المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌في إيراد جملة من نثره الذي عبق أريج البلاغة من نفحاته، ونظمه الذيتألق - نفح الطيب من غصن الاندلس الرطيب ت إحسان عباس - جـ ٦

[المقري التلمساني]

الفصل: ‌في إيراد جملة من نثره الذي عبق أريج البلاغة من نفحاته، ونظمه الذيتألق

‌الباب الخامس

‌في إيراد جملة من نثره الذي عبق أريج البلاغة من نفحاته، ونظمه الذي

تألق

نور البراعة من لمحاته وصفحاته، وما يتصل به من أزجاله وموشحاته،

ومناسبات رائقة فيفنون الأدب ومصطلحاته

اعلم - سلك الله تعالى بي وبك أوضح محجه، وجعلنا ممن انتحى صوب الصواب ونهجه - أن هذا الباب، هوالمقصود بتأليف هذا الكتاب، وغيره كالتبغ له، وها أنا أذكر ما حضرني الآن من بنات أفكار لسان الدين التي هي بالمحاسن متقنعة، ولبدائع منتعلة، فأقول:

أما نثره فهوالبحر الزخار، بل الدر الذي به الافتخار، وناهيك أن كتبه الآن في المغرب قبلة أرباب الإنشاء التي إليها يصلون، وسوق دررهم النفسيسة التي يزينون بها صدور طروسهم ويحلون، وخصوصاً كتابه ريحانة الكتاب ونجعة المنتاب، فإنه، وإن تعددت مجلداته، على فن الإنشاء والكتابة مقصور، وقد اشتمل على السلطايات وغيرها ومخاطباته لأهل المشرق والمغرب على لسان ملوك الأندلس الذين علم بلاغتهم منصور، وقد تركت نسختي منه في المغرب، ولوحضرتني لكفتني عن هذه الفوائد التي أتعبت خاطري في جمعها من مقيداتي التي صبتها معي، وهي قليلة.

وقد مر في هذا الكتاب جملة من نثره ونظمه، والذي نجلبه هنا زيادة على ما سبق.

وقال رحمه الله تعالى في " الإحاطة " عند ترجمة نثره ما صورته: وأما النثر

ص: 164

فبحر زاخر، ومدى طوله مستاخر، وإنك لميفخر عليك كفاخر، وقد مر منه في تضاعيف هذا الديوان كثير، ونحن نجلب منه ما يشير إليه مشير؛ انتهى.

1 -

فمن ذلك قوله في غرض التحميد مما افتتح به الكتاب في التاريخ المتضمن دولة بني نصر (1) : الحمد لله الذي جعل الأزمنة كالأفلاك، ودول الأملاك كأنجم الأحلاك، تطلعها من المشارق نيرة، وتلعب بها مستقيمة أومتحيرة، ثم تذهب بها غائرة متغيرة، السائق (2) عجل، وطبع الوجود مرتجل، والحي من الموت وجل، والدهر لا معتذر ولا خجل، بينما ترى الدست عظيم الزحام، والموكب شديد الالتحام، والوزعة تشير، والأبواب يقرعها البشير، والسرور قد شمل الأهل والعشير، والأطراف تلثمها الأشراف، والطاعة يشهرها الاعتراف، والأموال يحوطها العدل أويبيحها الإسراف، والرايات تعقد، والاعطيات تنقد، إذ رأيت الأبواب مهجورة، والدسوت لا مؤملة ولا مزورة، والحركات قد سكنت، وأيدي الإدالة قد تمكنت، فكأنما لم يسمر سامر، ولا نهي ناه، ولا أمر آمر، ما أشبه الليلة بالبارحة، والغادية بالرائحة {إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح} (الكهف:45) .

2 -

ومن نثره قوله في استدعاء إمداد وحض على الجهاد: " أيها الناس رحمكم اله تعالى، إخوانكم المسلمون بالأندلس قد دهم العدوقصمه الله تعالى ساحتهم، ورام الكفر خذله الله تعالى استباحتهم، وزحفت أحزاب الطواغيت إليهم، ومد الصليب ذراعيه عليهم، وأيديكم بعزة الله تعالى أقوى، وأنتم المؤمنون أهل البر والتقوى، وهودينكم فانصروه، وجواركم الغريب فلا تحفزوه، وسبيل الرشد قد وضح فلتبصروه، الجهاد الجهاد فقد تعين،

(1) يريد كتاب اللمحة البدرية، انظر مقدمته ص:9.

(2)

اللمحة: السابق.

ص: 165

الجار الجار فقد قرر الشرع حقه وبين، الله الله في الإسلام، الله الله في أمة محمد عليه الصلاة والسلام، الله الله في المساجد المعمورة بذكر الله، الله اله في وطن الجهاد في سبيل الله، قد استغاث بكم الدين فأغيثوه، قد تأكد عهد الله وحاشاكم أن تنكثوه، أعينوا إخوانكم بما أمكن من الإعانة أعانكم الله تعالى عند الشدائد، جددوا عوائد الخير يصل الله تعالى لكم جميل العوائد، صلوا رحم الكلمة، واسوا أنفسكم وأموالكم تلك الطوائف المسلمة، كتاب الله بين أيديكم، وألسنة الآيات تناديكم، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قائمة فيكم، والله سبحانه يقول له " يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم " الصف:10.

ومما صح عنه قوله من اغبرت قدماه في سبيل الل حرمهما الله على النار لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا، أدركوا رمق الدين قبل أ، يفوت، بادروا عليل الإسلام قبل أن يموت، احفظوا وجوهكم مع الله تعالى يوم يسألكم عن عباده، جاهدوا في الله بالألسن والأقوال حق جهاده:

ماذا يكون جوابكم لنبيكم

وطريق هذا العذر غير ممهد

إن قال لم فرطتم في أمتي

وتركتموهم للعدوالمعتدي

تالله لو أن العقوبة لم تخف

لكفى الحيا من وجه ذاك السيد اللهم اعطف علينا قلوب العباد، اللهم بث لنا الحمية في البلاد، اللهم دافع عن الحريم والضعيف والأولاد، اللهم انصرنا على أعدائك، بأحبابك وأوليائك، يا خير الناصرين، اللهم أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آل وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. انتهى.

3 -

ومن ذلك قوله في صداق أمره السلطان بإنشائه لكبير الشرفاء بفاس في فصل منه تضمن ذكر أوليتهم واستيطانهم لتلك المدينة ما صورته.

فضرب بفاس - عمرها الله تعالى - حلته، وأورث منها بالبقعة الزكية

ص: 166

الرفيعة وجلته، فتبوأوا من ذلك الغور، المعشب الروض الأرج النور، هالة سعد، وأفق برق ورعد، ودست وعيد ووعد، يتناقلون رتب الشرف الصريح كابراً عن كابر، ويروي مسلسل المجد عن بيتهم الرفيع الجد كل حريص على عوالي المعالي مثابر:

فالكف عن صلة، والأذن عن حسن

والعين عن قرة، والقلب عن جابر حيث الأنوف الشم والوجوه الغر، والعزة القعساء والنسب الحر، والفواطم في صدف الصون من لدن الكون كأنهن الدر، آل رسول الله ونعم الآل، والموارد الصادقة إذا كذب الآل، ون إذا لم يصل عليهم في الصلاة حبطت منها الأعمال، طلبة الراكب، ونشدة الطالب، وسراة لؤي بن غالب، وملتقى نور الله تعالى ما بين فاطمة الزهراء وعلي بن أبي طالب. انتهى، وهوطويل لم يحضرني منه الآن سوى ما ذكرته.

4 -

ومن ذلك قوله رحمه الله تعالى: كتبت إلى بعض السادة الفضلاء، وقد بلغني مرضه أيام كان الانزعاج عن الأندلس إلى الإيالة المرينية (1) :

وردت علي فئتي التي إليها في معركة الدهر أتحيز، وبفصل فضلها في الأقدار المشتركة اتميز، سحاءة سرت وساءت، وبلغت من القصدين (2) ما شاءت، أطلع بها سيدي صنيعة وده من شكواه على كل عابث في السويداء، موجب اقتحام البيداء، مضرم نار الشفقة في فؤاد لم يبق من صبره إلا القليل، ولا من إفصاح لسانه إلا الأنين والأليل، ونوى مدت لغير ضرورة يرضاها الخليل، فلا تسأل عن ضنين تطرقت اليد إلى رأس ماله، أوعابد نوزع في تقبل أعماله، أوآمل ضويق في فذلكة آماله، لكني رجحت دليل المفهوم على دليل المنطوق، وعارضت القواعد الموحشة بالفروق، ورأيت الخط يبهر والحمد لله تعالى ويروق،

(1) مر في الباب الرابع ص: 43 أن هذا النص من رسالة خاطب بها أبا القاسم ابن رضوان.

(2)

ق: القصد.

ص: 167

واللفظ الحسن تومض في حبره للمعنى الأصيل بروق، فقلت: ارتفع الوصب، ورد من الصحة المغتصب، وآلة الحس والحركة هي العصب، وإذا أشرق سراج الإدراك دل على سلامة سليطه، والروح خليط البدن والمرء بخليطه، وعلى ذلك فبليد احتياطي لا يقنعه إلا الشرح، فيه يسكن الظمأ البرح، وعذراً عن التكليف فهومحل الاستقصاء والاستفسار، والإطناب والإكثار، وزند الفلق في مثلها أورى، والشفيق بسوء الظن مغري، والسلام.

5 -

ومن نثر لسان الدين ما ذكره في " الإحاطة " في ترجمة أبي عبد الله الشديد وهومحمد بن قاسم بن أحمد بن إبراهيم الأنصاري الجياني الأصل ثم المالقي إذ قال ما صورته (1) :

" جملة جمال (2) من خط حسن واضطلاع بحمل كتاب الله، بلبل دوح السبع المثاني، ومائطة عروس أبي الفرج ابن الجوزي، وآية صقعه ونسيج وحده في حسن الصوت وطيب النغمة، اقتحم لذلك دسوت الملوك، وجر أذيال الشهرة (3) ، عذب الفكاهة، ظريف المجالسة، قادراً على المحاكاة، متسوراً حمى الوقار، ملبياً داعي الانبساط، قلد شهادة الديوان بمالقة فكان مغار حيل الأمانة، شامخ مارن النزاهة، لوحاً للألقاب، وعززت ولايته ببعض الألقاب النبيهة، وهوالآن الناظر في أمور الحسبة ببلده، ولذلك خاطبته برقعة أداعبه بها وأشير إلى أضداده بما نصه:

يا أيها المحتسب الجزل

ومن لديه الجد والهزل

يهنيك والشكر لمولى الورى

ولاية ليس لها عزل كتبت أيها المحتسب، المنتمي إلى النزاهة المنتسب، أهنيك ببلوغ تمنيك، وأحذرك

(1) الإحاطة، الورقة:12.

(2)

الإحاطة: مجموع خلال.

(3)

الإحاطة: الصحبة.

ص: 168

من طمع نفس بالغرور تمنيك، فكأنني بك وقد طافت بركابك الباعة، ولزم أمرك السمع والطاعة، وارتفعت في مصانعتك الطماعة، وأخذت أهل الريب بغتة كما تقوم الساعة، ونهضت تقعد وتقيم، وسطوتك الريح العقيم، وين يديك القسطاس المستقيم، ولا بد من شرك ينصب، وجماعة على ذي جاه تعصب (1) ، ودالة يمت بها الجناب الأخصب، فإن غضضت طرفك، أمنت على الولاية صرفك، وإن ملأت ظرفك (2) ، رحلت عنها حرفك، وإن كففت فيها كفك، حفك العز فيمن حفك، فكن لقالي المجبنة قالياً، ولحوت السلة سالياً، وأبد لدقيق الحواري زهد حواري، وازهد فيما بأيدي الناس من العواري، وسر في اجتناب الحلواء، على السبيل السواء، وارفض في الشواء، دواعي الأهواء (3) ، وكن على الهراس (4) وصاحب ثريد الراس شديد المراس، وثب على طبيخ الأعراس ليثاً مرهوب الافتراس، وأدب أطفال الفسوق في السوق، لا سيما من كان قبل البلوغ والبسوق، وصمم على استخراج الحقوق، والناس أصناف فمنهم خسيس يطمع منك في ألة، ومستعد عليك بوكزة أوركلة، وحاسد في مطية تركب وعطية تسكب، فاخفض للحاسد جناحك، وسدد إلى حربه رماحك، واشبع الخسيس منهم مرقة فإنه حنق، ودس له فيها عظماً لعله يختنق، واحفر لشريرهم حفرة عميقة، فإنه العدوحقيقة، حتى إذا حصل، وعلمت أن وقت الانتصار قد اتصل، فأوقع وأوجع ولا ترجع، وأولياءه من الشياطين (5) فافجع، والحق أقوى، وأن تعفوأقرب لتقوى، سددك اله تعالى إلى غرض التوفيق، وأعلقك

(1) الإحاطة: تتصعب.

(2)

ملأ ظرفه: كناية عن قبول الهدية والرشا.

(3)

الإحاطة: وارفض في الشوا دواعي الهوى.

(4)

الهراس: صانع الهريسة.

(5)

الإحاطة: من حزب الشيطان.

ص: 169

من الحق بالسبب الوثيق، وجعل قدومك مقروناً برخص اللحم والزيت والدقيق؛ انتهى.

6 -

ومما كتب به لسان الدين إلى علي بن بدر الدين الطوسي بن موسى ابن رحوبن عبد الله بن عبد الحق من مدينة سلا ما نصه:

يا جملة الفضل والوفاء

ما بمعاليك من خفاء

عندي بالود فيك عقد

حفه الدهر باكتفاء

ما كنت أقضي حلاك حقاً

لو جئت مدحاً بكل فاء

فأول وجه القبول عذري

وحسبك (1) الشك في صفاء سيدي الذي هوفصل جنسه، ومزية يومه على أمسه، فإن افتخر الدين من أبيك بدره افتخر منك بشمسه، رحلت على المنشا والقرارة، ومحل الصبوة والفرارة، فلم تتعلق نفسي بذخيرة، ولا عهد جيرة خيرة (2) ، كتعلقها بتلك الذات التي لطفت لطافة الراح، واشتملت بالمجد الصراح، شفقة أن تصيبها معرة والله تعالى يقيها، ويحفظها ويبقيها، إذ الفضائل في الأزمان الرذلة غوائل، والضد عن ضده منحرف بالطبع ومائل، فلما تعرفت خلاص سيدي من ذلك الوطن، وإلقاءه وراء الفرضة (3) بالعطن، لم تبق لي تعلة، ولا أحرضتني له علة، ولا أوتي جمعي من قلة، فكتبت أهنئ نفسي الثانية بعد هناء نفسي الأولى، وأعترف للزمان باليد الطولى، فالحمد لله الذي جمع الشمل بعد شتاته، وأحيا الأنس بعد مماته، سبحانه لا مبدل لكلماته، وإياه أسأل أن يجعل العصمة حظ سيدي ونصيبه، فلا يستطيع حادث أن يصيبه، وأنا أخرج له عن بث كمين، ونصح أنا به قمين،

(1) ق: وجنب.

