الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قلت: وهذا الانتقاد غير مسلم، فإن لسان الدين وإن أطنب وأسهب، فقد سلك من البلاغة أحسن مذهب، ويرحم الله تعالى العلامة البرهان الباعوني المذكور أعلاه، إذ كتب بخطه في آخر بعض تآليف لسان الدين في الإنشاء ما صورته: قال كاتبه إبراهيم بن أحمد الباعوني لطف الله تعالى به: الحمد لله على ما ألهم من البيان وعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم، وقفت على هذا الكتاب من أوله إلى أخره، وعمت من بحر بلاغته في زاخره، وعددته من مناقب مؤلفه ومفاخره، فإنه برز في غاية التبريز، وأتى بما هوأحسن من الذهب الإبريز، لا بل هوأبهى من الجواهر، والنجوم الزواهر، وعجبت من تلك الألفاظ المشبهة لسحر الألحاظ ورقة المعاني، المحكمة المباني؛ انتهى.
فأنظر أيدك الله تعالى بعين الإنصاف إلى كلام هذا الفاضل، المنصف الكامل، وقسه مع كلام ذلك المنتقد المتعصب الناقص الحامل، مع أن الكلام الذي تعرض له ذاك بالقدح، هوالذي تصدى له الباعوني بالمدح، وكل إناء بالذي فيه ينضح، وإنما يعرف الفضل لأهل الفضل أهل الفضل، والأمر أجلى من أن، يقام عليه دليل وأوضح.
رجع إلى ما كان بصدده:
وقال الوزير ابن عاصم عندما أجرى ذكر سلطان ابن الخطيب أمير المسلمين الغني بالله بعد كلام كثير ما صورة محل الحاجة منه: وكان هذا السلطان من نيل الأغراض على أكمل ما يكون عليه مثله ممن نزع غرقاً في قوس الخلافة، حكى لي شيخنا القاضي أبوالعباس الحسني ان كبير ولده الأمير أبا الحجاج طلب من الشيخ ذي الوزارتين أبي عبد الله ابن الخطيب أن يطلب من أبيه الغني بالله أن يبادر بإعذاره، إذ كان قد جاوز سن الإثغار، دون إعذار، لمكان ما لحق والده من التمحيص وغير ذلك من الحوادث المهمة، فأسعده الشيخ بذلك، وقال
للغني بالله: يا مولانا إن سيدي يوسف وكلني على طلب إعذاره من مولانا نصره الله على ما يليق بك وبه، فقال له الغني بالله: حسبي الله، وسكت سكتة لطيفة تشعر بفصل الكلام بعضه من بعض، ثم قال: ونعم الوكيل! فعدها الأكياس من مدارك نبله، ومحاسن قوله وفعله؛ انتهى.
قلت: هذا من السلطان في حق لسان الدين غاية التبجيل، أعني قوله " ونعم الوكيل " فأين هذا من سماع كلام أعدائه فيه بعد، حتى آل أمره إلى النحس بعد ذلك السعد وسقاه دهره بعد الحلاوة ما مر، ولم يكن قتله إلا بتسبب السلطان المذكور كما مر:
ثلاثة ليس لها أمان
…
البحر والسلطان والزمان [5 - رسالة ابن خاتمة إلى لسان الدين]
وقال لسان الدين رحمه الله تعالى (1) : ولما قضى الله عز وجل بالإدالة، ورجعنا إلى أوطاننا من العدوة واشتهر عني ما اشتهر من انقباض عن الخدمة والتيه على السلطان والدولة، والتكبر على أعلى رتب الخدمة، وتطارحت على السلطان في استنجاز وعد الرحلة، ورغبت في تبرئة الذمة، ونفرت عن الأندلس بالجملة، خاطبني يعني أبا جعفرابن خاتمة بعد صدر بلغ من حسن الإشارة وبراعة الاستهلال الغاية بقوله: وإلى هذا يا سيدي ومحل تعظيمي وإجلالي، أمتع الله تعالى الوجود بطول بقائكم، وضاعف في العز درجات ارتقائكم، فإنه من الأمر الذي لم يغب عن رأي العقول، ولا اختلف فيه أرباب المعقول، أنكم بهذه الجزيرة شمس أفقها، وتاج مفرقها، وواسطة سلكها، وطراز ملكها وقلادة نحرها، وفريدة دهرها، وعقد جيدها المنصوص، وتمام
(1) انظر الإحاطة 1: 124 وأزهار الرياض 1: 265.
زينتها على العموم والخصوص، ثم أنتم مدار أفلاكها، وسر سياسة أملاكها وترجمان بيانها ولسان إحسانها وطب مارستانها والذي عليه عقد إدارتها وبه قوام إمارتها فلديه يحل المشكل وإليه يلجأ في الأمر المعضل فلا غروأن تتقيد بكم الأسماع والأبصار وتحدق نحوكم الأذهان والأفكار ويزجر عنكم السانح والبارح ويستنبأ ما تطرف عنه العين وتختلج الجوارح استقراء لمرامكم واستطلاعاً لطالع اعتزامكم واستكشافاً عن مرام سهامكم لاسيما مع إقامتكم على جناح خفوق وظهوركم في ملتمع بروق واضطراب الظنون فيكم مع الغروب والشروق حتى تستقر بكم الديار ويلقي عصاه التسيار ولها العذر في ذلك إذ صدعها بفراقكم لم يندمل وسرورها بلقائكم لم يكتمل ولم يبرأ بعد جناحها المهيض ولا جم ماؤها المغيض ولا تميزت من داجيها لياليها البيض ولا استوى نهارها ولا تألفت أنهارها ولا اشتملت نعماؤها ولانسيت غماؤها بل هي كالناقه والحديث العهد بالمكاره يستشعر نفس العافية ويتمسح منكم باليد الشافية فبحنانكم عليها وعظيم حرمتكم على من لديها لا تشوبوا لها عذب المجاج بالأجاج وتفطموها عما عودت من طيب المزاج فما لدائها وحياة قربكم غير طبكم من علاج.
" وإني ليخطر بخاطري محبة فيكم وعناية بما يعنيكم ما نال جانبكم صانه الله تعالى بهذا الوطن من الجفاء ثم أذكر ما نالكم من حسن العهد وكرم الوفاء وأن الوطن إحدى المواطن الأظآر التي يحق لهن جميل الاحتفاء وما يتعلق بكم من حرمة أولياء القرابة وأوداء الصفاء فيغلب على ظني أنكم لحسن العهد أجنح وبحق نفسكم عن حق أوليائكم أسمح وللتي هي أعظم قيمةً من فضائلكم أوهب وأسجح وهب أن الدر لا يحتاج في الإثبات إلى شهادة النحور واللبات والياقوت غني في المكان عن مظاهرة القلائد والتيجان أليس أنه أعلى للعيان وأبعد عن مكابرة البرهان تألقها في تاج الملك أنوشروان فالشمس وإن كانت أم الأنوار وجلاء الأبصار مهما أغما مكانها من الأفق
قيل: " أليل هو أم نهار وكما في علمكم ما فارق ذووالأرحام وأولوالأحلام مواطن استقرارهم وأماكن قرارهم إلا برغمهم واضطرارهم واستبدال دار خير من دارهم ومتى توازن الأندلس بالمغرب أويعوض عنها إلا بمكة أويثرب ما تحت أديمها أشلاء أولياء وعباد وما فوقه مرابط جهاد ومعاقد ألوية في سبيل الله ومضارب أوتاد ثم يبوأ ولده مبوأ أجداده ويجمع له بين طارفه وتلاده أعيذ أنظاركم المسددة من رأيٍ فائل وسعي طويل لم يحل منه بطائل فحسبكم من هذا الإياب السعيد والعود الحميد "؛ وهي طويلة.
[6 - من لسان الدين إلى ابن خاتمة]
قال لسان الدين رحمه الله تعالى: فأجبته بقولي (1) :
لم في الهوى العذري أو لا تلم
…
فالعذل لا يدخل أسماعي
شأنك تعنيفي وشأني الهوى
…
كل امرئ في شأنه ساعي أهلا بتحفة القادم وريحانة المنادم وذكر الهوى المتقادم لا يصغر الله مسراك فما أسراك لقد جبت إلي من همومي ليلاً وجست رجلا وخيلا ووفيت من صاع الوفاء كيلا وظننت بي الأسف على ما فات فأعملت الالتفات، لكيلا (2) ، فأقسم لو أن الأمر اليوم بيدي أوكانت اللمة السوداء من عددي ما أفلت ما أشراكي المنصوبة لأمثالك (3) حول المياه وبين السالك وما علمت هنالك لكنك طرقت حمىً كسعته الغارة العشواء وغيرت
(1) الإحاطة 1: 126 والأزهار 1: 267.
(2)
هذا من الاكتفاء، فهو يشير إلى الآية الكريمة " لكي لا تأسوا على ما فاتكم
…
الآية ".
