الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعلاهم، وأوصافهم وحلاهم، وينوجهور وحومهم، وبنوباديس وعزمهم، وأين معتضد بني عباد، ومعتمدهم الذي سنا كرمه للمعتفين باد، وبنوذي النون ومزيتهم، وبنوصمادح ومريتهم، وبنوالأفطس وبنوهود، وما كان لهم من المكارم في الحفل المشهود، وأين لمتونه، وصبرهم الذي ركبوا متونه، أم أين الموحدون وناصرهم ومنصورهم، ومصانعهم وقصورهم، أم أين بنوالأحمر وغرناطتهم، وإوالتهم عن حوزة الدين أدناس المعتدين وإماطتهم، وجعلهم الأمور لمثل ابن الحكيم ولسان الدين وإناطتهم، أم أين بنومرين وفارسهم، ومغانيهم ومدارسهم، وأين بنوزيان ومنازلهم الشاهقة، وأشجار عزهم الباسقة، وأين الحفصيون، ومستنصرهم الذي قضى للمعالي الديون، وأبوفارس، الذي شنفت بأخباره آذان الطروس والفهارس طحنت والله تعالى الجميع رحى المنون، وتأيمت الأزواج ويتم البنون، وطالت الأيام والسنون، وبقيت القصور العالية خالية، والرسوم المتكاثرة دائرة، والسلوك المنظومة متناثرة، وعن قريب يقف الكل بين يدي رب الأرباب، في يوم تذهل فيه الألباب، وتنقطع إلا من رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسباب، ويقتص لمظلوم من الظالم، وتنبهم للنجاة الطرق والمعالم، وتبلى السرائر لدى من هوبها عالم، " يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً، وما عملت من سوء تود لوأن بينها وبينه أمداً بعيداً " آل عمران:30 يوم يحكم الله تعالى في الخلق، بالحق، حسبما سبق في علمه إذا جعلهم قريباً وبعيداً، وشقياً وسعيداً، اللهم اجعلنا في ذلك اليوم الصعب ممن فاز بالنجاة، وحاز شفاعة نبيك ومصطفاك ذي الحرمة والجاه، صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم؛ انتهى.
رجع لنثر لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى:
88 -
ومن كلام لسان الدين رحمه الله تعالى ما خاطب به سلطان المغرب
أبا زيان لما تم له الأمر، وهومشتمل على نظم ونثر، ونصه:
يا ابن الخلائف يا سميّ محمد
…
يا من علاه ليس يحصر حاصر
أبشر فأنت مجدد الملك الذي
…
لولاك أصبح وهو رسم دائر
من ذا يعاند منك وارثه الذي
…
بسعوده فلك المشيئة دائر
ألقت إليك يد الخلافة أمرها
…
إذ كنت أنت لها الولي الناصر
هذا وبينك لصريخ وبينها
…
حرب مضرسة وبحر زاخر
من كان هذا الصنع أول أمره
…
حسنت له العقبى وعز الآخر
مولاي عندي في علاك محبة
…
والله يعلم ما تكن ضمائر
قلبي يحدثني بأنك جابر
…
كسري، وحظي منك حظ وافر
بثرى جدودك قد حططت مثلما
…
يلقي لملكك سيف أمرك عامر
فهو الولي لدى الذي اقتحم الردى
…
وقضى العزيمة وهوسيف باتر
وولي جدك في الشدائد عندما
…
خذلت علاه قبائل وعشائر
فاستهد منه النصح واعلم أنه
…
في كل معضلة طبيب ماهر
إن كنت قد عجلت بعض مدائحي
…
فهي الرياض، وللرياض بواكر مولانا، وعمدة ديننا ودنيانا، الذي سخر الله تعالى البر والبحر يأمره، وحكم فوق السموات السبع بعز نصره، وأغنى سعده عن سل السلاح وشهره، وفتق عن الصنع الجميل كمامة تسليمه وصبره، وقيض له في علم غيبه وزيراً مذخوراً لشد أزره، وقود الملك إليه على حال حصره، الخليفة الإمام، الذي استبشر به الإسلام، وخففت بعزه الأعلام، ولاح بدر محياه فاقتض الظلام، المقتدي بالنبي الكريم سميه في المراشد التي تألق منها الصبح، والمقاصد التي لازمها النجح، والتمحيص الذي نبع منه المنح، حتى
في الهجرة التي جاءه بعدها الفتح، أبوزيان ابن مولانا السلطان ولي العهد ترشيحاً ومآلاً، ومؤمل الإسلام تقلداً لمذهب الصريح وانتحالاً، وأمير المسلمين لوأوسعه القدر إمهالاً، ووسطى عقد البنين خلائق متعددة وخلالاً، المتحف بالشهادة ولما يعرف بدره هلالاً، المعوض بما عند الله تعالى سعادة ألبسته سربالاً، وأبلغته نم رضوان الله تعالى آمالاً، أبي عبد الرحمن ابن مولانا أمير المسلمين عظيم الخلفاء، وعنصر الصبر والوفاء، وستر الله تعالى المسدول على الضعفاء، والمجاهد في سبيل الله تعالى بنفسه وماله، المنيف على مراكز النجوم يهممه وآماله، المقدس أبي الحسن ابن موالينا الخلفاء الطاهرين والأئمة المرضيين، من قبيل بني مرين، وصفوة اله تعالى في هذا المغرب الأقصى نم أوليائه المؤمنين، وزينة الدنيا وعمدة الدين، هنأه الله تعالى ما أورثه من سرير الملك الأصيل، وخوله من سعادة الدنيا والدين على الإجمال والتفصيل، وتوجه من تاج العزة القعساء عند اشتباه السبيل، وعوضه من قبيل الملائكة عند تشتت القبيل، وجعل قدمه الراسخة، وآياته الناسخة، وربوته السامية الباذخة، وغرة نصره الشادخة (1) ، وأوزعه شكر آلائه، في الخلاص من ملكة أعدائه، وخطر البحر وعدوان مائه، وغول السفر، وارتكاب الغرر، وثبات أقدام أوليائه الذين ما بدلوا تبديلاً، ولا ارتضوا لقبلة طاعته بعد أن ولوا وجوههم شطرها تحويلاً، بل صبروا صبراً جميلاً، وباعوا نفوسهم تتميماً لعقدة إيمانهم وتكميلاً.
يسلم على مقامكم الذي وسم السعد مشرق جبينه، وذخرت قبل الطاعة ليمينه، وأقسم الدهر بمظاهرة أمره السيعد قبر - والشكر لله تعالى - في يمينه، عبدكم الذي اعتلق منكم بالوسيلة الكبرى، وقر بملككم عيناً وشرح صدراً، وبذل الجهد وإن قل قدرة وقدراً، والتمس لكم الدعاء علناً وسراً، ابن الخطيب الذي حط رحل اقتصاده بتراب الملوك الكرام جدودكم، محاريب
(1) شدخت الغرة: سالت فملأت الوجه دون أن تصل العينين.
بركم وأسباب وجودكم، وآبائكم الذين في مظاهرتهم ورعيهم يظهر للناس نخايل هداكم وتدر سحائب جودكم، ملتحفاً منذ سنتين بأصونة قبورهم وثيابها، مستظلاً بأفنيتها المعظمة وقبابها، ممرغاً خذه بترابها، مواصلاً الصراخ با لمرين ويا ليعقوب متطارحاً على أبوابها، فلم يتح الله تعالى له نعرة ترعى الضيف وتحمي الدخيل، أوحمية تدفع الضيم وتشفي الغليل، إلا على يدكم يا أيها الكريم ابن الكريم ابن الكريم، وبطل الميدان في موقف الهول العظيم، المذخور لنصر المظلوم وإنصاف الغريم، وإجالة أقلام الفتح بفتح الأقاليم.
كتبه مهنئاً بما سنى الله تعالى لملككم من الصنع الذي خرق حجاب العادة، وأرى إعجاز السعادة، معجلاً ذلك بين يدي المبادرة إلى لثم بساطكم الذي شرف وجوهها بلثمه الوجوه، وتخشاه الاملاك الجبابرة وترجوه، وأداء الواجب من القيام بمنظوم ثنائه في الحفل المشهود، وإبلاغ لسان الحمد وسع المجهود، وإلقاء ما عند العبد من خلوص وجنوح، وحب واضح أي وضوح، فولي دعوتكم الشيخ أبوثابت أعزه الله تعالى يقرره، ويبين مجمله ويفسره، والعبد واثق بفضل الله تعالى على يديكم، وملتمس النصر لديكم، وقاطع أن طلبته بكم تتسنى، وأنكم سبب عاقبته الحسنى، ما بالظهور على الوطن الذي تجرأ به المنقلب (1) على ملككم، ومد اليد إلى نثر سلككم، ونقص إرثكم المسلم المحرر، وزلزل وطنكم المؤسس على الطاعة المقرر، وأضرم النار في بسائطكم وجبالكم، وأطلق يد الفتنة على بيوت أموالكم متكثراً عليكم بالقلة، متعززاً بالذلة، جانياً على داركم بما لا تبيحه الملة، أوبالشفاعة الجازمة إن لم يتأذن الله تعالى في الانتصاف، والله يجعل الظهور بكم من الأوصاف، ويعينكم على جبر الكسير، وتيسير الأمر العسير، ويهنيكم منيحة الملك الكبير، ويبقي كلمته في عقبكم بعد تملؤ التعمير، والسلام.
(1) ق: المتغلب.
89 -
وله رحمه الله تعالى في مخاطبة السلطان أبي زيان المذكور: المولى الذي طوق المنن، وأحيا السنن، وانبت الله تعالى حبه في القلوب النبات الحسن، ناظم كلمة الدين بعد انتشارها، ومقيل عثارها، والأخذ بثارها، والمخلد لآثارها، السلطان أبوزيان
…
إلخ - أبقاكم الله تعالى عالي القدم، منصور العلم، ظاهراً على الأمم، مقصود الحمى كالركن الملتزم، عبد مقامكم الذي آويتموه غريباً، وانستموه دركاً وتثريباً، ولا عدم حظوة ووشفقة ونعمة وتقريباً، ابن الخطيب عن ثناء يعطر الآفاق، ويرقم الأوراق، ويخلق الجيوب والأطواق، وحب بهر نوراً وراق، وجاس اشتهاره الشام والعراق، ويطالع العبد محل مولاه الذي خلف ببابه قلبه وولده، وصبره وجلده، وصير وطنه داره الحقيقية وبلده، أنه لما قدم على محل أخيه، المعتد بما أودع الله تعالى من الخلال الشريفة فيه، مولاي ابن مولاي أبي عبد الله - كفل الله تعالى جميل رعيه وكرم عهده، وحكم بإعلاء جده ومضاء حده - رعى الوسيلة، وصدق المخيلة، وجلا عند اجتلاء مخاطبتكم أسارير الفضيلة، فلم يدع حقاً إلا صرفه، ولا نكرة إلا عرفه، ولا نعمة إلا سكبها، ولا مزية إلا أوجبها، ولا رتبة إلا أعلاها، ولا نعمة إلا أولاها، وما ذاك يا مولاي وإن تعددت الرسائل والأذمة، وادكرت القرب بعد أمة، إلا بوصاتكم التي لا تهمل، وحرمتكم التي لا تجهل، وعطف مقامكم الذي اشتهر، واعتنائكم بعبدكم الذي راق وبهر، فالعبد الرفيع المقدار، والأمل في مقامكم غير منقطع السبب، والأهل والولد تحت كنف مقامكم الأصيل الحسب، حتى يمن الله تعالى بحج بيته وزيارة رسوله على يديكم، ويكون قضاء هذا الوطر منسوباً إليكم، وبعد هذا يستقر القرار، حيث يختار من يخلق ما يشاء ويختار، بحول الله تعالى.
والعبد يذكر مولاه بما بشره بين يدي وداعه، وبمرأى وزيره السعيد واستماعه، من انجلاء الحركة عن عزه وظهوره، ونجاح أحواله واستقامة أموره، ويهنيه بصدق الوعد، وأمطار الرعد، وظهور السعد، وهي وسيلة إذا عدت الوسائل، وروعيت الذمم الجلائل، ومثل مولاي من رعى وأبقى، وسلك التي هي أبر وأتقى، وما قصر عنه القلم من حق مولاي فالرسول أعزه الله تعالى يتممه، وما قصر عنه الرسول فالله تعالى يعلمه، وهوجل وعلا يديم أيام مولاي ويبقي مجده، ويصل سعده، والسلام انتهى.
90 -
ومما خاطب به لسان الدين رحمه الله تعالى شيخ الدولة يحيى بن رحو (1) قوله: سيدي الذي له المزية العظمى، والمحل الأسمى، شيخ قبيل بني مرين، وقطب مدار الأحرار على الإجمال والتعيين، والمتميز بالدهاء والرجاحة، والمعرفة الفسيحة الساحة، ولاصدقة المباحة، وشروط الصوفية من ترك الأذى ووجود الراحة، أسلم على ذاتكم الطاهرة التي بخلت الأزمان والله أن تأتي بنظيرها، وتنافست الدول في تكبيرها، وسارت المواكب الملوكية بمسيرها، وأثنت الألسن بفضلها وخيرها، وأقرر لديها أني أعددت من معرفتها بالأندلس كنزاً لم أنفق منه إلى اليوم وزناً، إعداداً له وخزناً، إذا لا يخرج العتاد الكبير إلا عن حاجة وفاقة، ولا ترد اليد إلى الذخيرة إلا في إضاقة وعجز طاقة، وما كانت الوصلة بمثلها ليهملها مثلي جهلاً يقيمتها العالية، وإزراء بجهتها الكافلة الكافية، لكن نابت عن يدها أيد، وكفى عن ابتذالها ما كف الله تعالى من عمرووزيد، والآن أقرر أني قد كادت حاجتي إلى ذلك العتاد أن تتمحض، وزبدته أن المحض، إذ حظي من رعي ذلك القبيل الذي قصرت عليه رياسته، والوزير
(1) هو يحيى بن عمر بن رحو، ولاه يوسف بن إسماعيل رياسة الجند المغربي بعد أبي ثابت عامر بن عثمان (سنة 741) ، وهذه هي وظيفة شيخ الغزاة بالأندلس، وقد بقي يحيى في هذه الوظيفة حتى سنة 764 حين قبض عليه السلطان النصري وسجنه واستلبه جاهه (اللمحة البدرية: 118) .
الذي من رأيه تستمد سياسته، وإذا وفد خاصة هذه المدينة مهنين، وبشكر إيالته الكريمة مثنين، فخيمته ظل ظليل، ومساركته معتمدي في الكثير فكيف ولا غرض لي إلا في القليل، وعندي أن رعيه لمثلي لا يفتقر إلى وسيلة تجلب، ولا ذمام يحسب، فمثله من قدر قدر الهناء، وشد أعلام الحمد ولاثناء، سامية البناء، وعرف أن الدنيا على الله تعالى أحقر الأشياء، وقد رفعت أمري كله بعد الله تعالى إلى رأيك، وغنيت عن سعيي لنفسي بجميل سعيك، والسلام.
91 -
ومما خاطب به لسان الدين شيخه سيدي أبا عبد الله ابن مرزوق التلمساني رضي الله تعالى عنه شافعاً: يا سيدي أبقاكم الله تعالى محط الآمال وقبلة الوجوه، وبلغ سيادتكم ما تؤمله من فضل الله تعالى وترجوه، وكلأ بعين حفظه ذاتكم الفاخرة، وجعل عز الدنيا متصلاً لكم بعز الآخرة، بعد تقبيل يدكم التي يدها لا تزال تشكر، وحسنتها عند الله تعالى تذكر، أنهي إلى مقامكم أن الشيخ الكذا أبا فلان - مع كونه مستحق التجلة هجرة إلى أبوابكم الكريمة قدمت، ووسائل من أصالة وحشمة كرمت، وفضل ووقار، وتنويه لولاية أن كانت ذات احتقار، وسن اقتضى الفضل بره، وأدب شكر الاختبار عليه وسره - له معرفة سلفكم الأرضي وسيلة مرعية، وفي الاعتراف بنعمتكم مقامات مرضية، وتوجه إلى بابكم، والتمسك بأسبابكم، والمؤمل من سيدي ستره بجناح رعيه في حال الكبرة، ولحظه بطرف المبرة، غما في استعمال يليق بذوي الاحتشام، أوسكون تحت رعي واهتمام، وإعانة على عمل رسم مصله، على الله تعالى الذي يجزي المحسنين بفضله، ومنه نسأل أن يديم أيام المجلس العلي محروساً من النوائب، مبلغ الآمال والمآرب، والمملوك قد قرر شأنه في إسعاف المقاصد المأمولة من الشفاعة إليكم، والتحسب في هذه الأبواب عليكم، وتقليب القلوب بيد الله تعالى الذي يعطي
ويمنع، ويملك الأمر أجمع، والسلام.
92 -
وكتب إليه أيضاً في الشفاعة بما نصه: سيدي الأعظم، وملاذي الأعصم، وعروة عزي الوثقى التي لا تفصم، أبقاك الله تعالى آثارك آية للعز تأمر الدهر فيأتمر، ويلبي بفنائك الطائف والمعتمر، بأي لسان أثني على فواضلك وهي أمهات المنن، وطرف الشام واليمن، ومقامات بديع الزمن، والتحف المرتفعة عن الثمن فحسبي دعاء أردده وأواليه، وأرتقب مطلوب الإجابة من مقدمه وتاليه، وإن تشوف المنعم للحال الموقوف خيره بمشيئة الله تعالى على جميل سعيه، الموسد على وطاء لطفه المغشى بغطاء رعيه، قلب خافق، وقلب مؤمن يجول به وسواس منافق، وقد تجاوز موسى مجمع البحرين، وأصبح سري بابه سري العين، ولقد كانت مراحل الرمل قصيرة قبل أن يكسبها زجلي ثقل الحركة، ويخلط خاصتي في وظائفها المشتركة، وليت أمري برز إلى طرف، وأفضى إلى منصرف، وربما ظفر آيس بما يرجوه، وبرز المحبوب من المكروه، والله تعالى لا يفضح جاه الكتاب الذي أحيا وأنشر، وحياً وبشر، وأعطى صحيفته باليمين وقد جمعت مثابتكم المحشر، وموصل كتابي، ينوب في تقبيل اليد العليا منابي.
وليعلم سيدي أن هذا القطر على شهرته، وتألق مشتريه وزهرته، إذا انتحل كرامه، وعهد الفضل لم يبق إلا انصرامه، فهولبابه المتخير، وزلاله الذي لا يتغير، أصالة معروفة، وهمة إلى الإيثار مصروفة، ونبلاً على السن والكبرة، ورجولية خليقة بصلة الحرمة والمبرة، والوسيلة لا تطرح، والمعنى الذي لا يفسر لوضوحه ولا يشرح، وهوانتماؤه إلى جناب سيدي حديثاً وقديماً، واعترافه بنعمه مديراً لها ومديماً، والله تعالى يوفي إيثار سيدي حظه، ويجدد لديه رعيه ولحظه، حتى يعود علم إقباله، معلماً برد اهتباله، مسروراً
ببلوغ آماله، فلعمري إن محل ولايته لكفي، وإن عهد أمانته لوفي، وإن عامل جده لظاهر وخفي، وما يفعله سيدي من رعيه، وإنجاح سعيه، محسوب من مناقبه، ومعدود في فضل مذاهبه، والسلام الكريم يخصكم ورحمة الله وبركاته " انتهى.