(2)

خيرة: سقطت من ق.

(3)

ق: العرصة.

ص: 170

بعد أن أسبر غوره، وأخبر طوره، وأرصد دوره، فإن كان له في التشريق أمل، وفي ركب الحجاز ناقة وجمل، والرأي فيه قد نجحت منه نية وعمل، فقد غني عن عرف البقرات، بأزكى الثمرات، وأطفأ هذه الجمرات، برمي الجمرات، وتأنس بوصل السرى ووصال السراة، وأنا به إن رضيتني أرضى مرافق، ولواء عزي به خافق، وإن كان على السكون بناؤه، وانصرف إلى الإقامة اعتناؤه، فأمر له ما بعده، والله يحفظ من الغير سعده، والحق أن تحذف الأبهة وتختصر، ويحفظ اللسان ويغض البصر، وينخرط في الغمار، ويخلي عن المضمار، ويجعل من المحظور مداخلة من لا خلاق له، ممن لا يقبل الله تعالى قوله ولا عمله، فلا يكتم سراً، ولا يتطوق من الرجولة زراً، ويرفض زمام السلامة (1) ، وترك العلامة على النجاة علامة، وأما حالي فكما علمتم ملازم كن، ومهبط تجربة وسن، أزجي الأيام، وأروم بعد التفرق الالتئام، خالي اليد، مليء القلب والخلد، بفضل الواحد الصمد، عامل على الرحلة الحجازية التي أختارها لكم ولنفسي، واصل في التماس الإعانة عليها يومي بأمسي، أوجب ما قررته لكم ما أنتم أعلم به من ود قررته الأيام والشهور، والخلوص المشهور، وما أطلت في شيء عند قدومي على هذا الباب الكريم إطالتي فيما يختص بكم من موالاته، وبذل مجهود القول والعمل في مرضاته، وأما ذكركم في هذه الأوضاع فهومما يقر عين المجادة، والوظيفة التي ينافس فيها أولوالسادة، والله يصل بقاءكم، وييسر لقاءكم، والسلام " انتهى.

7 -

ومن نثر لسان الدين ما أثبته في الإحاطة في ترجمة ابن خلدون صاحب التاريخ الذي تكرر نقلنا منه في هذا التأليف:

ولنذكر الترجمة بجملتها فنقول: قال رحمه الله تعالى في " الإحاطة " ما نصه: " عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن الحسن بن محمد بن جابر بن محمد بن

(1) ق: الصحبة زمان السلامة.

ص: 171

إبراهيم بن محمد بن عبد الرحمن بن خلدون الحضرمي، من ذرية عثمان أخي كريب المذكور في نبهاء ثوار الأندلس، وينسب سلفهم إلى وائل بن حجر، وحاله عند القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم معروفة، انتقل سلفه من مدينة إشبيلية عن نباهة وتعين وشهرة عند الحادثة بها أوقبل ذلك، فاستقر بتونس منهم ثاني المحمدين محمد بن الحسن، وتناسلوا على حشمة وسراوة ورسوم حسنة، وتصرف جد المترجم به في القيادة. وأما المترجم به فهورجل فاضل، حسن الخلق، جم الفضائل، باهر الخصل، رفيع القدر، ظاهر الحياء، أصيل المجد، وقور المجلس، خاصي الزي، عالي الهمة، عزوف عن الضيم، صعب المقادة، قوي الجأش، طامح لقنن الرياسة، خاطب للحظ، متقدم في فنون عقلية ونقلية، متعدد المزايا، سديد البحث، كثير الحفظ، صحيح التصور، بارع الخط، مغري بالتجلة، جواد حسن العشرة، مبذول المشاركة، مقيم لرسم التعيين، عاكف على رعي خلال الأصالة، مفخر من مفاخر التخوم المغربية. قرأ القرآن ببلده على المكتب ابن برال، والعربية على المقرئ الزواوي وغيره، وتأدب بأبيه، وأخذ عن المحدث أبي عبد الله ابن جابر الوادي آشي، وحضر مجلس القاضي أبي عبد الله ابن عبد السلام، وروى عن الحافظ أبي عبد الله السطي، والرئيس أبي محمد عبد المهيمن الحضرمي، ولازم العالم الشهير أبا عبد الله الآبلي وانتفع به، انصرف من إفريقية منشئه بعد أ، تعلق بالخدمة السلطانية على الحداثة، وإقامته لرسم العلامة بحكم الاستنابة، عام ثلاثة وخمسين وسبعمائة، وعرف فضله، وخطبه السلطان منفق سوق العلم والأدب أبوعنان فارس بن علي بن عثمان، واستحضره (1) بمجلس المذاكرة فعرف حقه وأوجب فضله، واستعمله على الكتابة أوائل عام ستة وخمسين، ثم عظم عليه حمل الخاصة من طلبة الحضرة لبعده عن حسن التأتي، وشفوفه بثقوب الفهم وجودة الإدراك، فأغروا به

(1) ق: واستقدمته واستحضره.

ص: 172

السلطان إغراء عضده ما جبل عليه عهدئذ من إغفال التحفظ مما يريب ليده، فأصابته شدة تخلصه منها أجله (1) ، كانت مغربة في جفاء ذلك الملك وهناة جواره، وإحدى العوازل لأولي الهوى في القول بفضله وعدم الخشوع وإهمال التوسل وإبادة المكسوب في سبيل النفقة والإرضاخ على زمن المحنة وجار المنزل الخشن، إلى أ، أفضى الأمر إلى السعيد ولده، فأعتبه قيم الملك لحينه، وأعاده إلى رسمه، ودالت الدولة إلى السلطان أبي سالم، وكان له به الاتصال قبل تسوغ المحنة بما أكد حظوته، فقلده ديوان الإنشاء مطلق الجرايات محرر السهام نبيه الرتبة، إلى آخر أيامه. ولما ألقت الدولة مقادها بعده إلى الوزير عمر بن عبد الله مدبر الأمر، وله إليه وسيلة وفي حيله شركة وعنده حق، رابه تقصيره عما ارتمى إليه أمله، فساء ما بينهما بما آل انفصاله عن الباب المريني، وورد على الأندلس في أول ربيع الأول عام أربعة وستين وسبعمائة، واهتز له السلطان، وأركب خاصته لتقليه، وأكرم وفادته، وخلع عليه وأجلسه بمجلسه، ولم يدخر عنه براً ومؤاكلة ومطايبة وفكاهة.

8 -

وخاطبني لما حل بظاهر الحضرة مخاطبة لم تحضرني الآن، فأجبته عنها بقولي (2) :

حللت حلول الغيث في البلد المحل

على الطائر الميمون والرحب والسهل

يميناً بمن تعنو الوجوه لوجهه

من الشيخ والطفل المهدإ والكهل

لقد نشأت عندي للقياك غبطة

تنسي اغتباطي بالشبيبة والأهل أقسمت بمن حجت قريش لبيته، وقبر صرفت أزمة الأحياء لميته، ونور ضربت الأمثال بمشكاته وزيته، لوخيرت أيها الحبيب الذي زيارته الأمنية السنية، والعارفة

(1) ق: الأجل.

(2)

أوردها ابن خلدون في التعريف: 82.

ص: 173

الوارفة، واللطيفة المطيفة، بين رجع الشباب يقطر ماء ويرف نماء، ويغاز عيون الكواكب فضلاً عن الكواعب إشارة وإيماء، بحيث لا الوخط يلم بسياج لكته، أويقدح ذبالة في ظلمته، أويقوم حواريه في ملته، من الأحابش وامته، وزمانه روح وراح، ومغدى في النعيم ومراح، وقصف صراح، ورقى وجراح، وانتحاب واقتراح، وصدور ما بها إلا انشراح، ومسرات تردفها أفراح، وبين قدومك خليع الرسن، ممتعاً والحمد لله باليقظة والوسن، محكماً في نسك الجنيد أوفتك الحسن، ممتعاً بظرف المعارف، مالئاً أكف الصيارف، ماحياً بأنوار البراهين شبه الزخارف، لما اخترت الشباب وإن راقني (1) زمنه، وأعياني ثمنه، وأجرت سحائب دمعي دمنه، فالحمد لله الذي رقى جنون اغترابي، وملكني أزمة آرابي، وغبطني بمائي وترابي، ومألف أترابي، وقد أغصني بلذيذ شرابي، ووقع على سطوره المعتبرة إضرابي، وعجلت هذه مغبطة بمناخ المطية، ومنتهى الطية، وملتقى السعود غير البطية، وتهني الآمال الوثيرة الوطية، فما شئت من نفوس عاطشة إلى ربك، متجملة بزيك، عاقلة خطى مهريك، ومولى مكارمه نشيدة أمثالك، ومظان مثالك، وسيصدق الخبر ما هنالك، ويسع فضل مجدك في التخلف عن الإصحار (2) ، لا بل اللقاء من وراء البحار، والسلام.

9 -

ولما استقر بالحضرة جرت بيني وبينه مكاتبات أقطعها الظرف جانبه، وأوضح الأدب مذاهبه، فمن ذلك ما خاطبته به وقد تسري جارية رومية اسمها هند صبيحة الابتناء بها:

أوصيك بالشيخ أبي بكره

لا تأمنن في حالة مكره

واجتنب الشك إذا جئته

جنبك الرحمن ما تكره

(1) ق والتعريف: شاقني.

(2)

الإصحار: الخروج لتلقيه خارج البلد.

ص: 174

سيدي لا زلت تتصف بالوالج، بين الخلاخل والدمالج، وتركض فوقها ركض الهمالج، أخبرني كيف كانت الحال، وهل حطت بالقاع من خير البقاع الرحال، واحكم بمرود المراودة الاكتحال، وارتفع بالسقيا الإمحال، وصح الانتحال، وحصحص الحق وذهب المحال، وقد طولعت بكل بشرى وبشر، وزفت هند منك إلى بشر، فلله من عشية، تمتعت من الربيع بفرش موشية، وأبدلت منها أي آساد حشية، وقد أقبل ظبي الكناس، من الديماس، ومطوق الحمام، من الحمام، وقد حسنت الوجه الجميل التطرية، وأزيلت عن الفرع الأثيث الأبرية، وصقلت الخدود فكأنها الأمرية (1) ، وسلط الدلك على الجلود، وأغريت النورة بالشعر المولود، وعادت الأعضاء يزلق عنها اللمس، ولا تنالها البنان (2) الخمس، والسحنة يجول في صفحتها الفضية ماء النعيم، والمسواك يلبي من ثنية التنعيم، والقلب يرمي من الكف الرقيم (3) بالمقعد المقيم، وينظر إلى نجوم الوشوم فيقول: إني سقيم، وقد تفتح ورد الخفر، وحكم لزنجي الضفيرة بالظفر، واتصف أمير الحسن بالصدود المغتفر، ورش بماء الطيب، ثم أعلق بباله دخان العود الرطيب، وأقبلت الغادة، يهديها اليمن وتزفها السعادة، فهي تمشي على استحيا، وقد ذاع طيب الريا وراق حسن المحيا، حتى إذا نزع الخف، وقبلت الأكف، وصخب المزمار وتجاوب الدف، وذاع الأرج، وارتفع الحرج، وتجوز اللوى والمنعرج، ونزل على بشر بزيارة هند الفرج، اهتزت الأرض وربت، وعوصيت الطباع البشرية فأبت، ولله در القائل (4) :

ومرت فقالت: متى نلتقي

فهش اشتياقاً إليها الخبيث

وكاد يمزق سرباله

فقلت: إليك يساق الحديث

(1) لعل الأبرية جمع برى بمعنى التراب؛ والأمرية: المرايا جمع مرآة.

(2)

البنان: سقطت من ق.

(3)

الرقيم: المزين.

(4)

ينسب البيتان لبشار (فصل المقال: 46) وفي الثاني منهما المثل " إليك يساق الحديث ".

ص: 175

فلما انسدل جنح الظلام، وانتصفت من غريم العشاء الأخيرة فريضة السلام، وخاطب خيوط المنام عيون الأنام، تأتى دنوالجلسة، ومسارقة الخلسة، ثم عضة النهد، وقبلة الفم والخد، وإرسال اليد من النجد إلى الوهد، وكانت الإمالة القليلة قبل المد، ثم الإفاضة فيما يغبط ويرغب، ثم الإماطة لما يشوش ويشغب، ثم إعمال المسير، إلى السرير (1) :

وصرنا إلى الحسنى، ورق كلامنا

ورضت فذلت صعبة أي إذلال وهذا بعد منازعة للأطواق يسيرة، يراها الغيد من حسن السيرة، ثم شرع في التكة، ونرع الشكة (2) ، وتهيئة الأرض العزاز (3) عمل السكة، ثم كان الوحي والاستعجال، وحمي الوطيس والمجال، وعلا الجزء الخفيف، وتضافرت الخصور الهيف، وتشاطر الطبع العفيف، وتواتر التقبيل، وكان الأخذ الوبيل، وامتاز الانوك من النبيل، ومنها جاشر وعلى الله قصد السبيل، فيا لها من نعم متداركة، ونفوس في سبيل القحة متهالكة، ونفس يقطع حروف الحلق، وسبحان الذي يزيد في الخلق، وعظمت الممانعة، وكثرت باليد المصانعة، وطال التراوغ والتزاور، وشكي التحاور، وهناكل تختلف الأحوال، وتعظم الأهوال، وتخسر أوتربح الأموال، فمن عصاً تنقلب ثعباناً مبيناً، ونونة (4) تصير تنيناً، وبطل لم يهمله المعترك الهائل، والوهم الزائل، ولا حال بينه وبين قرنه الحائل، فتعدى فتكة السليك إلى فتكة البراض، وتقلد مذهب الأزارقة من الخوارج في الاعتراض (5) ، ثم شق الصف، وقد خضبت الكف، بعد أن كان يصيب البوسى

(1) البيت لأمرئ القيس، ديوانه:32.

(2)

ونزع الشكة: سقطت من ق.

(3)

العزاز: الصلبة.

(4)

النونة: السمكة؛ وفي العبارات كنايات تنطوي على الغمز والسخرية.