(3)
نثر بيت الشريف الرضي:
لو كانت اللمة السوداء من عددي
…
يوم الغميم لما افلت أشراكي
ربعه الأنواء فخمد بعد ارتجاجه وسكت أذين دجاجه وتلاعبت الرياح الهوج فوق فجاجه وطال عهده بالزمن الأول وهل عند رسم دارس من معول وحيا الله ندباً إلى زيارتي ندبك وبآدابه الحكيمة أدبك:
فكان وقد أفاد بك الأماني
…
كمن أهدى الشفاء إلى العليل وهي شيمة بوركت من شيمة وهبة الله تعالى قبله من لدن المشيمة ومن مثله في صلة رعي وفضل سعي وقول وعي (1) :
قسماً بالكواكب ال
…
زهر والزهر عاتمه
إنما الفضل ملةٌ
…
ختمت بابن خاتمه كساني حلة فضله وقد ذهب زمان التجمل وحملني شكره وكتدي واه عن التحمل ونظرني بالعين الكليلة عن العيب فهلا أجاد التأمل واستطلع طلع نثي (2) ووالى في مبرك المعجزة حثي {إنما أشكو بثي}
ولوترك القطا ليلاً لناما (3)
…
وما حال شمل وتده مفروق وقاعدته فروق وصواع بني أبيه مسروق وقلب قرحه من عضة الدهر دامٍ وجمرة حسرته ذات احتدام هذا وقد صارت الصغرى التي كانت الكبرى لمشيب لم يدع أن هجم لما نجم ثم تهلل عارضه وانسجم:
لا تجمعي هجراً علي وغربةً
…
فالهجر في تلف الغريب سريع
(1) ق ص: ومرعى.
(2)
النث: ما يذيعه المرء من سر.
(3)
من أمثالهم؛ وصدره: " ألا يا قومنا ارتحلوا وسيروا " يريد أن وراء إثارة القطا في الليل أمرا رهيبا. انظر فصل المقال: 305 - 306.
نظرت فإذا [الجنب ناب، و](1) النفس فريسة ظفر وناب والمال أكيلة انتهاب والعمر رهن ذهاب واليد صفر من كل اكتساب وسوق المعاد مترامية والله سريع الحساب:
ولونعطى الخيار لما افترقنا
…
ولكن لاخيار مع الزمان وهب أن العمر جديد وظل الأمن مديد ورأي الاغتباط بالوطن سديد فما الحجة لنفسي إذا مرت بمطارح جفوتها وملاعب هفوتها ومثاقف قناتها ومظاهر عزاها ومناتها والزمان ولود وزناد الكون غير صلود:
وإذا امرؤ لدغته أفعى مرةً
…
تركته حين يجر حبلٌ يفرق (2) ثم إن المرغب قد ذهب والدهر قد استرجع ما وهب والعارض قد اشتهب وآراء الاكتساب مرجوحة مرفوضة وأسماؤه على الجوار مخفوضة والنية مع الله على الزهد فيما بأيدي الناس معقودة والتوبة بفضل الله عز وجل منقودة والمعاملة سامرية ودروع الصبر سابرية والاقتصاد قد قرت العين بصحبته والله قد عوض حب الدنيا بمحبته فإذا راجعها مثلي من بعد الفراق وقد رقى لدغتها ألف راق وجمعتني بها الحجرة ما الذي تكون الأجرة جل شاني وإن رضي الوامق وسخط الشاني إني إلى الله تعالى مهاجر وللعرض الأدنى هاجرولأظعان السرى زاجر لنجد إن شاء الله تعالى وحاجر لكن دعاني للهوى إلى هذا المولى المنعم هوى خلعت نعلي الوجود وما خلعته وشوقي أمرني فأطعته وغالب ٌ والله صبري فما استطعته والحال أغلب وعسى أن لا يخيب المطلب فإن يسر رضاه فأمر كمل وراحل احتمل وحادٍ أشجى الناقة والجمل وإن كان خلاف ذلك فالزمان جم العلائق والتسليم
(1) انفردت بها ص، ووردت في المصدرين المذكورين.
(2)
البيت لصالح بن عبد القدوس (تاريخ بغداد 9: 304) .
بمقامي لائق:
ما بين غمضة عين وانتباهتها
…
يصرف الأمر من حال إلى حال وأما تفضيله هذا الوطن ليمن طيره وعموم خيره وبركة جهاده وعمران رباه ووهاده بأشلاء عباده وزهاده حتى لايفضله إلا أحد الحرمين فحقٌ برئ من المين لكنني للحرمين جنحت وفي جوالشوق إليهما سنحت فقد أفضت إلى طريق قصدي محجته ونصرتني والمنة لله تعالى حجته وقصد سيدي أسنى قصد توخاه الحمد والشكر ومعروف عرف به النكر والآمال من فضل الله بعد تمتار والله تعالى يخلق ما يشاء ويختار ودعاؤه بظهر الغيب مدد وعدة وعدد وبره حالي الظعن والإقامة معتمل معتمد ومجال المعرفة بفضله لا يحصره أمد والسلام؛ انتهى.
ومن خط ابن الصباغ ما صورته يكفي ابن خاتمة الغاية التي سلمها له إمام الطريقة وواحدها الفذ على الحقيقة حيث قال:
إنما الفضل ملةٌ
…
ختمت بابن خاتمه ومن نظمه وقد تخلى عن الكتابة وطلب منه أن يعود فأبى وأنشد:
تقضى في الكتابة لي زمانٌ
…
كشأن العبد ينتظر الكتابه
فمن الله من عتقي بما لا
…
يطيق الشكر أن يملا كتابه
وقالوا هل تعود فقلت كلا
…
وهل حر يعود إلى الكتابه فانظر حسن هذه التورية العجيبة؛ انتهى.
[رسالة ابن خاتمة إلى ابن جزي]
ولابن خاتمة يخاطب ابن جزي: يا أخي الذي سما وده أن يجازى
وسيدي الذي علا مجده عن أن يوازى وصل الله تعالى لك أسباب الاعتلاء والاعتزاز وكافأ ما لك من الاختصاص بالفضائل والامتياز أما إنه لووسع التخلف عن جواب أخ أعز ولم يجب التكلف عمن قد عجز لغطيت عجزي عن عين تعجيزك ولما تعاطيت المثول بين يدي مناهزك أومجيزك لكنه في حكم الود المكنون المكنوز مما لايحل ولا يجوز فلكم الفضل في الإغضاء عن عاجز دعاه حكم التكلف الى القيام مقام مناجز وإن لم يكن ذلك عند الإنصاف وحميد الأوصاف من السائغ الجائز فعن جهد ما بلغ وليك إلى هذه الأحواز ولم يحصل الحقيقة إلا على المجاز أما ما ذهبتم إليه من تخميس القصيدة التي أعجزت وبلغت من البلاغة الغاية التي عزت مناهضتها وأعوزت فلم أكن لأستهدف ثانية لمضاضة الإعجاز وأسجل على نفسي بالإفلاس والإعواز؛ انتهى.
وكتب قبلها قصيدة زائية أجابه بها عن قصيدة زائية التزم فيها ابن جزي ترك الراء لأنه كان ألثغ يبدلها غيناً رحم الله تعالى الجميع.
وقال لسان الدين فبترجمة ابن خاتمة المذكور (1) : " إنه الصدر المتفنن المشارك القوي الإدراك السديد النظر الثاقب الذهن الكثير الاجتهاد الموفور الأدوات المعين الطبع الجيد القريحة الذي هوحسنة من حسنات الأندلس أحمد بن علي خاتمة من أهل المرية.
[7 - رسالة من ابن خاتمة إلى لسان الدين]
إلى أن قال: ومما خاطبني به بعد إلمام الركب السلطاني ببلده وأنا صحبته، ولقائه إياي بما يلقى به مثله من تأنيس وبر، وتودد وتردد:
يا من حصلت على الكمال بما رأت
…
عيناي منه من الجمال الرائع
(1) انرظ الإحاطة 1: 114، 116.
