الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والزهر ما أهداه غصن براعتي
…
والمسك ما أبداه نقس كتابي
فالمجد يمنع أن يزاحم موردي
…
والعزم يأبى أن يضام جنابي
فإذا بلوت صنيعة جازيتها
…
بجميل شكري أوجزيل ثوابي
وإذا عقدت مودة أجريتها
…
مجرى طعامي من دمي وشرابي
وإذا طلبت من الفراقد والسها
…
ثأراً فأوشك أن أنال طلابي وفاته - توفي بغرناطة يوم السبت تاسع ربيع الآخر عام خمسة عشر وسبعمائة ودفن بجبانة باب إلبيرة، تجاوز الله تعالى عنه؛ انتهى.
رجع إلى نثر ابن الخطيب رحمه الله تعالى:
71 -
فمن ذلك قوله في الروضة في ترجمة ضخام الغصون من شجرة السر المصون ما صورته: وهي أفاءت الظل الظليل، وزانت المرأى الجميل، وتكلفت لمحاسن الشجرة الشماء بالتكفيل، وتتعدد إلى غصون المحبوبات، وأقسام موضوعاتها المكتوبات، وغصن المحبين، أصنافهم المرتبين، وغصن علامات المحبة، وشواهد النفوس الصبة، وغصن الأخبار المنقولة، عن ذوي النفوس المصقولة، وعند تعين هذه الأغصان المقسومة، كمل شكل الشجرة المرسومة، والسرحة الموصوفة الموسومة، ففاءت الظلال، وكرمت الخلال، فحيي من تفرد وتوحد، واستظل من استهدى واسترشد، ووقف الهائم فخطب وأنشد (1) :
يا سرحة الحي يا مطول
…
شرح الذي بيننا يطول
عندي مقال فهل مقام
…
تصغين فيه لما أقول
ولي ديون عليك حلت
…
لو أنه ينفع الحلول
(1) أورد منها بيتين في النفح 3: 506 ونسبهما لابن براق.
ماض من العيش كان فيه
…
منزلنا ظلك الظليل
زال وماذا عليه ماذا
…
يا سرح لو لم يكن يزول
حيا عن المذنب المعنى
…
منبتك القطر والقبول وقال رحمه الله تعالى: فصول في المعرفة تغازل بها عيون الإشارة، إذا قصرت عن تمام المعنى ألسن العبارة، ولله در القائل:
وإذا العقول تقاصرت عن مدرك
…
لم تتكل إلا على أذواقها المعرفة اختراق المراتب الحسية، والنفوس الجنسية، والعقول القدسية، والبروز إلى فضاء الأزل، إذا فني من لم يكن وبقي من لم يزل، مع عمران المراتب، ورؤية الجائز في الواجب:
ومن عجب أني أحن إليهم
…
وأسأل شوقاً عنهم وهم معي
وتبكيهم عيني وهم في سوادها
…
ويشكو النوى قلبي وهم بين أضلعي المعرفة مقام يأتلف من جمع مفروق، وأفول وشروق، وسل عروق، ورد مسروق، حتى يذهب الكيف والأين، ويتعين العين، فيجمع العدد ويجمل، وينحى السوى ومع ذلك لا يهمل:
للعدا منك نصيب
…
ولك السهم المصيب
إنما يومك يوما
…
ن: خصيب وعصيب المعرفة مقام سامي المنعرج، عاطر الأرج، ينقل من السعة إلى الحرج، ومن الشدة إلى الفرج:
طريقك لا تخفى به إن تتبعت
…
خطاك ولا يخفى مبيتك فيه
متاعك منشور على كل خيمة
…
ورؤياك أمن من ترفع تيه
المعرفة عين إن لم تبصر أجزاءها، أحسن الله عزاءها، وحقيقة إن لم يجعل الفراق إزاءها، كانت الغيرة (1) جزاءها، فهي دائرة مركزها يجمع؛ ومحيطها في التفريق يطمع، يستقل الملك أجمع، ويرى من يرى ويسمع من يسمع:
بعد المحيط من المحدد واحد
…
والكل في حق الوجود سواء
والحق يعرف ذاته من ذاته
…
صح الهوى فتلاشت الأهواء المعرفة صعود ونزول، ووقوف ووصول، فلا الوصول عن البداية يقطع، ولا البداية عن النهاية تمنع:
نم له الأمر أجمع
…
كل ما شاء يصنع
حصل القصد واستق
…
ر فلم يبق مطمع العارف في البداية يشكر الراكع والساجد، ثم يعذر الواجد المتواجد، ثم يرجع المنكر الجاحد، فإذا انتهى ورد العدد إلى الواحد، قال لسان حاله:
من رأى لي نشيدة
…
أو على عينها أثر
فله الحكم قل له
…
ذهب العين والأثر إلى أن قال: قال الرئيس: العارف هش بش بسام، فيجل الصغير من تواضعه مثلما يجل الكبير، ويبسط من الخامل مثلما يبسط من النبيه، ثم علل فقال: وكيف لا يهش وهوفرحان بالحق، وبكل شيء فإنه يرى فيه الحق، إني لأجد ريح يوسف (2) :
لمعت نارهم وقد عسعس اللي
…
ل وضج الحادي وحار الدليل
فتأملتها وقلت لصحبي
…
هذه النار نار ليلى فميلوا
(1) ق: العزة.
(2)
انظر مشارق أنوار القلوب: 72 وهما من قصيدة للسهروردي.
العارف شجاع، وكيف لا وهوبمعزل عن هيبة الموت، وجواد، وكيف لا وهولمعزل عن صحبة الباخل، وصفاح، وكيف لا ونفسه أكبر من أن تحرجها زلة بشر، ونساء للأحقاد، وكيف لا وذكره مشغول بالحق، وقالوا: من عرف الله تعالى صفا له العيش، وطابت له الحياة، وهابه كل شيء، وذهب عنه خوف المخلوقين، وأنس بالله رب العالمين.
الشبلي: ليس لعارف علاقة، ولا لمحب شكوى، ولا لعبد دعوى، من عرف الله سبحانه انقطع، بل خرس وانقمع، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك؛ انتهى.
72 -
قال رحمه الله تعالى في بعض تراجم الروضة: الفرع الصاعد إلى الهواء، على خط الاستواء، من رأس العمود القائم، إلى منتهى الوجود الدائم، ويشتمل على قشر لطيف، وجرم شريف، وأفنان ذوات قنوان وغير قنوان، وطلع نضيد، وجنىً سعيد، فالقشر الحدود والرسوم، وخواص العارف الذي هوبالمعروف بها والموسوم، والفنون التي يقوم عليها والعلوم، والجرم ظاهر الخلق المقسوم، وعلاجه كما تعالج الجسوم، وباطنه المجاهدات التي عليها يقوم، وقلبه الرياضة والغصون المقامات فيها المقام المعلوم، ومادتها السلوك الذي تدريج غذائه تبلغ الأفنان والورقات ما تروم، والزهرات اللوائح والطوالع والبواده التي لها الهجوم، والواردات التي تدوم أولا تدوم، ثم الجنى وهوالولاية التي كان الغارس عليها يحوم؛ انتهى.
ثم فصل الكل رحمه الله تعالى فليراجعه من أراده.
73 -
ومن نثر لسان الدين رحمه الله تعالى ما كتبه على لسان سلطانه للأمير يلبغا الخاصكي (1)، وهو: إلى الأمير المؤتمن على أمر سلطان المسلمين،
(1) كان مدبر الدولة أيام المنصور محمد والأشرف شعبان، قتله غلمانه لعسفه وظلمه سنة 768.
المقلد بتدبيره السديد قلادة الدين، المثني على رسوم بره لمقامه لسان الحرم الأمين، الآوي من مرضاة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم إلى الربوة ذات القرار والمعين، المستعين من اله تعالى على ما تحمله وأمله بالقوي المعين، سيف الدعوة، ركن الدولة، قوام الملة، مؤمل الأمة، تاج الخواص، أسد الجيوش، كافي الكفاة، زين الأمراء، علم الكبراء، عين الأعيان، حسنة الزمان، الأجل المرفع الأسنى الكبير الأشهر الأسمى الحافل الفاضل الكامل المعظم الموقر الأمير الأوحد يبلغا الخاصكي، وصل الله له سعادة تشرق غرتها، وصنائع تسح فلا تشح درتها، وأبقى تلك المثابة قلادة الله تعالى وهو درتها.
" سلام كريم، طيب بر عميم، يخص إمارتكم التي جعل الله تعالى الفضل على سعادتها أمارة، واليسر لها شارة، فيساعد الفلك الدوار مهما أعملت إدارة، وتمتثل الرسوم كلما أشارت إشارة.
" أما بعد حمد الله تعالى الذي هويعلمه في كل مكان، من قاص ودان، وإليه توجه الموجوه وإن اختلفت السير وتباعدت البلادان، ومنه يلتمس الإحسان، وبذكره ينشرح الصدر ويطمئن القلب ويمرح اللسان، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله العظيم الشان، ونبيه الصادق البيان الواضح البرهان، والرضى عن آل وأصحابه وأحزابه أحلاس الخيل، ورهبان الليل، وأسود الميدان، والدعا لإمارتكم السعيدة بالعز الرائق الخبر والعيان، والتوفيق الوثيق البنيان، فإنا كتبناه إليكم - كتب الله تعالى لكم حظاً من فضله وافراً، وصنعاً عن محيا السرور سافراً، وفي جوالإعلام بالنعم الجسام مسافراً - من حمراء غرناطة حرسها الله تعالى دار ملك الأندلس دافع الله سبحانه عن حوزتها كيد العداة، وأتحف نصلها ببواكر النصر المهداة، ولا رائد إلا الشوق إلى التعارف بتلك الأبواب الشريفة التي أنتم عنوان كتابها المرقوم، وبيت قصيدها المنظوم، والتماس بركتها الثابتة الرسوم، وتقرير المثول في سبيل زيارتها بالأرواح عند تعذره بالجسوم، وإلى هذا فإننا كانت بين سلفنا تقبل الله تعالى جهادهم، وقدس
نفوسهم، وأمن معادهم، وبين تلك الأبواب كما عرفتم من عدلها وإفضالها، مراسلة ينم عرف الخلوص من خلالها، وتسطع أنوار السعادة من آفاق كمالها، وتلتمح من أسطار طروسها محاسن تلك المعاهد الزاكية المشاهد، وتعرب عن فضل المذاهب وكرم المقاصد، اشتقنا إلى أننجددها بحسن منابكم، ونواصلها بمواصلة جنابكم، ونغتنم في عودها الحميد مكانكم، ونؤمل لها زمانكم، فخاطبنا الأبواب الشريفة في هذا الغرض نخاطبة خجلة من التقصير، وجلة من الناقد البصير، ونؤمل الوصول في خفارة يدكم التي لها الأيادي البيض، والموارد التي لا تغيض، ومثلكم من لا تخيب المقاصد في شمائله، ولا تضحى المآمل في ظل خمائله، فقد اشتهر من حميد سيركم ما طبق الآفاق، وصحب الرفاق، واستلزم الإصفاق، وهذه البلاد مباركة، ما أسلف أحد فيها مشاركة، إلا وجدها في نفسه ودينه وماله وعياله، والله سبحانه أكرم من وفى لامرئ بمكياله، والله عز وجل يجمع القلوب على طاعته، وينفع بوسيلة النبي صلى الله عليه وسلم الذي نعول على شفاعته، ويبقي تلك الأبواب ملجأ للإسلام والمسلمين، وظلاً لله تعالى على العالمين، وإقامة لشعائر الحرم الأمين، ويتولى إعانة إمارتكم على وظائف الدين، ويجعلكم ممن أنعم الله تعالى عليه من المجاهدين، والسلام الكريم يخصكم ورحمة الله تعالى وبركاته؛ انتهى.
74 -
ومن نثر لسان الدين رحمه الله تعالى قوله في قضية امتناع بعض الموثقين من أكل طعامه بمدينة سلا، وقد صدر به كتابه المسمى ب مثلى الكريقة في ذم الوثيقة وهذا نصه: أما بعد حمد الله الذي قرر الحكم وأحكمه، وبين الحلال من الحرام بما أوضحه من الأحكام وعلمه، ونوع جنس المعاش وقسمه، وماز كل نوع منه ووسمه، فأثبته متفاوتاً في درجات التفضيل ورسمه، والصلاة والسلام على مولانا محمد رسوله الذي فضله على الأنبياء وقربه وطهر من دنس الشبهات شيمه، فما استعمله في غير طاعته ولا استخدمه، ولا أعمل في سوى
البر والهدى بنانه ولا قدمه، والرضى عن آل وأصحابه الذين رعوا ذممه، واستمطروا ديمه، وتواصوا من أجله بالبر وتواصلوا بالمرحمة، فهذا كتاب مثل الطريقة في ذم الوثيقة دعا إلى جمعه قلة الإنصاف من المداهن والمعاصر، والمباهت في مدرك النور الباصر، ورضى مظنة النيل منهم بالباع القاصر، والمناضلة عن الحمى الذي لم يؤيده الحق بالولي ولا بالناصر، ولوضعه حكاية، ولنفثته شكاية، إذ معرفة الأشياء بعللها مما يتشوق إليه، ويحرص عليه، وهوأني لما قدمت على مدينة فاس حرسها الله تعالى، مستخلصاً بشفاعة الخلافة، ذات الإناقة، مستدعى برسالة الإيالة، ذات الجلالة، فانسحب والمنة لله الستر، وانفسح الفتر، وشفع من النعم الوتر، واقتدى المرؤوس بالرئيس، وتنافس الأعلام في التأنيس، واتصل الاحتفاء والاستدعاء، وانتخب الموعى والوعاء، وأخذ أعقاب الطيبات الوضوء والطيب والدعاء، تعرفت فيمن جمعته الأخونة، والمداعي المتعينة، برجل من نبهاء موثقيها غرني بمخيلة البشاشة التي يستفز بها الغريب، ويستخلص هوى من لم يعمل التجريب، فأنست بمكانه، واستظهرت على ما يعرض من مكتتب بدكانه، وشأني في الاغتباط بمن عرفت شأني، فلست للمقة بشأني، واسترسالي، حتى لمن أسا لي، طوع عناني:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة
…
ضميري ويتلوه يدي ولساني ولم يك إلا أن حللت بمدينة سلا حرسها الله تعالى مقصود المحل وإن رغم الدهر الذي رمى فأقصد، معتمداً بفتوحات الله تعالى وإن أرتج الباب بزعمه وأوصد، مصحباً بمدد عنايته وإن كمن وأرصد، لا يمر فاضل إلا عرج على مثواي، وأتى من البر فوق هواي، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها، وتعرفت عن صاحبي الفاسي أنه قدم علينا من سخر عملية فلا لها الدسر المنهوبة، وتخللها المسبعة المرهوبة، واغتذى الأطعمة التي مرقتها الدموع، ومطبختها الحمى المروع، واستقر بالمدينة بعد أن لان وضرع، وجدل وصرع، نافق البلقلة كاسد الورع
ونزل بمثوى خمول، ومحط مجهول، وكنف ممقوت، وجوار لا يبخل بغيبة ولا يسمح بقوت، فبادرت استدعاءه بفاضل من الطلبة ممن يتلقى به الوارد، ويقتاد الشارد، وقد أغرب بقراءة الاحتفاء والاحتفال، وأجنب الإغفاء والإغفال، وجهزت السرايا إلى التماس نعم الله تعالى فحلت الأنفال، فلما عرض عليه الدعوة تعجرف ونفر، ولما مسح عطفه بالاستنزال نزا وطفر، حتى بهت الرسول كما بهت الذي كفر، وآب يحمل عذراً بارداً، واحتجاجاً شارداً، فأقطعته جانب شماسه، وخليت بينه وبين وسواسه، ومن الغد قصدني فاعتذر، وأكثر الهذر، ولم ينبت الله النبات الحسن شيئاً مما بذر، وكان جوابي إياه ما نصه:
أبيتم دعوتي إما لبأو
…
وتأبى لومه مثلي الطريقه
وبالمختار للناس اقتداء
…
وقد حضر الوليمة والعقيقه
وغير غريبة أن رق حر
…
على من حاله مثلي رقيقه
وإما زاجر الورع اقتضاها
…
ويأبى ذاك دكان الوثيقه
وغشيان المنازل لاختيار
…
يطالب بالجليلة والدقيقه
شكرت مخيلة كانت مجازاً
…
لكم وحصلت بعد على الحقيقة وذاع خبرها فقلبت عنها الجنوب، وكلف بها الطالب والمطلوب، وهش إلى المراجعة عنها أحد الموثقين بسلا ممن يحوم حول حمى الإدراك، ويروم درجة الاختصاص ببعض الفنون والاشتراك، وله في الأدب مساس، وجلب الباس، بما نصه:
رسولك لم يبن لي عن طريقه
…
تقرب من حديقتك الأنيقه
فلا بأولدي ولا إباء
…
ولكن ساء في الغرض الطريقه
وهب أني أسأت فكم صديق
…
تدلل واعتدى فجفا صديقه
فلا عجب فديت لرفق حر
…
يسكن عند خجلته رفيقه
وإني فيك معتقد، ولكن
…
أرى الأيام حاقدة حنيقه
على ذي الود فيمن ود حتى
…
يفارقه وإن أضحى رفيقه فراجعته بما نصه لما أسفلته من جزاء مصاعه، وكلت له بصاعه:
من استغضب من هذي الخليقه
…
بمغضبة بإنكار خليقه
ولم يغضب فتيس أو حمار
…
مجازاً لا، لعمري، بل حقيقه
بعثت بمرسل لك مع عتيقي
…
فلم تطع الرسول ولا عتيقه
وطوقت السفير الذنب لما
…
عجلت به ولم تبلعه ريقه
إمام جماعة وقريع تقوى
…
ومبلغ حجة، وحفيظ سيقه (1)
فبؤت بها علآ الأيام داءً
…
عضالاً لا تفيق عليه فيقه
وقد عارضت عذرك باعتراف
…
فزدت مذمة تسم الطريقه
وهل بعد اعتراف من نزاع
…
وهل بعد افتضال من وثيقه
ومن جهل الحقوق أطاع نفساً
…
ببحر الجهل راسبة غريقه
ومنجى نيقة أمر بعيد
…
إذا نصب المهندس منجنيقه فأمسك حينئذ وأقصر، وروى الأمر يطول فاختصر، إلا أنه نمي لي عنه قوله: إن دكان الوثيقة إن نافى الورع فبغير بلده، وأذهلته لذة لدده، عما هوبصدده، فارتهنت له أن أنصر الدعوى بما يسلمه المنصف المساهل، وينكره الأرعن الجاهل، وتشد به المنازل والمناهل، والمعالم والمجاهل، مستنداً إلى الحكم الشرعي، والسنن المرعي، والمشاهدة والحس، وشهادة الجن والإنس.
(1) السيقة: لعلها صورة اشتقاقية من السوق أو السياق بمعنى المهر الذي يساق لى المرأة في صداقتها؛ ومما يقرب هذا المعنى أن الرجل الذي وجهت إليه الأبيات من كتاب الوثائق.
ولو ترك القطا ليلاً لناما
…
والله يجعله موقظاً من السنات، وازعاً عن كثير من الهنات، وينفع فيه بالنية فإنما الأعمال بالنيات، وها أنا أبتدئ وعلى الله الإعانة، وبحوله وقوته الإفصاح والإبانة.
قلت: ينحصر الكلام فيه في سبعة أبواب، الباب الأول: في جواز الإجازة فيها عند العلماء، الباب الثاني: في الشركة المستعملة بين أربابها، الباب الثالث: في محلها من الورع إن سوغها الفقه، الباب الرابع: في منزلتها من الصنائع والمهن، الباب الخامس: في أحوال منحليها من حيث العلم غالباً، الباب السادس: في أحوالهم من جهة استقامة الرزق وانحرافه، الباب السابع: في رد بعض ما يحتج به فيها. انتهت الخطبة المقتطعة من تأليف لسان الدين رحمه الله تعالى.
وهذا التأليف في نحوكراسة، وقال في آخره ما صورته: فإن قيل: ترك الأجر، وقبول العوض في هذا الأمر يدعوإلى تعطيله، فيفقد الناس منفعة هذه الطريقة وغناءها، قلت: الإنصاف فيها اليوم أن لوكان متوليها يرتزق من بيت المال وأموال المصالح والأوقاف التي تسع ذلك، وحال الجماهير في فقدانها والاضطرار إليها ورفع أمورهم بها إلى السلطان، ورغبتهم في نصب من يتولى ذلك حالهم في فقدان أئمة الصلاة في الماسجد الراتبة في جريانه من بيت المال بعلة التزامهم وارتباطهم فقد، حسبما نقل الإجماع فيه القاضي أبوبكر ابن العربي رحمه الله تعالى ومنع الارتزاق من غيره إجماعاً، وقد كان بالمدن المعتبرة من بلاد الأندلس - جبرها الله تعالى - ناس من أولي التعفف والتعين، كبني الجد بإشبيلية وبني الخليل وغيرهم بغيرها، يتعيشون من فضول أملاكهم، ووجائب رباعهم، ويقعدون بدورهم عاكفين على بر، منتابين لرواية وفتيا، يقصدهم الناس في الشهادة فيجاملونهم، ويبركون على صفقاتهم، ويهدونهم إلى سبيل الحق فيها من غير اجر ولا كلفة، إلا الحفظ على المناصب، وما يجريه السلطان من الحرمة
والتفقد (1) في الضرورة، وما يهديهم الناس من الإطراء والتجلة، والله سبحانه ينيلهم من الأجر والمثوبة، وبلغني اليوم ا، حالها بمدينة سجلماسة ينظر إلى هذا الحال من طرف خفي، ولم يفسد بها كل الفساد، وكذلك لم نزل نتعرف أن الأمر في شأنها بمدينة تونس أقرب، وبعض الشر أهون من بعض، ولوبقيت بحالها لوجب تقرير فضلها وتقريظ منتحلها، فالصدق أنجى، والحق عند الله أحجى، والله عز وجل يستعملنا فيما يرضيه، ويلطف بنا فيما يجريه علينا من أحكامه وما يقضيه، ويجعلنا ممن ختم له بالحسنى، ويقربنا إلى ما هوأقرب من رحمته وأدنى، وصلوات الله على سيدنا محمد وآل وصحبه؛ انتهى.
وكتب على ظهر الورقة الأولى من هذا التأليف شيخ شيوخ شيوخنا الغمام الكبير المؤلف الشهير سيدي أحمد الونشريسي رحمه الله تعالى ما صورته: الحمد لله، جامع هذا الكلام المقيد هذا بأول ورقة منه كد نفسه في شيء لا يعني الأفاضل، ولا يعود عليه في القيامة ولا ف يالدنيا بطائل، وأفنى طائفة من نفيس عمره في التماس مساوئ طائفة بهم تستباح الغروج، وتملك مشيدات الدور والبروج، وجعلهم أضوكة لذوي الفتك والمجانة، وانتزع جلبات الصدق والديانة، سامحه الله تعالى وغفر له، قال ذلك وخطه بيمنى يديه عبيد ربه أحمد بن يحيى بن محمد بن علي الونشريسي خار الله سبحانه له؛ انتهى ما ألفتيته.
وقد كان لسان الدين رحمه الله تعالى كثيراً ما يعرض ويصرح بهجوبعض أهل سلا أوكلهم حتى قال:
أهل سلا صاحت بهم صائحه
…
غادية في دورهم رائحه
يكفيهم من عوز أنهم
…
ريحانهم ليست له رائحه والله المرجوللعفوعن الزلات.
75 -
ومن نثر لسان الدين رحمه الله تعالى خطبة كتابه في المحبة الذي ما
(1) ق: والنفقة.
ألف في فنه أجمع منه، ولنوردها فإن فيها دلالة على فضله وعظم قدر الكتاب وهي: اللهم طيب بريحان ذكرك أنفاس أنفسنا الناشقة، وعلل بجريال حبك جوانح أرواحنا العاشقة، وسدد إلى أهداف معرفتك نبال نبلنا الراشقة، واستخدم في تدوين حمدك شبا أقلامنا الماشقة، ودل على حضرة قدسك خطرات خواطرنا الذائقة، وأبن لنا سبل السعادة التي جعلت فيها الكما الأخير لهذه الأنفس الناطقة، وأصرفنا عند سلوكها عن القواطع العائقة، حتى نأمن مخاوف أجبالها الشاهقة، وأحزابها المنافقة، وأوهامها الطارئة الطارقة، برازخها القاسية الغاسقة، فلا تسرق بضائعنا العوائد السارية السارقة، ولا تحجينا عنك العوارض الجسيمة اللاحقة، ولا الأنوار المغلظة البارقة، ولا العقول المفارقة، يا من له الحكمة البالغة والعناية السابقة، وصل على عبدك ورسولك محمد درة عقود أحبابك المتناسقة، وجالب بضائع توحيدك النافقة، المؤيد بالبراهين الساطعة والمعجزات الخارقة، ما أطلعت أفلاك الأدواح زهر أزهارها الرائقة، وحدت قطار السحائب حداة رعودها السائقة، وجمعت ريح الصبا بين قدود أغصانها المتعانقة.
أما بعد فإنه لما ورد على هذه البلاد الأندلسية المحروسة بحدود سيوف الله حدودها، الصادقة بنصر الله للفئة القليلة على الفئة الكثيرة وعودها - وصل الله تعالى عوائد صنعه الجميل لديها، وأبقاها دار إيمان إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها - " ديوان الصبابة (1) " وهوالموضوع الذي اشتمل من أبطال العشاق على الكثير، واستوعب من أقوالهم الحديثة والقديمة كل نظيم ونثير، وأسدى في غزل غزله وألحم، ودل على مصارع شهدائهم من وقف وترحم، فصدق الخبر المخبر، وطمت اللجة التي لا تعبر، وتأرج من مسراه المسك والعنبر، وقالت العشاق عند طلوع قمره: الله اكبر:
مررت بالعشاق قد كبروا
…
وكان بالقرب صبي كريم
(1) كتاب من تأليف شهاب الدين أحمد بن أبي حجلة
فقلت: ما بالهم قال لي:
…
ألقي للحب كتاب كريم ولا غروأن أقام بهذه الآفاق، أسواق الأشواق، وزاحم الزفرات في مسالك الأطواق، وأسأل جواهر المدامع من بين أطباق تلك الحقاق (1)، وفتك نسيمها الضعيف العهد والميثاق بالنفوس الرقاق:
جنى النسيم علينا
…
وما تبينت عذره
إذ صير الخلق نجداً
…
والأرض أبناء عذره فوقع للحجة المصرية التسليم (2)، وقالت ألسنة الأقلام معربة عن ألسنة الأقاليم:
سلمت لمصر في الهوى من بلد
…
يهديه هواؤه لدى استنشاقه
من ينكر دعواي فقل عني له
…
تكفي امرأة العزيز من عشاقه فغمر المحافل والمجالس، واستجلس الراكب واستركب الجالس، يدعوالأدب إلى مأدبته فلا يتوقف، ويلقي عصا سحره المصري فتتلقف، ما شئت من ترتيب غريب، وتطريب وبنان أريب، يشير إلى الشعر فتنقاد إليه عيونه، ويصيح بالأدب الشريد فتلبيه فنونه، وأنهى خبره للعلوم المقدسة، ومدارك العز الموطدة المؤسسة، سما به الجد صعداً إلى المجلس السلطاني مقر الكمال، ومطمح الأبصار والآمال، حيث رفارف العز قد انسدلت، وموازين القسط قد عدلت، وفصول الفضل قد اعتدلت، وورق أوراق المحامد قد هدلت، مجلس السلطان المجاهد، الفاتح الماهد، المتحلي في ريعان العمر الجديد، والملك السعيد، بحلى القانت الزاهد، شمس أفق الملة، وفخر الخلفاء الجلة، بدر هالات السروج المجاهدة، أسد الأبطال البارزة إلى حومة الهياج الناهدة، معشي الأبصار المشاهدة، مظهر رضى الله تعالى عن هذه الأمة الغريبة عن الأنصار والأقطار، من وراء أمواج (3)
(1) ق: الأطباق.
(2)
كذا قال، ولكن ابن أبي حجلة مغربي المولد، استوطن القاهرة.
(3)
أمواج: سقطت من ق.