وقد تكررت في كتابنا هذا مخاطبات لسان الدين رحمه الله تعالى للخطيب ابن مرزوق المذكور نظماص ونثراً؛ إذ كان - أعني ابن مرزوق - رئيس الدولة، ومعتمد الجلة، وسبق منا التعريف ببعض أحواله في باب مشايخ لسان الدين مما جرته المناسبة، فليرجع إليه من أراده، والله تعالى يجعل الجميع من أهل السعادة.
93 -
ومما اشتمل على نثر لسان الدين ونظمه ما خاطب به الرئيس أبا زيد ابن خلدون لما ارتحل من بحر المرية واستقر ببلد بسكرة عند رئيسها أبي العابس ابن مزنى، صحبة رسالة خطبها أخوه أبوزكريا، وقد تقلد كتابة صاحب تلمسان، ووصل الكتاب عنه من إنشائه، وهذه صورة ما كتبه لسان الدين رحمه الله تعالى (1) :
بنفسي وما نفسي علي بهينة
…
فينزلني عنها المكاس بأثمان (2)
حبيب نأى عني وصمم لا يني
…
وراش سهام البين عمداً فأصماني
وقد كان هم الشيب، لا كان، كافياً
…
فقد آدني لما ترحل همان
شرعت له من دمع عيني مورداً
…
فكدر شربي بالفراق وأظمأني
وأرعيته من حسن عهدي جميمه
…
فأجذب آمالي وأوحش أزماني
حلفت على ما عنده لي من رضىً
…
قياساً بما عندي فأحنث أيماني
وإني على ما نالني منه من قلىً
…
لأشتاق من لقياه نغبة ظمآن
(1) وردت هذه الرسالة في التعريف: 104.
(2)
المكاس: المشاحة في الثمن.
سألت جنوني فيه تقريب عرشه
…
فقست بجن الشوق جن سليمان
إذا ما دعا داع من القوم باسمه
…
وثبت وما استثبت شيمة هيمان
وتالله ما أصغيت فيه لعاذل
…
تحاميته حتى ارعوى وتحاماني
ولا استشعرت نفيس برحمة عابد
…
تظلل يوماً مثله عبد رحمن
ولا شعرت من قبله بتشوق
…
تخلل منها بين روح وجثمان أما الشوق فحدث عن البحر ولا حرج، وأما الصبر فسل به أية درج، بعد أن تجاوز اللوى والمنعرج، لكن الشدة تعشق الفرج، والمؤمن ينشق من روح الله تعالى الأرج، وأني بالصبر، على إبر الدبر، لا بل الضرب الهبر (1) ، ومطاولة اليوم والشهر، حتى حكم اقهر وهل لعين أن تسلو سلوالمقصر، عن إنسانها المبصر، أوتذهل ذهول الزاهد، عن سرها الراثي والمشاهد وفي الجسد بضعة يصلح إذا صلحت، فكيف حاله إن رحلت عنه ونزحت، وإذا كان الفراق هوالحمام الأول، فعلام المعول أعيت مراوضة الفراق، على الراق، وكادت لوعة الاشتياق، أن تفضي إلى السياق:
تركتموني بعد تشييعكم
…
أوسع أمر الصبر عصيانا
أقرع سني ندماً تارةً
…
وأستميح الدمع أحيانا وربما تعللت بغشيان المعاهد الخالية، ووجددت رسوم الأسى بمباكرة الرسوم البالية، أسأل نون النوى عن أهليه، وميم الموقد المهجور عن مصطليه، وثاء الأثافي المثلثة عن منازل الموحدين، وأحار بين تلك الأطلال حيرة الملحدين، لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين، كلفت لعمر الله يسأل عن جفوني المؤرقة، ونائم عن همومي المتجمعة المتفرقة، ظعن عن ملال، لا متبرماً مني بشر خلال، وكدر الوصل بعد صفائه، وضرج النصل بعد عهد وفائه:
(1) الهبر: الذي يهبر أي يقطع.
أقل اشتياقاً أيها القلب ربما
…
رأيتك تصفي الود من ليس جازياً (1) فها أنا أبكي عليه بدم أسأله، وأنهل فيه أسى له (2) ، وأعلل بذكراه قلباً (3) صدعه، وأودعه من الوجد ما أودعه، لما خدعه، ثم قلاه وودعه، وأنشق رياه أنف ارتياح قد جدعه، وأستعدي به على ظلم ابتدعه:
خليلي هل أبصرتما أو سمعتما
…
قتيلاً بكى من حب قاتله قبلي (4) فلولا عسى الرجاء ولعله، لا بل شفاعة المحل الذي حله، لمزجت الحنين بالعتب (5) ، وبثثت كتائبه كمناء في شعاب الكتب، تهز من الألفات رماحاً خزر الأسنة، وتوتر من النونات أمثال القسي المرنة، وتقود من بياض الطرس وسواد النفس بلقاً تردي (6) في الأعنة، ولكنه أوى إلى الحرم الأمين، وتفيأ ظلال الجوار المؤمن من معرة العوار عن الشمال واليمين، حرم الخلال المزنية، والظلال اليزنية، والهمم السنية، والشيم التي لا ترضى بالدون ولا بالدنية، حيث الرفد الممنوح، والطير الميامن يزجر لها السنوح، والمثوى الذي إليه - مهما تقارع الكرام على الضيفان، حول جوابي الجفان - الميل والجنوح:
نسب كأن عليه من شمس الضحى
…
نوراً، ومن فلق الصباح عمودا (7) ومن حل بتلك المثابة فقد اطمأن جنبه، وتغمد بالعفوذنبه، ولله در القائل حيث يقول:
(1) البيت للمتنبي بعد فراقه لسيف الدولة وحلوله عند كافور.
(2)
التعريف: وأندب في ربع الفراق، آسى له.
(3)
التعريف: وأشكو إليه حول قلب.
(4)
البيت لجميل بثينة، ديوانه:176.
(5)
التعريف: لنشرت ألوية العتب.
(6)
تردي: وتمشي الرديان، وهو نوع من المشي دون العدو.
(7)
البيت لأبي تمام (ديوانه: 81 ط. بيروت) .
فوحقه لقد انتدبت لوصفه
…
بالبخل لولا أن حمصاً داره
بلد متى أذكره تهتج لوعتي
…
وإذا قدحت الزند طار شراره اللهم غفراً، ولا كفراً، وأين قرارة النخيل، من مثوى الأقلف البخيل، ومكذبة المخيل وأين ثانية هجر، من متبوإ من ألحد وفجر
من أنطر غيثاً منشؤه
…
في الأرض وليس بمخلفها
فبنان بني مزنى مزن
…
تنهل بلطف مصرفها
مزن مذ حل ببسكرة
…
يوماً نطقت بمصحفها (1)
شكرت حتى بعبارتها
…
وبمعناها وبأحرفها
ضحكت بأبي العباس من ال
…
أيام ثنايا زخرفها
وتنكرت الدنيا حتى
…
عرفت منه بمعرفها بل نقول: يا محل الولد {لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد} (البلد:2،3) لقد حل بينك عرى الجلد، وخلق الشوق بعدك يا ابن خلدون في الصميم من الخلد، فحيا الله تعالى زمناً شفيت برقى قربك (2) زمانته، واجتليت في صدف مجدك جمانته، ويا من لمشوق من طول خلتك لبانته (3) ، وأهلاً أظلت أشتات معارفك بانته، فحمائمه بعدك تندب، فيساعدها الجندب، ونواسمه ترق فتتغاشى، وعشياته تتخافت وتتلاشى، ومزنه باك، ودوحه في مأتم ذي اشتباك، كأن لم تكن قمر هالات قبابه، ولم يك أنسك شارع بابه، إلى صفوة الظرف ولبابه، ولم يسبح إنسان عينك في ماء شبابه، فلهفي عليك من درة اختلستها يد النوى، ومطل بردها الدهر ولوى، ونعق الغراب ببينها في ربوع الجوى، ونطق بالزجر فما نطق عن
(1) مصحف بسكرة: بشكره أو تشكره.
(2)
التعريف: في قربك.
(3)
التعريف: وقضيت في مرعى خلتك لبانته.
الهوى، وبأي شيء نعتاض منك أيتها الرياض، بعد أن طمى نهرك (1) الفياض، وفهقت الحياض ولا كان الشانئ المشنوء، والجرب المهنوء، من قطع ليل أغار على الصبح فاحتمل، وشارك في الذم الناقة والجمل، واستأثر جنحه ببدر النادي لما كمل، نشر الشراع فراع، وأعمل (2) الإسراع، كأنما هوتمساح النيل ضايق الأحباب في البرهة، واختطف لهم من الشط نزهة العين وعين النزهة، ولجج بها والعيون تنظر، والغمر عن الأتباع يحظر، فلم يقدر إلا على الأسف، والتماح الأثر المنشف، والرجوع بملء العيبة من الخيبة، ووقر الجسرة (3) من الحسرة، وإنما نشكوإلى الله البث والحزن، ونستمطر من عبارتنا المزن، وبسيف الرجاء نصول، إذا شرعت للياس النصول:
ما أقدر الله أن يدني على شحط
…
من داره الحزن ممن داره صول (4) فإن كان كلم الفراق رغيباً (5) ، لما نويت مغيباً، وجللت الوقت الهنئ تشغيباً، فلعل الملتقى يكون قريباً، وحديثه يروى صحيحاً غريباً.
إيه ثقة (6) النفس كيف حال تلك الشمائل، المزهرة الخمائل والشيم، الهامية الديم، هل يمر ببالها من راعت بالبعد باله، وأخمدت بعاص البين ذباله، أوترثي لشؤون شأنها سكب لا يفتر، وشوق يبت حبال الصبر ويبتر، وضنى تقصر عن حلله الفاقعة صنعاء وتستر، والأمر أعظم والله يستر، وما الذي يضيرك صين من لفح السموم نضيرك، بعد أ، أضرمت وأشعلت،
(1) نهرك: سقطت من ق.
(2)
التعريف: وواصل.
(3)
الجسرة: الناقة؛ والوقر: الحمل.
(4)
البيت لحندج بن حندج المري، (حماسة المرزوقي: 1831) .
(5)
الجرح الرغيب: الواسع.
(6)
التعريف: إيه سيدي.
وأوقدت وجعلت، وفعلت فعلتك التي فعلت، أن تترفق بذماء، أوترد بنغبة ماء، أماق ظماء، وتتعاهد المعاهد بتحية يشم منها شذا أنفاسك، أوتنظر إلينا على البعد بمقلة حوراء من بياض قرطاسك وسواد أنفاسك، فربما قنعت الأنفس المحبة بخيال زور، وتعللت بنوال منزور، ورضيت لما لم تصد العنقاء بزرزور:
يا من ترحل والنسيم لأجله
…
تشتاق إن هبت شذا رياها
تحيي النفوس إذا بعثت تحية
…
فغذا عزمت اقرأ {ومن أحياها} (1) ولئن أحييت بها فيما سلف نفوساً تفديك - والله تعالى إلى الخير يهديك - فنحن نقول معشر مريديك: ثن ولا تجعلها بيضة الديك (2) ، وعذراً فإني لم أجتر على خطابك بالفقر الفقيرة، وأدللت لدى حجراتك برفع العقيرة، لا عن نشاط يعثت مرموسه، ولا غتباط بالأدب تغري بسياسته سوسه، وانبساط أوحى إلي على الفترة ناموسه، وإنما هواتفاق جرته نفثة المصدور، وهناء الجرب المجدور، وخارق لا مخارق (3) ، فثم قياس فارق، أولحن غنى به بعد الممات (4) مفارق، والذي سببه (5) ، وسوغ (6) منه المكروه وحببه، ما اقتضاه الصنويحيى - مد الله تعالى حياته، وحرس من الحوادث ذاته - من خطاب ارتشف به لهذه القريحة بلالتها، بعد أن رضي علالتها، ورشح إلى الصهر الحضرمي سلالتها، فلم يسع إلا إسعافه، بما اعافه، فأمليت مجيباً، ما لا
(1) إشارة إلى الآية الكريمة: ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً (المائدة: 32) .
(2)
من قول بشار:
قد زرتنا مرة في العمر واحدة
…
ثني ولا تجعليها بيضة الديك (3) التعريف: وإن تعلل به مخارق.
(4)
التعريف: بعد البعد.
(5)
التعريف: والذي هيأ هذا القدر وسببه.
(6)
التعريف: وسهل.
يعد في يوم البرهان نجيباً، وأسمعت وجيباً، لما ساجلت بهذه الترهات سحراً عجيباً، حتى إذا ألف القلم العريان سبحه، وجمح برذون الغرارة فلم أطق كبحه، لم أفق من غمرة غلوه، وموقف متلوه، إلا وقد تحيز إلى فئتك معتزاً بل معتراً، واستقبلها ضاحكاً مفتراً، وهش لها براً، وإن كان لونه من الوجل (1) مصفراً، وليس بأول من هجر، في التماس الوصل ممن هجر، أوبعث التمر إلى هجر، وأي نسب بيني اليوم وبين زخرف الكلام، وإجالة جياد الأقلام، في محاورة الأعلام بعد أن حال الجريض، دون القريض (2) ، وشغل المريض، عن التعريض، واستولى (3) الكسل، ونصلت الشعرات البيض كأنها الأسل، تروع برقط الحيات، سرب الحياة، وتطرق بذوات الغرر والشيات (4) ، عند البيات، والشيب الموت العاجل، وإذا ابيض زرع صبحته المناجل، والمعتبر الآجل، وإذا اشتغل الشيخ بغير معاده، حكم في الظاهر بإبعاده، وأسره في ملكة عاده، فأغض أبقاك الله واسمح، لمن قصر عن المطمح، وبالعين الكليلة فالمح، واغتنم لباس ثوب الثواب، واشف بعض الجوى بالجواب، تولاك الله تعالى فيما استضفت وملكت، ولا بعدت ولا هلكت، وكان لك أية سلكت، ووسمك من السعادة بأوضح السمات، وأتاح لقاءك من قبل الممات، والسلام الكريم يعتمد جلال ولدي، وساكن خلدي بل أخي وإن عتبته (5) وسيدي، ورحمة الله تعالى وبركاته انتهى.
قلت: هذه الرسالة الرافلة في حلل البلاغة لم أر مثلها ولم أقف عليه، فرحم الله تعالى لسان الدين ووجه سحائب الرحمة إليه، فلقد كان آية الله في النظم
(1) التعريف: الخجل.
(2)
هذا مثل؛ والجريض: ما يعترض في الحلق من غصص، أي حال العائق دون قول الشعر، ويتصل بقصة عبيد بن الأبرص ويوم البؤس عند النعمان.
(3)
التعريف: وغلب حتى.
(4)
ذوات الغرر والشيات هي الخيل.
(5)
التعريف: وإن اتقيت عتبه.
والنثر وجميع العلوم على اختلافها.
94 -
وكما خاطب الولي ابن خلدون خاطب أخاه أبا زكريا يحيي حسبما قال في بعض كتبه: ومما خاطبت به الفقيه أبا زكريا ابن خلدون، لما ولي الكتابة عن السلطان أبي حموسلطان تلمسان نم بني زيان واقترن بذلك نصر وصنع غبطته به وأشدت به قصد تنفيقه وإنهاضه لديه: نخص الحبيب الذي هوفي الاستظهار به أخ وفي الشفقة عليه ولد، والولي الذي ما بعد قرب مثله أمل ولا على بعده جلد، والفاضل الذي لا يخالف في فضله ساكن ولا بلد، أبقاه الله تعالى وفاز فوزه وعصمته لها نم التوفيق الله سبحانه عمد، ومورد سعادته المسوغ لعادته لا غور ولا ثمد، ومدى إمداده من خزائن إلهام الله تعالى وسداده ليس له أمد، وحمى فرح قلبه بمواهب من ربه أن يطرقه كمد.
تحية محله، من صميم قلبه بمحله، المنشئ رواق الشفقة، مرفوعاً بعمد المحبة والمقة، فوق ظعنه وحله، مؤثره ومجله، المعتني بدق أمره وجله، ابن الخطيب، من الحضرة الجهادية غرناطة، صان الله تعالى خلالها، ووقى هجير هجر الغيوم ظلالها، وعمر بأسود الله تعالى أغيالها، كما أغرى بمن كفر بالله تعالى صيالها، ولا زائد إلا منن من الله تعالى تصوب، وقوة يسترد بها المغضوب، ويخفض الصليب المنصوب، والحمد لله تعالى الذي بحمده ينال المطلوب، وبذكره تطمئن القلوب، ومودتكم المودة التي غذتها ثدي الخلوص بلبانها، وأحلتها حلائل المحافظة بين أعينها وأجفانها، ومهدت موات أخواتها الكبرى أساس بنيانها، واستحقت ميراثها مع استصحاب حال الحياة إن شاء الله تعالى واتصال زمانها، واقتضاء عهود الأيام بيمنها وأمانها، ولله در القائل:
فإن لم يكنها أوتكنه فإنه
…
أخوها غذته أمه بلبانها (1)
(1) البيت لأبي الأسود الدؤلي (ديوانه في نفائس المخطوطات 2: 37) وكان له غلام يتاجر إلى الأهواز ويشرب الخمر.
وصل الله تعالى ذلك من أجله وفي ذاته، وجعله وسيلة إلى مرضاته، وقربة تنفع عند اعتبار ما روعي من سنن الجبار ومفترضاته.
وقد وصل كتابكم الذي فاتح بالريحان والروح، وحل من مرسوم الولاء محل البسملة من اللوح، وأذن لنوافح الثناء بالبوح، يشهد عدله بأن البيان يا آل خلدون سكن من مثواكم دار خلود، وقدح زنداً غير صلود، واستأثر من محابركم السيالة، وقضب أقلامكم الميادة الميالة، بأب منجب وأم ولود، يقفو شانيه غير المشنو، وفصيله غير الجرب ولا المهنو، من الخطاب السلطاني سفينة منوح (1) ، إن لم نقل سفينة نوح، ما شئت من آل أزواج، وزمر من الفضل وأفواج، وأمواج كرم تطفوفوق أمواج، وفنون بشائر، وإهطاع قبائل وعشائر، وضرب للمسرات أعيا الشائر، فلله هومن قلم راعى نسب القنا فوصل الرحم، وانجد الوشيج والملتحم، وساق بعصاه من البيان الذود المزدحم، وأخاف من شذ عن الطاعة مع الاستطاعة فقال " لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم " هود:43 ولولم يوجب الحق برقه ورعده، ووعيده ووعده، لأوجبه يمنه وسعده، فلقد ظهرت مخايل نجحه، علاوة على نصحه، ووضحت محاسن صبحه، في وحشة الموقف الصعب وقبحه، وصل الله تعالى له عوائد منحه، وجعله إقليداً كلما استقبل باب أمل وكله الله تعالى بفتحه.
