المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ولنرجع إلى ما كنا فيه من نثر لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى - نفح الطيب من غصن الاندلس الرطيب ت إحسان عباس - جـ ٦

[المقري التلمساني]

الفصل: ‌ولنرجع إلى ما كنا فيه من نثر لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى

فيصير منها البيت بيتاً ثانياً

للطائفين إليه أي بدار

تغني قلوب القوم عن هدي به

ودموعهم تكفي لرمي جمار

حييت من دار تكفل سعيها ال

محمود بالزلفى وعقبى الدار

وضفت عليك من الإله عناية

ما كر ليل فيك إثر نهار ويعني بالمولى ابنه السلطان أبا سالم ابن السلطان أبي الحسن.

ومن العجائب أن الرئيس عامر بن محمد الذي جرى في هذه الأبيات ذكره كان يؤمل بإيوائه للسلطان أبي الحسن ونصرته له وعدم إخفار ذمته فيه أن ينال من أولاده الملوك بذلك عزاً مستطيلاً ورياسة زائدة على ما كان فيه، فقضى الله تعالى أن كان حتفه على يد السلطان عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن، إذ نازله بجنوده، وحاصره بمعتقله، حتى استولى عليه وقتله، حسبما استوفى ذلك الشيخ الرئيس قاضي القضاة أبوزيد عبد الرحمن بن خلدون الحضرمي المغربي نزيل مصر في تاريخه الكبير الذي سماه ب كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر فمن شاء فليراجعه ثمة.

وكان الرئيس أبوثابت عامر بن محمد الهنتاتي المذكور خرج على السلطان عبد العزيز بالسلطان المعتمد على الله أبي الفضل محمد ابن أخي السلطان عبد العزيز المذكور، فكان من قتله ما ذكر، والله غالب على أمره.

‌ولنرجع إلى ما كنا فيه من نثر لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى

عنه، فنقول:

23 -

ومن كلام لسان الدين رحمه الله تعالى في كتابه أعمال الأعلام ما صورته:

" وفي غرضي إذا من الله تعالى بانفراج الضيقة الوقتية، ومعاودة الأزمان الهنية، والنصبة النقية، أن نصنف في التايخ كتاباً مبنياً على التطويل، مستوعباً

ص: 219

للكثير والقليل، نسميه بضاعة المهولين في أساطير الأولين، يكون هذا الكتاب بالنسبة إليه الحصاة من الرمال، والقطرة نم الغيث المنثال، بإعانة ذي القدرة والجلال؛ انتهى.

24 -

ومن كلامه رحمه الله تعالى: فما استبعد المرام، من قصد الكرام، وما فقد الإيناس، من أمل الناس؛ انتهى.

وقد سلك لسان الدين رحمه الله تعالى ف كثير من كتبه ك الكتيبة الكامنة والتاج المحلي والإكليل الزاهر وغيرها تحلية الأعلام من حملة السيوف والأقلام، بالكلام السمجع الآخذ بحظه من الإتقان على طريقة صاحب القلائد والمطمح أبي نصر الفتح بن عبيد الله المدعوبابن خاقان بليغ الأندلس غير مدافع وعلى نهج مباريه ابن بسام صاحب " الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة " وهو كتاب نيبغي أن يراجع، وقد رأيت أن آتي بشيء من كلام لسان الدين فيما ذكر، ونلم بعد تحليته بالتعريف بحال من حلاه من الأعلام، بحسب ما من به ويسيره لي الملك العلام، سبحانه وتعالى، فنقول:

25 -

قال لسان الدين رحمه الله تعالى في بعض في وصف بعض من عرف به ما نصه: أني نفس صافية من الكدر، وصدر طيب الورد والصدر، ودوحة عهد تندى أرواقها، ومشكاة فضل يستطلع إشراقها، تمسك برضاع الكأس، يرى ذلك من حسن عهده، وقسم لحظاته بين آس الرياض وورده، فلما حوم حمامه للوقوع، وكاد يقوض رحله عن الربوع، وشعر بحبائل المنية تعتلقه، وسرعان خيل الأجل تزهقه، أقلع عن فنه، وأمر بسفك دنه، ولجأ إلى الله تعالى بأوبته، وضرع إلى الله تعالى في قبول توبته وغفران حوبته، فكان ذلك عنوان الرضى، وعلامة عفوالله تعالى عما مضى، دخلت عليه في مرضه، وأشرت باستعمال الدواء المسمى بلحية التيس عند الأطباء، فاستعمله، فوجد بعض خفة.

ص: 220

26 -

وقال في آخر: كثيف الحاشية، معدود في جنس السائمة والماشية، تليت على العمال به سورة الغاشية، تولى الأشغال السلطانية فذعرت الجباة لولايته، وقامت قيامتهم لطلوع آيته، وقنطوا كل القنوط، وقالوا: جاءت الدابة تكلمنا وهي إحدى الشروط، من رجل صائم الحشوة، بعيد من المصانعة والرشوة، يتجنب الناس، ويقول عند المخاطبة: لا مساس، وعلى مسافة نجه، وتجهم وجهه، فكان خالطاً إساءته بإحسانه، مشتغلاً بشانه، غاضاً من عنان لسانه، عهدي به في الأعمال يقدر فيها ويدبر، ويرجح ويعبر، ويحبط وينبر، وهومع ذلك يكبر، ويحسن من الأزمنة ويقبح، وهويسبح، ولما شرع في البحث والتنقير، والمحاسبة على القطمير والنقير، أتاه قاطع الأجل، فحن ركابه فأقضى العجل، وصدرت عنه أبيات خضم فيها وقضم، وحصل تحت القدر المشترك مع من نظم.

27 -

وقال في آخر: كودن حلبة الآداب، وسنور عبد الله بيع بقيراط لما شاب (1) ، هام بوادي الشعر مع من هام، واستمطر منها الجهام، فجاء بأبيات أوهى من بيت العنكبوت نسجاً، ومقاصد لا تبين قصداً ولا نهجاً، وله بيت معمور بقضاة أكابر، فرسان أقلام ومحابر، وعمال قادوا الدهر بأزمة أزمتهم، وفرعوا الزهر بهمتهم، وتكاثرت عليه رحمه الله الإحن، وتعاورته المحن، وتصرف آخر عمره في بعض الأعمال المخزنية فتعلل بنزر القوت، إلى الأجل الموقوت.

28 -

وقال في آخر: معدود في وقته من أدبائه، ومحسوب في أعيان بلده وحسبانه، كان رحمه الله تعالى من أهل العدالة والخير، سائراً على منهج الاستقامة

(1) يشير إلى قول بعضهم:

كسنور عبد الله بيع بدرهم

صغيراً فلما شب بيع بقيراط انظر الحيوان 5: 315 وتعليق الجاحظ على البيت، والحاشية رقم:4.

ص: 221

أحسن السير، وله أدب لا يقصر عن السداد، وإن لم يكن بطلاً فمن يكثر السواد، قد أثبت له ما عثرت عليه، مما ينسب الناس إليه.

29 -

وقال في آخر: معتر غير قانع، ومنجع كل شهم وخانع، نشأ بلده مالقة أبرع من أورد اليراعة في نقس، وهز غصنها في روضة طرس، إلا ما كان سخافة عقله، وقعوده تحت المثل اخبر تقلة، لا يرتبط إلى رتبة، ولا ينتمي إلى عصبة، ولا يتلبس بسمت، ولا يستقيم من أمت (1) ، أخبرني من عني بخبره، وذكر عبره، من صباه إلى كبره، أنه رشح في بعض الدول، وعرض لاكتساب الخيل والخول، وخلعت عليه كسوة فاخرة، وشارة بزهر الرياض ساخرة، فانقاد طوع حومانه، ونبذ صفقة زمانه، وحمله فرط النهم، على ا، ابتاع في حجره طعاماً كثير الدسم، وأقبل وأذياله منه تقطر، كما اختلفت باللبن الأشطر، فطرد ونبذ، وطرح بعدما جبذ، لقيته بمالقة وقد قلب له زمانه عينيه، وسقط في يديه، فانتابني بأمداحه، وتعاورني بأجاجه وقراحه.

30 -

وقال في آخر: أديب نار فكره تتوقد، وأري لا يعترض كلامه ولا ينقد، أما الهزل فهوطريقته المثلى، ركض في ميدانها وجلى، وطلع في أفقها وتجلى، فأصبح علم أعلامها، وعابر أحلامها، إن أخذ بها في وصف الكاس، وذكر الورد والآس، والم بالربيع وفصله، والحبيب ووصله؛ والروض وطيبه، والغمام وتقطيبه، شق الجيوب طرباً، وعلى النفوس شرباً وضرباً، وإن ابتغى لاعتلال العشية، في فرش الربيع الموشية، ثم تعداها إلى وصف الصبوح، وأجهز على الزق المجروح، وأشار إلى نغمات الورق، يرفلن في الحلل الزرق، وقد اشتعلت في عنبر الليل نار البرق، وطلعت بنود الصباح في

(1) الأست: الاعوجاج.

ص: 222

شرفات الشرق، سلب الحليم وقاره، وذكر الخليع وعقاره، وحرك الأشواق بعد سكونا، وأخرجها من وكونها، بلسان يتزاحم على موارد الخيال، ويتدفق من حافاته الأدب السيال، وبيان يقيم أود المعاني، ويشيد مصانع اللفظ محكمة المباني، ويكسوحلل الإحسان جسوم المثالث والمثاني، إلى ناردة لمثلها يشار، ومحاضرة يجنى بها الشهد ويشار، وقد أثبت من شعره المعرب وإن كان لا يتعاطاه إلا قليلاً، ولا يجاور إلا تعليلاً، أبياتاً لا تخلوعن مسحة جمال على صفحاتها، وهبة طيب ينم في نفحاتها.

