترك هؤلاء وميولهم لاختل الأمن وعدمت الطمأنينة في الحياة وانتشرت الفوضى، وأصبح الضعيف نهبة للقوي، وسيطر الظلمة الطغاة على البلاد والعباد، وأعلنوا كفرهم وبغيهم وفجورهم، بدون خوف أو مبالاة، فكان من حكمة الرب جل وعلا أن شرع من الزواجر والعقوبات ما يقمع أهل الشرور والمعاصي، فمن ارتد عن دينه وكفر بعد إسلامه لم يقر على ذلك بل حده القتل بكل حال إن لم يتب عن ردته، ومن تعاطى السحر أو الشعوذة أو عمل الكهانة ونحو ذلك شرع قتله قبل أن يستشري فساده في البلاد مما ينافي حكمة الرب تعالى، ومن بغى على إمام المسلمين وخرج عن طاعته وفارق جماعة المسلمين لزم قتاله بعد الدعوة

ص: 45

والمراجعة وبيان أنه إن مات كذلك مات ميتة جاهلية، كما أمر عز وجل بالصلح بين الطائفتين المقتتلتين وقتال الباغية منهما حتى تفيء إلى أمر الله، وأخبر أنهم مع هذا التقاتل لم يخرجوا عن الأخوة الإيمانية، وهكذا كتب القصاص كما في قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى «1» كما كتبه على أهل التوراة في النفس فما دونها، قال تعالى وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ «2» وبين الحكمة والمصلحة في شرعية ذلك كما في قوله تعالى وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ «3» فأخبر أن في شرعية القصاص حفظ النفوس حيث إن القاتل متى تذكر أنه سيقتل أحجم وارتدع عن القتل فتقل هذه الجريمة ويحصل الأمن على الحياة، وهذا هو السر أيضا في شرعية الجزاء الرادع للمحاربين لله ورسوله الذين يسعون في الأرض فسادا وهم الذين يقطعون الطريق ويعترضون سابلة المسلمين في الأسفار لأخذ الأموال أو هتك الأعراض ونيل الشهوات المحظورة شرعا قال الله تعالى إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ «4» وكل ذلك للحفاظ على أرواح الأبرياء والإبقاء على نفوسهم ليهنئوا بالعيش وتقر أعينهم في هذه الحياة ويبعد عنهم كل ما يكدر صفو عيشهم وأمنهم واستقرارهم، فمن ثم يتفرغون للعلم والعمل والتفقه فيما يلزمهم لربهم من الحقوق والعبادات وليقوموا بالواجبات فيما بينهم. وهكذا أيضا تضمنت الشريعة الإسلامية الزجر الشديد عن جرائم الذنوب وكبائر الفواحش كالزنا وشرب الخمر وقذف الأبرياء المحصنين وسرقة الأموال ونحو ذلك فإن جريمة الزنا فاحشة كبرى وفعلة شنعاء تستبشعها النفوس الأبية، وتنفر منها الطباع السليمة الرفيعة، لما فيها من انتهاك الحرمات، وإفساد الفرش واختلاط الأنساب وتفكك الأسر ويسبب ميل الزوجة عن زوجها إلى الأخدان الخائنين في السر، والتقصير في حق الزوج وفي إصلاح بيتها وتربية أطفالها ورعايتها لمن استرعاها الله من أهل بيتها ونحو ذلك من الفساد، ومثل ذلك وأعظم يقع في حق الزوج متى وقع في تعاطي هذه الفاحشة النكراء، فلا جرم أن كانت عقوبة الزنا في هذه الشريعة أعظم من غيرها حيث شرع رجم الزاني أو الزانية مع الإحصان بالحجارة حتى الموت ليتم الزجر والقمع لتلك النفوس المريضة بالشهوة البهيمية، وخص المحصن بالرجم حيث إنه قد كفر النعمة وعدل عن الحلال وتعاطى الحرام برغم ما فيه من إفساد فرش الناس وتعريض زوجته للعهر والميل إلى فعل هذه الفاحشة مع غيره ونحو ذلك من المفاسد بخلاف غير المحصن فإن عقوبته الجلد والتغريب وهي دون الرجم بالحجارة لخفة ذنبه بالنسبة للمحصن لقوة الغلمة والشهوة التي قد تغلبه فيضعف إيمانه وتصديقه بالوعيد عن قمعها فتعرض نفسه الأمارة بالسوء فيقع في هذه الجريمة، وهكذا أيضا عاقب الذين يرمون المحصنات عقوبة شديدة في الدنيا والآخرة فقال عز وجل وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً

(1) سورة البقرة: آية 178.

(2)

سورة المائدة: آية 45.

(3)

سورة البقرة: آية 179.

(4)

سورة المائدة: آية 33.

ص: 46

وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ «1» وهذه عقوبات عاجلة وقال تعالى عن عقوبتهم الآجلة إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ «2» الآيات، ذلك أن مقترفي هذا الفعل والذنب الكبير يقدحون في الأنساب وينتهكون الأعراض البريئة، وينشرون لأولئك الأبرياء سمعة سيئة تقشعر منها الجلود، وتنكس منها الرءوس حياء وخجلا مع بعدهم عن تلك الجرائم المزعومة ونزاهتهم عن اقترافها فكانت عقوبة من قذفهم بها الجلد ورد الشهادة، والحكم عليهم بالفسق الذي هو الخروج عن العدالة والطاعة مع استحقاقهم للعن وهو الطرد، والإبعاد عن رحمة الله، وللعذاب العظيم في الدار الآخرة، ونحو ذلك مما يكون زاجرا لهم عن الكذب والافتراء على المؤمنين والاستهتار والهتك للأعراض فيأمن الناس ويطمئنون في حياتهم وتتم بينهم المودة والإخاء وتزول العداوة والشحناء، مما يكون سببا للتقاطع والتدابر والتهاجر الذي جاء الشرع بالنهي عنه وتحريمه، لما يترتب عليه من المفاسد العظيمة من اختلال الأمن، ووقوع الفتن، وتسلط الأعداء ونحو ذلك، وكما شرع تعالى عقوبة وحدّا مانعا لمن تعاطى شرب المسكرات بعد أن أوضح تحريم الخمر وما فيها من المفاسد فقرنها بالأنصاب وهي الأصنام وأخبر بأنها رجس أي نجس وقذر حسّي أو معنوي وأنها من عمل الشيطان فهو الذي يزينها ويدعو إلى الوقوع فيها ويوقع بسببها بين المسلمين العداوة والبغضاء ويصدهم بتعاطيها عن ذكر الله وعن الصلاة رغم ما فيها من إزالة العقل الذي هو ميزة الإنسان وفضيلته، فبزواله يكون دون البهائم والسفهاء، ويتصرف تصرف المجانين والمعتوهين، فيهلك الحرث والنسل ويضر بالأنفس والأموال والأهل والأولاد، وما إلى ذلك من المفاسد الكبرى التي تنتج عن تعاطي المسكرات والمخدرات، ولا يقتصر ضررها على الجاني وحده؛ بل يلحق بالمجتمع أجمع إلا ما شاء الله، فلا جرم أن جرّمه، جاء في السّنة جلد شارب الخمر بما يزجره كأربعين جلدة أو ثمانين إن لم ينزجر بالأربعين، بل ثبت في السنة الأمر بقتله إذا أدمن ذلك ولم ينزجر بتكرار الجلد؛ ففي هذه العقوبات والوعيد الشديد عليها ما يكفي في الكفّ عنها وما يحفظ للعقول سلامتها ويبقي بذلك على سلامة التفكير؛ ويكفل للأمة أمنها ورخاءها وسلامتها من الأضرار والشرور الوخيمة والإبقاء على عقول البشر لتصرف تفكيرها فيما يعود عليها وعلى غيرها بكامل الخير والمصلحة وذلك أكبر مثال على كمال هذه الشريعة وتضمنها لمصالح العباد، وهكذا أيضا شرع عقوبة السارق بقوله تعالى وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ «3» ذلك أن السارق يهتك الأستار والحروز ويكسر الأقفال ويتسلق الحيطان، ويصعب التحصن والتحرز من شره وضرره، فكانت عقوبته قطع يده، تلك اليد الآثمة المتعدية الظالمة حيث إن جنايته تتوقف على العمل باليد غالبا فكان بقاء هذا العضو المعتدي مما ينشر الوباء ويخل بالأمن والاطمئنان على الأموال المحترمة التي لها وقع في النفوس فأخذها عدوانا وظلما مما يوقع الخوف والقلق في القلوب؛ فشرع إزالة هذا العضو الذي ينشر الوباء والمرض العضال بين الناس، وكما اشتمل الشرع على هذه العقوبات والزواجر التي يحصل بتطبيقها كمال الأمن ورخاء العيش، فقد شرع عقوبات أخرى غير مقدرة بعدد أو نوع تسمى تعزيرا وتأديبا يعاقب بها من اقترف ذنبا أو ارتكب كبيرة لا حد فيها، مما يتعلق بالأديان أو الأبدان أو الأموال، وتتفاوت تلك العقوبات بتفاوت الجرائم والمجرمين، وكل هذه العقوبات- مقدرة أو غير مقدرة- تتضح فيها حكمة