(5)

الاعتراض: عدم المبالاة بالقتل في حال الخروج أو الإقدام على القتل الجماعي.

ص: 176

بطعنته، ويبوء بمقت الله ولعنته:

طعنت ابن عبد الله طعنة ثائر

لها نفذ لولا الشعاع أضاءها (1) وهناك هدأ القتال، وسكن الخبال، ووقع المتوقع فاستراح البا، وتشوف إلى مذهب الثنوية من لم يكن للتوحيد بمبال، وكثر السؤال عن المبال، بما بال، وجعل الجريح يقول وقد نظر إلى دمه، يسيل على قدمه:

إني له عن دمي المسفوك معتذر

أقول حملته في سفكه تعبا (2) ومن سنان (3) عاد عناناً، وشجاع صار جباناً، كلما شابته شائبة ريبه، أدخل يده في جيبه، فانجحرت الحية، وماتت الغريزة الحية، وهناك يزيغ البصر، ويخذل المنتصر، ويسلم الأشر، ويغلب الحصر، ويجف اللعاب، ويظهر العاب (4) ، ويخفق الفؤاد، ويكبوالجواد، ويسيل العرق، ويشتد الكرب والأرق، وينشأ في محل الأمن الفرق، ويدرك فرعون الغرق، ويقوي اللجاج ويعظم الخرق، فلا تزيد الحال إلا شدة، ولا تعرف تلك الحائجة المؤمنة إلا ردة:

إذا لم يكن عون من الله للفتى

فأول (5) ما يجني عليه اجتهاده فكم مغرى بطول البث، وهومن الخبث، يؤمل الكرة، ليزيل المعرة، ويستنصر الخيال، ويعمل باليد الاحتيال:

إنك لا تشكو إلى مصمت

فاصبر على الحمل الثقيل أو مت (6)

(1) البيت لقيس بن الخطيم، ديوانه:7.

(2)

ق: التعبا.

(3)

عطف على قوله فيما سبق: " فمن عصا تنقلب

الخ ".

(4)

ق: اللغاب؛ والعاب: العيب.

(5)

ق: فأكثر.

(6)

المصمت: الذي يهتم إذا شكوت إليه؛ وهذا من الأمثال، (انظر اللسان - الصمت -) .

ص: 177

ومعتذر بمرض أصابه، جرعه أوصابه، ووجع طرقه، جلب أرقه، وخطيب أرتج عليه أحياناً، فقال: سيحدث الله بعد عسر يسراً وبعد عي بياناً؛ اللهم إنا تعوذ بك من فضائح الفروج إذا استغفلت أقفالها، ولم تتسم بالنجيع أغفالها، ومن معرات الأقذار، والنكول عن الأبكار، ومن النزول عن البطون والسرر، والجوارح الحسنة الغرر، قبل ثقب الدرر، ولا تجعلنا ممن يستحيي من البكر بالغداة، وتعلم منه كلال الأداة، وهو مجال فضحت فيه رجال، وفراش شكيت فيه أوجال، وأعملت رواية وارتجال، فمن قائل:

أرفعه طوراً على إصبعي

ورأسه مضطرب أسفله

كالحنش المقتول يلقى على

عود لكي يطرح في مزبله وقائل:

عدمت من أيري قوى حسه

يا حسرة المرء على نفسه

تراه قد مال على أصله

كحائط خر على أسه وقائل:

أيحسدني إبليس داءين أصبحا

برجلي وراسي دملاً وزكاما

فليتهما كانا به وأزيده

رخاوة أير لا يطيق قياما

إذا نهضت للنيك أزباب معشر

توسد إحدى خصيتيه وناما وقائل:

أقول لأيري وهو يرقب فتكة

به: خبت من أير وعالتك (1) داهية

إذا لم يكن للأير بخت تعذرت

عليه وجوه النيك من كل ناحية وقائل:

تعقف فوق الخصيتين كأنه

رشاء إلى جنب الركية ملتف

(1) ق: ونالتك.

ص: 178

كفرخ ابن ذي يومين يرفع رأسه

إلى أبويه ثم يدركه الضعف وقائل:

تكرش أيري بعدما كان املسا

وكان غنياً من قواه فأفلسا

وصار جوابي للمها إن مررن بي

مضى الوصل إلا منية تبعث الأسر وقائل:

بنفسي من حييته فاستخف بي

ولم يخطر الهجران يوماً على بالي

وقابلني بالغور والنجد بعدما

حططت به رحلي وجردت سربالي

وما أرتجي من موسر فوق تكة

عرضت له شيئاً من الحشف البالي هموم لا تزال تبكى، وعلل الدهر تشكى، وأحاديث تقص وتحكى، فإن كنت أعزك الله سبحانه من النمط الأول، ولم تقل:

وهل عند رسم دارس من معول (1)

فقد جنيت الثمر، واستطبت السمر، فاستدع الأبواق من أقصى المدينة، واخرج على قومك في ثياب الزينة (2) واستبشر بالوفود، وعرف المسمع عازفة الجود، وتبجح بصلابة العود، وإنجاز الوعود، واجن رمان النهود، من أغصان القدود، واقطف ببنان اللثم أقاح الثغور وورد الخدود، وإن كانت الأخرى فأخف الكمد، وارض الثمد، وانتظر الأمد، وأكذب التوسم، واستعمل التبسم، واستكتم النسوة، وأفض فيهن الرشوة، وتقلد المغالطة وارتكب، وجئ على قميصه بدم كذب، واستنجد الرحمن، واستعن على أمرك بالكتمان:

(1) صدر هذا البيت " وإن شفائي عبرة مهراقة " وهو من معلقة امرئ القيس.

(2)

يشير إلى زهوه كأنه قارون.

ص: 179

لا تظهرن لعاذل أوعاذر

حاليك في الضراء والسراء (1)

فلرحمة المتفجعين حرارة

في القلب مثل شماتة الأعداء وانتشق الأرج، وارتقب الفرج، فكم غمام طما " ما رميت إذ رميت ولكن الله رمى " الأنفال:17 واملك بعدها عنان نفسك حتى تمكنك الفرصة، وترفع إليك القصة، ولا تشره إلى عمل لا تفيء منه بتمام، وخذ عن إمام، ولله در الحارث بن هشام (2) :

الله يعلم ما تركت قتالهم

حتى رموا مهري بأشقر مزبد

وعلمت أني أقاتل دونهم

أقتل، ولم يضرر عدوي مشهدي

ففررت منهم والأحبة فيهم

طمعاً لهم بعقاب يوم مفسد واللبانات تلين وتجمح، والمآرب تدنو وتنزح، وتحرن ثم تسمح، وكم من شجاع خام (3) ، ويقظ نام، ودليل أخطأ الطريق، وأضل الفريق، والله عز وجل يجعلها خلة موصولة، وشملاً اكنافه بالخير مشمولة، وبنية أركانها لركائب اليمن مأمولة، حتى تكثر خدم سيدي وجواريه، وأسرته وسراريه، وتصفوعليه نعم باريه، ما طورد قنيص، واقتحم عيص، وأدرك مرام عويص، وأعطي زاهد وحرم حريص؛ والسلام.

[بقية ترجمة ابن خلدون عن الإحاطة]

تواليفه - شرح البردة شرحاً بديعاً دل به على انفساح ذرعه، وتفنن إدراكه

(1) ق: السراء والضراء.

(2)

قالها حين فر عن أصحابه يوم بدر وعيره حسان بالفرار بقوله:

إن كنت كاذبة الذي حدثتني

فنجوت منجى الحارث بن هشام وانظر حماسة البحتري: 40.

(3)

خام: حاد وجبن.

ص: 180

وغزارة حفظه، ولخص كثيراً من كتب ابن رشد، وعلق للسلطان أيام نظره في العقليات تقييداً مفيداً في المنطق، ولخص محصل الإمام فخر الدين الرازي، وبه داعبته أول لقيه، فقلت له: لي عليك مطالبة فإنك لخصت محصلي، وألف كتاباً في الحساب، وشرع في هذه الأيام في شرح الرجز الصادر عني في أصول الفقه بشيء لا غاية فوقه في الكمال.

وأما نثره وسلطانياته السجعية فخلج بلاغة، ورياض فنون، ومعادن إبداع، يفرغ عنها يراعه الجريء، شبيهة البداءات بالخواتم، في نداوة الحروف، وقرب العهد بجرية المداد، ونفوذ أمر القريحة، واسترسال الطبع.

وأما نظمه فنهض لهذا العهد قدماً في ميدان الشعر، ونقده باعتبار أساليبه فانثال عليه جوه، وهان عليه صعبه، فأتى منه بكل غريبة.

خاطب السلطان ملك المغرب ليلة الميلاد الكريم عام اثنين وستين وسبعمائة بقصيدة طويلة أولها (1) :

أسرفن في هجري وفي تعذيبي

وأطلن موقف عبرتي ونحيبي

وأبين يوم البين وقفة ساعة

لوداع مشغوف الفؤاد كئيب

لله عهد الظاعنين وغادروا

قلبي رهين صبابة ووجيب

غربت ركائبهم ودمعي سافح

فشرقت بعدهم بماء غروبي (2)

يا ناقعاً بالعتب غلة شوقهم

رحماك في عذلي وفي تأنيبي

يستعذب الصب الملام وإنني

ماء الملام لدي غير شريب (3)

ما هاجني طرب ولا اعتاد الجوى

لولا تذكر منزل وحبيب

أهفو إلى الأطلال كانت مطلعاً

للبدر منهم أوكناس ربيب

(1) القصيدة في التعريف: 70.

(2)

الغروب: الشؤون، أي مجاري الدموع.

(3)

الشريب: العذب؛ وفي التعريف: شروب.

ص: 181

عبثت بها أيدي البلى وترددت

في عطفهها للدهر آي خطوب

تبلى معاهدها وإن عهودها

ليجدها وصفي وحسن نسيبي

وإذا الديار تعرضت لمتيم

هزته ذكراها إلى التشبيب

إيه على الصبر الجميل فإنه

ألوى بدين فؤادي المنهوب

لم أنسها والدهر يثني صرفه

ويغض طرفي حاسد ورقيب

والدار مونقة محاسنها بما

لبست من الأيام كل قشيب

يا سائق الأظعان تعتسف الفلا

وتواصل الإساد بالتأويب (1)

متهافتاً عن رحل كل مذلل

نشوان من أين ومس لغوب

تتجاذب النفحات فضل ردائه

في ملتقاها من صباً وجنوب

إن هام من ظمإ الصبابة صحبه

نهلوا بمورد دمعه المسكوب

أو تعترض مسراهم سدف الدجى

صدعوا الدجى بغرامه المشبوب

في كل شعب منية من دونها

هجر الأماني أولقاء شعوب

هلا عطفت صدورهن إلى التي

فيها لبانة أعين وقلوب

فتؤم من أكناف يثرب مأمناً

تتلو من الآثار كل غريب

سر غريب لم يحجبه الثرى

ما كان سر الله بالمحجوب ومنها بعد تعديد معجزاته صلى الله عليه وسلم:

يا سيد الرسل الكرام ضراعة

تقضي مني نفسي وتذهب حوبي (2)

عاقت ذنوبي عن جنابك والمنى

فيها تعللني بكل كذوب

لا كالألى صرفوا العزائم للتقى

فاستأثروا منها بخير نصيب

(1) الإسآد: سير الليل، والتأويب: سير النهار.

(2)

الحوب: الإثم.

ص: 182

لم يخلصوا لله حتى فرقوا

في الله بين مضاجع وجنوب

هب لي شفاعتك التي أرجو بها

صفحاً جميلاً عن قبيح ذنوبي

إن النجاة وإن أتيحت لامرئ

فبفضل جاهك ليس بالتسبيب

إني دعوتك واثقاً بإجابتي

يا خير مدعووخير مجيب

قصرت في مدحي فإن يك طيباً

فبما فذكرك من أريج الطيب

ماذا عسى يبغي المطيل وقد حوى

في مدحك القرآن كل مطيب

يا هل تبلغني الليالي زورة

تدني إلي الفوز بالمرغوب

أمحو خطيئاتي بإخلاصي بها

وأحط أوزاري وإصر ذنوبي

في فتية هجروا المنى وتعودوا

إنضاء كل نجيبة ونجيب

يطوي صحائف ليلهم فوق الفلا

ما شئت من خبب ومن تقريب

إن رنم الحادي بذكرك رددوا

أنفاس مشتاق إليك طروب

أو غرد الركب الخلي بطيبة

حنوا لمغناها حنين النيب

ورثوا اعتساف البيد عن آبائهم

إرث الخلافة في بني يعقوب

الطاعنون الخيل وهي عوابس

يغشى مثار النقع كل سبيب (1)

والواهبون المقربات صوافناً

من كل خوار العنان (2) لعوب

والمانعون الجار حتى عرضهم

في منتدى الأعداء غير معيب

تخشى بوادرهم ويرجى حلمهم

والعز شيمة مرتجى ومهيب ومنها:

سائل به طامي العباب وقد سرى

تزجى بريح العزم ذات هبوب

تهديه شهب أسنة وعزائم

يصد عن ليل الحادث المرهوب

(1) خوار العنان: لين العطف.

(2)

السبيب: شعر عرف الفرس.

ص: 183

حتى انجلت ظلم الضلال بسعيه

وسطا الهدى بفريقها المغلوب (1)

يا ابن الألى شادوا الخلافة بالتقى

واستأثروك بتاجها المعصوب

جمعوا بحفظ الدين آي مناقب

كرموا بها في مشهد ومغيب

لله مجدك طارفاً أو تالداً

فلقد شهدنا منه كل عجيب

كم رهبة أورغبة لك والعلا

تقتاد بالترغيب والترهيب

لا زلت مسروراً بأشرف دولة

يبدو الهدى من أفقها المرقوب

تحيي المعالي غادياً اورائحاً

وجديد سعدك ضامن المطلوب وقال من قصيدة خاطبه بها عند وصول هدية ملك السودان إليه وفيها الزرافة (2) :

قدحت يد الأشواق من زندي

وهفت بقلبي زفرة الوجد

ونبذت سلواني على ثقة

بالقرب فاستبدلت بالبعد

ولرب وصل كنت آمله

فاغتصب منه مؤلم الصد

لا عهد عند الصبر أطلبه

إن الغرام أضاع من عهدي

يلحى العذول فما أعنفه

وأقول ضل فأبتغي رشدي

وأعارض النفحات أسألها

برد الجوى فتزيد في الوقد

يهدي الغرام إلى مسالكها

لتعللي بضعيف ما تهدي

يا سائق الوجناء معتسفاً

طي الفلاة لطية الوجد

أرح الركاب ففي الصبا نبأ

يغني عن المستنة الجرد

وسل الربوع برامة خبراً

عن ساكني نجد وعن نجد

ما لي تلام على الهوى خلقي

وهي التي تأبى سوى الحمد

لأبيت إلا الرشد مذ وضحت

بالمستعين معالم الرشد

نعم الخليفة في هدى وتقىً

وبناء عز شامخ الطود

(1) ق: المطلوب.