أما ماقرره ولاؤكم من حب زكا على حبة القلب حبه، وأنبته النبات الحسن ربه، وساعده من الغمام سكبه، ومن النسيم اللدن مهبه، فرسم ثبت عند الولي نظيره، ومن غبر معارض يضيره، وربما أربى بتذييل مزيد، وشهادة ثابت ويزيد (2) ، ولم لا يكون ذلك، وللقلب على القلب شاهد وكونها
(1) المنوح: العطايا.
(2)
ثابت ويزيد: من أعلام التابعين الثقات كأن تقول: ثابت البناني ويزيد بن الأسود؛ ثم يلمح إلى قول جميل:
إذا قلت ما بي يا بثينة قاتلي
…
من الوجد ثابت ويزيد
أجناداً مجندة لا يحتاج تقريره إلى ماهد وجهد جاهد، ومودة الأخوة سبيلها لاحب، ودليلها للدعوة الصادقة مصاحب، إلى ما سبق من فضل ولقاء، ونظافة سقاء، واعتقاد، لا يراع سربه بذئب انتقاد، واجتلاء شهاب وقاد، لا يحوج إلى إيقاد، إنما عاق عن مواصلة ذلك نوىً شط منها الشطن، وتشذيب لم يتعين معه الوطن، فلما تعين، وكاد الصبح أن يتبين، عاد الوميض ديجوراً، والثماد بحراً مسجوراً، إلى أن أعلق الله تعالى منكم اليد بالسبب الوثيق، وأحلكم منجى نيق (1) ، لا يخاف من منجنيق، وجعل يراعكم لسعادة موسى (2) معجزة تأتي على الخبر بالعيان، فتخر لثعبانها سحرة البيان:
أيحيى سقى حيث لحت الحيا
…
فنعم الشعاب ونعم الوكون
وحياً يراعك من آية
…
فقد حرك القوم بعد السكون
دعوت لخدمة موسى عصاه
…
فجاءت تلقف ما يأفكون
فأذعن من يدعي السحر رغماً
…
وأسلم من أجلها المشركون
وساعدك السعد فيما أردت
…
فكان كما ينبغي أن يكون " فأنتم أولى الأصدقاء بصلة السبب، ورعي الوسائل والقرب، أبقاكم الله تعالى وأيدي الغبطة بكم عالية، وأحوال تلكم الجهات بدرككم المهمات حالية، وديم المسرات من إنعامكم المبرات على معهود المبرات متوالية.
وأما ما تشوفتم إليه من حال وليكم فأمل متقلص الظل، وارتقاب لهجوم جيش الأجل المطل، ومقام على مساورة الصل، وعمل يكذب الدعوى، وطمأنينة تنتظر الغارة الشعوا، ويد بالمذخور تفتح، وأخرى تجهد وتمنح، ومرض يزور فيثقل، وضعف عن الواجب يعقل، إلا أن اللطائف تستروح،
(1) النيق: الطويل من الجبال.
(2)
موسى: هو السلطان أبو حمو.
والقلب من باب الرجاء لا يبرح، وربما ظفر البائس، ولم تطرد المقايس، تداركنا الله تعالى بعفوه، وأوردنا من منهل الرضى والقبول على صفوه، وأذن لهذا الخرق في رفوه.
" وأما ما طلبتم من انتساخ ديوان، وإعمال بنان في الإتحاف ببيان، فتلك عهود لدي مهجورة، ومعاهد لا متعهدة ولا مزورة، شغل عن ذلك حوض يعلو لجبه، وحرص يقضى من لغط المانح عجبه، وهول جهاد تساوى جمادياه ورجبه، فلولا التماس أجر، وتعلل بربح تجر، لقلت: أهلاً بذات النحيين (1) ، فلئن شكت، وبذلت المصون بسبب ما أمسكت، فلقد ضحكت في الباطن ضعف ما بكت، ونستغفر الله تعالى من سوء انتحال، وإيثار المزاح بكل حال، وما الذي ينتظر مثلي ممن عرف المآخذ والمتارك، وجرب لما بلا المبارك، وخبر مساءة الدنيا الفارك
هذا أيها الحبيب ما وسعه الوقت الضيق، وقد ذهب الشباب الريق، ليسمح فيه معهود كمالك، جعل الله تعالى مطاوعة آمالك، مطاوعة يمينك لشمالك، ووطأ لك موطأ العز بباب كل مالك، وقرن النجح بأعمالك، وحفظك في نفسك واهلك ومالك، والسلام انتهى.
95 -
ومن مخاطبات لسان الدين لصاحب العلامة أبي القاسم ابن رضوان:
قد كنت أجهد في التماس صنيعة
…
نفساً شهاب ذكائها وقاد
وأقول لو كان المخاطب غيركم
…
عند الشدائد تذهب الأحقاد سيدي، أبقاكم الله تعالى علم فضل وإنصاف، ومجموع كمال أوصاف: كلام النية قصير، والله تعالى بحسنات الأقوال والأفعال بصير، وإليه هذا الخباط كل رجعي منا ومصير، وليس لنا إلا هومولى ونصير، وهذا الرجل سيدي الخطيب
(1) يكني عن كثرة الشغل لقولهم في المثل: " اشغل من ذات النحيين " والنحي: ظرف السمن.
أبوعبد الله ابن مرزوق - جبره الله تعالى - بالأمس كنا نقف ببابه، ونتمسك بأسبابه، ونتوسل إلى الدنيا به، فإن كنا قد عرفنا خيراً وجبت المشاركة، أوكفافاً تعينت المتاركة، أوشراً اهتبلت غرة الهدى الأنفس المباركة، واتصفت بصفة من يعصي فيسمح، ويسأل فيمنح، ويعود إلى قبيح بالفعل الجميل، ويحسب يد التأميل، ومع هذا فلم ندر إلا خيراً كرم منه المورد والمصرف، ومن عرف حجة على من لا يعرف، وأنتم في الوقت سراج علم لا يخبوسناه، ومجموع تخلق عرفنا منه ما عرفناه، وهذه هي الشهرة التي تغتنم إذا سفرت، والهنة التي تحبر عليها النفس إذا نفرت، حتى لا تجد بعون الله تعالى عارضاً يعوقها عن الخير، وسبيل الكمال الأخير، والأجر في استيفاء كتاب الشفاعة، وتحري المقاصد النفاعة، وتنفيق البضاعة، قد ضمنه نم وعد بقيام الساعة، والجزاء على الطاعة وغير الطاعة، وهذه المشاركة تسجيل لفضلكم قبلي، وهي في الحقيقة لي، فكيف والله تعالى يرى عملكم وعملي، والمتروك حقير، والوجود إلى رحمة من رحمات الله تعالى فقير، والسلام انتهى.
96 -
ومن كلام لسان الدين رحمه الله تعالى قوله في مخاطبة شيخ العرب مبارك بن إبراهيم رحمه الله تعالى (1) :
" ساحات دارك للضياف مبارك
…
وبضوء نار قراك يهدي السالك
ونوالك المبذول قد شمل الورى
…
طراً، وفضلك ليس فيه مشارك
قل للذي قال للوجود قد انطوى
…
والبأس ليس له حسام فاتك
والجود ليس له غمام هاطل
…
والمجد ليس له همام باتك (2)
جمع الشجاعة والرجاحة والندى
…
والبأس والرأي الأصيل مبارك
(1) وردت هذه الرسالة في الاستقصا 4: 13 - 15.
(2)
الباتك: القاطع.
للدين والدنيا وللشيم العلا
…
والجود إن شح الغمام السافك
عند الهياج ربيعة بن مكدم
…
في الفضل والتقوى الفضيل ومالك (1)
ورث الجلالة عن أبيه وجده
…
فكأنهم ما غاب منهم هالك
فجياده للآملين مراكب
…
وخيامه لقاصدين أرائك
فغذا المعالي أصبحت مملوكة
…
أعناقها بالحق فهو المالك
يا فارس العرب الذي من بيته
…
حرم لها حج به ومناسك
يا من يبشر باسمه قصاده
…
فلهم إليه مسارب ومسالك
أنت الذي استأثرت فيك بغبطتي
…
وسواك فيه مآخذ ومتارك
لا زلت نوراً يهتدي بضيائه
…
من جنه للروع ليل حالك
ويخص مجدك من سلامي عاطر
…
كالمسك صاك به الغوالي صائك (2) الحمد لله تعالى الذي جعل بيتك شهيراً، وجعلك للعرب أميراً، وجعل اسمك فالاً، ووجهك جمالاً، وقربك جاهاً ومآلاً، وآل رسول اله صلى الله عليه وسلم لك آلاً، أسلم عليك يا أمير العرب وابن أمرائها، وقطب سيادتها وكبرائها، وأهنيك ما منحك الله تعالى من شهرة تبقى، ومكرمة لا يضل المتصف بها ولا يشقى، إذ جعل خيمتك في هذا المغرب على اتساعه، واختلاف أشياعه، مأمناً للخائف، على قياس (3) المذاهب والطوائف، وصرف الألسنة إلى مدحك والقلوب إلى حبك، وما ذلك إلا لسريرة لك عند ربك، ولقد كنت أيام تجمعني وإياك المجالس السلطانية على معرفتك متهالكاً، وطوع الأمل سالكاً، لما يلوح لي على وجهك من سيما المجد والحياء، والشيم الدالة على العلياء، وزكاء الأصول وكرم الآباء، وكان والدي - رحمه الله تعالى - قد عين للقاء
(1) الفضيل بن عياض ومالك بن دينار (وقد يكون: مالك بن أنس) .
(2)
الغوالي: الطيوب، مفردها غالية؛ صاك: خلط ومزج.
(3)
الاستقصا: على كثرة.
خال السلطان قريبكم لما توجه في الرسالة إلى الأندلس في تأنيسه عن مخدومه، ومنوهاً حيث حل بقدومه، واتصلت بعد ذلك المهاداة والمعرفة، والوسائل المختلفة، فعظم لأجل هذه الوسائل شوقي إلى التشرف بزيارة ذلك الجناب الذي حلوله شرف وفخر، ومعرفته كنز وذخر، فلما ظهر الآن لمحل الأخ الكذا القائد فلان اللحاق بك، والتعلق بسببك، رأيت أنه قد اتصل بهذا الغرض المؤمل بعضي والله تعالى ييسر في البعض، عند تقرير الأمن وهدنة الأرض، وهذا الفاضل بركة حيث حل لكونه من بيت أصالة وجهاد، وماجداً وابن أمجاد، ومثلك لا يوصى بحسن جواره، ولا ينبه على إيثاره، وقبيلك في الحديث - من العرب - والقديم، وهوالذي أوجب لها مزية التقديم، لم يفتخر قط بذهب يجمع، ولا ذخر يرفع، ولاقصر يبنى، ولا غرس يجنى، إنما فخرها عدويغلب، وثناء يجلب، وجزور ينحر، وحديث يذكر، وجود على الفاقة، وسماحة بحسب الطاقة، فلقد ذهب الذهب، وفني النشب، وتمزقت الأثواب، وهلكت الخيل العراب، وكل الذي فوق التراب تراب، وبقيت المحاسن تروى وتنقل، والأعراض تجلى وتصقل، ولله در الشاعر إذ يقول:
وإنما المرء حديث بعده
…
فكن حديثاً حسناً لمن وعى (1) هذه مقدمة إن يسر الله تعالى بعدها لقاء الأمير، فيجلي اللسان عماً في الضمير:
ومدحي على الأملاك مدح، وإنما
…
رأيتك منها فامتدحت على وسمي
وما كنت بالمهدي لغيرك مدحتي
…
ولو أنه قد حل في مفرق النجم "
(1) من مقصورة ابن دريد (ص: 115) .
97 -
ومن ذلك ما خاطب به شيخه الخطيب سيدي أبا عبد الله ابن مرزوق وهو:
" راش زماني وبرى نبله
…
فكنت لي من وقعها جنه
ولو قهرت الموت أمنتني
…
منه وأدخلتني الجنه
فكيف لا أنشرها منة
…
قد عرفتها لاإنس والجنه " بماذا أخاطب به تلك الجلالة، فيتيسر الخطاب وتحصل الدلالة، أبسيدي ويشركني فيه، من قال لا إله إلا الله بفيه أوبروح حياتي، ومقدم ماهية ذاتي، وذخري الكبير الكثير، لا بل فلكي الأثير، وهوتضييق على الولد والأهل، وتعدي المراتب المحدودة من الجهل، فلم يبق إلا الإشارة الخارجة عن وظائف اللسان، وهي بعض دلالات الإنسان، أفدت الإكسير، وجبرت الكسير، ورويت يا أبا العلا (1) التيسير، وغمرت بالكرم وأمن حمام الحرم الظعن والمسير، فمن رام شكر بعض (2) أياديك فلقد شد حقائب الرحال، إلى نيل المحال، والحق أن نكل جزاك، لمن جعل إلى المجد اعتزاك، ونولي شكرك وثناك، إلى من عمر بما يرضيه من الرفق بالخلق وإقامة الحق إناك، وندعومنك بالبقاء إلى الروض المجود، وغمام الجود، وإمام الركع السجود، لا بل لنور الله تعالى المشرق على التهائم والنجود، ورحمته المبثوثة أثناء هذا الوجود.
وليعلم سيدي أن النفس طماعة جماعة، وسراب آمالها بحاره لماعة، فلا تفيق من كد، ولا تقف عند حد، سيما إذا لم يهذبها السلوك والتجريد، ولم يسر منها في عالم الغيب البريد، ولا تجلت لها السعادة التي يجذب بها المراد ويشمر لها المريد، إلى أن يتأتى عما دون الحق المحيد، ويصح التوحيد،
(1) ق: يا ابن العلاء.
(2)
بعض: سقطت من ق.
وقد مثلت الآن خصماً، توسع ظهر استظهاري بالتسليم قصماً، وتقول: المال عديلي عند القيمة، وطبيبي في الأحوال السقيمة، وهونتيجة كدي عند الأقيسة القيمة، ومن استخلصني على شرفي يقتعدها على رأي البراهمة النور الاصفهندي والنور القاهر، فخلاص المال طوع يديه، وهوكما قال الله تعالى أهون عليه، فألاطفها، حتى تلين معاطفها، وأخادعها، حتى تلوي أخادعها، وأقول: قد وقع الوعد، وأشرق السعد، ولان الجعد، وسكن الرعد، ولله تعالى الأمر من قبل ومن بعد، فتجيبني: العمر المنام، وأيام الجاه والقدرة قد يحق لها الاغتنام، وهم العاقل إلى وقته الحاضر مصروف، وإذا لم يغير حائطه مثل معروف، وفي الوقت زبون يرجى به استخلاص الحقوق، ويستبعد وقوع العقوق، فإن رأى مولاي أن يشفع المنة، ويقرع باباً ثانياً من أبواب الجنة، قبل ا، يشغل شاغل، أويكدر الأكل والشرب وارش أو واغل (1) ، أويثوب للمتعدي نظر في اللجاج، أويدس له ما يحمله على الاحتجاج، - وأومتسع مناطها، فسيح استنباطها، كثير هاطها ومياطها - فهوتمام صنيعته التي لم ينسج على منوالها الأحرار، ولا اهتدت إلى حسنتها الأبرار، ولا عرف بدر مجدها السرار، فإليه كان الفرار، ولله تعالى ثم له خلص الاضطرار، ويستقر تحت دخيله القرار، وتطمئن الدار، فإن ما ابتدأ به من عز ضرب على الأيدي العادية منه حكم الحكام، وفارع الهضاب والآكام، على ملإ ومجمع، وبمرأى من الخلق ومسمع، يقتضي اطراد قياس العزة القعساء، وسعادة الإصباح والغماس، وظهور درجات الرجال على النساء، فهوجاه حارت فيه الأوهام وهذه أذياله، ومن ركب حقيقة أمرها هان عليه خياله، والمال ماله، والعيال عياله، والوجود سريع زياله، والجزاء عند الله تعالى مكياله،
(1) الوارش: المتطفل على الآكلين؛ والواغل: المتطفل على الشاربين؛ وفي ق: واش.
وعروض المغضوب باقية الأعيان (1) ، مستقلة الشجر قائمة البنيان، تمنع عن شرائها قاعدة الأديان وغيرها من مكيل وموزون، بين مأكول ومخزون، والكتب ملقاة بالقاع، مطرحة بأخبث البقاع، فإن تأتي الجبر، وإلا فالصبر، على أن وعد عمادي لا يفارق الإنجاز، ومكرمته التي طوقها قد بلغت الشام والحجاز، وحقيقة التزامه تباين المجاز، وآية مجده تستصحب الإعجاز، ولله در إبراهيم بن المهدي يخاطب المأمون، لما أكذب في العفوعنه الظنون:
وهبت مالي ولم تبخل علي به
…
وقبل ذلك ما إن قد وهبت دمي (1) وقد كانت هذه المنقبة غريبة فغزرتها بأختها الكبرى، وفريدة فجئت بأخرى، وشفعت وترا، أبقاك الله تعالى لتخليد المناقب، وإعلاء المراتب، وجعل أخمص نعلك تاجاً للنجم الثاقب، وتكفل لك في النفس والولد بحسن العواقب:
آمين آمين لا أرضى بواحدة
…
حتى أضيف إليها ألف آميناً (3) وأما تنبيه سيدي على إنشاء رزق، وتقرير رفد ورفق، فلا أنبه حاتماً وكعباً، أن يملأ قعباً، لمن خاض بحراً أوركب صعباً، هذا أمر كفانيه الكافي، وداء كوخز (4) الأشافي، أذهبه الشافي، والسلام " انتهى.
98 -
ومن إنشاء لسان الدين رحمه الله تعالى على لسان السلطان قوله: " هذا ظهير كريم، مضمنه استجلاء لأمور الرعية واستطلاع، ورعاية
(1) يشير لسان الدين هنا إلى ما أخذ منه بالأندلس، من عروض ومكيلات وموزونات وكتب
…
إلخ؛ ويقول إن أعيان العروض (من شجر ومبان) لا تزال شاهدة.
(1)
يشير لسان الدين هنا إلى ما أخذ منه بالأندلس، من عروض ومكيلات وموزونات وكتب
…
إلخ؛ ويقول إن أعيان العروض (من شجر ومبان) لا تزال شاهدة.
(3)
انظر المجلد 1: 175.
(4)
ق: لوخز؛ والأشافي: جمع إشفى وهو المخرز.