(1) سورة النور: آية 4.

(2)

سورة النور: آية 23.

(3)

سورة المائدة: آية 38.

ص: 47

الشرع الشريف ويتضح لكل ذي قلب سليم أنه دين سماوي جاء بتحصيل المصالح وتكميلها وإلغاء المفاسد وتقليلها. كما أنه أيضا تعرض لشرح الآداب والأخلاق الرفيعة وحثّ على الاتصاف بالسمات الشريفة التى فطرت القلوب على استحسانها وحب من تخلق بها والنفور من أضدادها ومقت أهلها وبغضهم والبعد عنهم، فإن الله تعالى فطر الخلق على استحسان السمات الطيبة التي وجدت أو بعضها قبل الإسلام كأغلب خصال الفطرة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة وانتقاص الماء

إلخ» «1» وفي الباب أحاديث كثيرة بهذا المعنى وهذه الخصال يستسيغها العقل السليم ويشهد بملاءمتها له لذلك يحافظ العقلاء على تطبيقها، وإنما يخالفها من انتكست فطرته فاستقبح الحسن واستلذ القبيح فلا عبرة بهذا الضرب من الناس ولو كثروا أو زعموا المعرفة والإدراك، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور، وبالجملة فإن احتواء الشريعة الإسلامية على هذه الخصال يفيد كمالها وانتظامها لكل ما يستحسن عقلا وشرعا ولكل ما تتوقف عليه الحياة الطيبة في هذه الدار، كما أن الشريعة لم تتوقف على تبيين العبادات والقربات كما قد يظن ذلك الكثير من الناس؛ بل تعرضت لإيضاح الأمور العادية وأوضحت الصفة الكاملة لاستعمالها، ففي باب الأكل تعرض الشرع لبيان الهيئة المحمودة في ذلك؛ فنهي عن الاتكاء حال الأكل كفعل من يريد الامتلاء من الطعام، وشرع الأكل باليمين تفاؤلا باليمن والبركة، وبالغ في النهي عن الأكل بالشمال تشبها بالشيطان وأعوانه، كما جاء بالأكل بثلاثة أصابع إلا لضرورة. فإن الأكل باليد كلها قد يوجب ترادف الطعام على مجراه فربما أفسده وسبب الموت فجأة، وذلك من باب رعاية نعم الله وإحسان جوارها، وهكذا شرع أن يأكل كل فرد مما يليه ونهى عن الأكل من وسط الصحفة، وعلل ذلك بأن البركة تنزل وسط الطعام، كما أمر بالاجتماع على الطعام وذكر اسم الله عليه وحمده بعد الشبع، ونحو ذلك مما فيه تذكير بعظيم منة الله في تيسيره لأسباب ذلك، ومما يسبب مع الصدق حلول البركة فيه حالا ومآلا، وهكذا جاء بآداب الشّرب المتضمنة لجمّ فوائده والمستحسنة عقلا وشرعا، فنهى عن التنفس في الشراب والنفخ في الطعام كراهة أن يصحبه شيء من الريق فيقذره على غيره، وأمر بالتنفس ثلاثا خارج الإناء، وبمص الشرب دون العب بقوة، وعلل ذلك بأنه أهنأ وأبرأ وتعرض للأواني التي لا يباح استعمالها في الأكل والشرب كآنية الذهب والفضة وتوعد متعاطيها أشد الوعيد لما فيها من الفخر والخيلاء والإسراف وكسر قلوب الفقراء، وهكذا شرع للأمة آداب التخلي «2» وإن كانت مما يحتشم من ذكره، ومن الأشياء التي تلزم الإنسان بحكم العادة ولكن لها آداب وأحكام تدخل بها في عموم الشريعة الإسلامية، وكذا آداب اللبس والخلع فجاء باستحباب لبس البياض من الثياب وأباح غيرها إلا ما استثنى، وأحب لباس القمص ولبس غيره من الأزر والأردية والسراويلات ونحوها، ونهى عن الخيلاء والإسبال في الثياب وبالغ في الوعيد على أهل الخيلاء والترفع على الناس، وأحب أن يرى الله آثار نعمته على عبده في اللباس ونحوه، ونهى عن المشي في نعل واحدة، وحث على التيامن في لباس الثوب والنعل ونحو ذلك وحرم أنواعا من اللباس كالحرير لما فيها من الإسراف والتبذير، وتعجل الطيبات في الدنيا،