(2)

التعريف: 74، وانظر الاستقصا 4:35.

ص: 184

نجل السراة الغر شأنهم

كسب العلا بمواهب الوجد ومنها:

لله مني إذ تأوبني

ذكره وهوبشاهق فرد

شهم يفل بواتراً قضباً

وجموع أقيال أولي أيد

أوريت زند العزم في طلبي

وقضيت حق المجد من صدي

ووردت عن ظمإ مناهله

فرويت من عز ومن رفد

هي جنة المأوى لمن كفلت

آماله بمطالب المجد

لو لم أعل بورد كوثرها

ما قلت هذي جنة الخلد

من مبلغ قومي ودونهم

قذف النوى وتنوفة البعد

أني أنفت على رجائهم

وملكت عز جميعهم وحدي ومنها (1) :

ورقيمة الأعطاف حالية

موشية بوشائع البرد

وحشية الأنساب ما أنست

في موحش البيداء بالقرد

تسمو بجيد بالغ صعداً

شرف الصروح بغير ما جهد

طالت رؤوس الشامخات به

ولربما قصرت عن الوهد

قطعت إليك تنائفاً وصلت

إسآدها بالنص والوخد

تخدي على استصعابها ذللاً

وتبيت طوع القن والقد

بسعودك اللائي ضمن لنا

طول الحياة بعيشة رغد

جاءتك في وفد الأحابش لا

يرجون غيرك مكرم الوفد

وافوك أنضاءً تقلبهم

أيدي السرى بالغور والنجد

كالطيف يستقري مضاجعه

أو كالحسام يسل من غمد

(1) ومنها: سقطت من ق.

ص: 185

يثنون بالحسنى التي سبقت

من غير إنكار ولا جحد

ويرون لحظك من وفادتهم

فخراً على الأتراك والهند

يا مستعيناً جل في شرف

عن رتبة المنصور والمهدي

جازاك ربك عن خليقته

خير الجزاء فنعم ما تسدي

وبقيت للدنيا وساكنها

في عزة أبداً وفي سعد وقال يخاطب عمر بن عبد الله مدير ملك المغرب:

يا سيد الفضلاء دعوة مشفق

نادى لشكوى البث خير سميع

ما لي وللإقصاء بعد تعلة

بالقرب كنت لها أجل شفيع

وأرى الليالي رنقت لي صافياً

منها فأصبح في الأجاج شروعي

ولقد خلصت إليك بالقرب التي

ليس الزمان لشملها بصدوع

ووثقت منك بأي وعد صادق

أني المصون وأنت غير مضيع

وسما بنفسي للخليفة طاعة

دون الأنام هواك قبل نزوع

حتى انتحاني الكاشحون بسعيهم

فصددتهم عني وكنت منيعي

رعمت أنوفهم بنجح وسائلي

وتقطعت أنفاسهم بصنيعي

وبغوا بما نقموا علي خلائقي

حسداً فراموني بكل شنيع

لا تطمعنهم ببذل في التي

قد صنتها عنهم بفضل قنوعي

أني أضام وفي يدي القلم الذي

ما كان طيعه لهم بمطيع

ولي الخصائص ليس تأبى رتبة

حسبي بعلمي ذاك من تفريعي

قسماً بمجدك وهوخير ألية

أعتدها لفؤادي المصدوع

إني لتصطحب الهموم بمضجعي

فتحول ما بيني وبين هجوعي

عطفاً علي بوحدتي عن معشر

نفث الإباء صدودهم في روعي

أغدو إذا باكرتهم متجلداً

وأروح أعثر في فضول دموعي

حيران أوجس عند نفسي خيفة

فتسر في الأوهام كل مروع

ص: 186

أطوي على الزفرات قلباً آده

جمل الهموم تجول بين ضلوعي

ولقد أقول لصرف دهر رابني

بحوادث جاءت على تنويع

مهلاً عليك فليس خطبك ضائري

فلقد لبست له اجن دروع

إني ظفرت بعصمة من أوحد

بذ الجميع بفضله المجموع وقال يخاطب بعض الوزراء في حال وحشة (1) :

هنيئاً بصوم لا عداه قبول

وبشرى بعيد أنت فيه منيل

وهنيتها من عزة وسعادة

تتابع أعوام بها وفصول

سقى الله دهراً أنت إنسان عينه

ولا مس ربعاً في حماك محول

فعصرك ما بين الليالي مواسم

لها غرر وضاحة وحجول

وجانبك المأمول للجود مشرع

يحوم عليه عالم وجهول

عساك وإن ضن الزمان منولي

فرسم الأماني من سواك محيل

أجرني وليس الدهر لي بمسالم

إذا لم يكن في ذراك مقيل

وأوليتني (2) الحسنى بما أنا آمل

فمثلك يولي راجياً وينيل

ووالله ما رمت الترحل عن قلى

ولا سخط للعيش فهو جزيل

ولا رغبة عن هذه الدار إنها

لظل على هذا الأنام ظليل

ولكن نأى بالشعب عني حبائب

دعاهن (3) خطب للفراق طويل

يهيج بهن الوجد أني نازح

وأن فؤادي حيث هن حلول

عزيز عليهن الذي قد لقيته

وأن اغترابي في البلاد يطول

توارت بأنبائي البقاع كأنني

تخطفت أو غالت ركابي غول

(1) هو الوزير عمر بن عبد الله، ويستجير بصديقه ورديفه مسعود بن رحو بن ماساي، والقصيدة في التعريف:77.

(2)

التعريف: وأولني.

(3)

التعريف: شجاهن.

ص: 187

ذكرتك يا معنى الأحبة والهوى

فطارت بقلبي أنه وعويل

وحييت عن شوق رباك كأنما

يمثل لي نؤي بها وطلول

أأحبابنا والعهد بيني وبينكم

كريم، وما عهد الكريم يحول

إذا أنا لم ترض الحمول مدامعي

فلا قربتني للقاء حمول

إلام مقامي حيث لم ترد العلا

مرادي ولم تعط القياد ذلول

أجاذب فضل العمر يوماً وليلة

وساء صباح بينها وأصيل

ويذهب فيما بين يأس ومطمع

زمان بنيل المعلوات بخيل

تعللني منه أمان خوادع

ويؤيسني ليان منه مطول

أما لليال لا ترد خطوبها

ففي كبدي من وقعهن فلول

يروعني من صرفها كل حادث

تكاد له صم الجبال تزول

أداري على رغم العدا لا لريبة

يصانع واش خوفها وعذول

وأغدو بأشجاني عليلاً كأنما

تجود بنفسي زفرة وغليل

وإني وإن أصبحت في دار غربة

تحيل الليالي سلوتي وتزيل

وصدتني الأيام عن خير منزل

عهدت به أن لا يضام نزيل

لأعلم أن الخير والشر ينتهي

مداه وان الله سوف يديل

وأني عزيز بابن ماساي مكثر

وإن هان أنصار وبان خليل وقال يمدح (1) :

هل غير بابك للغريب مؤمل

أو عن جنابك للأماني معدل

هي همة بعثت إليك على النوى

عزماً كما شحذ الحسام الصقيل

متبوأ الدنيا ومنتجع المنى

والغيث حيث العارض المتهلل

حيث القصور الزاهرات منيفة

تعنى بها زهر النجوم وتحفل

(1) قالها يمدح أبا العباس سلطان تونس عندما قدم إليه نسخة من كتابه " العبر " انظر التعريف: 233.

ص: 188

حيث الخيام البيض يرفع لعلا

والمكرمات طرافها المتهدل

حيث الحمى للعز دون مجاله (1)

ظل أفاءته الوشيج الذبل

حيث الكرام ينوب عن نار القرى

عرف الكباء بحيهم والمندل

حيث الجياد أملهن بنو الوغى

مما أطالوا في المغار وأوغلوا

حيث الوجوه الغر قنعها الحيا

والبشر فوق جبينها يتهل

حيث الملوك الصيد والنفر الألى

عز الجوار لديهم والمنزل وأنشد السلطان ابن عبد الله ابن الحجاج لأول قدومه ليلة الميلاد الكريم عام أربعة وستين وسبعمائة هذه القصيدة (2) :

حي المعاهد كانت قبل تحييني

بواكف الدمع يرويها ويظميني

إن الألى نزحت داري ودارهم

تحملوا القلب في آثارهم دوني

وقفت أنشد صبراً ضاع بعدهم

فيهم وأسأل رسماً لا يناجيني

أمثل الربع من شوق وألثمه

وكيف والفكر يدنيه ويقصيني

وينهب الوجد مني كل لؤلؤة

ما زال جفني عليها غير مأمون

شقت جفوني مغاني الربع بعدهم

فالدمع وقف على أطلاله الجون

قد كان للقلب عن داعي الهوى شغل

لو أن قلبي إلى السلوان يدعوني

أحبابنا هل لعهد الوصل مدكر

منكم وهل نسمة منكم تحييني

ما لي وللطيف لا يعتاد زائره

وللنسيم عليلاً لا يداويني

يا أهل نجد وما نجد وساكنها

حسناً سوى جنة الفردوس والعين

أعندكم أنني ما مر ذكركم

إلا انثنيت كأن الراح تثنيني

أصبو إلى البرق من أنحاء أرضكم

شوقاً، ولولاكم ما كان يصبيني

(1) التعريف: في ساحاته.

(2)

التعريف: 85.

ص: 189

يا نازحاً والمنى تدنيه من خلدي

حتى لأحسبه قرباً يناجيني

أسلي هواك فؤادي عن سواك وما

سواك يوماً بحال عنك يسليني

ترى الليالي أنستك ادكاري يا

من لم يكن ذكره الأيام تنسيني ومنها:

أبعد مر الثلاثين التي ذهبت

أولى الشباب بإحساني وتحسيني

أضعت فيها نفيساً ما وردت به

إلا سراب غرور لا يرويني

واحسرتي من أمان كلها خدع

تريش غيي ومر الدهر يبريني ومنها في وصف المشور (1) المبني لهذا العهد:

يا مصنعاً شيدت منه السعود حمى

لا يطرق الدهر مبناه بتوهين

صرح يحار لديه الطرف مفتتناً

فيما يروقك من شكل وتكوين

بعداً لإيوان كسرى إن مشورك ال

سامي لأعظم من تلك الأواوين

ودع دمشق ومغناها فقصرك ذا

" أشهى إلى القلب من أبواب جيرون " ومنها في التعريض بالوزير الذي كان انصرافه بسببه:

من مبلغ عني الصحب الألى جهلوا

ودي وضاع حماهم إذ أضاعوني

أني أويت من العليا إلى حرم

كادت مغانيه بالبشرى تحييني

وأنني ظاعناً لم ألق بعدهم

دهراً أشاكي ولا خصماً يشاكيني

لا كالتي أخفرت عهدي ليالي إذ

أقلب الطرف بين الخوف والهون

سقياً ورعياً لأيامي التي ظفرت

يداي منها بحظ غير مغبون

أرتاد منها ملياً لا يماطلني

وعداً وأرجو كريماً لا يعنيني

(1) المشور: المكان الذي يجلس فيه السلطان للحكم.

ص: 190

ومنها:

وهاك منها قواف طيها حكم

مثل الأزاهر في طي الرياحين

تلوح إن جليت دراً، وإن تليت

تثني عليك بأنفاس البساتين

عانيت منها بجهدي كل شاردة

لولا سعودك ما كانت تواتيني

يمانع الفكر عنها ما تقسمه

من كل حزن بطي الصدر مكنون

لكن بسعدك ذلت لي شواردها

فرضت منها بتحبير وتزيين

بقيت دهرك في أمن وفي دعة

ودام ملكك في نصر وتمكين وهوالآن بحالته الموصوفة من الوجاهة والحظوة قد استعمل في السفارة إلى ملك قشتالة فراقه وعرف حقه.

مولده بونس في شهر رمضان عام اثنين وثلاثين وسبعمائة؛ انتهى كلام لسان الدين في حق ابن خلدون.

[تعليق للمقري والباعوني]

قلت: هذا كلام لسان الدين في حق المذكور في مبادئ أمره وأواسطه، فكيف لورأى تاريخه الكبير الذي نقلنا منه في مواضع وسماه ديوان العبر وكتاب المبتدأ والخير في تاريخ العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر ورأيته بفاس وعليه خطه في ثماني مجلدات كبار جداً، وقد عرف في آخره بنفسه، وأطال، وذكر أنه لما كان بالأندلس وحظي عند السلطان أبي عبد الله شم من وزيره ابن الخطيب رائحة الانقباض، فقوض الرحال ولم يرض من الإقامة بحال، ولعب بكرته صوالجة الأقدار، حتى حل بالقاهرة المعزينة واتخذها خير دار، وتولى بها قضاء القضاة وحصلت له أمور، رحمه الله تعالى.

ص: 191

وكان - أعني الولي ابن خلدون - كثير الثناء على لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى.

ولقد رأيت بخط العالم الشهير الشيخ إبراهيم الباعوني الشامي فيما يتعلق بابن خلدون ما نص محل الحاجة منه: تقلبت به الأحوال حتى قدم إلى الديار المصرية، وولي بها قضاء قضاة المالكية، في الدولة الشريفة الظاهرية، وصحبته - رحمه الله تعالى - في سنة 803 عند قدومه إلى الشام صحبة الملك الناصر فرج ابن الملك الظاهر برقوق في فتنة تمرلنك عليه من الله تعالى ما يستحقه، وأكرمه تمرلنك غاية الإكرام، وأعاده إلى الديار المصرية، وكنت أكثر الاجتماع به بالقاهرة المحروسة للمودة الحاصلة بيني وبينه، وكان يكثر من ذكر لسان الدين ابن الخطيب، ويورد من نظمه ونثره ما يشنف به الأسماع، وينعقد على استحسانه الإجماع، وتتقاصر عن إدراكه الأطماع، فرحمة الله تعالى عليهما، وأزكى تحياته تهدى إليهما. ولقد كان ابن خلدون هذا من عجائب الزمان، وله من النظم والنثر ما يزري بعقود الجمان، مع الهمة العلية، والتبحر في العلوم النقلية والعقلية، وكانت وفاته بالقاهرة المعزية807، سقى الله تعالى عهده، ووطأ في الفردوس مهده. قاله وكتبه الفقير إلى الله تعالى إبراهيم بن أحمد الباعوني الشافعي، غفر الله تعالى له زلله، وأصلح خلله؛ انتهى.