31 -

وقال أيضاً في آخر: ظريف السجية، كثير الأريحية، ارتحل من لورقة فتحها الله تعالى، واتخذ المرة داراً، وألف بها استقراراً، إلى أ، دعاه بها داعية، وقام فيها ناعيه.

32 -

وقال في وصف آخر: شيخ أخلاقه لينة - ونفسه - كما قيل في نفس المؤمن - هينة، ينظم الشعر عذباً مساقه، محكما اتساقه، على فاقة، وحال ما لها من إفاقة، أنشد المقام الكيرم بظاهر بلده قصيدة استغرب منه منزعها، واستعذب من مثله مشرعها.

33 -

وقال في آخر: من أئمة أهل الزمام، خليق برعي المتات والذمام، ذوخط كما تفتح زهر الكمام، وأخلاق أعذب من ماء الغمام، كان ببلده رحمه الله تعالى بدار إشرافه محاسباً، ودرة في لجة الإغفال راسباً، صحيح العمل، يلبس الطروس من براعته حسن الحلل، وله شعر لا باس به، ولا خفاء بفضل مذهبه.

34 -

وقال في آخر: خير من استبق إلى داعي الفلاح استباقاً، وانتمى إلى القوم الذين هم في الآخرة أطول أعناقاً، وإن كانوا في الدنيا أضيق أرزاقاً، مردد أذكار، ومسبح أسحار، وعامر مئذنة ومنار، كان ببلده مؤذناً بجامعها

ص: 223

ومؤقتاً بأم صوامعها، ومعتبراً فيمن كان بها بمن السدنة، ومن مثله قوله: فكأنما قرب بدنة، وله لسان مخيف، وشعر سخيف، توشح بحليته، وجعله وسيلة كديته.

35 -

وقال في آخر: عظيم الهيئة حسن اللقاء، أغرب في حسن المداراة من النقاء، استمر عمره للحكم، وصبر على حجج الصم والبكم، وأفرط في هشته وهزته، وتنزل عن نخوة القضاء وعزته، وله سلف في القضاء عالي المراقب، مزاحم للنجم الثاقب، وقد أثبت من شعره ما تيسر إثباته، ونجح بوض هذا المجموع نباته.

36 -

وقال في آخر: قاض توارث كل جلالة، عن كلالة، وجمع في العلم الحسب، بين الموروث والمكتسب، أشرق يجيد معم في العشيرة مخول، وألقت عليه مقاليدها من منقول ومتأول، إلى نزاهة لا تغرها البيضاء ولا الصفراء، وحلم لا تستهويه السعاية ولا يستفزه الإغراء، ووقار يستخف الجبال الراسية، ونظر ينظر الظلم الغاشية، تولى قضاء الحضرة فأنفذ الأحكام وأمضاها، وشام سيوف الجزالة وانتضاها، ولبس أثواب النزاهة والانقباض فما نضاها، وسلك الطريق التي اختارها وارتضاها، فاجتمعت الأهوال المفترقة علي، وصرف الثناء أعنة الألسن إليه، ثم كر إلى بلده، واستقر خطيباً بقرارة أهله وولده.

37 -

وقال في آخر: منتم إلى معرفة، متصف من الذكاء بأحسن صفة، أقرأ ببلده علم اللسان، وما حاد عن الإحسان، وعانى الشعر فنظم قوافيه، وما تكلف فيه، وعلى غزارة مادته، ووضوح جادته، فشعره قليل البشاشة، ذاهب الحشاشة، وذوالإكثار، كمثل العثار، وله سلف يخوض في الحقائق، وينتحل بعض الكلام الرائق.

38 -

وقال في آخر: منتم لدين وعفة، وإلى نفس بالعرض الأدنى

ص: 224

مستخفة، ممن نزع إلى سلوك ورياضة، ويفيض في طريق القوم بعض إفاضة.

39 -

وقال في آخر: ممن يتشوق إلى المعارف والمقالات، ويرتاح إلى الحقائق والمحالات، ويشتمل على نفس رقيقة، ويسير من تعليم القرآن على خير طريقة، ويعاني من الشعر ما يشهد بنبله، ويستظرف من مثله.

40 -

وقال في آخر: مشمر في الطلب عن ساق، مثابر على اللحاق بدرجات الحذاق، منتحل للعربية جاد في إحصاء خلافها، ومعاطاة سلافها، وربما شرست في المذاكرة أخلاقه، إذا بهرجت أعلاقه، ونوزع تمسكه بالحجة واعتلاقه، ورحل إلى المغرب فاستجدى بالشعر سلطانه، ثم راجع أوطانه.

41 -

وقال في آخر: منتم إلى زهد، باذل في التماس الخير الحهد، نظمه لا يخلومن حلاوة، ومعانيه في طريقه عليها بعض طلاوة.

42 -

وقال في آخر: كاتب سجلات لا يساجل في صحة فصولها، وتوقيع فروعها على أصولها، وكلما طلب بالنظم القريحة، وأعمل الفكرة الصريحة، مع إقلاقه، وعدم استعماله، أجابت ولبت، وتنسمت رياحها وهبت.

43 -

وقال رحمه الله تعالى وسامحه في بعض العدول الصوفية الأخيار، الذين وحدوا الله وفنوا عن سائر الأغيار: خير عدل، وممن له وقار وفضل، متسم بخير، معرض عن غير، مستمل بصفات مرضية، ملم بالنظم في الطريقة الصوفية.

ولسان الدين رحمه الله تعالى ركض في هذا الميدان لا يجاري فيه، وثبوت فضل لا يستند إلى دليل جاحده ونافيه.

44 -

وقال رحمه الله تعالى في كتابه التاج المحلي في مساجلة القدح:

ص: 225

المعلى في ترجمة محمد بن عبد اللهبن محمد بن لب الأمي المربي (1) ، ما صورته لج معرفة لا يغيض، وصاحب فنون يأخذ فيها ويفيض، نشأ ببلده مشمراً عن ساعد اجتهاده، وسائراً في قنن العلم ووهاده، حتى أينع روضه، وفهق حوضه، ثم أخذ في راحة ذاته، وشام بارق لذاته، ثم سار في البطالة سير الجموح، وواصل الغبوق بالصبوح، حتى قضى وطره، وسئم بطره، وركب الفلك، وخاض اللجج الحلك، واستقر بمصر على النعمة العريضة، على شك في قضاء حجة الفريضة، وهواليوم بمدرستها الصالحية نبيه المكانة، معدود في أهل العلم والديانة؛ انتهى.

وقال في " الإحاطة " في حق المذكور ما نصه: من خط شيخنا أبي البركات في الكتاب " المؤتمن على أنباء أبناء الزمن ": كان سهلاً سلس القياد، لذيذ العشرة، دمث الأخلاق، ميالاً إلى الدعة، نفوراً عن النصب، يركن إلى فضل نباهة وذكاء يحاسب بهما عند التحصيل والدراسة والدؤوب على الطلب؛ من رجل يجري من الألحان على مضمار لطيف، ولم يكن له صوت رخيم يساوق (2) انطباعه في التلحين، فجبر ذلك بالأوتار، وحاول من ذلك بيده مع أصحابهما لاذ به الظرفاء منهم، واستعمل بدار الأشراف بالمرية، فاحكم تلك الطريقة في أقرب زمان، وجاء زمامه يروق نم ذلك العمل من شأنه، ثم نهضت به همته إلى أرفع من ذلك، فسار إلى غرناطة، فقرأ بها العربية وغيرها، وانخرط في سلك نبهاء الطلبة لأدنى مدة، ثم رحل إلى بلاد المشرق في حدود العشرين وسبعمائة فلم يتجاوز القاهرة لموافقة هوائها علة كان يشكوها، وأخذ في إقراء العربية بها، وعرف بها إلى أن صار يدعى بأبي عبد الله النحوي. قال شيخنا المذكور: ورأى في صغره فارة أنثى فقال: هذه قرينة، فلقب بذلك، وصار هذا اللقب أغلب

(1) انظر ترجمته في الكتيبة: 88 وبغية الوعاة: 60 والدرر 4: 103 (ط. القاهرة) .

(2)

ق: يصادق.

ص: 226

عليه من اسمه ومعرفته.

ثم قال لسان الدين في حق المذكور ما ملخصه: إنه قرأ بالحضرة على الخطيب أبي علي القيجاطي وطبقته، وأخذ بالقاهرة عن الأستاذ أبي حيان، وانتفع بجاهه، نقل إلينا الحاج الحافظ أبوجعفر ابن غصن من شعره حسبما قيده عنه بمصر (1) :

بعد المزار ولوعة الأشواق

حكما بفيض مدامع الآماق

وخفوق نجدي النسيم إذا سرى

أذكى لهيب فؤادي الخفاق

أمعللي أن التواصل في غد

من ذا الذي لغد فديتك باقي

إن الليالي سبق إن أقبلت

وإذا تولت لم تنل بلحاق

عج بالمطي على الحمى، سقي الحمى

صوب الغمام الواكف الرقراق

فيه لذي القلب السليم ودادة

قلب سليم ما له من واق

قلب غداة فراقهم فارقته

لا كان في الأيام يوم فراق

يا سارياً واليل ساج عاكف

يفري الفلا بنجائب ونياق

عرج على مثوى النبي محمد

خير البرية ذي المقام الراق

ورسول رب العالمين ومن له

حفظ العهود وصحة الميثاق

الظاهر الآيات قام دليلها

والطاهر الأخلاق والأعراق

بدر الهدى وهو الذي آياته

وجبينه كالشمس في الإشراق

الشافع المقبول من عم الورى

بالجود والإرفاد والإرفاق

الصادق المأمون أكرم مرسل

سارت رسالته إلى الآفاق

أعلى الكرام ندىً وأبسطهم يداً

قبضت عنان المجد باستحقاق

وأشد خلق الله إقداماً إذا

جمي الوطيس وشمرت عن ساق

أمضاهم والخيل تعثر في الوغى

وتجول سبحاً في الدم المهراق

(1) القصيدة في الكتيبة: 88 - 90.