(1) أخرجه مسلم ربك (261) في الطهارة: باب خصال الفطرة عن عائشة رضي الله عنها.

(2)

أي الآداب المتعلقة بقضاء الحاجة من التبول ونحوه.

ص: 48

وكذلك تدخل الشرع في آداب النوم والجلوس والمشي والسفر وفصل أحكام ذلك وأدخل الجميع في جملة الشريعة الإسلامية. هذا وإن مما يدل على كمال هذه الشريعة اشتمالها على الحث والترغيب في الأخلاق الشريفة والآداب الرفيعة وتنفيره عن أضدادها. فقد رغب في الصدق مع الله ومع عباده فهو السمة العالية التي يحبها كل عاقل من مسلم وكافر ويثق الجمهور بأهل الصدق ويحسنون معاملتهم ومعاشرتهم، كما جاء بالزجر عن الكذب وجعله من سمات أهل النفاق الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم. وهكذا أمر بالصبر على أداء العبادات وإن ثقلت على بعض النفوس، وأفاد أن الأجر على قدر النّصب، ونهى عن إعطاء النفس ما تميل إليه بمجرد طبعها من الإخلاد إلى الراحة والكسل، وحثّ على قمع النفوس عن تعاطى المحرمات شرعا وبيّن أن صبر النفس عن ميلها إليها فيه ثواب كبير لمن جاهد نفسه وصبر عن تناول ما حرم ربه عليه، كما أن ربنا تعالى جعلنا في هذه الدار عرضة للأخطار والمصائب ابتلاء منه واختبارا ليظهر من يرضى ويسلم ويصبر على أقدار الله، ممن يجزع وتضعف نفسه عن تحمل الصبر والاحتساب، فوعد الصابرين بالأجر الكبير والثواب العظيم بخلاف من جزع ودعا بالويل والثبور فإنه مع فوات أجر المصيبة لا يفيده جزعه ولا يرد فائتا.