10 -

ومن نثر لسان الدين ما ذكره في الإحاطة في ترجمة يحيى بن إبراهيم بن يحيىالبرغواطي من بني الترجمان، ولنذكر الترجمة بجملتها لاشتمالها على ما ذكر وغيره في حق المذكور بعد قوله إنه من بني الترجمان ما صورته:

" عزف عنهم وانقطع إلى لقاء الصالحين، وصحبة الفقراء المتجردين، وكان نسيج وحده في طلاقة اللسان، حافظاً لكل غريبة من غرائب الصوفية، يتكلم في مشكلاتهم، حفظ " منازل السائرين " للهروي، وتائية ابن الفارض؛ مليح الملبس، مترفع عن الكدية، حسن الحيدث، صاحب شهرة، ومع ذلك

ص: 192

فمغضوض منه، محمول عليه، لما جبل عليه من رفض الاصطلاح، واطراح التغافل، مولع بالنقد، والمخالفة في كل ما يطرق سمعه، مرشحاً ذلك بالجدل المبرم، ذاهباً أقصى مذاهب القحة، كثير الفلتات، نالته بسبب هذه البلية محن، ووسم بالرهق في دينه مع صحة العقل، وهوالآن عامر الرباط المنسوب إلى اللجام على رسم الشياخة، عديم التابع، مهجور الفناء، قيد الكثير من الأجزاء منها في نسبة الذنب إلى الذاكر جزء نبيل غريب المأخذ، ومنها فيما أشكل من كتاب أبي محمد ابن الشيخ، وصنف كتاباً كبير الحجم في الاعتقادات جلب فيه كثيراً من الحكايات، رأيت عليه بخط شيخنا أبي عبد الله المقري ما يدل على استحسانه. ومن البرسام الذي يجري على لسانه، بين الجد والقحة والجهالة والمجانة، قوله لبعض خدام باب السلطان وقد ضويق في شيء أضجره منقولاً من خطه - بعد رد كثير منه للإعراب - ما نصه: الله نور السموات من غير نار ولا غيرها، والسلطان ظل له وسراجه في الأرض، ولكل منهما فراش مما يليق به ويتهافت عليه، فهوتعالى محرق فراشه بذاته، مغرقهم بصفاته وسراجه، وظله هوالسلطان محرق فراشه بناره، مغرقهم بزيته ونواله، ففراش الله تعالى ينقسم إلى حافين ومسبحين ومستغفرين وأمناء وشاخصين، وفراش السلطان ينقسمون إلى أقسام لا يشذ أحدهم عنها، وهم وزعة ابن وزغة، وكلب ابن كلب، وكلب مطلقاً، وعار ابن عار، وملعون ابن ملعون، وقط، فأما الوزغة فهوالمغرق في زيت نواله المشغول بذلك عما يليق بصاحب النعمة من النصح وبذل الجهد، والكلب ابن الكلب هوالكيس المتحرز في تهافته من إحراق وإغراق يعطي بعض الحق ويأخذ بعضه، وأما الكلب مطلقاً فهوالمواجه وهوالمشرد للسفهاء عن الباب المعظم القليل النعمة، وأما العار ابن العار فهوالمتعاطي في تهافته ما فوق الطوق، ولهذا امتاز هذا الاسم بالرياسة عند العامة إذا مر بهم جلف أومتعاظم يقولون: هذا العار ابن العار، يحسب نفسه رئيساً، وذلك لقرب المناسبة؛ فهوموضوع لبعض الرياسة، كما ا، الكلب ابن الكلب لبعض الكياسة، وأما الملعون

ص: 193

ابن الملعون فهوالمغالط المعاند المشارك لربه المنعم عليه في كبريائه وسلطانه، وأما القط فهوالفقير مثلي المستغني عنه لكونه لا تختص به رتبة، فتارة في حجر الملك، وتارة في السنداس (1) ، وتارة في أعلى الرتب، وتارة محسن، وتارة مسيء، تغفر سيئاته الكثيرة بأدنى حسنة، إذ هومن الطواقين، متطير بقتله وإهانته، تياه في بعض الأحايين بعزة يجدها من حرمة أبقاها له الشارع، وكل ذلك لا يخفى. وأما الفراش المحرق فهوعند الدول نوعان: تارة يكون ظاهراً وحصته مسح المصباح وتصفية زيته وإصلاح فتيله وستر دخانه ومسايسة ما يكون من المطلوب منه، ووجود هذا شديد الملازمة ظاهراً، وأما المحرق الباطن فهوالمشار إليه في دولته بالصلاح والزهد والورع فيعظمه الخلق ويترك لما هوبسبيله، فيكون وسيلة بينهم وبين ربهم وخليفته الذي هومصباحهم، فإذا أراد الله تعالى إهلاك المروءة وإطفاء مصباحها تولى ذلك أهل البطالة والجهالة، وكان الأمر كما رأيتم، والكل فراش متهافت، وكل يعمل على شاكلته ".

11 -

قال الوزير لسان الدين: وطلب مني الكتب عليه بمثل ذلك، فكتبت ببعض أوراقه إثارة لضجره، واستدعاء لفكاهة انزعاجه، ما نصه:

وقفت ن الكتاب المنسوب لصاحبنا أبي زكريا البرغواطي على برسام محموم، واختلاط مذموم، وانتساب زنج في روم، وكان حقه أن يتهيب طريقاً لم يسلكها، ويتجنب عقيلة لم يملكها، إذ المذكور لم يتلق شيئاً من علم الأصول، ولا نظر في الإعراب في فصل من الفصول، إنما هي قحة وخلاف، وتهاون بالمعارف واستخفاف، وغير أنه يحفظ في طريق القوم كل نادرة، وفيه رجولية ظاهرة، وعنده طلاقة لسان، وكفاية قلما تتأتى لإنسان، فإلى الله تضرع أن يعرفنا مقادير الأشياء، ويجعلنا بمعزل عن الأغبياء، وقد قلت مرتجلاً من أول نظرة، واجتزاء بقليل من كثرة:

(1) السنداس: بيت الراحة.

ص: 194

كل جار لغاية مرجوه

فهوعندي لم يعد حق الفتوه

وأراك اقتحمت ليلاً بهيماً

مولجاً منك ناقة في كوه

لا اتباعاً ولا اختراعاً أتتنا

إذ نظرنا عروسك المجلوه

كل ما قلته فقد قاله النا

س مقالاً آياته متلوه

لم تزد غير أن أبحت حمى الإع

راب في كل لفظة مقروه

نسأل الله فكرة تلزم العق

ل إلى حشمة تحوط المروه

وعزيز علي أن كنت يحيى

ثم لم تأخذ الكتاب بقوه 12 - ومن بديع نثر لسان الدين رحمه الله تعالى ما كتبه لسلطان تلمسان إثر قصيدة سينية حازت قصب السبق، ولنثبت الكل ها فنقول: قال الإمام الحافظ عبد الله التنسي نزيل تلمسان رحمه الله تعالى، عندما جرى ذكر أمير المسلمين السلطان أبي حموموسى بن يوسف بن عبد الرحمن بن يغمراسن بن زيان رحمه الله تعالى، ما صورته: وكان الفقيه ذوالوزارتين أبوعبد الله ابن الخطيب كثيراً ما يوجه إليه بالامداح، ومن أحسن ما وجه له قصيدة سينية فائقة، وذلك عندما أحس بتغير سلطانه عليه، فجعلها مقدمة بين يدي نجواه، لتمهد له مثواه، وتحصل له المستقر، إذا ألجأه الأمر إلى المفر، فلم تساعده الأيام، كمما هوشأنها في أكثر الأعلام، وهي هذه (1) :

أطلعن في سدف الفروع شموساً

ضحك الظلام لها وكان عبوسا

وعطفن قضباً للقدود نواعماً

بوئن أدواح النعيم غروسا

وعدين عن جهر السلام مخافة ال

واشي فجئن بلفظه مهموسا

وسفرن من دهش الوداع وقوم

هن إلى الترحل قد أناخوا العيسا

وخلسن من خلل الحجال إشارة

فتركن كل حجالها مخلوسا

لم أنسها من وحشة والحي قد

زجر الحمول وآثر التغليسا

(1) أزهار الرياض 1: 250 وبغية الرواد 2: 287.

ص: 195

لا الملتقى من بعدها كشب ولا

عوج الركائب تسأم التخييسا (1)

فوقفت وقفة هائم برحاؤه

وقفت عليه وحبست تحبيسا

ودعوت عيني عاتباً وعيونها

بعصا النوى قد بجست تبجيسا

نافست يا عيني در دموعهم

فعرضت دراً للدموع نفيسا

ما للحمى بعد الأحبة موحشاً

ولكم تراءى آهلاً مأنوسا

ولسربه حول الخميلة نافراً

عمن يحس به وكان أنيسا

ولظله المورود غمر قلبيه

لا يقتضي ورداً ولا تعريسا

حييته فأجابني رجع الصدى

لا فرق بينهما إذا ما قيسا

ما إن يزيد على الإعادة صوته

حرفاً فيشفي بالمزيد نسيسا (2)

نضب المعين وقلص الظل الذي

ظلنا عكوفاً عنده وجلوسا

نتواعد الرجعى ونغتنم اللقا

وندير من شكوى الغرام كؤوسا

فإذا سألت فلا تسائل مخبراً

وإذا سمعت فلا تحس حسيسا

عهدي به والدهر يتحف بالمنى

وقد اقتضت نعماه أن لا بوسا

والعيش غض الريع والدنيا قد اج

تليت بمغناه علي عروسا

أترى يعيد الدهر عهداً للصبا

درست مغاني الأنس فيه دروسا

أوطان أوطار تعوض أفقها

من رونق البشر البهي عبوسا

هيهات لا تغني لعل ولا عسى

في مثلها إلا لآية عيسى

والدهر في دست القضاء مدرس

فإذا قضى يستأنف التدريسا

تفتن في جمل الورى أبحاثه

لا سيما في باب نعم وبيسا

وسجية الإنسان ليس بناصل

من صبغها حتى يرى مرموسا

يغتر مهما ساعدت آماله

فإذا عراه الخطب كان يؤوسا

(1) ق ص: التجنيسا، والتصويب عن الأزهار والبغية؛ التخييس: تذليل الدابة.

(2)

النسيس: غاية الجهد؛ قلت ولعل الصواب " رسيسا ".

ص: 196

فلو أن نفساً مكنت من رشدها

يوماً وقدسها الهدى تقديسا

لم تستفز رسوخها النعمى ولا

هلعت إذا كشرت (1) إليها البوسى

قل للزمان إليك عن متذمم

بضمان عز لم يكن ليخيسا (2)

فإذا استحر جلاده فأنا الذي اس

تغشيت من سرد اليقين لبوسا

وإذا طغى فرعونه فأنا الذي

من ضره وأذاه عذت بموسى

أنا ذا مثواه (3) من يحمي الحمى

ليثاً ويعلم بالزئير الخيسا

بحمى أبي حمو حططت ركائبي

لما اختبرت الليث والعريسا

أسد الهياج إذا خطا قدماً سطا

فتخلف الأسد الهزبر فريسا

بدر الهدى يأبى الضلال ضياؤه

أبداً فيجلو الظلمة الحنديسا

جبل الوقار رسا وأشرف واعتلى

وسما فطأطأت الجبال رؤوسا

غيث النوال إذا الغمام حلوبة

مثلت بأيدي الحالبين بسوسا (4)

تلقاه يوم الأنس روضاً ناعماً

وتراه بأساً في الهياج بئيسا

كم غمرة جلى وكم خطب كفى

إن أوطأ الجرد العتاق وطيسا

كم حكمة أبدى وكم قصد هدى

للسالكين أبان منه دريسا

أعلى بني زيان والفذ الذي

لبس الكمال فزين الملبوسا

جمع الندى والبأس والشيم العلا

والسؤود المتواتر القدموسا

والحلم ليس يباين الخلق الرضى

والعلم ليس يعارض الناموسا

والسعد يغني حكمه عن نصبة

تستخبر التربيع والتسديسا

كم راض صعباً لا يراض معاصياً

كم خاض بحراً لا يخاض ضروسا

(1) ق: كثرت.

(2)

خاس: خفر العهد.

(3)

البسوس: التي تتطلب إبساساً أي تسكيناً كي تدر.

(4)

التدريس: الطريق.

ص: 197

بلغ الذي لا فوقها متمهلاً

وعلا السها واستسفل البرجيسا (1)

يا خير من خفقت عليه سحابة

لنصر تمطره أجش بجيسا (2)

وأجل من حملته صهوة سابح

إن كر ضعضع كره الكردوسا

قسماً بمن رفع السماء بغير ما

عمد ورفع فوقها إدريسا

ودحا البسيطة فوق لج مزبد

ما إن يزال على القرار حبيسا

حتى يهيب بأهله الوعد الذي

حشر الرئيس إليه والمرؤوسا

ما أنت إلا ذخر دهرك دمت في ال

صون الحريز ممتعاً محروسا

لوساومته الأرض فيك بما حوت

لرآك مستاماً بها مبخوسا

حلف (3) البرور بها ألية صادق

ويمين من عقد اليمين غموسا

من قاس ذاتك بالذوات فإنه

جهل الوزان واخطأ التقييسا

لا تستوي الأعيان فضل مزية

وطبيعة فطر الإله وسوسا (4)

لعناية التخصيص سر غامض

من قبل ذرء الخلق خص نفوسا

من أنكر الفضل الذي أوتيته

جحد العيان وأنكر المحسوسا

من دان بالإخلاص فيك فعقده

لا يقبل التمويه والتلبيسا

والمنتمى العلوي عيصك لم تكن

لترى دخيلاً في بنيه دسيسا

بيت البتول ومنبت الشرف الذي

تحمي الملائك دوحه المغروسا

أما سياستك التي أحكمتها

ورميت بالتقصير أسطاليسا

فلو أن كسرى الفرس أبصر بعضها

ما كان يطمع أن يعدي سوسا (5)

لوسار عدلك في السنين لما اشتكت

بخساً، ولم يك بعضهن كبيسا

(1) البرجيس: المشتري.

(2)

البجيس: المتدفق بغزارة.

(3)

ق والبغية: كلف.

(4)

السوس: الخليقة والسجية.

(5)

يعدي سوسا: يتجاوز السوس، منطقة تستر؛ وفي الأزهار: يعد سؤوساً أي ذا سياسة.