البحر الزخار، باختياره لها واعتيامه، وملبسها برود اليمن والأمان ببركة أيامه، ومن أطلع الله تعالى أنوار الجمال من أفق جبينه، وأنشأ أمطار السماح من غمام يمينه، وأجرى في الأرض المثل السائر بحلمه وبسالته ودينه، أمين الله تعالى على عهدة الإسلام بعذا القطر وابن أمينه وابن أمينه، فخر الأقطار والأمصار، ومطمح الأيدي وملمح الأبصار، وسلالة سعد بن عبادة سيد الأنصار، ومن لونطق الدين الحنيفي لحياه وفداه، أوتمثل الكمال صورة ما تعداه، مولانا السلطان الإمام العالم العامل المجاهد أمير المسلمين أبوعبد الله ابن مولانا أمير المسلمين أبي الحجاج ابن مولانا أمير المسلمين أبي الوليد مبتسماً عن شنب نصره، والفتح المبين مذخوراً لعصره، كما قصر آداب الدين والدنيا على مقاصير قصره، وسوغه من أشتات مواهب الكمال ما تعجز الألسن عن حصره، ولا زالت أفنان الأقلام تتحف الأقاليم بجني فنون هصره، فخصته عين استحسانه أبقاه الله تعالى بلحظة لحظ، وما يلقاها إلا ذوحظ، وصدرت إلي منه الإشارة الكريمة بالإملاء في فنه، والمنادمة على بنت دنه، وحسب الشحم من ذي ورم والله سبحانه يجعلني عند ظنه، ومتى قورتن المثري بالمترب، أووزن المشرق بالمغرب شتان بين من تجلى الشمس منه فوق منصتها، وبين من يشره أفقه الغربي لابتلاع قرصتها، لكني امتثلت، ورشت ونثلت، ومكرهاً لا بطلاً مثلت، وكيف يتفرغ للتأليف، ويتبرع للوفاء بهذا التكليف، من حمل الدنيا في سن الكهولة على كاهله، وركض طرف الهوى بين معارفه ومجاهله، واشترى السهر بالنوم، واستنفد سواد الليل وبياض اليوم، في بعث يجهز، وفرصة تنهز، وثغر للدين يسد، وأزر للملك يشد، وقصة ترفع، ووساطة تنفع، وعدل يحرص على بذله، وهوى يجهد في عذله، وكريم قوم ينصف من نذله، ودين تزاح الشوائب عن سبله، وسياسة تشهد للسلطان بنبله وإصابة نبله، ما بين سيف وقلم، وراحة وألم، وحرب وسلم، ونشر علم أوعلم، وجيش يعرض، وعطاء
يفرض، وقرض حسن لله تعالى يقرض، في وطن توافر العدوعلى حصره، ودار به دور السوار على خصره، وملك قصر الصبر والتوكل على قصره، وعدد نسبته من العدد العظيم الطاقة، الشديد الإضاقة، نسبة الشعرة من جلد الناقة، وبالله نستدفع المكروه، وإليه نمد الأيدي ونصرف الوجوه، وسألت منه - أيده الله تعالى - القنوع بما يسره الوقت، مما لا يناله المقت، والذهاب بهذا الغرض لما يليق بالترب والسن، ويؤمن من اعتراض الإنس والجن، وما كنت ممن آثر على الجد والهزل، واعتاض من الغزل الرقيق الغزل بشيمة الجزل، ولا آنف نم ذكر الهوى بعد أن خضت غماره، واجتنيت ثماره، وأقمتن مناسكه ورميت جماره، وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة، فالهوى أول تميمة قلدتني الداية، والترب التي عرفتها في البداية، وأنا الذي عن عروته نبت، وبعثت إلى الرصافة لأرق فدبت، إلى أن تبين الرشد من الغي، وصار النشر إلى الطي، وتصايح ولدان الحي، كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم كما من علي:
جزى الله عني زاجر الشيب خير ما
…
جزى ناصحاً فازت يداي بخيره
ألفت طريق الحب حتى إذا انتهى
…
تعوضت حب الله عن حب غيره حال السواد بحال الفؤاد، وصوح المرعى فانقطعت الرواد، ونهاني ازورار خيال الزوراء، واتفات عاذل الشيب عن المقلة الحوراء، وكيف الأمان، وقد طلع منه النذير العريان، يدل على الخبر بخبره، وينذر بهاذم اللذات على أثره، ولله در القائل:
دعتني عيناك نحوالصبا
…
دعاء يردد في كل ساعه
فلولا، وحقك عذر المشيب
…
لقلت لعينيك: سمعاً وطاعه ولولا أن طيف هذا الكتاب الوارد طرق مضجعي وقد كاد يبدوالحاجب، ويضيع من الفرض الواجب، ويعجب من نوم الغفلة العاجب، لجريت معه في
ميدانه، وعقدت بناني ببنانه، وتركت شاني وإن رغم الشاني لشانه، وقلت معتذراً عن التهويم في بعض أحيانه:
أهلاً بطيفك زائراً أو عائداً
…
تفديك نفسي غائباً أوشاهدا
يا من على طيف الخيال أحالني
…
أتظن جفني مثل جفنك راقدا
ما نمت، لكن الخيال يلم بي
…
فيجله طرفي فيطرق ساجدا ومن العصمة أن لا تجد، هلا قبل المشيب، ومع الزمن القشيب، وقبل أن تمخض القربة، وتبنى الخانقاه والتربة، وتؤنس باله الغربة، وعلى ذلك فقد أثر، وباء قلبي المعثر، اللهم لا أكثر:
وبدا له من بعد ما اندمل الهوى
…
برق تألق موهناً لمعانه
يبدو كحاشية الرداء ودونه
…
صعب الذرا متمنع أركانه
فبدا لينظر كيف لاح، فلم يطق
…
نظراً إليه ورددت أشجانه
فالنار ما اشتملت عليه ضلوعه
…
والماء ما سمحت به أجفانه وجعلت الإملاء على حمل مؤازرته أيده الله تعالى علاوة، وبعد الفراغ من ألوان ذلك الخوان حلاوة، وقلت أخاطب مؤلف كتاب الصبابة بما يعتمده جانب إنصافه، ويغطي على نقص إن وقع فيه كمال أوصافه:
يا من أدار من الصبابة بيننا
…
قدحاً ينم المسك من رياه
وأتى بريحان الحديث فكلما
…
سمح النديم براحه حياه
أنا لأهيم بذكر من قتل الهوى
…
لكن أهيم بذكر من أحياه وعن لي أن أذهب بهذا الحب المذهب المتأدي إلى البقاء، الموصل إلى ذروة السعادة في معارج الارتقاء، الذي غايته نعيم لا نيقضي أمده، ولا ينفذ مدده، ولا يفصل وصله، ولا يفارق الفرع أصله، حب الله المبلغ إلى قربه، المستدعي لرضاه
وحبه، المؤثر بالنظر إلى وجهه، ويا لها نم غاية، الملقي رحل المتصف به بعد قطع بحار الفناء على ساحل الولاية.
وكنت وقفت من الكتب المؤلفة في المحبة على جملة منها كتاب يشهده العوام ويستخفه الهوام، ورسالة ابن واصل رسالة مهذارة، تطفومن دارة إلى دارة، في مطاردة هر وفارة، وكتاب ابن الدباغ القيرواني (1) كتاب مفرقع، ووجه المقصود منه متبرقع، وكتاب ابن خلصون وهوأعدلها لولا بداوة تسم الخرطوم، وناسب الجمل المخطوم، فكنت بما ذكر لا أقنع، وأقول ما أصنع، فالله يعطي ويمنع:
قلت للساخر الذي
…
رفع الأنف واعتلى
أنت لم تأمن الهوى
…
لا تعير فتبتلى شعر:
وعذلت أهل العشق حتى ذقنه
…
فعجبت كيف يموت من لا يعشق (2) ومن المنقول: لا تظهر الشماتة بأخيك، فيعافيه الله ويبتليك.
بلاني الحب فيك بما بلاني
…
فشأني أن تفيض غروب شاني أجل بلاني بالغرض الذي هومن القلوب سر أسرارها، ومن أفنان الأذهان بمنزلة أزهارها، ومن الموجودات وأطوارها قطب مدارها؛ ليكون كتابي هذا المقدم على المأزق المهلك، المتشبع بما لا يملك، وأن يقنع الاتصاف، فعسى أن يشفع الإنصاف، والاقتراف، يدرؤه الاعتراف، أنا عند المنكسرة قلوبهم، ولا تجود يد، إلا بما تجد، وكل ينفق مما آتاه الله:
وابن اللبون إذا ما لز في قرن
…
لم يستطع صولة البزل القناعيس (3)
(1) لعله يشير إلى كتاب " مشارق أنوار القلوب " لأبي زيد عبد الرحمن بن محمد الأنصاري المعروف بابن الدباغ (- 696) . وقد نشره الأستاذ هـ. ريتر (دار صادر: 1959) .
(2)
البيت للمتنبي من قصيدته التي مطلعها " رق على أرق ومثلي يأرق ".
(3)
البيت لجرير، ديوانه:250.
وعسى الذي أنطق شوقاً، أن ينطق ذوقاً، والذي حرك سفلاً أن يحرك فوقاً، والذي يسره مقالاً، أن يكفيه حالاً.
فأول الغيث طل ثم ينسكب
…
الحرب أول ما تكون لجاجة
…
وإن الحرب أولها الكلام (1)
…
نحمد الله سبحانه على الكلف بهذه الطريقة {وما يلقاها إلا ذوحظ عظيم} (فصلت: 35) وللأرض نصيب من كأس الكريم (2) :
أليس قليلاً نظرة إن نظرتها
…
إليك وكلا ليس منك قليل
فاتني أن أرى الديار بطرفي
…
فلعلي أرى الديار بسمعي (3) وعلى ذلك فذهبت في تربيته أغرب المذاهب، وقرعت في التماس الإعانة باب الجواد الواهب، وأطلعت فصوله في ليل طلوع نجوم الغياهب، وعرضت كتائب العزيمة عرضاً، وأقرضت الله قرضاً، وجعلته شجرة وأرضاً، فالشجرة المحبة مناسبة وتشبيها، وإشارة لما ورد في الكتب المنزلة ونبيهاً، والأرض النفوس التي تغرس فيها، والأغصان أقسامها التي تستوفيها، والأوراق حكاياتها التي تحكيها، وأزهارها أشعارها التي تحييها، والوصول إلى الله تعالى ثمرتها التي ندخرها بفضل الله ونقتنيها، شجرة لعمر الله يانعة، وعلى الزعازع متمانعة، ظلها ظليل، والطرف عن مداها كليل، والفائز بجناها قليل، رست في التخوم، وسمت
(1) صدره: فإن النار بالعودين تذكي؛ يرد في رسالة لنصر بن سيار يستنجد بها الخليفة الأموي عند ظهور المسودة.
(2)
عكس قول الشاعر: وللأرض من كأس الكرام نصيب، وكذلك ثبت النص في ق.
(3)
البيت للشريف، ديوانه 1: 658 وديوان الصبابة: 49.
إلى النجوم، وتنزهت عن أعراض الجسوم، والرياح الحسوم، وسقيت بالعلوم، وغذيت بالفهوم، وحملت بالزهر المكتوم، ووفيت ثمرتها بالغرض المروم، فاز من استأثر بجناها، وتعنلاى من عني بلفظها دون معناها، فمن استصبح بدهنها استضاء بسناها، ما أبعدها وما أدناها، عيناً ملأت الأكف بغناها، كم بين أوراقها من قلب مقلب، وفي هوائها من هوى مغلب، وكم فوق أفنانها من صادح، وكمم في التماس سقيطها من كادح، وكم دونها من خطب فادح، ولأربابها من هاج ومادح، تنوعت أسماؤها، ولم تتنوع أرضها ولا سماؤها، فسميت نخلة تهز وتجنى، وزيتونة مباركة يستصبح بزيتها الأسنى، وسدرة إليها ينتهي المعنى، أصلها للوجود أصل، وليس لها كالشجر جنس ولا فصل، وتربتها روح ونفس عقل، وشرفها يعضده بديهة ونقل، يحط بفنائها، ويصعد السالكون حول بنائها، تخترق السبع الطباق ببراقها، وتمحى ظلم الحس بنور إشراقها، فسبحان الذي جعلها قطب الأفلاك، ومدافن الأضواء والاحلاك، ومغرد طيور الأملاك، وسبب انتظام هذه الأسلاك، لم يحل فيها طريد بعيد، ولا اتصف بصفاتها إلا سعيد، ولا اعتلق بأوجها هاوفي حضيض، ولا بمحض برهانها متخبط في شرك نقيض، ولا تعرض لشيم بوارقها متسم بسمة بغيض، الحمد لله الذي هدانا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، ومنه نستزيد الاستغراق في بحارها، والاستنشاق لنواسم أسحارها، والاستدلال بذرى أفنانها عليه، والوصول بسبب ذلك إليه، إنه ولي ذلك سبحانه، فطاب لعمري المنبت والنابت، وسما الفرع الباسق ورسا الأصل الثابت، وفاءت الأفنان، وزخرفت الجنان، وتعددت الأوراق والزهرات والأغصان، ولم أترك فنناً إلا جمعت بينه وبين مناسبه، ولا فرعاً إلا ضممته إلى ما يليق به، واستكثرت من الشعر لكونه من الشجرة بمنزلة النسيم الذي يحرك عذبات أفنانها، ويؤدي إلى الأنوف روائح بستانها، وهوالمزمار الذي ينفخ الشوق في يراعته، والعزيمة التي تنطق مجنون الوجد من ساعته، وسعة ألسن العشاق، وترجمان ضمير الأشواق
ومجتلى صور المعاني الرقاق، ومكامن قنائص الأذواق، به عبر الواجدون عن وجدهم، ومشى المحبون إلى قصدهم، وهورسول الاستلطاف، ومنزل الألطاف، اشتمل على الوزن المطرب، والجمال المعجب المغرب، وكان للأوطان مركباً، ولانفعال النفوس سبباً، فلا شيء أنسب منه للحديث في المحبة، ولا أقرب للنفوس الصبة، واجتلبت الكثير من الحكايات وهي نوافل فروض الحقائق، ووسائل مجالس الرقائق، ومراوح النفوس من كد الأفكار، وإحماض مسارح الأخبار، وحظ جارحة السمع من منح الاعتبار، وبعض الجواذب لنفوس المحبين، والبواعث لهمم السالكين، وحجتها واضحة بقوله تعالى:" وكلا نقص عليك " هود:120 في القرآن المبين، ونقلت شواهد من الحديث والخبر تجري صحاحها مجرى الزكاة من الأموال، والخواطر من الأحوال، ويجري ما سواها من غير الصحيح مجرى الأمثال، ليكون هذا الكتاب لعموم خيره، مسرحاً للفاره وغيره، ويجد كل ميداناً لسيره، وملتقطاً لطيره، ومحكاً لغيره، فمن فاق كلف بأصوله، ومن قصر قنع بفصوله، ومن وصل حمد الله تعالى على وصوله، وسميته روضة التعريف بالحب الشريف ويحتوي على أرض زكية، وشجرات فلكية، وثمرات ملكية، وعيون غير بكية.
والحب حياة النفوس الموات، وعلة امتزاج المركبات، وسبب ازدواج الحيوان والنبات، وسر قوله عز وجل {أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به الناس كمن مثله في الظلمات} (الأنعام:122) ليس كالحب الذي دون المدونون، ولعبت بكرة أقباسه صوالج الجنون، وقاد الهوى أهله بحبل الهون، وساقت فيه المنى لمنون، حين نظرت النفوس من سفلى الجنبتين، ورضيت الأثر عن العين، وباعت الحق بالمين، ولم تحصل إلا على خفي حنين، وارحمنا لعشاق الصور، وسباق ملاعب الهوى والهور، لقد كلفوا بالزخارف الحائنة الحائلة، والمحاسن الزائفة الزائلة، وسلع الجبانة، وبضائع الإهانة، أزمان التمتع بهم قصيرة، والأنكاد عليهم مغيرة، فتراهم ما بين طعين بعامل
قد، ومضرج بدم خد، وأسير ثغر قد أعوز فداؤه، وسقيم طرف قد أعضل داؤه، وما شئت من لل يسهر، ونداء به يجهر، وجيوب تشق، وبصائر تخطف أبصارها إذا لمع البرق، ونواسم تحمل التحيات، وخلع أيك تتلقى بخلع الأريحيات، وربما اشتد الختل، وأصابت النبل فكان الخبل، قلوب اشتغلت عن الله فشغلها الله بغيره، وهب الحب الجسماني لا تبعث عليه شهوة بهيمية، ولا تدعوإليه قوة وهمية، أليست الداعية مرتفعة، والباعثة منقطعة، وصورة الحسن دائرة، وأجزاؤه المتناظمة متناثرة أليس الجراب العنصري عائداً إلى أصله أليس الجنس مفارقاً لفصله ولله در علي رضي الله تعالى عنه، وقد نظر إلى قدح الماء وقد أراد أن يشرب، وعن الاعتبار أعرب، فقال: كم فيك من خد أسيل، وطرف كحيل! فأواه مكررة مرددة، ووالهفاه معادة مجددة، على قلب أصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها، ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحداً، وحسبنا مرارة الفراق ذلاً، وفقد النقد قلا، والغفلة عن الله شقاء محتوماً، والكآبة على الفائت شوماً:
صدني عن حلاوة التشييع
…
اتقائي مرارة التودريع
لم يقم أنس ذا بوحشة هذا
…
فرأيت الصواب ترك الجميع وإن كانت الشهوة فأخسس بها داعية، وإلى الفضيحة ساعية، حسبك من حمار يعلن بنداء المحبة نهاقه، ويقذفه على السباق اهتياجه إلى السفاد واشتياقه، أسير خبال، وصريع مبال، أولى له ثم أولى لوتأمل محاسن الجسوم، ما أكذب رائدها المطري، وأخبث زخرفها المغري، وأقصر مدة استمتاعها، وأكثر المساعي تحت قناعها:
على وجه مي مسحة من ملاحة
…
وتحت الثياب العار لوكان باديا (1) ما ثم إلا أنفاس تركد وتخبث، وعلل تنشأ وتحدث، وزخارف حسن تعاهد ثم
(1) ينسب لذي الرمة (ديوانه: 675) وقيل بل وضع على لسانه.
تنكث، وتركيب يطلبه التحليل بدينه، ويأخذ أثره بعد عينه، وأنس يفقد، واجتماع كأن لم يعقد، وفراق إن لم يكن فكأن قد:
ومن سره أن لا يرى ما يسوءه
…
فلا يتخذ شيئاً يخاف له فقدا
منغص العيش لا يأوي إلى دعة
…
من كان ذا بلد أو كان ذا ولد
والساكن النفس من لم ترض همته
…
سكنى مكان ولم يسكن إلى أحد وقلت وقد مات سكن عزيز علي أيام التغرب بسلا عظم جزعي عليه:
يا قلب كم هذا الجوى والخفوت
…
ذماءك استبق لئلا يفوت
فقال لا حول ولا قول لي
…
قد كان ما كان فحسبي السكوت
فارقني الرشد وفارقته
…
لما تعشقت بشيء يموت والزمان لا يعتبر، وحاصله خبر، والحازم من نظر في العواقب، نظر المراقب، وعرف الإضاعة، ولم يجعل الحلم بضاعة، إنما الحب الحقيق حب يصعدك ويرقيك، ويخلدك ويبقيك، ويطعمك ويسقيك، ويخلصك إلى فئة السعادة مما يشقيك، ويجعل لك الكون روضاً، ومشرب الحق حوضاً، ويجنيك زهر المنى، ويغنيك عن أهل الفقر والغنى، ويخضع التيجان لنعلك، ويجعل الكون متصرف فعلك، ليس إلا الحب، ثم الوصل والقرب، ثم الشهود، ثم البقاء بعدما اضمحل الوجود، فشفيت الآلام، وسقط الملام، وذهبت الأضغاث والاحلام، واختصر الكلام، ومحيت الرسوم وخفيت الأعلام، ولمن الملك اليوم والسلام، فالحذر الحذر، أن يعجل النفس سيرها، ويفارق القفص طيرها، وهي بالعرض الفاني متثبطة، وبنائي الثقيل مرتبطة، وبصحبة الفاني مغتبطة {أن تقول نفس
يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين. أوتقول لوأن الله هداني لكنت من المتقين. أوتقول حين ترى العذاب لوأن لي كرة فأكون من المحسنين} (الزمر: 56 - 58) وفي ذلك قلت:
أعشاق غير الواحد الأحد الباقي
…
جنونكم والله أعيا على الراقي
جننتم بما يفنى وتبقى مضاضة
…
تعذب بين البين مهجة مشتاق
وتربط بالأجسام نفساً حياتها
…
مباينة الأجسام بالجوهر الراقي
فلا هي فازت بالذي علقت به
…
ولا رأس مال كان ينفعها باقي
فراق وقسر وانقطاع وظلمة
…
قني ابعد من نيل السعادة يا واقي
كأني بها من بعد ما كشف الغطا
…
صريعة أحزان لديغة أشواق
تقلب كفيها بخيط موصل
…
رشيقة قد دون سبعة أطباق
فلا تطعموها السم في الشهد ضلة
…
فذلك سم لا يداوى بدرياق
بما اكتسبت تسعى إلى مستقرها
…
فإما بوفر محسب أو بإملاق
وليس لها بعد التفرق حيلة
…
سوى ندم يذري مدامع آماق
ولو كان مرمى الحزن منها إلى مدى
…
لهان الأسى ما بين وخد وإعناق
فجدوا فإن الأمر جد، وشمروا
…
بفضل ارتياض أوبإصلاح أخلاق
ولا تطلقوا في الحس ثني عنانها
…
وشيموا بها للحق لمحة إشراق
ودسوا لها المعنى وريداً وأيقظوا
…
بصيرتها من بعد نوم وإغراق
ومهما أفاقت فافتحوا لاعتبارها
…
مصاريع أبواب وأقفال أغلاق
وعاقبة الفاني اشرحوا وتلطفوا
…
بأخلاقها المرضى تلطف إشفاق
فإن سكرت واستشرفت عند سكرها
…
لماهية المسقى ومعرفة الساقي
أطيلوا على روض الجمال خطورها
…
إلى أن يقوم الوجد فيها على ساق
وخلوا لهيب الشوق يطوي بها الفلا
…
إلى الوجد في مسرى رموز وأذواق
فما هو إلا أن تحط رحالها
…
بمثوى التجلي والشهود بإطلاق
وتفنى إذا ما شاهدت عن شهودها
…
وقد فني الفاني وقد بقي الباقي
هنالك تلقى العيش تصفو ظلاله
…
وتنعم من عين الحياة برقراق
وما قسم الأرزاق إلا عجيبة
…
فلا تطرد السؤال يا خير رزاق وقد أخذ الكلام في هذا الافتتاح حده، وبلغ النهر مده، فلآخذ أثر هذا الذي سردت، في تقرير ما أردت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب؛ فنقول: ينقسم هذا الموضوع إلى أرض، وشجر غض، وكل منها ميسور جدة، وفن على حدة، ما شئت من مرأى ومستمع، فمن شاء أفرد ومن شاء جمع، فلنبدأ بالأرض والفلاحة، والتكسير والمساحة، وتعيين حدود تلك الساحة، ثم نأتي بالشجرة التي نؤمل جناها، وننظر إناها، ونجعل الزاد المبلغ معناها، قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هوخير مما يجمعون.
برنامج هذا الكتاب الذي يحصر الأجناس والفصول، ويرد الفروع إلى الأصول، ويسر الباحث عن مسائله بسبب الوصول، بحول الله وقوته:
خطبة الأعراس، وتوطئة الغراس، وتنحصر في جملتين:
الجملة الأولى: في صفة الأرض وأجزائها، وجعل الاختيار بإزائها، وفيها رتب:
الرتبة الأولى - رتبة الأطباق المفروضة، والاعتبارات المعروضة، وفيه مقدمة وأطباق:
المقدمة في تعيين الأرض المذكورة.
الطبق الأول: طيق القلب.
الطبق الثاني: طبق الروح.
الطبق الثالث: طبق النفس.
الطبق الرابع: طبق العقل.
الرتبة الثانية - رتبة العروق الباطنة، والشعب الكامنة، وفيها فصول:
الفصل الأول: في العروق المعدنية.
الفصل الثاني: في المقررات العينية.
الفصل الثالث: في المدبرات البدنية.
الفصل الرابع: في البحوث البرهانية.
الجملة الثانية: في صفة الفلاحة والعمل، المتكفل فيها بنيل الأمل، وفيها اختيارات:
الاختيار الأول: فيما يصلح للاعتمار من هذه الأرض، وفيه فصول:
الفصل الأول: في أرض النفس المطمئنة.
الفصل الثاني: في أرض النفس الأمارة.
الفصل الثالث: في أرض النفس اللوامة.
الاختيار الثاني: في محركات العزيمة، لاعتمار هذه الأرض الكريمة، وفيه فصول:
الفصل الأول: في الجذب وما يتصل بذلك.
الفصل الثاني: في الوعظ المثمر لليقظة.
الفصل الثالث: في ذم الكسل.
الاختيار الثالث: يشتمل على جلب الماء ليسقي هذه الأرض من عين العلم في جدولي العقل المحرر والنقل المقرر، وفيه مقدمة في فضل العلم وتعدد أجناسه، وفصول:
الفصل الأول: في جدول العقل.
الفصل الثاني: في جدول النقل.
الفصل الثالث: في مقدار الماء المجلوب، للفلح المطلوب.
الفصل الرابع: في غبار التكوين، وسبب التلوين.
الاختيار الرابع: في الحرث، وإخراج لبن هذه الفلاحة من بين الدم والفرث، وفيه أقسام:
أولها: القليب الأول.
ثانيها: القليب الثاني الذي عليه المعول.
ثالثها: في سكة الازدراع والتعمير، وهومظنة التثمير.
الاختيار الخامس: في تنظيف المعتمرة من الأرض الخبيثة، والجدر المعترضة والشعب المذمومة، وفيه فصول:
الفصل الأول: في إزالة شكوك تسبق إلى المعتقد غالباً.
الفصل الثاني: في قلع الشجر التي تضر بهذه الأرض وتعاديها بالطبع.
الاختيار السادس: في أمور ضرورية تلزم لهذه الفلاحة، وفيه فصول:
الفصل الأول: في أمراض يشرع في علاجها، مما يرجع لطبع الأرض ومزاجها.
الفصل الثاني: في اختيار أنواعها وأجزائها.
الفصل الثالث: في أقوال تليق بأفحاص الفلاح وإصحاره، عند ملاحظة عجائب الكون وآثاره.
الفصل الرابع: في الوقت المختار لغراسة الأسباب، في الحب اللباب، وتنحصر في مقدمة علمية، وجرثومة جرمية: المقدمة العلمية في ترتيب المحبة والمعرفة، الجرثومة الجرمية تنقسم إلى بيان يعطي الصورة، ويشرح الضرورة، وإلى بطن وظهر، وسر وجهر، وباسط، وبرزخ واسط، فالباطن الشرع والنقل، وينقسم إلى أصول:
الأصل الأول: الكلام في النبوة من حيث النقل.
الأصل الثاني: في الإيمان والاعتبار العامي.
الأصل الثالث: فيما يتبع ذلك من اليقظة والتوبة في حق غير المحتاج إلى ذلك.
الأصل الرابع: في تقرير العناية والتوفيق في حق غير المحتاج إلى ذلك.
الأصل الخامس: في الموعظة والسماع من حيث تهذيب الجميع، والظاهر الطبع والعقل، وينقسم إلى أصول:
الأصل الأول: جزء الفلسفة العلمي والعملي.
الأصل الثاني: سلامة الفطرة في حق المستغني عن ذلك.
الأصل الثالث: في معرفة الجمال والكمال.
الأصل الرابع: في الاعتبار الخاصي.
الأصل الخامس: السلوك بالفكر.
الأصل السادس: في التشبيه بالمبدأ الأول، باسط الذكر الباسط، والبرزخ الواسط، الصاعد من التخوم، إلى النجوم، وهومن أخص الأشياء بباطن الشجرة، وأصولها المعتبرة، ويشتمل على مقدمة وثلاثة أصول:
الأصل الأول: الأدعية والذكار، وله عشر شعب.
الأصل الثاني: أصل الأسماء، وهي أصول الأرض والسماء، وله تسع وتسعون شعبة.
الأصل الثالث: أصل السيمياء، وهوالذي عفن بعضه وبقي الانتفاع ببعضه.
العمود المشتمل على القشر والعود، والجنى الموعود، ينقسم قسمين:
قشر وخشب، ودر مخشلب، والقشر ظاهر يكسر ويخذو، وباطن ينمي ويغذو، فظاهره الذي يكسر ويخذويتضمن الكلام في المحبة وأقسامها من حيث اللسان، لا من حيث نوع الإنسان، وباطنه الذي ينمي، ويغذويتضمن الثناء على المحبة طبعاً وعقلاً، وشرعاً ونقلاً.
الخشب الذي يتخذ منه النشب ينقسم إلى أقسام:
القسم الأول: في الحدود والمعرفات، والأسماء الدالة عليها والصفات.
القسم الثاني: معقول معناها، المتجلي فيه نور سناها.
القسم الثالث: ارتباطها بالمقامات، واختصاصها فيها بالكرامات.
القسم الرابع: تبيين ضروريتها، وإيضاح مزيتها.
الفرع الصاعد في الهواء، على خط الاستواء، من رأس العمود القائم، إلى منتهى الوجود الدائم، ويشتمل على قشر لطيف، وجرم شريف.
القشر: الحدود للمعرفة والرسوم، وخواص العارف الذي هوالمعروف بها والموسوم، وينقسم إلى فصول:
الفصل الأول: في حدود المعرفة ورسومها وما قيل فيها.
الفصل الثاني: في أوصاف العارف.
الفصل الثالث: في تفضيل العارف.
الفصل الرابع: في علوم العارف.
والجرم الشريف، من الفرع المنيف، ينقسم إلى ظاهر، وباطن، وقلب.
فالظاهر ينقسم إلى أقسام: الكلام في الأخلاق ومنشئها وطباعها بحسب القوى النفسانية وإفراطها وتفريطها واعتدالها وعلاجها، وفيه المجاهدات.
والباطن يتضمن الكلام في أ، النظر إلى وجه الله تعالى هوالسعادة الكبرى بكل نظر واعتبار.
والقلب قلب الغصن يتضمن الرياضة والسلوك على المقامات كلها، ويتفرع منه عشرة غصون.
الغصن الأول: غصن فروع البدايات.
الغصن الثاني: غصن فروع الأبواب.
الغصن الثالث: غصن فروع المعاملات.
الغصن الرابع: غصن فروع الأخلاق.
الغصن الخامس: غصن فروع الأصول.
الغصن السادس: غصن فروع الأدوية.
الغصن السابع: غصن فروع الأحوال.
الغصن الثامن: غصن فروع الولايات.
الغصن التاسع: غصن فروع الحقائق.
الغصن العاشر: غصن فروع النهايات، ولكل فروع أوراق، ويلحق به صورة السلوك بالذكر حتى يتأتى الوصول، وعلى المقصود الحصول، والكلام على زهرات الطوالع واللوائح والبواده والواردات، ونختم بالجنى، المقترن بنيل المنى، وهي الولاية.
تفرع ضخام الغصون، من شجرة السر المصون، وهي:
غصن المحبوبات وأقسامها، وتنقسم إلى أربعة أفنان:
الفن الأول: فن الرب المحبوب.
الفن الثاني: فن العبد المحبوب.
الفن الثالث: فن الدنيا المحبوبة.
الفن الرابع: فن الآخرة المحبوبة.
غصن المحبين، وأصنافهم المرتبين، ينقسم إلى مقدمة بيان، وستة أفنان:
الفن الأول: في رأي الفلاسفة الأقدمين.
الفن الثاني: في رأي أهل الأنوار والإشراقيين.
الفن الثالث: في رأي الحكماء الإسلاميين.
الفن الرابع: في رأي المكلمين بزعمهم المتممين.
الفن الخامس: في أهل الوحدة المطلقة من المتوغلين.
الفن السادس: في الصوفية سادة المسلمين.
غصن علامات المحبة، وشواهد النفوس الصبة، وينقسم إلى ثلاثة أفنان:
الفن الأول: فيما يرجع إلى حقوق المحبوب.
الفن الثاني: فيما يرجع إلى باطن المحب.
الفن الثالث: فيما يرجع إلى ظاهره.
غصن اختيار المحبين في ميدان جهادهم، وتباين أحوال أفرادهم، وهوثلاثة أفنان: الفن الأول: فن المجاهد الصريح.
الفن الثاني: فن المنبت الجريح.
الفن الثالث: فن الصريع الطريح.
جوائح الشجرة، ومضار فلاحتها المعتبرة، وينقسم إلى جوائح من نسبتها، بالنظر إلى مائها وتربتها، وإلى ما هوراجع إلى الخواطر - وهي على عدد الرياح - وإلى ما سببه غفلة الفلاح، عذر الطائر الصادح، على فرض القادح، ووجود الهاجب والمادح.
صورة الشجرة ذات الحسن الباهر، والجنى والأزاهر، وآثارها للحسن الظاهر، بفضل المريد القاهر، لا إله إلا هوسبحانه له الحمد؛ انتهت الخطبة التي تدل على ما وراءها.