ص: 227

من صير الأديان ديناً واحداً

من بعد إشراك مضى ونفاق

وأحلنا من حرمة الإسلام في

ظل ظليل زارف الأوراق

لو أن لبدر المنير كماله

ما ناله كسف ونكس محاق

لو أن للبحرين جود يمينه

أمن السفين غوائل الإيساق

لو أن للآساد شدة بأسه

لثنت عن الإنجاد والإعراق

لو أن للآباء رحمة قلبه

ذابت نفوسهم من الإشفاق

ذو العلم والحلم الخفي المنجلي

والجاه والشرف القديم الباقي

آياته شهب وغر بنانه

سحب النوال تدر بالأرزاق

ماجت فتوح الأرض وهو غياثها

وربت ربى الإيمان وهو الساقي

ذو رأفة بالمؤمنين ورحمة

وهدىً وتأديب بحسن سياق

وخصال مجد أفردت بالخصل في

مرمى الفخار وغاية السباق

ذو المعجزات الغر والآي التي

كم آية فقدت وهن بواقي

ثنت المعارض حائراً لما حكت

فلق الصباح وكان ذا إفلاق

يقظ الفؤاد سرى وقد هجع الورى

لمقام صدق فوق ظهر براق

وسما وأملاك السماء تحفه

حتى تجاوزهن سبع طباق ومنها:

يا ذا الذي اتصل الرجاء بحبله

وانبت من هذا الورى بطلاق

حبي إليك وسيلتي وذخيرتي

إني من الأعمال ذو إملاق

وإليك أعملت الرواحل ضمراً

تختال بين الوخد والإعناق

نجباً إذا نشدت حلى تلك العلا

تطوي الفلا ممتدة الأعناق

يحدو بهن من النجيب مردد

وتقودهن أزمة الأشواق

غرض إليه فوقتنا أسهماً

وهي القسي برين كالأفواق

فأنختها بفنائك الرحب الذي

وسع الورى بالنائل الدفاق

ص: 228

وقرى مؤملك الشفاعة في غد

وكفى بها هبة من الرزاق

وعليك يا خير الأنام تحية

تحيي النفوس بنشرها الفتاق

تتأرج الأرجاء من نفحاتها

أرج الندي بمدحك المصداق ومنها:

قسماً بطيب تراب طيبة؛ إنه

مسك الأنوف وإثمد الاحداق

وبشأن مسجدها الذي يرجى به

لمعامل الرحمن أي نفاق

لأجود فيه بأدمع أسلاكها

منظومة بترائب وتراق

أغدو بتقبيل على حصبائه

وعلى كراثم جدره بعناق ومنها:

وعليك ذا النورين تسليم له

نور يلوح بصفحة المهراق

كفؤ النبي وكفؤ أعلى جنة

حيزت له بشهادة وصداق

وكفاه ما في الفتح جاء ومصحف

في الفتح يحمده وفي الإطباق

وعلى أبي السبطين من سبق الألى

سبقوا إلى الإسلام يوم سباق

الطاهر الطهر ابن عم المصطفى

شرف على التخصيص والإطلاق

مبدي القضايا من وراء حجابها

ومفتح الأكمام عن أعلاق

يغزو العداة بغلظة فيهدهم

بصوارم تفري الفقار رقاق

راياته لا شيء من عقبانها

بمطا يوم وغىً ولا بمطاق

وعلى كرام ستة عشرت بهم

عند النظام لآلئ النساق

ما بين أروع ماجد نيرانه

جنح الظلام تشب للطراق

وأخي حروب صده رشق القنا

عما قدود مثلهن رقاق

ما غردت شجواً مطوقة وما

شقت كمام الروض عن أطواق

وعلى القرابة والصحابة كلهم

والتابعين لهم ليوم تلاق

ص: 229

وذكر في الإحاطة غير هذه.

45 -

وقال لسان الدين في التاج في ترجمة محمد بن عبد الرحيم الوادي آشي (1) ما صورته: ناظم أبيات، وموضح غرر وشيات، وصاحب توقيعات وقيعات، وإشارات ذوات شارات، وكان شاعراً مكثاراً، وجواداً لا يخاف عثاراً، دخل على أمير بلده المخلوع عن ملكه، بعد انتثار سلكه، وخروج الحضرة عن ملكه، واستقراره آش مروع البال، متعلااً بالآمال، وقد بلغه دخول طبرنش (2) في طاعته، فأنشده من ساعته:

خذها إليك طبرنشا

شفع بها وادي الأشا

والأم تأتي بنتها

والله يفعل ما يشا ومن نوادره العذبة، كا متبه غليه يطلب منه الحسبة:

أنلني أيا خير البرية خطة

ترفعني قدراً وتكسبني عزا

فأغتر في أهلي كما اعتز بيدق

على سفرة الشطرنج لما انثنى فرزا فوقع له بما ثبت في ترجمته؛ انتهى.

46 -

وقال في " الإكليل " في ترجمة أبي عبد الله بن العطار المزني ما صورته: ممن نبغ ونجب، وحق له البر بذاته ووجب، تحلى بوقار، وشعشع للأدب كأس عقار، إلا أنه احرم في اقتباس، وأصيب للأجل بنبال، انتهى.

47 -

وقال في " الإكليل " في ترجمة أبي عبد الله بن محمد بن علي بن محمد ابن علي بن يحيى بن خاتمة الأنصاري المزني (3)، ما صورته: ممن ثكلته البراعة، وفقدته البراعة، تأدب بأخيه وتهذب، وأراه في النظم المذهب، وكساه من التفهم والتعليم الرداء المذهب، فاقتفى واقتدى، وراح في الحلبة واغتدى، حتى

(1) ترجمته في الدرر 4: 133 (ط. القاهرة) .

(2)

طبرنش (Tabernas) شرقي المرية.

(3)

ترجمته في الدرر 4: 201.

ص: 230

نبل وشا، ولوأمهله الدهر لبلغ المدى، وأما خطه فقيد الأبصار، وطرفة من طرف الأمصار، واعتبط يانع الشبيبة، مخضر الكتيبة، مات عام خمسين وسبعمائة.

وأورد له في " الإحاطة " قوله:

ومض البرق فثار القلق

ومضى النوم وحل الأرق

مذ تذكرت لأيام خلت

ضمنا فيها الحمى والأبرق

وعشيات تقضت باللوى

في محيا الدهر منها رونق

إذ شبابي والتصابي جمعا

ورياض الأنس غض مورق

شت يوم البين شملي ليت ما

خلق البين لقلب يعشق

آه من يوم قضى لي فرقة

شاب مني يوم حلت مفرق وقوله (1) :

الرفع نعتكم لا خانكم أمل

والخفض شيمة مثلي والهوى دول

هل منكم لي عف بعد بعدكم

إذ ليس لي منكم يا سادتي بدل قلت: البيت الثاني غاية في معناه، وأما الأول فسافل وإن أسس على الرفع مبناه، والله اعلم.

48 -

وقال في " الإكليل " في ترجمة أبي عبد الله محمد بن محمد بن إبراهيم ابن عيسى بن داود الحميري المالقي (2) ما صورته: علم من أعلام هذا الفن، ومشعشع راح هذا الدن، مجموع أدوات، وفارس براعة ودواة، ظريف المنزع، أنيق المرأى والمسمع، اختص بالرياسة فأدار فلك إمارتها، واتسم

(1) البيتان في الدرر الكامنة.

(2)

انظر أيضاً ترجمته في الكتيبة: 158 والدرر 4: 271 (ط. القاهرة) .

ص: 231

باسم كتابتها ووزاراتها، ناهضاً بالأعباء، صاعداً في درج التقريب والاجتباء، مصانعاً دهره في راح وراحة، آوياً إلى فضل وسماحة، وخضب ساحة، كلما فرغ من شأن خدمته، وانصرف عن رب نعمته، عقد شرباً، وأطفأ من الاهتمام بغير الأيام حرباً، وعكف على صوت يستعيده، وظرف يبديه ويعيده، فلما تقلبت بالرياسة الحال، وقوضت منها الرحال، استقر بالمغرب غريباً، يقلب طرفاً مستريباً، ويلحظ الدنيا تبعة عليه وتثريباً، وإن كان لم يعدم من أمرائه حظوة وتقريباً، وما يبوح بشجنه، ويرتاح إلى عهود وطنه، ومما أعرب به، عن براعة أدبه، قوله (1) :

يا نازحين ولم أفارق منهم

شوقاً تأجج في الضلوع (2) ضرامه

غيبتم عن ناظري وشخصكم

حيث استقر من الضلوع مقامه

رمت النوى شملي فشتت نظمه (3)

والبين رام لا تطيش سهامه

وقد اعتدى فينا وجد مبالغاً

وجرت بمحكم جوره أحكامه

أترى الزمان مؤخراً في مدتي

حتى أراه قد انقضت أيامه تحملها يا نسيم نجدية النفحات، وجدية اللفحات، تؤدي عني إلى الأحبة نفحها سلاماً وتورد عليهم لفحها برداً وسلاماً، ولا تقل كيف تحملني ناراً، وترسل على الأحبة مني إعصاراً، كلا إذا أهديتهم تحية إيناسي، وآنسوا من جانب هبوبك نار ضرام أنفاسي، وارتاحوا إلى هبوبك، واهتزوا في كف مسرى جنوبك، وتعللوا بك تعليلاً، وأوسعوا آثار مهبك تقبيلاً، أرسلها عليهم بليلاً، وخاطبهم بلطافة تلطفك تعلياً، ألم تروني كيف جئتكم بما حملني عليلاً:

(1) الكتيبة: 161؛ والبيتان الأولان في الدرر: 272.