قمر يروق وفي عطافي برده
…
ما شئت من كرم ومجد بارع
أشكو إليك من الزمان تحاملاً
…
في فض شمل لي بقربك جامع
هجم البعاد عليه ضناً باللقا
…
حتى تقلص مثل برق لامع
فلو أنني ذومذهب لشفاعة
…
ناديته يا مالكي يا شافعي " شكواي إلى سيدي ومعظمي أقر الله تعالى بسنائه أعين المجد، وأدر بثنائه ألسن الحمد شكوى ظمآن صد عن القراح العذب لأول وروده، والهيمان رد عن استرواح القرب لمعضل صدوده، من زمان هجم علي بإبعاده، على حين إسعاده، ودهمني بفراقه، غب إنارة أفقي به وإشراقه، ثم لم يكفه ما اجترم في ترويع خياله الزاهر، حتى حرم عن تشييع كماله الباهر فقطع عن توفية حقه، ومنع من تأدية مستحقه، لا جرم أنه أنف لشعاع ذكائه، من هذه المطالع النائية (1) عن شريف الإنارة، وبخل بالإمتاع بذكائه، عن هذه المسامع النائية عن لطيف العبارة، فراجع أنظاره، واسترجع معاره، وإلا فعهدي بغروب الشمس إلى الطلوع، وأن البدر يتصرف بين الإقامة والرجوع، فما بال هذا النير الأسعد، غرب ثم لم يطلع من الغد، ما ذاك إلا لعدوى الأيام وعدوانها، وشأنها في تغطية إساءتها وجه إحسانها، وكما قيل: عادت هيف إلى أديانها، أستغفر الله ألا يعد ذلك من المغتفر، في جانب ما أولت من الأثر، التي أزرى العيان فيها بالأثر، وأربى الخبر على الخبر، فقد سرت متشوفات الخواطر، وأقرت مستشرفات النواظر، بما حوت من ذلكم الكمال الباهر، والجمال الناضر، الذي قيد خطا الأبصار، عن التشوف والاستبصار، وأخذ بأزمة القلوب، عن سبيل كل مأمول ومرغوب، وأنى للعين، بالتحول عن كمال الزين أوبالطرف، بالتنقل عن خلال الظرف أوللسمع من مراد، بعد
(1) ق: النابية.
ذلكم الإصدار الأدبي والإيراد، أوللقلب من مراد غير تلكم الشيم الرافلة من ملابس الكرم في حلل وأبراد، وهل هوإلا الحسن جمع في نظام، والبدر طالع لتمام، وأنواع الفضل ضمها جنس اتفاق والتئام، فما ترعى العين منه في غير مرعى ًخصيب، ولا تستهدف الأذن بغير سهم في حدق البلاغة مصيب، ولا تستطلع النفس سوى مطلع له في الحسن والإحسان أوفر نصيب، لقد أزرى بناظم حلاه فيما يتعاطاه التقصير، وانفسح مدى علاه بكل باع قصير، وسفه حلم القائل إن الإنسان عالم صغير، شكراً للدهر على يد أسداها بقرب مزاره، وتحفة أهداها بمطلع أنواره، على تغاليه في ادخار نفائسه وبخله بنفائس ادخاره، لا غروأن يضيق عنا نطاق الذكر، ولا يتسع لنا سوار الشكر، فقد عمت هذه الأقطار بما شاءت من تحف بين تحف وكرامة، واجتنت أهلها ثمار الرحلة في ظل الإقامة، وجرى لهم الأمر في ذلك مجرى الكرامة.
" ألا وإن مفاتحتي لسيدي ومعظمي حرس الله تعالى مجده، وضاعف سعده مفاتحة من ظفر من الدهر بمطلوبه، وجرى له القدر على وفق مرغوبه، فشرع له إلى أهله باباً، ورفع له من خجله جلباباً، فهويكلف بالاقتحام، ويأنف من الإحجام، غير أن الحصر عن درج قصده يقيده، والبصر يبهرج نقده فيقعده، فهو يقدم رجلاً ويؤخر أخرى، ويجدد عزماً ثم لا يتحرى، فإن أبطأ خطابي فلواضح الأعذار، ومثلكم من قبل جليات الأقدار، والله سبحانه يصل لكم عوائد الإسعاد والإسعاف، ويحفظ بكم ما للمجد من جوانب وأكناف، إن شاء الله تعالى. وكتب في عاشر ربيع الأول عام ثمانية وأربعين وسبعمائة "؛ انتهى.
ومن خاتمة رسالة من إنشاء ابن خاتمة المذكور: فلنصرف عنان البطالة عن الإطالة، ونسلم على السيادة الطاهرة الأصالة، بأطيب تسليم، ختامه مسك ومزاجه من تسنيم.
ومن نظم ابن خاتمة المذكور (1) :
هو الدهر لا يبقي على عائذ به
…
فمن شاء عيشاً يصطبر لنوائبه
فمن لم يصب في نفسه فمصابه
…
بفوت أمانيه وفقد حبائبه ومنه قوله:
ملاك الأمر تقوى الله، فاجعل
…
تقاه عدة لصلاح أمرك
وبادر نحو طاعته بعزم
…
فما تدري متى يقضى بعمرك [8 - رسالة أخرى من ابن خاتمة إلى لسان الدين]
وقال لسان الدين: وكتب إلي يعني ابن خاتمة المذكور عقب انصرافه من غرناطة في بعض قدماته عليها ما نصه (2) : مما قلته بديهة عند الإشراف على جنابكم السعيد ودخوله مع النفر الذين أتحفتهم سيادتكم بالإشراف عليه، والدخول إليه، وتنعيم الأبصار في المحاسن المجموعة لديه، وإن كان يوماً قد غابت شمسه، ولم يتفق أن كمل أنسه، وأنشدته حينئذ بعض من حضر ولعله لم يبلغكم، وإن كان قد بلغكم ففضلكم يحملني في إعادة الحديث:
أقول وعين الدمع نصب عيوننا
…
ولاح لبستان الوزارة جانب
أهذي سماء أم بناء سما به (3)
…
كواكب غضت عن سناها الكواكب
تناظرت الأشكال منه تقابلاً
…
على السعد وسطى عقده والحبائب
وقد جرت الأمواه فيه مجرة
…
مذانبها شهب لهن ذوائب
وأشرف من علياه بهو تحفه
…
شماسي زجاج وشيها متناسب
(1) القطعتان في الإحاطة: 122 - 123.
(2)
المصدر لسابق: 123 والكتيبة: 244.
(3)
الإحاطة: سماؤه.
يطل على ماء به الآس دائراً (1)
…
كما افتر ثغر أوكما اخضر شارب
هنالك ما شاء العلا من جلالة
…
بها يزدهي بستانها والمراتب ولما أحضر الطعام هنالك دعي شيخنا القاضي أبو البركات فاعتذر أنه صائم قد بيته من الليل، فحضرني أن قلت:
دعونا الخطيب أبا البركات
…
لأكل طعام الوزير الأجل
وقد ضمنا في نداه جنان
…
به احتفل الحسن حتى كمل
فأعرض عنا لعذر الصيام
…
وما كل عذر له مستقل
فإن الجنان محل الجزاء
…
وليس الجنان محل العمل وعندما فرغت من الطعام أنشدت الأبيات شيخنا أبا البركات، فقال لي: لوأنشدتنيها وأنتم بعد لم تفرغوا منه لأكلت معكم، براً بهذه الأبيات، والحوالة في ذلك على الله تعالى؛ انتهى.
ومن نظم ابن خاتمة المذكور في فران:
رب فران جلا صفحته
…
لهب الفرن جلاء العسجد
يضرم النار بأحشاء الورى
…
مثلما يضرم في المستوقد
فكأن الوجه منه خبزة
…
فوقها الشعر كقدر أسود [أحمد بن صفوان]
وقال لسان الدين رحمه الله تعالى (2) : ولما قدمت مالقة آيباً من السفارة إلى ملك المغرب محفوفا ًبفضل الله تعالى وجميل صنعه، موفى المآرب، مصحباً
(1) ق: دائر.
(2)
انظر ترجمة ابن صفوان في الإحاطة 1: 100 والطتيبة: 216.
بالإعانة، لقيني على عادته مهيناً، يعني أحمد بن صفوان أحد أعلام مالقة وبقية أدبائها وصدور كتابها، وأنشدني معيداً في الود مبدياً، وضمن غرضاً له تعجل قضاءه والحمد لله تعالى:
قدمت بما سر النفوس اجتلاؤه
…
فهنيت ما عم الجميع هناؤه
قدوماً بخير وافر وعناية
…
وعز مشيد بالمعالي بناؤه
ورفعة قدر لا يداني محلها
…
رفيع وإن ضاهى السماك اعتلاؤه
بلغت الذي أملته من صلاحهم
…
فأدركت مأمولاً عظيماً جزاؤه
فيا واحداً أغنت عن الجمع ذاته
…
وقام بأعباء الأمور غناؤه
تشوقك الملك الذي بك فخره
…
وأنت حقيقاً حسنه وبهاؤه
فلا زال مزداناً بحليك جوده
…
ولا زال موفوراً عليك اصطفاؤه
وخصصت من رب العباد بنعمة
…
ينيلكها تخصيصه واحتفاؤه
وعشت عزيزاً في النفوس محبباً
…
يلبي بتبجيل وبر نداؤه
وقد جاءني داعي السرور مؤديا
…
لحق هناء فرض عين أداؤه
ولي بعد هذا مأرب متوقف
…
على فضلك الرحب الجناب قضاؤه
هززت له عطف البطرني راجياً
…
له النجح فاستعصى وخاب رجاؤه
ولم يدر أني من علائك منتض
…
حساماً كفيلاً بالنجاح انتضاؤه
يصمم إن هزته كفي لمعضل
…
فيكفي العنا تصميمه ومضاؤه
فحقق له دامت سعودك حرمتي
…
لديك يرحني مطلة والتواؤه
وشارك محباً خالصاً لك حبه
…
قديماً كريماً عهده ووفاؤه
وصل بجزيل الرعي حبل ذمامه
…
يصلك جزيلاً شكره وثناؤه
بقيت وصنع الله يدني لك المنى
…
ويوليك من مصنوعه ما تشاؤه
بحرمة من حقت سيادته على
…
بني آدم والخير منه ابتداؤه
وجمعت (1) ديوان شعره أيام مقامي بمقالة عند توجهي صحبة الركاب السلطاني إلى إصراخ الخضراء عام أربعة وأربعين وسبعمائة، وقدمت صدره خطبة، وسميت الجزء " بالدررالفاخرة واللجج الزاخرة ".