ص: 198

ولوالجواري الخنس انتسبت إلى

أقدام عزمك ما خنسن خنوسا (1)

قدت الصعاب فكل صعب سامح

لك بالقياد وكان قبل شموسا

تلقى الليوث ولقتام غمامة

قدح الصفيح وميضها المقبوسا

وكأنها تحت الدروع أراقم

ينظرن من خلل المغافر شوسا

ما لابن مامة في القديم وحاتم

ضرب الزمان بجودهم ناقوسا

من جاء منهم مثل جودك كلما

حسبوا المكارم كسوة أو كيسا

أنت الذي افتك السفين وأهله

إذ أوسعت سبل الخلاص طموسا

أنت الذي أمددت ثغر الله بالص

دمات تبلس كرة إبليسا

وأعنت أندلساً بكل سبيكة

موسومة لا تعرف التدليسا

وشحينة البر في سبل الرضى

والبر قارب قاعها القاموسا

إن لم تجر بها الخميس فطالما

جهزت فيها للنوال خميسا

وملأت أيديها وقد كادت على

حكم القضاء تشافه التفليسا

صدقت للآمال صنعة جابر

وكفيتها التشميع والتشميسا (2)

والحل والتقطير والتصعيد وال

تخمير والتصويل والتكليسا (3)

فسبكت من آمالها مالاً، ومن

أوراقها ورقاً، وكن طروسا

بهتوا فلما استخبروا لم ينكروا

وزناً ولا لوناً ولا ملموسا

وتدير من قبل السطور سبائكاً

منها ومن طبع الحروف فلوسا

ونحوت نحوالفضل تعضد منه بال

مسموع ما ألفيت منه مقيسا

وجبرت بعد الكسر قومك جاهداً

تغني العديم وتطلق المحبوسا

(1) هذا البيت والذي بعده سقطا من ق.

(2)

ذكر جابر بن حيان وأردف ذلك بذكر بعض المصطلحات الكيميائية؛ فالتشميع: تليين الشمع، والتشميس: تعريض المواد للمشي

(3)

الحل: التحليل الكيمائي؛ والتقطير والتصعيد متشابهان. والتصويل: جعل الرواسب طافية وهو تال للتكليس.

ص: 199

ونشرت راية عزهم من بعد ما

دال الزمان فسامها تنكيسا

أحكمت حيلة برئهم بلطافة

قد اعجزت في الطب جالينوسا

وفللت من حد الزمان وإنه

أوحى وأمضى من غرار الموسى

وشحذت حداً كان قبل مثلماً

ونعشت جداً كان قبل تعيسا

لم ترج إلا الله جل جلاله

في شدة تكفي وجرح يوسى

قدمت صبحاً فاستضأت بنوره

ووجدت عند الشدة التنفيسا

ما أنت إلا فالح متيقن

بالنجح تعمر ممرعاً ويبيسا

ومتاجر جعل الأريكة صهوة

عربية والمتكا القربوسا

ما إن تبايع أو تشاري واثقاً

بالربح إلا المالك القدوسا

والعزم يفترع النجوم بناؤه

مهما أقام على التقى تأسيسا

ومقام صبرك واتكالك مذكر

بحديثه الشبلي أو طاووسا

ومن ارتضاه الله وفق سعيه

فرأى العظيم من الحظوظ (1) خسيسا

ما ازددت بالتمحيص إلا جدة

ونضوت من خلع الزمان لبيسا

ولطالما طرق الخسوف أهلة

ولطالما اعترض الكسوف شموسا

ثم انجلت قسماتها عن مشرق

للسعد ليس بحاذر تتعيسا

خذها إليك على النوى سينية

ترضى الطباق وتشكر التجنيسا

إن طوولت (2) بالدر من حول الطلى

يوماً تشكت حظها الموكوسا

لولاك ما أصغت لخطبة خاطب

ولعنست في بيتها تعنيسا

قصدت سليمان الزمان وقاربت

في الخطو تحسب نفسها بلقيسا

لي فيك ود لم أكن من بعد ما

أعطيت صفقة عهده لأخيسا

كم لي بصحة عقده من شاهد

لا يحذر التجريح والتدليسا

(1) البغية: الأمور.

(2)

البغية: طوقت.

ص: 200

يقفوالشهادة باليمين، وإنه

لمؤمن من أن يعد فسيسا (1)

لا يستقر قرار أفكاري إلى

أن أستقر لدى علاك جليسا

وأرى تجاهك مستقيم السير لل

قصد الذي أعملته معكوسا

هي دين أيامي فإن سمحت به

لم يبق من شيء عليه يوسى

لا زال صنع الله مجنوناً إلى

مثواك يهدي البشر والتأنيسا

متتابعاً كتتابع الأيام لا

يذر التعاقب جمعة وخميسا

فلو أنصفتك إيالة الملك التي

رضت الزمان لها وكان شريسا

قرنت بذكرك والدعاء لك الذي

تختاره التسبيح والتقديسا

القلب أنت لها رئيس حياتها

لم تعتبر مهما صلحت رئيسا ثم قال الحافظ التنسي رحمه الله تعالى بعد سرد هذه القصيدة ما معناه: إن لسان الدين ابن الخطيب حذا في هذه القصيدة السينية حذوأبي تمام في قصيدته التي أولها (2) :

أفشيت ربعهم أراك دريسا

تقري ضيوفك لوعة ورسيسا واحتلس كثيراً نم ألفاظها ومعانيها؛ انتهى.

ووصل لسان الدين هذه القصيدة بنثر بديع نصه:

" هذه القصيدة - أبقى الله تعالى المثابة المولوية الموسوية ممتعة بالشمل المجموع، والثناء المسموع، والملك المنصور الجموع - نفثة من باح بسر هواه (3) ، ولبى دعوة الشوق بلبه وقد ظفر بمن يهدي خبر جواه، إلى محل هواه، ويختلس بعث تحيته، إلى مثير أريحيته، وهي بالنسبة إلى ما يعتقد

(1) الفسيس: الضعيف؛ وفي ق ص: قسيسا.

(2)

ديوانه 2: 262.

(3)

البغية: بسر حبه.

ص: 201

من ذلك الكمال، الشاذ عن الآمال، عنوان من كتاب، وذوارق من أوقار ذات أقتاب، وإلا فمن يقوم بحق المثابة لسانه، أويكافئ إحسانها إحسانه، أويستقل بوصفها يراعه، أوتنهض بأيسر وظيفتها ذراعه ولا مكابرة بعد الاعتراف، والبحر لا ينفد بالاغتراف، لا سيما وذاتكم اليوم، والله تعالى يبقيها، ومن المكاره يقيها، وفي معارج القرب من حضرة القدس يرقيها، ياقوتة اختارها واعتبرها، ثم ابتلاها بالتمحيص واختبرها، وسبيكة أخلصها مسجرها، فخلصها بتسجيره من الشوب، وأبرزها من لباب الذوب (1) ، وقصرت عن هذه الأثمان، وسر بصدق دعواه البهرمان (2)، ليفاضل بين الجهام والصيب و " ليميز الله الخبيث من الطيب " الأنفال:37 فأراكم أن لا جدوى للعديد ولا للعدة، وعرفكم بنفسه في حال الشدة، ثم فسح لكم بعد ذلك في المدة، لتعرفوه إذا دال الرخاء، وهبت بعد تلك الزعازع الريح الرخاء، وملأكم من التجارب، وأوردكم من ألطافه أعذب المشارب، ونقلكم بين إمرار الزمان وإحلائه، ولم يسلبكم إلا حقيراً عند أوليائه، وأعادكم المعاد المطهر، وألبسكم من أثواب اختصاصه المعلم المشهر، فأنتم اليوم بعين العناية، بالإفصاح والكتاية، قد وقف الدهر بين يديكم موقف الاعتراف بالجناية، فإن كان الملك اليوم علماً يدرس، وقوانين في قوة الحفظ تغرس، وبضاعة برصد التجارب تحرس، فأنتم مالك دار هجرته المحسوبة، وأصمعي شعوبه المنسوبة، إلى ما حزتم من أشتات الكمال، المربية على الآمال، فالبيت علوي المنتسب، والملك بين الموروث والمكتسب، والجود يعترف به الوجود، والدين يشهد به الركوع والسجود، والبأس تعرفه التهائم والنجود، والخلق يحسده الروض المجود، والشعر يغترف من عذب نمير، ويصدق ما قال: بدئ بأمير وختم بأمير، وإن مملوككم حوم

(1) ق: أخلصها وشحرها فخلصتها الشحيرة من الشوب وأبرزتها من الباب الذوب؛ وكذلك هي في أصول الأزهار؛ وفي البغية: خلصها وشجرها فخلصتها السحيرة من الشوب

الخ.

(2)

البغية: يصدق دعوته البرهان؛ والبهرمان: العصفر.

ص: 202

من بابكم على العذب البرود، فعاقه الدهر عن الورود، واستقبل أفقه ليحقق الرسد، ولكنه أخطأ القصد، ومن أخطأ الغرض أعاد، ورجا من الزمان الإسعاد، فربما خبئ نصيب، أوكان مع الخواطئ سهم مصيب (1) ، وكان يؤمل صحبة ركاب الحجاز، فانتقلت الحقيقة منه إلى المجاز، وقطعت القواطع التي لم ينلها الحساب، ومنعت الموانع التي خلص منها إلى الفتنة الانتساب، ومن طلب الأيام أن تجري على اقتراحه، وجب العمل على اطراحه، فإنما هي البحر الزاخر، الذي لا يدرك منه الآخر، والرياح متغايرة، والسفينة الحائرة، فتارة يتعذر من المرسى الصرف، وتارة تقطع المسافة البعيدة قبل أن يرتد الطرف، هذا إن سالمها عطبها، وأعفي من الوقود حطبها، ولقد علم الله جل جلاله أن لقاء ذلك المقام الكريم عند المملوك تمام المطلوب، ممن يجبر كسر القلوب، فإنه مما انعقد على كماله الإجماع، وصح في عوالي معاليه السماع، وارتفعت في وجود مثاله الأطماع، أخلاقاً هذبها الكرم الوضاح، وسجية كلف بها الكمال الفضاح، وحرصاً على الذكر الجميل وما يتنافس فيه إلا من سمت هممه، وكرمت ذممه، وألفت الخلد رممه، إذ الوجود سراب، وما فوق التراب تراب، ولا يبقى إلا عمل راق، أوذكر بالجميل يسطر في أوراق، حسبما قلت من قصيدة كتبتها على ظهر مكتوب موضوع أشار به من كانت له طاعة، فوفت بمقترحه استطاعة:

يمضي الزمان وكل فان ذاهب

إلا جميل الذكر فهو الباقي

لم يبق من إيوان كسرى بعد ذا

ك الحفل إلا الذكر في الأوراق

هل كان للسفاح والمنصور وال

مهدي من ذكر على الإطلاق

أو للرشيد وللأمين وصنوه

لولا شباة يراعة الوراق

رجع التراب إلى التراب بما اقتضت

في كل خلق حكمة الخلاق

(1) أصله من المثل " مع الخواطي سهم صائب ".

ص: 203

إلا الثناء الخالد العطر الشذا

يهدي حديث مكارم الاخلاق والرغبة من مقامكم الرفيع الجناب، أن يمكنها من حسن المناب، فتحظى بحلول ساحته، ثم بلثم راحته، ثم بالإصغاء، ولا مزيد للابتغاء، إلى أن ترتفع الوساطة وتغني عن التركيب البساطة، وينسى الأثر بالعين، ويحسن الدهر قضاء الدين، ونسأل الذي أغرى بها القريحة، ولم يجعل الباعث إلا المحبة الصريحة، أن يبقي تلك المثابة زيناً للزمان، وذخراً مكنوفاً باليمن والأمان، مظللاً برحمة الرحمن، بفضله وكرمه؛ انتهى.

13 -

ومما كتب به لسان الدين رحمه الله تعالى إلى الشيخ الرئيس الخطيب شيخه أبي عبد الله مرزوق رحمه الله تعالى حين كانت أزمة أمر المغرب بيده أيام السلطان أبي سالم ابن السلطان أبي الحسن المريني رحم الله تعالى الجميع، ما صورته:

سيدي بل ما لكي بل شافعي، ومنتشلي (1) من الهفوة ورافعي، وعاصمي عند تجويد حروف الصنائع ونافعي، الذي بجاهه أجزلت المنازل قراي، وفضلت أولاي والمنة لله تعالى أخراي، وأصبحت وقول الحسن (2) هجيراي:

علقت بحبل من حبال محمد

أمنت به من طارق الحدثان

تغطيت من دهري بظل جناحه

فعيني أرى دهري وليس يراني

فلو تسأل الأيام ما اسمي ما درت

وأين مكاني ما عرفن نكاني وصلت مكناسة حرسها الله تعالى حداني حدونداك، سحائب لولا الخصال المبرة قلت: يداك (3) ، وكان الوطن لاغتباطه بجواري، أوما رآه من انتياب زواري،

(1) ق: ومنشلي.

(2)

يعني أبا نواس، والأبيات في ديوانه:97.

(3)

ق: قبلت يداك؛ فاقتضى التصويب، والمبرة: الزائدة على خصال السحائب هنا.

ص: 204

أوغر إلى بهت يقطع الطريق، وأطلع يده على التفريق، وأشرق القوافل مع كثرة الماء بالريق، فلم يسع إلا المقام أياماً قعوداً في البر وقياماً، واختياراً لضروب الأنس واعتياماً، ورأيت بلدة معارفها أعلام، وهواؤها برد وسلام، ومحاسنها تعمل فيها ألسنة وأقلام، فحيا الله تعالى سيدي فلكم من فضل أفاد، وأنس أحياه وقد باد، وحفظ منه على الأيام الذخر والعتاد، كما ملكه زمام الكمال فاقتاد، وأنا أتطارح عليه في صلات تفقده، وموالاة يده، بأن يسهمني في فرض مخاطبته مهما خاطب معتبراً بهذه الجهات، ويصحبني من مناصحته بكؤوس مسرة يعمل فيها هاك وهات، فالعز بعزه معقود، والسعد بوجوده موجود، ومنهل السرور بسروره مورود، والله عز وجل يبقيه بقاء الدهر، ويجعل حبه وظيفة السر وحمده وظيفة الجهر ويحفظ على الأيام من زمنه زمن الزهر، ويصل لنا تحت إيالته العام بالعام والشهر بالشهر، آمين آمين انتهى.