وقال رحمه الله تعالى في آخر هذا الكتاب ما نصه: ونختم الكلام في هذه الشجرة والاستدلال على شرف هذه الفلاحة الضمنية بهذه الأبيات:
فلاحتنا لها القدح المعلى
…
وسرحتنا الضمنية للنجاح
ألست ترى منادي الخمس نادى
…
بمختلف الجهات أو النواحي
يردد في الأضان لكل واع
…
على الآذان حي على الفلاح وهذا طائر على الشجرة صادح، ولاحق كادح، ومعتذر إن قدح قادح، وتعارض هاج وما دح. قال المؤلف: ولا بد لنا من دري صادح على هذه الأفنان، وشاد يهيج أشجان الجنان، ويثير شجوالرأفة والحنان، ويبين مجال الضرورة لذوي الاتصاف، بكرم الأوصاف، والناظرين إلى الهنات بعيون الإنصاف، فيرحم من قد كان شره النقد، ويعذر من تشوف لاستضعاف هذا القصد
والأعذار التي تقرر عنا هذا الطائر عديدة، ومبدئه في الصدق معيدة، وقريبة من الحق لا بعيدة، فمنها أن هذا الفرض اليوم بأكثر الأرض، ميدان عدم فيه ولا حول ولا قوة إلا بالله من يجيل (1) كما يحب جواداً، ونفير لا يجيبه إلا من يكثر سواداً، قد طمست الأعلام، وسقط الحمد والملام، وما لجرح بميت إيلام، فمدلول هذا الفن بهذه التخوم عنقاء مغرب، وإكسير يحدث عنه غير واصل ولا مجرب، إنما يرجع فيه إلى كتب مقفلة، وأغراض مغفلة، وما عسى أ، يعول المسكين مثلي على قاصر إدراكه، مع اقتسام باله واشتراكه قصر العلم والعمل، فاختلط المرعي والهمل، وأخفق المسعى وخاب الأمل، ومنها شواغل الدنيا التي اختطفت من المكاتب، وموهت بالمراتب، ولقبت بالوزير والكاتب، وأقامت العبد الذي لا يملك شيئاً مقام العاتب، ومن كان بهذه المثابة وإن عد يقظاً حازماً، ونحريراً خالماً، فإنما هوغريق، وتائه لا يبدوله طريق، ولا ينساغ له ريق، ولا يطفأ ببرد اليقين منه حريق، ولا يربع عليه من قصاد الله تعالى فريق، ونستغفر الله، فالذي ألهم لهذه العيوب، يتكفل بإصلاح القلوب، ومكاشفة الغيوب، وإن كانت النفوس للحق جاحدة، فما أمري إلا واحدة:
لا تعجبن لطالب نال العلا
…
كهلاً وأخفق في الزمان الأول
فالخمر تحكم في العقول مسنة
…
وتداس أول عصرها بالأرجل ومنها الاشتغال بالهذر، عن اعلم والنظر، منذ أزمان عديدة، ومدد مديدة، فلم يبق مما حصل، وإليه مما في الزمان الديم توصل، إلا رسم بلقع، وسمل (2) ما له مرقع، ومنها أنني لم أنتدب إلى هذا الوظيف الذي قل من يتعاطاه، ويثير قطاه، ويقتعد مطاه، من تلقاء نفس جاهلة ببعد مداه، ومطل جداه، ومطالبة مدعيه بما كسبت منه يداه، فلا يتجاوز طوره ولا يتعداه، وإن طالب الحق من شرط وصوله، سلب فصوله، وحالة موته، وانقطاع حسنه فضلاً عن صوته،
(1) ق: بخيل.
(2)
ق: شمل.
لكني خضت على عدم السباحة غمراً، وامتثلت مع سقوط الاستطاعة أمراً، وجئت بما في وسعي اقياداً وامتثالاً، ومثلت مثالاً، فضرورتي بفضل الله تعالى مشروحة، والدعوى عن كتفي مطروحة، وعلى ذلك فقد علم الذي يعلم الأسرار، ويقرب الأبرار، ويقيل العثار، ويقبل الأعذار، أن مدة الاشتغال به لم تجاوز شهرين اثنين، بين كتب وكتم، وابتداء وختم، مع ما يتخلل الزمان من حمل لورمي به رضوى لتدعدع، أوأنزل على ثبير لخشع من خشية الله تعالى وتصدع: مداراة عدوقد تكالب على الإسلام، وسياسة سواد صم عن الملام، وتعدى حدود النهي والأحلام، وارتقاب هجوم جيش الآجال وراية الشيب من الأعلام، وقد أنذر بالفجر انقشاع الظلام، وكاد يصعد الخطيب فينقطع الكلام، جعلت لنقله حصة من جنح الظلام الغاسق، والليل الواسق، وعاطيت حمياه نديم الغارق (1) ، وتعرضت لاقتناص خياله الطارق، وسرقته من أيدي الشواغل والليل معين السارق، ولم يعمل فيه عبد القيس (2) نظراً معاداً، ولا أنجز من تصحيحه علم الله تعالى ميعاداً، إنما هوكراس يفرغ من تسويده رجراج الحبر، مختلط الترب بالتبر، فيدفع ملوم الماسخ، إلى يد الناسخ، وكلفة المتثاقل، إلى كف الناقل، وتقذف صحيفته من الزبرة إلى لاصاقل، إذ كان الآمر - أيده الله تعالى ونفعه - حريصاً على تعجيل المعارضة، ومتحرياً سبيل الشرع في هذه المصارفة والمقارضة، والجفن المشرق يعلن بالتبريح، وينتظر مساعدة الريح، فمن وقف عليه من فاضل أنار الله بصيرته، وجبل على الإنصاف سيرته، أومن كان من أهل الله الذي يعلم أن ما سوى الله تعالى ظل وفيء، ويتحقق معنى قوله " ليس لك من الأمر شيء "، فقد أوجب الإنصاف أن يمحواقترافي باعترافي، ويغطي أوصافي بإنصافي، والرحماء يرحمهم الرحمن، وقد عذر القنبرة سليمان، ومع
(1) كذا، ولعل صوابه " العاتق " أي الخمر القديمة أو الشراب الجيد.
(2)
حقه أن يقول عبد قيس، لإشارته إلى قول الشاعر:
أعد نظراً يا عبد قيس فإنما
…
أضاءت لك النار الحمار المقيدا
الاستسلام الأمان، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ولا بأس أن يعرض بتلك لاأخونة الخصيبة المثوى والمروج، والحمل والفروج، وفي السماء البروج، وفي الأرض الفروج، والأعرج يستندر منه العروج، ونمد الأيدي المستعملة في التقصير، إلى الولي النصير والناقد البصير. اللهم استر بسترك فضائحنا المخلفة، وقبائحنا المجمعة المؤلفة، فهوكله تحويم حول حماك، ودندنة يا كريم بباب رحماك، وزند أنت قدحته، وتألق بارق أنت ألحته، فصل السبب يا واصل الأسباب، واجعلنا ممن تذكر فنفعته الذكرى وما يتذكر إلا أولوالألباب، اللهم دل نفوسنا الحائرة على عين الخبر، واجذبها إلى المؤثر بزمام الأثر، اللهم اجبر الضالة المثقلة الظهر، وارفع عنها ملكة القهر، وحيطة الدهر، والسفر من بلد السر إلى بلد الجهر، اللهم أعلق بعروة الحق أيدينا الخابطة، وأظفر بعدوالهوى عزائمنا المرابطة، اللهم أوصل سببنا بسببك، واحملنا إليك بك، لا إله إلا أنت، وصل على عبدك ونبيك محمد خاتم النبيين والمرسلين وآل والصحابة أجمعين انتهى.
وقال - رحمه الله تعالى - آخر بعض تراجم هذا الكتاب ما صورته: خاتمة تشتمل على إشارات، وتختال من الحق في شارات، قال بعض من يطأ بمطية السلوك، حمى الملوك، وينقض زوايا الغيوب، عن المطلوب، ببصر بصائر القلوب: شهدت أصناف المحبين والعشاق، على اختلاف البلاد وتباين الآفاق، لا أدري أقال كشفاً وشهوداً أووجوداً أويقظة أوهجوداً، وقد ركضوا مطايا الأشواق، وضربوا آباطها بعصي المشارب والأذواق، وتزودوا أزواد الحقائق، وودعوا أحباب العوائد والعلائق، وتساهلوا في المحبوب اعتراض العوائق، وتفاضلوا في اختيار الجواد واقتحام المضايق، والطرق إلى اله تعالى عدد أنفاس الخلائق، فمن خابط عشواء، ومسقط أهواء، يقول:
يا ليت أني أوقد النارا
…
فإن من يهواك قد حارا (1)
(1) حور في قول عدي بن زيد:
يا لبيني أوقدي النارا
…
إن من تهوين قد حارا
فيجيبه الصدى:
ومن طلب الوصول لدار ليلى
…
بغير طريقها وقع الضلال ومثبت بحيث لا يبدوعلم، ولا يقتص خف ولا قدم، في مفازة وجود من حلها عدم، وهويصيح:
بأبي وأمي والذي ملكت يدي
…
أفدي الذي يهدي الطريق اللاحبا ثم يقول:
ولقد سريت إليك لكن حين لم
…
يكن الدليل أجل قصد السالك ومن طاونفذ زاده، وفرغ مزاده، قد استسلم، وعجز أن يتلكم، ولسان حاله ينشد:
إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصداً
…
ندمت على التفريط في زمن البذر وراكض يقطع الدو، ويعرف بالجو، يثبت الأعلام الخافية، ويقصد الموارد الصافية والظلال الضافية، حاديه أمله، ودليله علمه والراحلة عمله، ينشد بأعلى صوته:
قرب اللقاء فكيف لا ترتاح
…
للقاء سكان الحمى الأرواح وفرانق يركض البريد، ويصحب التفريد، بلغ الطية، وأناخ المطية، قبل وصول الرفقة البطية:
سرى سلخ شهر في فواق حلوبة
…
فلله ما أنأى سراه وما أدنى {لوطلعت عليهم لوليت منهم فراراً ولمئلئت منهم رعباً} (الكهف: 18) .
وقلت:
نهضوا وقد جن الدجى وتخالفت
…
سبل الردى فمسددون وضلل
سلني عن المنبت حين تقطعت
…
أسبابه تيهاً ولا من يسأل
قوم سطت بهم السباع، وفرقة
…
عطشوا، وأين من الظلماء المنهال
لفح الهجير وجوههم بسعيره
…
فتهافتوا ببلالة وتعللوا
وجماعة ركبوا المفاوز دائماً
…
عثروا على أثر فشط المنزل
وركائب جعلوا الدليل أمامهم
…
وسروا ففازوا بالذي قد أملوا
والليل متلفة، ومدرجة الهوى
…
لا يستقل بها المطي الذلل
والواصلون هم القليل وكيف تقحموا
…
خطر النوى وعلى الشدائد عولوا
طارت بهم أشواقهم فعقولهم
…
معقولة عن شأنها لا تعقل
عذراً لكم يا أهل عذرة شأنكم
…
سلمت فيه لكم فقولوا وافعلوا حتى إذا خرجوا إلى قضاء القدر المشترك، وأفلت من أفلت من الشرك، وسلم من قتيل المعترك، وأشرفوا بركاب الآمال، على ثنية الجمال، زعقوا بإزاء الباب، ونادوا من وراء الحجاب:
كل كنى عن شوقه بلغاته
…
ولربما أبكى الفصيح الأعجم وأوصلوا رقاع شكواهم، بسر هواهم، وبرزوا صفاً، واستظهروا بشفعائهم التي ظنوا أنها لا تخفى {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} (الزمر:3) وقد تعينت الأوصاف وتميزت، وانتبذت الأصناف وتحيزت، والعشاق نجت وسلمت، مذ علمت، منهم الصفوة والمجان، والحرافيش والبهلوان، ممن يعول على ذراعه، وملء كمته وصواعه، وطول باعه، وصلابة طباعه، وسلاطة لسانه، وامتزاج إساءته بإحسانه، شأنه البحث عن المحبوب، مع الشروق والغروب، والتوصل إلى وصله المطلوب، بالحركة الرشيقة واللفظ الخلوب، ومن اتسم بإذاعة الأسرار، وصحبة الشرار
واللسان المهذار، حسب من الأغيار، ونمهم بذاة، ليس لهم إلا المنادمة أدة، تعذر عليهم تميز المحبوب فغلظوا، وعكفوا على تنزيهه فأفرطوا:
ربما ضر عاشق معشوقا
…
ومن البر ما يكون عقوقا وغلبت على سجيتهم السلامة، ولم تنلهم لعدم الموصل والمعرف الملامة، وليس لقبول عليهم علامة؛ ومنهم من شعاره الحشمة، ولزيمه العاف والعصمة، أولوالحياء والوقار، والكتم للأسرار، ومخالطة الأبراب، والتوسل إلى المحبوب بالافتقار، وصفاء الضمائر من الأكدار، لا تختلجهم الشواغل، ولا يطرق شرابهم الواغل (1) ، أغنتهم الشواهد عن الدعوى، وأصمتهم الرضى عن الشكوى، وتقسمت معاملاتهم الآداب، وصح منهم إلى مراتب المراقبة الانتداب، والناقد بصير، وكلام النيات قصير؛ ونمهم المغلوب الحال، المحمول من فوق الرحال، رقص وشطح، وسكر فافتضح، فهوبلخ الرفقة، وملوع الحرقة، دعني وعبدي بلخ، فإنه يضحكني سبع مرات في اليوم؛ ومنهم من لم يأخذه نعت، ولا تعين له فوق ولا تحت، ولا حمد ولا مقت، ولا حين ولا وقت، لونطق لقال: أنا المعدوم الموجود، والشاهد المشهود {ألا بعد لمدين كما بعدت ثمود} (هود:95) .
قضى وصلها لي، وابتلاكم بحبها
…
وهل يأخذ الإنسان غير نصيبه ولم يكن إلا أن خرجت الرقاع، وفضلت البقاع {ووفيت كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون} (آل عمران: 25) .
فكان في رقعة طائفة: أعود بالله من الشيطان الرجيم {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً، أومن وراء حجاب، أويرسل رسولاً
(1) الواغل: المتطفل على الشراب، يكنى به عن الدخيل في فريق أهل الحياء من السالكين.
فيوحي بإذنه ما يشاء} (الشورى: 51) قلدتم العقل وله طور، ورأيتم الحركات لا يتناهى لها دور، وعالم الجزئيات لا يسبر له غور، وحور المعاد في بعض الفروض لا يكون له كور (1) ، ويا شر ما أصبحتم في المعاد الأول تعتقدونه، أن جعلتم التصرف في عالم الملك لمن دونه، قفوا مكانكم، ولوموا أنفسكم ودعوا شأنكم (2) .
وكان في أخرى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً " الحديد:13 أساطين الحكمة المشرقية، وفراش الأنوار الحقيقية، دعونا من استكثار الأنوار، واحتشاد الأطوار، الحق نور إرشاد لا يطيق حسن ذاته، إلا من ركب ظهر شتاته، فارفعوا الكلف، واذكروا مجرى من تقدم وسلف.
وكان في أخرى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " قل الله، ثم ذرهم في خوضهم يلعبون " الأنعام: 91 لم تتركوا البراهين على أصلها، ولا ناسبتم جنس هذه الموضوعات بفصلها، وأثرتم شغباً طويلاً، وأوسعتم المتشابه تأويلاً، ولم تعتمدوا من العقل دليلاً، ولا وقفتم في مجازات العقول قليلاً، وهولتم باصطلاح غيركم تهويلاً، وادعيتم الشهود ولم يجعل اله تعالى في الاحتجاج به إلا لأنبياء سبيلاً، وبنيتم الحقائق على قياس ونظر، من غير عين للعقل والنقل ولا أثر:
رب خل أدار فيّ اعتقاداً
…
لم أكن قبله عرفت بفنه
حكمت نفسه على علم غيبي
…
جعل الله باطني عند ظنه وعسى أن تكونوا ممن أخطأ في اجتهاده فأثيب، واستغفر فسمع " لا
(1) الحور: النقصان، والكور: التمام.
(2)
ق: ولوموا مكانكم والزموا شانكم.
تثريب "، فثمرتكم صحيحة، والمقاصد من التبعة مريحة، إذا كانت صريحة، ولولا الافتيات، لوضحت في ميدان السبق لكم الشيات، لكن شأنكم الهذيان، وقلبت منكم بضعفائكم من المتأخرين الأعيان، كابن قسي وابن برجان (1) ، فتبرأوا من أتباعكم المطيفة، وأحزابكم المخيفة، وأخلصوا فعل الأنصار يوم قتال بني حنيفة، وحبذا الحكم المقتدي، ومن يهد الله فهوالمهتدي، واكبحوا الألسن عن طلاقتها وذلاقتها، ولا تكلفوا العقول فوق طاقتها، فلا بد من توقيف وتسليم، وفوق كل ذي علم عليم، وإذا محيتم فاثبتوا، أونطق إنسان فاسكتوا، ولا ترضوا أن تكتبوا مع الذين كبتوا، ولكم الحظ السني، والوصل الهني.
وكان في أخرى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين، ما خلقناهما إلا بالحق " الأنبياء:16 ذهب بوجودكم العدم، وابتلع حدوثكم القدم، ورضيتم بالإشراف، في الاستشراف، والتوغل لزيم الانحراف، ومن جعل الحس وهماً، فقد كابر العيان ظلماً، والعقل الذي غلطكم هوآلة حكمكم، وأداة علمكم، والعوالم أوثق من أنتكون تمويه راقش، والوجود المطلق أبسط من أن تصير أبا براقش (2) ، ثم ما لكم والتبجح والتشبع (3) ، والتعقب والتتبع، ولم يغن العراك، ووقع في ثمرتكم الاشتراك، فالفيلسوف يتحد بالعلة القريبة من الخلق، ثم يتلاشى في ذات الحق، والحكيم يجوز إلى عين الحق رتبة الفناء المطلق، والمتشرع قد
(1) ابن قسي: ثار في أعقاب دولة المرابطين وتسمى تلك الثورة " ثورة المريدين " وكان شيخاً من مشايخ الصوفية وهو صاحب كتاب خلع النعلين، وقد انتشرت طريقته بشلب وكثر خوض أتباعه في الكتب التصوفية وموضوعات الغلاة من الباطنية؛ وأبو الحكم ابن برجان أيضاً من المتصوفة، وقد غربه علي بن يوسف اللمتوني وتوفي بمراكش سنة 537 (انظر أعمال الأعلام: 248 - 252) .
(2)
أبو براقش: رمز للتلون، وهو اسم طائر يتنفس فيتغير لونه.
(3)
التشبع: أن يدعي المرء ما لا يحسن.
عضده ونصره، كنت سمعه وبصره، وإن كان معظم القول الهذر، ففيكم بعد نظر.
وكان في أخرى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا، وإن الله لمع المحسنين " العنكبوت: 69 أنتم الأحباب، ولكم يفتح من الجنان (1) الأبواب، ركبتم ظهور الأعمال، وركب غيركم ظهور الآمال، وفزتم بسحب الأذيال، ومن دونكم يحوك عناكب الخيال، فبدايتكم الأساس الوثيق، الذي يبنى عليه التحقيق، ونهايتكم إليها ينتهي الطريق، وبها يحط فريق الله تعالى ونعم الفريق، أولكم المقرب المدرب، وأوسطكم الفرد المعرب، وآخركم الولي المقرب، حضرتم بذكر محبوبكم حتى غبتم، فهينئاً لكم طبتم، حواس مسدودة، وخيوط أفكار كلها ممدودة، ومشاهد مشهودة، ومغلطات تتجاوز حراسها، وقواطع معترضة بحل مراسها، إلى أن لا توجد تقية، ولا تبقى بقية، عند تجلي المعالم الخفية، لواشتمل العلم على عملكم، لكان الكل من هملكم، بحيث تتعين المراتب وتتميز، وتتقرر المشارب وتتحيز، لا يعترض قاطع إلا وقد علم شأنه، وتعين وقته ومكانه، ولا تمثل غاية إلا ودرجها محدودة، ومراحلها معدودة، ومشاهدها قبل دخول الطريق مشهودة، فهناك تطوى المراحل، ويلوح في اللمحة القريبة الساحل، ويأمن طول الطريق الواصل.
وكان في رقعة المحبين الذين قربوا قبل هذا اليوم وأدخلوا من بعد ما تخيروا للاصطفاء وانتخلوا: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين، ذرية بعضها من بعض،
(1) ق: الجناب.
والله سميع عليم " آل عمران:33، 34 أنتم الأحباب، ولباب الألباب، وبوساطتكم اتصلت بين النفوس وبين الحق الأسباب، لولاكم لم يفتح الباب، فلا يصل إلا من أوصلتم، ولا يحجب إلا من قطعتم وفصلتم، أنتم الرعاة والخلق الهمل، وأنتم الدعاة لمن يريد نيل الأمل، مهدت لكم سرر القرب تمهيداً، وبعثتم إلى الناس ليوحدوا الله توحيداً " ولتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً " البقرة: 143 فطوبى لمن أصاخ منكم إلى ندا، واستضاء بنور هدى، صلوات الله عليكم أبداً، أنتم أولوالألوية المعقودة، والعساكر المحشورة المحشودة، ورؤساء أهل المحبة، وأدلاء مبتغي الوسيلة والقربة، ومسالككم قد بينتها الصحف المنزلة، والملائكة المرسلة، ودخلت على العذارى خدورها، وعمت السماء وبدورها، وأغنت عن تقرير نحلها المكاتب المائجة بالصبيان، والسنن المعقودة لها حلق التبيان، والقواعد المفترضة على الأعيان، والخزائن المرصوصة بعلوم الأديان " اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام ديناً " المائدة:3 وقيل لأتباعهم من الجمهور، وأقطاب فلكهم المشهور: على قدر أتباعكم، مناقل أبواعكم، وبحسب اقتدائكم، يكون سماع ندائكم، والمهاد لمن وثره " ومن يعمل مثقال ذرة خيراً يره " الزلزلة:7 وتأخيركم في التوقيع هوالتقديم، و " ساقي القوم آخرهم شربا " مثل قديم؛ قال المخبر: فرأيت وجوههم قد تهللت، ونواسم المسرات نحوهم قد أقبلت؛ ومن سواهم من خالص وزائف، بين راج وخائف. وسمعت أن طائفة استدعيت بحث حفي وأدخلت من باب خفي، قيل لهم: هم أصحاب الخبر المكتوم، وأرباب المقام غير المعلوم، جعلنا الله تعالى منهم برحمته:
ولولا الحب ما قطعوا الفيافي
…
ولولا الحب ما قطعوا البحارا
فدعهم والذي ركبوا إليه
…
وبحثاً عن خلاصك واختبارا
فلا تشغل بحب ديار ليلى
…
ولكن حب من سكن الديارا (1) وقال قبل هذه الخاتمة بعد كلام كثير ما نصه: وقد أتينا على ما شرطنا من تقرير ما أمكن من هذه الآراء، وهم ما بين سابق للخيرات ومقتصد وظالم لنفسه، ومع ذلك مخبون، وعلى آثار الحبيب مكبون، ما كل طريق توصل، ولا كل تجارة على الربح تحصل، ومن العشاق مهجور ومطرود، وموصل وموعود، ومغبوط ومحسود، ومحروم ومجدود، ومرحوم ومردود:
يا غايتي، ولكل شيء غاية،
…
والحب فيه تأخر وتقدم
قل لي بأي وسيلة يحظى بما
…
يرجوه غيري من رضاك وأحرم ورقة: ولكل دائرة مفروضة، وهالة حول قمر الحق معروضة، تعود الخطوط من محيطها المسدد، إلى مركزها المحدد: فالفيلسوف يروم التشبث بالعلة الأولى، ويعني بها ذات الحق، أوأن يتحد بالثانية، وهي مرآة وجه الحق؛ والإشراقي يروم التجوهر بنور الأنوار المعبر عنه بالحق، والاتصال به إما بواسطة من الحق أوبغير واسطة من الحق؛ والحكيم أن يؤديه فكره إلى الحق، ثم يفنى في الحق، ثم يبقى بالحق، والمتشرع أن يجن في جنة الحق، ويحصل على جوار الحق، وينظر إلى جوار الحق؛ وصاحب الوحدة المطلقة أن يكون المتفرق عين الحق، فسبحان الحق، المعبود بالحق، الموجد الجمع في الفرق، لا إله إلا هو. وزيد في هذا المحض الذي كثر في قربه الدعداع (2) ، وطال على الرؤوس منه الصداع، ما تفرد له المقالة المختصرة، والعناية الميسرة، بحول من لا حول ولا قوة إلا به. انتهى.
وقال رحمه الله تعالى في عد ما عدد من فرق الاعتزال ما نصه:
(1) حور قول الشاعر:
وما حب الديار شغفن قلبي
…
ولكن حب من سكن الديارا (2) الدعداع: العدو فيه بطء والتواء.
الحب حركهم لكل جدال
…
والحب أقحمهم على الأهوال
والحب قاطع بينهم وأضلهم
…
عن نيل ما راموه كل ضلال
والحب أنشأ فيهم عصبية
…
بالقيل أضرم نارها والقال وإنما استكثرنا من ذكرهم عبرة لمن تأمل حركات هذا الفراش المختلف الآراء عن ذبال الحق، يبتغون إليه الوسيلة، قوم بالطاعة، وقوم بالمعصية، وما منهم إلا مدع في المحبة متهالك، حريص على السعادة بزعمه " وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة " الغاشية:2 ممن قصد الحق فأخطأه، وأراد الصواب فضل عنه، واشتهر بالحكمة بعد في الملة الإسلامية جماعة بالمشرق والأندلس، فمن المشارقة: أبوالفرج (1) ، ويعقوب الكندي، وحنين بن إسحاق، وثابت بن قرة، فكان عندهم مباشرتها من حيث الترجمة والمزاولة، إلى أ، قال: ومن أهل الأندلس: محمد بن مسعدة السرقسطي، وأحمد بن طاهر الطرطوشي، ويحيى بن عمران القرطبي، وطفيل بن عاصم، وكليب بن همام البياسي، والحسن بن حرب الداني، وابن مسرة، ومسلمة المجريطي، وأبوبكر ابن الصائغ، وأوبكر ابن طفيل، وأبوالوليد ابن رشد (2) ، وكل هؤلاء المتقدمين والمتأخرين محب عاشق مستهلك، قال الشاعر:
وعلي أن أسعى ولي
…
س علي إدراك النجاح
حيارى يميد بهم شجوهم
…
كأنهم ارتضعوا الخندريسا
(1) أبو الفرج هو عبد الله بن الطيب وسنترجم له بعد صفحات.
(2)
قد جمع لسان الدين هنا عدداً من المشتغلين بالحكمة من الأندلسيين وإذا استثنينا آخر خمسة ذكرهم وجدنا البقية ممن لم يعرفوا معرفة واضحة.
إذا لم يكن عون من الله للفتى
…
أتته الرزايا من وجوه الفوائد (1)" ولوشاء شربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم، وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين " هود:118 " فريقاً هدى، وفريقاً حق عليهم الضلالة " الأعراف:30 " قل سيروا الحجة البالغة، فلوشاء لهداكم أجمعين " الأنعام:149 والخلق قد مدوا أبصارهم وآمالهم، وتحركوا طوعاً وكرهاً يعشون إلى نور الله تعالى، فمن أعمى أصم لا يسمع ولا يبصر، وأعمى فقط يجتزئ عن العيان بالمخبر، وأحول يبصر الشيء شيئين، والواحد اثنين، كما قال الشاعر:
أحوى الجفون له رقيب أحول
…
الشيء في إدراكه شيئان
فيلوح في عيني منه واحد
…
ويلوح في عينيه منه اثنان
يا ليته ترك الذي أنا مبصر
…
وهو المخير في الحبيب الثاني وضعيف لا يبصر من بعيد، وأجهر لا يبصر من قريب، وأعشى تكثر في عينيه الأشعة، وربما تندر، وزرقاء اليمامة:
سبحان من قسم الحظو
…
ظ فلا عتاب ولا ملامه (2)
أعشى وأعمى، ثم ذو
…
بصر، وزرقاء اليمامه
لولا استقامة من هدا
…
هـ لما تبينت العلامه
ومجاور الغرر المخي
…
ف له البشارة بالسالمة أقام سبحانه الحجة، وفرق بين الأمر والإرادة، وأعطى الكفاية من القدرة {فمنهم مهتد، وكثير منهم فاسقون} (الحديد:26) اقتصرنا من هذا البحر
(1) البيت لأبي فراس الحمداني، ديوانه: 83 وفيه: " وإذا كان غير الله لمرة عدة ".
(2)
قد أورد المقري هذه القصيدة في المجلد الأول: 7 وانظر مقدمة المحقق: 14.
على نقطة، ومن هذا الودق على فطرة:
ومن يسد طريق العارض الهطل (1)
…
عد الحصى والقطر ليس يرام
…
وذكرنا الرسل والأنبياء والأتباع ذكراً من غير تبويب ولا تعيين، لشياع آرائهم، والعلم بمقاصد مللهم، وأغراض دعواتهم، من توحيد الله تعالى وتنزيه وصفاته وأسمائه، وكيف يحشر الناس ليوم لا ريب فيه " ولتجزى كل نفس بما كسبت " الجاثية:22 وتعليم طرق النجاة، وإيضاح سبيل الله تعالى، والتحذير من الغفلة عمن إليه الرجعى، وله الآخرة والأولى، والتخويف من كل ما يقطع عنه، والترغيب فيما يوصل إليه وشأن الرياضة والتدريج في أحوالها حتى تنتقل من الظواهر إلى البواطن، وتسري في الخلف من السلف، والندب إلى الاقتصار على الضرورة والقناعة بالبلاغ، وتبين الرسم فيها، والتعيين لحدودها، قد تضمنت ذلك كله آيات الله الاتي تكفل بحفظها، وسنة رسوله التي قيض مناخل الصدق لتصحيح نقلها، فالمكاتب - والمنة لله تعالى - مائجة، والمدارس حافلة، فما لنا والإطالة في الموجود الذائع، والمشهور الشائع:
والشمس تكبر عن حلي وعن حلل
…
فهي الدراري في التقليد بالدرر
…
ما أغنى الشمس عن مدح المادح، تحصيل الحاصل عناء {هوالذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولوكره المشركونؤ (التوبة:33) .
فلنذكر بعض أرباب الآراء من قريب وبعيد، وخلق جديد، على صورة
(1) للمتنبي، وصدره: وما ثناك كلام الناس عن كرم.
المثال المفروض وليكون كعرض الحبوب الذي تجزئ منه الفنة عن الجفنة، والقربة عن القرية (1) ، ونقتصر على اليسير لإقامة الترتيب، وإحكام التبويب، وليرى الواقف عليه أننا قد نفضنا الزوايا، ورشفنا الروايا، وامتككنا العظام (2) ، واستقصينا النظام، حرصاً على نشيدة الحق أن تعقل، وعلى الطباع أ، تنقل، وعلى المراثي الصدئة أن تصقل، وعلى صورة النجاة أن تمقل، ونسأل الله تعالى هذاية توصل إليه، لا إله إلا هوالرحمن الرحيم؛ انتهى.