وهكذا جاء الإسلام أيضا بإباحة متع الدنيا مع الاقتصاد في ذلك، مما يدل على كماله وتدخله في شئون الناس ومعاملاتهم لبيان الهيئة الرفيعة من أنواع اكتساب المال وإنفاقه، فحثّ على الحرف والصناعات واكتساب المال من وجوهه المباحة للتعفف عن سؤال الناس، وإظهار الفاقة أمامهم مما يضعف النفس ويسقط الهيبة. كما حثّ على القناعة بما رزق الله العبد من ضيق أو سعة، وأخبر بأن الغنى غنى النفس وأن ما أخذ بسخاوة نفس بورك له فيه ومن أخذ بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، وأوضح أن اليد العليا خير من اليد السفلى، ونحو ذلك من الشيم الرفيعة التي تبعث في النفوس الرضا عن الله في ما وهبه للعبد من سعة أو ضيق ويكون بما في يد الله أوثق منه بما في يده فلا يستكثر ما قدمه لأخيه وأعطاه لفقير، أو محتاج أو وهبه لابن سبيل، أو في سبيل الله حيث أيقن بأن ربه يحب منه ذلك وأنه يخلفه له بخير منه عاجلا أو آجلا، فهان عليه ما بذله لله من صدقة وصلة رحم وقرى ضيف ووقف على جهة بر ونحو ذلك من صفات أهل الكرم والسخاء، والجود بما في اليد ثقة بالله وطواعية له بل إنه قد يواسي بما في يده أو يؤثر على نفسه كما وصف الله تعالى حال الأنصار وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ، ولكنه جاء مع ذلك بالحث على الاقتصاد وشدد في ذم المسرفين وأهل التبذير وإفساد المال وإنفاقه في الباطل أو فيما لا فائدة فيه وأخبر بأن المبذرين إخوان الشياطين، والمراد البذل في الحرام أو ما هو ضار قادح في الدين أو التعدي في الإنفاق في الشهوات والملذات فوق الحاجة مما يتضمن الإتلاف للأموال في غير طريقها. وهكذا جاء الشرع الشريف مرغّبا في حسن المعاملة مع الأفراد والجماعات؛ فحثّ على اختيار الرفقاء الصالحين، ونفر من قرناء السوء، ورغب في زيارة الإخوان والأنس بهم، وأخبر بأن المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من صاحب العزلة؛ فإن الأول ينفع الناس ويرشدهم ويتحمل ما ناله في ذات الله من إساءة وضرر، كما أن القصد الأعلى من هذا الاختلاط نصحهم عموما، وهدايتهم إلى سبل السلام، ودلالتهم على كل ما يعود عليهم بمصلحة في دينهم ودنياهم، وإعانتهم على البر والتقوى، وأمرهم بكل معروف ونهيهم عن المنكرات شرعا وعرفا، وهكذا جاءت الشريعة بالشفقة على الخلق ورحمتهم وأنهم كالجسد الواحد إذا اشتكى عينه اشتكى كله وإذا

ص: 49

اشتكى رأسه اشتكى كله وشبهوا بالبنيان يشد بعضه بعضا، وكان من آثار ذلك قضاء حوائجهم وتفريج كرباتهم، وكل ما فيه جلب الراحة والطمأنينة لهم، مع الحرص على إزالة الوهن، والتقاطع الذي يحصل بينهم لتصفو القلوب وتحصل لهم راحة النفس في هذه الحياة، وحث على بر من له زيادة حق لقرابة أو جوار فأمر ببر الوالدين وصلة الأرحام وحسن الجوار وصدق المؤاخاة والشفقة على الأولاد وما يتبع هذا البر والإحسان من نفقة ومواساة وإيثار وطاعة وخدمة بقدر المستطاع، كما حذر أشد التحذير من الإساءة إلى الوالدين وعصيانهما، وقطيعة الرحم، بل أخبر بأن من وصل الرحم وصله الله ومن قطعها قطعه الله، كما أمر الإنسان بالصبر على ما يناله من جفوة أقاربه وإساءتهم، وأخبر بأن حق الأبوين لا يسقط ببقائهما على الكفر، فأمر بصحبتهما بالمعروف، ولكنه نهى عن التنزل على رغبتهما في الرجوع إلى الشرك فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وجعل العقوق في المرتبة التي تلي الشرك بالله وألحق به من يتسبب في جلب الشتم والمسبة لأبويه، وأخبر بأن الرحمة لا تنزل على قوم فيهم قاطع رحم، وحذر من التهاجر بين المسلمين لأجل الحظوظ الدنيوية، لما ينتج عنه من تفرق الكلمة واختلال الأمن وفقدان الثقة بين المسلمين.