[9 - إجازة ابن صفوان للسان الدين]
وطلبت منه أن يجزيني وولدي عبد الله رواية ذلك عنه، فكتب بخطه الرائق بظهر المجموع ما نصه: الحمد لله مستحق الحمد، أجبت سؤال الفقيه الأجل الأفضل السري الماجد الأوحد الأحفل الأديب البارع الطالع في أفق المعرفة والنباهة، والرفعة المكنية والوجاهة، بأبهى المطالع، المصنف الحافظ العلامة الحائز في فني النظم والنثر، وأسلوبي الكتابة والشعر، رتبة الرياسة والإمامة، محلي جيد العصر بتآليفه الباهرة الرواء، ومجلي محاسن بنيه الرائقة على منصة الإشادة والأنباء أبي عبد الله ابن الخطيب، وصل الله تعالى سعادته، وحرس مجادته، وسنى من الخير الأوفر، والصنع الأبهر، مقصده وإرادته، وبلغه في نجله الأسعد، وابنه الراقي بمحتده الفاضل ومنشئه الأطهر محل الفرقد، أفضل ما يؤمل نحلته إياه من المكرمات وإفادته، وأجزت له ولابنه عبد الله المذكور أبقاهما الله تعالى في عزة سنية الخلال، وعافية ممتدة الأفياء وارفة الظلال، رواية جميع ما تقيد في الأوراق المكتتب على ظهر أول ورقة منها من نظمي ونثري، ما توليت إنشاءه، واعتمدت بالارتجال والرواية اختياره وانتقاءه، أيام عمري، وجميع ما لي من تصنيف وتقييد، ومقطوعة وقصيد، وجميع ما أحمله عن أشياخي رضي الله تعالى عنهم من العلوم، وفنون المنثور والمنظوم، بأي وجه تأدى ذلك إلي، وصح حملي له وثبت إسناده لدي، إجازة تامة في ذلك كله عامة، على سنن الإجازات الشرعي، وشرطها
(1) الإحاطة: 105.
المأثور عند أهل الحديث المرعي، والله ينفعني وإياهما بالعلم وحمله، وينظمنا جميعاً في سلك حزبه المفلح وأهله، ويفيض علينا من أنوار بركته وفضله؛ قال ذلك وكتبه بخط يده الفانية العبد الفقير إلى الله الغني به أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن صفوان، ختم الله تعالى له بخير، حامداً الله تعالى، ومصلياً ومسلماً على نبيه المصطفى الكريم، وعلى آله الطاهرين ذوي المنصب العظيم، وصحابته البررة أولي الأثرة والتقديم، في سادس ربيع الآخر عام أربعة وأربعين وسبعمائة، وحسبنا الله ونعم الوكيل؛ انتهى.
[10 - من العذري إلى لسان الدين]
وكتب الفقيه أبوجعفر ابن عبد الملك العذري من أهل سبتة إلى لسان الدين رحمه الله تعالى في بعض الأغراض:
إني بمجدك لم أزل مستيقنا
…
أن لا يهدم بالتغير ما بنى
إذ أنت أعظم ماجد يعزى له
…
صفح وأكرم من عفا عمن جنى وكتب أيضًا:
إن كان دهري قد أساء وجارا
…
فذمام مجدك لا يضيع جارا
فلأنت أعظم ملجأ ينجي إذا
…
ما الدهر أنجد موعداً وأغارا [11 - رسالة من لسان الدين إلى ابن نفيس]
وقال لسان الدين رحمه الله تعالى: خاطبت الشيخ الشريف الفاضل أبا عبد الله ابن نفيس صحبة ثمن مسكن اشتريته منه، وكان قد أهداني فرسًا عتيقاً:
جزيت يا ابن رسول الله أفضل ما
…
جزى الإله شريف البيت يوم جزى
إن أعجز الشكر مني منة ضعفت
…
عن بعض حقك شكر الله ما عجزا سيدي، أبقى الله شرفك تشهد به الطباع، إذا بعدت المعاهد المقدسة والرباع، وتعترف به الأبصار والأسماع، وإن جحدت عارضها الإجماع، بأي لسان أثني أم أي الأفنان أهصر وأجني أم أي المقاصد الكريمة أعني أمطيت جوادك المبارك، وأسكنت دارك، وأوسعت مطلبي اصطبارك، وهضمت حقك وبوأت جوارك، ووصلت للغرباء إيثارك، أشهد أنك الكريم ابن الكريم، لا أقف في تعدادها عند حد (1) إلى خير جد، فإن أعان الدهر على مجازاة، وإن ترفع كرمك عن موازاة، فحاجة نفس قضيت، وأحكام آمال أمضيت، وإن اتصل العجز فعين على القذى أغضيت، ومناصل عزم ما انتضيت، وعلى كل حال فالثناء ذائع والحمد شائع، واللسان والحمد لله طائع، والله مشتر ما أنت بائع (2) ، وقد وجهت لمن يحاول لسيدي ثمن ما اكتسبه مجده، وسفر عنه حمده، والعقيدة بعد التراضي، وكمال التقاضي، وحميد الصبر وسعة التغاضي، وكونه الخصم والقاضي، أنه هبة سوغها إنعامه، وأكلة هناها مطعامه، نسأل الله تعالى أن يعلي ذكره، ويتولى شكره، وينمي ماله، ويرفع قدره، والولد جاره الغريب الذي برز إلى مقارعة الأيام عن خبرة قاصرة، وتجربة غير منجدة على الدهر وناصرة، قد جعلته وديعة في كرم جواره، ووضعته في حجر إيثاره، فإن زاغ فيده العليا في تبصيره، ومؤاخذته بتقصيره، ومن نبه مثله نام، ومن استنام إليه بمهمة أكرم بمن إليه استنام، وإن تشوف (3) سيدي لحال محبه فمطلق للدنيا من عقال، ورافض أثقال، ومؤمل اعتياض بخدمة الله تعالى وانتقال "، انتهى.
(1) وهضمت
…
عند حد: سقطت من ق.
(2)
والحمد
…
بائع: سقطت من ق.
(3)
ق: تشوق.
[12 - من لسان الدين إلى ابن رضوان]
وقال رحمه الله تعالى: مما خاطبت به صدر الفضلاء الفقيه المعظم أبا القاسم ابن رضوان بما يظهر داعيته من فحواه:
مرضت فأيامي لديك مريضة
…
وبرؤك مقرون ببرء اعتلالها
فلا راع تلك الذات للضر رائع
…
ولا وسمت بالسقم غر خلالها " وردت علي من فئتي التي إليها في معرك الدهر أتحيز، وبفضل فضلها في الأقدار المشتركة أتميز، سحاءة سرت وساءت، وبلغت من القصدين ما شاءت، أطلع بها سيدي صنيعة وده من شكواه على كل عابث في السويداء، موجب اقتحام البيداء، مضرم نار الشفقة في فؤاد لم يبق من صبره إلا القليل، ولا من إفصاح لسانه إلا الأنين والأليل، ونوى مدت الغير ضرورة يرضاها الخليل، فلا تسأل عن ضنين تطرقت اليد إلى رأس ماله، أوعابد نوزع متقبل أعماله، أوآمل ضويق في فذلكة آماله، لكنني رجحت دليل المفهوم على دليل المنطوق، وعارضت القواعد الموحشة بالفروق، ورأيت الخط يبهر والحمد لله تعالى ويروق، واللفظ الحسن تومض في حبره للمعنى الأصيل بروق، فقلت: ارتفع الوصب، ورد من صحة المغتصب، وآلة الحس والحركة هي العصب، وإذا أشرق سراج الإدراك دل على سلامة سليطه، والروح خليط البدن والمرء بخليطه، وعلى ذلك فلا يقنع بليد احتياطي إلا الشرح، ففيه يسكن الظمأ البرح، وعذراً عن التكليف فهومحل الاستقصاء والاستفسار، والإطناب والإكثار، وزند القلق في مثلها أورى، والشفيق بسوء الظن مغرى، وسيدي هوالعمدة التي سلمت لي الأيام فيها، وقالت: حسب آمالك ويكفيها، فكيف لا أشفق، ومن أنفق من عينه فأنا من عيني لا أنفق، والله لا يحبط سعيي في سؤال عصمتها ولا يخفق، ويرشد إلى شكره على ما وهب منها ويوفق، والسلام الكريم على سيدي البر الوصول
الذي زكت منه الفروع لما طابت الأصول، وخلص من وده لابن الخطيب المحصول، ورحمة الله تعالى وبركاته ".