وقال رحمه الله تعالى فيما قبل هذا الكلام بكلام ما صورته: غصن المحبين، وأصنافهم المرتبين، ويتمل على مقدمة بيان، وستة أفنان.
فالمقدمة
…
فنقول: أصناف المحبين والعشاق كثير، وهباء نثير، وجراد أثارها مثير، بحيث يشق إحصاؤهم، ولا يتأتى استقصاؤهم:
فقلت كما شاءت وشاء لها الهوى:
…
قتيلك، قالت: أيهم فهم كثر (1) ثم مد النفس بما لا يقتضي المقام الاختصاري ذكره في هذا الموضع.
وقال رحمه الله تعالى ف يبعض تراجم الروضة، وهي الخاتمة التي تنبه النفوس الصقبة، على حكم المحبة " ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة " الأنفال:42 بعد كلام ما صورته: فقر في معنى هذه الخاتمة فيها حكم تنثال، وتجري مجرى الأمثال:
المحبة بحر بعيد الشط، وخط والفناء منتهى الخط " إنا عرضنا الأمانة - إلخ " الاحزاب:72.
المحبة مهوى بعيد، ومجال وعد ووعيد، مرجل يغلي، ثم خيال يولي، وليس له حد عليه يعول.
المحبة ظهر لا يركبه، من يرى الموت فيتنكبه، ولا يعلوه، من يأتي
(1) يريد أن بائع الحبوب يعرض منها نموذجاً مثل ملء حفنة أو قربة.
(2)
امتك العظم: امتص ما في داخله.
(1)
يريد أن بائع الحبوب يعرض منها نموذجاً مثل ملء حفنة أو قربة.
إلى وادي الفناء فيسلوه " إن الله مبتليكم بنهر " البقرة: 149 كم قمصت المحبة من ظهر، وكم سر صيرت إلى جهر، أولها العار المشهور، وآخرها الطي المنشور، ثم الموت ثم النشور {وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب} (الزمر: 69) .
المحبة أنس يستدرج، ثم شوق يلجم ويسرج، ثم فناء يزعج، عن الوجود ويخرج:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
…
المحبة كاس، كم جردت من كاس، وآس، من شمه لم يجد من آس:
متى أرتجي يوماً شفائي من الضنى
…
إذا كان من يجني علي طبيبي تزاحم أنفاس المحبين على خطرات الصبا، تزاحم الهباء على مطارح شعاع الدبا، فلولا بلهيلها لالتهبت، وتعليل عليها لتلك الأرماق لذهبت:
عليلة في حواشي مرطها بلل
…
يهدى لكل عليل منه إبلال المحبة رقة، ثم فكرة مسترقة، ثم ذوق، يطير به شوق، ثم وجل لا يبقى معه طوق، ثم لا تحت ولا فوق:
أينما كنت لا أخلف رحلاً
…
من رآني فقد رآني ورحلي الهوى هوان، وحمام له ألوان، دمع ساجم، ووجد هاجم، وهيام لا يبرح، ثم وراءه ما لا يشرح:
قال: بمن جن وهل في الورى
…
ما يبعث الخبل سوى حبه من اقتحم بحر الهوى، هوى. لا تدخل في بحر الهوى حتى تشاور صبرك، وتجاور قبرك، فإن كنت منا أوفرح بسلام.
الهوى طريق، ولسلوكه فريق. الزاد مكتوم، ووفاء معلوم.
وللميادين أبطال لها خلقوا
…
وللداووين حساب وكتاب الحب حج ثان، لا يثني نفس المريد عنه ثان، طريقه التجريد، وزاده الذكر، وطوافه المعرفة، وإفاضته الفناء " فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام، واذكروه كما هداكم، وإن كنتم من قبله لمن الضالين. " البقرة:1987.
الغرام، صعب المرام، والدخول فيه حرام، ما لم يكن فيه شروط كرام.
من عرف ما أخذ، هان عليه ما ترك " وربك يخلق ما يشاء ويختار " القصص:68 ظهر الهوى طريقاً سهلاً، فكثر التائهون جهلاً:
إذا لم يكن عون من الله للفتى
…
أتته الرزايا من وجوه الفوائد (1) والعكس:
قد يخبأ المحبوب في مكروهها
…
من يخبا المكروه في المحبوب (2) وقال الشيخ (3) :
هو الحب بالحشا ما الهوى سهل
…
فما اختاره مضني به وله عقل
وعش خالياً فالحب راحته عناً
…
وأوله سقم وآخره قتل
نصحتك علماً بالهوى والذي أرى
…
مخالفتي، فاختر لنفسك ما يحلو
فمن لم يمت في حبه لم يعش به
…
ودون اجتناء النحل ما جنت النحل طريق القوم مبنية على الموت، وإليه الإشارة بقوله " موتوا قبل أن تموتوا ". بيدي لا بيد عمرو، وقال بعضهم: رأيت رب العزة فقلت: يا رب بم أصل إليك قال: فارق نفسك وتعال:
(1) انظر ما تقدم ص: 310.
(2)
البيت للسان الدين بنفسه من بائية طويلة ستأتي عند ذكر شعره.
(3)
هو ابن الفارض، انظر ديوانه: 134 وديوان الصبابة: 25.
رفض السوى فرض على العين
…
لا تخلصن الحق بالمين
والأين والكيف سوى ظاهر
…
فاستغن عن كيف وعن أين الخشب، الذي يتخذ منه النشب، ينقسم إلى أقسام، وأجزاء جسام: القسم الأول: في الحدود والمعرفات، والأسماء الواقعة والصفات (1) .
وللسان الدين رحمه الله تعالى في المواعظ اليد الطولى؛ قال في الروضة في الفصل الثاني في محركات العزيمة - وهي اليقظة - ما نصه: قلت: والمحركات المشتركات في باعث اليقظة كثيرة: منها الوعظ السائق بمقود الشارد عن الله تعالى إلى مربط التوبة، ومحرك العزيمة يردد أذانه على نوام أهل الكهف، وقد ضرب نوم الغفلة على آذانهم، حتى يحول بينهم وبين أذانهم، ويركبهم ظهر الرياضة التي تلحقهم بالمجذوبين من إخوانهم، ولما كان حب الدنيا هوالمانع عن الشروع في إطلاق العمل، والقاطع به بعده لم يجد أساة خبل الهوى وجنون الكسل أنجع من رقي العذل والتأنيب، وتقبيح المحبوب، سيما إذا انزعجت نبال نبله عن حنيات ضلوع الصدق، وقال بعضهم: الكلام إذا خرج من القلب دخل القلب:
أوقد النار من رسالة ليلى
…
واحذر السيل بعدها من دموعي ولا تعدل الوعظ البليغ باللسان الفصيح، والقلب القريح، فإذا رأيت الأرض قد اهتزت وربت، وهضاب القلوب القاسية قد تقلبت، فشمر للغراس والزراع عن الذراع، واغتنم السراع والإسراع:
إذا هبت رياحك فاغتنمها
…
فإن لكل عاصفة سكونا
حفر لها ماء يريها بدأة
…
واضمن لها حوضاً وإن لم تحفر
واربأ بنفسك عن تسامح بائع
…
واغنم إذا سامتك شهوة مشتري قالوا: الوعظ يضرب وجه النفس عن الثبط في بساط اللذات، وينقل
(1) الخشب
…
والصفات: هذه العبارة مقحمة هنا وقد وردت ص: 294.
خطواتها عن الخطوفي ملعب الخطيئات، ويمثل لها الصبر عياناً، ويبين العواقب المحجوبة بياناً، وينشئ سحاب الحزن في أجواف أجزائها، ويذكرها بمآلها وانتهائها، ويعرض عليها مصارع فنائها، وخراب بنائها، وفراق حبائبها وأبنائها، عند نزول هاذم اللذات بفنائها، فترجع إلى الله تعالى بحكم الاضطرار أفكارها، وتخشع من خيفة الله تعالى وجلاله أبصارها.
والوعظ يكون بلسانين، ويوجد فنين: لسان حال، ولسان مقال، وربما كان لسان الحال أبلغ، وهويسمع من القبور الموحشة، والقصور الخالية، والعظام البالية، وفيه حكايات وأخبار، ولسان المقال كقوله سبحانه وتعالى " وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم، وتبين لكم كيف فعلنا بهم، وضربنا لكم الأمثال " إبراهيم " 45 وهوسبيل الله تعالى التي بعث بها النبيين، وضمن فصولها الكتاب المبين، والسوط الذي يحمل على الأوبة، ويسوق ذود المتطهرين إلى غدير التوبة، ونحن نجعله هيمنة بين يدي الفراسة، لتزكيه النفوس إن صدق حكم الفراسة، فمن ذلك ما صدر عني على لسان واعظ:
الحمد لله الولي الحميد، المبدئ المعيد، البعيد في قربه من العبيد، القريب في بعده فهوأقرب من حبل الوريد، كحيي ربوع العارفين بتحيات حياة التوحيد، ومغني نفوس الزاهدين بكنوز احتقار الافتقار إلى العرض الزهيد، ومخلص خواطر المحققين من سجون دجون التقييد، إلى فسح التجريد، نحمده وله الحمد المنتظمة درره في سلوك الدوام وسموط التأبيد، حمد من نزه أحكام وحدانيته، وأعلام فردانيته، عن مرابط التقليد، ومخابط الطبع البليد، ونشكره شكر من افتتح بشكره أبواب المزيد، ونشهد أنه الله الذي لا إله إلا هوشهادة نتخطى بها معالم الخلق إلى حضرة الحق على كبد التفريد، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله قلادة الجيد المجيد، وهلال العيد، وفذلكة الحساب وبيت القصيد، المقصود بمنشور الإدلال
وإقطاع الكمال، بين مقام المراد ومقام المريد، الذي جعله السبب الأوصل في نجاة الناجي، وسعادة السعيد، وخاطب الخلائق على لسانه الصادق بحجتي الوعد والوعيد، فكان مما أوحى به إليه، وأنزل الملك به عليه، من الذكر الحميد، ليأخذ بالحجز والأطواق من العذاب الشديد " ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه، ونحن أقرب إليه من حبل الوريد " ق:16.
إلى قوله حديد، صلى الله عليه وعلى آل صلاة تقوم ببعض حقه الأكيد، وتسري إلى تربته الزكية من ظهور المواجد الجائية على البريد (1) :
قعدت لتذكير ولوكنت منصفاً
…
لذكرت نفسي فهي أحوج للذكرى
إذا لم يكن مني لنفسي واعظ
…
فيا ليت شعري كيف أفعل في الأخرى آه! أي وعظ بعد وعظ الله تعالى يا أحبابنا يسمع وفي ماذا وقد تبين الرشد من الغي يطمع يا من يعطي ويمنع، إذا لم تقم الصنيعة فماذا نصنع اجمعنا بقلوبنا با من يفرق ويجمع، ولين حديدها بنار خشيتك فقد استعاذ نبيك صلى الله عليه وسلم من قلب لا يخشع، ومن عين لا تدمع، اعلموا - رحمكم الله - أن الحكمة ضالة المؤمن يأخذها من الأقوال والأحوال، ومن الجماد والحيوان، وما أملاه الملوان (2) ، فغن الحق نور لا يضره أن يصدر من الخامل، ولا يقصر بمحموله احتقار الحامل، وأنتم تدرون أنكم في أطوار سفر لا تستقر لها دون الغاية رحلة، ولا تتأتى معها إقامة ولا مهلة، من الأصلاب إلى الأرحام، إلى الوجود، إلى القبور، إلى النشور، إلى إحدى داري البقاء، أفي الله شك فلو أبصرتم مسافراً في البرية يبني ويفرش، ويمهد ويعرش، ألم تكونوا تضحكون من جهله، وتعجبون من ركاكة عقله
(1) يريد مواجد المشتاقين إلى زيارة قبره عليه السلام.
(2)
الملوان: الليل والنهار.
ووالله ما أموالكم ولا أولادكم وشواغلكم عن الله التي فيها اجتهاد إلا بقاء سفر في قفر، أوإعراس في ليلة نفر، كأنكم بها مطرحة تعبر فيها المواشي، وتنبوالعيون عن خبرها المتلاشي " إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم " الأنفال:28. ما بعد المقيل إلا الرحيل ولا بعد الرحيل إلا المنزل الكريم أوالمنزل الوبيل، وإنكم تستقبلون أهوالاً سكرات الموت بواكر حسابها، وعتب أبوابها، فلوكشف الغطاء عن ذرة منها لذهلت العقول وطاشت الألباب، وما كل حقيقة يشرحها الكلام " يا أيها الناس إن وعد الله حق، فلا تغرنكم الحياة الدنيا، ولا يغرنكم بالله الغرور " فاطر:5.
أفلا أعددتم لهذه الورطة حيلة، وأظهرتم للاهتمام بها مخيلة أتعويلاً على عفوه مع المقاطعة وهوالقائل في مقام التهديد " إن عذابي لشديد " إبراهيم " 7 أأمناً من مكره مع المنابذة " فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون " الأعراف:99 أطمعاً في رحمته مع المخالفة وهويقول " فسأكتبها للذين يتقون " الاعراف " 156 أمشاقة ومعاندة " ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب " الحشر:4 أشكاً في الله فتعالوا نعيد الحساب، ونقرر العقد ونتصف بدعوة الحق أوغيرها، من اليوم تفقد عقد العقائد عند التساهل بالوعيد، فالعامي يدمي الإصبع الوجعة، والعارف يضمد لها مبدأ العصب:
هكذا هكذا يكون التعامي
…
هكذا هكذا يكون الغرور " يا حسرة على العباد، ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون " يس:30 وما عدا عما بدا ورسولكم الحريص عليكم الرؤوف الرحيم يقول لكم الكيس من نفسه وعمل لما بعد الموت، والأحمق من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني فعلام بعد هذا المعول وماذا يتأول اتقوا الله سبحانه في نفوسكم وانصحوها، واغتنموا فرص الحياة واربحوها " أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله، وإن كنت لمن الساخرين "
الزمر:56 وتنادي أخرى " هل إلى مرد من سبيل " الشورى: 44 وتستغيث أخرى " يا ليتنا نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل " الأعراف:53 وتقول أخرى " رب ارجعون " المؤمنون:99 فرحم الله من نظر لنفسه، قبل غروب شمسه، وقدم لغده من أمسه، وعلم أ، الحياة تجر إلى الموت، والغفلة تقود إلى الفوت، والصحة مركب الألم، والشبيبة سفينة تقطع إلى ساحل الهرم.
وإن شاء قال بعد الخطبة: إخواني، ما هذا التواني، والكلف بالوجود الفاني عن الدائم الباقي والدهر يقطع الأماني، وهاذم اللذات قد شرع في نقض المباني ألا معتبر في عالم هذه المعاني ألا مرتحل عن مغابن هذه المغاني
ألا أذن تصغي إلي سميعة
…
أحدثها بالصدق ما صنع الموت
مددت لكم صورتي فأواه حسرة
…
على ما بدا منكم فلم يسمع الصوت
هوالقدر الآتي على كل أمة
…
فتوبوا سراعاً قبل أن يقع الفوت يا كلفاً بما لا يدوم، يا مفتوناً (1) بغرور الوجود المعدوم، يا صريع جدار الأجل المهدوم، يا مشتغلاً ببنيان الطرق قد ظهر المناخ وقرب القدوم، يا غريقاً في بحار الأمل ما عساك تعوم، يا معلل الطعام والشراب ولمع السراب، لا بد أن تهجر المشروب وتترك المطعوم. دخل سارق الأجل بيت عمرك فسلب النشاط وأنت تنظر، وطوى البساط وأنت تكرب، واقتلع جواهر الجوارح وقد وقع بك النهب، ولم يبق إلا أن يجعل الوسادة على أنفك ويقعد:
لو خفف الوجد عني
…
دعوت طالب ثاري {كلا إنها كلمة هوقائلها} (المؤمنون: 100) كيف التراخي والفوت مع الأنفاس ينتظر كيف الأمان وهاجم الموت لا يبقي ولا يذر كيف الركون إلى الطمع الفاضح وقد صح الخبر من فكر في كرب الخمار تنغصت عنده
(1) ق: مغبوناً.
لذة النبيذ، من أحس بلغط الحريق فوق جداره لم يصغ بصوته لنغمة العود، من تيقن بذل العزلة هان عليه ترك الولاية:
ما قام خيرك يا زمان بشره
…
أولى لنا ما قل منك وما كفى أوحى الله سبحانه إلى موسى صوات الله وسلامه عليه أن ضع يدك على متن ثور، فبعدد ما حاذته من شعره تعيش سنين، قال: يا رب وما بعد ذلك
قال: تموت، قال يا رب فالآن:
رأى الأمر يفضي إلى آخر
…
فصير آخره أولا إذا شعرت نفسك بالميل إلى شيء فاعرض عليها غصة فراقه " ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة " الانفال:42 فالمفروح به هوالمحزون عليه، أين الأحباب مروا، فيا ليت شعري أين استقروا؛ استكانوا والله واضطروا، واستغاثوا بأوليائهم فروا، وليتهم إذ لم ينفعوا ما ضروا، فالمنازل من بعدهم خالية خاوية، والعروش ذابلة ذاوية، والعظام من بعد التفاضل متشابهة متساوية، والمساكن تندب في أطلالها الذئاب العاوية:
صحت بالربع فلم يستجيبوا
…
ليت شعري أين يمضي الغريب
وبجنب الدار قبر جديد
…
منه يستسقي المكان الجديب
غاض قلبي فيه عند التماحي
…
قلت هذا القبر فيه الحبيب
لا تسل عن رجعتي كيف كانت
…
إن يوم البين يوم عصيب
باقتراب الموت عللت نفسي
…
بعد إلفي كل آت قريب أين المعمر الخالد أين الولد أين الوالد أين الطارف أين التالد أين المجادل أين المجالد " هل تحس منهم من أحد أوتسمع لهم ركزاً " مريم:98 ودوه علاهن الثرى، وصحائف تفض، وأعمال على الله تعرض. بحث الزهاد
والعباد، والعارفون والأوتاد، والأنبياء الذي يهدي بهم العباد، عن سبب الشقاء الذي لا سعادة بعده، فلم يجدوا إلا البعد عن الله تعالى، وسببه حب الدنيا لن تجتمع أمتي على ضلالة:
هجرت حبائبي من أجل (1) ليلى
…
فما لي بعد ليلى من حبيب
وماذا أرتجي من وصل ليلى
…
ستجزي بالقطيعة عن قريب وقالوا: ما أورد النفس الموارد وفتح عليها باب الحتف إلا الأمل، كلما قومتها مثاقف الحدود فتح لها أركان الرخص، كلما عقدت صوم العزيمة أهداها طرف الغرور في أطباق: حتى، وإذا، ولكن، وربما، فأفرط القلب في تقبيلها حتى أفطر:
ما أوبق الأنفس إلا الأمل
…
وهو غرور ما عليه عمل
يفرض منه الشخص وهماً ما له
…
حال ولا ماض ولا مستقبل
ما فوق وجه الأرض نفس حية
…
إلا قد انقض عليها الأجل
لو أنهم من غيرها قد كونوا
…
لامتلأ السهل بهم والجبل
ما ثم إلا لقم قد هيئت
…
للموت، وهوالآكل المستعجل
والوعد حق والورى في غفلة
…
قد خودعوا بعاجل وضللوا
أين الذين شيدوا واغترسوا
…
ومهدوا وافترشوا وظللوا
أين ذوو الراحات زادت حسرة
…
إذ جنبوا إلى الثرى وانتقلوا
لم تدفع الأحباب عنهم غير أن
…
بكوا على فراقهم وأعولوا
الله في نفسك أولى من له
…
ذخرت نصحاً وعتاباً يقبل
لا تتركنها في عمى وحيرة
…
عن هول ما بين يديها تغفل
حقر لها الفاني وحاول زهدها
…
وشوقها إلى الذي تستقبل
وفد إلى الله بها مضطرة
…
حتى ترى السير عليها يسهل
(1) ق: بعد.
هو الفناء والبقاء بعده
…
والله عن حكمته لا يسأل
يا قرة العين ويا حسرتها
…
يوم يوفى الناس ما قد عملوا يا طرداء المخالفة، إنكم مدركون فاستبقوا باب التوبة، فإن رب تلك الدار يجير ولا يجار عليه، فإذا أمنتم فاذكروا الله كما هداكم، يا طفيلية الهمة، دسوا أنفسكم بزمر التائبين وقد دعوا إلى دعوة الحبيب، فإن لم يكن أكل فلا أقل من طيب الوليمة، قال بعض العارفين: إذا عقد التائبون الصلح مع الله تعالى انتشرت رعايا الطاعة في عمالة الأعمال " وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب " الزمر:69. معاني هذا المجلس والله نسيم سحر، إذا استنشقه مخمور الغفلة أفاق، سعوط هذا الوعظ ينغص إن شاء الله زكمة البطالة، إن الذي أنزل الداء أنزل الدواء، إكسير هذا الكتاب يقلب بحكمة جابر القلوب المنكسرة عين من كان له قلب " إنما يستجيب الذين يسمعون، والموتى يبعثهم الله " الأنعام:36 إلهي دلنا من حيرة يضل فيها - إلا إن هديت - الدليل، وأجرنا من غمرة وكيف إلا بإعانتك السبيل نفوس صدئ على مر الأزمان منها الصقيل، ونبا بجنوبها عن الحق المقيل، وآذان أنهضها القول الثقيل، وعثرات لا يقيلها إلا أنت يا مقيل العثار يا مقيل، أنت حسبنا ونعم الوكيل؛ انتهى.
ومن مواعظ لسان الدين رحمه الله سبحانه ما أورده في الروضة إثر ما سبق، إذ قال: إخواني صمت الآذان والنداء جهير، وكذب العيان والمشار إليه شهير، أين الملك وأين الظهير أين الخاصة أين الجماهير أين القبيل والعشير أين كسرى بن أردشير صدق والله الناعي وكذب البشير، وغش المستشار واتهم المشير، وسئل عن أكل فأشار إلى التراب المشير:
خذ من حياتك للمما الآتي
…
وبدار ما دام الزمان مواتي
لا تغترر فهوالسراب بقيعة
…
قد خودع الماضي به والآتي
يا من يؤمل واعظاً ومذكراً
…
يوماً ليوقظه من الغفلات
هلا اعتبرت ويا لها من عبرة
…
بمدافن الآباء والأمات
قف بالبقيع وناد في عرصاته
…
فلكم بها من جيرة ولدات
درجوا ولست بخالد من بعدهم
…
متميز عنهم بوصف حياة
والله ما استهللت حياً صارخاً
…
إلا وأنت تعد في الأموات
لا فوت عن درك الحمام لهارب
…
والناس صرعى معرك الآفات
كيف الحياة لدارج متكلف
…
سنة الكرى بمدارج الحيات
أسفاً علينا معشر الأموات لا
…
ننفك عن شغل بهاك وهات
ويغرنا لمع السراب فتغتذي
…
في غفلة عن هاذم اللذات
والله ما نصح أمرءاً من غشه
…
والحق ليس بخافت المشكاة يا من إذا وراح، وألف المراح، يا من شرب الراح، ممزوجة بالعذب القراح، وقعد لعيان صروف الزمان مقعد الأفراح، كأنك والله باختلاف الرياح، وسماع الصياح، وهجوم غارة الاجتياح، فأديل الخفوت من الارتياح، ونسيت أصوات الغناء برنات الرياح، وعوضت عرر النوب القباح، من غرر الوجوه الصباح، وتناولت الجسوم الناعمة أيدي الأطراح، وتنوسيت العهود الكريمة بمر المساء عليها والصباح، وأصبحت كماة النطاح، من تحت البطاح، وخملت المهندة والرماح، ذليلة من بعد الجماح:
ولو كان هول الموت لا شيء بعده
…
لهان علينا الأمر واحتقر الهول
ولكنه حشر ونشر وجنة
…
ونار، وما لا يستقل به القول يا مشتغلاً بداره ورم جداره، عن إسراعه إلى النجاة وبداره، يا من صاح بإنذاره شيب عذاره، يا من طرف (1) عين اعتذاره بأقذاره، يا من قطعه بعد مزاره وثقل أوزاره، يا معتلفاً (2) ينتظر هجوم جزاره، يا مختلساً للأمانة
(1) ق: صرف.
(2)
ق: معتلقاً.
يرتقب مفتش ما تحت إزاره، يا من أمعن في خمر الهوى خف من إسكاره، يا من خالف مولى رقه توق من إنكاره، يا كلفاً بعارية ترد، يا مفتوناً بأنفاس تعد، يا معولاً على الإقامة والرحال تشد، كأني بك وقد أوثق الشد، وألصق بالوسادة الخد، والرجل تقبض والأخرى تمد، واللسان يقول {يا ليتنا نرد} (الأنعام: 27) :
إنا إلى الله وإنا له
…
ما أشغل الإنسان عن شانه
يرتاح للأثواب يزهى بها
…
والخيط مغزول لأكفانه
ويخزن الفلس لوارثه
…
مستنفداً مبلغ أكوانه
قوض عن الفاني رحال امرئ
…
مد إليه عين عرانه
ما ثم إلا موقف زاهد
…
قد وكل العدل بميزانه
مفرط يشقى بتفريطه
…
ومحسن يجزى بحسانه يا هذا خفي عليك مرض اعتقادك فالتبس الشحم بالورم، جهلت قيم (1) المعادن فبعت الشبه بالذهب، فسد حس (2) ذوقك فتفكهت بحنظله، أين حرصك من أجلك أين قولك من عملك يدركك الحياء من الطفل فتتحامى حمى الفاحشة في البيت بسببه، ثم تواقعها بعين خالق العين، ومقدر الكيف والأين، تالله ما فعل فعلك بمعبوده، من قطع بوجوده " ما يكون من نجوى ثلاثة - إلى عليم " المجادلة:7 تعود عليك مساعي الجوارح التي سخرها لك بالقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، فتبخل منها في سبيله بفلس، وأحد الأمرين لازم: إما التكذيب، وإما الحماقة، وجمعك بين الحالتين عجيب، يرزقك السنين العديدة من غير حق وجب لك، وتسيء الظن به في يوم؛ توجب الحق، وتعتذر بالغفلة، فما بال التمادي تعترف بالذنب فما
(1) ق: فيه، ولعلها " قيمة ".
(2)
ق: حسن.
الحجة في الإصرار والبلد الطيب يخرج نياته بإذن ربه، والذي خبث لا يخرج إلا نكداً " الأعراف " 58 يا مدعي النسيان ماذا فعلت بعد التذكير يا معتذراً بالغفلة أين ثمرة التنبيه يا من قطع بالرحيل أين الزاد يا ذبابة الحرص كم ذا تلجج في ورطة الشهد يا نائماً ملء عينيه حذار الأجل قد أنذر، يا ثمل الاغترار قرب خمار الندم، تدعي الحذق بالصنائع وتجهل هذا القدر، تبذل النصح لغيرك وتغش نفسك هذا الغش، اندمل جرح توبتك على عظم، قام بناء عزمتك على رمل، نبتت خضراء دعوتك على دمن، عقدت كفك من الحق على قبضة ماء " أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً، فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء " فاطر:8 إذا غام جوهذا المجلس، وابتدأ رش غمام الدموع، قالت النفس الأمارة: حوالينا لا علينا، فدالت رياح الغفلة، وسحاب الصيف هفاف، كلما شد طفل العزيمة على درة التوبة صانعته ظئر الشهوة عن ذلك بعصفور، إذا ضيق الخوف فسحة المهل سرق الأمل حدود الجار، قال بعض الفضلاء: كانوا إذ فقدوا قلوبهم، تفقدوا مطلوبهم، ولوصدق الواعظ الأثر، اللهم لا أكثر:
طبيب يداوي الناس وهوعليل
…
والخطب جليل، والمتفكن قليل، فهل إلى الخلاص سبيل اللهم انظر إلينا بعين رحمتك التي وسعت الأشياء، وشملت الأموات والأحياء، يا دليل الحائرين دلنا، يا عزيز ارحم ذلنا، يا ولي من لا ولي له كن لنا كلنا، إن أعرضت عنا فمن لنا نحن المذنبون وأنت غفار الذنوب، فقلب قلوبنا با مقلب القلوب، واستر عيوبنا يا ستار العيوب، يا أمل الطالب ويا غاية المطلوب؛ انتهى.
ومن كلام لسان الدين رحمه الله تعالى في المواعظ ما خاطب به بعض من استدعى منه الموعظة، ونصه:
إذا لم أنح يوماً على نفسي التي
…
بجرائها أحببت كل حبيب
وقد صح عندي أن عادية الردى
…
تدب لها والله كل دبيب
فمنذا الذي يبكي عليها بأدمعي
…
إذا كنت موصوفاً برأي لبيب كم قد نظررت إلى حبيب تغار من إرسال طرفك بكتاب الهوى إلى إنسانه، وقد ذبلت بالسقم نرجسة لحظه، وذوت وردة خده، واصفرت لمغيب الفراق شمس حسنه، وهويجود بنفسه التي كان يبخل منها بالنفس، يخاطب بلسان حاله مترجماً: وليت الفجل يهضم نفسه، وأنت على أثر مسحبه إلى دست الحكم " وما أدري ما يفعل بي ولا بكم " الأحقاف:9.
ومنها: تالله لولم يكن المخبر صادقاً لنشب بحلق العيش بعده شوكة الشك:
ولو أنا متنا تركنا
…
لكان الموت راحة كل حي
ولكنا إذا متنا بعثنا
…
ونسأل بعده عن كل شيء فالحازم من بتر الآمال طوعاً، وقال: بيدي لا بيد عمرو {يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور} (فاطر: 5) .
وقال أمير الوعاظ رحمه الله تعالى:
وبضدها تتبين الأشياء (1)
…
يا مقتولاً ما له طالب ثار، بريد الموت مطلق الأعنة في طلبك، وما يحميك حصن، ثوب حياتك منسوج من طاقات أنفاسك، والأنفاس تستلب ذرات ذاتك، وحركات الزمان قوية في النسج الضعيف، فيا سرعة التمزق، يا رابطاً مناه بخيط الأمل، إنه ضعيف القتل، صياد التلف قد بث الصقور، وأرسل العقبان، ونصب الاشراك، وقطع المواد، فكيف السلامة تهيأ
(1) عجز بيت للمتنبي، وصدره:" ونذيمهم وبهم عرفنا فضله ".