(2)

الكتيبة: في الفؤاد.

(3)

ق: شمله.

ص: 232

كذاك تركته (1) ملقىً بأرض

له فيها التعلل بالرياح

إذا هبت إليه صبا إليها

وإن جاءته من كل النواحي

تساعده الجمائم حين يبكي

فما ينفك موصول النواح (2)

يخاطبهن مهما طرن شوقاً

أما فيكن واهبة الجناح ولولا تعلله بالأماني، وتحدث نفسه بزمان التداني، لكان قد قضى نحبه، ولم أبلغكم إلا نعيه أوندبه، لكنه يتعلل من الآمال بالوعد الممطول، ويتطارح باقتراحاته على الزمن المجهول، ويحدث نفسه وقد قنعت من بروق الآمال بالخلب، ووثقت بمواعيد الدهر القلب، يناجيها بوحي ضميره، وإيماء تصويره: كيف أجدك يوم الالتقاء بالأحباب، والتخلص من ربقة الاغتراب، أبائنه الحضور أم بادية الاضطراب، كأني بك وقد استفزك وله السرور، فصرفك عن مشاهدة الحضور، وعاتك غشاوة الاستعبار للاستبشار، عن اجتلاء محيا ذلك النهار:

يوم يداوي زماناتي من أزماني

أزال تنغيص أحياني فأحياني

جعلت لله نذراً صومه أبداً

أفي به وأوفي شرط إيماني

إذا ارتفعنا وزال البعد وانقطعت

أشطان دهر قد التفت بأشطاني

أعده خير أعياد الزمان إذا

أوطاني السعد فيه ترب أوطاني أرأيت كيف ارتياحي إلى التذكار، وانقيادي إلى معللات توهمات الافكار كأن البعد باستغراقها قد طويت شقته، وذهبت عني مشقته، وكأني بالتخيل بين تلك الخمائل أتنسم صباها، وأتسم رباها، وأجتني أزهارها، وأجتلي أنوارها، وأجول في خمائلها، وأتنعم ببكرها وأصائلها، وأطوف بمعالمها، وأنتشق

(1) الكتيبة: غريب بعدكم.

(2)

الكتيبة: التياح.

ص: 233

أزهار كمائمها، وأصيخ بأذن الشوق إلى سجع حمائمها، وقد داخلتني الأفراح ونالت مني نشوة الارتياح، ودنا السرور لوهم ذهاب الأتراح، فلما أفقت من غمرات سكري، ووثبت من هفوات فكري، وجدت مرارة ما شابه لي في استغراق دهري، وكأني من حينئذ علجت وقفة الفراق، وابتدأت منازعة الأشواق، وكأنما أغمضني النوم، وسمح لي بتلك الفكرة الحلم:

ذكر الديار فهاجه تذكاره

وسرت به من حينه أفكاره

فاتل منها حيث كان حلوله

بالوهم منها واستقر قراره

ما أقرب الآمال من غفواته

لو أنها قضيت بها أوطاره فإذا جئتها أيها القادم والأصيل قد خلع برداً مورساً، والربيع قد مد على القيعان منها سندساً، فاتخها - فديتك - معرساً، واجرر ذيولك فيها متبختراً، وبث فيها من طيب نفحاتك عنبراً، وافتق عليها من نوافج أنفاسك مسكاً أذفراً، واعطف معاطف بأنها، وأرقص قضب ريحانها، وصافح صفحات نهرها، ونافح نفحات زهرها، هذه كلها إمارات، وعن أسرار مقاصدي عبارات، هنالك تنتعش بها صبابات، تعالج صابات، تتعلل بإقبالك، وتعكف على لثم أذيالك، وتبدولك في صفة الفاني امتهالك، لاطفها بلطافة اعتلالك، وترفق بها ترفق أمثالك، فإذا مالت بهم إلى هواك الأشواق، ولووا إليك الأرؤس والأعناق، وسألوك عن اضطرابي في الآفاق، وتقلبي بين الإشآم والإعراق، فقل لهم: عرض له في أسفاره، ما يعرض للبدر في سراره، من سرار السرار، ولحاق المحاق، وقد تركته وهويسامر الفرقدين، ويساير النيرين، وينشد إذا راعه البين:

وقد نكون وما يخشى تفرقنا

فاليوم نحن وما يرجى تلاقينا لم يفارق وعثاء الأسفار، ولا ألقى من يدع عصا التسيار، يتهاداه الغور والنجد

ص: 234

ويتداوله الإرقال والوخد، وقد لفحته الرمضاء، وسئمه الإنضاء، فالجهات تلفظه، والآكام تبهظه، يحمل همومه الرواسم، وتحياته البواسم:

لا يستقر بأرض حين يبلغها

ولا له غير حدو العيس إيناس ثم إذا استوفوا سؤالك عن حالي، وتقلبي بين حلي وترحالي، وبلغت القلوب منهم الحناجر، وملأت الدموع المحاجر، وابتلت ذيولك بمائها، لا بل تضرجت بدمائها، فحيهم عني تحية منفصل، ووداع مرتحل، ثم اعطف عليك ركابك، ومهد لهم جنابك، وقل لهم إذا سألني عن المنازل بعد سكانها، والربوع بعد ظعن أظعانها، بماذا أجيبه وبماذا يسكن وجيبه، فسيقولون لك هي البلاقع المقفرات، والمعارف التي أصبحت نكرات:

صم صداها وعفا رسمها

واستعجمت عن منطق السائل قل لهم: كيف الروض وآسه وعم تتأرجح أنفاسه عهدي به والحمام يردد به أسجاعه، والذباب يغني هـ هزجاً فيحك بذراعه ذراعه، وغصونه تعتنق، وأحشاء جداوله تصطفق، وأسحاره تنتسم، وآصاله تتوسم، كما كانت بقية نضرته، وكما عهدته أنيقة خضرته، وكيف التفاته عن أزرق نهره، وتأنقه في تكليل إكليله بيانع زهره، وهل رق نسيم أصائله، وصفت موارد جداوله وكيف انفساح ساحاته، والتفات دوحاته وهل تمتد كما كانت مع العشي فينانة سرحاته، وعهدي بها المديدة الظلال، المزعفرة السربال وهل تحدق الآن به عيون نرجسه، ويمد بساط سندسه وأنى منه مجالس لداتي، ومعاهد غدواتي وروحاتي، إذ أباري في المجون لمن أباري، وأسابق إلى اللذات كل من اجاري، فسيقولون لك: ذوت أفنانه، وانقصفت أغصانه، وتكدرت غدرانه، وتغير روحه وريحانه، وأقفرت معالمه، وأخرست حمائمه، واستحالت حلل خمائله، وتغيرت وجوه بكره وأصائله، فإن صلصل حنين رعد فعن قلبي

ص: 235

لفراقه خفق، وإن تلألأ برق فعن حر حشاي ائتلق، وإن سحت السحب فمساعدة لجفني، وإن طال بكاؤها فغني، حياها الله تعالى منازل، لم تزل بمنظوم الشمل أواهل، وحين انتثرت نثرت أزهارها أسفاً، ولم تثن الريح من أغصانها معطفاً، أعاد الله تعالى الشمل فيها إلى محكم نظامه، وجعل الدهر الذي فرقه يتأنق في إحكامه، وهوسبحانه يجبر الصدع، ويعجل الجمع، إنه بالإجابة جدير، وعلى ما يشاء قدير.

إنه بني كيف حال من استودعتهم أمانتك، وألزمتهم صونك وصيانتك، وألبستهم نسبك، ومهدت لهم حسبك، الله في حفظهم فهواللائق لفعالك، المناسب لشرف خلالك، أرع لهم الاغتراب لديك، والانقطاع إليك، فهم أمانة الله تعالى في يديك، وهوسبحانه يحفظك بحفظهم، ويوالي بلحظك أساب حظهم، وإن ذهبتم إلى معرفة الأحوال، فنعم الله تعالى ممتدة الظلاك، وخيراته وارفة السربال، لولا الشوق الملازم، والوجد الذي سكن الحيازم.

49 -

وقال في الإكليل في ترجمة أبي بكر محمد بن محمد بن عبد الله ابن مقاتل المالقي (1)، ما نصه: نابغة مالقية، وخلف وبقية، ومغربي الوطن أخلاقه مشرقيه، أزمع الرحيل إلى المشرق، مع اخضرار العود وسواد المفرق، فلما توسطت السفينة اللجج، وقارعت الثبج، هال عليها البحر فسقاها كأس الحمام، وأولدها قبل التمام، وكان فيمن اشتملت عليه أعوادها، وانضم على نوره سوادها، من جملة الطلبة والأدباء، وأبناء السراة الحسباء، أصبح كل منهم مطيعاً، لداعي الردى وسميعاً، وأحيوا فرادى وماتوا جميعاً، فاجروا الدموع حزناً، وأرسلوا العبرات عليهم مزناً، وكأن البحر لما كمس سبيل خلاصهم وسدها، وأهال هضبة سفينتهم وهدها، غار على نفوسهم النفيسة فاستردها، والفقيه أبوبكر مع إكثاره، وانقياد نظامه ونثاره، لم أظفر من أدبه

(1) ترمته في الدرر 4: 313 (ط. القاهرة) .