[13 - جواب ابن رضوان]
قال: فراجعني حفظ الله سيادته بما نصه:
متى شئت ألفي من علائك كل ما
…
ينيل من الآمال خير منالها
كبرء اعتلال من دعائك زارني
…
وعادات بر لم ترم عن وصالها " أبقى الله ذلك الجلال الأعلى متطولاً بتأكيد البر، متفضلاً بموجبات الحمد والشكر، وردتني سحاءته المشتملة على معهود تشريفه، وفضله الغني عن تعريفه، متحفياً في السؤال، عن شرح الحال، ومعلناً بما تحلى به من كرم الخلال، والشرف العال، والمعظم على ما يسر ذلك الجلال الوزاري الرياسي أجراه الله تعالى على أفضل ما عوده، كما أعلى في كل مكرمة يده، ذلك ببركة دعائه الصالح، وحبه المخيم بين الجوانح، والله سبحانه المحمود على نعمه، ومواهب لطفه وكرمه، وهوسبحانه المسؤول أن يهيىء لسيدي قرار الخاطر، على ما يسره في الباطن والظاهر، بمن الله تعالى وفضله، والسلام الكريم على جلاله الأعلى ورحمة الله وبركاته، كتبه المعظم الشاكر الداعي الذاكر المحب ابن رضوان، وفقه الله تعالى، في ذي الحجة ختام عام واحد وستين وسبعمائة؛ انتهى.
[14 - من لسان الدين إلى الجنان]
وقال رحمه الله تعالى: وفاتحته - يعني الشيخ الجنان - محركاً قريحته ومستثيراً ما عنده، بقولي:
إن كانت الآداب أضحت جنة
…
فلقد غدا جنانها الجنان
أقلامه القضب اللدان بدوحها
…
والزهر ما رقمته منه بنان وذكر بعد البيتين سجعاً بليغاً.
[15 - جواب الجنان]
ثم قال: فراجعني الجنان بما نصه:
يا خاطب الآداب مهلاً فقد
…
ردك عن خطبتها ابن الخطيب
هل غيره في الأرض كفء لها
…
وشرطها الكفاة قول مصيب
أصبح للشرط بها معرساً
…
فاستفت في الفسخ فهل من مجيب أيها السيد الذي يتنافس في لقائه ويتغالى، ويصادم بولائه صرف الزمان ويتعالى، وتستنتج نتائج الشرف بمقدمات عرفانه، وتقتنص شوارد العلوم بروايات كلامه فكيف بمداناة عيانه، جلوت علي من بنات فكرك عقائل نواهد، وأقمت بها على معارفك الجمة دلائل وشواهد، واقتنصت بشرك بديهتك من المعاني أوابد شوارد، وفجرت من بلاغتك وبراعتك حياضاً عذبة الموارد، ثم كلفتني من إجراء ظالعي (1) في ميدان ضليعها، مقابلة الشمس المنيرة بسراج عند طلوعها، فأخلدت (2) إخلاد مهيض الجناح، وفررت فرار الأعزل عن شاكي السلاح، وعلمت أني إن أخذت نفسي بالمقابلة، وأدليت دلوقريحتي للمساجلة كنت كمن كاف الأيام مراجعة أمسها، أو طلب ممن علته السماء محاولة لمسها وإن رضيت من القريحة بسجيتها، وأظهرت القدر الذي كنت امتحت من ركيتها، أصبحت مسخرة للراوين والسامعين، ونبت عن أسمى دواوينهم
(1) ق ص: طالعي.
(2)
ق ص: فأخذت.
كما تنبوعن الأشيب عيون العين، ثم إن أمرك يا سيدي لا يحل وثيق مبرمه، ولا يحل نسخ محكمه، فامتثلته امتثال من لم يجد في نفسه حرجاً من قضائك، ورجوت حسن تجاوزك وإغضائك، أبقاك الله تعالى قطباً لفلك المكارم والمآثر، وفصاً لخاتم المحامد والمفاخر، والسلام "؛ انتهى.
[ترجمة ابن الجنان]
والجنان المذكور (1) مغربي من مكناسة الزيتون، وهوالشيخ الفقيه العدل الأديب الأخباري المشارك، أبوجعفر أحمد بن محمد بن إبراهيم الأوسي، الجنان، من أهل الظرف والانطباع والفضيلة، كاتب عاقل ناظم ناثر مشارك في فنون العلم، له تصنيف حسن في ثلاث مجلدات سماه " المنهل المورود في شرح المقصد المحمود " شرح فيه وثائق أبي القاسم الجزيري المالكي، فأربى على غيره بياناً وإفادة، قال في " نفاضة الجراب ": وناولني إياه، وأذن لي في حملي عنه، وأنشدني كثيراً من شعره، فمن ذلك ما صدر به رسالة يهنىء بها ناقهاً من مرض (2) :
البس الصحة برداً قشيباً
…
وارشف النعمة ثغراً شنيبا
واقطف الآمال زهراً نضيراً
…
واعطف الإقبال غصناً رطيبا
إن يكن ساءك وعك تقضى
…
تجد الأجر عظيماً رحيبا
فانتعش في دهرنا ذا سرور
…
يصبح الحاسد منه كئيبا [مقطعات وقصائد تكتب على المباني]
وقال أيضاً لسان الدين في النفاضة: قرأت بالدور الخشبي في الدار التي
(1) انظر ترجمته في نيل الابتهاج: 50.
(2)
الأبيات في المصدر المذكور.
نزلت بها بمكناسة الزيتون أبياتاً منقشة استحسنتها لسهولتها فأخبرني أنها من نظمه، وهي:
انظر إلى منزل متى نظرت
…
عيناك يعجبك كل ما فيه
ينبىء عن رفعة لمالكه
…
وعن ذكاء الحجى لبانيه
يناسب الوشي في أسافله
…
ما يرقم النقش في أعاليه
كأنه روضة مدبجة
…
جاد لها وابل بما فيه
فأظهرت للعيون زخرفها
…
ووافقتها على تجليه
فهوعلى بهجة تلوح به
…
ورونق للجمال يبديه
يشهد للساكنين أن لهم
…
من جنة الخلد ما يحاكيه قلت: قد تذكرت هنا، والشيء بالشيء يذكر، ما رأيته مكتوباً على دائرة مجرى الماء بمدرسة تلمسان التي بناها أمير المسلمين ابن تاشفين الزياني، وهي من بدائع الدنيا، وهو:
انظر بعينك بهجتي وسنائي
…
وبديع إتقاني، وحسن بنائي
وبديع شكلي، واعتبر فيما ترى
…
من نشأتي بل من تدفق مائي
جسم لطيف ذائب سيلانه
…
صاف كذوب الفضة البيضاء
قد حف بي أزهار وشي نمقت
…
فغدت كمثل الروض غب سماء وما أنشده بعض أهل العصر في المغرب بقصد أن يرسم في الأستار المذهبة المحكمة الصنعة التي جعلها السلطان المنصور أبوالعباس الشريف الحسني رحمه الله تعالى لكي يستر بها النواحي الأربع من القبة الكبيرة بالبديع، وتسمى هذه الستور عند أهل المغرب بالحائطي، ففي الجهة الأولى:
متع جفونك من بديع لباسي
…
وأدر على حسني حميا الكاس
هذي الربى والروض من جرعائها
…
مما اغتذى (1) بالعارض البجاس
أنى لروض أن يروق بهاؤه
…
مثلي وأن يجري على مقياس
فالروض تغشاه السوام، وإنما
…
تأوي إلى كنفي ظباء كناس وعلى الجهة الثانية:
من كل حسنا كالقضيب إذا انثنى
…
تزري بغصن البانة المياس
ولقد نشرت على السماك ذوائبي
…
ونظرت من شزر إلى الكناس
وجررت ذيلي بالمجرة عابثاً
…
فخراً بمخترعي أبي العباس
ما نيط مثلي في القبا ولا ازدهت
…
بفتى سواه مراتب وكراسي وعلى الجهة الثالثة:
ملك تقاصرت الملوك لعزه
…
ورماهم بالذل والإتعاس
غيث المواهب بحر كل فضيلة
…
ليث الحروب مسعر الأوطاس
فرد المحاسن والمفاخر كلها
…
قطب الجمال أخوالندى والباس
ملك إذا وافى البلاد تأرجت
…
منه الوهاد بعاطر الأنفاس وعلى الجهة الرابعة:
وإذا تطلع بدره من هالة
…
يعشي سناه نواظر الجلاس
أيامه غرر تجلت كلها
…
أبهى من الأعياد والأعراس
لا زال للمجد السني يشيده
…
ويقيم مبناه على الآساس
ما مال بالغصن النسيم وحببت
…
درر الندى في جيده المياس وما أنشدنيه بعض العصريين من المغاربة لصاحبنا المرحوم الفقيه الكاتب
(1) في ص: علماً اغتذى؛ ق: على ما اغتدى.