لسرعة الموت وأشد منها قلب القلب، ليت شعري لما يؤول الأمر
فوالله لا أدري أيغلبني الهوى
…
إذا جد جد البين أم أنا غالبه
فإن أستطع أغلب وإن يغلب الهوى
…
فمثل الذي لاقيت يغلب صاحبه مركب الحياة يجري في بحر البدن برخاء الأنفاس، ولا بد من عاصف قاصف بفلكه ويغرق الركاب:
فاقضوا مآربكم عجالاً إنما
…
أعماركم سفر من الأسفار (1) وقال: كأنك بحرب التلف قد قامت على ساق، وانهزمت جنود الأمل، وإذا بملك الموت قد بارز الروح يجذبها بخطاطيف الشدائد من قنان العروق، وقد شد كتاف الذبيح، وحار البصر لشدة الهول، وملائكة الرحمة عن اليمين قد فتحوا أبواب الجنة، وملائكة العذاب عن اليسار قد فتحوا أبواب النار، وجميع المخلوقات تستوكف الخبر، والكون كله قد فاء على صيحة: سعد فلان، أوشقي فلان، فهنالك تنجلي أبصار الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري، ويحك! تهيأ لتلك الساعة، حصل زاداً قبل الفوت:
تمتع من شميم عرار نجد
…
فما بعد العشية من عرار مثل لعينيك سرعة الموت، وما قد عزمت أن تفعل حينئذ في وقت الأسر فافعله في وقت الإطلاق، وقال أبوالعتاهية (2) :
خانك الطرف اتئد (3)
…
أيها القلب الجموح
فدواعي الخير والشر
…
دنو ونزوح
كيف إصلاح قلوب
…
إنما هن قروح
(1) البيت لأبي الحسن التهامي، من قصيدته " حكم المنية في البرية جاري "، ديوانه:28.
(2)
ديوان أبي العتاهية: 97.
(3)
الديوان: الطموح.
أحسن الله بنا
…
أن الخطايا لا تفوح
فإذا المشهور منا
…
بين ثوبيه فضوح
كم رأينا من عزيز
…
طويت عنه الكشوح
صاح منه برحيل
…
طائر الدهر الصدوح
موت بعض الناس في الأر
…
ض على بعض فتوح
سيصير المرء يوماً
…
جسداً ما فيه روح
بين عيني كل حي
…
علم الموت يلوح
كلنا في غفلة وال
…
دهر يغدو ويروح
لبني الدنيا من الدن
…
يا غبوق وصبوح
رحن في الوشي وأصبح
…
ن عليهن المسوح
كل نطاح من الده
…
ر له يوماً نطوح
نح على نفسك يا مس
…
كين إن كنت تنوح
لتنوحن ولوعم
…
رت ما عمر نوح وقال في المعنى (1) :
لمن طلل أسائله
…
معطلة مناهله
غداة رأيته تنعى
…
أعاليه أسافله
وكنت أراه مأهولاً
…
ولكن باد أهله
وكل الاعتساف الده
…
ر معرضة مقاتله
وما متملك (2) إلا
…
وريب الدهر شامله
فيصرع من يصارعه
…
وينضل من يناضله
ينازل من يهم به
…
وأحياناً يخاتله
(1) ديوانه: 327.
(2)
الديوان: وما من مسلك.
وأحياناً يؤخره
…
وتارات يعاجله
كفاك به إذا نزلت
…
على قوم كلاكله
وكم قد عز من ملك
…
تحف به قبائله (1)
ويثني عطفه مرحاً
…
وتعجبه شمائله
فلما أن أتاه الحق
…
ولى عنه باطله
فخفض (2) عينه للمو
…
ت واسترخت مفاصله
فما لبث السياق به
…
إلى أن جاء غاسله
فجهزه إلى جدث
…
سيكثر فيه خاذله
ويصبح شاحط المثوى
…
مفجعة ثواكله
مخمشة نوادبه
…
مسلبة حلائله
وكم قد طال من أمل
…
فلم يدركه آمله
رأيت الحق لا يخفى
…
ولا تخفى شواكله
لا فانظر لنفسك أيل
…
زاد أنت حامله
لمنزل وحدة بين ال
…
مقابر أنت نازله
قصير السمك قد رضمت (3)
…
عليك به جنادله
بعيد تجاوز الجيرا
…
ن ضيقة مداخله
أأيتها المقابر في
…
ك من كنا ننازله
ومن كنا نتاجره
…
ومن كنا نعامله
ومن كنا نعاشره
…
ومن كنا نداخله
ومن كنا نشاربه
…
ومن كنا نؤاكله
(1) الديوان: قنابله.
(2)
الديوان: فغمض.
(3)
الديوان: رصت.
ومن كنا نفاخره
…
ومن كنا نطاوله
ومن كنا نراقبه
…
ومن كنا نزايله
ومن كنا نكارمه
…
ومن كنا نجامله
ومن كنا له إلفاً
…
قليلاً ما نزايله (1)
ومن كنا له بالأم
…
س إخواناً نواصله (2)
فحل محلة من حل
…
ها صرمت حبائله
ألا أن المنية من
…
هل والخلق ناهله
أواخر من ترى تفنى
…
كما فنيت أوائله
لعمرك ما استوى في الأ
…
رض عالمه وجاهله
ليعلم كل ذي عمل
…
بأن الله سائله
فأسرع فائزاً بالخي
…
ر قائله وفاعله ثم قال لسان الدين رحمه الله تعالى، بعد ما سبق، ما صورته: وهذا الغرض بحر، ويكفي من خزائنه عرض، ومن بيت ماله قرض، إن شاء الله تعالى.
ثم قال: تنبيه يشتمل على سؤالين: أحدهما أن يقال: الوعظ غير مناسب للمحبة، إذا لا يحصل إلا بعد الفراغ واليقظة، الثاني: أن يقال: عظمتم الحسرة لفراق عالم الحس، وأطلتم في قشور، فنجيب عن الأول: إنا لم نجلب الوعظ إلا بين يدي تأميل حضور المحبة، فكأنه يجري مجرى الأسباب، فإن الغرض به وجهة النفس من جوالسرور، واللعب بالزور، إلى جوالحزن والارتماض، ومن هنالك تأخذ بخطامها أيدي الاضطرار، فتحصل اليقظة ثم التوبة، ومنها يستقيم الطريق في منازل السائرين إلى الحق:
(1) ق: نزاوله، والتصويب عن الديوان.
(2)
الديوان: ومن كنا بلا مين أحابيناً..
والنفس راغبة إذا رغبتها
…
وإذا ترد إلى قليل تقنع (1) وعند ذلك يطوى بساط الزجر والوعظ (2) ، ويمد بساط الاعتبار والحب، إن شاء الله تعالى، فإنها كالثكلى بطبعها لما فارقته من عنصر نور الله تعالى والعوالم الروحانية التي هي الشعار والدثار، والأمل والدار، والحياة والجمال، والوجود والكمال، وإن كانت لا تشعر بالسبب، ولا تستحضر ذكر العلة، فإذا ذكر الفراق أنت، أوتنوشدت الآثار حنت، ويطرقها الحزن عند الألحان الشجية، وتحس بعض الأحيان بالمواجد العشقية:
وقالوا أتبكي كل قبر رأيته
…
لقبر ثوى بين اللوى والدكادك (3)
فقلت لهم: إن الأسى يبعث الأسى
…
دعوني فهذا كله قبر مالك وعن الثاني: إن كثيراً من النفوس لا تشعر بوجود عالم الحس، فضلاً عن النظر فيه، وإن شعرت بذلك عد منها نبلاً، ومن كان بهذه المثابة لا سبيل لندائه إلا من باب القشور " أولئك ينادون من مكان بعيد " فصلت:44 إلى أن يتأتى النداء من باب الله تعالى بفضل الله تعالى، فالنفوس الشخصية غير متساوية، وهي بهوى الهوى هاوية، فالقريب منها يجذب بالأنامل، والبعيد بالجزل الكوامل، وعلى قدر المحمول تكون قوة الحامل:
يضع الهناء مواضع النقب (4)
…
يكفي اللبيب إشارة مكتومة
…
وسواه يدعى بالنداء العالي
وسواهما بالزجر من قبل العصا
…
ثم العصا هي رابع الأحوال
(1) لأبي ذؤيب الهذلي، ديوان الهذليين 1:11.
(2)
والوعظ: سقطت من ق.
(3)
البيتان لمتمم بن نويرة في رثاء أخيه مالك.
(4)
من أمثالهم؛ وهو شطر بيت لدريد بن الصمة، وصدره:" متبذلاً تبدو محاسنه ".
وقال رحمه الله تعالى في فصل ذم الكسل، ما صورته: ونحن نجلب بعض الأمثال في ذمه، مما يسهل حفظه، ويجب لحظه، فمن ذلك: الكسل مزلقة الربح، ومسخرة الصبح. إذا رقدت النفس في فراش الكسل استغرقها نوم الغفلة " لوكنا نسمع أونعقل ما كنا في أصحاب السعير " الملك:10. الندامة في الكسل كالسم في العسل، الكسل آفة الصنائع، وأرضة في البضائع. العجز والكسل، يفتحان الخمول ولا تسل. الفلاح إذا مل الحركة، عدم البركة:
ظهران لا يبلغان المرء إن ركبا
…
باب السعادة: ظهر العجز، والكسل وفي اغتنام الأيام: من أضاع الفرصة، تجرع الغصة. إن كان لك من الزمان شيء فالحال، وما سواه فمحال. تارك أمره إلى غد، لا يفلح للأبد. الإنسان ابن ساعته، فليحطها من إضاعته. التسويف سم الأعمال، وعدوالكمال. لم يحرم المبادر، إلا في النادر. ما درجت أفراخ ذل إلا من وكر طماعة، ولا بسقت فروع ندم إلا من جرثومة إضاعة. العزم سوق، والتاجر الجسور مرزوق. من وثق بعهد الزمان، علقت يداه بحبل الحرمان. الريح في ضمن الجسارة، والمضيع أولى بالخسارة.
ومن أمثالهم - في نظر الإنسان لنفسه، قبل غروب شمسه - قولهم: اعلم أن كل حكيم صانع إذا فكر في أمره ونظر في العواقب علم أنه لا بد يوماً أن يخرب دكانه الذي هومحل بضاعته، وتنحل أنقاضه، وتكل أدواته، وتضعف قوته، وتذهب أيام شبابه، فمن بادر واجتهد قبل خراب الدكان، واستغنى عن السعي، فإنه لا يحتاج بعد ذلك إلى دكان آخر، ولا إلى أدوات مجددة، فليتجر بما اقتناه ويشتغل بالانتفاع والالتذاذ بما كسبت يداه، وهذه حالة النفس بعد خراب الجسد، فبادر واجتهد واحرص واستعجل، وتزود قبل
خراب دكانك وهدم بنيته، فإن خير الزاد التقوى، قال حسان (1) :
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى
…
وأبصرت بعد اليوم من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله
…
ولم تترصد مثل ما كان أرصدا قال أبوالفرج ابن الطيب البغدادي (2) في اغتنام الوقت في كتابه في السياسة والآراء الفاضلة: يجب أن تعيد وتمثل، فإن الفكر مضطرب متشوش بكثرة نوازع النفس واختلاف قواها، والعمى في بعض الأوقات، فإذا سنح لنفس وقت فاضل بصفاء جوهرها، وأبرمت قانوناً أوصورة متوسطة فاضلة، يجب أ، يقيد بذلك وقت سعد ربما لا يعاود أويعاود؛ انتهى.
76 -
ومن نثر لسان الدين رحمه الله تعالى ما كتب به على لسان سلطانه إلى شيخ الموحدين بتونس ابن تافراجين، يخبره بالتمحيص الجاري عليه، ونصه: من أمير المسلمين أيده الله ونصره، وأعلى أمره وأظهره، إلى ولينا في الله تعالى الذي له القدم الرفيع المناصب، والمجد السامي الذوائب، والسياسة التي أخبارها سمر الركبان وحد الركائب، الشيخ الجليل الكبير، الشهير الخطير، الهمام الأمضى، الرفيع الأعلى، الأمجد الأوحد، الأسعد الأصعد، الأوفى الظاهر الطاهر الفاضل الباسل الأرضى الأنقى المعظم الموقر المبرور، علم الأعلام، سلالة أكابر أصحاب الإمام، معيد دولة التوحيد إلى الانتظام، أبي محمد عبد الله ابن الشيخ الجليل الكبير الشهير الماجد الخطير الرفيع الأسعد
(1) كذا والمشهور أن هذين البيتين من قصيدة الأعشى التي نظمها في مدح الرسول وحالت قريش بينه وبين الوفادة عليه، ومطلعها " ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا ".
(2)
أبو الفرج عبد الله بن الطيب عراقي فيلسوف اعتنى بشرح القديمة في المنطق والحكمة من تأليف أرسطو طاليس وكتب جالينوس الطبية (قيل توفي سنة 435) ومن تلامذته ابن بطلان (القفطي: 223، وابن أبي أصيبعة 1: 239) .
الأمجد الحسيب الأصيل الأرضي الأفضل الأكمل المعظم المقدس (1) المرحوم أبي العباس تافراجين، وصل الله تعالى له عزة تناسب شهرة فضله؛ وسعادة تتكفل له في الدارين برفعة محله: سلام كريم يخص مجادتكم الفاضلة، ورتبتكم الحافلة، ورحمة الله تعالى وبركاته.
أما بعد حمد الذي يمحص ليثيب، ويأمر بالساتقالة ليجيب، ويعقب ليل الشدة يصبح الفرج القريب، ويجني من شجر التوكل عليه، والتسليم إليه، ثمر الصنع العجيب، ويظهر العبر مهما كسر ثم جبر لكل ذي قلب منيب، والصلاة على يدنا ومولانا محمد رسوله الذي نلجأ إلى ظل شفاعته في اليوم العصيب، ونستظهر بجاههعلى جهاد عبدة الصليب، ونستكثر عدد بركاته في هذا الثغر الغريب، ونصول منه على العدوبالحبيب، والرضى عن آل وصحبه نجوم الهداية من بعد الأمنة من الأفول والمغيب، فإنا كتبناه إليكم - كتب الله لكم عزة متصلة، وعصمة بالأمان من نوب الزمان متكلفة - من حمراء غرناطة حرسها الله تعالى، ولا زائد بفضل الله تعالى الذي لطف وجبر، وأظهر في الإقالة وحسن الإدالة العبر، ممن كتب الله تعالى له العقبى لما صبر، إلا الخبر الذي كسا الأعطاف الحبر، والصنع الذي صدق خبره الخبر، والحمد لله تعالى كثيراً كما هوأهله فلا فضل إلا فضله، ولمكانتكم عندنا المحل الذي قررت شهرة فضلكم قواعده، وأعلت مصاعده، وأثبت التواتر شواهده، إذ لا نزال نتحف بسيركم اليت في التدبيرات تقتفى، وعلم يسترشد به إذا العلم اختفى، والسبيل عفا، وإن تلك الدولة بكم استقام أودها، وقامت والحمد لله عمدها، وإنكم رعيتم في البنين حقوق آبائها، وحفظتم عليها ميراث عليائها، ولولم تتصل بنا أنباؤكم الحميدة، وآراؤكم السديدة، بما يفيد العلم بفضل ذاتكم، ويغري قوى الاستحسان بصفاتكم، لغبطنا بمخاطبتكم
(1) ق: القدوة.
ومفاتحتكم، ما نجده من الميل لكم طبعاً وجبلة، من غير أن نعتبر سبباً أوعلة، فالتعارف بين الأرواح لا ينكر، والحديث الكريم يؤيد من ذلك ما ينقل ويذكر (1) .
وبحسب ذلك نطلعكم على غري ما جرى به في ملكنا القدر، وحيث بلغ الورد وكيف كان الصدر، وربما اتصلت بكم الحادثة التي أكفأها على دار ملكنا من لم يعرف غير نعمتها غاذياً، ولا برح في جوانب إحسانها رائحاً وغادياً، يتيم حجرها الكافل، ورضيع درها الحافل، الشقي الخاسر، الخائن الغادر، محمد بن إسماعيل بن محمد المستجير بنسبنا من لؤم غدره، الخفية عنا حيل مكره لخمول قدره، إذ دعاه محتوم الحين ليهلك إلى أن يهلك، وسولت له نفسه الأمارة بالسوء أن يملك أخانا الخاسر ثم يملك، وسبحان الذي يقول: يا نوح إنه ليس من أهلك " هود:46، وكيف تم له ما أبرمه من تسور الأسوار، واقتحام البوار، وتملك الدار، والاستيلاء على قطب المدار، وأننا كنفتنا عصمة الله تعالى بمتحولنا الذي كان به ليلتئذ محل ثوائنا، وكفت القدرة الإلهية أكف أعدائنا، وخلصنا غلاباً بحال انفراد إلا من عناية [الله] ونعم الرفيق، وصدق اللجإ إلى رحمة الله تعالى التي ساحتها عن مثلنا لا تضيق، مهما (2) تنكر الزمان أوتفرق الفريق، وشرذمة الغدر تأخذ علينا كل فج عميق، حتى أوينا من مدينة وادي آش إلى الجبل العاصم، والحجة المرغمة أنف المخاصم، ثم أجزنا البحر بعد معاناة خطوب، وتجهم من الدهر وقطوب، وبلا الله هذا الوطن بمن لا يرجوله وقاراً، ولا يألوشعائره المعظمة احتقاراً، فأضرمه ناراً، وجلل وجوه وجوهه خزياً وعاراً، حتى هتك الباطل حماه، وغير اسمه ومسماه، وبدد حاميته المتخيرة وشذبها، وسخم دواوينه التي محصها الترتيب والتجريب وهذبها، وأهلك نفوسها وأموالها، وأساء لولا
(1) يشير إلى الحديث " الأرواح مجندة ما تعارف منها ائتلف
…
الخ ".
(2)
ق: فمهما.
تدارك الله تعالى أحوالها.
ولما تأذن جل جلاله في إقالة العثار، ودرك الثار، وأنشأت نواسم رضاه إدامة الاستغفار، ورأينا قلادة الإسلام قد آن انتثارها، والملة الحنيفية كادت تذهب آثارها، ومسائل الخلاف يتعدد مثارها، وجعلت الملتان نحونا تشير، والملك يأمل أن يوافيه بقدومنا البشير، تحركنا حركة خفيفة تشعر أنها حركة الفتح، ونهضنا نبتدر ما كتب الله تعالى من المنح، وقد امتعض لنا الكون بما حمل، واستخدم الفلك نفسه بمشيئته تعالى واكتمل، وكاد يقرب لقرى ضيفنا الثور والحمل، وظاهرنا محل أخينا السلطان الكبير الرفيع المعظم المقدس أبي سالم الذي كان وطنه مأوى الجنوح، ومهب النصر الممنوح - رحمة الله تعالى عليه - مظاهرة مثله من الملوك الأعاظم، وختم الجميل بالجميل والأعمال بالخواتم، وأنف حتى عدوالدين لنعمتنا المكفورة، وحقوقنا المحجوبة المستورة، فأصبح بعد العدوحبيباً، وعاد بعد الإباية منيباً، وسخر أساطيله تحضيضاً على الغجازة وترغيباً، واستقبلنا البلاد وبحر البشر يزخر موجه، وملك الإسلام قد خر على الحضيض أوجه، والروم مستولية على الثغور، وقد ساءت ظنون المؤمنين بالعقبى ولله عاقبة الأمور، والخبيث الغادر الذي كان يموه بالإقدام قد ظهر كذب دعواه، وهان مثواه، وتورط في أشراك المندمة تورط مثله ممن اتبع هواه، وجحد نعمة مولاه، فلولا أن الله، عز وجل، تدارك جزيرة الأندلس بركابنا، وعاجل أوارها بانسكابنا، لكانت القاضية، ولم تر لها من بعد تلك الريح العقيم من باقية، لكنا والفضل لله تعالى رفعنا عنها وطأة العدو وقد ناء بكلكل، وابتززناه منها أي مشرب ومأكل، واعتززنا عليه بالله تعالى الذي يعز ويذل، ويهدي ويضل، فلم نسامحه في شرط يجر غضاضة، ولا يخلف في القلوب مضاضة، وخصنا بحر الهول، وبرئنا إلى الله تعالى ربنا عن القوة والحول، وظهرت للمسلمين ثمرة سريرتنا، وما بذلنا في مصانعة
العدوعن الإجهاز عليهم من حسن سيرتنا، فقويت فينا أطماعهم، وانعقد على التحرم بنا إجماعهم.
وقصدنا مالقة بعد أن انثالت الجهة الغربية، وأذعنت المعاقل الأبية، فيسر الله تعالى فتحها، وهيأ منحها، ثم توالت البيعات، وصرخت بمآذن البلاد الدعاة، واضطرب أمر الخائن وقد دلفت المخاوف إليه، وحسب كل صيحة عليه، فاقتضت نعامته الشائلة، ودولة بغيه الزائلة، وآراؤه الفائلة، أن ضم ما أمكنه من ذخيرة مكنونة، وآلة للملك مصونة، واستركب أوباشه الذين استباح الحق دماءهم، وعرف الخلق اعتزاءهم للغدر وانتماءهم، وقصد سلطان قشنتالة من غير عهد ولا وثيقة، ولا مثلى طريقة، ولا شيمة بالرعي خليقة، لكن الله عز وجل، حمله على قدمه، لإراقة دمه، وزين الوجود بعدمه، فلحين قدومه عليه راجياً أن يستفزه بعرض، أويحيل صحة عقده المبرم إلى مرض، ومؤملاً هووشيعته الغادرة كرة على الإسلام مجهزة، ونصرة لمواعيد الشيطان منجزة، تقبض عليه وعلى شيعته، وصم عن سماع خديعته، وأفحش بهم المثلة، وأساء بحسن رأيه فيهم القتلة، فأراح الله تعالى بإبادتهم نفوس العباد، وأحيا بهلاكهم أرماق البلاد.
وحثثنا السير إلى دار ملكنا فدخلناها في اليوم الأغر المحجل، وحصلنا منها على الفتح الإلهي المعجل، وعدنا إلى الأريكة التي بنا عنها التمحيص فما حسبنا إلا سراراً أعقبه الكمال، ومرضاً عاجله الإبلال، فثابت للدين الآمال، ونجحت الأعمال، وبذلنا في الناس من العفوما غفر الذنوب، وجبر القلوب، وأشعنا العفوفي القريب والقصي، وألبسنا المريب ثوب البري، وتألفنا الشارد، وأعذبنا الموارد، وأجرينا العوائد، وأسنينا الفوائد، إلا ما كان من شرذمة عظمت جرائرهم، وخبثت في معاملة الله تعالى سرائرهم، وعرف شومهم، وصدق من يلومهم، فأقصيناهم وشردناهم، وأجليناهم
عن هذا الوطن الجهادي وأبعدناهم.
ولما تعرف سلطان قشتالة باستقلالنا، واستقرارنا بحضرة الملك واحتلالنا، بادر يعرف بما كان من عمله فيمن لحق له من طائفة الغدر، وإخوان الخديعة والمكر، وبعث إلينا برؤوسهم، ما بين رئيسهم الشقي ومرؤوسهم، وقد طفا على جداول السيوف حبابها، وراق بحناء الدماء خضابها، وبرز الناس إلى مشاهدتها معتبرين، وفي قدرة الله تعالى مستبصرين، ولدفاع النفس بعضهم ببعض شاكرين، وأحق الله تعالى الحق بكلماته وقطع دابر الكافرين، فأمرنا بنصب تلك الرؤوس بمسور الغدر الذي فرعته، وجعلناها علماً على عاتق العمل السيئ الذي اخترعته، وشرعنا في معالجة العلم، وأفضنا على العباد والبلاد حكم السلم، فاجتمع الشمل كأحسن أحواله، وسكن هذا الوطن بعد زلزاله، وأفاق من أهواله.
ولعلمنا بفضلكم الذي قضاياه شائعة، ومقدماته ذائعة، أخبرناكم به على اختصار، واجتزاء واقتصار، ليسر دينكم المتين بتماسك هذا الثغر الاقصى بعد استرساله، وإشرافه على سوء مآله، وكنا نخاطب محل أخينا السلطان الجليل المعظم الأسعد الأوحد الخليفة أمير المؤمنين أبي إسحاق ابن الخليفة أمير المؤمنين المعظم المقدس أبي يحيى ابن أبي بكر ابن الأئمة المهتدين والخلفاء الراشدين - وصل الله تعالى أسباب سعده وحرس أكناف مجده - لولا أننا تعرفنا كونه في هذه المدة مقيماً بغير تلك الحضرة التونسية، فاجتزأنا بمخاطبة جهتكم السنية، وبين سلفنا وسلفكم من الود الراسخ البنيان، والكريم الأثر والعيان، ما يدعوإلى أ، يكون سبب المخالطة موصولاً، وآخره الود خيراً من الأولى، لكن الطريق جم العوائق، والبحر مفروق (1) البوائق، وقبول العذر بشواغل
(1) ق: معروف.
القطر بالفضل لائق، ومزادنا أن يتصل الود، ويتجدد العهد، والله عز وجل يتولى أمور المسلمين بمتوارد إحسانه، ويجمع قلوبهم حيث كانوا على طاعة الله تعالى ورضوانه، وهوسبحانه يطيل سعادتكم، ويحرس مجادتكم، وينجح إدارتكم، ويسني إرادتكم، والسلام الكريم يخصكم، ورحمة الله تعالى وبركاته.
77 -
ومن نثره رحمه اله تعالى ما أنشأه عن سلطانه الغني بالله، وذلك قوله: يا أيها الناس، ضاعف الله تعالى بمزيد النعم سروركم؛ وتكفل بلطفه الخفي في مثل هذا القطر الغريب أموركم؛ أبشركم بما كتب به سلطانكم السعيد إليكم، المترادفة بيمنه وسعادته نعم الله تعالى عليكم، أمتع الله تعالى الإسلام ببقائه، وأيده على أعدائه، ونصره في أرضه بملائكة سمائه، وأن الله تعالى فتح له الفتح المبين، وأعز بحركة جهاده الدين، وبيض وجوه المؤمنين، وأظفره باطريرة البلد الذي فجع المسلمين بأسرهم فجيعة تثير الحمية، وتحرك الأنفس الأبية، فانتقم اله تعالى منهم على يده، وبلغه من استئصالهم غاية مقصده، فصدق من الله تعالى لأوليائه وعلى أعدائه الوعد والوعيد، وحكم بإبادتهم المبدئ المعيد " وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة؛ إن أخذه أليم شديد " هود:102 وتحصل من سبيه بعدما رويت السيوف من دمائهم آلاف عديدة، لم يسمع بمثلها في المدد المديدة، والعهود البعيدة، ولم يصب من إخوانكم المسلمين عدد يذكر، ولا رجل يعتبر، فتح هني، وصنع سني، ولطف خفي، ووعد وفي، فاستبشروا بفضل اله تعالى ونعمته، وقفوا عند الافتقار والانقطاع لرحمته، وقابلوا نعمه بالشكر يزدكم، واستبصروا في الدفاع عن دينكم ينصركم ويؤيدكم، واغتبطوا بهذه الدولة المباركة التي لم تعدموا من الله تعالى معها عيشاً خصيباً، ولا رأياً مصيباً، ولا نصراً عزيزاً ولا فتحاً قريباً، وتضرعوا في بقائها، ونصر لوائها، إلى من لم يزل سميعاً لدعاء مجيباً، والله عز وجل
يجعل البشائر الفاشية فيكم عادة، ولا يعدمكم ولا أولي الأمر منكم توفيقاً وسعادة، والسلام الكريم يخصكم، ورحمة الله تعالى وبركاته من مبلغ ذلك فلان انتهى.
78 -
ومن نثر لسان الدين - رحمه الله تعالى - ما أنشأه عن سلطانه الغني بالله تعالى - حين وصله ابنه الذي كان بفاس - يخاطب سلطان فاس، ما نصه: المقام الذي تقلد نافلة الفضل شفعاً، وجود سورة الكمال إفراداً وجمعاً، واستولى وجمع ببره المنح، والتهنئة والفتح، فأحرز أصلاً وفرعاً، واستحق الشكر عقلاً وشرعاً، وأغرى أيدي جوده، بالقصد الذي هوحظ وليه من وجوده، فأثار من جيش إلقاء نقعاً، ووسط به جمعاً، مقام محل أخينا الذي أقلام مقاصده دربة بحسن التوقيع، وعيون فضله مذكاة لإحكام الصنيع، وعذبات فخره تهفوبذروة العلم المنيع، ومكارمه تتفنن فيها مذاهب التنويع، أبقاه الله تعالى وألسن فضله ناطقة، وأقيسة سعده صادقة، وألويته بالنصر العزيز خافقة، وبضائع مكارمه في أسواق البر نافقة، وعصائب التوفيق لركائب أغراضه موافقة؛ السلطان الكذا ابن السلطان الكذا ابن السلطان الكذا: سلام كريم، طيب بر عميم، يخص مقامكم الأعلى، وطريقتكم المثلى، وأخوتكم الفضلى، ورحمة الله تعالى وبركاته، مجل قدركم، وملتزم بركم، وموجب حمدكم وشكركم، فلان.
أما بعد حمد الله تعالى الذي الشكر على المكرمات وقفاً، ونهج منه بإزائها سبيلاً لا تلتبس ولا تخفى، وعقد بينه وبين المزيد سبباً وحلفاً، وجعل المودة في ذاته مما يقرب إليه زلفى، مربح تجارة من قصد وجهه بعمله حتى يرى الشيء ضعفاً، وناصر هذه الجزيرة من أوليائه الكرام السيرة بمن يوسعها فضلاً وعطفاً، ومدني ثمار الآمال فتتمتع بها اجتناء وقطفاً، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد النبي العربي الكريم، الرؤوف الرحيم
الذي مد من الرحمة على الأمة سجفا، وملأ قلوبها تعاطفاً وتعارفاً ولطفاً، القائل من أيقن بالخلف جاد بالعطية ووعد من عامل الله تعالى بربح المقاصد السنية، وعداً لا يجد خلفاً، والرضى عن آل وأصحابه الذين كانوا من بعده للإسلام كهفاً، وعلى أهله في الهواجر ظلاً ملتفاً، غيوث الندى كلما شاموا سماحاً وليوث العدى كلما شهدوا زحفاً، والدعاء لمقام أخوتكم الأسعد بالنصر الذيي يكف من عدوان الكفر كفاً، والمجد الذي لا يغادر كتابه من المفاخر التي ترك الأول للآخر حرفاً، وإلى هذا - أيدكم الله بنصر من عنده، وحكم لملككم الأسمى باتصال سعده، وأنجز في ظهوره على من عاند أمره سابق وعده - فإننا نقرر لدى مقامكم وإن كان الغني بأصالة عقله، عن اجتلاء الشاهد ونقله، وجلاء البيان وصقله، أن الهدايا وإن لم تحل العين منها كما حلت، أوتناولها الاتنزار فما نبهت في لحظ الاعتبار ولا جلت، أوكانت زيفاً كلما أغري بها الاختبار قلت، لا بد أ، تترك في النفوس ميلاً، وأن تستدعي من حسن الجزاء كيلاً، وأن تنال من جانب التراحم والتعاطف نيلاً، وأي دليل أوضح محجة، وأبين حجة، من قوله صلى الله عليه وسلم تهادوا وتحابوا من غير تبيين مقدار، ولا إعمال اعتبار، ولا تفرقة بين لجين ولا نضار. فكيف إذا كانت الهدية فلذة الكبد التي لا يلذ العيش بعد فراقها، ولا تضيء ظلم الجوانح إلا بطلوع شمسها وإشراقها، وجمع الشمل الذي هوأقصى آمال النفوس الآلفة، والبواطن المصاحبة للحنين المحالفة، لا سيما إذا اقتعدت محل الهناء، بالفتح الرائق السناء، وحفت بها من خلفها وأمامها صنائع البر وقومة الاعتناء، فهنالك تفخر ألسن الثناء، وتتطابق أعلام الشكر السامية البناء.