كرمت منها أجناس وأنواع، وعدل بهر منه شعاع، ووصايا يجب لها إهطاع، أصدرناه للفقيه فلان لما تقرر لدينا دينه وعدله وفضله، رأينا أنه أحق من نقلده الهم الأكيد، ونرمي به من أغراض البر الغرض البعيد، ونستكشف به أحوال الرعايا التي لا يغيب عنا شيء من أحوالها، ولا يتطرق إليها طارق من أهوالها، وينهي إلينا الحوادث التي تنشأ إنهاء يتكفل بحياطة أبشارها وأموالها.
وأمرنا أن يتوجه إلى جهة كذا حاطها الله تعالى فيجمع الناس فيمساجدهم، وينديهم من مشاهدهم، ويبدأ بتقرير غرضنا في صلاح أحوالهم، وإحساب أموالهم (1) ، ومكابدتنا المشقة في مداراة عدوهم الذي نعلم من أحواله ما غاب عنهم دفعه الله تعالى بقدرته، ووقى نفوسهم وحريمهم من معرته، ولما رأينا من انبتات الأسباب التي تؤمل، وعجز الحيل التي كانت تعمل؛ ويستدعي إنجادهم بالدعاء، وإخلاصهم فيه إلى رب السماء، ويسأل عن سيرة القواد، وولاة الأحكام بالبلاد، فمن نالته نظلمة فليرفعها إليه، ويقصها عليه، ليبلغها إلينا، ويوفدها مقررة الموجبات لدينا، ويختبر ما افترض صدقة للجبل، وما فضل عن كريم ذلك العمل، ليعين إلى بناء الحصن بجبل فاره يسر الله تعالى لهم في إتمامه، وجعل صدقتهم تلك مسكة ختامه، وغيره مما افترض إعانة للمسافرين، وإنجاداً لجهاد الكافرين، فيعلم مقداره، ويتولى اختباره (2) ، حتى لا يجعل منه شيء على ضعيف، ولا يعدل به لمشروف عن شريف، ولا تقع فيه مضايقة ذي الجاه، ولا مخادعة غير المراقب لله، ومتى تحقق أن غنياً قصر به عن حقه، أوضعيفاً كلف منه فوق طوقه، فيجير (3) الفقير من الغني،
(1) ق: آمالهم.
(2)
ق: اختياره.
(3)
ق: فيجير.
ويجري من العدل على السنن السوي، ويعلم الناس أن هذه المعونة (1) وإن كانت بالنسبة إلى محل ضرورتها يسيرة، وأن الله تعالى يضاعفها لهم أضعافاً كثيرة، فليست مما يلزم، ولا من المعاون التي بتكررها يجزم؛ وينظر في عهود التوفيق فيصرفها في مصارفها المتبينة، وطرقها الواضحة البينة.
ويتفقد المساجد تفقداً يكسوعاريها، ويتمم منها المآرب تتميماً يرضي باريها، ويندب الناس إلى تعليم القرآن لصبيانهم، فذلك أصل أديانهم، ويحذرهم المغيب على كل شيء من أعشارهم، فالزكاة أخب الصلاة وهما من قواعد الإسلام، وقد اخترنا لهم بأقصى الجد والاعتزام، ورفعنا عنهم رسم التعريف نظراً إليهم بعين الاهتمام، وقدمنا الثقات لهذه الأحكام، وجعلنا الخرص (2) شرعياً في هذا العام، وفيما بعده إن شاء الله تعالى من الأعوام.
ومن أهم ما أسندناه إليه، وعولنا فيه عليه، البحث بتلك الأحواز عن أهل البدع والأهواء، والسائرين من السبيل على غير السواء، ومن ينبز بفساد العقد، وتحريف القصد، والتلبس بالصوفية وهوفي الباطن من أهل الفساد، والذاهبين إلى الإباحة وتأويل المعاد، والمؤلفين بين النساء والرجال، والمتبعين لمذاهب الضلال، فمهما عثر على مطوق بالتهمة، منبز بشيء من ذلك من هذه الأمة، فليشد ثقافه شداً، ويسد عنه سبيل الخلاص سداً، ويسترعي في شأنه الموجبات، ويستوعب الشهادات، حتى ينظر في حسم دائه، ويعاجل المرض بدوائه، فليتول ما ذكرنا نائباً بأحسن المناب، ويقصد وجه الله تعالى راجياً منه جزيل الثواب، ويعمل عمل من لا يخاف في الله لومة لاثم ليجد ذلك في موقف الحساب.
وعلى من يقف عليه من القواد والأشياخ والحكام أن يكونوا معه يداً واحدة
(1) المعونة: الضريبة، والجمع معاون.
(2)
الخرص: تخمين الكرم والنخيل خاصة؛ وفي ق: الحرص.
على ما حررنا في هذه الفصول، من العمل المقبول، والعدل المبذول، ومن قصر عن غاية من غاياته، أوخالف مقتضى من مقتضياته، فعقابه عقاب من عصى أمر الله وأمرنا فلا يلم إلا نفسه التي غرته، وإلى مصرع النكير جرته، والله تعالى المستعان انتهى.
ومن ذلك ما خاطب به تربة السلطان الكبير أبي الحسن المريني لما قصدها عقب ما شرع في جواره وتوسل إلى أغراضه إلى وبده رحم الله تعالى الجميع:
السلام عليك ثم السلام، أيها المولى الهمام الذي عرف فضله الإسلام، وأوجبت حقه العلماء الأعلام، وخفقت بعز نصره الأعلام، وتنافست في إنفاذ أمره ونهيه السيوف والأقلام. السلام عليك أيها المولى الذي قسم زمانه بين حكم فصل، وإمضاء نصل، وإحراز خصل، وعبادة قامت من اليقين على أصل. السلام عليك يا مقرر الصدقات الجارية، ومشبع البطون الجائعة وكاسي الظهور العارية، وقادح زناد العزائم الوارية، ومكتب الكتائب الغازية في سبيل الله تعالى والسرايا السارية. السلام عليك يا حجة الصبر والتسليم، وملتقى أمر الله تعالى بالخلق المرضي والقلب السليم، ومفوض الأمر في الشدائد إلى السميع العليم، ومعمل البنان الطاهر في اكتتاب الذكر الحكيم. كرم الله تعالى تربتك وقدسها، وطيب روحك الزكية وآنسها، فلقد كنت للدهر جمالاً، وللإسلام ثمالاً، وللمستجير مجيراً، وللمظلوم ولياً ونصيراً؛ لقد كنت للمحارب صدراً، وفي المواكب بدراً، وللمواهب بحراً، وعلى العباد والبلاد ظلاً ظليلاً وستراً؛ لقد فرعت أعلام عزك الثنايا، وأجزلت همتك لملوك الأرض الهدايا.
كأنك لم تعرض الجنود، ولم تنشر البنود، ولم تبسط العدل المحدود، ولم توجد الجود، ولم تزين الركع السجود، فتوسدت الثرى، وأطلت الكرى، وش ربت الكأس التي يشربها الورى، وأصبحت ضارع الخد، كليل الحد
سالكاً سنن الأب والجد، لم تجد بعد انصرام أجلك، إلا صالح عملك، ولا أصبحت لقبرك، إلا رابح تجرك، وما أسلفت من رضاك وصبرك، فنسأل الله تعالى أن يؤنس اغترابك، ويجود بسحاب الرحمة ترابك، وينفعك بصدق اليقين، ويجعلك من الأئمة المتقين، ويعلي درجتك في عليين، ويجعلك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين.
وليهنك أن صير الله تعالى ملكك من بعدك، إلى نير سعدك، وبارق رعدك، ومنجز وعدك، أرضى ولدك، وريحانة خلدك، وشقة نفسك، والسرحة المباركة من غرسك، ونور شمسك، وموصل عملك البر إلى رمسك، فقد ظهر عليه أثر دعواتك، في خلواتك وأعقاب صلواتك، فكلمتك والمنة لله تعالى باقية، وحسنتك إلى محل القبول راقية، يرعى بك الوسيلة، ويتمم مقاصدك الجميلة، أعانه الله تعالى ببركة رضاك على ما قلده، وعمر بتقواه يومه وغده، وأبعد في السعد أمده، وأطلق بالخير يده، وجعل الملائكة أنصاره والأقدار عدده.
وإنني أيها المولى الكريم، البر الرحيم، لما اشتراني، وراشني وبراني، وتعبدني بإحسانه، واستعمل في استخلاصي خط بنانه، ووصية لسانه، لم أجد مكافأة إلا التقرب إليك وإليه برثائك، وإغراء لساني بتخليد عليائك، وتعفير الوجنة في حرمك، والإشادة بعد الممات بمجدك وكرمك، ففتحت الباب في هذا الغرض، إلى القيام بحقك المفترض، الذي لولاه لاتصلت الغفلة عن ادائه وتمادت، فما يبست الألسن ولا كادت، متحيزاً بالسبق، إلى أداء هذا الحق، بادئاً بزيارة قبرك الذي هورحلة الغرب ما نويته من رحلة الشرق، وما أعرضت عنه فاقطعه أثر مواقع الاستحسان، وقد جمع بين الشكر والتنويه والإحسان، والله سبحانه يجعله عملاً مقبولاً، ويبلغ فيه من القبول مأمولاً، ويتغمد من ضاجعته من سلفك الكرام بالمغفرة الصيبة، والتحيات الطيبة، فنعم الملوك الكبار
والخلفاء الأبرار، والأئمة الأخيار، الذين كرمت منهم السير وحسنت الأخبار، وسعد بعزماتهم الجهادية المؤمنون وشقي الكفار، وصلوات الله تعالى عوداً وبدءاً على الرسول الذي اصطفاه واختاره فهوالمصطفى المختار، وعلى آل وأصحابه الذين هم السادة الأبرار، وسلم تسليماً انتهى.
100 -
وقال لسان الدين رحمه الله تعالى: ومما خاطبت به الوزير المتغلب على الملك بالمغرب ما نصه:
لا ترج إلا الله في شدة
…
وثق به فهو الذي أيدك
حاشاك أن ترجو إلا الذي
…
في ظلمة الحشاء قد أوجدك
فاشكره بالرحمة في خلقه
…
ووجهك ابسط بالرضى أو يدك
والله لا تهمل ألطافه
…
قلادة الحق الذي قلدك
ما أسعد الملك الذي سسته
…
يا عمر العدل، وما أسعدك نخص الوزير الذي بهر سعده، وحمد في المضاء قصده، وعول على الشيم التي اقتضاها مجده، وأورثه إياها أبووجده، الوزير عمر الكذا ابن الشيخ الكذا، أبقاه الله تعالى ثابت القدم، خافق العلم، شهيراً حديث سعده في الأمم، مثلاً خبر بسالته وجلالته في العرب والعجم.
تحية معظم مجده الكبير، المستند إلى عهده الوثيق وحسبه الشهير، المسرور بما سناه الله تعالى له من نجح التدبير، والنصر العديم النظير، وإنجاده إياه عند إسلام النصير، وفراق القبيل والعشير، ابن الخطيب، واليد ممدودة إلى الله تعالى في صلة سعد الوزير - أبقاه الله تعالى - ودوام عصمته، واللسان يطنب ويسهب في شكر نعمته، والأمل متعلق بأسبابه الكريمة وأذمته، وقد كان شيعه مع الشفقة التي أذابت الفؤاد، وألزمت الأرق والسهاد، على علم بأن عناية الله تعالى عليه عاكفة، وديم آلائه لديه واكفة، فإن الذي أقدره وأيده
ونصره، وأنفذت مشيئته ما دبره، كفيل بإمداده، وملي بإسعاده، ومرجولإصلاح دنياه ومعاده، وفي أثناء هذه الأراجيف استولى على معظم وزاراته الجزع، وتعاورته الأفكار تأخذ وتدع، فإني كما يعلم الوزير أعزه الله تعالى منقطع الأسباب، مستوحش من الجهة الأندلسية على بعد الجناب، ومستعدى علي بكوني من المعدودين فيمن له من الخلصان والأحباب، فشرعت في نظر احصل منه على زوال اللبس، وأمان النفس، في أثنائه، وتمهيد أساس بنائه، ورد البشير بما سناه الله تعالى لسيدي وجابر وكسري، ومنصفي بفضل الله تعالى من دهري، من الصنع الذي ظهر، وراق نوره وبهر، فأمنت وإن لم أكن ممن جنى، وحفتني المسرات بين فرادى وثنى، وانشرح بفضل الله تعالى صدري، وزارتني النعم والتهاني من حيث أدري ولا أدري، ووجهت الولد الذي شملته نعمة الوزير وإحسانه، وسبق إليه امتنانه، نائباً عني في تقبيل يده وشكر يده، والوقوف ببابه، والتمسك بأسبابه، آثرته بذلك لأمور: منها المزاولة فيما كان يلزمني من إخوته الأصاغر، وتدريبه على خدمة الجلال الباهر، وإفرادي له بالبركة، ولعائق ضعف عن الحركة، وبعد ذلك أشرع بضل الله تعالى في العمل على تجديد العهد بباب الوزارة العلية، عارضاً من ثنائها ما يكون وفق الأمنية، ورب عمل أغنى عنه فضل نية، والسلاك كريم على سيدي ورحمة الله تعالى وبركاته.
101 -
قال: وكتبت إليه أيضاً على أثر الفتح الذي تكيف له:
" سيدي الذي أسر بسعادته، وظهور عناية الله تعالى به في إبدائه وإعادته، وأعلم كرم مجادته، وأعترف بسيادته، الوزير الميمون الطائر، الجاري حديث سعده ومضائه مجرى المثل السائر، أبقاه الله تعالى عزيز الأنصار، جارية بيمن نقيبته حركة الفلك الدوار، معصوماً من المكاره بعصمة الواحد القهار؛
معظم سيادته الرفيعة الجانب، وموقر وزارته الشهيرة المناسب، الداعي إلى الله تعالى بطول بقائه في عز واضح المذاهب، وصنع واكف السحائب، ابن الخطيب، عن الذي يعلم سيدي من لسان طلق بالثناء، ويدممدودة إلى الله تعالى بالدعاء، والتماس لما يعد من جزيل النعماء، والفتح الذي تفتح له أبواب السماء، وقد اتصل ما سناه الله تعالى له من النصر والظهور، والصنع البادي السفور، لما التقى الجمعان، وتهوديت اكواس الطعان، وتبين الشجاع من الجبان، وظهر من كرات سيدي وبسالته ما تحدث به ألسنة الركبان، حتى كانت الطائلة لحزبه، وظهرت عليه عناية ربه، فقلت: الحمد لله الذي جعل سعد عمادي متصل الآيات، واضح الغرر والشيات. وقد كنت بعثت أهنئه بما قدم من صنع جميل، وبلوغ تأميل، فقلت: اللهم أفد علينا التهاني تترى، واجعل الكبرى من نعمتك السالفة بنعمتك الرادفة الخالفة هي الصغرى، واجمع له بين نعم الدنيا والأخرى، والناس - أبقى الله تعالى سيدي - لهم مع الاستناد إليك جهات، وأمور مشتبهات، إلا المحب المتشيع فجهتك هي التي آنست الغربة، وفرجت الكربة، ووعدت بالخير، وضمنت عاقبة الضير، وأنا أرتقب ورود التعريف المولوي على عبيده بهذه المدينة واصل إن شاء الله تعالى لمباشرة الهناء، وقرة العين بمشاهدة الآلاء؛ والله عز وجل يديم سعادة سيدي ويطيل بقاءه، ويرادف قبلة وآلاءه، بفضله انتهى.
102 -
وقال: ومما خاطبت به المذكور وأنا ساكن بسلا:
أيا عمر العدل الذي مطل المدى
…
يوعد الهدى حتى وفيت بدينه
ويا صارم الملك الذي يستعده
…
لدفع عداه أولمجلس زينه
هنت عينك اليقظى من الله عصمة
…
كفت وجه دين الله موقع شينه
وهل أنت إلا الملك والدين والدنا
…
ولا يلبس الحق المبين بمينه
إذا نال منك العين ضر فإنما
…
أصيب به الإسلام في عين عينه
الوزير الذي هوللدين الوزر الواقي، والعلم السامي المراقب والمراقي، والحلي المقلد فوق الترائب والتراقي، والكنز المؤمل والذخر الباقي، حجب الله تعالى العيون عن عين كمالك، وصير الفلك الدوار مطية آمالك، وجعل اتفاق اليمن مقروناً بيمينك، وانتظام الشمل معقوداً بشمالك.
" اعلم أن مطلق لسان الثناء على مجدك، والمستضيء على البعد بنور سعدك، ومعقود الرجاء بعروة وعدك، لا يزال في كل ساعة يسحب الفلك فيه ذيلها، ويعاقب يومها وليلها، مصغي الأذن إلى نبإ يهدي عنك لله تعالى دفاعاً، أويمد في ميدان سعدك باعاً، وأنت اليوم النصير على الدهر الظلوم، وآسي الكلوم، وذوالمقام المعلوم، فتعرفت أن بعض ما يتلاعب به بين أيدي السادة الخدام، وتتفكه به المثاقفة والأفدام (1) ، من كرة مرسلة الشهاب، أونارنجة ظهر عليها من اسمها صبغة الالتهاب، حومت حول عينك لا كدر صفاؤها، ولا هدم فوق مهاد الدعة والأمن إغفاؤها، فرعت حول حماها، ورامت أن تصيب فخيب الله تعالى مرماها:
نرى السوء مما نتقي فنها به
…
وما لا نرى مما يقي الله أكثر (2) " فقلت: مكروه أخطأ سهمه، وتنبيه من الله تعالى لمن نبل عقله وفهمه، ودفاع قام دليله، وسعد أشرق جليله، وأيام أعربت عن إقبالها، وعصمة غطت بسربالها، وجوارح جعل الله تعالى الملائكة تحرسها، فلا تغتالها الحوادث ولا تفترسها، والفطن يشعر بالشيء وإن جهل أسبابه، والصوفي يسمع من الكون جوابه، فبادرت أهنئه تهنئة من يرى تلك الجوارح الكريمة أعز عليه من جوارحه، ويرسل طير الشكر له تعالى في مساقط اللطف الخفي ومسارحه،
(1) المثاقفة: أهل الثقافة أي الذين يصارعون الحيوانات المتوحشة؛ والأفدام: الحمقى.
(2)
مر هذا البيت وقصته بين الأمير عبد الرحمن ووزيره الزجالي في المجلد 3 ص: 539، 613.
وسألته سبحانه أن يجعلك عن النوائب حجراً (1) لا يقرب، وربعك ربعاً لا يخرب، ما سبح الحوت ودب العقرب، ثم إنني شفعت الهناء ووترته، وأظهرت السرور فما سترته، بما سناه لتدبيرك من مسالمة تكذب الإرجاف، وتغني عن الإيجاف، وتخصب للإبل العجاف، وتريح من كيد، وتفرغ إلى مجادلة عمرووزيد، وكأني بسعدك قد سدل الأمان، وعدل الزمان، وأصلح الفاسد، ونفق الكاسد، وقهر الروع المستاسد، وسر الحبيب وساء الحاسد، والسلام انتهى.