المحقق أبي محمد بن أحمد المسفيوي المراكشي (1) أحد مشاهير الكتاب بباب أمير المؤمنين المنصور بالله أبي العباس الشريف الحسني ملك المغرب، صب الله تعالى على الجميع أمطار الرضوان مما كتب في بعض مباني صاحبنا الوزير العلامة الأجل سيدي عبد العزيز الفشتالي رحمه الله تعالى، وهو:
أجل المعلى من قداح سروري
…
وأدر كؤوس الأنس دون شرور
خلعت على عطف البهاء محاسني
…
فكست به الآفاق ثوب حبور
وتناسق الوشي المفوف حلتي
…
نسق الشذور على نحور الحور
شأو القصور قصورها عن رتبة
…
لي بالسنا الممدود والمقصور (2)
في المبتنى المراكشي وأفقه
…
أزرى على الزوراء والخابور
أعلى مقامي البارع الأسمى الذي
…
قد حاز سبق النظم والمنثور
فإذا أقل بنانه أقلامه
…
نفثت (3) عقود السحر بين سطور
عبد العزيز أخ الجلالة كاتب
…
سر الخليفة أحمد المنصور
لا زال في يمن وأمن ما شدت
…
ورق ورق بالندى ممطور وبعضه كتبته بالمعنى من حفظي لطول العهد، والغاية في هذا الباب ما أنشدنيه لنفسه الوزير أبو فارس عبد العزيز الفشتالي المذكور، وهي جملة من قصائد كتبت في المباني الملوكية، المنصورية بالحضرة المراكشية، حاطها الله تعالى، فمنها ما كتب خارج القبة الخمسينية أي التي فيها خمسون ذراعاً بالعمل، وذلك قوله رحمه الله تعالى على لسان القبة (4) :
(1) ترجم له المقري في روضة الآس: 163 وأورد جملة من شعره، وانظر درة الحجال 1: 128 وله قصائد في مناهل الصفا.
(2)
يريد: بالسنا (مقصوراً) وبالسناء (ممدوداً) .
(3)
ق: نقشت.
(4)
وردت القصيدة في روضة الآس: 138 - 139.
سموت فخر البدر دوني وانحطا
…
وأصبح قرص الشمس في أذني قرطا
وصغت من الإكليل تاجاً لمفرقي
…
ونيطت بي الجوزاء في عنقي سمطا
ولاحت بأطواقي الثريا كأنها
…
نثير جمان قد تتبعته لقطا
وعديت عن زهر النجوم لأنني
…
جعلت على كيوان رحلي منحطا
وأجريت من فيض السماحة والندى
…
خليجاً على نهر المجرة قد غطى
عقدت عليه الجسر للفخر فارتمت
…
إليه وفود البحر تغرف ما أنطى
تنضنض ما بين الغروس كأنه
…
وقد رقرقت حصباؤه حية رقطا
حواليه من دوح الرياض خرائد
…
وغيد تجر (1) من خمائلها مرطا
إذا أرسلت لدن الفروع وفتحت
…
جنى الزهر لاح في ذوائبها وخطا
يرنحها مر النسيم إذا سرى
…
كما مال نشوان تشرب إسفنطا
يشق رياضاً جادها الجود والندى
…
سواء لديها الغيث أسكب أم أخطا
وسالت بسلسال اللجين حياضه
…
بحاراً غدا عرض البسيط لها شطا
تطلع منها وسط وسطاه دمية
…
هي الشمس لا تخشى كسوفاً ولا غمطا
حكت وحباب الماء في جنباتها
…
سنا البدر حل من نجوم السما وسطا
إذا غازلتها الشمس ألقى شعاعها
…
على جسمها الفضي نهراً بها لطا
توسمت فيها من صفاء أديمها
…
نقوشاً كأن المسك ينقطها نقطا
إذا اتسقت بيض القباب قلادة
…
فإني لها في الحسن درتها الوسطى
تكنفني بيض الدمى فكأنها
…
عذارى نضت عنها القلائد والريطا
قدود ولكن زانها الحسن عريها
…
وأجمل في تنعيمها النحت والخرطا
نمت صعداً تيجانها فتكسرت
…
قوارير أفلاك السماح بها ضغطا
فيا لك شأواً بالسعادة آهلاً (2)
…
بأكنافه رحل العلا والهدى حطا
(1) ص ق: تجرر، ولا يصلح للوزن.
(2)
ق ص: شأون
…
آهل.
وكعبة مجد شادها العز فانبرت
…
تطوف بمغناها أماني الورى شوطا
ومسرح غزلان الصريم كناسها
…
حنايا قباب لا الكثيب ولا السقطا
فلكن به ما طاب لا الأثل والخمطا
…
ووسدن فيه الوشي لا السدر والأرطى
تراه من المسك الفتيت مدبراً
…
إذا مازجته السحب عاد بها خلطا
وإن باكرته نسمة سحراً سرى (1)
…
إلى كل أنف عرف عنبره قسطا
أقرت له الزهراء والخلد وانتقت
…
أواوين كسرى الفرس تغبطه غبطا
جناب رواق المجد فيه مطنب
…
على خير من يعزى لخير الورى سبطا
إمام يسير الدهر تحت لوائه
…
وترسى سفان للعلا حيثما وطا
وفتاح أقطار البلاد بفيلق
…
يفلق هامات العدا بالظبى خبطا
تطلع من خرصانه الشهب فانثنت
…
ذوائب أرض الزنج من ضوئها شمطا
كتائب نصر إن جرت لملمة
…
جرت قبلها الأقدار تسبقها فرطا
إذا ما عقدن راية علوية
…
جعلن ضمان الفتح في عقدها شرطا
فما للسما تلك الأهلة إنما
…
سنابكها أبقت مثالاً بها خطا
يطاوع أيدي المعلوات عنانها
…
فيعتاض من قبض الزمان بها بسطا
يد لأمير المؤمنين بكفها
…
زمام يقود الفرس والروم والقبطا
أدار جداراً للعلا وسرادقاً
…
يحوط جهات الأرض من رعيه حوطا وقوله مما كتب ببهوها بمرمر أسود في أبيض (2) :
لله بهو عز منه نظير
…
لما زها كالروض وهو نضير
رصفت نقوش حلاه رصف قلائد (3)
…
قد نضدتها في النحور الحور
فكأنها والتبر سال خلالها
…
وشي وفضة تربها كافور
(1) روضة الآس: نسمة لسرى بها.
(2)
روضة الآس: 136.
(3)
ق: قلادة.
وكأن أرض قراره ديباجة
…
قد زاد حسن طرازها تشجير
وإذ تصعد نده نوءاً ففي
…
أنماطه به نور به ممطور
شأو القصور قصورها عن وصفه
…
سيان فيه خورنقٌ وسدير
فإذا أجلت اللحظ في جناباته
…
يرتد وهو بحسنه محسور
وكأن موج البركتين أمامه
…
حركات سجفٍ صافحته دبور
صفت بصفتها تماثل فضةٍ
…
ملك النفوس بحسنها تصوير
فتدير من صفوالزلال معتقاً
…
يسري إلى الأرواح منه سرور
ما بين آساد يهيج زئيرها
…
وأساودٍ يسلي لهن صفير
ودحت من الأنهار أرض زجاجةٍ
…
وأظلها فلكٌ يضيء منير
راقت فمن حصبائها وفواقعٍ
…
تطفو (1) عليها اللؤلؤ المنثور
يا حسنه من مصنعٍ فبهاؤه
…
باهى نجوم الأفق وهي تنور
وكأنما زهر الرياض بجنبه
…
حيث التفت كواكبٌ وبدور
ولدسته الأسمى تخير رصفه
…
فخر الورى وإمامها المنصور
ملكٌ أناف على الفراقد رتبةً
…
وأقله فوق السماك سرير
قطب الخلافة تاج مفرق دولة
…
رميت بجحفلها اللهام الكور
وجرى إلى أقصى العراق لرعيها (2)
…
جيشٌ على جسر الفرات عبور
نجل النبي ابن الوصي سليل من
…
حقن الدماء وعف وهو قدير
بحر الندى لكنه متموجٌ
…
سيف العلا لكنه مطرور
طودٌ يخف لحلمه ووقاره
…
ولجيشه يوم النزال ثبير
دامت معاليه ودام مجده
…
طوقٌ على جيد العلا مزرور
وتعاهدته عن الفتوح بشائرٌ
…
يغدو عليه بها المسا وبكور
(1) ق والروضة: يطلفو.