ص: 236

إلا بالقليل التافه، بعد وداعه وانصرافه، فمن ذلك قوله وقد أبصر فتىً عائراً:

ومهفهف هافي المعاطف أحور

فضحت أشعة نوره الأقمارا

زلت له قدم فأصبح عاثراً

بين الأنام لعاً لذاك عثارا

لو كنت أعلم ما يكون فرشت في

ذاك المكان الحد والأشفارا وقال:

أيا لبني الرفاء تنضي ظاؤهم

جفون ظباهم فالفؤاد كليم

لقد قطع الأحشاء منهم مهفهف

له التبر خد واللجين أديم

يسدد إذ يرمي قسي حواجب

وأسهمها من مقلتيه تسوم

وتسقمني عيناه وهي سقيمة

ومن عجب سقم جناه سقيم

ويذبل جسمي في هواه صبابة

وفي وصله للعاشقين نعيم كان غرقه في أخريات عام تسعة وثلاثين وسبعمائة؛ انتهى.

50 -

وقال في الإكليل في ترجمة أبي عبد الله محمد بن محمد الشديد المالقي ما نصه: شاعر مجيد حوك الكلام، ولا يقصر فيه عن درجة الأعلام، رحل إلى الحجاز لأول أمره فطال بالبلاد المشرقية ثواؤه، وعميت أنباؤه، وعلى هذا العهد وقفت له على قصيدة بخطه غرضها نبيل، ومرعاها غير وبيل، تدل على نفس ونفس، وإضاءة قبس، وهي:

لنا في كل مكرمة مقام

ومن فوق النجوم لنا مقام ومنها:

روينا من مياه المجد لما

وردناها وقد كثر الزحام

فنحن هم، وقل لي من سوانا

لنا التقديم قدماً والكلام

لنا الأيدي الطوال بكل صوب

يهز به لدى الروع الحسام

ونحن اللابسون لكل درع

يصيب السمر منهن انثلام

ص: 237

بأندلس لنا أيام حرب

مواقفهن في الدنيا عظام

ثوى منها قلوب الروم خوف

يخوف منه في المهد الغلام

حمينا جانب الدين احتساباً

فها هو لا يهان ولا يضام

وتحت الراية الحمراء منا

كتائب لا تطاق ولا ترام

بنو نصر وما أدراك ما هم

أسود الحرب والقوم الكرام

لهم في حربهم فتكات عمرو

فلأعمار عندهم انصرام

يقول عداتهم مهما ألموا

أتونا ما من الموت اعتصام

إذا شرعوا الأسنة يوم حرب

فحقق أن ذاك هو الحمام

كأن رماحهم فيها نجوم

إذا ما أشبه الليل القتام

أناس تخلف الأيام ميتاً

بحي منهم فلهم دوام

رأينا من أبي الحجاج شخصاً

على تلك الصفات له قيام

موقى العرض محمود السجايا

كريم الكف مقدام همام

يجول بذهنه في كل شيء

فيدركه وإن عز المرام

قويم الرأي في نوب الليالي

إذا ما الرأي فارقه القوام

له في كل معضلة مضاء

مضاء الكف ساعدها الحسام

رؤوف قادر يغضي ويعفو

وإن عظم اجتناء واجترام

تطوف ببيت سؤده القوافي

كما قد طاف بالبيت الأنام

وتسجد في مقام علاه شكراً

ونعم الركن ذلك والمقام

أفارسها إذا ما الحرب أخنت

على أبطالها ودنا الحمام

وممطرها إذا ما السحب كفت

وكف أخي الندى أبداً غمام

لك الذكر الجميل بكل قطر

لك الشرف الأصيل المستدام

لقد جبنا البلاد فحيث سرنا

رأينا أن ملكك لا يرام

فضلت ملوكها شرقاً وغرباً

وبت لملكها يقظاً وناموا

فأنت لكل معلوة مدار

وأنت لكل مكرمة إمام

ص: 238

جعلت بلاد أندلس إذا ما

ذكرت تغار مصر والشآم

مكان أنت فيه مكان عز

وأوطان حللت بها كرام

وهبتك من بنات الفكر بكراً

لها من حسن لقياك ابتسام

فنزه طرف مجدك في حلاها

فلمجد الأصيل بها اهتمام 51 - وقال في الإكليل في ترجمة الشريف محمد بن الحسن العمراني من أهل فاس (1) ما صورته: كريم الانتماء، متظلل بأغصان الشجرة الشماء، من رجل سليم الضمير، ذي باطن أصفى من الماء النمير، له في الشعر طبع يشهد بعروبية أصوله، ومضاء نصوله.

وذكر في " الإحاطة " أن الشريف المذكور توفي في حدود ثمانية وثلاثين وسبعمائة.

52 -

وقال في " الإكليل " في ترجمة محمد بن أحمد بن إبراهيم المرادي العشاب، وهوقرطبي الأصل تونسي المولد والمنشأ، ما صورته: جواد لا يتعاطى طلقه، وصبح فضل لا يماثل فلقه، كانت لأبيه رحمه الله تعالى من الدول الحفصية منزلة لطيفة المحل، ومفاوضة في العقد والحل، ولم يزل تسموبه قدم النجابة، من العمل إلى الحجابة، ونشأ ابنه هذا مقضي الديون، مفدى بالأنفس والعيون، والدهر ذوألوان، ومارق حرب عوان، والأيام كات تتلقف وأحوال لا تتوقف، فألوى بهم الدهر وأنحى، وأغام جوهم بعقب ما أصحى، وفشملهم الاعتقال، وتعاورتهم النوب الثقال، واستقرت بالمشرق ركابه، وحطت به أقتابه، فحج واعتمر، واستوطن تلك المعاهد وعمر، وعكف على كتاب الله تعالى فجود الحروف، وقرأ المعروف، وقيد وأسند، وتكرر إلى دور الحديث وتردد، وقدم على هذا الوطن قدوم النسيم البليل، على كبد العليل، ولما استقر به قراره، واشتمل على جفنه غراره، بادرت إلى مؤانسته، وثابرت على مجالسته، فاجتليت لسر شخصاً، وطالعت ديوان الوفاء مستقصى،

(1) ترجمته في الدرر 4: 46 (ط. القاهرة) .

ص: 239

وشعره ليس بحائد عن الإحسان، ولا غفل عن النكت الحسان؛ انتهى.

53 -

وقال في الإكليل في ترجمة أبي عبد الله محمد بن عمر بن علي ابن إبراهيم المليكشي (1) ما صورته: كاتب الخلافة، ومشعشع الأدب الذي يزري بالسلافة، كان بطل مجال، ورب روية وارتجال، قدم على هذه البالد وقد نبا به وطنه، وضاق ببعض الحوادث عطنه، فتلوم تلوم النسيم بين الخمائل، وحل منها محل الطيف من الوشاح الجائل، ولبث مدة إقامته تحت جراية واسعة، وميرة (2) يانعة، ثم آثر قطره، فولى وجهه شطره، واستقبله دهره بالإنابة، وقلده خطة الكتابة، فاستقامت حاله، وحطت رحاله، وله شعر أنيق، وتصوف وتحقيق، ورحلة إلى الحجاز سعيها في الخير وثيق، ونسبها في الصالحات عريق، ومن شعره قوله:

رضىً نلت ما ترضين من كل ما يهوى

فلا توقفيني موقف الذل والشكوى

وصفحاً عن الجاني المسيء لنفسه

كفاه الذي يلقاه من شدة البلوى

بما بيننا من خلوة معنوية

أرق من النجوى وأحلى نم السلوى

قفي أتشكى لوعة البين ساعة

ولا يك هذا آخر العهد بالنجوى

قفي ساعة في عرصة الدار وانظري

إلى عاشق ما يستفيق من البلوى

وكم قد سألت الريح شوقاً إليكم

فما حن مسراها علي ولا ألوى

فيا ريح حتى أنت ممن يغار بي

ويا نجد حتى أنت تهوى الذي أهوى

خلقت ولي قلب جليد على النوى

ولكن على فقد الأحبة لا يقوى وحدث بعض من عني بأخباره، أيام مقامه بمالقة واستقراره، انه لقي بباب الملعب من أبوابها من ظبيات الإنس، وقينة من قينات هذا الجنس، فخطب وصالها، واتقى بفؤاده نصالها، حتى همت بالانقياد، وانعطفت الغصن

(1) ترجمته في نيل الابتهاج: 237 ورحلة البلوي (الورقة: 22) والدرر 4: 226 (ط. القاهرة) .

(2)

ق: ومبرة.