103 -
ومن إنشاء لسان الدين رحمه الله تعالى ما خاطب به الرئيس عامر ابن محمد بن علي الهنتاني معزياً له عن أخيه عبد العزيز:
أبا ثابت كن في الشدائد ثابتاً
…
أعيذك أن يلفى حسودك شامتا
عزاؤك عن عبد العزيز هو الذي
…
يليق بعز منك أعجز ناعتا
فدوحتك الغناء طالت ذوائباً
…
وسرحتك الشماء طابت منابتا
لقد هد أركان الوجود مصابه
…
وأنطق منه الشجو من كان صامتا
فمن نفس حر أوثق الحزن كظمها
…
ومن نفس بالوجد أصبح خافتا
هو الموت للإنسان فصل لحده
…
وكيف ترجي أن تصاحب مائتا
وللصبر أولى أن يكون رجوعنا
…
إذا لم نكن بالحزن نرجع فائتا اتصل بي أيها الهمام، وبدر المجد الذي لا يفارقه التمام، ما جنته على عليائك الأيام، واقتنصه محلق الردى بعد أن طال الحيام، وما استأثر به الجمام، فلم يغن الدفاع ولا نفع الذمام، من وفاة صنوك الكريم الصفات، وهلاك وسطى الأسلاك، وبدر الأحلاك، ومجير الأملاك، وذهاب السمح الوهاب، وأنا لديغ صل الفراق، الذي لا يفيق بألف راق، وجريح سهم
(1) الحجر: الممنوع المحمي.
البين، ومجاري العيون الجارية بدمع العين، لفقد أنيس سهل علي مضض النكبة، ونحى ليث الخطب عن فريستي بعد صدق الوثبة، وآنسني في الاغتراب، وصحبني إلى منقطع التراب، وكفل أصاغري خير الكفالة، وعاملني من حسن العشرة بما سجل عقد الوكالة، انتزعه الدهر من يدي حيث لا أهل ولا وطن، والاغتراب قد ألقى بعطن، وذات اليد يعلم حالها من يعلم ما ظهر وما بطن، ورأيت من تطارح الأصاغر على شلوالغريب، النازح عن النسيب والقريب، ما حملني على أ، جعلت البيت له ضريحاً، ومدفناً صريحاً، لاخدع من يرى أنه لم يزل مقيماً لديه، وأن ظل شفقته منسحب عليه، فأعيا مصابي عند ذلك القرح، وأعظم الظمأ البرح، ونكأ القرح القرح، إذ كان ركناً قد بنته لي يد معرفتك، ومتصفاً في البر بي والرعي لصاغيتي بكريم صفتك، فوالهفا عليه من حسام، وعز سام، وأياد جسام، وشهرة بين بني حام وسام، أي جمال خلق، ووجه للقاصد طلق، وشيم تطمح للمعالي بحق، وأي عضد لك يا سيدي الأعلى لا يهن إذا سطا، ولا يقهقر إذا خطا، يوجب لك على تحليه بالشيبة، ما توجبه البنوة من الهيبة، ويرد ضيفك آمناً من الخيبة، ويسد ثغرك عند الغيبة، ذهبت إلى الجزع فرأيت مصابه أكبر، ودعوت بالصبر فولى وأدبر، واستنجدت الدمع فنضب، واستصرخت الرجاء فأنكر ما روى واقتضب، وبأي حزن يلقى عبد العزيز وقد جل فقده، اويطفأ لاعجه وقد عظم وقده، اللهم لوبكى بندى أياديه، أوبغمائم غواديه، أوبعباب واديه، وهي الأيام أي شامخ لم تهده، أوجديد لم تبله وإن طالت المدة فرقت بين التيجان والمفارق، والخدود والنمارق، والطلى والعقود، والكأس وابنة العنقود، فما التعلل بالفان، وإنما هي إغفاءة أجفان، والتشبث بالحبائل، وغنما هوظل زائل والصبر على المصائب، ووقوع سهمها الصائب، أولى ما اعتمد طلاباً، ورجع إليه طوعاً أوغلاباً، فأنا يا سيدي أقيم رسم التعزية، وإن بؤت بمضاعف المرزية، ولا عتب على القدر، في الورد من الأمر والصدر، ولولا أن هذا الواقع مما لا
يجدي فيه الخلصان، ولا يغني فيه اليراع ولا الخرصان، لأبلى جهده من أقرضتموه معروفاً، وكان بالتشيع إلى تلك الهضبة معروفاً، لكنها سوق لا ينفق فيها إلا سلعة التسليم، للحكيم العليم، وطي الجوانح على المضض الأليم، ولعمري لقد خلدت لهذا الفقيد وإن طمس الحمام محاسنه الوضاحة، لما كبس منه الساحة، صحفاً منشرة، وثغوراً بالحمد موشرة، يفخر بها بنوه، ويستكثر بها مكتسبوالحمد ومقتنوه، وأنتم عماد البازة، وعلم المفازة، وقطب المدار، وعامر الدار، وأسد الأجمة، وبطل الكتيبة الملجمة، وكافل البيت، والستر على الحي والميت، ومثلك لا يهدي إلى نهج لاحب، ولا ترشده نار الحباحب، ولا ينبه على سنن نبي كريم أوصاحب، قدرك أعلى، وفضلك أجلى، وأنت صدر الزمان بلا مدافع، وخير معل لأعلام أفضل ورافع، وأنا وإن أخرت فرض بيعتك لما خصتني من المصاب، ونالني من الأوصاب، ونزل بي من جور الزمان الغصاب، ممن يقبل عذره الكرم، ويسعه الحرم المحترم، والله سبحانه الكفيل لسيدي وعمادي بقاء يكفل به الأبناء وأبناء الأبناء، ويعلي لقومه رتب العز سامية البناء، حتى لا يوحش مكان فقيد مع وجوده، ولا يحس بعض زمان مع جوده، ويقر عينه في ولده وولد ولده، ويجعل أيدي مناويه تحت يده، ولاسلام.
104 -
وخاطبه لسان الدين أيضاً بما نصه:
سيدي الذي هورجل المغرب كله، والمجمع على طهارة بيته وزكاء أصله، علم أهل المجد والدين، وبقية كبار الموحدين.
بعد السلام الذي يجب لتلك اجلالة الراسخة القواعد، السامية المصاعد، والدعاء له أن يفتح لك في مضيقات هذه الأحوال مسالك التوفيق، ويمسكك من عصمته بالسبب الوثيق، أعرفك أن جبلك اليوم وقد عظم الرجفان، وفاض التنور وطغى الطوفان، تؤمل النفوس الغرقى جودي جوده، وتغتبط غاية
الاغتباط بوجوده. ووالله لولا العلائق التي يجب لها الالتزام، ما وقع على غير قصدك الاعتزام، والله تعالى يمدك بإعانته على تحمل القصاد، ويبقي محلك رفيع العماد كثير الرماد، ويجعل أبا يحيى خلفاً منك بعد عمر النهاية البعيد الآماد، ويبقي كلمة التوحيد فيكم إلى يوم التناد. وحامله القائد الكذا معروف النباهة والجهاد، ومحله لا ينكر في الفؤاد، لما اشتبهت السبل، والتبس القول والعمل، لم يجد أنجى من الركون إلى جنابك، والتمسك بأسبابك، والانتظام في جملة خواصك وأحبابك، حتى ينبلج الصبح، ويظهر النجح، ويعظم المنح، ويكون بعد هجرته الفتح، ومثلكم من قصد وأمل، وأنضي إليه المطي وأعمل، وأما الذي عندي من القيام بحق تلك الذات الشريفة، والقول بمناقبها المنيفة، فهوشيء لا تفي به العبارة، ولا تؤديه الألفاظ المستعارة، والله تعالى المسؤول في صلة عوسيدي ودوام سعده، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته انتهى.
105 -
وقال لسان الدين رحمه الله تعالى: ومما خاطبت به شيخ الدولة - وقد استقل من رمض - ما نصه:
لا أعدم الله دار الملك منك سناً
…
يجلي به الحالكان الظلم والظلم
وأنشدتك الليالي وهي صادقة
…
" المجد عوفي إذ عوفيت والكرم "(1) من علم - أعلى الله تعالى قدرك - أن المجد جواد حلاك شياته، لا بل الملك بدر أنت آياته، لا بل الإسلام جسم أنت حياته، دعا منك بالبقاء لمجد يروق بك جبينه، وملك تنيره وتزينه، ولدين تعامل الله تعالى بإعزازه وتدينه، فلقد ألمت نفوس المؤمنين لآلامك، ووجم الإسلام لتوقع إسلامك، وخفقت الأعلام لتأخر إطرافك بمصالح الملك وإعلامك، فإنما أنامل الدين والدنيا متشبثة بأذيال أيامك، ورحال الأمل مخيمة بين حلالك وخيامك،
(1) صدر بيت للمتنبي، وعجزه " وزال عنك إلى أعدائك الألم ".
فإذا قابلت الأشراف نعم الله تعالى بشكر، ورمت الغفلة عن ذلك بنكر، فاشكره جل وعلا بملء لسانك وجنانك، واجر في ميدان حمده مطلقاً من عنانك، على ما طوقك من استرقاق حر، وإفاضة أياد غر، واقتناء عسجد من الحمد ودر، وإتاحة نفع ودفع ضر، وإدالة حلومن مر، وكن على ثقة من مدافعة الله تعالى عن حماك، وعز تبلغ ذوائبه السماك، ورزق يجره فأل منتماك، ودونك مجلس الإمامة فقد تدبيره بزمامك، وحظوة الخلافة فاستحقها بوسائلك القديمة وذمامك، ومحاسن الدولة فاجلها على منصة إمامك، ورسوم البر فأغر بها عين اهتمامك، وذروة المنبر فأمض بها ظبة حسامك، وأجن الآملين زهر الأيادي البيض من كمائم أكمامك، فيا عز دولة بك - يا جملة الكمال - قد استظهرت، وأذلت المعاند وقهرت، وبإعمال آرائك اشتهرت، فراقت فضائلها وبهرت: جوالة كما شق الجوجارح، ولطافة كما طارح نم التأليف مطارح، وفكر في الغيب سارح، ودين لغوامض الحلم والعدل شارح، ومكارم محت آثار الكرماء ونسخت، وحلت عقود أخبار الأجواد في الأعصار وفسخت، فلم تدع لفضل الفضل ذكراً، وتركت معروف يحيى بن خالد نكراً، لا بل لم يبق لكعب، من علوكعب، وأنست دعوة حاتم، بأي ماح وخاتم، قصاره شيء حوار، ومنع حوار، وعقر ناب، عند اقشعرار جناب، وأين يقع من كبر قدر ترفع عن الكبر، وجود خضب الأيدي بحناء التبر، وعز استخدم الأسل الطوال بيراع أقل من الشيبر، وحقن الدماء المراقة بإراقة نجيع الحبر، وفك العقال، ورفع النوب الثقال، وراع الذرة والمثقال، وعثر الزمان فأقال، ووجد لسان الصدق فقال.
أقسم ببارئ النسم، وهوأبر القسم، ما فازت بمثلك الدول، ولا ظفرت بمثلك الملوك الأواخر والأول، ولوتقدمت لم يضرب إلا بك المثل، ولم يقع إلا على سنتك وكتابك والإجماع المنعقد على آدابك العمل، والمملوك لما شام مالكه برق العافية، وتدرع بالألطاف الخافية، كتب مبشراً بالهناء، ومذيعاً
ما يجب من الحمد والثناء، وشاكراً ما له بوجوده من الاعتناء، فقد بادر ركن الدين بالبناء، وأبقى الستر والمنة على الآباء والأبناء، فنسأل الله تعالى أن يمتع منك بأثير الملوك، ووسطى السلوك، وسلالة أرباب المقامات والسلوك، ويبقيك وحصة الصحة وافرة، وغرة العزة القعساء سافرة، وغادة عادة السعادة غير نافرة، وكتيبة الأمل في مقامك السعيد غانمة ظافرة، ما زحفت للصباح شهب المواكب، وتفتحت بشط نهر المجرة أزهار الكواكب، والسلام انتهى.
106 -
ومن ذلك ما خاطب به سيدي أبا عبد الله ابن مرزوق، جواباً عن كتابه، وقد استقر خطيب السلطان بتونس:
ولما أن نأت منكم ديار
…
وحال البعد بينكم وبيني
بعثت لكم سواداً في بياض
…
لأنظركم بشيء مثل عيني بم أفاتحك يا سيدي، وأجل عددي كيف أهدي سلاماً، فلا أحذر ملاماً أوأنتخب لك كلاماً، فلا أجد لتبعة التقصير في حقك الكبير إيلاماً إن قلت: تحية كسرى في الثناء وتبع، فكلمة في مرتع العجمة تربع، ولها المصيف فيه والمربع، والجميم والمنبع، فتروى متى شاءت وتشبع، وإن قلت: إذا العارض خطر، ومهما همى أو قطر، سلام الله يا مطر (1) ، فهوفي الشريعة بطر، وركبة خطر، ولا يرعى به وطن ولا يقضي به وطر، وإنما العرق الأوشج، ولا يستوي البان والبنفسج، والغوسج والعرفج:
سلام وتسليم وروح ورحمة
…
عليك وممدود من الظل سجسج (2)
(1) من قول الشاعر:
سلام الله يا مطر عليها
…
وليس عليك يا مطر السلام (2) البيت لابن الرومي من قصيدته في رثاء يحيى بن عمر العلوي ومطلعها:
أمامك فانظر أي نهجيك تنهج
…
طريقان شتى مستقيم وأعوج والسجسج: البرود.
وما كان فضلك ليمنعني الكفران أن أشكره، ولا لينسيني الشيطان أن أذكره، فاتخذ في البحر سبباً (1) ، أوأسلك غير الوفاء مذهباً، تأبى ذلك - والمنة لله تعالى - طباع، لها في مجال الرعي باع، وتحقيق وإشباع، وسوائم من الإنصاف، ترعى في رياض الاعتراف، فلا يطرقها ارتياع، ولا تخيفها سباع، وكيف نجحد تلك الحقوق وهي شمس ظهيرة، وأذان عقيرة (2) جهيرة، فوق مئذنة شهيرة، آدت الاكتاد لها ديون تستغرق الذمم، وتسترق حتى الذمم، فإن قضيت في الحياة فهي الخطة التي نرتضيها، ولا نقنع من عامل الدهر المساعد إلا أن ينفذ مراسمها ويمضيها، وإن قطع الأجل فالغني الحميد - من خزائنه التي لا تبيد - يقضيها، ويرضي من يقتضيها. وحيا الله تعالى أيها العلم السامي الجلال، زمناً بمعرفتك المبرة على الآمال، بر وأتحف، وإن أساء بفراقك وأجحف، وأعرى بعدما ألحف، وأظفر بالتيمة المذخورة للشدائد والمزاين (3) ، ثم أوحش منها أصونة هذه الخزاين، فآب حنين الأمل بخفيه، وأصبح المغرب غريباً يقلب كفيه، ونستغفر الله تعالى من هذه الغفلات، ونستهديه دليلاً في مثل هذه الفلوات، وأي ذنب في الفراق للزمن، أولغراب الدمن، أوللرواحل المدلجة ما بين الشام إلى اليمن، وما منها إلاعبد مقهور، وفي رمة القدر مبهور، عقد والحمد لله مشهور، وحجة لها على النفس اللوامة ظهور، جعلنا الله تعالى ممن ذكر المسبب في الأسباب، وتذكر " وما يذكر إلا أولوالألباب " البقرة:269، آل عمران:7 قبل غلق الرهن وسد الباب، وبالجملة فالفراق ذاتي، ووعده مأتي، فإن لم يكن فكأن قد، ما أقرب اليوم من الغد، والمرء في الوجود غريب، وكل آت قريب، وما من مقام إلا لزيال، من غير احتيال، والأعمار مراحل والأيام أميال:
(1) ناظر إلى الآية القرآنية: " وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره، واتخذ سبيله في البحر
…
".
(2)
العقيرة: الصوت.
(3)
المزاين: يريد أن الدرة تتخذ لأمور الزينة.
نصيبك في حياتك من حبيب
…
نصيبك في منامك من خيال (1) جعل الله تعالى الأدب مع الحق شانا، وأبعد عنا الفراق الذي شاننا، وإني لأسر لسيدي بأن رعى اله تعالى صالح سلفه، وتداركه بالتلافي في تلفه، وخلص سعادته من كلفه، وأحله من الأمن في كنفه، وعلى قدرها تصاب العلياء، وأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأولياء.
" هذا والخير والشر في هذه الدار، المؤسسة على الأكدار، ظلان مضمحلان، فقد ارتفع، ما ضر أونفع، وفارق المكان، فكأنه ما كان، ومن كلمات الملوك، البعيدة عن السلوك، إلا أن يشاء ملك الملوك (2) :
خذ من زمانك ما تيسر
…
وارتك بجهدك ما تعسر
ولرب مجمل حالة
…
ترضى به ما لم يفسر
والدهر ليس بدائم
…
لا بد أن سيسوء إن سر
واكتم حديثك جاهداً
…
شمت المحدث أوتحسر
والناس آنية الزجا
…
ج إذا عثرت به تكسر
لا تعدم التقوى فمن
…
عدم التفقى في الناس أعسر
وإذا امرؤ خسر الإل
…
هـ فليس خلق منه أخسر وإن لله تعالى في رعيك لسراً، ولطفاً مستمراً مستقراً، إذ ألقاك اليم إلى الساحل، فأخذ بيدك من ورطة الواحل، وحرك منك عزيمة الراحل، إلى الملك الحلاحل، فأدلك من إبراهيمك سمياً، وعرفك بعد الولي وسمياً، ونقلك من عناية إلى عناية، وهوالذي يقول وقوله الحق {ما ننسخ من آية - الآية} (البقرة: 106) .
(1) من قصيدة المتنبي في رثاء أم سيف الدولة.
(2)
الأبيات في مشاهدات لسان الدين: 115.
" وقد وصل كتاب سيدي يحمد - والحمد لله - العواقب، ويصف المراقي التي حلها والمراقب، وينشر المفاخر الحفصية والمناقب، ويذكر ما هيأه الله تعالى لديها من إقبال، ورخاء بال، خصيصي اشتمال، ونشوة آمال، وأنه اغتبط وارتبط، وألقى العصا بعدما خبط، ومثل تلك الخلافة العلية من تزن الذوات المخصوصة من الله تعالى بتشريف الأدوات بميزان تمييزها، وتفرق بين شبه المعادن وإبريزها، و " شبه الشيء " مثل معروف (1)، ولقد أخطأ من قال: الناس ظروف، إنما هم شجرات ريع في بقعة ماحلة، وإبل مائة لا تجد فيها راحلة (2) ، وما هوإلا اتفاق، ونجح للمسلك وإخفاق، وقلما كذب إجماع وإصفاق، والجليس الصالح لرب سياسة أمل مطلوب، وحظ إليه مجلوب، وإن سئل أطرف، وعمر الوقت ببضاعة أشرف، وسرق الطباع، ومد في الحسنات الباع، وسلى في الخطوب، وأضحك في اليوم القطوب، وهدى إلى أقوم الطرق، وأعان على نوائب الحق، وزرع له المودة في قلوب الخلق، زاد الله تعالى سيدي لديها قرباً أثيراً، وجعل فيه للجميع خيراً كثيراً، بفضله وكرمه.