ولما كان هناك غالبا أفراد في المجتمع يستحقون زيادة عطف وإحسان لأسباب خاصة. فقد جاءت الشريعة الإسلامية بالحث على برهم ورحمتهم والشفقة عليهم، وحثّهم أنفسهم على الرضا والاستسلام بما قدره الله لهم، وما أصابهم من نقص وعاهة كما ورد في الحديث «إن أهل الجنة كل ضعيف متضعف» «1» وأن عامة من دخل الجنة هم المساكين وقال «2» صلى الله عليه وسلم:«ربّ أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره» «3» وحث على كفالة اليتيم ورعايته والرفق به وعلى مراعاة المساكين والمستضعفين والتفطن لأحوالهم والصدقة عليهم وتخفيف ما يجدونه من ضيق وشدة وهمّ وحزن وجعل الجزاء من جنس العمل في ذلك. ففي الحديث «من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة» «4» ، ونهى الله نبيه صلى الله عليه وسلم عن طرد المستضعفين من مجلسه وأمره بالصبر معهم في قوله وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ «5» ، ولما رأى بعض الصحابة- رضوان الله عليهم- أن له فضلا على من دونه قال له النبي صلى الله عليه وسلم:«هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم» «6» ، وكل هذه الخصال من شعائر الإسلام.

ومما يدل على كمال الإسلام واشتماله على كل مصلحة وخير ونفع للأفراد والجماعات، أن الشرع الشريف حث على الشيم والأخلاق النبيلة التي تعترف العقول بمعرفتها وتشهد بحسنها وحسن آثارها وما لها من الأثر الفعال في النفوس مما يوافق مقصد الشريعة، وكما أمر بالتواضع ولين الجانب سيما مع الضعفاء والخاملين والمساكين، ونهى عن ضد ذلك من التكبر والتجبر واحتقار المسلمين وازدرائهم، ومن الإعجاب بالنفس والترفع على الخلق، وفسر الكبر

(1) رواه البخاري برقم (8/ 4921) في تفسير سورة ن والقلم، ومسلم رقم (2853) في صفة الجنة-: باب النار يدخلها الجبارون عن حارثة بن وهب رضي الله عنه.

(2)

كما رواه مسلم في صفة الجنة باب النار يدخلها الجبارون عن أبي سعيد ورواه البخاري ومسلم في الرقاق عن أسامة بن زيد.

(3)

رواه مسلم في البر والصلة- باب فضل الضعفاء عن أبي هريرة.

(4)

رواه البخاري في المظالم باب لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه ومسلم في البر والصلة والترمذي في الحدود عن ابن عمر.

(5)

سورة الكهف: آية 28.

(6)

رواه البخاري في الجهاد- باب من استعان بالضعفاء والصالحين في الحرب عن مصعب بن سعد قال: رأى سعد أن له فضلا

إلخ.