ص: 240

المياد، فأبقى على نفسه وأمسك، وأنف من خلع العذار بعدما تنسك، وقال:

لم أنس وقفتنا بباب الملعب

بين الرجا واليأس من متجنب

وعدت فكنت مراقباً لحديثها

يا ذل وقفة خائف مترقب

وتدللت فذللت بعد تعزز

يأتي الغرام ك أمر معجب

بدوية أبدى الجمال بوجهها

ما شئت من خد شريق مذهب

تدنو وتبعد نفرة وتجنياً

فتكاد تحسبها مهاة الربرب

ورنت بلحظ فاتن لك فاتر

أنضى وأمضى من حسام المضرب

وأرتك بابل سحرها بجفونها

فست، وحق لمثلها أن تستبي

وتضاحكت فحكت بنير ثغرها

لمعان نور ضياء برق خلب

بمنظم في عقد سمطي جوهر

عن شبه نور الأقحوان الأشنب

وتمايلت كالغصن أخضله الندى

ريان من ماء الشبيبة مخصب

تثنيه أرواح الصبابة والصبا

فتراه بين مشرق ومغرب

أبت الروادف أن تميل بميله

فرست وجال كأنه في لولب

متتوجاً بهلال وجه لاح في

خلل السحاب لحاجب ومحجب

يا من رأى فيها محباً مغرماً

لم ينقلب إلا بقلب قلب

ما زال مذ ولى يحاول حيلة

تدنيه من نيل المنى والمطلب

فأجال نار الفكر حتى أوقدت

في القلب نار تشوق وتلهب

فتلاقت الأرواح قبل جسومها

وكذا البسيط يكون قبل مركب وقال:

أرى لك يا قلبي بقلبي محبة

بعثت بها سري إليك رسولا

فقابله بالبشرى، وأقبل عشية

فقد هب مسكي النسيم عليلا

ولا تعتذر بالقطر أوبلل الندى

فأحسن ما يأتي النسيم بليلا

ص: 241

توفي عام أربعين وسبعمائة بتونس، رحمه الله تعالى؛ انتهى.

54 -

وقال في الإكليل في ترجمة أبي عبد الله محمد بن علي بن عمر العبدري التونسي الشاطبي الأصل (1)، ما نصه:

غذي نعمة هامية، وقريع رتبة سامية، صرفت إلى سلفه الوجوه، ولم يبق من إفريقية إلا من يخافه ويرجوه، وبلغ هومدة ذلك الشرف، الغاية من الترف، ثم قلب الدهر هـ ظهر المجن، واشتد به الخمار عند فراغ الدن، ولحق صاحبنا هذا بالمشرق بعد خطوب مبيرة، وشدة كبيرة، فامتزج بسكانه وقطانه، ونال من اللذات به ما لم ينله في أوطانه، واكتسب الشمائل العذاب، وكان كابن الجهم بعث إلى الرصافة ليرق فذاب، ثم حوم على وطنه تحويم الطائر، وألم بهذه البلاد إلمام الخيال الزائر، فاغتنمت صفقة وده لحين وروده، وخطبت موالاته على انقباضه وشروده، فحصلت منه على درة تقتنى، وحديقة طيبة الجنى، أنشدني في أصحاب له بمصر قاموا ببره:

لكل أناس مذهب وسجية

ومذهب أولاد النظام المكارم

إذا كنت فيهم ثاوياً كنت سيداً

وإن غبت عنهم لم تنلك المظالم

أولئك صحبي لا عدمت حياتهم،

ولا عدموا السعد الذي هو دائم

أغني بذكراهم وطيب حديثهم

كما غردت فوق الغصون الحمائم وقال:

أحبتنا بمصر لو رأيتم

بكائي عند أطراف النهار

أكنتم تشفقون لفرط وجدي

وما ألقاه من بعد الديار 55 - وقال في " الإكليل " في ترجمة أبي القاسم محمد بن أبي زكريا يحيى ابن أبي طالب عبد الله بن محمد بن أحمد العزفي السبتي (2) ما صورته: فرع تأود من الرياسة في دوحة، وتردد بين غدوة في المجد وروحة، نشأ والرياسة العزفية

(1) ترجمته في الدرر 4: 198 (ط. القاهرة) .

(2)

الدرر: 52.

ص: 242

تعله وتنهله، والدهر ييسر أمله الأقصى ويسهله، حتى اتسقت أسباب سعده، وانتهت إليه رياسة سلفه من بعده، فألقت إليه رحالها وحطت، ومتعته بقربها بعدما شطت، ثم كلح هـ الدهر بعدما تبسم، وعاد زعزعاً نسيمه الذي كان يتنسم، وعاق هلاله عن تمه، ما كان من تغلب ابن عمه، واستقر بهذه البلاد نازح الدار، بحكم الأقدار، وإن كان نبيه المكانة والمقدار، وجرت عليه جرارية واسعة، ورعاية متتابعة، وله أدب كالروض باكرته الغمائم، والزهر تفتحت عنه الكمائم، رفع منه راية خافقة، وأقام له سوقاً نافقة، وعلى تدفق أنهاره، وكثرة نظمه وشاتهاره، فلم أظفر منه إلا باليسير التافه، بد انصرافه؛ انتهى.

56 -

وقال في " الإكليل " في ترجمة أبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن المكودي الفاسي ما نصه: شاعر لا يتقاصى ميدانه، ومرعى بيان رف غضاه وأينع سعدانه، يدعوالكلام فيهطع لداعيه، ويسعى في اجتلاب المعاني فتنجح مساعيه، غير انه أفرط في الانهماك، وهوى إلى السمكة من أوج السماك، قدم على هذه البلاد مفلتاً من رهق تلمسان حين الحصار، صفر اليمين واليسار من اليسار، فل هوى أنحى على طريفه وتلاده، وأخرجه من بالده، ولما جد به البين، وحل هذه البلدة بحال تقتحمها العين، والسيف بهزته لا بحسن بزته، دعوناه إلى ملس أعاره البدر هالته، وخلع عليه الأصيل غلالته، وروض تفتح كمامه، وهمى عليه غمامه، وكاس أنس تدور، فتتلقى نجومها البدور، فلما ذهبت المؤانسة بخجله، وتذكر هواه ويوم نواه حتى خفنا حلول أجله، جذبنا للمؤانسة زمامه، واستسقينا منه غمامه، فامتع واحسب، ونظر ونسب، وتكلم في المسائل، وحاضر بطرف الأبيات وعيون الرسائل، حتى نشر الصباح رايته، وأطلع النهار آيته، فمما نسبه إلى نفسه وأنشدناه قوله:

غرامي جل عن القياس

وقد سقيتينيه بكل كاس

ولا أنسى هواك ولو جفاني

عليك أقاربي طراً وناسي

ص: 243

ولا أدري لنفسي من كمال

سوى أني لعهدك غير ناسي وقال:

بعثت بخمر فيه ماء وإنما

بعثت بماء فيه رائحة الخمر

فقل عليه الشكر إذ قل سكرنا

فنحن بلا سكر، وأنت بلا شكر 57 - وقال لسان الدين رحمه الله تعالى في ترجمة أبي عبد الله محمد بن محمد بن محمد بن بيبش العبدري الغرناطي (1) ما صورته: معلم مدرب، مسهل مقرب، له في صنعة العربية باع مديد، وفي هدفها سهم سديد، ومشاركة في الأدب لا يفارقها تسديد، خاصي المنازع مختصرها، مرتب الأحوال مقررها، تميز أول وقته بالتجارة في الكتب فسلطت منه عليها أرضة آكلة، وسهم أصاب من رميتها الشاكلة، أثرى بسببها وأترب، وأغنى جهة وأفقر أخرى، وانتقل لهذا العهد الأخير إلى سكنى مسقط رأسه، ومنبت غرسه، وجرت عليه جراية من أحباسها، ووقع قبول من ناسها، وبها تلاحق به الحمام، فكان من ترابها البداية وإليها التمام، وله شعر لم يقصر فيه عن المدى، وأدب توشح بالإجادة وارتدى، أنشدني بسبتة تاسع جمادى الأولى عام اثنين وخمسين وسبعمائة يجيب عن بيتي ابن العفيف التلمساني:

يا ساكناً قلبي المعنى

وليس فيه سواك ثاني

لأي معنىً كسرت قلبي

وما التقى فيه ساكنان فقال:

نحلتني طائعاً فؤاداً

فصار إذ حزته مكاني

لا غروإذ كان لي مضافاً

أني على الكسر فيه باني وقال يخاطب الشريف أبا العباس وأهدى أقلاماً:

(1) انظر أيضاً ترجمته في الكتيبة: 90 وبغية الوعاة: 100 والدرر 4: 358 (ط. القاهرة) وراجع ما تقدم في النفح 5: 384.

ص: 244

أناملك الغر التي سيب جودها

يفيض كفيض المزن بالصيب القطر

أتتني منها تحفة مثل حدها

إذا انتضيت كانت كمرهفة السمر

هي الصفر لكن تعلم البيض أنها

محكمة فيها على النفع والضر

مهذبة الأوصال ممشوقة كما

تصوغ سهام الرمي من خالص (1) التبر

فقبلتها عشراً ومثلت أنني

ظفرت بلثم في أناملك العشر وقال في ترتيب حروف الصحاح:

أساجعة بالواديين تبوئي

ثماراً جنتها حاليات خواضب

دعي ذكر روض زاره سقي شربه

صباح ضحى طير ظماء عواصب

غرام فؤادي قاذف كل ليلة

متى ما نأى وهناً هواه يراقب مولده في حدود ثمانين وستمائة، وتوفي بغرناطة في رجب عام ثلاثة وخمسين وسبعمائة؛ انتهى.

قلت: رأيت بخط الجلال السيوطي على هامش جوابه عن بيتي ابن العفيف التلمساني ما صورته: قلت: في هذا البيت تصريح بأن المضاف إلى الياء مبني على الكسر، وهورأي مرجوح عند النحاة، ذهب إليه الجرجاني، والصحيح أنه معرب، على أن ذاك لا يحتاج إلى جواب كما يظهر بالتأمل، قاله عبد الرحمن السيوطي؛ انتهى، ويعني بذلك أن الساكنين إنما يكسر أحدهما، لا محلهما، والله سبحانه أعلم.

58 -

وقال لسان الدين في الإكليل في ترجمة أبي عبد الله محمد بن هانئ اللخمي السبتي، وأصله من إشبيلية، ما صورته: علم تشير إليه الأكف، ويعمل (2) إلى لقائه الحافر والخف، رفع للعربية ببلده راية لا تتأخر، ومرج

(1) الكتيبة: أو خالص.