وإننا ورد علينا كتبكم الذي سطره البر وأملاه، وكنفه اللحظ وتولاه، ووشحه البيان وحلاه، مهنئاً بما منح الله جل لجاله من رد الحق، وتعيين الجمع ورفع الفرق، وتطويق الأمان وأمان الطوق، وإسعاد السعد
وبلوغ القصد، وقطع دابر من جحد نعمة الأب والجد، وسل سيف البغي دامي الحد، والحمد لله تعالى حمداً يلهمه ويتيحه، ونسأله إمداداً يسوغه ويبيحه، على أن أحسن العقبى وأعقب الحسنى، وأرى النعم بين فرادى ومثنى، وجمع الشمل الذي قد تبدد، وجدد رسم السعادة لهذا القطر فتجدد، واخذ الظالم فلم يجد من محيص، وجمع لنا الأجر والفخر بين تخصيص وتمحيص، وقلد برؤوس الفجرة الغدرة الفرضة التي فرعوها، وأطفأ بمراق دمائهم نار الضلالة التي شرعوها، وكتب لقبيلكم الفضل الذي يحمد ويشكر، والحق الذي لا يجحد ولا ينكر، فلقد أوى لما تبرأت الخلصان، وتحفى عندما تنكر الزمان، وسبب الإدالة وطاوع الأصالة والجلالة، حتى فرج الله تعالى الكرب، وآنس الغربة، وأقال العثرة وتقبل القربة، له الحمد على آلائه، وصلة نعمائه، ملء أرضه وسمائه.
ووصل صحبته الولد مكنوفاً بجناح الطف، ممهداً له ببركتكم مهاد العطف، فبرزنا إلى تلقية تنويهاً لهديتكم وإشادة، وإبداء في بركم وإعادة، وأركبنا الجيش الذي آثرنا لحين استقلالنا عرضه، وقررنا بموجب الاستحقاق فرضه، فبرز إلى الفضاء الأفيح حسن الترتيب، سافراً عن المرأى العجيب، ولولا الحنان الذي تجده النفوس للأبناء وتستشعره، والشوق إلى اللقاء الذي لا يجحده منصف ولا ينكره، لما شق علينا طول مقامه في حجركم، ولا ثواؤه لصق أريكة أمركم، فجواركم محل لاستفادة رسوم الإمارة، وتعلم السياسة والإدارة، حتى يرد علينا يقدم كتيبة جهادكم، ويقود إلينا طليعة نصركم إيانا وغمدادكم، فنحن الآن نشكر مقاصدكم التي اقتضى الكمال سياقها، وزين المجد آفاقها، وقدرها فأحكم طباقها، ونقرر لديكم أن حظنا من ودادكم، ومحلنا من جميل اعتقادكم، حظ بان رجحانه وفضله، ولم يتأت بين من سلف من السلف مثله، من الصحبة في المنزل الخشن وهي الوسيلة، وفي رعيها
تظهر الفضيلة، والاشتراك في لازم الوصول إلى الحق، وضم أشتات الخلق، والمودة الواضحة الطرق، إلى ما بين السلف، من الود الى من بدره من الكلف، المذخورة أذمته للخلف، فإذا كانت المعاملة جارية على حسبه، وشعبها راجعة إلى مذهبه، جنى الإسلام ثمرة حافلة، واستكفى الدين إيالة كافلة، فالله، عز وجل، يمهد البلاد بيمن تدبيركم، ويجري على مهيع السداد جميع أموركم، ويجعلكم ممن زين الجهاد عواتق أعماله، وكان رضى الله تعالى عنه أقصى آماله، حتى تربي مآثركم على مآثر أسلافكم الذين عرف هذا الوطن الجهادي إمدادهم، وشكر جهادهم، وقبل الله تعالى فيه أموالهم وأولادهم، وحسن من أجله معادهم.
وقد حضر بين يدينا رسولكم الذي وجهتم الولد - أسعده الله تعالى - لنظره، وتخيرتموه لصحبة سفره، فلان، وهومن الأمانة والفضل، والرجاحة والعقل، بحيث طابق اختياركم، واستحق إيثاركم، فأطنب في تقرير ما لديكم من عناية بهذه الأوطان عنيت الرفد، وضربت الوعد، وأخلصت في سبيل الله تعالى القصد، وغير ذلك مما يؤكد المودة المستقرة الأركان، المؤسسة على التقوى والرضوان، فأجبناه بأضعاف ذلك مما لدينا لكم، وقابلنا بالثناء الجميل قولكم وعملكم، والله تعالى يصل سعدكم، ويحرس مجدكم، والسلام الكريم يخصكم، ورحمة الله تعالى وبركاته.
79 -
ومن ذلك ما كتبه - رحمة الله تعالى - على لسان الأمير سعد ابن سلطانه الغني بالله تعالى إليه وهو:
مولاي ومولى كبيري ومولى المسلمين، ورحمتي المتكفلة بالسعد الرائق الجبين، يقبل قدمكم التي جعل الله تعالى العز في تقبيلها، والسعد في أتباع سبيلها، عبدكم الصغير في سنه، الكبير في خدمتكم وخدمة كبيره في حياتكم بفضل الله تعالى ومنه، الهاش لتمريغ وجهه في كتابكم حسن الذراع، المنبئة طباعه
عن العبودية الكامنة بالبدار إلى ذلك والإسراع، عبدكم وولدكم سعد، كتبه من بابكم، المحوط بعز أمركم، المتحف إن شاء الله تعالى بأنباء نصركم، وقد وصل إلى عبدكم تشريفكم السابغ الحل، وتنويهكم المبلغ غايات الأمل، وخط يدكم الكريمة وغمامة رحمتكم الهامية الديمة، فيا له نم عز أثبت لي الفخر في أبناء الملوك، وسار بي من الترشيح لرتب حظوتكم على المنهج المسلموك، قرر من عافية مولاي وسعادته، واقتران السعود حيث حل بوفادته، ما تكفل ببلوغ الآمال، وتمم لسان الحال في شكر الله تعالى لسان المقال، والله تعالى يديم أيام مولاي حتى يقوم بحق شكر النعم لسانه، وتؤدي بعده جوارحه من الدفاع بين يدي سلطانه ما يسر به سلطانه، وبعث جوابه منقولاً ليد حامله من يده ليهنئ تقبيل اليد الكريمة بحال تأكيد، ويقرر ما لعبده إلى وجهه الكريم من شوق شديد، ويعرف شمول نعمة الله تعالى ونعمته لمن ببابه من خدم وحرم وعبيد، ويمد يد الرغبة لمولاه في صلة الإنعام بتشريفه، وإعلامه بتزايدات حركته وتعريفه، ففي ضمن ذلك كل عز مشيد، وخير جديد، وينهي تحية أهل منزل مولاي على اختلافهم بحسب منازلهم من نعمة لحظه، التي يأخذ منها كل بحظه، والسلام الكريم ورحمة الله تعالى وبركاته.
80 -
وقال رحمه الله تعالى: ومن نثري ما خاطبت به السلطان على لسان ولده من مالقة، وقد وصلت به إليه من المغرب:
مولاي الذي رضى الله تعالى مقرون برضاه، والنجح مسبب عن نيته ودعاه، وطاعته مرتبطة بطاعة الله، أبقى الله تعالى علي بكم ظل رحماه، وغمام نعماه، وزادني من مواهبه هداية في توفية حقه الكبير فإن الهدى هدى الله: يقبل مواطئ أقدامكم التي ثراها شرف الخدود وفخر الجباه، ويقرر من عبوديته ما يسجل الحق مقتضاه، ويسلم على مثابة رحمتكم السلام الذي يحبه الله تعالى ويرضاه، ولدكم وعبدكم يوسف، من منزل تأييدكم
بظاهر مالقة، حرسها الله، والوجود ألسن بالعز بالله ناطقة، والأعلام والشجر ألوية بالسعد خافقة، وأواع التوفيق متوافقة، وصنائع اللطيف الخبير مصاحبة مرافقة.
وقد وصل يا مولاي لعبدكم المفتخر بالعبودية لكم ما بعث به علي مقامكم، وجادت به سحائب إنعامكم، ولمن تحت حجبة ستركم المسدول، وفي ظل اهتمامكم الموصول، ولمن ارتسم بخدمة أبوابكم الشريفة من الخدام، وأولي المراقبة والالتزام، ما يضيق عنه بيان العبارة، ويفتضح فيه لسان القول والإشارة، من عنايات سنية، ونعم باطنة وجلية، وملاحظة مولوية، ومقاصد ملكية، فما شئت من قباب مذهبة، وملابس منتخبة، وأسرة مرتبة، ومحاسن لا مستورة ولا محجبة، واللواء الذي نشرتم على عبدكم ظله الظليل، ومددتم عليه جناح العز الجليل، جعله الله تعالى أسعد لواء في خدمتكم، ومد علي وعليه لواء حرمتكم، حتى يكون لجهادي بين يديكم شاهداً، وبالنصر العزيز والفتح المبين عليكم عائداً، ولطائفة الخلوص لأمركم قائداً، ولأولياء بابكم هادياً ولأعدائكم كائداً.
واتفق يا مولاي أن كان عبدكم قد ركب مغتنماً برد اليوم، ومؤثراً للرياضة في عقب النوم، والتف عليه الخدام، والأولياء الكرام، فلما عدنا تعرضت لنا تلك العنايات المجلوة الصور، المتلوة السور، وقد حشر الناس، وحضرت منهم الأجناس، فعلا الدعا، وانتشر الثنا، وراقت الأبصار تلك الهمة العليا، فنسأل الله تعالى يا مولاي أن يكافئ مقامكم بالعز الذي لا يتبدل، والنصر الذي يستأنف ويستقبل، والسعد الذي محكمه لا يتأول، والعبد ومن له على حال اشتياق للورود على أبوابكم الرفيعة المقدار، وارتياح لقرب المزار:
وأبرح ما يكون الشوق يوماً
…
إذا دنت الديار من الديار
والعمل على تيسير الحركة متصل، والدهر لأوامر السعد محتفل، بفضل الله تعالى، والسلام على مقام مولاي مقام الشفقة والرحمة، والمنة والنعمة، ورحمة الله تعالى وبركاته انتهى.
81 -
ومن إنشاء لسان الدين في تولية الأمير يوسف المذكور مشيخة الغزاة على لسان السلطان والده ما نصه:
هذا ظهير كريم فاتح بنشر الألوية والبنود وقود العساكر والجنود، وأجال في ميدان الوجود، جياد الباس والجود، وأضفى ستر الحماية والوقاية بالتهائم والنجود، على الطائفتين والعاكفين والركع السجود، عقد للمعتمد به عقد التشريف، والقدر المنيف، زاكي الشهود، وأوجب المنافسة بين مجالس السروج ومضاجع المهود، وبشر السيوف في الغمود، وأنشأ ريح النصر آمنة من الخمود، أمضى أحكامه، وأنهد العز أمامه، وفتح من وهر السرور والحبور كمامه، أمير المسلمين عبد الله محمد ابن مولانا أمير المسلمين أبي الحجاج ابن مولانا أمير المسلمين أبي الوليد ابن فرج بن نصر - أيد الله تعالى أمره وخلد ذكره - لكبير ولده، وسابق أمده، وريحانة خلده، وياقوتة الملك على يده، الأمير الكبير الطاهر الظاهر الأعلى، واسطة السلك، وهلال سماء الملك، ومصباح الظلم الحلك، ومظنة العناية الأزلية من مدير الفلك ومجري الفلك، عنوان سعده، وحسام نصره وعضده، وسمي جده، وسلالة فضله ومجده، السعيد المظفر الهمام الأعلى الأمضى، العالم العامل الأرضي، المجاهد المؤمل المعظم أبي الحجاج يوسف، ألبسه الله تعالى من رضاه عنه حللاً لا تخلق جدتها الأيام، ولا تبلغ كنهها الإفهام، وبلغه في خدمته المبالغ التي يسر بها الإسلام، وتسبح في بحار صنائعها الأقلام، وحرس معاليها الباهرة بعينه التي لا تنام، وكنفه بركنه الذي لا يضام، فهوالفرع الذي جرى بخصله على أصله، وارتسم نصره في نصله، واشتمل حده على فصله، وشهدت ألسن خلاله، برفعة
جلاله، وظهرت دلائل سعادته، في بدء كل أمر وإعادته، لما صرف وجهه إلى ترشيحه، لافتراع هضاب المجد البعيد المدى وتوشيحه، بالصبر والحلم والباس والندى، وأرهف منه سيفاً من سيوف الله تعالى لضرب هام العدا، وأطلعه فس سماء الملك بدر هدى، لمن راح وغدا، وأخذه بالآداب التي تقيم من النفوس أوداً، وتبذر في اليوم فتجني غدا، ورقاه في رتب المعالي طوراً فطوراً، ترقي النبات ورقاً ونوراً، ليجده بحول الله تعالى يداً باطشة بأعدائه، ولساناً مجيباً عند ندائه، وطرازاً على حلة علائه، وغماماً من غمائم آلائه، وكوكباً وهاجاً بسمائه، وعقد له لواء الجهاد على الكتيبة الأندلسية من جنده، قبل أن ينتقل عن مهده، وظلله بجناح رايته، وهوعلى كتد دابته، واستركب جيش الإسلام ترحيباً بوفادته، وتنويهاً بمجادته، وأثبت في غرض الإمارة النصرية سهم سعادته، رأى (1) أن يزيده من عنايته ضروباً وأجناساً، ويتبع أثره ناساً فناساً، قد اختلفوا لساناً ولباساً، واتفقوا ابتغاء لمرضاة الله والتماساً، ممن كرم انتماؤه، وزينت بالحسب العد سماؤه، وعرف غناؤه، وتأسس على المجادة بناؤه، حتى لا يدع من العناية فناً إلا وجلبة إليه، ولا مقادة فخر إلا جعلها في يديه، ولا حلة عز إلا أضفى ملابسها عليه.
و [لما] كان جيش الإسلام في هذه البلاد الأندلسية - أمن الله سبحانه خلالها، وسكن زلزالها، وصدق في رحمة الله تعالى التي وسعت كل شيء آمالها - كلف همته، ومرعى ذمته، وميدان اجتهاده، ومعلق أمل جهاده، ومعرج إرادته، إلى تحصيل سعادته، وسبيل خلاله، إلى بلوغ كماله، فلم يدع له علة إلا أزاحها، ولا طلبة إلا أجال قداحها، ولا عزيمة إلا أورى اقتداحها، ولا رغبة إلا فسح ساحها، آخذاً مدونته بالتهذيب، ومصافه بالترتيب، وآماله بالتقريب، محسناً في تلقي الغريب،
(1) هذا جواب " لما " في السطر الأول أعلاه.
وتأنيس المريب، مستنجزاً له وبه وعد النصر العزيز والفتح القريب، ورفع عنه لهذا العهد نظر من حكم الإعراض في حماته، واستشعر عروق الحسائف لتشذيب كماته، واشتغل عن حسن الوساطة لهم بمصلحة ذاته، وجلب جباته، وتثمير ماله وتوفير أقواته، ذاهباً أقصى مذاهب التعمير بأمد حياته، فانفرج الضيق، وخلص إلى حسن نظره الطريق، وساغ الريق، ورضي الفريق، رأى - والله الكفيل لنجح رأيه، وشكر سعيه، وصلة حفظه ورعيه - أن يجهد لهم اختياره، ويحسن لديهم آثاره، ويستنيب فيما بينه وبين سيوف جهاده، وأبطال جلاده، وحماة أحوازه، وآلات اعتزازه، من يجري مجرى نفسه النفيسة في كل مبنى، ويكون له لفظ الولاية وله - أيده الله تعالى - المعنى، فقدمه على الجماعة الأولى كبرى الكتائب، ومقادة الجنائب، وأجمة الأبطال، ومزنة الودق الهطال، المشتملة من الغزاة على مشيخة آل يعقوب نسباء الملوك الكرام، وأعلام الإسلام، وسائر قبائل بني مرين، ليوث العرن، وغيرهم من أصناف القبائل، وأولي الوسائل، ليحوط جماعتهم، ويعرف بتفقده إطاعتهم، ويستخلص لله تعالى ولأبيه - أيده الله تعالى - طاعتهم، ويشرف بإمارته مواكبهم، ويزين بهلاله الناهض إلى الإبدار على فلك سعادة الأقدار كواكبهم، تقديماً أشرق له وجه الدين الحنيف وتهلل، وأحس باقتراب ما أمل، فللخيل اختيال ومراح، وللأسل السمر اهتزاز وارتياح، وللصدور انشراح، وللآمال مغدى في فضل الله تعالى ورواح.
فليتول ذلك - أسعده الله تعالى - تولي مثله ممن أسرة الملك أسرته، وأسوة الني صلوات الله تعالى عليه أسوته، والملك الكريم أصل لفرعه، والنسب العربي منجد لطيب طبعه، آخذاً أشرافهم بترفيع المجالس بنسبة أقدارهم، مغرياً حسن اللقاء بإيثارهم، شاكراً غناءهم، مستدعياً ثناءهم، مستدراً لأرزاقهم، موجباً المزية بحسب استحقاقهم، شافعاً في رغباتهم المؤملة، ووسائلهم المتحملة، مسهلاً الإذن لوفودهم المتلاحقة، منفقاً لضائعهم النافقة
مؤنساً لغرمائهم، مستجلياً أحوال أهليهم وآبائهم، مميزاً بين إغفالهم ونبهائهم.
وعلى جماعتهم - رعى الله تعالى جهادهم، ووفر أعدادهم - أن يطيعوه في طاعة الله تعالى وطاعة أبيه، ويكونوا يداً واحدة على دفاع أعداء الله تعالى وأعاديه، ويشدوا في مواقف الكريهة أزره، ويمتثلوا نهيه وأمره، حتى يعظم الانتفاع، ويشهر الدفاع، ويخلص المصال له تعالى والمصاع، فلووجد - أيده الله تعالى - غاية في تشريفهم لبلغها، أوموهبة لسوغها، لكن ما بعد ولده العزيز عليه مذهب، ولا وراء مباشرتهم بنفسه معزب، والله تعالى منجح الأعمال، ومبلغ الآمال، والكفيل بسعادة المآل.
فمن وقف على هذا الظهير الكريم فليعلم مقدار ما تضمنه من أمر مطاع، وفخر مستند إلى إجماع، ووجوب أتباع، وليكن خير مرعي لخير راع بحول الله تعالى.
وأقطعه - أيده الله تعالى - ليكون بعض المواد لأزواد سفره، وسماط نفره، في جملة ما أولاه من نعمه، وسوغه من موارد كرمه، جميع القرية المنسوبة إلى عرب عنان، وهي المحلة الأثيرة، والمنزلة الشهيرة، تنطلق عليها أيدي خدامه ورجاله، جارية مجرى صريح ماله، محررة من كل وظيفة لاستغلاله، إن شاء الله تعالى، فهوالمستعان سبحانه، وكتب في كذا انتهى.
82 -
وكتب لسان الدين - رحمه الله تعالى - في شأن تقليد الأمير سعد أخي المذكور الأصغر منه سناً ما صورته:
هذا ظهير جعل الله تعالى له الملائكة ظهيراً، وعقد منه في سبيل الله تعالى لواء منصوراً، وأعطى المعتمد به باليمن كتاباً منشوراً " وما كان عطاء ربك محظوراً " الإسراء:20 وأطلع صبح العناية المبصرة الآية يبهر سفوراً، ويسطع نوراً، وأقر عيوناً للمسلمين وشرح صدوراً، ووعد الأهلة أ، تصير بإمداد شمس الهدى إياها بدوراً، وبشر الإسلام بالنصر المنتظر، والفتح الرائق الغرر
مواسط وثغوراً، وأبتع حماة الدين لواء الإمارة السعيدة النصرية فأسعد بها آمراً وأكرم بها مأموراً، أمر به، وأمضى العمل بمقتضاه وحسبه، أمير المسلمين عبد الله محمد ابن أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين أبي الحجاج ابن أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين أبي الوليد ابن فرج بن نصر، أعلى الله تعالى رايته وسدد رأيه، وشكر عن الإسلام والمسلمين سعيه، لقرة عينه، ومقتضى حقه من العدو ودينه، وغصن دوحه، وآية لوحه، ودرة قلادته، ودري أفلاك مجادته، وسيف نصره، وهلال قصره، وزينة عصره، ومتقبل هديه ورشده، ومظنة إشراق سعده، وإنجاز وعده، ولده الأسعد، وسليل ملكه المؤيد، الأمير الأجل الأعز الأسنى الأطهر الأظهر الأعلى، لابس أثواب رضاه ونعمته، ومنحة الله لنصره وخدمته، ومظهر عزة وبعد همته، التقي الرضي العالم العامل الماجد حامي الحمى تحت ظل طاعته، وكافي الإسلام الذي يأمن من إضاعته، المحرز مزايا الأعمار الطويلة حظ الشهر في يومه وحظ اليوم في ساعته، الموقر المهيب المؤمل المعظم أبي النصر سعد عرفه الله تعالى ببركة سعد بن عبادة جده، خال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعظم بمجده، ووزيره في حله وعقده، وأجناه ثمرة النصر الذي كناه به ووصل سببه بسببه فما النصر إلا من عنده، وأنتج له الفتح المبين من مقدمتي نصره وسعده، لما صرف وجه عنايته إليه في هذه البلاد الأندلسية التي خلص لله انفرادها وانقطاعها، وتمحض - لأن تكون كلمة الله هي العليا - قراعها، وصدق مصالها في سبيله جل وعلا ومصاعها، إلى ما يمهد أرجاءها، ويحقق رجاءها، من سلم يعقد، ولا يعدم الحزم معه ولا يفقد، وعطاء ينقد، ورأي لا يتعقب ولا ينقد، وحرب تضمر له الجياد، ومرمى فكره الذي عنه لا يبرح، فديوانه ديوان أمانيه الذي تسهب فيه وتشرح، أسهمه من سياسته أوفى الحظوظ
وأسناها، وقصر عليه لفظ العناية ومعناها، ووقف عليه موحدها ومثناها، فأزاح علله، وأحيا أمله، وأنشأ جذله، ورفع عنه من لم يبذل الجد له، ولا أخلص لله فيه عمله.
واختار لقيادة مقانبه المنصورة، وإمارة غزواته المبروروة، أقرب الناس إلى نفسه نسباً، وأوصلهم به سبباً، وأحقهم بالرتب المنيفة والمظاهر الشريفة، ذاتاً وأباً، وحداً وشباً، وأمره على أشرافه، ودل له الأنفال على أعرافه، وصرف إليه آماله، واستعمل في أسنته يمينه وفي أعنته شماله، وعقد عليه ألويته الخافقة لعزة نصره، ورأى الظهور على أعداء الله تعالى جنى فهيأه لهصره، وأدار هالة قتام إجهاد عن قرب بالولادة على بدره، ونبه نفوس المسلمين على جلاله قدره، وقدمه على الكتيبة الثانية من عسكر الغزاة المشتملة على الأشياخ من أولاد يعقوب كبار بني مرين، وسائر قبائلهم المكرمين، وغيرهم من القبائل المحترمين، ينوب عن أمره في عرض مسائلهم، وقرى وافدهم، وإجراء عوائدهم، تقديماً تهلل له الإسلام واستبشر، وتيقن الظفر فاستبصر، لما علم بمن استنصر، فليخلصوا له في طاعته الكبرى الطاعة، وليعلقوا ببنان نداه بنان الطماعة، ويؤملوا على يديه نجح الوسيلة إلى مقامه والشفاعة، ويعلموا أن اختصاصهم به هوالعنوان على رفع محالهم لديه، وعزة شأنهم عليه، فلووجد هضبة أعلى لفرعها لهم وعلاها، أوعزة أعز لجلاها، أوقبلة أزكى لصرف وجوههم وولاها، حتى تجنى ثمرة هذا القصد، وتعود بالسعد حركة هذا الرصد، وتعلوذؤابة هذا المجد، وتشهد بنصر الدين على يده ألسنة الغور والنجد، بفضل الله سبحانه.
وعليه - أسعد الله الدولة باستعماله مكافحاً بأعلامها، وزيناً لأيامها، وسيفاً في طاعة إمامها - أن يقدم منهم في مجلسه أهل التقديم، ويقابل كرامهم بالتكريم، ويستدعي آراء مشايخهم في المشكلات في أمور الحرب، ويغضي جفون عزائمهم في موقف الصبر والضرب، ويتفقدهم بإحسانه عند الغناء، ويقابل حميد سعيهم
بالثناء، على هذا يعتمد وبحسبه يعمل، وهوالواجب الذي لا يهمل، وقصده بالإعظام والإجلال، والانقياد الذي يعود بالآمال، وينجح الأعمال، بحول الله تعالى متقبل، وكتب في كذا انتهى.
83 -
ومما اشتمل على نظم لسان الدين ونثره ما كتب به من سلا إلى سلطانه الغني بالله تعالى، وقد بلغه ما كان من صنع الله سبحانه له وعودته إلى سلطانه:
هنيئاً بما خولت من رفعة الشأن
…
وإن كره الباغي وإن رغم الشاني
وأن خصك الرحمن جل جلاله
…
بمعجزة منسوبة لسليمان
أغار على كرسيه بعض جنه
…
فألقت له الدنيا مقالد إذعان
فلما رآها فتنة خر ساجداً
…
وقال إلهي امنن علي بغفران
وهب لي ملكاً بعدها ليس ينبغي
…
تقلده بعدي لإنس ولا جان
فآتاه لما أن أجاب دعاءه
…
من العز ما لم يؤت يوماً لإنسان
وإن كان هذا الأمر في الدهر مفرداً
…
فأنت له لما اقتديت به الثاني
فقابل صنيع الله بالشكر واستعن
…
به وأجز إحسان الإله بإحسان
وحق الذي سماك باسم محمد
…
لو أن الصبا قد عاد منه بريعان
لما بلغ النعمى عليك سروره
…
ألية واف لا ألية خوان
فإني أنا العبد الصريح انتسابه
…
كما أنت مولاي العزيز وسلطاني
إذا كنت في يعز وملك وغبطة
…
فقد نلت أوطاري وراجعت أوطاني مولاي الذي شأنه عجب، والإيمان بعناية الله تعالى به قد وجب، وعزه أظهره من برداء العزة احتجت، إذا كانت الغاية لا تدرك، فأولى أن تسلم وتترك، ومنة الله تعالى عليك ليست مما يشرح، قد عقل العقل فما يبرح، وقيد اللسان فما يرتعي في مجال العبارة ولا يسرح، اللهم ألهمنا على هذه النعمة شكراً
ترضاه، وإمداداً من لدنك نتقاضاه، يا الله يا الله. سعود أنارت بعد أفول شهابها، وحياة كرت بعد ذهابها، وأحباب اجتمعت بعد فراقها، وأوطان دنت بعد بعد شامها من عراقها، وأعداء أذهب الله تعالى رسم بغيهم ومحاه، وبغاة أدار عليهم الدهر رحاه، وعباد أعطوا من كشف الغم ما سألوه، ونازحون لوسئلوا في إتاحة القرب بما في أرقامهم لبذلوه، وسبحان الذي يقول " ولوأنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أواخرجوا من دياركم ما فعلوه " النساء:66 فليهن الإسلام بياض وجهه بعد اسوداده، وتغلب إيالة من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر على بلاده، وعودة الملك المظلوم إلى معتاده، واستواء الحق الثاني جنبه فوق مهاده، ورد الإرث المغضوب إلى مستحقه عن آبائه وأجداده. والحمد له الذي غسل عن وجه الأمة الحنيفية العار، وأنقذ عهدتها وقد ملكها الذعار، فرد المعار، وأعيد الشعار، نحمدك اللهم حمداً يليق بقدسك، لا بل لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.
والعبد يا مولاي قد بهرت عقله آلاء الله تعالى قبلك، فالفكر جائل واللسان ساكت، والعقل ذاهل والطرف باهت، فغن أقام رسماً للمخاطبة فقلم مرح وركض، وطرس هز جناح الارتياح ونفض، ليس هذا المارم مما يرام، ولا هذه العناية التي تحار فيها الإفهام، مما تصمي غرضه السهام، فنسأل الله تعالى أن يجعل مولاي من الشاكرين، وبأحكام تقلبات الأيام من المعتبرين، حتى لا يغره السراب الخادع، والدهر المرغم للأنوف الجادع، ولا يرى في الوجود غير الله من صانع، ولا معط ولا مانع، ويمتعه بالعز الجديد، وويوقفه للنظر السديد، ويلهمه للشكر فهومفتاح المزيد، والسلام انتهى.
84 -
ومما خاطب به لسان الدين رحمه الله تعالى أبا عبد الله ابن عمر التونسي قوله:
سيدي الذي عهده لا ينسى وذكره يصبح في ترديده بالجميل ويمسى
أبقاكم الله تعالى تجلون من السعادة شمسا، وتصرفون في طاعته لساناً فرداً وبناناً خمساً: وصلني كتابكم الأشعث الأغبر، ومقتضبكم الذي أضغاثه لا تعبر، شاهدة بعدم الاعتناء أوضاعه، معدوماً إمتاعه، قصيراً في التعريف بالحال المتشوف إليها باعه، مضمناً الإحالة على خلي من معناها، غير ملتبس بموحدها ولا مثناها، سألته كما يسأل المريض عما عند الطبيب، ويحرص الحبيب على تعرف أحوال الحبيب، فذكر أنه لم يتحمل غير تلك السحاءة المغنية في الاختصار، المجحفة بحظي الأسماع والأبصار، فهمت بالعتب، على البخيل بالكتب، ثم عذرت سيدي بما يعتري مثله من شواغل تطرق، وخواطر تومض وتبرق، وإذا كان آمناً سربه، مهنا شربه، فهوالأمل، ويقنع هذا المجمل، وإن كان التفسير هوالأكمل، وما ثم ما يعمل، ووده في كل حال وده، والله سبحانه بالتوفيق يمده، والسلام.
وكانت للسان الدين رحمه الله تعالى مخاطبات كثيرة لسلطان الدولة وأعيانها، دلت على قوة عارضته في البلاغة، وقد أبلغنا بجملة منها في هذا الكتاب في مواضع ولم نكثر منها طلباً لاختصار أوالتوسط بحسب ما اقتضاه الباعث في الحال، والله سبحانه وتعالى يبلغ الآمال، ويزكي الأعمال.