ص: 50

بأنه بطر الحق وغمط الناس، فإن الناس سواسية كأسنان المشط لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، كما في قوله تعالى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ «1» ، وكما في الحديث «إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغى أحد على أحد» «2» بل أخبر بأن التواضع لعباد الله سبب للرفعة وعلو الرتبة عند الله وعند الناس وقال «حق على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه» «3» . فهذه إشارة إلى كمال الشريعة وإلى ما اشتملت عليه من الخصال الحميدة والأخلاق والآداب الرفيعة التي تسمو بمن تخلّق بها إلى أرفع المنازل وما حذرت منه هذه الشريعة من الأخلاق الدنيئة الذميمة، التي تدنس الأعراض وتوقع في العار والشنار، ولقد أكثر العلماء قديما وحديثا من الكتابة حول خصال الإيمان والدين التي تجب أو تستحب، وسموها آدابا شرعية وخصالا دينية، وأدخلوا في ذلك العادات القديمة التي أقرها الإسلام أو أثنى على فعلها كالجود والكرم والصدق والوفاء والبر والصلة والسلام والتحية والتراحم والتعاطف والتزاور ونحوها، وقد توسع في ذلك ابن عقيل الحنبلى في كتابه المسمى بالفنون، حيث جمع فيه ما أدركه من فنون العلم بجميع أنواعه ولكنه لم يوجد كاملا، وقد ألف الكثير من الأئمة في الأخلاق والآداب، وشعب الإيمان، وهكذا كتبوا في الخصال المذمومة وكبائر الذنوب وأنواع المعاصي والمحرمات، وكل من ألف في ذلك فإنما كتب ما يناسبه ولكل مجتهد نصيب. ولا شك أن شريعة الإسلام قد تضمنت كل ما تمس إليه الحاجة البشرية، وأن جميع الخصال التي تهدف إليها يعرف عند التأمل ملاءمتها ومناسبتها، ولذلك يحتاج إلى الاستقصاء في جمع أنواع العبادة، وما ورد الأمر به من القربات، وما نهى عنه مما يخالف أهداف تلك الخصال، وذكر أدلتها من الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة، مع ذكر معانيها ونتائجها مما يفيد المسلم وطالب الحق علما وسعة اطلاع.

هذا وقد اطلعت على مقدمة هذه الموسوعة الكبيرة التي احتوت على ما أمكن جمعه من أنواع القربات وأسماء العبادات، وأسماء ما يضادها وما ينهى عنه، وأعجبت كثيرا حيث استوعبت ما أمكن إيراده من خصال الخير والأخلاق والقربات، وكل ما ورد له ذكر في الشريعة من تلك الأسماء التي استعملها الرسول صلى الله عليه وسلم بوحي من ربه، وبين المراد بها وفائدتها وأثرها، وحيث رتبت على الحروف ترتيبا محكما لا خلل فيه ولا خطأ، وبدأ بالتعريف لكل خصلة بذكر معناها اللغوي والشرعي، وبيان ما يدخل فيها شرعا وما تتضمنه، ثم بذكر الآيات التي وردت فيها لفظا أو معنى، وكذا ذكر الأحاديث المرفوعة مع تخريجها بدقة واستيفاء، مع ذكر مواضع تلك الأدلة ومراجعها، وهكذا ذكر الآثار الواردة في مدح تلك الخصلة وفائدة العمل بها أو تركها ومضرة المخالفة فيها وما إلى ذلك مما يجده القارئ في هذه الموسوعة، ولا شك أنه جهد كبير وعمل واسع، يستدعي بذل الوسع، والحرص على الاستقصاء، ولذلك استغرق الجمع والبذل والكتابة فيها وقتا طويلا رغم توافر الجهود، وكثرة الباحثين، حتى أنتجوا هذا العمل المشكور الذي يرجى نفعه إن شاء الله للمبتدئ والمحتذي، والراعي والرعية، والفرد والمجتمع، حيث يجد الطالب فيها بغيته، ويعثر على مطلبه بأيسر الوسائل وفي أسرع وقت، فيستفيد في نفسه ويتزود من العلم النافع ما يكون زادا له في دار الدنيا ويوم

(1) سورة الحجرات: آية 13.

(2)

رواه مسلم في الجنة باب الصفات التي يعرف بها أهل الجنة وأهل النار عن عياض بن حمار المجاشعي.

(3)

رواه أبو داود في الأدب باب في كراهة الرفعة في الأمور عن أنس.