(2)

الإحاطة: وينتقل.

ص: 245

منها لجة تزخر، فانفسح مجال درسه، وأثمرت أنواع غرسه، فركض ما شاء ومرح، ودون وشرح، إلى شمائل يملك الظرف زمامها، ودعابة راشت الحلاوة سهامها، ولما أخذ المسلمون في منازلة الجبل وحصاره، وأصابوا الكفر منه بجارحة إبصاره، ورموا بالثكل فيه نازح أمصاره، كان ممن انتدب وتطوع، ومسع النداء فأهطع، فلازمه إلى أن نفذ لأهله القوت، وبلغ من فسحة الأجل الموقوت، فأقام الصلاة بمحرابه، وحياه وقد غير محياه طول اغترابه، وبادره الطاغية قبل أن يستقر نصل الإسام في قرابه، أويعلق أصل الدين في ترابه، وانتدب إلى الحصار ربه وتدرع، ودعاه أجله فلبى وأسرع، ولما هدر عليه الفنيق، وركع إلى قبلة المنجنيق، أصيب بحجر دوم عليه كالجارح المحلق، وانقض إليه انقضاض البارق المتألق، فاقتنصه واختطفه، وعمد إلى زهره فاقتطفه، فمضى إلى الله تعالى طوع نيته، وصحبته غرابة المنازع حتى في أمنيته؛ انتهى.

وقد جود ترجمته في " الإحاطة "(1) وقال: إنه ألف كتباً منها شرح تسهيل الفوائد لابن مالك، مبدع تنافس الناس فيه، وكتاب الغرة الطالعة في شعراء المائة السابعة، وكتاب إنشاد الضوال وإرشاد السؤال في لحن العامة، وهومفيد، وكتاب " قوت المقيم "(2) ودون ترسيل أبي المطرف ابن عميرة وضمه في سفرين، وله جزء في الفرائض، وحدثني شيخنا الشريف القاضي أبوالقاسم قال: خاطبت ابن هانئ بقصيدة من نظمي أولها:

هات الحديث عن الركب الذي شخصا

فأجابني بقصيدة على رويها، أولها:

لولا مشيب بفودي للفؤاد عصى

أنضيت في مهمه التشبيب لي قلصا

(1) ترجمته في الورقة: 60 وقد نقل فيها ما قاله في الإكليل.

(2)

وكتاب.... المقيم: سقط هذا من الإحاطة.

ص: 246

واستوقفت عبراتي وهي جارية

وكفاء توهم ربعاً للحبيب قصا

مسائلاً عن لياليه التي انتهزت

أيدي الأماني بها ما شئته فرصا

وكنت جاريت فيه من جرى طلقاً

من الإجادة لم يجمع ولا نكصا

أصاب شاكلة المرمى حين رمى

من الشوارد ما لولاه ما اقتنصا

ومن أعد مكان النبل نبل حجىً

لم يرض إلا بأبكار النهى قنصا

ثم انثنى ثانياً عطف النسيب إلى

مدح به قد غلا ما كان قد رخصا

فظلت أرفل فيها لبسة شرفت

ذاتاً ومنتسباً أعزز بها قمصا

يقول فيها وقد خولت منحتها

وجرع الكاشح المغرى بها عصصا

هذي عقائل وافت منك ذا شرف

لولا أياديه بيع الحمد مرتخصا

فقلت هلا عكست القول منك له

ولم يكن قابلاً في مدحه الرخصا

وقلت ذي بكر فكر من أخي شرف

يردي ويرضي بها الحساد والخلصا

لها حلىً حسنيات على حلل

حسنية تستبي من حل أو شخصا

خولتها وقد اعتزت ملابسها

بالبخت ينقاد للإنسان ما عوصا

خذها أبا قاسم مني نتيجة ذي

ود إذا شئت ودا للورى خلصا

جاءت تجاوب عما قد بعثت به

إن كنت تأخذ من در النحور حصى وهي طويلة:

ومما ينسب إليه:

ما للنوى مدت لغير ضرورة

ولقبل ما عهدي بها مقصوره

إن الخليل وإن دعته ضرورة

لم يرض ذاك فكيف دون ضروره وقال مضمناً للثاني:

لا تلمني عاذلي (1) حين ترى

وجه من أهوى فلومي مستحيل

(1) الإحاطة: خلني يا عاذلي.

ص: 247

لو رأى وجه حبيبي عاذلي

لتفارقنا على وجه جميل وأجاب الشريف المذكور عن قصيدة مهموزة بقوله:

يا أوحد الأدباء أويا أوحد ال

فضلاء أو يا أوحد الشرفاء

من ذا تراه منك إذا التوت

طرق الحجاج بأن يجيب ندائي

أدب أرق من الهواء وإن تشا

فمن الهوا والماء والصهباء

وألذ من ظلم الحبيب وظلمه

بالظاء مفتوحاً وضم الظاء

ما السحر إلا ما تصوغ بنانه

ولسانه من حلية الإنشاء وهي طويلة يقول فيها بعد جملة أبيات:

لله نفثة سحر ما قد شدت لي

من نفث سحرك في مشاد ثناء

عارضت صفواناً بها فأريت (1) ما

يستعظم الراوي لها والراثي

لو راء لؤلؤك المنظم لم يفز

من نظم لؤلؤه بغير عناء

بوأتني منها أجل مبوإ

فلأخمصي مستوطئ الجوزاء

وسما بها اسمي سائراً فأنا بما

أسديت ذو الأسماء في الأسماء

وأشدت ذكري في البلاد فلي بها

طول الثناء وإن أطلت ثوائي

ولقومي الفخر المشيد بنيته

يا حسن تشييد وحسن بناء

فليهن هانيهم (2) يد بيضاء ما

إن مثلها لك من يد بيضاء

حليت أبياتاً له لخمية

تجلى على مضرية غراء

فليشمخوا أنفاً بما أوليتهم

يا محرز الآلاء بالإيلاء ووصلها بنثر نصه: هذا بني - وصل اله سبحانه لك ولي بك علوالمقدار،

(1) ق: فأرتك.

(2)

ق: فلتهنها بهم.

ص: 248

وأجرى وفق إرادتك وإرادتي لك جاريات الأقدار - ما سنح به الذهن الكليل، واللسان الفليل، في مراجعة قصيدتك الغراء، الجالبة السراء، الآخذة بمجامع القلوب، الموفية بجوامع المطلوب، الحسنة المهيع والأسلوب، الكتحلية بالحلى السنية، العريقة المنتسب في العلا الحسنية، الجالية لصدإ القلوب ران عليها الكسل، وخانها المسعدان السؤل والأمل، فمتى حامت المعاني حولها، ولوأقامت حولها، شكت ويلها وعولها، وحرمت من فريضة الفضيلة عولها، وعهدي بها والزمان زمان، وأحكامها الماضية أماني مقضية وأمان، تتوارد ألافها، ويجمع إجماعها وخلافها، ويساعدها من الألفاظ كل سهل ممتنع، مفترق مجتمع، مستأنس غريب، بعيد الغور قريب، فاضح الحلى، واضح العلا، وضاح الغرة والجبين، رافع عمود الصبح المبين، أيد من الفصاحة بأياد، فلم يحفل بصاحبي طيئ وإياد، وكسي (1) نصاعة البلاغة، فلم يعبأ بهمام وابن المراغة، شفاء المحزون، وعلم سر المحزون، ما بين منثوره والموزون، والآن لا ملهج ولا مبهج، ولا مرشد ولا منهج، عكست القضايا فلم تنتج، فتبلد القلب الذكي، ولم يرشح القلم الزكي، وعم الإفحام وغم الإحجام، وتمكن الإكداء والجبال، وكورت الشمس وسيرت الجبال، وعلت سآمة، وغلبت ندامة، وارتفعت ملامة، وقامت لنوعي الأدرب قيامة، حتى إذا ورد ذلك المهرق، وفرع غصنه المورق، وتغنى به الحمام الأورق، وأحاط بعداد عداته الغصص والشرق، وأمن من ذلك الغصب والسرق، وأقبل الامن وذهب لإقباله الفرق، نفخ في صور أهل المنظوم والمنثور، وبعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور، وتراءت للأدب صور، وعمرت ببلاغة كور، وهممت لليراعة درر، ونظمت البراعة درر، وعندها تبين أنك واحد حلبة البيان، والسابق في ذلك الميدان يوم البرهان، فكان لك القدم، وأقر لك مع التأخر السابق الأقدم، فوحق نصاعة ألفاظ أجدتها حين أورتها، وأسلتها

(1) ق: ونسي.