(2)
الروضة: لرعيها.
ما دام منزل سعده يرقى به (1)
…
نصرٌ يرف لواؤه المنشور
ومشت (2) به مرحاً جياد مسرةٍ
…
وأدار كأس الأنس فيه سمير وقوله مما كتب بداخل القبة المذكورة (3) :
جمال بدائعي سحر العيونا
…
ورونق منظري بهر الجفونا
وقد حسنت نقوشي واستطارت
…
سناً يعشي عيون الناظرينا
وأطلع سمكي الأعلى نجوماً
…
ثواقب لا تغور الدهر حينا
وجوي من دخان الند ألقى
…
على أرضي الغياهب والدجونا
علوت دوائر الأفلاك سبعاً
…
لذاك الدهر ما ألفت سكونا
فصغت من الأهلة والحنايا
…
أساور الخلاخل والبرينا
تكنفني حياضٌ مائحاتٌ
…
أمامي والشمال أو اليمينا
يقيد حسنها (4) الطرف انفساحاً
…
ويجري (5) الفلك فيها والسفينا
تدافع نهرها نحوي فلما
…
تلاقى البحر في جريٍ دفينا
ترى شهب السماء بهن غرقى
…
فتحسبها بها الدر المصونا
وقد نشر (6) الحباب على سماها
…
لآلىء تزدري العقد الثمينا
فخرت وحق لي لما اجتباني
…
لمجلسه أمير المؤمنينا
هو المنصور حائز خصلٍ سبقٍ
…
وباني المجد بنياناً مكينا
وليث وغى إذا زأر امتعاضاً
…
يروع زئيره هنداً وصينا
إذا أمت كتائبه الأعادي
…
بعثن برعبه جيشاً كمينا
(1) الروضة: يرتاده.
(2)
ق: وجرت.
(3)
روضة الآس: 135.
(4)
ص: جنحها.
(5)
ص: ويكري.
(6)
ق: نثر.
يدير عنهم من كل حربٍ
…
تدقهم رحىً أو منجنونا
إمام بالمغارب لاح شمساً
…
بها الشرق اكتسى نوراً مبينا
بقيت بذي القصور الغرّ بدراً
…
تلوح بأفقهن مدى السنينا
تحفّ بكم عواكف عند بابي
…
ملائكة كرام كاتبونا
لك البشرى أمير المؤمنين اد
…
خلوها بسلام (1) آمنينا وقوله في بعض المباني المنصورية (2) :
معاني الحسن تظهر في المغاني
…
ظهور السحر في حدق الحسان
مشابه في صفات الحسن أضحت
…
تمت بها المغاني للغواني
بكل عمود صبحٍ من لجينٍ
…
تكون في استقامة خوط بان
مفصلة القدود مثلثاتٍ
…
مواصلة العناق من التداني
تردت سابري الحسن يزري
…
بحسن السابري الخسرواني
وتعطو الخيزرانة من دماها
…
بسالفة القطيع البرهماني
لمجدك تنتمي لكن نماها
…
إلى صنعاء ما صنع اليدان
يدين لك ابن ذي يزنٍ ويعنو
…
لها غمدان في أرض اليمان
غدت حرماً ولكن حل فيها
…
لوفدكم الأمان مع الأماني
مبانٍ (3) بالخلافة آهلاتٌ
…
بها يتلوالهدى السبع المثاني
هي الدنيا وساكنها إمامٌ
…
لأهل الأرض من قاصٍ وداني
قصورٌ ما لها في الأرض شبهٌ
…
وما في المجد للمنصور ثاني وقوله رحمه الله تعالى مما كتب في المصرية (4) المطلة على الرياض المرتفعة
(1) الروضة: مع سلامة.
(2)
روضة الآس: 133.
(3)
ق: منازل.
(4)
المصرية: منزل يبنى شبه علية.
على القبة الخضراء من بديع (1) المنصور وكان إنشاؤها في جمادى الأولى من عام خمسة وتسعين وتسعمائة (2) :
باكر لدي من السرور كؤوسا
…
وأرض النديم أهلةً وشموسا
واعرج على (3) غر في المنيف سماؤها
…
تلق الفراقد في حماي جلوسا
وإذا طلعت بأوجها قمر العلا
…
لا ترتضي غير النجوم جليسا
شرق القصور بريقها لما اجتلت
…
مني على بسط الرياض عروسا
واعتضت بالمنصور أحمد ضيغماً
…
ورداً تحيز من بديعي خيسا
ملكٌ أرى كل الملوك ممالكاً
…
لعلاه والدنيا عليه حبيسا
دامت وفود السعد وهي عواكفٌ
…
تصل المقيل لدي والتعريسا
وهناك يا شرف الخلافة دولةٌ
…
تلقى برايتها طلائع عيسى وقوله من جملة قصيدة من نمط ما تقدم لم أستحضر أولها (4) :
سلبت تماثلها الحجى لما اغتدت
…
تزهو بحسن طرازها تذهيبا
ولقد تشامخ في العلو سماكها
…
فجرى على الفلك المنير جنيبا
وسما إلى الشهب الزواهر فاغتدى ال
…
إكليل منها تاجها المعصوبا
هذا البديع يعز شبه بدائعٍ
…
أبدعتهن به فجاء غريبا
أضنى الغزالة حسنه حسداً لذا
…
أبدى عليها للأصيل شحوبا
وانقضت الزهر المنيرة إذ رأت
…
زهر الرياض به ينور عجيبا
شيدتهن مصانعاً وصنائعاً
…
أنجزن وعدك للعلا المرقوبا
(1) البديع: أحد المنشآت الثلاث التي بناها المنصور، والاثنتان الأخريان هما: المسرة والمشتهى.
(2)
روضة الآس: 134.
(3)
الروضة: إلى.
(4)
هذا ما قاله أيضاً في الروضة: 135 وزاد هنالك: " ولعلي أجد أولها إن شاء الله فألحقه بها " وانظر القصيدة في مناهل الصفا 2: 281.
وجريت في كل الفخار لغاية
…
أدركتها أوما مسست لغوبا
فانعم بملكك فيه دام مؤبداً
…
تجني به فنن النعيم رطيبا
وإليكها عذراء فكر أهديت
…
وجعلت مدحك مهرها الموهوبا
ونظمت من درر البلاغة عقدها
…
ففدا يروق بجيدها ترتيبا
ورفعتها لمقامكم تمشي على اس
…
تحيا فيزعجها الولا ترغيبا
فأتت على شرف لكم فتوقفت
…
لما رأت ذاك الجلال مهيبا
شفعت إليك بحب جدك أحمد
…
لتنيلها منك الرضى المرغوبا
دامت بك الدنيايروق جمالها
…
وإلى القيامة أمركم مرهوبا
وكلاكم الله العظيم كلاءةً
…
يرعى بها خلفاً لكم وعقيبا [رسالة من الفشتالي إلى المؤلف]
ومحاسن صاحبنا المذكور في النظم والنثر يضيق عنها هذا التأليف، وكنت أثبت منها جملة في غير هذا الموضع. ولما أحس بعزمي على الرحلة إلى الحجاز، واقتضائي من سلطان المغرب في وعده لي بها النجاز، كتب إلي من حضرة مراكش وأنا حينئذ بفاس، ما صورته بعد سطر الافتتاح:
يا نسمة عطست بها أنف الصبا
…
فتضمخت بعيرها قنن الربى
هبي على ساحات أحمد واشرحي
…
شوقي إلى لقياه شرحاً مطنبا
وصفي له بالمنحنى من أضلعي
…
قلباً على جمر الغضا متقلبا
بان الأحبة عنه، حي قد توى
…
منهم، وآخر قد نأى وتغيبا
فعساك تسعد يا زمان بقربهم
…
فأقول أهلاً باللقاء ومرحبا " السيادة التي سواها الله من طينة الشرف والحسب، وغرس دوحتها الطيبة بمعدن العلم الزاكي المحتد والنسب، سيادة العالم الذي تمشي تحت علم فتياه
العلماء الأعلام، وتخضع لفصاحته وبلاغته صيارفة النثر والنظام، وحملة الأقلام، كلما خط أوكتب، وإذا استطار بفكره الوقاد سواجع السجع انثالت عليه من كل أوكارها ونسلت من كل حدب، وحكت بانسجامها السيل والقطر في صبب، الفقيه العالم العلم، والمحصل الذي ساجلت العلماء لتدرك في مجال الإدراك شأوه فلم، سيدنا الفقيه الحافظ حامل لواء الفتيا، ومالك المملكة في المنقول والمعقول من غير شرط ولا ثنيا، أبوالعباس سيدي أحمد بن محمد المقري أبقاه الله تعالى للعلم يفتض أبكاره، ويجني من روضه اليانع ثماره، سلام الله عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، كتبه المحب الشاكر عن ود راسخ العماد، ثابت الأوتاد مزهر الأغوار والأنجاد، ولا جديد إلا الشوق الذي تحن إلى لقياكم ركائبه وترتاح، وتحوم على مورد الأنس بكم حوم ذات الجناح على العذب القراح، جمع الله تعالى الأرواح المؤتلفة على بساط السرور وأسرة الهنا، وأتاح للنفوس من حسن محاضرتكم قطف المشتهى وهوغض الجنى. وقد اتصل بالمحب الودود الرقيم الذي راقت من سواد النقش وبياض الطرس شياته، وأرانا معجز أحمد فبهرت آياته، وخبا سقط الزند لما أشرقت من سماء فكركم آياته، فأطربنا بتغريد طيور همزاته على أغصان ألفاته، وعوذنا بالسبع المثاني بناناً أجادت نثر زهراته على صفحاته، ثم مررنا بتضاعيفه بسوق الرقيق، فرمنا السلوك على منحاها فعمي علينا الطريق، وقلنا: واهاً على سوق ابن نباتة وكساد رقيقها، واستلاب البهجة عن نفيس دررها وأنيقها، لا كسوق نفق فيها سوق الغزل، وعلا كعب الرامح الأعزل، وتضافر على سحر النفوس والألباب هاروت الجد وماروت الهزل، وقد ألقينا السلاح وجنحنا للسلم، وتهيأنا للسباحة فوقفنا بساحل اليم، وسلمنا لمن استوت به سفينة البلاغة على الجودي، فأبنا والحمد لله على السلامة بالفهاهة والعي، وقلنا، ما لنا وللإنشاء فهوفضل الله يؤتيه من يشاء.