ص: 51

المعاد، فإن بحث عن العبادات والقربات وجد طلبته، فيجد في باب العقيدة الإيمان والإخلاص والاعتصام والإسلام والإحسان والتوكل والخوف ونحوها، ويجد أنواع التوحيد كالدعاء والرجاء والاستعانة والإنابة، والتوبة والاستغفار وما أشبهها، ويجد من الأعمال الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد وما يلحق بها، وهكذا ما يتعلق بحقوق العباد كالبر والصلة والصدق والسخاء وأشباه ذلك، وهكذا إن أحبّ معرفة المحرمات والمنكرات كالشرك والقتل والزنا والسرقة والكذب والربا والإلحاد والبغي والكبر وما يلحق بها، فجزى الله من فكر في جمع هذه الموسوعة أحسن الجزاء، فلقد أراحوا طالب الاستفادة من كثرة العناء في البحث والتنقيب في أمهات كتب الأحكام، وكتب الفضائل وكتب الآداب، وكتب الأوامر والنواهي والزواجر ونحوها، وأحالوا القارأ إلى الأماكن التي توسع مؤلفوها في تلك المسائل بإيراد النقول والآثار والعلل والأحكام والمنافع والمضار، فنوصي طالب العلم بالحرص على اقتناء مثل هذه الموسوعة الطيبة المباركة، ومراجعتها عند الحاجة والاستفادة منها، وشغل أوقات الفراغ بمطالعة ما تيسر من الأبواب والمسائل، فهي مرجع أساسي للدعاة والمصلحين، والخطباء والوعاظ، والمفتين والقضاة واللغويين وغيرهم، ولا شك أن الفائدة كبيرة حيث يتزود هؤلاء من الآيات القرآنية التي تتعلق بذلك الموضع ولو بالمعنى، وكذا الأحاديث النبوية والآثار والنقول والفوائد فالمطالع لتلك المسائل لا بد أن يكون لديه حصيلة وافرة يظهر أثرها في أعماله وأقواله، ويتعدى ذلك إلى ولده وجليسه، ويزداد دائما علما وفهما، ومع ذلك فلا بد من حسن المقصد، وإصلاح النية في القراءة والاستفادة والإرشاد والتعليم، فبذلك تكون الجهود مفيدة والأعمال مقبولة، هذا وإني أشكر الأخ عبد الرحمن بن محمد بن ملوح الذي أتاح الفرصة لكتابة هذه الصفحات في مقدمة هذه الموسوعة مع اعترافي بالقصور والضعف في الإنتاج، ولكن ذلك من باب المساهمة في فعل الخير، وأعرف باطلاعي على هذه الموسوعة ما وصل إليه الأخ عبد الرحمن ومن ساعده في إبراز هذا الجهد، وما هو متمتع به من الفكر والإدراك، والغوص على درر المعاني وإبراز المعلومات، ومعالجة الأمور التي تمس إليها الحاجة، ويحصل منها النفع العام للصغير والكبير والذكر والأنثى، في زمن كثرت فيه العوائق وانشغل الأبوان بشئون الحياة، وأكب الجهال والعوام على الملهيات والخرافات واستصعبوا نيل المعلومات، وإخراج المسائل، وتحصيل الفوائد، ولعل في شغلهم بهذه العلوم النافعة ما يكون منبها لهم إلى الرجوع قليلا حتى يعرفوا ويتصورا ما بذله الأولون من جهود جبارة في رصد العلوم وتدوينها، وتقريبها وتهذيبها وأنهم حازوا قصب السبق، فيقبلوا على العلم والاستفادة، ويتبعوا العلم بالعمل الصالح، فهو الثمرة والنتيجة المطلوبة، والله الموفق والمعين، ونسأله سبحانه أن ينفعنا بما علمنا، ويعلمنا ما ينفعنا، ويرزقنا جميعا الفهم عنه والإخلاص له في الأقوال والأعمال، ونسأله أن يمكن لنا ديننا الذي ارتضاه لنا ويصلح أحوال المسلمين، ويولي عليهم خيارهم، ويعز الإسلام والمسلمين، ويذل الكفر وأهله إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

10/ 11/ 1416

هـ.

كتبه عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله الجبرين

ص: 52