ص: 249

حين أرسلتها، وأزنتها حين وزنتها، وبراعة معان سلكتها حين ملكتها، وأرويتها حين رويتها أو رويتها (1) ، وأصلتها حين فصلتها أووصلتها، ونظام جعلته بجسد البيان قلباً، ولمعصمه قلباً، وهصرت حدائقه غلباً، وارتكبت رويه صعباً (2) ، ونثار أتبعته له خديماً، وصيرته لمدير كأسه نديماً، ولحفظه ذمامه المدامي أومدامه الذمامي مديماً، لقد فتنتني حين أتتني، وسبتني حين اطبتني، فذهبت خفتها بوقاري، ولم يرعها بعد شيب عذاري، بل دعت للتصابي فقلت مرحبا، وحلت لفتنتها الحبا، ولم أحفل بشيب، وألفيت ما رد تصابي نصيب (3) ، وإن كنا فرسان رهان، وسابقي حلبة ميدان، غير أن الجلدة بيضاء، والمرجوالإغضاء بل الإرضاء، بني كيف رأيت لبيان هذا الطوع، والخروج فيه من نوع إلى نوع أين صفوان بن إدريس، ومحل دعواه بين رحلة وتعريس كم بين ثغاء بقر الفلاة وبين اليث ذي الفريس كما أني أعلم قطعاً علماً، وأحكم مضاء وأمضي حكماً، أنه لونظر إلى قصيدتك الرائقة، وفريدتك الحالية الفائقة، المعارضة بها قصيدته، المنتسخة بها فريدته، لذهب عرضاً وطولاً، ثم اعتقد لك اليد الطولى، وأقر فارتفع النزاع، وذهبت له تلك العلاقات والأطماع، ونسي كلمته اللؤلؤية، ورجع عن دعواه الأدبية، واستغفر ربه من تلك الألية. بني وهذا من ذلك الجري في تلك المسالك، والتبسط في تلك المآخذ والمتارك، أينزع غيري هذا المنزع أم المرء بنفسه وابنه مولع حيا الله الأدب وبنيه، وأعاد علينا من أيامه وسنيه، ما أعلى منازعه، وأكبى منازعه، وأجل مآخذه، وأجهل تاركه وأعلم آخذه، وأرق طباعه، وأحق أشياعه وأتباعه، وأبعد طريقه، وأسعد فريقه، وأقوم نهجه، وأوثق نسجه، وأسمج ألفاظه، وافصح عكاظه، وأصدق معانيه وألفاظه، وأحمد نظامه ونثاره،

(1) حين.... رويتها: سقطت من ق.

(2)

أشار إلى صعوبة القافية، وإن كانت همزية، وهي غير صعبة.

(3)

يشير إلى قول نصيب (الأغاني 16: 109:

ولولا أن يقال صبا نصيب

لقلت بنفسي النشء الصغار

ص: 250

وأغنى شعاره ودثاره، فعائبه مطرود، وعاتبه مصفود، وجاهله محصود، وعالمه محسود، غير أن الإحسان فيه قليل، ولطريق الإصابة فيه علم ودليل، من ظفر بهما وصل، وعلى الغاية القصوى منه حصل، ومن نكب عن الطريق (1) ، لم يعد من ذلك الفريق، فليهنك أيها الابن الذكي، البر الذكي، الحبيب الحفي، الصفي الوفي، أنك حامل رايته، وواصل غايته، ليس أولوه وآخروه لذلك بمنكرين، ولا تجد اكثرهم شاكرين، ولولا أن يطول الكتاب، وينحرف الشعراء والكتاب، فاضت ينابيع هذا الفضل فيضاً، وخرجت إلى نوع آخر من البلاغة أيضاً، قرت عيون أودائك، وملئت غيظاً صدور أعدائك، ورقيت درج الآمال، ووقيت عين الكمال، وحفظ منصبك العالي، بفضل ربك الكبير المتعالي، والسلام الأتم الأنم الأكمل الأعم، يخصك به من طال في مدحه إرقالك وإغذاذك، وراد روض حمدك وابلك وطلك ورذاذك، وغدت مصالح سعيه في سعي مصالحك، وسينفعك بحول الله وقوته وفضله ومنته معاذك، ووسمت نفسك بتلميذه فسمت نفسه بأنه أستاذك، ابن هانئ، ورحمة الله تعالى وبركاته. ً صدور أعدائك، ورقيت درج الآمال، ووقيت عين الكمال، وحفظ منصبك العالي، بفضل ربك الكبير المتعالي، والسلام الأتم الأنم الأكمل الأعم، يخصك به من طال في مدحه إرقالك وإغذاذك، وراد روض حمدك وابلك وطلك ورذاذك، وغدت مصالح سعيه في سعي مصالحك، وسينفعك بحول الله وقوته وفضله ومنته معاذك، ووسمت نفسك بتلميذه فسمت نفسه بأنه أستاذك، ابن هانئ، ورحمة الله تعالى وبركاته.

وكانت وفاته شهادة في أواخر ذي القعدة عام ثلاثة وثلاثين وسبعمائة، ورثاه شيخنا أبوالقاسم الحسني بقصيدة أثبتت في اسمه منها:

سقى الله بالخضراء أشلاء سؤود

تضمنهن الترب صوب الغمائم ورثاه شيخنا أبوبكر ابن شبرين فقال:

قد كان ما قال البريد

فاصبر فحزنك لا يفيد

أودى ابن هانئ الرضى

فاعتادني للثكل عيد

بحر العلوم وصدرها

وعميدها إذ لا عميد

(1) ق: طريق.

ص: 251

قد كان زيناً للوجو

د ففيه قد فجع الوجود

العلم والتحقيق والت

وفيق والحسب التليد

تندى خلائقه فقل

فيها هي الروض المجود

مغض عن الإخوان لا

جهم اللقاء ولا كنود

أودى شهيداً باذلاً

مجهوده، ونعم الشهيد

لم أنسه حين المعا

رف باسمه فينا تشيد

وله صبوب في طلا

ب العلم يتلوه صعود

لله وقت كان ين

ظمنا كما نظم الفريد

أيام نغدو أو نرو

ح وسعينا السعي الحميد

وإذا المشيخة جثم

هضبات حلم لا تميد

ومرادنا جم النبا

ت وعيشنا خضر برود

لهفي على الإخوان وال

أتراب كلهم فقيد

لو جئت أوطاني لأن

كرني التهائم النجود

ولراع نفسي شيب من

غادرته وهو الوليد

ولطفت ما بين اللحو

د وقد تكاثرت اللحود

سرعان ما عاث الحما

م ونحن أيقاظ هجود

كم رمت إعمال المسي

ر فقيدت عزمي قيود

والآن أخلفت العو

د، واخلقت تلك البرود

ما لفتى ما يبتغي

فالله يفعل ما يريد

أعلى القديم الملك يا

ويلاه يعترض العبيد

يا بين قد طال أمدي

أبرق وأرعد يا يزيد (1)

(1) أخذه من قول الكميت:

أرعد وأبرق يا يزي

د فما وعيدك لي بضائر

ص: 252

ولكل شيء غاية

ولربما لان الحديد

إيه أبا عبد الإل

هـ ودوننا مرمى بعيد

أين الرسائل منك تأ

تينا كما نسق العقود

أين الرسوم الصالحا

ت تصرمت أين العهود (1)

أنعم مساء لا تخطي

ك البشائر والسعود

واقدم على دار الرضى

حيث الإقامة والخلود

والق الأحبة حيث دا

ر الملك والقصر المشيد

حتى الشهادة لم تفت

ك فنجمك النجم السعيد

لا تبعدن وعداً لو أن

البدء في الدنيا يعود

فلئن بليت فإن ذك

رك في الدنا غض جديد

تالله لا تنساك أن

دية العلا ما اخضر عود

وإذا تسومح في الحقو

ق فحقك الحق الأكيد

جادت صداك غمامة

يرمي بها ذاك الصعيد

وتعهدتك من المهي

من رحمة أبداً وجود وقوله أول هذه الرسالة عارضت صفوان بها، إلى آخره يعني بذلك همزية صفوان بن إدريس المشهورة بين أدباء المغرب، ولنذكرها إفادة للغرض، وهي:

جاد الربى من بانة الجرعاء

نوءان من دمعي وغيم سماء

فالدمع يقضي عندها حق الهوى

والغيم حق البانة الغناء

خلت الصدور من القلوب كما خلت

تلك المقاصر من مهاً وظباء

ولقد أقول لصاحبي وإنما

ذخر الصديق لآكد الأشياء

يا صاحبي ولا أقل إذا أنا

ناديت من أن تصغيا لندائي

(1) ق: العقود.

ص: 253

عوجا نجاري الغيث في سقي الحمى

حتى يرى كيف انسكاب الماء

ونسن في سقي المنازل سنة

نمضي بها حكماً على الظرفاء

يا منزلاً نشطت إليه عبرتي

حتى تبسم زهره لبكائي

ما كنت قبل مزار ربعك عالماً

أن المدامع أصدق الأنواء

يا ليت شعري، والزمان تنقل

والدهر ناسخ شدة برخاء

هل نلتقي في روضة موشية

خفاقة الأغصان والأفياء

وننال فيها من تألفنا ولو

ما فيه سخنة أعين الرقباء

في حيث أتلعت الغصون سوالفاً

قد قلدت بلآلئ الأنداء

وبدت ثغور الياسمين فقبلت

عني عذار الآسة الميساء

والورد في شط الخليج كأنه

رمد ألم بمقلة زرقاء

وكأن غض الزهر في خضر الربى

زهر النجوم تلوح بالخضراء

وكأنما جاء النسيم مبشراً

للروض يخبره بطول بقاء

فكساه خلعة طيبه ورمى له

بدراهم الأزهار رمي سخاء

وكأنما احتققر الصنيع فبادرت

للعذر عنه نغمة الورقاء

والغصن يرقص في حلى أوراقه

كالخود في موشية خضراء

وافتر ثغر الأقحوان بما رأى

طرباً وقهقه منه جري الماء

أفديه من أنس تصرم فانقضى

فكأنه قد كان في الإغفاء

لم يبق منه غير ذكرى أو منىً

وكلاهما سبب لطول عناء

أو رقعة من صاحب هي تحفة

إن الرقاع لتحفة النبهاء

كبطاقة الوشقي إذ حيا بها

إن الكتاب تحية الخلطاء

ما كنت ادري قبل فض ختامها

أن البطائق أكؤس الصهباء

حتى ثنيت معاطفي طرباً بها

وجررت أذيالي من الخيلاء

فجعلت ذاك الطرس كأس مدامة

وجعلت مهديه من الندماء

وعجبت من خل يعاطي خله

كأساً وراء البحر والبيداء

ص: 254