ولعلمي بأنه - أبقاه الله تعالى - يقبل نصحي، ولا يرتاب في صدق صبحي، أغبطه بمثواه، وانشده ما حضر من البديهة في مسارة هداه ونجواه:
بمقام إبراهيم عذ واصرف به
…
فكراً تؤرق عن بواعث تنبري
فجواره حرم وأنت حمامة
…
ورقاء والأغصان هود المنبر
فلقد أمنت من الزمان وريبه
…
وهو المروع للمسيء وللبري " وإن تشوف سيدي فلعمر وليه لوكان المطوب دنيا لوجب وقوع الاجتزاء،
(1) من قول المتنبي:
وشبه الشيء منجذب إليه
…
وأشبهنا بدنيانا الطغام (2) من حديث للرسول (ص) : " الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة ".
ولاغتبط بما تحصل في هذه الجزور، المبيعة في حانوت الزور، من السهام الوافرة الأجزاء، فالسلطان - رعاه الله تعالى - يوجب ما فوق مزية التعليم، والولد - هداهم الله تعالى - قد أخذوا بحظ قل أن ينالوه بغير هذا الإقليم، والخاصة والعامة تعامل بحسب ما بلته من نصح سليم، وترك لما بالأيدي وتسليم، وتدبير عاد على عدوها بالعذاب الأليم، إلا من أبدى السلامة وهومن إبطان الحسد بحال السليم، ولا ينكر ذلك في الحديث ولا في القديم، ولكن النفس منصرفة عن هذا الغرض، نافضة يدها من العرض، قد فوتت الحاصل، ووصلت في الله تعالى القاطع وقطعت الواصل، وصدقت لما نصح الفود الناصل، وتأهبت للقاء الحمام الواصل، وقلت:
انظر خضاب الشباب قد نصلا
…
وزائر الأنس بعده انفصلا
ومطلبي والذي كلفت به
…
حاولت تحصيله فما حصلا
لا أمل مسعف ولا عمل
…
ونحن في ذا والموت قد وصلا والوقت إلى الإمداد منكم بالدعاء في الأصائل والأسحار، إلى مقيل العثار، شديد الافتقار، والله عز وجل يصل لسيدي رعي جوانبه، ويتولى تيسير آماله من فضله العميم ومآرب، وأقرأ عليه من التحيات، المحملة من فوق رحال الأريحيات، أزكاها، ما أوجع البرق الغمائم فأبكاها، وحسد الروض جمال النجوم الزواهر فقاسها بمباسم الأزهار وحكاها، واضطبن (1) هرم الليل عند الميل عصا الجوزاء وتوكاها، ورحمة الله تعالى وبركاته انتهى.
107 -
ومما خاطب به لسان الدين - رحمه الله تعالى - ابن مرزوق المذكور قوله:
(1) اضطبن العصا: وضعها تحت ضبنه ليتوكأ عليها، والضبن: ما بين اخاصرة ورأس الورك.
سيدي، وعمادي، كشف قناع النصيحة من وظائف صديق، أوخديم لصيق، وأنا بكلتا الجهتين حقيق، ويتلجلج في صدري كلام أنا إلى نفثه ذواحتياج، ولوفي سبيل هياج، وخرق سياج، وخوض دياج، وقد أصبحت سعادتي عن أصل سعادتك فرعاً، فوجب النصح طبعاً وشرعاً، فليعلم سيدي أن الجاه ورطة، والاستغراق في تيار الدول غلطة، وبمقدار العلو - إلا أن يقي الله تعالى - تكون السقطة، وأنه - والله تعالى يعصمه من الحوادث، ويقيه من الخطوب الكوارث - وإن تبعه الجم فهومفرد، وبسهام الحسدة مقصد، وأن الذي يقبل يده، يضمر حسده، وما من يوم إلا والعلل تستشري، والحيل تريش وتبري، وسموم المكايد تسري، والعين الساهرة تطرق العين النائمة من حيث تدري ولا تدري، وهذا الباب الكريم مخصوص بالزيادة والبركة، وخصوصاً في مثل هذه الحركة، فثم ظواهر تخالف السرائر، وحيل تصيب في الجوالطائر، وما عسى أن يتحفظ المحسود، وقد عوت الكلاب وزأرت الأسود، وإن ظن سيدي أن الخطة الدينية تذب عن نفسها، أوتنفع مع غير جنسها، فذلك قياس غير صحيح، وهبوب الريح، وإنما هي درجة فوق الوزارة والحجابة، ودهر يدعى فيبادر بالإجابة، وجاه يجر على القبيل الأذيال، ويفيد العز والمال، وبحر هال، وصدور تحمل الجبال، وإن قطع بالأمان، من جهة السلطان، لم يؤمن أن يقع فيه، والله سبحانه يقيه، ويمتع به ويبقيه، ما البشر بصدده، والحي يجري إلى أمده، فيستظهر الغير بقبيل، ويجري من التغلب على سبيل، ويبقى سيدي - والله تعالى يعصمه - طائراً بلا جناح، ومحارباً دون سلاح، ينادي من مكان يثق بوده في طلل، ويقرع سن النادم والأمر جلل، ومثله بين غير صنفه - ممن لا يتصف بظرف، ولا يلتفت إلى الإنسانية بطرف، ولا يعبد الله تعالى ولوعلى حرف - محمول عليه من حيث الصنفية، معتمد بالعداوة الخفية، وإن ظن غير هذا فهومخدوع مسحور، ومفتون مغرور، وبالفكر في الخلاص تفاضلت النفوس، واستدفع البوس، وله وجوه كلها متعذر
الحصول، دونه بيض النصول، إلا ما كان من الغرض الذي بان فيه بعد الجد الفتور، وعدل عنه وقد أخذ الدستور، وتيسرت الأمور، وتقررت الإيمان والنذور، فإنه عرض قريب وسفر قاصد (1) ، ومسعى لا ينفق فيه سيدي من ماتله درهم واحد، ووطن لحركته راصد، لا يمنع عليه أهله، ولا يستصعب سهله، وأميره جبره الله تعالى يتطارح في تعيينكم لاقتضائه، وإحكام آرائه، وتأمين خائفه، واستقدام أصنافه وطوائفه، وتتحركون حركة العز والتنويه، والقدر النبيه، لا يعوزكم ممن وراءكم مطلب، ولا يلفى عن مخالفتكم مذهب، ولا يكدر لكم مشرب.
وتمر أيام وشهور، وتظهر بطون للدهر وظهور، وتفتح أبواب، وتسبب أسباب، من رجوع يتأتى بعد السكون والفتور، وقد سكنت الخواطر وتنوعت الأمور، أومقام تمهد به البلاد، ويعمل في ترتيب الصلة الحسنة الاجتهاد، وتستغرق في هذا الغرض الآماد، ويتأتى أن حدث وتراكم حادث الاستقلال والاستبداد، تتهنأ فيه الأعمار، ويكون لمن ينتقل به على الشرق والغرب الخيار، أوالتحكم في ذخيرة سما منها المقدار، وذهل عند مشاهدتها الاعتبار، وخزانة الكتب بجملتها وفيها الأمهات الكبار، قد تجافت عنها الحاجة وعدم إليها الاضطرار، والربع الذي يسوغ بالشرع والعقار، فهذا كله حاصل، وثم ضامن لا يتهم وكافل، وعهود صبغها غير ناصل.
وبالجملة فالوطن لأغراض الملك جامع، ولمقاصده من المقام أوالانتقال مطيع وسامع، وإن توقع إثارة فتنة، أوارتكاب إحنة، فالأمر أقرب، وحاله المتيسر أغرب، وهذه الحجة في تلمسان غير معتبرة، وأجوبتها مقررة، وقدوم رسول الطاغية وإعانته تحصل في الغالب، على هذه المطالب، وبالجملة فالدنيا
(1) من الآية الكريمة (التوبة: 42)" لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لاتبعوك ".
قد اختلت، والأقدام قد زلت، والأموال قد قلت، وشبيبة الدهر ولت، وذلك القطر على علاته أحكم لمن يروم الجاه وامنع، وأجدى بكل اعتبار وأنفع، وقد حضرت لاستخلاصكم إياه الآلة التي لا تتأتى في كل زمان، وتهيأ إمكان أي إمكان، واقتضيت أيمان، وعرضت سلع تقل لها أثمان، وارتهنت الوفاء، ومروءات وأديان، وتحقق بذلك القطر الفساد الذي اشتهر به مأموره وأموره وأميره، والمنكر الذي يجب على كل مسلم تغييره، فإن شئت شرعاً فالحكم ظاهر، أوطبعاً فالطبع حاضر، وما ثم عاذل بل عاذر، والمؤونة التي تلزم أقل من أن تكون ثمن بعض الحصون، فضلاً عن الشجرة ذات الغصون، وما يستهلك في هذا الغرض شيء له خطر، ولا يستنقذ من الصحيفة سطر، واليد محكمة بكل أوشطر.
وما يخص المملوك من هذا الأمر إلا استنقاذ نشب، واستخلاص مؤمل بين موروث ومكتسب، وبعيد أ، لا ينعر له في زمن من الأزمان، فلا بد في كل وقت من أعيان، ومروءات وإحسان وأديان، والله سبحانه كل يوم هوفي شان، وأما خدمة دوله فهي علي حرام، لا ينجح لي فيها أن أعتمدها مرام، وكأني بالمشرق لاحق، ولأنفاسه الذكية ناشق، فما هي إلا أطماع، سرابها لماع، فإذا انقطعت، انفسحت الدنيا واتسعت، ومعاش في غمار، أوعكوف في كسر دار، لمداومة استقالة واستغفار، والله ما توهم أن من بتلك البلاد يستنسر بغاثه عليكم، أويحتقر ما لديكم، فقد ظهر الكائن، وتطابق المخبر والمعاين، فسبحان من يقوي الضعيف ويهين المخيف، ويجري يد المشروف والشريف، والهمم بيد الله تعالى ينجدها ويخذلها، والأرض في قبضته يرعاها ويهملها.
هذا بث لا يسع إفشاؤه، وسر إن لم يطوسقط به على السرحان شاؤه (1) ،
(1) أصل المثل " سقط العشاء به على سرحان "، ولعل القراءة الصحيحة:" عشاؤه ".
وفيه ما ينكره الآمر، وتتعلق به الظنون وتعمل الخواطر، فتدبروه واعتبروه، وبعقلكم فاسبروه، ثم غطوه بالإحراق واستروه، والله تعالى يرشدكم للتي هي أسد، ويحملكم على ما فيه لكم العز السرمد، والفخر الذي لا ينفذ والسلام " (1) انتهى.
108 -
وقال رحمه الله تعالى: ومما صدر عني ما أجبت به عن كتاب بعث به إلي الفقيه الكاتب عن سلطان تلمسان أبي عبد الله محمد بن يوسف القيسي الثغري:
" حيا تلمسان الحيا فربوعها
…
صدف يجود بدره المكنون
ما شئت من فضل عميم إن سقى
…
أروى ومن ليس بالمنون (2)
أو شئت من دين إذا قدح الهدى
…
أورى ودنيا لم تكن بالدون
ورد النسيم لها بنشر حديقة
…
قد أزهرت أفنانها بفنون
وإذا حبيبة أم يحيى أنجبت
…
فلها الشفوف على عيون العين ما هذا النشر، والصف والحشر، واللف والنشر، والفجر والليالي العشر، شذاً كما تنفست دارين، وسطور رقم حللها التزيين، وبيان قام على إبداعه البرهان المبين، ونقس، وشي به طرس، فجاء كأنه عيون العين، لا بل ما هذه الكتائب الكتيبة التي أطلعت علينا الأعنة، وأشرعت إلينا الأسنة، وراعت الإنس والجنة، فأقسم بالرحمن، لوأنها رفعت شعار الأمان، وحييت بتحية الإيمان، لراعت السرب، وعاقت الذود أن يرد الشرب، أظنها مدد الجهاد قدم، وشارد استعمل في سبيل الله واستخدم، والمتأخر على ما فاته ندم، والعزم وجد بعدما عدم، نستغفر الله، إنما هي رقاع الرفاع (3) ،
(1) ورى لسان الدين في هذه الرسالة عن أمور وحاطها بالغموض ولذا طلب أن تحرق الرسالة.
(2)
المن: الفضل؛ والممنون: المقطوع.
(3)
ق: رقاقع رقاع؛ والرفاع: رفع الحب بعد الحصاد.
وصلات صلاة ليس فيها سبق ولا إرباع (1) ، وبقاع لها بطل الطباع الكريمة انتفاع، وألحان بيان يعضدها إيقاع، ودر منسوق، ورطب لنخلها بسوق، ولله در القائل: الملك سوق (2) ، ومن نصير الشخ على كتيبة تعقبها كتيبة، واقتضاء وجبيبة نم ذي غلة غير نجيبة، بينا هويكابد من مراجعة الحي من حضر موت الموت، ولا يكاد يرجع الصوت، إذ صبحته قيس وهي التي شذت عن القياس، وأجحمت عن مبارزتها أسود الأخياس (3) ، فلولا امتثال أمر، وصبر على جمر، لأعاد ما حكي في مبارزة الوصي عن عمرو (4) ، فتحرج من الخطل، وبين عذر المكره عن مناجزة البطل، ألم يدر قائد رعيلها، وزائر غيلها، أني أمت بذمة من غميده لا تخفر، وأن ذنب إضافتي له لا يغفر، وحقه الحق الذي لا يجحد ولا يكفر:
لما رأت راية القيسي زاحفة
…
إلي ريعت وقالت لي وما العمل
قلت الوغى ليس من رأيي ولا عملي
…
لا ناقة لي في هذا ولا حمل
قد كان ذاك ورنات الصهيل ضحى
…
تهز عطفي كأني شارب ثمل
والآن قد صوح المرعى وقوضت ال
…
خيمات والركب بعد اللبث محتمل
قالت ألست شهاب الدين تضرمها
…
حاشا العلا أن يقال: استنوق الجمل
وإن أحسن من هذا وذا وزر
…
بمثله في الدواهي يبلغ الأمل
هو الحمى لأبي حمواستجره ففي
…
هـ الأمن منسدل والفضل مكتمل
والله لوأهمل الراعي النقاد به
…
ما خاف من أسد خفان به همل (5)
(1) الإرباع: الإسراع. وفي ق: إرقاع.
(2)
هو من المثل: " الملك يحمل إليها ما نفق فيها ".
(3)
ق: الأجناس.
(4)
الوصي: علي بن أبي طالب، ومبارزته لعمرو بن العاص - فيما روي - تدل على أن عمراً لم يكن من أرباب المبارزة وإنما من أهل الحيلة والدهاء.
(5)
النقاد: الغنم؛ وخفان: اسم موضع.
تكون من قوم موسى إن قضوا عدلوا
…
وإن تقاعد دهر جائر حملوا
هم الجبال الرواسي كلما حلموا
…
هم البحار الطوامي كلما حملوا
فقلت: كان لك الرحمن بعدي ما
…
سواه معتمد والرأي معتمل
فها أنا تحت ظل منه يلحفني
…
والشمل مني بستر العز يشتمل
فقل لقيس لقد خاب القياس فلا
…
تذكروا المصاع وتحت الليل فاحتملوا
دامت له ديم النعمى مساجلة
…
بمناه، تنهمل اليمنى فتنهمل
وآمنت شمس علياه الأفول إلى
…
طي الوجود فلا شمس ولا حمل ولوخوى - والعوذ بالله - نجم هذا المتات، ولم يتصف السيب - وحاشاه - بالاتصال ولا بالانبتات (1) ، فمرعى العدل مكفول، وسبب الرفق موصول، وإن اشتجرت نصول، والهرم تأبى الأبطال التنزل إلى نزاله، والناسك التائب يدين ضرب الغارات باعتزاله، إلا من أعرق في مذهب الخارجي الأخرق، نافع بن الأزرق، وحسبي، وقد ساء كسبي، أن أترك الخطر لراكبه وأخلي الطريق لمن يبني المنار به، ونسير بسير أمثالي من الضعفاء، ونكف فهوزمان الانكفاء، ونسلم مخطولة هذا الفن إلى الأكفاء، ونقول: بالبنين والرفاء، فقد ذهب المذهب، وتبين المذهب، وشاخ البازي الأشهب، وعتاد العمر ينهب، ومرهب الفوت من فوق الفود يرهب، اللهم ألهم هذه الأنفس رشدها، وأذكرها السكرات وما بعدها.
إيه أخي والفضل رصفك ونعتك، والزيف يبهرجه بحتك، وسهام اليراعة انفرد بها بريك ونحتك، وصلتني رسالتك البرة، بل غمامتك الثرة، وحيتني ثغور فضلك المفترة، فعظمت بورودها المسرة، جددت العهد بمحبوب لقائك، وأنهلت ظامي الاستطلاع في سقائك، واقتضت تجديد الدعاء ببقائك، إلا أنها ربما ذهلت عند وداعك، وأبهر عقلها نور إبداعك،
(1) ق: ولو جرى
…
المتاب.... بالانتياب.
فلم تلقن الوصية، وسلكت المسالك القصية، وأبعدت من التطوف، وجاءت تبتغي من أسرار التصوف، ومتى تقرن هيبة السبع الشداد، بحانوت الحداد، أوتنظر أحكام الاعتكاف، بدكان الإسكاف، أويتعلم طبع المثقال، بحانوت البقال والظن الغالب - وقد تلتبس المطالب - أنكم أمرتموها، لما أصدرتموها، بإعمال التشوف، فطردت حكم الإبدال، غائبة عما يلزم من الجدال، وسمت الشين صاداً، وعينت لزرع الوصية حصاداً، والله تعالى يجعل المحب عند ظن من نظر بمرآته، أووصفه ببعض صفاته، وهي تزلق عن صفاته، فالتصوف أشرف، وظلاله أورف، من أن يناله كلف بباطل، ومغرور بسراب ماطل، لا برباب هاطل، ومفتون بحال حال أوعاطل، ومن قال ولم يتصف بمقاله، فعقله لم يرم عن عقاله، وجبال أثقاله، مانعة له عن انتقاله.