85 -
ومن نثر لسان الدين رحمه الله تعالى ما كتبه عن السلطان أبي الحجاج يوسف بن نصر إلى سيد العالمين صلى الله عليه وسلم إثر نظم، ونص الكل هو:
إذا فاتني ظل الحمى ونعيمه
…
فحسب فؤادي أن يهب نسيمه
ويقنعني أني به متكنف
…
فزمزمه دمعي، وجسمي حطيمه
يعود فؤادي ذكر من سكن الغضا
…
فيقعده فوق الغضا ويقيمه
ولم أر شيئاً كالنسيم إذا سرى
…
شفى سقم القلب المشوق سقيمه
نعلل بالتذكار نفساً مشوقة
…
ندير عليها كأسه ونديمه
وما شفني بالغور قد مرنح
…
ولا شافني من وحش وجرة ريمه
ولا سهرت عيني لبرق ثنية
…
من الثغر يبدوموهناً فأشيمه
براني شوق للنبي محمد
…
يوم فؤادي برحه ما يسومه
ألا يا رسول الله ناداك ضارع
…
على النأي محفوظ الوداد سليمه
مشوق إذا ما الليل مد رواقه
…
تهم به تحت الظلام همومه
إذا ما حديث عنك جاءت به الصبا
…
شجاه من الشوق الحثيث قديمه
أيجهر بالنجوى وأنت سميعها
…
ويشرح ما يخفي وأنت عليمه
وتعوزه السقيا، وأنت غياثه
…
وتتلفه الشكوى، وأنت رحيمه
بنورك نور الله قد أشرق الهدى
…
فأقماره وضاحة ونجومه
لك انهل فضل الله بالأرض ساكباً
…
فأنواؤه ملتفة وغيومه
ومن فوق أطباق السماء بك اقتدى
…
خليل الذي أوطاكها وكليمه
لك الخلق الأرضي الذي جل ذكره
…
ومجدك في الذكر العظيم عظيمه
يجل مدى علياك عن مدح مادح
…
فموسر در القول فيك عديمه
ولي يا رسول الله فيك وراثة
…
ومجدك لا ينسى الذمام كريمه
وعندي إلى أنصار دينك نسبة
…
هي الفخر لا يخشى انتقالاً مقيمه
وكان بودي أن أزور مبوأ
…
بك افتخرت أطلاله ورسومه
وقد يجهد الإناسن طرف اعتزامه
…
ويعوزه من بعد ذاك مرومه
وعذري في تسويف عزمي ظاهر
…
إذا ضاق عذر العزم عمن يلومه
عدتني بأقصى الغرب عن تربك العدا
…
جلالقة الثغر الغريب ورومه
أجاهد منهم في سبيلك أمة
…
هي البحر يعيي أمرها من يرومه
فلولا اعتناء منك يا ملجأ الورى
…
لريع حماه واستبيح حريمه
فلا تقطع الحبل الذي قد وصلته
…
فمجدك موفور النوال عميمه
وأنت لنا الغيث الذي نستدره
…
وأنت لنا الظل الذي نستديمه
ولما نأت داري وأعوز مطمعي
…
وأقلقني شوق يشب جحيمه
بعثت بها جهد المقل معولاً
…
على مجدك الأعلى الذي جل خيمه
وكلت بها همي وصدق قريحتي
…
فساعدني هاء الروي وميمه
فلا تنسني يا خير من وطئ الثرى
…
فمثلك لا ينسى لديه خديمه
عليك صلاة الله ما ذر شارق
…
وما راق من وجه الصباح وسيمه إلى رسول الحق إلى كافة الخلق، وغمام الرحمة الصادق البرق، الحائز في ميدان اصطفاء الرحمن قصب السبق، خاتم الأنبياء، وإمام ملائكة السماء، ومن وجبت له النبوة وآدم بين الطين والماء، شفيع أرباب الذنوب، وطبيب أدواء القلوب، والوسيلة إلى علام الغيوب، نبي الهدى الذي طهر قلبه، وغفر ذنبه، وختم به الرسالة ربه، وجرى في النفوس مجرى الأنفاس حبه، الشفيع المشفع يوم العرض، المحمود في ملإ السماء والأرض، صاحب اللواء المنشور يوم النشور، والمؤتمن على سر الكتاب المسطور، ومخرج الناس من الظلمات إلى النور، المؤيد بكفاية الله وعصمته، الموفور حظه من عنايته ونعمته، الظل الخفاق على أمته، من لوحازت الشمس بعض كماله ما عدمت إشراقاً، أوكان للآباء رحمة قلبه ذابت نفوسهم إشفاقاً، فائدة الكون ومعناه، وسر الوجود الذي يبهر الوجود سناه، وصفي حضرة القدس الذي لا ينام قلبه إذا نامت عيناه، البشير الذي سبقت له البشرى، ورأى من آيات ربه الكبرى، ونزل فيه {بحان الذي أسرى} (الإسراء:1) من الأنوار من عنصر نوره مستمدة والآثار تخلق وآثاره مستجدة، من طوي بساط الوحي لفقده، وسد دون حده، الذي انتقل في الغرر الكريمة نوره، وأضاءت لميلاده مصانع الشام وقصوره، وطفقت الملائكة تجيئه وفودها وتزوره، وأخبرت الكتب
المنزلة على الأنبياء بأسمائه وصفاته، وأخذ عهد الإيمان به على من اتصلت بمبعثه منهم أيام حياته، المفزع الأمنع الفزع الأكبر، والسند المعتمد عليه في أهوال المحشر، ذوالمعجزات التي أثبتتها المشاهدة والحس، وأقر بها الجن والإنس، من جماد يتكلم، وجذع لفراقه يتألم، وقمر له ينشق، وحجر يشهد أن ما جاء به هوالحق، وشمس بدعائه عن مسيرها تحبس، وماء من بين أصابعه يتبجس، وغمام باستسقائه يصوب، وطوي بصق في أجاجها فأصبح ماؤها وهوالعذب المشروب، المخصوص بمناقب الكمال وكمال المناقب، المسمى بالحاشر العاقب، ذوالمجد البعيد المرامي والمراقب، أكرم من رفعت إليه وسيلة المعترف المغترب، ونجحت لديه قربة البعيد المقترب، سيد الرسل محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، الذي فاز بطاعته المحسنون، واستنقذ بشفاعته المذنبون، وسعد باتباعه الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، صلى الله عليه وسلم ما لمع برق، وهمع ودق، وطلعت شمس، ونسخ اليوم أمس:
من عتيق شفاعته، وعبد طاعته، المعتصم بسببه، المؤمن بالله ثم به، المستشفي بذمره كلما تألم، المفتتح بالصلاة عليه كلما تكلم، الذي إن ذكر تمثل طلوعه بين أصحابه وآله، وإن هب النسيم العاطر وجد فيه طيب خلاله، وإن سمع الأذان تذكر صوت بلاله، وإن ذكر القرآن استشعر تردد جبريل بين معاهده وخلاله، لاثم تربه، ومؤمل قربه، ورهين طاعته وحبه، المتوسل به إلى رضى ربه، يوسف بن إسماعيل بن نصر:
كتبه إليك يا رسول الله والدمع ماح، وخيل الوجد ذات جماح، عن شوق يزداد كلما نقص الصبر، وانكسار لا يتاح له إلا بدنومزارك الجبر، وكيف لا يعيي مشوقك الأمر، وتوطأ على كبده الجمر، وقد مطلت الأيام بالقدوم على تربك المقدسة اللحد، ووعدت الآمال ودانت بإخلاف الوعد، وانصرفت الرفاق والعين بنور ضريحك ما اكتحلت، والركائب إليك
ما رحلت، والعزائم قالت وما فعلت، والنواظر في تلك المشاهد الكريمة لم تسرح، وطيور الآمال عن وكور العجز لم تبرح، فيا لها من معاهد فاز من حياها، ومشاهد ما أعطر رياها، بلاد نيطت بها عليك التمائم، وأشرقت بنورك منها النجود والتهائم (1) ، ونزل في حجراتها عليك الملك، وانجلى بضياء فرقانك فيها الحلك، مدارس الآيات والسور، ومطالع المعجزات السافرة الغرر، حيث قضيت الفروض وحتمت، وافتتحت سورة الرحمن وختمت، وابتدئت الملة الحنيفية وتممت، ونسخت الآيات وأحكمت:
أما والذي بعثك بالحق هادياً، وأطلعك للخلق نوراً بادياً، لا يطفئ غلتي إلا شربك، ولا يسكن لوعتي إلا قربك، فما أسعد من أفاض من حرم الله إلى حرمك، وأصبح بعد أداء ما فرضت عن الله ضيف كرمك، وعفر الخد في معاهدك ومعاهد أسرتك، وتردد ما بين داري بعثتك وهجرتك، وإني لما عاقتني عن زيارك العوائق، وإن كان شغلي عنك بك، وعدتني الأعداء فيك عن وصل سببي بسببك، وأصبحت بين بحر تتلاطم أمواجه، وعدوتتكاثف أفواجه، ويحجب الشمس عند الظهيرة عجاجه - في طائفة من المؤمنين بك وطنوا على الصبر نفوسهم، وجعلوا التوكل على الله وعليك لبوسهم، ورفعوا إلى مصارختك رؤوسهم، واستعذبوا في مرضاة الله تعالى ومرضاتك بوشهم، يطيرون من هيعة إلى أخرى، ويلتفتون والمخاوف عن يمنى ويسرى، ويقارعون وهم الفئة القليلة جموعاً كجموع قيصر وكسرى، لا يبلغون من عدوهوالذر عند انتشاره، عشر معشاره، قد باعوا من الله تعالى الحياة الدنيا، لأن تكون كلمة اله تعالى هي العليا، فيا له من سرب مروع، وصريخ إلا منك ممنوع، ودعاء إلى الله وإليك مرفوع، وصبية حمر
(1) نثر فيه قول الأعرابي:
بلاد بها نيطت علي تمائمي
…
وأول أرض مس جلدي ترابها
الحواصل، تخفق فوق أوكارها أجنحة المناصل، والصليب قد تمطى فمد ذراعيه، ورفعت الأطماع بضبعيه، وقد حجبت بالقتام السماء، وتلاطمت أمواج الحديد، والبأس الشديد، فالتقى الماء، ولم يبق إلا الذماء، وعلى ذلك فما ضعفت البصائر ولا ساءت الظنون، وما وعد به الشهداء تعتقده القلوب حتى تكاد تشاهده العيون، إلى أن نلقاك غذاً إن شاء الله تعالى وقد أبلينا العذر، وأرغمنا الكفر، وأعملنا في سبيل الله تعالى سبيلك البيض والسمر - استنبت (1) رقعتي هذه لتطير إليك من شوقي بجناح خافق، وتسعد من نيتي التي تصحبها برفيق موافق، فتؤدي عن عبدك وتبلغ، وتعفر الخد في تربك وتمرغ، وتطيب بريا معاهدك الطاهرة وبيوتك، وتقف وقوف الخضوع والخشوع تجاه تابوتك، وتقول بلسان التملق، عند التشبث بأسبابك والتعلق، منكسرة الطرف، حذراً بهرجها من عدم الصرف: يا غياث الامة، وغمام الرحمة، ارحم غربتي وانقطاعي، وتغمد بطولك قصر باعي، وقوعلى هيبتك خور طباعي، فكم جزت من لج مهول، وجبت من حزون وسهول، وقابل بالقبول نيابتي، وعجل بالرضى إجابتي، ومعلوم من كمال تلك الشيم، وسجايا تيك الديم، أن لا يخيب قصد من حط بفنائها، ولا يظمأ وارد أكب على إنائها.
اللهم يا من جعلته أول الأنبياء بالمعنى، وآخرهم بالصورة، وأعطيته لواء الحمد يسير آدم فمن دونه تحت ظلاله المنشورة، وملكت أمته ما زوي له من زوايا البسيطة المعمورة، وجعلتني من أمته المجبولة على حبه المفطورة، وشوقتني إلى معاهده المبرورة، ومشاهده المزروة، ووكلت لساني بالصلاة عليه، وقلبي بالحنين إليه، ورغبتني بالتماس ما لديه، فلا تقطع منه أسبابي، ولا تحرمني من حبه ثوابي، وتداركني بشفاعته يوم أخذ كتابي.
هذه يا رسول الله وسيلة من بعدت داره، وشط مزاره، ولم يجعل بيده
(1) استنبت: جواب " لما " التي وقعت قبل سطور عديدة.
اختياره. فإن لم تكن (1) للقبول أهلاً فأنت للإغضاء والسماح أهل، وإن كانت ألفاظها وعرة فجنابك للقاصدين سهل، وإن كان الحب يتوارث كما أخبرت، والعروق تدس حسبما إليه أشرت، فلي بانتسابي إلى سعد عميد أنصارك مزية، ووسيلة أثيرة حفية، فإن لم يكن لي عمل ترتضيه فلي نية، فلا تنسني ومن بهذه الجزيرة المفتتحة بسيف كلمتك، على أيدي خيار أمتك، فإنما نحن بها وديعة تحت بعض أقفالك، نعوذ بوجه ربك من إغفالك، ونستنشق من ريح عنايتك نفحة، ونرتقب من محيا قبولك لمحة، ندافع بها عدواً طغى وبغى، وبلغ نم مضايقتنا ما ابتغى، فمواقف التمحيص قد أعيت من كتب وورخ، والبحر قد أصمت من استصرخ، والطاغية في العدوان مستبصر، والعدومحلق والولي مقصر، وبجاهك ندفع ما لا نطيق، وبعنايتك نعالج سقيم الدين فيفيق، فلا تفردنا ولا تهملنا، وناد ربك فينا " ربنا ولا تحملنا " البقرة:286، وطوائف أمتك حيث كانوا عناية منك تكفيهم، وربك يقول لك وقوله الحق " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم " الانفال:33 والصلاة والسلام عليك يا خير من طاف وسعى، وأجاب داعياً إذا دعا، وصلى اله على جميع أحزابك وآلك، صلاة تليق بجلالك، وتحق لكمالك، وعلى ضجيعيك وصديقيك، وحبيبيك ورفيقيك، خليفتك في أمتك، وفاروقك المستخلف بعده على جلتك، وصهرك ذي النورين المخصوص برك ونحلتك، وابن عمك سيفك المسلول على حلتك، بدر سمائك ووالد أهلتك، والسلام الكريم عليك وعليهم كثيراً أثيراً ورحمة الله تعالى وبركاته، وكتب بحضرة جزيرة الأندلس غرناطة، صانها الله تعالى ووقاها، ودفع عنها ببركتك كيد عداها انتهت الرسالة.
86 -
وكتب أيضاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على لسان مخدومه
(1) الضمير يعود إلى " وسيلة " ويعني بها الرسالة.
السلطان الغني بالله محمد ابن السلطان أبي الحجاج - رحم الله تعالى الجميع - ما صورته:
دعاك بأقصى المغربين غريب
…
وأنت على بعد المزار قريب
مدل بأسباب الرجاء وطرفه
…
غضيض على حكم الحياء مريب
يكلف قرص البدر حمل تحية
…
إذا ما هوى والشمس حين تغيب
لترجع من تلك المعالم غدوة
…
وقد ذاع من رد التحية طيب
ويستودع الريح الشمال شمائلاً
…
من الحب لم يعلم بهن رقيب
ويطلب في جيب الجيوب جوابها
…
إذا ما أطلت والصباح جنيب
ويستفهم الكف الخضيب ودمعه
…
غراماً بحناء النجيع خضيب
ويتبع آثار المطي مشيعاً
…
وقد زمزم الحادي وحن نجيب
إذا أثر الأخفاف لاحت محارباً
…
يخر عليها راكعاً وينيب
ويلقي ركاب الحج وهي قوافل
…
طلاح وقد لبى النداء لبيب
فلا قول إلا أنة وتوجع
…
ولا حول إلا زفرة ونحيب
غليل ولكن من قبولك منهل
…
عليل ولكن من رضاك طبيب
ألا ليت شعري والأماني ضلة
…
وقد تخطئ الآمال ثم تصيب
أينجد نجد بعد شحط مزاره
…
ويكثب بعد البعد منه كثيب
وتقضى ديوني بعدما مطل المدى
…
وينفذ بيعي والمبيع معيب
وهل أقتضي دهري فيسمح طائعاً
…
وأدعو بحظي مسمعاً فيجيب
ويا ليت شعري هل لحومي مورد
…
لديك وهل لي في رضاك نصيب
ولكنك المولى الجواد وجاره
…
على أي حال كان ليس يخيب
وكيف يضيق الذرع يوماً بقاصد
…
وذاك الجناب المستجار رحيب
وما هاجني إلا تألق بارق
…
يلوح بفود الليل منه مشيب
ذكرت به ركب الحجاز وجيرة
…
أهاب بها نحو الحبيب مهيب
فبت وجفني من لآلئ دمعه
…
غني وصبري للشجون سليب
ترنحني الذكرى ويهفو بي الجوى
…
كما مال غصن في الرياض رطيب
وأحضر تعليلاً لشوقي بالمنى
…
ويطرق وجد غالب فأغيب
مرامي، لو أعطى الأماني، زورة
…
يبث غرام عندها ووجيب
فقول حبيب إذا يقول تشوقاً
…
عسى وطن يدنو إلي حبيب
تعجبت من سيفي وقد جاور الغضا
…
بقلبي فلم يسكبه منه مذيب
وأعجب أن لا يورق الرمح في يدي
…
ومن فوقه غيث المشوق سكيب
فيا سرح ذاك الحي لو أخلف الحيا
…
لأغناك من صوب الدموع صبيب
ويا هاجر الجو الجديب تلبثاً
…
فعهدي رطب الجانبين خصيب
ويا قادح الزند الشحاح ترفقاً
…
عليك فشوقي الخارجي شبيب
أيا خاتم الرسل المكين مكانه
…
حديث الغريب الدار فيك غريب
فؤادي على جمر البعاد مقلب
…
يماح عليه للدموع قليب
فوالله ما يزداد إلا تلهباً
…
أأبصرت ماءً ثار عنه لهيب
فليلته ليل السليم ويومها
…
إذا شد للشوق العصاب عصيب
هواي هدى فيك اهتديت بنوره
…
ومنتسبي للصحب منك نسيب
وحسبي على أني لصحبك منتم
…
وللخزرجيين الكرام نسيب
عدت عن مغانيك المشوقة للعدا
…
عقارب لا يخفى لهن دبيب
حراً على إطفاء نور قدحته
…
فمستلب من دونه وسليب
فكم من شهيد في رضاك مجدل
…
يظلله نسر ويندب ذيب
تمر الرياح الغفل فوق كلومهم
…
فتعبق من أنفاسها وتطيب
بنصرك عنك الشغل من غير منة
…
وهل يتساوى مشهد ومغيب
فإن صح منك الحظ طاوعت المنى
…
ويبعد مرمى السهم وهو مصيب
ولولاك لم يعجم من الروم عودها
…
فعود الصليب الأعجمي صليب
وقد كانت الأحوال، لولا مراغب
…
ضمنت ووعد بالظهور، تريب
فما شئت من نصر عزيز وأنعم
…
أثاب بهن المؤمنين مثيب
منابر عز أذن الفتح فوقها
…
وأفصح للعضب الطرير خطيب
نقود إلى هيجائها كل صائل
…
كما ريع مكحول اللحاظ ربيب
ونجتاب من سرد اليقين مدارعاً
…
يكفتها من يجتني ويثيب
إذا اضطربت الخطي حول غديرها
…
يروقك منها لجة وقضيب
فعذراً وإغضاء ولا تنس صارخاً
…
بعزك يرجوأن يجيب مجيب
وجاهك بعد الله نرجو، وإنه
…
لحظ مليء بالوفاء رغيب
عليك صلاة الله ما طيب الفضا
…
عليك مطيل بالثناء مطيب
وما اهتز قد للغصون مرنح
…
وما افتر ثغر للبروق شنيب إلى حجة اله تعالى المؤيدة ببراهين أنواره، وفائدة الكون ونكتة أدواره، وصفوة نوع البشر ومنتهى أطواره، إلى المجتبى وموجود الوجود لم يغن بمطلق الوجود عديمه، المصطفى نم ذرية آدم قبل أن يكسوالعظام أديمه، المحتوم في القدم، وظلمات العدم، عند صدق القدم، تفضيله وتقديمه، إلى وديعة النور المنتقل في الجباه الكريمة والغرر، ودرة الأنبياء التي لها الفضل على الدرر، وغمام الرحمة الهامية الدرر، إلى مختار الله تعالى المخصوص باجتبائه، وحبيبه الذي له المزية على أحبائه، وذرية أنبياء الله تعالى آبائه، إلى الذي شرح صدره وغسله، ثم بعثه واسطة بينه وبين العباد وأرسله، وأتم عليه إنعامه الذي أجزله، وأنزل عليه من الهدى والنور ما أنزله، إلى بشرى المسيح والذبيح، ومن لهم التجر الربيح، المنصور بالرعب والريح، المخصوص
بالنسب الصريح، إلى الذي جعله في المحول غماماً، وللأنبياء إماماً، وشق صدره لتلقي روح أمره غلاماً، وأعلم به في التوراة والإنجيل إعلاماً، وعلم المؤمنين صلاة عليه وسلاماً، إلى الشفيع الذي لا ترد في العصاة شفاعته، والوجيه الذي قرنت بطاعة الله تعالى طاعته، والرؤوف الرحيم الذي خلصت إلى الله تعالى في أهل الجرائم ضراعته، صاحب الآيات التي لا يسع ردها، والمعجزات التي أربى على الألف عدها، فمن قمر شق، وجذع حن له وحق، وبنان يتفجر بالماء، فيقوم بري الظماء، وطعام يشبع الجمع الكثير يسيره، وغمام يظلل به مقامه ومسيره، خطيب المقام المحمود إذا كان العرض، وأول من تنشق عنه الأرض، ووسيلة الله تعالى التي لولاها ما أقرض القرض، ولا عرف النفل والفرض، محمد بن عبد اله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف المحمود الخلال من ذي الجلال، الشاهد بصدقه صحف الأنبياء وكتب الإرسال، وآياته التي أثلجت القلوب ببرد اليقين السلسال، صلى الله عليه وسلم ما ذر شارق، وأومض بارق، وفرق بين اليوم الشامس والليل الدامس فارق، صلاة تتأرج على شذا الزهر، وتتبلج عن سنا الكواكب الزهر، وتتردد بين السر والجهر، وتستغرق ساعات اليوم وأيام الشهر، وتدوم بدوام الدهر:
من عبد هداه، ومستقري مواقع نداه، ومزاحم أبناء أنصاره في منتداه، وبعض سهامه المفوقة إلى نحور عداه، مؤمل العتق من النار بشفاعته، ومحرز طاعة الجبار بطاعته، الآمن باتصال رعيه من إهمال الله تعالى وإضاعته، متخذ الصلاة عليه وسائل نجاة، وذخائر في الشدائد مرتجاة، متاجر بضائعها غير مزجاة، الذي ملأ بحبه جوانح صدره، وجعل فكره هالة لبدره، وأوجب حقه على قدر العبد لا على قدره، محمد بن يوسف بن نصر الأنصاري الخزرجي، نسيب سعد بن عبادة من أصحابه، وبوارق سحابه، وسيوف نصرته، وأقطاب دار هجرته، ظلله الله تعالى يوم الفزع الأكبر من رضاك عنه بظلال الأمان، كما أنار قلبه من هدايتك بأنوار الهدى والإيمان، وجعله
من أهل السياحة في فضاء حبك والهيمان:
كتبه إليك يا رسول الله - واليراع تقتضي الهيبة صفرة ونه، والمداد يكاد أن يحول سواد جونه، وورقة الكتاب يخفق ؤادها حرصاً على حفظ اسمك الكريم وصونه، والدمع يقطر به الحروف وتفصل الأسطر، وتوهم المثول، بمثواك المقدس لا يمر بالخاطر سواه ولا يخطر، عن قلب بالبعد عنك قريح، وجفن بالبكاء جريح، وتأوه عن تبريح، كلما هب من أرضك نسيم ريح، وانكسار ليس له إلا جبرك، واغتراب لا يؤنس فيه إلا قربك، وإن يقض فقبرك، وكيف لا يسلم في مثلها الأسى، ويوحش الصباح والمسا، ويرجف جبل الصبر بعدما رسا، لولا لعل وعسى، فقد سارت الركبان إليك ولم يقض مسير، وحومت الأسراب عليك والجناح كسير، وعدت الآمال فاخلفت، وحلفت العزائم فلم تف بما حلفت، ولم تحصل النفس من تلك المعاهد ذات الشرف الأثيل، إلا على التمثيل، ولا من المعالم المتمسة التنوير، إلا على التصوير، مهبط وحي الله تعالى ومتنزل أسمائه، ومتردد ملائكة سمائه، ومدافن أوليائه، وملاحد أصحاب خيرة أنبيائه، رزقني الله تعالى الرضى بقضائه، والصبر على جاحم البعد ورمضائه - من حمراء غرناطة حرسها الله تعالى دار ملك الإسلام بالأندلس قاصية سيلك، ومسحبة رجلك يا رسول الله وخيلك، وأنأى مطارح دعوتك ومساحب ذيلك، حيث مصاف الجهاد في سبيل الله وسبيلك قد ظللها القتام، وشهبان الأسنة أطلعها منه الإعتام، وأسواق بيع النفوس من الله تعالى قد تعدد بها الأيامى والأيتام، حيث الجراح قد تحلت بعسجد نجيعها النحور، والشهداء نتحف بها الحور، والأمم الغريبة قد قطعها عن المدد البحور، حيث المباسم المفترة، تجلوها المصارع البرة، فتحييها بالعراء ثغور الأزاهر، وتندبها صوادح الأدواح برنات تلك المزاهر، وتحلي السحاب أشلاءها المعطلة من ظلها بالجواهر، وحيث الإسلام من عدوه المكايد بمنزلة
قطرة من عارض غمام، وحصاة من ثبير أوشمام، وقد سدت الطريق، وأسلم الفراق الفريق، وأغص الريق، ويئس من الساحل الغريق، إلا أن الإسلام بهذه الجهة المتمسكة بحبل الله تعالى وحبلك، المهتدية بأدلة سبلك، سالم والحمد لله تعالى من الانصداع، محروس بفضل الله تعالى من الابتداع، مقدود من جديد الملة، معدوم فيه وجود الطوائف المضلة، إلا ما يخص الكفر من هذه العلة، والاستظهار على جمع الكثرة من جموعه بجمع القلة.
ولهذه الأيام يا رسول الله أقام الله تعالى أوده براً بوجهك الوجيه ورعياً، وإنجازاً لوعدك وهوالذي لا يخلف وعداً ولا يخيب سعياً، وفتح لنا فتوحاً أشعرتنا برضاه عن وطننا الغريب، وبشرتنا منه تعالى بغفر التقصير ورفع التثريب، ونصرنا وله المنة على عبدة الصليب، وجعل لألفنا الرديني ولامنا السردي حكم التغليب، وإذا كانت الموالي التي طوقت الأعناق مننها، وقررت العوائد الحسان سيرها وسننها، تبادر إلها نوابها الصرحاء وخدامها النصحاء بالبشائر، والمسرات التي تشاع في العشائر، وتجلولديها نتائج أيديها، وغايات مباديها، وتتاحفها وتهاديها، بمجاني جناتها وأزاهر غواديها، وتطرف محاضرها بطرف بواديها، فبابك يا رسول الله أولى بذلك وأحق، ولك الحق الحق، والحر منا عبدك المسترق، حسبما سجله الرق، وفي رضاك من كل من يلتمس رضاه المطمع، ومثواك المجمع، وملوك الإسلام في الحقيقة عبيد سدتك المؤملة، وخول مثابتك المحسنة بالحسنات المجملة، وشهب تعشوإلى بدورك المكملة، وبعض سيوفك المقلدة في سبيل الله تعالى المحملة، وحرسة مهادك، وسلاج جهادك، وبروق عهادك.
وإن مكفول احترامك الذي لا يخفر، وربي إنعامك الذي لا يكفر، وملتحف جاهك الذي يمحى ذنبه بشفاعتك إن شاء الله تعالى ويغفر، يطالع روضة الجنة المفتحة أبوابها بمثواك، ويفاتح صوان القدس الذي أجنك وحواك
وينثر بضائع الصلاة عليك بين يدي الضريح الذي طواك، ويعرض جنى ما غرست وبذرت، ومصداق ما بشرت به لما بشرت وأنذرت، وما انتهى إليه طلق جهادك، ومصب عهادك، لتقر عين نصحك التي أنام العيون الساهرة هجوعها، وأشبع البطون، ورواها ظمؤها في الله تعالى وجوعها، وإن كانت الأمور بمرأى من عين عنايتك، وغيبها متعرف بين إفصاحك وكنايتك، ومجمله يا رسول الله صلى الله عليك، وبلغ وسيلتي إليك، هوا، الله سبحانه لما عرفني لطفه الخفي في التمحيص، المقتضي عدم المحيص، ثم في التخصيص، المغني بعيانه عن التنصيص، وفق ببركاتك السارية رحماتها في القلوب، ووسائل محبتك العائدة بنيل المطلوب، إلى استفادة عظة واعتبار، واغتنام إقبال بعد إدبار، ومزيد استبصار، واستعانة بالله تعالى وانتصار، فسكن هبوب الكفر بعد إعصار، وحل مخنق الإسلام بعد حصار، وجرت على سنن السنة بحسب الاستطاعة والمنة السيرة، وجبرت بجاهك القلوب الكسيرة، وسهلت المآرب العسيرة، ورفع بيد العزة الضيم، وكشف بنور البصيرة الغيم، وظهر القليل على الكثير، وباء الكفر بخطة التعثير، واستوى الدين الحنيف على المهاد الوثير، فاهتبلنا يا رسول الله غرة العدو وانتهزناها، وشمنا صوارم عزة الغدووهززناها، وأزحنا علل الجيوش وجهزناها.
فكان مما ساعد عليه القدر، والخطب المبتدر، والورد الذي حسن بعده الصدر، أننا عاجلنا مدينة برغه (1) ، وقد جرعت الأختين مالقة ورندة، من مدائن دينك، ومزابن ميادينك، أكواس الفراق، وأذكرت مثل من بالعراق، وسدت طرق التزاور عن الطراق، وأسألت المسيل بالنجيع المراق، في مراصد المراد والمراق، ومنعت المراسلة مع هدير الحمام، لا بل مع طيف المنام عند الإلمام، فيسر اله تعالى اقتحامها، وألحمت بيض الشفار
(1) برغه (Burgo) بين مالقة ورندة.