14 -

ومما خاطب به لسان الدين رحمه الله تعالى صاحب الأشغال بالمغرب أبا عبد الله ابن أبي القاسم بن أبي مدين يهينه بتقلد النممصب من رسالة قوله:

تعود الأماني بعد انصراف

ويعتدل الشيء بعد انحراف

فإن كان دهرك يوماً جنى

فقد جاء ذا خجل واعتراف طلع البشير أبقاك الله تعالى بقبول الخلافة المرينية، والإمامة السنية، خصها الله تعالى ببلوغ الأمنية، على تلك الذات التي طابت أرومتها وزكت، وتأوهت العلياء لتذكر عهدها وبكت، وكاد السرور ينقطع لولا أنها تركت منك الوارث الذي تركت، فلولا العذر الذي تأكدت ضرورته، والمانع الذي ربما تقررت لديكم صورته، لكنت أول مشافه بالهناء، ومصارف لهذا الاعتناء، الوثيق البناء، بنقود الحمد لله والثناء، وهي طويلة.

15 -

ومما خاطب به رحمه الله تعالى قاضي الجماعة وقد نالته مشقة

ص: 205

جرها غلط الخدام السوء واشتراك الأسماء، أعتبه عندها السلطان وخلع عليه وأشاد بقدرة بما نصه:

تعرفت أمراً ساءني ثم سرني

وفي صحة الأيام لا بد من مرض

تعمدك المحبوب بالذات بعدما

جرى ضده، والله يكفيه بالعرض في مثلها سيدي يحمد الاختصار، وتقصر الأنصار، وتصرف (1) الأبصار، إذ لم يتعين ظالم، ولم يتبين يقظ ولا حالم، وإنما هي هدية أجر، وحقيقة وصل أعقبت مجاز هجر، وجرح جبار، وأمر ليس به اعتبار، ووقيعة لم يكن فيها إلا غبار، وعثرة القدم لا تنكر، والله سبحانه يحمد في كل حالة ويشكر، وإذا كان اعتقاد الخلافة لم يشبه شائب، وحسن الولاية لم يعبه عائب، والرعي دائب، والجاني تائب، فما هوإلا الدهر الحسود، لمن يسود، خمش بيد ثم سترها، ورمى عن قوس ما أصلحها - والحمد لله - ولا أوترها، إنما باء بشينه، وجنى من مزيد العناية محنة عينه، ولا اعتراض على قدر، أعقب بحظ معتذر، وورد نغص بكدر، ثم أنس بإكرام (2) صدر، وحسبنا أن نحمد الدفاع من الله تعالى والذب، ولا نقول مع الكظم إلا ما يرضي الرب، وإذا سابق أولياء سيدي في مضمار، وحماية ذمار، واستباق إلى بر وابتدار، بجهد اقتدار، فأنا ولا فخر متناول القصبة، وصاحب الدين من بين العصبة (3) ، لما بلوت من بر أوجبه الحسب، والفضل الموروث والمكتسب، ونصح وضح منه المذهب، وتنفيق راق منه الرداء المذهب، هذا مجمل وبيانه إلى وقت الحاجة مؤخر، ونبذة شره لتعجيلها يراع مسخر، والله سبحانه يعلم ما أنطوي عليه لسيدي من إيجاب الحق، والسير على أوضح الطرق، والسلام؛ انتهى.

(1) ق: وتطرف.

(2)

ق: بأكرم.

(3)

العصبة: الأقرباء من جهة الأب.

ص: 206

16 -

وقال رحمه الله تعالى: خاطبت بعض الفضلاء بقولي مما يظهر من الجملة غرضة:

تعرضت قرب الدار ممن احبه

فكنت أجد السير لولا ضروره

لأتلو من آي المحامد سورة

وأبصر من شخص المحاسن صوره كنت أبقاك الله تعالى لاغتباطي بولائك، وسروري بلقائك، أود أن أطوي إليك هذه المرحلة، وأجدد العهد بلقياك المؤملة، فمنع مانع، وما ندري في الآتي ما الله صانع، وعلى كل حال فشأني قد وضح منه سبيل مسلوك، وعلمه مالك ومملوك، واعتقادي أكثر مما تسعه العبارة، والألفاظ المستعارة، وموصلها ينوب عني في شكر تلك الذات المستكملة شروط الوزارة، المتصفة بالعفاف والطهارة، والسلام.

17 -

وقال سامحه اله تعالى يخاطب السلطان أبا عبد الله ابن نصر جبره اله تعالى عند وصول ولده من الأندلس:

الدهر فسحة من أن يرى

بالحزن والكمد المضاعف يقطع

وإذا قطعت زمانه في كربة

ضيعت في الأوهام ما لا يرجع

فاقنع بما أعطاك ربك واغتنم

منه السرور وخل ما لا ينفع مولاي الذي له المنن، والخلق الجميل والخلق الحسن، والمجد الذي وضح منه السنن، كتبه عبدك مهنئاً بنعم الله تعالى التي أفاضها عليك، وجلبها إليك، من اجتماع شملك، بنجلك، وقضاء دينك، من قرة عينك، إلى ما تقدم من إفلاتك، وسلامة ذاتك، وتمزق أعدائك، وانفرادك بأودائك، والزمن ساعة في القصر، لا بل كلمح البصر، وكأني بالبساط قد طوي، والتراب على الكل قد سوي، فلا تبقى غبطة ولا حسرة، ولا كربة ولا يسرة، وإذا نظرت

ص: 207

ما كنت فيه تجدك لا تنال منه إلا أكلة وفراشاً، وكناً ورياشاً، مع توقع الوقائع وارتقاب الفجائع، ودعاء المظلوم وصداع الجائع، فقد حصل ما كان عليه التعب، وأمن الرهب، ووضح الأجر المذهب، والقدرة باقية، والأدعية راقية (1) ، وما تدري ما تحكم به الأقدار، ويتمخض عنه الليل والنهار، وأنت اليوم على زمانك بالخيار، فإن اعتبرت الحال واجتنبت المحال، لم يخف عليك أنك اليوم خير منك أمس، من غير شك ولا لبس، وكان من أملي التوجه إلى رؤية ولدكم ولكن عارضتني موانع، ولا ندري في الآتي ما الله تعالى صانع، فاستنبت هذه في تقبيل قدمه، والهناء بمقدمه، والسلام.

18 -

وقال رحمه الله تعالى: قلت أخاطب محمد بن نوار، وقد أعرس ببنت مزوار الدار السلطانية، وهومعروف بالوسامة وحسن الصورة:

إن كنت في العرس ذا قصور

فلا حضور ولا دخاله (2)

ينوب نظمي مناب تيس

والنثر عن قفة النخالة هناكم الله سبحانه دعاء وخبراً، وألبسكم من السرور حبراً، وعوذكم بالخمس، حتى من عين الشمس، فعمري لقد حصلت النسبة، ورضيت هذه المعيشة الحسبة، ومن يكن المزوار ذواقه (3) ، كيف لا يشق البدر أطواقه، وينشر القبول عليه رواقه، وأنتم أيضاً بركان جمال، وبقية رأس مال، ويمين في الانطباع وشمال، بمنزلكم اليوم بدر وهلال، ولعقد التوفيق بفضل الله تعالى استقلال، فأنا أهنيكم بتسني أمانيكم، والسلام.

19 -

وقال رحمه اله تعالى مخاطباً عميد مراكش المتميز بالرأي والسياسة

(1) كذا في ق، ولعلها أن نقرأ " واقية ".

(2)

الدخالة: الهدية.

(3)

لست مظمئناً إلى أن اللفظة صحيحة.

ص: 208

والهمة وإفاضة العدل وكف اليد والتجافي عن مال الجباية عامر بن محمد بن علي الهنتاني (1) :

تقول لي الأظعان والشوق في الحشا

له الحكم يمضي بين ناه وآمر

إذا جبل التوحيد أصبحت فارعاً

فخيم قرار العين في دار عامر

وزر تربة المعلوم إن مزارها

هو الحج يفضي نحوه كل ضامر

ستلقى بمثوى عامر بن محمد

ثغور الأماني من ثنايا البشائر

ولله ما تبلوه من سعد وجهه

ولله ما تلقاه من يمن طائر

وتستعمل الأمثال في الدهر منكما

بخير مزور أو بأغبط زائر لم يكن همي أبقاك الله تعالى مع فراغ البال، وإسعاف الآمال، ومساعدة الأيام واليال، إذ الشمل جميع، والزمان كله ربيع، والدهر مطيع سميع، إلا زيارتك في جبلك الذي يعصم من الطوفان، ويواصل أمنه بين النوم والأجفان، وأن أرى الأفق الذي طلعت منه الهداية، وكانت إليه العودة ومنه البداية، فلما حم الواقع، وعجز عن خرق الدولة الأندلسية الراقع، وأصبحت ديار الأندلس وهي البلاقع، وحسنت من استدعائك إياي المواقع، وقوي العزم وإن لم يكن ضعيفاً، وعرضت على نفسي السفر بسببك فألفيته خفيفاً، والتمست الإذن حتى لا نرى في قبلة السداد تحريفاً، واستقبلتك بصدر مشروح، وزند للعزم مقدوح، والله سبحانه يحقق السول، ويسهل بمثوى الأماثل المثول، ويهيئ من قبل هنتاتة القبول، بفضله.

20 -

وللسان الدين ابن الخطيب مقامة عظيمة بديعة وصف بها الأندلس

(1) كان أبو ثابت عامر بن محمد الهنتاني كبير جبل درن والبلاد المراكشية، وقد وفد على أبي زيان ابن أبي عبد الرحمن فأكرمه سنة 763، فلما عاد غلى بلده كان كأنه حاكم مستقل فيها، وكان ذلك فاتحة انتفاضات كثيرة إلى أن هلك عامر على يد السلطان عبد العزيز، كما يذكره المقري في ما يلي (ص: 219) وهذه القصيدة والرسالة في الاستقصا 4: 17 ومشاهدات لسان الدين: 120.

ص: 209

والعدوة، وأتى فيها من دلائل براعته بالعجب العجاب، وقد تركتها مع كتبي بالمغرب، ولم يحضرني منها الآن إلا قوله في وصف مدينة سبتة ما صورته:

" قلت: فمدينة سبتة، قال (1) : عروس المجلى، وثنية الصباح الأجلى، تبرجت تبرج العقلية، ونظرت وجهها من البحر في المرآة الصقيلة، واختص ميزان حسناتها بالأعمال الثقيلة، وإذا قامت بيض أسوارها، وكان جبل بنيونش (2) شمامة أزهارها، والمنارة مناة أنوارها (3) ، كيف لا ترغب النفوس في جوارها، وتهيم (4) الخواطر بين أنجادها وأغوارها إلى المينا الفلكية، والمراقي (5) الفلكية، والركية الزكية، غير المنزورة ولا البكية، ذات الوقود الجزل، المعد للأزل، والقصور المقصورة على الجد والهزل، والوجوه الزهر السحن، المضنون بها عن المحن، دار الناشبة، والحامية المضرمة للحرب المناشبة، والأسطول المرهوب، المحذور الألهوب، والسلاح المكتوب المحسوب، والأثر المعروف المنسوب، كرسي الأمراء والأشراف، والوسيطة، لخامس أقاليم (6) البسيطة، فلا حظ لها في الانحراف، بصرة علوم اللسان، وصنعاء الحلل الحسان، وثمرة امتثال قوله تعالى " إن الله يأمر بالعدل والإحسان " النحل:90 الأمينة على الاختزان، القويمة المكيال والميزان، محشر أنواع الحيتان، ومحط قوافل العصير والحرير والكتان، وكفاها السكنى ببنيونش في فصول الأزمان، ووجود المساكن النبيهة بأرخص الأثمان، والمدفن المرحوم، غير المزحوم، وخزانة كتب العلوم، والآثار المنبئة عن أصالة الحلوم، إلا أنها فاغرة أفواه الجنوب، لغيث المصبوب (7) ، عرضة للرياح ذات

(1) انظر هذا النص في مشاهدات لسان الدين: 101.

(2)

بنيونش (Baliunech) : قرية إلى الغرب من سبتة.

(3)

المشاهدات: شوارها.

(4)

المشاهدات: وتخيم.

(5)

المشاهدات: والمراسي.

(6)

ق: الأقاليم.

(7)

ق: المصوب.

ص: 210

الهبوب، عديمة الحرث فقيرة من الحبوب، ثغر تنبوفيه المضاجع بالجنوب، وناهيك بحسنة تعد من الذنوب، فأحوال أهلها رقيقة، وتلكفهم ظاهر مهما ظهرت وليمة أوعقيقة، واقتصادهم لا تلتبس منه طريقة، وأنساب نفقاتهم في تقدير الأرزاق عريقة، فهم يمصون البلالة مص المحاجم، ويجعلون الخبز في الوائم بعدد الجماجم، وفتنتهم ببلدهم فتنة الواجم بالبشير الهاجم، وراعي الجديب بالمطر الساجم، فلا يفضون على مدينتهم مدينة، الشك عندي في مكة والمدينة " انتهى.

وقد سلك في هذه المقامة وصف بلدان المغرب بالسجع والتفقيه، ووفاها من المدح وضده اكمل توفية، وعكس هذه الطريقة في نفاضة الجراب فوصف فيها الأماكن بكلام مرسل جزلغير مسجع، مع كونه أقطع من السيف إذا بان عنه القراب.

21 -

فمن ذلك قوله حين أجرى ذكر مدينة مكناسة الزيتون: وأطلت مدينة مكناسة في مظهر النجد، رافلة في حلل الدوح، مبتسمة عن شنب المياه العذبة، سافرة عن اجمل المراد، قد احكم وضعها الذي أخرج المرعى، قيد النص وفذلكة الحسن، فنزلها بها منزلاً لا تستطيع العين أن تخلفه حسناً ووضعاً من بلد دارت به المداشر (1) المغلة، والتفت بسوره الزياتين المفيدة، وراق بخارجه للسلطان المستخلص الذي يسموإليه الطرف، ورحب ساحة والتفاف شجرة ونباهة بنية وإشراف ربوة، ومثلت بإزائها الزاوية القدمى المعدة للوارد (2) ، ذات البركة النامية، والمئذنة السامية، والمرافق المتيسرة، يصاقبها الخان البديع المنصب الحصين الغلق الخاص بالسابلة والجوابة في الألرض يبتغون من فضل الله

(1) المداشر: القرى أو المزارع.

(2)

ف: للوارد.