وعلى ذلك، وبعد تقرير هذه المسالك، فقد عمرت يدها كيلا تعود بها صفراً بعد إعمال السفر، أوترى أنها قد طولبت بذنب الغلط المغتفر، وأصبحت المراجعة بمجلس وعظ فتحت به باب الحرج، إلى إنكار الإمام أبي الفرج (1) ، وفن الوعظ لما سأل الأخ هوالصديق المسعد، والمبرق قبل غمام رحته والمرعد، ولله در القائل: لست به وولم تبعد، والاعتراض بعد ملازم، لكن الإسعاف لقصده لازم، وعامله عند الاعتلال بالعذر جازم، وإغضاؤه ملتمس، وفضله لا يخبومنه قبس، وعذراً أيها الفاضل، وبعد الاعتذار، عن القلم المهذار، وإغفال الحذار، اقرأ عليهم من طيب السلام، ما يخجل أزهار الكمام عقب الغمام، ورحمة الله تعالى من ممليه على الكاتب، ولعلها تفتأ من عتب لالعاتب، ابن الخطيب: فإني كتبته والليل دامس، وبحر
(1) يعني أبا الفرج ابن الجوزي لشهرته في الوعظ.
الظلام طامس، وعادة الكسل طبع خامس، والنافخ بشكوى البرد هامس، والذبال المنادم خافت، لا يهتدي إليه الفراش المتهافت، يقوم ويقعد، ويفيق ثم يرعد، ويزفر ثم يخمد، وربما صار ورقة آس، أومبضع أس، وربما أشبه العاشق في البوح بما يخفيه، وظهوره من فيه، فتميله الآمال وتلويه، وتميته النواسم الهفافة بعدما تحييه، والمطر، قد تعذر معه الوطر، وساقه الخطر، وفعل في البيوت المتداعية ما لا يفعل الترك والططر، والنشاط، قد طوي منه البساط، والجوارح بالكلال تعتذر، ووظائف الغد تنتظر، والفكر في الأمور السلطانية جائل، وهي بحر هائل، ومثلي مقنوع منه باليسير، ومعذور في قصر الباع وضعف المسير، والسلام انتهى.
وهي من البلاغة في الذروة.
109 -
ومن نثر لسان الدين رحمه الله تعالى قوله: ومما صدر عني في السياسة: حدث من امتاز باعتبار الأخبار، وحاز درجة الاشتهار، بنقل حوادث الليل والنهار، وولج بين الكمائم والأزهار، وتلطف لخجل الورد من تبسم البهار، قال: سهر الرشيد ليله، وقد مال في هجر النبيذ ميله، وجهد ندماؤه في جلب راحته، وإلمام النوم بساحته، فشحت عهادهم، ولم يغن اجتهادهم، فقال: اذهبوا إلى طرق سماها ورسمها، وأمهات قسمها، فمن عثرتم عليه من طارق ليل، أوغثاء سيل، أوساحب ذيل، فبلغوه، والامنة سوغوه، واسدعوه، ولا تدعوه، فطاروا عجالى، وتفرقوا ركباناً ورجالاً، فلم يكن إلا ارتداد طرف، أوفواق حرف (1) ، وأتوا بالغنيمة التي اكتسحوها، والبضاعة التي ربحوها، يتوسطهم الأشعث الأغبر، واللج الذي لا يعبر: شيخ طويل القامة، ظاهر الاستقامة، سبلته مشمطة،
(1) الفواق: فترة ما بين الحلبتين؛ والحرف: الناقة.
وعلى أنفه من القبع (1) مطة، وعليه ثوب مرقوع، لطير الحرق عليه وقوع، يهينم بذكر مسموع، وينبئ عن وقت مجموع، فلما مثل سلم، وما نبس بعدها ولا تكلم، فأشار إليه الملك فقعد، بعد أ، انشمر وابتعد، وجلس، فما استرق النظر ولا اختلس، إنما حركة فكره، معقودة بزمام ذكره، ولحظات اعتباره، في تفاصيل أخباره، فابتدره الرشيد سائلاً، وانحرف إليه مائلاً، وقال: ممن الرجل فقال: فارسي الأصل، أعجمي الجنس عربي الفصل، قال: بلدك واهلك وولدك قال: أما الولد فولد الديوان، وأما البلد فمدينة الإيوان، قال: النحلة، وما أعملت إليه الرحلة قال: أما الرحلة فالاعتبار، وأما النحلة فالأمر الكبار، قال: فنك، الذي اشتمل عليه دنك فقال: الحكمة فني الذي جعلته أثيراً، واضجعت فيه فراشاً وثيراً، وسبحان الذي يقول " ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً " البقرة:269، وما سوى ذلك فتبع، ولي فيه مصطاف ومرتبع، قال: فتعاضد جذل الرشيد وتوفر، كأنما أغشى وجهه قطعة من الصبح إذا أسفر، وقال: وما رأيت كالليلة أجمع لأمل شارد، وأنعم بمؤانسة وارد، يا هذا إني سائلك، ولن تخيب بعد وسائلك، فاخبرني ما عندك في هذا الأمر الذي بلينا بحمل أعبائه، ومنينا بمراوضة إبائه، فقال: هذا الأمر قلادة ثقيلة، ومن خطة العجز مستقيلة، ومفتقرة لسعة الذرع، وربط السياسة المدنية بالشرع، يفسده الحكم في غير محله، ويكون ذريعة إلى حله، ويصلحه مقابلة الشكل بشكله، ومن لم يكن سبعاً آكلاً تداعت سباع إلى أكله.
فقال الملك: أجملت ففصل، وبريت فنصل، وكلت فأوصل، وانثر الحب لمن يحوصل، واقسم السياسة فنوناً، واجعل لكل لقب قانوناً، وابدأ بالرعية، وشروطها المرعية.
(1) القبع: الصياح أو الإعياء والانبهار.
فقال: رعيتك ودائع الله تعالى قبلك، ومرآة العدل الذي عليه جبلك، ولا تصل إلى ضبطها إلا بإعانة الله تعالى التي وهب لك، وأفضل ما استدعيت به عونه فيهم، وكفايته التي تكفيهم، تقويم نفسك عند قصر تقويمهم، ورضاك بالسهر لتنويمهم، وحراسة كهلهم ورضيعهم، والترفع عن تضييعهم، وأخذ كل طبقة بما عليها وما لها، أخذاً يحوط مالها، ويحفظ عليها كمالها، ويقصر عن غير الواجبات آمالها، حتى تستشعر عليتها رأفتك وحنانك، وتعرف أوساطها في النصب امتنانك، وتحذر سفلتها سنانك، وحظر على كل طبقة منها أن تتعدى طورها، أوتخالف دورها، أوتجاوز بأمر طاعتك فورها، وسد فيها سبل الذريعة، وأقصر جميعها عن خدمة الملك بموجب الشريعة، وامنع أغنياءها من البطر والبطالة، والنظر في شبهات الدين بالتمشدق والإطالة، وليقل فيما شجر بين الناس كلامها، ويرفض منا تنبر به أعلامها، فإن ذلك يسقط الحقوق، ويرتب العقوق، وامنعهم من فحش الحرص والشره، وتعاهدهم بالمواعظ التي تجلوالبصائر من المره، واحملهم من الاجتهاد في العمارة على أحسن المذاهب، وانههم عن التحاسد على المواهب، ورضهم على الإنفاق بقدر الحال، والتعزي عن الفائت فرده من المحال، وحذر البخل على أهل اليسار، والسخاء على أولي الإعسار، وخذهم من الشريعة بالواضح الظاهر، وامنعهم من تأويلها منع القاهر، ولا تطلق لهم التجمع على نم أنكروا أمره في نواديهم، وكف عنهم أكف تعديهم، ولا تبح لهم تغيير ما كرهوه بأيديهم، ولتكن غايتهم، فيما توجهت إليه إبايتهم، ونكصت عن الموافقة عليه رايتهم، إنهاءه إلى من وكلته بمصالحهم من ثقاتك، المحافظين على أوقاتك، وقدم منهم من أمنت عليهم مكره، وحمدت على الإنصاف شكره، ومن كثر حياؤه من التأنيب، وقابل الهفوة باستتابة المنيب، ومن لا يتخطى عندك محله الذي حله، فربما عمد إلى المبرم فحله، وحسن النية لهم
بجهد الاستطاعة، واغتفر المكاره في جنب حسن الطاعة، وإن ثار جرادهم، واختلف في طاعتك مرادهم، فتحصن لثورتهم، واثبت لفورتهم، فإذا سألوا وسلوا، وتفرقوا وانسلوا، فاحتقر كثرتهم، ولا تقل عثرتهم، واجعلهم لما بين أيديهم وما خلفهم نكالاً، ولا تترك لهم على حلمك اتكالاً.
ثم قال: والوزير الصالح أفضل عددك، وأوصل مددك، فهوالذي يصونك عن الابتذال، ومباشرة الأنذال، ويثب لك على الفرصة، وينوب في تجرع الغصة، واستجلاء القصة، ويستحضر ما نسيته من أمورك، ويغلب فيه الرأي بموافقة مأمورك، ولا يسعه ما تمكنك المسامحة فيه، حتى يستوفيه، واحذر مصادمة تياره، والتجوز في اختياره، وقدم استخارة الله تعالى في إيثاره، وأرسل عيون الملاحظة على آثاره، وليكن معروفاً بالإخلاص لدولتك، معقود الرضى والغضب برضاك وصولتك، زاهداً عما في يديك، مؤثراً لكل ما يزلف لديك، بعيد الهمة، راعياً للأذمة، كامل الآلة، محيطاً بالإيالة، رحيب الصدر، رفيع القدر، معروف البيت، نبيه الحي والميت، مؤثراً لعدل والإصلاح، درياً بحمل السلاح، ذا خبرة بدخل المملكة وخرجها، وظهرها وسرجها، صحيح العقد، متحرزاً من النقد، جاداً عند لهوك، متيقظاً في حال سهوك، يلين عند غضبك، ويصل الإسهاب بمقتضبك، قلقاً من شكره دونك وحمده، ناسباً لك الإصابة بعمده، وإن أعيا عليك وجود اكثر هذه الخلال، وسبق إلى نقضها شيء من الاختلال، فاطلب منه سكون النفس وهدوئها، وأ، لا يرى منك رتبة إلا رأى قدره دونها، وتقوى الله تعالى تفضل شرف الانتساب، وهي للفضائل فذلكة الحساب، وساوفي حفظ غيبه بين قربه ونأيه، واجعل حظه من نعمتك موازياً لحظك من حسن رأيه، واجتنب منهم من يرى في نفسه إلى الملك سبيلاً، أويقود من عيصه للاستظهار عليك قبيلاً، أومن كاثر ماله، أومن تقدم لعدوك استعماله، أومن سمت لسواك آماله، أومن يعظم عليه إعراض وجهك، ويهمه نادر نجهك
أومن يداخل غير احبابك، أومن ينافس أحداً ببابك.
وأما الجند فاصرف التقديم منهم للمقاتلة، والمكايدة والمخاتلة، واستوف عليهم شرائط الخدمة، وخذهم بالثبات للصدمة، ووف ما أوجبت لهم من الجراية والنعمة، وتعاهدهم عند الغناء بالعلفة والطعمة، ولا تكرم منهم إلا من أكرمه غناؤه، وطاب في الذب عن ظنك ثناؤه، وول عليهم النبهاء من خيارهم، واجتهد في صرفهم عن الافتتان بأهليهم وديارهم، ولا توطئهم الدعة مهاداً، وقدمهم على حصصك وبعوثك مهما أردت جهاداً، ولا تلين لهم في الإغماض عن حسن طاعتك قياداً، وعودهم حسن المواساة بأنفسهم اعتياداً، ولا تسمح لأحد منهم في إغفال شيء من سلاح استظهاره، أوعدة اشتهاره، وليكن ما فضل من شبعهم وريهم، مصروفاً إلى سلاحهم وزيهم، والتزيد في مراكبهم وغلمانهم، من غير اعتبار لأثمانهم، وامنعهم من المستغلات والمتاجر، وما تكسب به غير المشاجر، وليكن من الغوار اكتسابهم، وعلى المغانم حسابهم، كالجوارح التي تفسد باعتيادها، أن تطعم من غير اصطيادها.
واعلم أنها لا تبذل نفوسها من عالم الإنسان، إلا لمن يملك قلوبها بالإحسان وفضل اللسان، ويملك حركاتها بالتقويم، ورتبها بالميزان القويم، ومن تثق بإشفاقه على أولادها، ويشتري رضى الله تعالى بصبره على طاعته وجلادها، فإذا استشعرت لها هذه الخلال تقدمتك إلى مواقف التلف، مطيعة دواعي الكلف، واثقة منك بحسن الخلف، واستبق إلى تمييزهم استباقاً، وطبقهم طباقاً، أعلاها من تأملت منه في المحاربة عنك أخطاراً، وأبعدهم في مرضاتك مطاراً، وأضبطهم لما تحت يده من رجالك حزماً ووقاراً، واستهانة بالعظائم واحتقاراً، وأحسنهم لمن تقلده أمرك من الرعية جواراً، إذا أجدت اختباراً، وأشدهم على مماطلة من مارسه من الخوارج عليك اصطبارً، ومن بلا في الذي عن لك إحلاء وإمراراً، ولحقه الضر في معارض الدفاع
عنك مراراً، وبعده من كانت محبته لك أزيد من نجدته، وموقع رأيه أنفع من موقع صعدته، وبعدهما من حسن انقياده لأمرائك، وإحماده لآرائك، ومن جعل نفسه من الأمر حيث جعله، وكان صبره على ما عراه اكثر من اعتداده بما فعله، واحذر منهم من كان عند نفسه أكبر من موقعه في الانتفاع، ولم يستحي من التزيد بأضعاف ما بذله من الدفاع، وشكا البخس فيما تعذر عليه من فوائدك، وقاس بين عوائد عدوك وعوائدك، وتوعد بانتقاله عنك وارتحاله، وأظهر الكراهية لحاله.
وأما العمال فإنهم ينبئون عن مذهبك، وحالهم في الغالب شديدة الشبه بك، فعرفهم في أمانتك السعادة، وألزمهم في رعيتك العادة، وأنزلهم من كرامتك بحسب منازلهم في الاتصاف، بالعدل والإنصاف، وأحلهم من الحفاية، بنسبة مراتبهم من الامانة والكفاية، وقفهم عند تقليد الأرجاء، مواقف الخوف والرجاء، وقرر في نفوسهم أن أعظم ما به إليك تقربوا، وفيه تدربوا، وفي سبيله أعجموا وأعربوا، إقامة حق ودحض باطل، حتى لا يشكوغريم مطل ماطل، وهوآثر لديك من كل رباب هاطل، وكفهم من الرزق الموافق، عن التصدي لدنئ المرافق، واصطنع منهم من تيسرت كلفته، وقويت للرعايا ألفته، ومن زاد على تأميله صبره، وأربى على خبره خبره، وكانت رغبته في حسن الذكر، تشف على بنات الفكحر، واجتنب منهم من يغلب عليه التخرق في الإنفاق، وعدم الإشفاق، والتنافس في الاكتساب، وسهل عليه سوء الحساب، وكانت ريعته المصانعة بالنفاية، دون التقصي والكفاية، ومن كان منشؤه خاملاً، ولأعباء الدناءة حاملاً، وابغ من يكون الاعتذار في أعماله، أوضح من الاعتذار في أقواله، ولا يفتننك ممن قلدته اجتلاب الحظ المقناع، والتنفق بالسعي المسمع، ومخالفة السنن المرعية، واتباعه رضاك بسخط الرعية، فإنه قد غشك، من حيث بلك ورشك، وجعل من يمينك
في شمالك، حاضر مالك، ولا تضمن عاملاً مال عمله، وحل بينه فيه وبين أمله، فإنك تميت رسومك بمحياه، وتخرجه من خدمتك فيه إلا أن تملكه إياه، ولا تجمع له بين الأعمال فيسقط استظهارك ببلد على بلد، والاحتجاج على والد بولد، واحرص على أ، يكون في الولاية غريباً، ومنتقله منك قريباً، ورهينة لا يزال معها مريباً، ولا تقبل مصالحته على شيء أختانه، ولوبرغيبة فتانه، فتقبل المصانعة في أمانتك، وتكون مشاركاً له في خيانتك، ولا تطل مدة العمل، وتعاهد كشف الأمور ممن يرعى الهمل، ويبلغ الأمل.
وأما الولد فأحسن آدابهم، واجعل الخير دابهم، وخف عليهم من إشفاقك وحنانك، اكثر من غلظة جنانك، واكتم عنهم ميلك، وأفض فيهم جودك ونيلك، ولا تستغرق بالكلف بهم يومك ولا ليلك، وأثبهم على حسن الجواب، وسبق لهم خوف الجزاء على رجاء الثواب، وعلمهم الصبر على الضرائر، والمهلة عند استخفاف الجرائر، وخذهم بحسن السرائر، وحبب إليهم مراس الأمور الصعبة المراس، وحسن الاصطناع والاحتراس، والاستكثار من أولي المراتب والعلوم، والسياسات والحلوم، والمقام المعلوم، وكره إليهم مجالسة الملهين، ومصاحبة الساهين، وجاهد أهواءهم عن عقولهم، وحذر الكذب على مقولهم، ورشحهم إذا آنست منهم راشداً أوهدياً، وأرضعهم من الموازرة والمشاورة ثدياً، لتمرنهم على الاعتياد، وتحملهم على الازدياد، ورضهم رياضة الجياد، واحذر عليهم الشهوات فهي داؤهم، وأعداؤك في الحقيقة وأعداؤهم، وتدارك الخلق الذميمة كلما نجمت، واقدعها إذا هجمت، قبل أن يظهر تضعيفها، ويقوى ضعيفها، فإن أعجزتك في الصغر الحيل، عظم الميل:
إن الغصون إذا قومتها اعتدلت
…
ولن تلين إذا قومتها الخشب وإذا قدروا على التدبير، وتشوفوا للمحل الكبير، إياك أن توطنهم في
مكانك، جهد إمكانك، وفرقهم في بلدانك، تفريق عبدانك، واستعملهم في بعوث جهادك، والنيابة عنك في سبيل اجتهادك، فإن حضرتك تشغلهم بالتحاسد، والتباري والتفاسد، وانظر إليهم بأعين الثقات فإن عين الثقة، تبصر ما لا تبصر عين المحبة والمقة.