في زرق الكفار إلحامها، وأزال السيوف من بين تلك الحروف إقحامها، فانطلق المسرى، واستبشرت القواعد الحسرى، وعدمت بطريقها المخيف مصارع الصرعى ومثاقف الأسرى، والحمد لله على فتحه الأسنى، ومنحه الأسرى، ولا إله إلا هومنفل قيصر وكسرى، وفاتح مغلفاتهما المنيعة قسراً؛ واستولى الإسلام منها على قرار جنات، وأم بنات، وقاعدة حصون، وشجرة غصون، طهرت مساجدها المغتصبة المكرهة، وفجع بحفظها الفيل الافيل وأربرهة، وانطلقت بذكر الله الألسنة المدرهة، وفاز بسبق ميدانها جيادك الفرهة، هذا وطاغية الروم على توفر جموعه، وهول مرئيه ومسموعه، قريب جواره، بحيث يتصل خواره، وقد حرك إليها الحنين حواره.
" ثم نازل المسلمون بعدها شجا الإسلام الذي أعيا النطاسي علاجه، وكرك (1) هذا القطر الذي لا تطاول أعلامه ولا تصاول أعلاجه، وركاب الغارات التي تطوي المراحل إلى مكايدة المسلمين طي البرود، وحجر الحيات التي لا تخلع على اختلاف الفصول جلود الزرود، ومنغص الورود في العذب المورود، ومقض المضاجع، وحلم الهاجع، ومجهز الخطب الفاجئ الفاجع، ومستدرك فاتكة الراجع، قبل هبوب الطائر الساجع، حصن آشر (2) حماه الله تعالى دعاء لا خبراً، كما جعله للمتفكرين في قدرته معتبراً، فأحاطوا به إحاطة القلادة بالجيد، وأذلوا عزته بعزة ذي العرش المجيد، وحفت به الرايت يسمها وسمك، ويلوح في صفحاتها اسم الله تعالى واسمك، فلا ترى إلا نفوساً تتزاحم على مورد الشهادة أسرابها، وليوثاً يصدق في الله تعالى ضرابها، وأرسل الله عليها رجزاً إسرائيلياً من جراد السهام، تش آياته عن الإفهام،
(1) شبهه بحصن الكرك، وكان ذا شأن ومنعة في الحروب الصليبية.
(2)
حصن آشر (Iznajar) في الجنوب الشرقي لحصن روطة (Rute) على ضفة رافد من روافد شنيل؛ وقد صحف في ق فكتب " أشب ".
وسدد إلى الجبل النفوس القابلة للإلهام، من بعد الاستغلاق والاستبهام، وقد عبثت جوارح صخوره في قنائص الهام، وأعيا صعبه على الجيش اللهام، فأخذ مسائغه النقض والنقب، ورغا فوق أهله السقب (1) ، ونصبت المعارج والمراقي، وقرعت المناكب والتراقي، واغتنم الصادقون مع الله تعالى الحظ الباقي، وقال الشيهد السابق: يا فوز استباقي، ودخل البلد فألحم السيف، واستلبت البحت والزيف، ثم استخلصت القصبة فعلت أعلامك في أبراجها المشيدة، وظفر ناشد دينك منها بالنشيدة (2) ، وشكر الله تعالى في قصدها مساعي النصائح الرشيدة، وعمل ما يرضيك يا رسول الله في سد ثلمها، وصون مستلمها، ومداواة ألمها، حرصاً على الاقتداء في مثلها بأعمالك، والاهتداء بمشكاة كمالك، ورتب فيها الحماة تشجي العدو، وتصل في مرضاة الله تعالى، ومرضاتك برواحها الغدو.
ثم كان الغزوإلى مدينة إطريرة (3) بنت حاضرة الكفر إشبيلية التي أظلتها بالجناح الساتر، وأنامتها في ضمان الأمان للحسام الباتر، وقد وتر الإسلام من هذه المومسة البائسة بوتر الواتر، وأحفظ منها بأذى الوقاح المهاتر، لما جرته على أسرة من عمل الخاتل الخاتر، حسب المنقول لا بل المتواتر، فطوى إليها المسلمون المدى النازح، ولم تشك المطي الروازح، وصدق الجد جدها المازح، وخففت فوق أوكارها أجنحة الأعلام، وغشيتها أفواج الملائكة الموسومة وظلال الغمام، وصابت من السهام ودق الرهام، وكاد يكفي السهام على الأرض ارتجاج أجوائها بكلمة الإسلام، وقد صم خاطب عروس الشهادة
(1) السقب: ولد الناقة وفي العبارة إشارة إلى ما حل بقوم عندما عقروا الناقة، فيقال في المثل لتصوير الهلاك " رغا فوقهم السقب ".
(2)
النشيدة: الضالة التي تنشد أي تطلب.
(3)
إطريرة (Utrera) إلى الجنوب الشرقي في إشبيلة على بعد 39 كيلومتراً، وقد ضبطت بكسر الهمزة وسكون الطاء.
عن الملام، وسمح بالعزيز المصون مبايع الملك العلام، وتكلم لسان الحديد الصامت وصمت إلا بذكر الله لسان الكلام، ووفت الأوتار بالأوتار، ووصل بالخطي ذرع الأبيض البتار، وسلطت النار على أربابها، وأذن الله تعالى في تبار تلك الأمة وتبابها، فنزلوا على حكم السيف آلافاً، بعد أن أتلفوا بالسلاح إتلافاً، واستوعب المقاتلة كتافاً، وقرنوا في الجدل أكتافاً أكتافاً، وحملت العقائل والخرائد، والولدان والولائد، إركاباً من فوق الظهور وإردافاً، وأقلت منها أأفلاك الحمول بدوراً تضيء من ليالي المحاق أسدافاً، وامتلأت الأيدي من المواهب والغنائم، بما لا يصوره حلم النائم، وتركت العوافي تتداعى إلى تلك الولائم، وتفنن من مطاعمها في الملائم، وشنت الغارات على حمص فجلت خارجها مغاراً، وكست كبار الروم بها صغاراً، وأجحرت أبطالها إجحاراً، واستاقت من النعم ما لا يقبل الحصر استبحاراً.
ولم يكن إلا أن عدل القسم، واستقل بالقفول العزيز الرسم، ووضح من التوفيق الوسم، فكانت الحركة إلى قاعدة جيان قيعة الظل الأبرد، ونسيجة المنوال المفرد، وكناس الغيد الخرد، وكرسي الإمارة، وبحر العمارة، ومهوى هوى الغيث الهتون، وحزب التين والزيتون، حيث خندق الجنة تدنولأهل النار مجانيه، وتشرق بشواطئ الأنهار إشراق الأزهار زهر مبانيه، والقلعة التي تختمت بنان شرفاتها بخواتيم النجوم، وهمت من دون سحابها البيض سحائب الغيث السجوم، والعقيلة التي أبدى الإسلام يوم طلاقها، وهجوم فراقها، سمة الوجوم لذلك الهجوم، فرمتها البلاد المسلمة بأفلاذ أكبادها الوادعة، وأجابت منادي دعوتك الصادقة الصادعة، وحبتها بالفادحة الفادعة، فغصت الربى والوهاد بالتكبير والتهليل، وتجاوبت الخيل بالصهيل، وانهالت الجموع المجاهدة في الله تعالى انهيال الكثيب المهيل، وفهمت نفوس العباد المجاهدة في الله تعالى حق الجهاد معاني التيسير من ربها والتسهيل، وسفرت الرايات عن المرأى الجميل، وأربت المحلات المسلمة على التأميل، ولما صبحتها
النواصي المقبلة الغرر والأعلام المكتتبة الطرر، برز حاميتها مصحرين (1) ، وللحوزة المستباحة منتصرين، فكاثرهم من سرعان الأبطال رجل الدبا (2) ، ونبت الوهاد والربى، فأقحموهم من وراء السور، وأسرعت أقلام الرماح في بسط عددهم المكسور، وتركت صرعاهم ولائم للنسور، ثم اقتحموا ربض المدينة الأعظم ففرعوه، وجدلوا من دافع عن أسواره وصرعوه، وأكواس الحتوف جرعوه، ولم يتصل أولى الناس بأخراهم، ويحمد بمخيم النصر العزيز سراهم، حتى خذل (3) الكافر الصبر وأسلم الجلد، ونزل على المسلمين النصر فدخل البلد، وطاح في السيل الجارف الوالد منه والولد، وأتهم المطرف والمتلد، فكان هولاً بعيد الشناعة، وبعثاً كقيام الساعة، أعجل المجانيق عن الركوع والسجود، والسلالم عن مطاولة النجود، والأيدي عن ردم الخنادق والأغوار، والأكبش عن مناطحة الأسوار، والنفوط عن إصعاق الفجار، وعمد الحديد، ومعاول البأس الشديد، عن نقب الأبراج ونقض الأحجار، فهيلت الكثبان، وأبيد الشيب والشبان، وكسرت الصلبان، وفجع بهدم الكنائس الرهبان، وأهبطت النواقيس من مراقيها العالية وصروحها المتعالية، وخلعت ألسنتها الكاذبة، ونقل ما استطاعته الأيدي المجاذبة، وعجزت عن الأسلاب (4) ذوات الظهور، وجلل الإسلام شعار العز والظهور، بما خلت عن مثله سوالف الدهور والأعوام والشهور، وأعرست الشهداء ومن النفوس المبيعة من الله تعالى نحل الصدقات والمهور، ومن بعد ذلك هدم السور، ومحيت عن محيطه المحكم السطور، وكاد يسير ذلك الجبل الذي اقتعدته ويدك ذلك الطور، ومن بعد ما خرب الوجار، عقرت الأشجار، وعفر المنار، وسلطت على بنات
(1) مصحرين: بارزين.
(2)
الرجل: الجماعة، والدبا: الجراد.
(3)
في ق: جذل، وصوبناه.
(4)
ق: الأشلاء.
التراب والماء والنار، وارتحل عنها المسلمون وقد عمتها المصائب، وأصمى لبتها السهم الصائب، وجللتها القشاعم العصائب، فالذئاب في الليل البهيم تعسل، والضباع من الحدب البعيد تنسل، وقد ضاقت الجدل عن المخانق، وبيع العرض الثمين بالدائق، وسبكت أسورة الأسوار، وسويت الهضاب بالأغوار، واكتسحت الاحواز القاصية سرايا الغوار، وحجبت بالدخان مطالع الأنوار، وتخلفت قاعتها عبرة للمعتبرين وعظة للناظرين، وآية للمستبصرين، ونادى لسان الحمية، يا لثارات الإسكندرية، فأسمع آذان المقيمين والمسافرين، وأحق الله الحق بكلماته وقطع دابر الكافرين.
ثم كانت الحركة إلى أختها الكبرى، ولدتها الحزينة عليها العبرى، مدينة أبدة (1) ذات العمران المستبحر، والربض الخرق المصحر، والمباني الشم الأنوف، وعقائل المصانع الجمة الحلي والشنوف، والغاب الأنوف، بلدة التجر، والعسكر المجر، وأفق الضلال الفاجر الكذب على الله تعالى الكاذب الفجر، فخذل الله تعالى حاميتها التي يعيي الحسبان عدها، وسجر بحورها التي لا يرام مدها، وحقت عليها كلمة الله تعالى التي لا يستطاع ردها، فدخلت لأول وهلة، واستوعب جمها والمنة لله تعالى في نهلة، ولم يكف السيف من عليها ولا مهلة، فلا تناولها العفا والتخريب، واستباحها الفتح القريب، وأسند عن عواليها حديث النصر الحسن الغريب، وأقعدت أبراجها من بعد القيام والانتصاب، وأضرعت مسيفها (2) لهول المصاب، انصرف عنها المسلمون بالفتح الذي عظم صيته، والعز الذي سما طرفه واشرأب ليته، والعزم الذي حمد مسراه ومبينه، والحمد لله ناظم الأمر وقد راب شتيته، وجابر الكسر وقد أفات الجبر مفتيه.
(1) أبدة (Ubeda) - بتشديد الباء - إلى الشمال الشرقي من جيان.
(2)
المسايف: جمع مسيف، ويعني بها لسان الدين في الأرجح، المدماك (أي السطر من البناء) .
ثم كان الغزوإلى أم البلاد، ومثوى الطارف والتلاد، قرطبة، وما قرطبة المدينة التي على عمل أهلها في القديم بهذا الإقليم كان اعمل، والكرسي الذي بعصاه رعي الهمل، والمصر الذي له في خطة المعمور الناقة والجمل، والأفق الذي لشمس الخلافة العبشمية (1) الحمل، فخيم الإسلام بعقوتها (2) المستباحة، وأجاز نهرها المعيي على السباحة، وعم دوحها الأشب بواراً، وأدار المحلات بسورها سواراً، وأخذ بمخنقها حصاراً، وأعمل النصر بشجر يصلها (3) اجتناءً ما شاء واهتصاراً، وجدل من أبطالها من لم يرض انحجاراً، فأعمل إلى المسلمين إصحاراً، حتى فرغ بعض جهاتها غلاباً جهاراً، ورفعت الأعلام إعلاماً بعز الإسلام وإظهاراً، فلولا استهلال الغوادي، وأن أتى الوادي، فأفضت إلى فتح الفتوح تلك المبادي، ولقضى تفثه (4) العاكف والبادي، فاقتضى الرأي ولذنب الزمان في اغتصاب الكفر إياها متاب، تعمل ببشراه بفضل الله تعالى أقتاد وأقتاب، ولكل أجل كتاب أن يراض صعبها حتى يعود ذلولاً، وتعفى معاهدها الآهلة فتترك طلولاً، فإذا فجع الله تعالى بمارج النار طوائفها المارجة، وأباد بخارجها الطائرة والدارجة، خطب السيف منها أم خارجة (5) ، فعند ذلك أطلقنا بها ألسنة النار ومفارق الهضاب بالهشيم قد شابت، والغلات المستغلات قد دعا بها القصل فما ارتابت، وكأن صحيفة نهرها لما
(1) العبشمية: نسبة إلى عبد شمس.
(2)
العقوة: الساحة. وفي ق: بعقرتها.
(3)
ق: فأعمل النصر
…
نصها؛ والمراد أن النصر حطم رماحها.
(4)
التفث في الحج: الحلق والتقصير وقص الأظفار ونحر البدن وغير ذلك مما يفعله الحاج إذا حل من إحرامه، والمراد أنه استوفى حجه، فكنى به لسان الدين عن بلوغ غاية الأرب.
(5)
أم خارجة: كانت سريعة الخطبة ولذلك قيل في المثل " أسرع من نكاح أم خارجة " وقد شبه قرطبة بها لتداول الغلبة عليها دهراً بعد دهر، وألمح ابن شهيد إلى هذا حين تغزل بقرطبة فقال:
زنت بالرجال على سنها
…
فيا حبذا هي من زانية
أضرمت النار في (1) ظهرها ذابت، وحيته فرت أمام الحريق فانسابت، وتخلفت لغمائم الدخان عمائم تلويها برؤوس الجبال أيدي الرياح، وتنشرها بعد الركود أيدي الاجتياح، وأغريت بأقطارها الشاسعة، وجهاتها الواسعة، جنود الجوع، وتوعدت بالرجوع، فسلب لتوقع الهجوم منزور الهجوع، فأعلامها خاشعة خاضعة، وولدانها لثدي البؤس راضعة، والله سبحانه يوقد بخبر فتحها القريب ركاب البشرى، وينشر رحمته قبلنا نشراً.
ثم تنوعت يا رسول اله لهذا العهد أحوال العدوتنوعاً يوهم إفاقته من الغمرة، وكادت فتنته تؤذن بخمود الجمرة، وتوقع الواقع، وحذر ذلك السم الناقع، وخيف الخرق الذي يحار فيه الراقع، فتعرفنا عوائد الله سبحانه ببركة هدايتك، وموصول عنايتك، فأنزل النصر والسكينة، ومكن العقائد المكينة، فثابت العزائم وهبت، واطردت عوائد الإقدام واستتبت، وما راع العدوإلا خيل الله تعالى تجوس خلاله، وشم الحق توجب ظلاله، وهداك الذي هديت يدحض ضلاله، ونازلنا حصني قنبيل والحائر (2) ، وهما معقلان متجاوران يتناجى منهما الساكن سراراً، وقد اتخذا بين النجوم قراراً، وفصل بينهما حسام النهر يروق غراراً، والتف معصمه في حلة العصب وقد جعل الجسر سواراً، وفخذل الصليب بذلك الثغر من تولاه، وارتفعت أعلام الإسلام بأعلاه، وتبرجت عروس الفتح المبين بمجلاه، والحمد لله تعالى على ما أولاه.
ثم تحركنا على تفثة (3) تعدي ثغر المواسطة على عدوة المساور في المضاجع، ومصحبه بالفاجئ الفاجع، فنازلنا حصن روطة الآخذ بالكظم، المعترض بالشجا اعتراض العظم، وقد شحنه العدومدداً بئيساً، ولم يأل اختياره رأياً ولا تلبيساً، فأعيا داؤه، واستقلت بالمدافعة أعداؤه، ولما أتلع إليه جيد المنجنيق،
(1) ق: حافي، ولعلها: حامي.
(2)
ق: والحوائر.
(3)
على نفثة: على أثر.
وقد برك عليه بروك الفنيق، وشد عصام العزم الوثيق، لجأ أهله إلى التماس العهود والمواثيق، وقد غصوا بالريق، وكاد يذهب بأبصارهم لمعان البريق، فسكناه من حامية المجاهدين بمن يحمي ذماره، ويقرر اعتماره، واستولى أهل الثغور إلى هذا الحد على معاقل كانت مستغفلة ففتحوها؛ وشرعوا أرشية الرماح إلى قلب قلوبها فمتحوها.
ولم تكد الجيوش المجاهدة تنفض عن الأعراف متراكم الغبار، وترخي عن آباط خيلها شد حزم المغار، حتى عاودت النفوس شوقها، واستتبعت ذوقها، وخطبت التي لا فوقها، وذهبت بها الآمال إلى الغاية القاصية، والمدارك المتصاعبة على الأفكار المتعاصية، فقصدنا الجزيرة الخضراء باب هذا الوطن الذي منه طرق وادعه، ومطلع الحق الذي صدع الباطل صادعه، وثنيه الفتح التي برق منا لامعه، ومشرف الهجوم الذي لم تكن لتعثر على غيره مطامعه، وفرضة المجاز التي لا تنكر، ومجمع البحرين في بعض ما يذكر، حيث يتقارب الشطان، ويتوازى الخطان، وكاد أن تلتقي حلقتنا البطان، وقد كان الكفر قدر قدر هذه الفرضة التي طرق منها حماه، ورماه الفتح الأول بما رماه، وعلم أن لا تتصل أيدي المسلمين بإخوانهم إلا من تلقائها، وأنه لا يعدم المكروه مع بقائها، فأجلب عليها برجله وخيله، وسد أفق البحر بأساطيله، ومراكب أباطيله، بقطع ليله، وتداعى المسلمون بالعدوتين إلى استنقاذها من لهواته، أوإمساكها من دون مهواته، فعجز الحول، ووقع بملكه إياها القول، واحتازها قهراً، وقد صابرت الضيق ما يناهز ثلاثين شهراً، وأطرق الإسلام بعدها إطراق الواجم، واسودت الوجوه لخبرها الهاجم، وبكتها حتى دموع الغيث الساجم، وانقطع المدد إلا من رحمة من ينفس الكروب، ويغري بالإدالة الشروق والغروب، ولما شكنا بشبا الله تعالى نحرها، وأغصصنا بجيوش الماء وجيوش الأرض تكاثر نجم السماء برها وبحرها، ونازلناها نذيقها شديد النزال، ونحجها بصدق الوعيد في سبيل الاعتزال، رأينا بأواً لا يظاهر إلا بالله تعالى ولا يطال
وممنعة يتحاماها الأبطال، وجناباً روضه الغيث الهطال، أسواقها فهي التي أخذت النجد والغور، واستعدت بجدال الجلاد عن البلاد فارتكبت الدور (1) ، تحوز بحراً من العمارة ثانياً، وتشكك أن يكون الإنس لها بانياً، وأما أبراجها فصفوف وصفوف، تزين صفحات المسايف منها أنوف، وآذان لها من دوامغ الصخر شنوف، وأما خندقها فصخر مجلوب، وسور مقلوب، فصدقها المسلمون القتال بحسب محلها من نفوسهم، واقتران اغتصابها ببوسهم، وأفول شموسهم، فرشقوها من النبال بظلالة تحجب الشمس فلا يشرق سناها، وعرجوا في المراقي البعيدة يفرعون مبناها، ونفوسها أنقاباً، وحصونها عقباً، ودخلوا مدينة إلبنة (2) بنتها غلاباً، وأحسبوا السيوف استلالاً والأيدي اكتساباً (3) ، واستوعب القتل مقاتليها السابغة الجنن، البالغة المتن، فأخذهم الهول المتفاقم، وجدلوا كأنهم الأراقم، لم تفلت منهم عين تطرف، ولا لسان يلبي من يستطلع الخبر أويستشرف.
ثم سمت الهمم الإيمانية إلى المدينة الكبرى فداروا سواراً على سورها، وتجاسروا على اقتحام أودية الفناء من فوق جسورها، وأدانوا إليها بالضروب من حيل الحروب، بروجاً مشيدة، ومجانيق توثق حبالها منها نشيدة، وخفقت بنصر الله تعالى عذبات الأعلام، وأهدت الملائكة مدد السلام، فخذل الله تعالى كفارها، وأكهم (4) شفارها، وقلم بيد قدرته أظفارها، فالتمسوا الأمان للخروج، ونزلوا على مراقي العروج، إلى الأباطح والمروج، من سمائها ذات البروج، فكان بروزهم إلى العراء من الأرض، تذكرة بيوم العرض، وقد
(1) أي أنها وقعت في قضية دور (وهو من مصطلح المنطق) بسبب ما استعدت به من جدال المجالدة؛ ولا ريب أن التلاعب بمصطلح أهل المناظرة هنا واضح.
(2)
في ق: البنية؛ والمقصود أن هذه المدينة " إلبنة " هي بنت الجزيرة الخضراء اي هي من توابعها.
(3)
يقابل هنا بين الاحتساب - وهو ما كان لوجه الله تعالى - وبين الاكتساب.
(4)
أكهم: أكل عن الضرب.
جلل المقاتلة الصغار، وتعلق بالأمان النساء والصغار، وبودرت المدينة بالتطهير، ونطقت المآن العالية بالأذان الشهير، والذكر الجهير، وطرحت كفارها التماثيل عن المسجد الكبير، وأزرى بألسنة النواقيس لسان التهليل والتكبير، وأنزلت عن الصروح أجرامها يعيي الهندام (1) مرامها، وألفي منبر الإسلام بها مجفواً فأنست غربته، وأعيد إليه قربه وقربته، وتلا واعظ الجمع المشهود، قول منجز الوعود ومورق العود " وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم، فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك، وما زادوهم غير تتبيب، وكذلك أخذ ربك إذا اخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد، إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة، ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود " هود:102 فكان الدمع يغرق الآماق، والوجد يستأصل الأرماق، وارتفعت الرغبات، وعلت السيات، وجيء بأسرى المسلمين يرسفون في القيود الثقال، وينسلون من أحداب الاعتقال، ففكت عن سوقهم اساود الحديد، وعن أعناقهم فلكات الباس الشديد، وظلوا بجناح اللطف العريض المديد، وترتبت في المقاعد الحامية، وأزهرت بذكر الله تعالى المآذن السامية، وعادت المدينة لأحسن أحوالها، وسكنت من بعد أهوالها، وعادت الجالية إلى أموالها، ورجع إلى القطر شبابه، ورد على دار الإسلام بابه، واتصلت بأهل لا إله إلا الله أسبابه، فهي اليوم في بلاد الإسلام قلادة النحر، وحاضرة البر والبحر، أبقى الله تعالى عليها وعلى ما وراءها من بيوت أمتك، ودائع الله تعالى في ذمتك، بكلمة دينك الصالحة الباقية، وسدل عليه أستار عصمته الواقية؛ وعدنا والصلاة عليك شعار البروز والقفول، وهجيراً الشروق والأفول، والجهاد يا رسول الله الشأن المعتمد، ما امتد بالأجل الأمد، والسمتان الفرد الصمد.
ولهذا العهد يا رسول الله صلى الله عليك، وبلغ وسيلتي إليك، بلغ من هذا
(1) الهندام: الآلات.
القطر المرتدي بجاهك الذي لا يذل من ادرعه، ولا يضل من اهتدى بالسبيل الذي شرعه، إلى أن لاطفنا ملك الروم بأربعة من البلاد كان الكفر قد اغتصبها، ورفع التماثيل ببيوت الله تعالى ونصبها، فانجاب عنها بنورك الحلك، ودار بإدالتها إلى دعوتك الفلك، وعاد إلى مكاتبها القرآن الذي نزل به على قلبك الملك، فوجبت مطالعة مقرك النبوي بأحوال هذه الأمة المكفولة في حجرك، المفضلة بإدارة تجرك، المهتدية بأنوار فجرك، وهل هوإلا ثمرات سعيك، ونتائج رعيك، وبركة حبك، ورضاك الكفيل برضى ربك، وغمام رعدك، وإنجاز وعدك، وشعاع من نور سعدك، وبذر يجنى ريعه من بعدك، ونصر رايتك، وبرهان آيتك، وأثر حمايتك ورعايتك.
واستنبت هذه الرسالة مائحة بحر الندى الممنوح، ومفاتحة باب الهدى بفتح الفتوح، وفارعة المظاهر والصروح، وملقية الرجل بمنتزل الملائكة والروح، لمد إلى قبولك يد استمناح، وتطير إليك من الشوق الحثيث بجناح، ثم تقف موقف الانكسار، وإن كان تجرها آمناً من الخسار، وتقدم بأنس القربة، وتحجم بوحشة الغربة، وتتأخر بالهيبة، وتجهش لطول الغيبة، وتقول: ارحم بعد داري، وضعف اقتداري، وانتزاح أوطاني، وخلوأعطاني، وقلة زادي، وغراق مزادي، وتقبل وسيلة اعتراقي، وتغمد هفوة افتراقي، وعجل بالرضى انصراف متحملي لانصرافي، فكم جبت من بحر زاخر، وقفر بالركاب ساخر، وحاش لله تعالى أن يخيب قاصدك، أوتتخطاني مقاصدك، أوتطردني موائدك، أوتضيق عني عوائدك، ثم تمد مقتيضة مزيد رحمتك، مستدعية دعاء من حضر من أمتك، وأصحبتها يا رسول الله عرضاً من النواقيس التي كانت بهذه البلاد المفتتحة تعيق الإقامة والأذان، وتسمع الأسماع الضالة والآذان، مما قبل الحركة، وسالم المعركة، ومكن من نقله الأيدي المشتركة، واستحق بالقدوم عليك والإسلام بين يديك، السابقة في الأزل البركة، وما سواها فكانت جبالاً عجز عن نقلها الهندام، فنسخ وجودها الإعدام، وهي يا
رسول الله جنى من جنانك، ورطب من أفنانك، وأثر ظهر علينا من مسحة حنانك.
هذه هي الحال والانتحال، والعائق أن تشد إليك الرحال، ويعمل الترحال، إلى أن نلقاك في عرصات القيامة شفيعاً، ونحل بجاهك إن شاء الله تعالى محلاً رفيعاً، ونقدم في زمرة الشهداء الدامية، كلومهم من أجلك، الناهلة غللهم في سجلك، ونبتهل إلى الله تعالى الذي أطلعك في سماء الهداية سراجاً، وأعلى لك في السبع الطباق معراجاً، وأم الأنبياء منك بالنبي الخاتم، وقفى على آثار نجومها المشرقة بقمرك العاتم، أن لا يقطع عن هذه الأمة الغريبة أسبابك، ولا يسد في وجوهها أبوابك، ويوقفها لاتباع هداك، ويثبت في أقدامها على جهاد عداك، وكيف تعدم ترفيها، أوتخشى بخساً وأنت موفيها، أويعذبها الله تعالى وأنت فيها وصلاة الله وسلامه تحط بفنانك رحال طيبها، وتهدر في ناديك شقاشق خطيبها، ما أذكر الصباح الطلق هذاك، والغمام السكب نداك، وما حن مشتاق إلى لثم ضريحك، وبليت نسمات الأسحار عما استرقت من ريحك، وكتب في كذا. انتهت الرسالة، وفيها ما لا خفاء به من براعة لسان الدين، رحمه الله تعالى وقدس روحه الطاهرة، آمين.
87 -
ومما علق بحفظي من نثره رحمه الله تعالى أثناء رسالة في العزاء خاطب بها ملك المغرب قوله بعد كلام: أين مروان بن الحكم ودهاؤه، وعبد الملك بن مروان وبهاؤه، والوليد وبناؤه، وسليمان وغذاؤه، وعمر بن عبد العزيز وثناؤه، ويزيد ونساؤه، وهشام وخيلاؤه، والوليد وندماؤه، والجعدي وآراؤه، أم أين السفاح وحسامه، والمنصور واعتزامه، والمهدي وإعظامه، والهادي وإقدامه، والرشيد وأيامهم، والأمين وندامه، والمأمون وكلامه، والمعتصم وإسراجه، وإلجامه انتهى.
وقد تقدم كلام أبي الخطاب ابن دحية في هذا المعنى بطوله في الباب الثاني من هذا القسم، فليراجع ثمة (1) .
[للمقري محاكياً لسان الدين]
قلت: وقد تقدم في الخطبة نظمي لمثل هذا، وقد كنت نسجت على منوال لسان الدين وأنا بالمغرب نثراً لم يحضرني منه الآن غير قولي: أين الإسكندر ويونانه، وشداد وبنيانه، والنمرود وعدوانه، وفرعون وهامانه، وقارون وطغيانه، وكسرى أنوشروان وإيوانه، وقيصر وبطارقته وأعوانه، وسيف ابن ذي يزن وغندانه، والمنذر ونعمانه إلى أن قلت: وأين أبوبكر رضي الله تعالى عنه وثباته، وعمر رضي الله تعالى عنه ووثباته، وعثمان رضي الله تعالى عنه ورهباته، أم أين علي رضي الله تعالى عنه وشجاعته وعلمه، وأين معاوية رضي الله تعالى عنه وحمله، واين يزيد وظلمه
ثم ذكرت ما تقدم للسان الدين، وقلت بعده: وأين الواثق وغناؤه، والمتوكل ومواليه وأولياؤه وأبناؤه، والمنتصر وآماله، والمعتز وجماله، والمستعين وعماله، والمهتدي وأعماله، والمعتضد وذكاؤه وإحاطته بالأخبار واشتماله، والمقتدر ونساؤه وإهماله إلى أن قلت: وأين بنوعبيد وضلالهم، وبنوبويه وجلالهم، وبنوسلجوق ونظامهم، وينوسامان وإعظامهم، وبنوأيوب وصلاحهم، والجراكسة ومبانيهم وسلاحهم
ثم قلت في ملوك المغرب: وأين عبد الرحمن الداخل وأمراؤه، والناصر وزهراؤه، والحكم ووزراؤه، والمؤيد وظهراؤه، أم أين المنصور بن أبي عامر وغزواته ومواليه، والمظفر وأدواته ومعاليه، أم أين بنوحمود
(1) انظر المجلد 5: 115.