ص: 211

تعالى، تقابلها غرباً الزاوية الحديثة المربية برونق الشبيبة ومزية الجدة والانفساح وتفنن الاحتفال، إلى أن قال: وبداخلها مدارس ثلاث لبث العم، كلفت بها الملوك الجلة الهمم، وأخذها التنجيد، فجاءت فائقة الحسن، ماشئت من أبواب نحاسية، وبرك فياضة تقذف فيها صافي الماء أعناق أسدية، وفيها جزائن الكتب والجراية الدارة على العلماء والمتعلمين، وتفضل هذه المدينة كثيراً من لداتها بصحة الهواء وتبحر أصناف الفواكه وتعمير الخزائن ومداومة البر لجوار ترابها سليماً من الفساد معافىً من العفن، إذ تقام ساحات منازلها غالباً على أطباق الآلاف من الأقوات تتناقلها المواريث ويصحبها التعمير وتتجافى عنها الأرض، ومحاسن هذه البلدة المباركة جمة، قال ابن عبون من أهلها ولله دره:

إن تفتخر فاس بما في طيها

وبأنها في زيها حسناء

يكفيك من مكناسة أرجاؤها

والأطيبان: هواؤها والماء ويسامتها شرقاً جبل زرهون، المنبجس العيون، الظاهر البركة، المتزاحم العمران، الكثير الزياتين والأشجار، قد جلله سكراً ورزقاً حسناً، فهوعنصر الخير، ومادة المجبى، وفي المدينة دور نبيهة، وبنى أصيلة، والله سبحانه ول من اشتملت عليه بقدرته، وفيها أقول:

بالحسن من مكناسة الزيتون

قد صح عذر الناظر المفتون

فضل الهواء وصحة الماء الذي

يجري بها وسلامة المخزون

سحت عليها كل عين ثرة

للمزن هامية الغمام هتون

فاحمر خد الورد بين أباطح

وافتر ثغر الزهر بين غصون

ولقد كفاها شاهداً مهما ادعت

قصب السباق القرب من زرهون

جبل تضاحكت البروق بجوه

فبكت عذاب عيونه بعيون

ص: 212

وكأنما هو بربري فاقد (1)

في لوحه والتين والزيتون

حييت من بلد خصيب أرضه

مثوى أمان أو مناخ أمون

وضفت عليك من الإله عناية

تكسوك ثوبي أمنة وسكون 22 - وقد وصفها في مقامة البلدان على منوال السجع فقال: مكناسة مدينة أصيلة، وشعب للمحاسن وفصيلة، فضلها الله تعالى ورعاها، وأخرج منها ماءها ومرعاها، فجانبها مريع، وخيرها سريع، ووضعها له في فقه الفضائل تفريع، اعتدل فيها الزمان، وانسدل الأمان، وفاقت الفواكه فواكهها ولا سيما الرمان، وحفظ أقواتها الاختزان، ولطفت فيها الأواني والكيزان، ودنا من الحضرة جوارها، فكثر قادها من الوزراء وزوارها، وبها المدارس والفقهاء، ولقصبتها الأبهة والمقاصير والأبهاء.

[تعليق للمقري]

ويعني بالحضرة مدينة فاس المحروسة لأنها إذ ذاك كرسي الخلافة، ومكناسة مقر الوزارة، وأهل المغرب يعبرون عن المدينة التي فيها كرسي الخلافة بالحضرة.

قلت: دخلت مكناسة هذه مراراً عديدة، وقد أبلى الدهر محاسنها التي كانت في زمان لسان الدين (2) ابن الخطيب جديدة، واستولى عليها الخراب، وتكدر منها بالفتن الشراب، وعاث في ظاهرها الأعراب، وفي باطنها سماسرة الفتنة العائقة عن كثر من الآراب، حتى صار أهلها حزبين، لبس كثير من أهلها ثياب البعد عنهاوالبين، والله تعالى يجبر حالها، ويعقب بالخصب إمحالها، ويرحم الله تعالى ابن جابر إذ قال:

لا تنكرن الحسن من مكناسة

فالحسن لم يبرح بها معروفا

ولئن محت أيدي الزمان رسومها

فلربما أبقت هناك حروفا

(1) كذا في ق، ولعلها " ناقد ".

(2)

انظر مشاهدات لسان الدين: 109.

ص: 213

على أن ضواحيها كانت في زمان لسان الدين مأوى للمحاربين واللصوص، ومثوى للأعراب الذين أعضل داؤهم بأقطار المغرب على العموم والخصوص، ولذلك يقول لسان الدين رحمه الله تعالى:

مكناسة حشرت بها زمر العدا

فمدى بريد فيه ألف مريد

من واصل للجوع لا لرياضة

أو لابس للصوف غير مريد

فإذا سلكت طريقها متصوفاً

فانو السلوك بها على التجريد وما أشار إليه رحمه الله تعالى فيما سبق من ذكر الزاوية القدمى والجديدة أشار به إلى زاويتين بناهما السلطان أبوالحسن المريني الكثير الآثار بالمغرب الأقصى والأوسط والأندلس، وكان بنى الزاوية القدمى في زمان أبيه السلطان أبي سعيد والجديدة حين تولى الخلافة، وله في هذه المدينة غير الزاويتين المذكورتين عدة آثار كثيرة جميلة من القناطر والسقايات وغيرها، ومن اجل مآثره بها المدرسة الجديدة، وكان قدم للنظر على بنائها قاضيه على المدينة المذكورة، ولما أخبر السلطان بتمام بنائها جاء إليها من فاس ليراها، فقعد على كرسي من كراسي الوضوء حول صهريجها، وجيء بالرسوم المتضمنة للتنفيذات الازمة فيها، فغرقها في الصهريج قبل أن يطالع ما فيها، وأنشد:

لا بأس بالغالي إذا قيل حسن

ليس لما قرت به العين ثمن وهذا السلطان أبوالحسن اشهر ملوك بني مرين، وأبعدهم صيتاً، وكان قد ملك رحمه الله تعالى المغرب بأسره وبعض الأندلس، وامتد ملكه إلى طرابلس الغرب، ثم حصلت له الهزيمة الشنعاء قرب القيروان حين قاتل أعراب إفريقية، فغدره بنوعبد الواد الذين أخذ من يدهم ملك تلمسان، وانتهزوا الفرصة فيه، وهربوا إلى الأعراب عند المصافة، فاختل مصافه، وهزم أقبح هزيمة، ورجع إلى تونس مغلوباً، وركب البحر في أساطيله، وكانت نحوالستمائة من السفن، فقضى الله تعالى أ، غرقت جميعاً، ونجا على لوح، وهلك من كان معه من أعلام المغرب

ص: 214

وهم نحو أربعمائة عالم (1) ، منهم السطي شارح الحوفي، وابن الصباغ الذي أملى في مجلس درسه بمكناسة على حديث " يا أبا عمير ما فعل النغير (2) " أربعمائة فائدة.

قال الأستاذ أبوعبد الله ابن غازي رحمه الله تعالى: حدثني بعض أعيان الأصحاب أنه بلغه أن الفقيه ابن الصباغ المذكور سمع بمنصورة تلمسان المحروسة ينشد كالمعاتب لنفسه (3) :

يا قلب كيف وقعت في أشراكهم

ولقد عهدتك تحذر الأشراكا

أرضىً بذل في هوى وصبابة

هذا لعمر الله قد (4) أشقاكا ومات رحمه الله تعالى غريقاً في أسطول السلطان أبي الحسن المريني على ساحل تدلس (5) هو والفقيه السطي والأستاذ الزواوي وغير واحد في نكبة السلطان أبي الحسن المعروفة.

ومن نظم ابن الصباغ المذكور في العلاقات المعتبرة في المجاز وفي المرجحات له قوله رحمه الله تعالى:

يا سائلاً حصر العلاقات التي

وضع المجاز بها يسوغ ويجمل

خذها مرتبة وكل مقابل

حكم المقابل فيه حقاً يحمل

عن ذكر ملزوم يعوض لازم

وكذا بعلته بعاض معلل

وعن المعمم يستعاض مخصص

وكذاك عن جزء ينوب المكمل

وعن المحل ينوب ما قد حله

والحذف للتخفيف مما يسهل

وعن المضاف إليه ناب مضافه

والضد عن أضداده مستعمل

(1) عرف ابن خلدون في كتاب التعريف ببعض من كان في صحبة أبي الحسن من العلماء، وانظر كلامه عن ابن الصباغ ص:45.

(2)

النغير: تصغير نغر وهو طائر صغير أحمر المنقار.

(3)

ورد البيتان دون نسبة في مشارق أنوار القلوب: 60.

(4)

مشارق: أبداً تعالى الله ما.

(5)

تدلس: مدسنة على ساحل الجزائر.

ص: 215

والشبه في صفة تبين وصورة

ومن المقيد مطلق قد يبدل

والشيء يسمى باسم ما قد كانه

وكذاك يسمى بالبديل المبدل

وضع المجاور في مكانة جاره

وبهذه حكم التعاكس يكمل

واجعل مكان آلته وجيء

بمنكر قصد العموم فيحصل

ومعرف عن مطلق وبه انتهت

ولجلها حكم التداخل يشمل

وبكثرة وبلاغة ولزومه

لحقيقة رجحانه يتحصل انتهى كلام شيخ شيوخ شيوخنا الإمام أبي عبد اله محمد بن غازي رحمه الله تعالى.

وقد حكى ابن غازي المذكور عن شيخه القوري عن شيخه ابن جابر أن ابن الصباغ المذكور اعترض على القاضي ابن عبد السلام التونسي، قال: لما لقي ابن الصباغ بتونس اعترض عليه ابن الصباغ أربع عشرة مسألة لم ينفصل عن واحدة منا، بل اقر بالخطإ فيها، إذ ليس ينبغي اتصاف بالكمال، إلا لربي الكبير المتعال؛ انتهى.

وذكر الشيخ أبوعبد الله الأبي رحمه الله تعالى في شرح مسلم عند تكلمه على أحاديث العين ما معناه أن رجلاً كان بتلك الديار معروفاً بإصابة العين، فسأل منه بعض الموتورين للسلطان أبي الحسن أن يصيب أساطيله بالعين، وكانت كثيرة نحوالستمائة، فنظر إليها الرجل العائن، فكان غرقها بقدرة الله الذي يفعل ما يشاء، ونجا السلطان برأسه، وجرت عليه محن، واستولى ولده السلطان أبوعنان فارس على ملكه، وكان خلفه بتلمسان، ولم يزل في اضطراب حتى ذهب إلى سجلماسة، ومنها خلص إلى جبل هنتاتة قرب مراكش، فذهب إلى حربه ابنه السلطان أبوعنان فارس بجيوشه، وأناخ على الجبل بكلكله، ولم تحفز أهل هنتاتة جواره لديهم، ولا كبيراهم عامر بن محمد وأخوه، وصبروا على الحصار وخراب الديار، وحرق الأماكن، حتى مات هناك رحمه الله تعالى ونقل بعد إلى شالة سلا مدفن أسلافه، ومن أراد الوقوف على أخباره فعليه بكتاب الخطيب

ص: 216

ابن مرزوق الذي ألفه فيه وسماه المسند الصحيح الحسن من أحاديث السلطان أبي الحسن ".

ولما ذهب لسان الدين ابن الخطيب إلى عامر بن محمد بجبله المشهور زار محل وفاة السلطان المذكور، وقد ألم بذكر ذلك في نفاضة الجراب، إذ قال: وشاهدت بجبل هنتاتة محل وفاة السلطان المقدس أمير المسلمين أبي الحسن رحمه الله تعالى، حيث أصابه طارق الأجل، الذي فصل الخطة، وأصمت الدعوة، ورفع المنازعة، وعاينته مرفعاً عن الابتذال بالسكنى مفترشاً بالحصباء، مقصوداً بالابتهال والدعاء، فلم أبرح يوم زيارة محل وفاته أن قلت (1) :

يا حسنها من أربع وديار

أضحت لباغي الأمن دار قرار

وجبال عز لا تذل أنوفها

إلا لعز الواحد القهار

ومقر توحيد وأس خلافة

آثارها تنبي عن الأخبار

ما كنت أحسب أن أنهار الندى

تجري بها في جملة الأنهار

ما كنت أحسب أن أنوار الحجى

تلتاح في قنن وفي أحجار

محت جوانبها البرود، وإن تكن

شبت بها الأعداء جذوة نار

هدت بناها في سبيل وفائها

فكأنها صرعى بغير عقار

لما توعدها على المجد العدا

رضيت بعيث النار لا بالعار

عمرت بجلة عامر واعزها

عبد العزيز بمرهف بتار

فرسا رهان أحرزا قصب الندى

والبأس في طلق وفي مضمار

ورثا عن الندب الكبير أبيهما

محض الوفاء ورفعة المقدار

وكذا الفروع تطول وهي شبيهة

بالأصل في ورق وفي أثمار

أزرت وجوه الصيد من هنتاتة

في جوها بمطالع الأقمار

لله أي قبيلة تركت لها ال

نظراء دعوى الفخر يوم فخار

(1) القصيدة في المشاهدات: 128 وأزهار الرياض 1: 294.

ص: 217

نصرت أمير المسلمين وملكه

قد أسلمته عزائم الأنصار

وارت (1) علياً عندما ذهب الردى

والروع بالأسماع والأبصار

وتخاذل الجيش اللهام واصبح ال

أبطال بين تقاعد وفرار

كفرت صنائعه فيمم دارها

مستظهراً منها بعز جوار

وأقام بين ظهورها لا يتقي

وقع الردى وقد ارتمى بشرار

فكأنها الأنصار لما أنست (2)

فيما تقدم غربة المختار

أما غدا لحظاً وهم أجفانه

نابت شفارهم عن الأشفار

حتى دعاه الله بين بيوتهم

فأجاب ممتثلاً لأمر الباري

لو كان يمنع من قضاء الله ما

خلصت إليه نوافذ الأقدار

قد كان يأمل أن يكافئ بعض ما

أولوه لولا قاطع الأعمار

ما كان يقنعه لوامتد المدى

إلا القيام بحقها من دار

فيعيد ذاك الماء ذائب فضة

ويعيد ذاك الترب ذوب نضار

حتى تفوز على النوى أوطانها

من ملكه بجلائل الأوطار

حتى يلوح على وجوه وجوههم

أثر العناية (3) ساطع الأنوار

ويسوغ الأمل القصي كرامها

من غير ما ثنيا ولا استعصار

ما كان يرضى الشمس أو بدر الدجى

عن درهم فيهم ولا دينار

أو أن يتوج أو يقلد هامها

ونحورها بأهلة ودراري

حق على المولى ابنه إيثار ما

بذلوه من نصر ومن إيثار

فلمثلها ذخر الجزاء، ومصله

من لا يضيع صنائع الأحرار

وهو الذي يقضي الديون ويره

يرضيه في علن وفي إسرار

حتى تحج محلة رفعوا بها

علم الوفاء لأعين النظار

(1) المشاهدات: آوت؛ ق: وأوت

بعدما.

(2)

ق: أن سبت.

(3)

المشاهدات: الرعاية.

ص: 218