وأما الخدم فإنهم بمنزلة الجوارح التي تفرق بها وتجمع، وتبصر وتسمع، فرضهم بالصدق والأمانة، وصنهم صون الجمانة، وخذهم بحسن الانقياد إلى ما آثرته، والتقليل مما استكثرته، واحذر منهم من قويت شهواته، وضاقت عن هواه لهواته، فغن الشهوات تنازعك في اتسرقاقه، وتشاركك في استحقاقه، وخيرهم من ذلك منه بلطف الحيلة، وآداب للفساد محيلة، وأشرب قلوبهم أن الحق في كل ما حاولته واستنزلته، وأن الباطل في كل ما جانبته واعتزلته، وأ، من تصفح منهم أمورك فقد أذنب، وباين الأدب وتجنب، وأعط من أكددته، واضقت منه ملكه وشددته، روحة يشتغل فيها بما يعينه، على حسب صعوبة ما يعانيه، تغبطهم فيها بمسارحهم، وتجم كليلة جوارحهم، ولتكن عطاياك فيهم بالمقدار الذي لا يبطر أعلامهم، ولا يؤسف الأصاغر فيفسد أحلامهم، ولا ترم محسنهم بالغاية من إحسانك، واترك لمزيدهم فضلة من رفدك ولسانك، وحذر عليهم مخالفتك ولوفي صلاحك، بحد سلاحك، وامنعهم من التواثب والتشاجر، ولا تحمد لهم شيم التقاطع والتهاجر، واستخلص منهم لسرك من قلت في الإفشاء ذنوبه، وكان أصبر على ما ينوبه، ولودائعك من كانت رغبته في وظيفة لسانك، اكثر من رغبته في إحسانك، وضبطه لما تقلد من وديعتك، أحب إليه من حسن صنيعتك، وللسفارة عنك من حلا الصدق في فمه، وآثره ولوباختطار دمه، واستوفى لك وعليك فهم ما تحمله، وعني بلفظه حتى لا يهمله، ولمن تودعه أعداء دولتك من كان مقصور الأمل، قليل القول صادق العمل، ومن كانت
قسوته زائدة على رحمته، وعظمه في مرضاتك آثر من شحمته، ورأيه في الحذر سديد، وتحرزه من الحيل شديد؛ ولخدمتك في ليلك ونهارك من لانت طباعه، وامتد في حسن السجية باعه، وأمن كيده وغدره، وسلم من الحقد صدره، ورأى المطامع فما طمع، واستثقل إعادة ما سمع، وكان بريئاً من الملال، والبشر عليه أغلب الخلال، ولا تؤنسهم منك بقبيح فعل ولا قول، ولا تؤيسهم من طول، ومكن في نفوسهم أن أقوى شفعائهم، وأقرب إلى الإجابة من دعائهم، إصابة الغرض فيما به وكلوا، وعليه شكلوا، فإنك لاتعدم بهم انتفاعاً، ولا يعدمون لديك ارتفاعاً.
وأما الحرم فهن مغارس الولد، ورياحين الخلد، وراحة القلب الذي أجهدته الأفكار، والنفس التي تقسمها الإحماد إلى المساعي والإفكار، فاطلب منهن من غلب عليهن من حسن الشيم، المترفعة عن القيم، ما لا يسوءك في خلدك، أن يكون في ولدك، واحذر أن تجعل لفكر بشر دون بصر إليهن سبيلاً، وانصب دون ذلك عذاباً وبيلاً، وأعهن من النساء العجز من بانت في الديانة والأمانة سبله، وقويت غيرته ونبله، وخذهن بسلامة النيات، والشيم السنيات، وحسن الاسترسال، والخلق السلسال، وحذر عليهن التغامز والتغاير، والتنافس والتخاير، وآس بينهن في الأغراض، والتصامم عن الإعراض، والمحاباة بالأعراض، وأقلل من مخالطتهن هوأبقى لهمتك، وأسبل لحرمتك، ولتكن عشرتك لهن عند الكلال والملال، وضيق الاحتمال، بكثرة الأعمال، وعند الغضب والنوم، والفراغ من نصب اليوم، واجعل مبيتك بينهن تنم بركاتك، وتستتر حركاتك، وافصل من ولدت منهن إلى مسكن تختبر به استقلالها، وتعتبر بالتفرد خلالها، ولا تطلق لحرمة شفاعة ولا تدبيراً، ولا تنط بها من الأمر صغيراً ولا كبيراً، واحذر أن يظهر على خدمهن في خروجهن عن القصور، وبروزهن من اجمة الأسد الهصور، زي بارع، ولا طيب للأنوف مسارع، واخصص بذلك من طعن في السن، ويئس من الإنس
والجن، ومن توفر النزوع إلى الخيرات قبله، وقصر عن جمال الصورة ورسم بالبله.
ثم لما بلغ إلى هذا الحد حمي وطيس اسحنفاره، وختم حزبه باستغفاره، ثم صمت ملياً، واستعاد كلاماً أولياً.
ثم قال: واعلم يا أمير المؤمنين - سدد الله تعالى سهمك لأغراض خلافته وعصمك من الزمان وآفته - أنك في مجلس الفصل، ومباشرة الفرع من ملكك والأصل، في طائفة من عز الله تعالى تذب عنك حماتها، وتدافع عن حوزتك كماتها، فاحذر أن يعدل بك غضبك عن عدل تزري منه بضاعة، أويهجم بك رضال على إضاعة، ولتكن قدرتك وقفاً على الاتصاف، بالعدل والإنصاف، واحكم بالسوية، واجنح بتدبيرك إلى حسن الروية، وخف أن تقعد بك أناتك عن حزم تعين، أوتستفزك العجلة في أمر لم يتبين، وأطع الحجة ما توجهت إليك، ولا تحفل بها إذا كانت عليك، فانقيادك إليها أحسن من ظفرك، والحق أجدى من نفرك، ولا تردن النصيحة في وجه، ولا تقابل عليها بنجه، فتمنعها إذا استدعيتها، وتحجب عنك إن استوعيتها، ولا تستدعها من غير أهلها، فيشغبك أولوالأغراض بجهلها، واحرص على أن لا ينقضي مجلس جلسته، أوزمن اختلسته، إلا وقد أحرزت زائدة، أووثقت منه في معادك بفائدة.
ولا يزهدنك في المال كثرته، فتقل في نفسك أثرته، وقس الشاهد بالغائب، واذكر وقوع ما لا يحتسب من النوائب، فالمال المصون، أمنع الحصون، ومن قل ماله، قصرت آماله، وتهاون بيمينه شماله، والملك إذا فقد خزينه، اخنى على أهل الجدة التي تزينه، وعاد على رعيته بالإجحاف، وعلى جبايته بالإلحاف، وساء معتاد عيشه، وصغر في عيون جيشه، ومنوا عليه بنصره، وأنفوا من الاقتصار على قصره، وفي المال قوة سماوية تصرف الناس لصاحبه، وتربط آمال أهل السلاح به، والمال نعمة الله تعالى فلا تجعله ذريعة إلى خلافه، فتجمع
بالشهوات بين إتلافك وإتلافه، واستأنس بحسن جوارها، واصرف في حقوق الله تعالى بعض أطوارها، فإن فضل المال عن الأجل فأجل، ولم يضر ما خلف منه بين يدي الله عز وجل، وما ينفق في سبيل الشريعة، وسد الذريعة، مأمول خلفه، وما سواه فمتعين تلفه.
واستخلص لنواديك الغاصة، ومجالسك العامة والخاصة، من يليق بولوج عتبها، والعروج لرتبها، أما العامية فمن عظم عند الناس قدره، وانشرح بالعلم صدره، أوظهر يساره، وكان لله تعالى إخباته وانكساره، ومن كان للفتيا منتصباً، وبتاج المشورة معتصباً، وأما الخاصية فمن رقت طباعه، وامتد فيما يليق بتلك المجالس باعه، ومن تبحر في سير الحكماء، وأخلاق الكرماء، ومن له فضل سافر، وطبع للدينة منافر، ولديه من كل ما تستتر به الملوك عن العوام حظ وافر، وصف ألبابهم بمحصول خيرك، وسكن قلوبهم بيمن طيرك، وأغنهم ما قدرت عن غيرك. واعلم بأن مواقع العلماء من ملكك مواقع المشاعل المتألقة، والمصابيح المتعلقة، وعلى قدر تعاهدها تبذل من الضياء، وتجلوبنورها صور الأشياء، وفرغها ما يزين مدتك، ويحسن من بعد البلاء جدتك، وبعناية الأواخر ذكرت الأول، وإذا محيت المفاخر خربت الدول.
واعلم أن بقاء الذكر مشروط بعمارة البلدان، وتخليد الآثار الباقية في القاصي والدان، فاحرص على ما يوضح في الدهر سبلك، ويحرز المزية على من قبلك، وأن خير الملوك من ينطق بالحجة وهوقادر على القهر، ويبذل الإنصاف في السر والجهر، مع التمكن من المال والظهر، ويسار الرعية جمال للملك وشرف، وفاقتهم من ذلك طرف، فغلب أليق الحالين بمحلك، وأولاهما بظعنك وحلك.
واعلم أن كرامة الجور دائرة، وكرامة العدل متكاثرة، والغلبة بالخير
سيادة، وبالشر هوادة، واعلم أن حسن القيام بالشريعة يحسم عنك نكاية الخوارج، ويسموبك إلى المعارج، فإنها تقصد أنواع الخدع، وتوري بتغيير البدع، وأطلق على عدوك أيدي الأقوياء من الأكفاء، وألسنة اللفيف من الضعفاء، واستشعر عند نكثه شعار الوفاء.
ولتكن ثقتك بالله تعالى أكثر من ثقتك بقوة تجدها، وكتيبة تنجدها، فإن الإخلاص يمنحك قوى لا تكتسب، ويمهد لك مع الأوقات نصراً لا يحتسب.
والتمس أبداً سلم من سالمك بنفيس ما في يدك، وفضل حاصل يومك على منتظر غدك، فإن أبى وضحت محجتك، وقامت عليه للناس بذلك حجتك، فللنوفوس على الباغين ميل، ولها من جانبه نيل، واستهد في كل يوم سيرة من يناويك، واجتهد أن لا يوازيك في خير ولا يساويك، وأكذب بالخير ما يشيعه من مساويك، ولا تقبل من الإطراء إلا ما كان فيك فضل عن غطالته، وجد يزري على بطالته، ولا تلق المذنب بحميتك وسبك، واذكر عند حركة الغضب ذنوبك إلى ربك، ولا تنس أن رب المذنب أجلسك مجلس الفصل، وجعل في قبضتك رياش النصل. وتشاغل في هدنة الأيام بالاستعداد، واعلم ا، التراخي منذر بالاشتداد، ولا تهمل عرض ديوانك، واختبار أعوانك، وتحصين معاقلك وقلاعك. وعم إيالتك بحسن اطلاعك، ولا تشغل زمن الهدنة بلذاتك، فتجني في الشدة على ذاتك، ولا تطلق في دولتك ألسنة الكهانة والإرجاف، ومطاردة الآمال العجاف، فإنه يبعث سوء القول، ويفتح باب العول، وخذ على المدرسين والمتعلمين، والعلماء والمتكلمين، حمل الأحداث على الشكوك الخالجة والمزلات الوالجة، فإنه يفسد طباعهم، ويغري سباعهم، ويمد في مخالفة الملة باعهم، وسد سبيل الشفاعات فإنها تفسد عليك حسن الاختيار، ونفوس الخيار، وابذل في الأسرى من حسن ملكتك ما يرضي من ملكك رقابها، وقلدك وعقابها، وتلق بدء نهارك بذكر الله تعالى في ترفعك وابتذالك، واختم اليوم بمثل ذلك.
واعلم أنك مع كثرة حجابك، وكثافة حجابك، بمنزلة الظاهر للعيون، المطالب بالديون، لشدة البحث عن أمورك، وتعرف السر الخفي بين أمرك ومأمورك، فاعمل في سرك ما لا تستقبح أن يكون ظاهراً، ولا تأنف أن تكون به مجاهراً، وأحكم بريك في الله ونحتك، وخف من فوقك يخف من تحتك، واعلم أن عدوك من أتباعك من تناسيت حسن قرضه، أوزادت مؤونته على نصيبه منك وفرضه، فاصمت الحج، وتوق اللجج، واسترب بالأمل، ولا يحملنك انتظام الأمور على الاستهانة بالعمل، ولا تحقرن صغير الفساد، فيأخذ في الاستئساد، واحبس الألسنة عن التخالي باغتيابك، والتشبث بأذيال ثيابك، فغن سوء الطاعة ينتقل من الأعين الباصرة، إلى الألسن القاصرة، ثم إلى الأيدي المتناصرة، ولا تثق بنفسك في قتال عدوناواك، حتى تظفر بعدوغضبك وهواك، وليكن خوفك من سوء تدبيرك، اكثر من عدوك الساعي في تتبيرك (1) ، وإذا استنزلت ناجماً (2) ، أومنت ثائراً هاجماً، فلا تقلده البلد الذي فيه نجم، وهمى عارضه فيه وانسجم، يعظم عليك القدح في اختيارك، والغض نم إيثارك، واحترز من كيده في حورك ومأمك (3) ، فإنك أكبر همه وليس بأكبر همك، وجمل المملكة بتأمين الفلوات، وتسهيل الأقوات، وتجديد ما يتعامل من الصرف في البياعات، وإجراء العوائد مع الأيام والساعات، ولا تبخس عيار قيم البضاعات، ولتكن يدك عن أموال الناس محجورة، وفي احترامها إلا عن الثلاثة مأجورة: مال من عدا طوره طور أهله، وتخارق في الملابس والزينة، وفضول المدينة، يروم معارضتك بجهله؛ ومن باطن أعداك، وأمن اعتدال؛ ومن أساء جوار رعيتك بإخساره، وبذل الأذاية فيهم بيمينه ويساره.
(1) التتبير: الهلاك.
(2)
الناجم: الثائر.
(3)
الحور: العودة؛ والمأم: القصد.
وأضر ما منيت به التعادي بين عبدانك، أوفي بلد من بلدانك، فسد فيه الباب، واسأل عن الأسباب، وانقلهم بوساطة أولي الألباب، إلى حالة الأحباب، ولا تطوق الأعلام أطواق المنون، بهواجس الظنون، فهوامر لا يقف عند حد، ولا ينتهي إلى عد، واجعل ولدك في احتراسك، حتى لا يطمع في افتراسك.
ثم لما رأى الليل، قد كاد ينتصف، وعموده يريد أن ينقصف، ومجال الوصايا أكثر مما يصف؛ قال: يا أمير المؤمنين، بحر السياسة زاخر، وعمر المتمتع يناديك مستاخر، فإن أذنت في فن من فنون الأنس يجذب بالمقاد، إلى راحة الرقاد، ويعتق النفس بقدرة ذي الجلال، من ملكة الكلال.
فقال: أما وقد استحسنا ما سردت، فشانك وما أردت.
فاستدعى عوداً فأصلحه حتى حمده، وأبعد في اختباره أمده، ثم حرك بمه، وأطال الجس ثمه، ثم تغنى بصوت يستدعي الإنصات، ويصدع الحصاة، ويستفز الحليم عن وقاره، ويستوقف الطير ورزق بنيه في منقاره، وقال:
صاح ما أعطر القبول بنمه
…
أتراها أطالت اللبث ثمه
هي دار الهوى منى النفس فيها
…
أبد الدهر والأماني جمه
إن يكن ما تأرج الجو منها
…
واستفاد الشذا وإلا فممه
من لطرفي بنظرة ولأنفي
…
في رباها وفي ثراها بشمه
ذكر العهد فانتفضت كأني
…
طرقتني من الملائك لمه
وطن قد نضيت فيه شباباً
…
لم تدنس منه البرود مذمه
بنت عنه والنفس من أجل من قد
…
خلفته خلاله مغتمه
كان حلماً فويح من أمل الده
…
ر وأعماه جهله وأصمه
تأمل العيش بعد أن خلق الجس
…
م وبنيانه عسير المرمه
وغدت وفرة الشبيبة بالشي
…
ب على رغم أنفها معتمه
فلقد فاز سالك جعل الل
…
هـ إلى الله قصده ومأمه
من يبت من غرور دنيا بهم
…
يلدغ القلب أكثر الله همه ثم أحال اللحن إلى لون التنويم، فأخذ كل في النعاس والتهويم، وأطال الجس في الثقيل، عاكفاً عكوف الضاحي في المقيل، فخاط عيون القوم، بخيوط النوم، وعمر بهم المراقد، كأنما أدار عليهم الفراقد، ثم انصرف، فما علم به أحد ولا عرف، ولما أفاق الرشيد جد في طلبه، فلم يعلم بمنقلبه، فأسف للفراق، وأمر بتخليد حكمه في بطون الأوراق، فهي إلى اليوم تتلى وتنقل، وتجلى القلوب بها وتصقل، والحمد لله رب العالمين انتهى.
قال فبالإحاطة بعد إيراد نبذة ما صورته: فهذا ما حضر من المنثور وحظه من الإجادة ضعيف، وغرضه كما شاء الله تعالى سخيف، لكن الله سبحانه بعبداه لطيف؛ انتهى.
110 -
ومما علق بحفظي من نثره قوله في تحليته لبعض أهل زمانه: هو إمام الفئة، وعين أعيان هذه المائة.
111 -
وقوله في وصف فاس (1) : نعم العرين، لأسود بني مرين، ذات المشاد التي منها مطرح الجنة ومسجد الصابرين:
بلد أعارته الحمامة طوقها
…
وكساه ريش جناحه الطاووس (2)
فكأنما الأنهار فيه مدامة
…
وكأن ساحات الديار كؤوس جمعت ما ولد سام وحام، وكثر الالتئام والالتحام، واشتد الزحام، إلى
(1) انظر مشاهدات لسان الدين: 110 - 111 والمقري ينقل من حفظه فلذلك اختلف ما أورده عن النص الأصلي في عدة مواضع، لا حاجة للإشارة إليها.
(2)
مر البيتان والقول في نسبتهما في المجلد 1: 169.
أن قال: يلقى الرجل أبا مثواه فلا يدعوه لبيته، ولا يطعمه من يقله وزيته؛ لا يطرق الضيف حماهم، ولا يعرف اسمهم ولا مسماهم {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم} (ص: 24) .
112 -
وقوله في وصف مراكش المحروسة ذات المقاصر والقصور، ومأوى الليث الهصور، ومسكن الناصر والمنصور، إلى أن قال: ومنارها في الفلاة، بمنزلة والي الولاة. ثم بعد كلام: إلا ان خرابها هائل، وزحامها حرب وائل، وعقاربها كثيرة الدبيب، منغصة لمضاجعة الحبيب؛ انتهى ما كتبته من حفظي لطول العهد.
113 -
وقال رحمه الله تعالى في وصف مدينة بسطة (1) من كلام لم يحضرني جميعه الآن: محل خصيب، ومنزل رحيب، وكفاها مسجد الجنة دليلاً على البركة وباب المسك دليلاً على الطيب، ولها من اسمها نصيب، إذ هي بحر الطعام وينبوع العيون المتعددة بتعدد أيام العام؛ انتهى.
[في ذكر بسطة]
ولما أجرى ذكر بسطة الإمام أبوالحسن القلصادي (2) في رحلته قال: سقى الله تعالى أرجاءها المشرقة، وأغصانها المورقة، شآبيب الإحسان، ومهدها بالهدنة والأمان، دار تخجل منها الدور، وتتقاصر عنها القصور، وتقر لها بالقصور، مع ما حوته من المحاسن والفضائل، من صحة أجسام أهلها وما طبعوا
(1) المشاهدات: 31.
(2)
أبو الحسين القلصادي علي بن محمد بن محمد بن علي القرشي البسطي نزيل غرناطة، آخر من له التواليف الكثيرة من أئمة الأندلس (إذ توفي سنة 891) . وقد ترجم له المقري في الراحلين إلى المشرق (ج 2: 692) .