" وعذراً أيها الشيخ عن البيت الذي عطست به أنف الصبا فقذفت به البديهة
من الفم، وشرقت به صدر قناة القلم، كما شرقت صدر القناة من الدم.
" وأما ما تحمل الرسول من كلام ن في صورة ملام، لا بل مدام، أترع به من سلاف المحبة كأس وجام، فلا وربك ما هي إلا نفحة نفحت، لا سموم لفحت ن هززنا بها جذع أدبكم كي يتساقط علينا رطباً جنياً ويهمي ودقه على الربع المحيل من أفكارنا وسمياً وولياً، فجاد وأروى، وأجاد فيما روى، وأحيا من القرائح ميتاً كان حديثاً يروى، وطرساً بين أنامل الأيام ينشر ويطوى، أحيا الله تعالى قلوبنا بمعرفته ونواسم رحمته، وعرج بأرواحنا عند الممات إلى المحل الأخص بالمؤمن من حضرته. وأهدي السلام، المزري بمسك الختام، إلى الفقيهين الأمجدين، الصدرين الأنجدين، الفذين التوأمين، الفاضلين المجيدين، فارسي البراعة واليراعة، ورئيسي الجماعة في هذه الصناعة، رضيعي لبان الأدب وواسطتي عقده، ومجيلي قدحه المعلى وموريي زنده، الممتعين بشميم عراره ورنده، الكارعين بالبحر الفياض من هزله وجده، الآتيين بالجنس والفصل من رسمه وجده، الكاتب البارع أبي الحسن سيدي علي ابن أحمد الشامي، والكاتب البليغ أبي عبد الله سيدي محمد بن علي الوجدي (1) ، وأقرر لهما الود المستحكم المعاقد، الصافي المناهل العذب الموارد، وأني قائم بورد الثناء عليكم ووعليهما لدى المقام العلي، الإمامي الناصري، دام سلطانه، وتمهدت أوطاره وأوطانه.
" وننهي إليكم أن الفقيه المحب الأستاذ سيدي محمد بن يوسف (2) طلق اللسان بالشكر، صادح على أيك الثناء عن تلكم السيادة بما واليتموه به من جزيل الإحسان، وقابلتموه به عند الورود والصدر من البشر والكرامة وجميل الامتنان، والسلام التام معاد عليكم، ورحمة الله تعالى وبركاته، وبه وجب الكتب إليكم،
(1) ترجمة الوجدي في روضة الآس: 71 وانظر ص (لب) من المقدمة.
(2)
راجع المجلد الثاني ص: 470.
والله سبحانه يرعاكم، في يوم الخميس موفي عشرين من محرم الحرام فاتح سبعة وعشرين وألف، المحب الودود الشاكر عبد العزيز بن محمد الفشتالي لطف الله تعالى به، وخار له بمنه وكرمه "، انتهى.
ومن أراد شيئاً من أخباره فعليه بكتابي الموسوم ب " روضة الآس العاطر الأنفاس في ذكر من لقيته من أعلام مراكش وفاس " وقد بلغتني وفاته رحمه الله تعالى؛ وأنا في مصر بعد عام ثلاثين وألف، رحمه الله تعالى؛ فلقد كان أوحد عصره، حتى إن سلطان المغرب كان يقول: إن الفشتالي نفتخر به على ملوك الأرض، ونباري به لسان الدين ابن الخطيب، رحم الله تعالى الجميع. الله تعالى؛ فلقد كان أوحد عصره، حتى إن سلطان المغرب كان يقول: إن الفشتالي نفتخر به على ملوك الأرض، ونباري به لسان الدين ابن الخطيب، رحم الله تعالى الجميع.
[تعريف بأبي الحسن الشامي]
والشامي الذي أشار إليه هومن أعيان أهل فاس وذوي البيوت بها، وجده قدم من الشام على حضرة فاس، فشهر بنوه بالنسبة إلى الشام وقد بلغني وفاته أيضاً بعد الثلاثين بعد الألف، وقد أجاب عن الأبيات البائية التي خاطبني بها الوزير سيدي عبد العزيز الفشتالي المذكور رحم الله تعالى الجميع بقوله:
نمت نوافح عرف أنفاس الصبا
…
فنمى بها روض الوداد وأخصبا
نثرت جواهر سلكها فتتوج ال
…
غصن النضير بدرها وتعصبا
ورمت محاجر منحنى ذاك الحمى
…
فغدا بها خيف القلوب محصبا
وروت أحاديث الغرام صحيحة
…
فشفت فؤادا ًمن بعادك موصبا
لا غروأن طارت حشاشة لبه
…
طرباً فما خلوالغرام كمن صبا
لا زلتم والزهر ينشق عرفكم
…
والزهر تحسد من كمالك منصبا ولنمسك عنان البنان، ونرجع إلى ما كنا بصدده من شأن لسان الدين ابن الخطيب المريع منه بمزن البلاغة والفصاحة جنان الجنان، فنقول والله سبحانه ولي التوفيق والإمداد، وليس إلا عليه الاعتماد:
[16 - بين ابن الجياب ولسان الدين]
وقال ابن الصباغ العقيلي (1) : كان أبوالحسن ابن الجياب رئيس كتاب الأندلس وهم رؤساء غيرهم، واختص به ذوالوزارتين أبوعبد الله ابن الخطيب اختصاصاً تاماً، وأورثه رتبة من بعده، وعهد بها إليه، مشيراً بذلك على من استشاره من أعلام الحجاب عند حضور عمره، وتدرب بذكائه حتى استحق أزمته فأنسى بحسن سياسته شيخه المذكور، ونال التي لا فوقها من الحظوة، وبعد الصيت وسعادة البخت، اتفق له يوماً بعدما عزم النصراني على ورود البلد وضاقت به الصدور، فأنشد ابن الجياب بديهاً بمحضر الكتاب:
هذا العدو قد طغى
…
وقد تعدى وبغى وقال لابن الخطيب: أجز أبا عبد الله، فأنشده بديهاً:
وأظهر السلم وقد
…
أسر حسواً في ارتغا
فبلغ الرحمن سي
…
ف النصر فيه ما ابتغى
ورده رد ثمو
…
د والفصيل قد رغا
حتى يرى وليمة
…
لكل مرهوب الثغا فقال ابن الجياب: هكذا وإلا فلا، وعجب الحاضرون من هذه البديهة؛ انتهى.
[17 - قصيدتان للبلوي يخاطب بهما لسان الدين]
ومما خوطب به لسان الدين قول الفقيه أبي يحيى البلوي المري (2) رحم الله الجميع:
(1) أزهار الرياض 1: 192.
(2)
ص: المريي.
عللوني ولوبوعد محال
…
وصلوني ولوبطيف خيال
واعلموا أنني أسير هواكم
…
لست أنفك دائماً عن عقال
فدموعي من بينكم في انسكاب
…
وفؤادي من هجركم في اشتعال
يا أُهيل الحمى كفاني غرامي
…
لا تزيدوا حسبي بما قد جرى لي
من مجيري من لحظ ريم ظلوم
…
حلل الهجر بعد طيب الوصال
ناعس الطرف أسهر الجفن مني
…
طال منه الجفا بطول الليالي
بابلي اللحاظ أصمى فؤادي
…
ورماه من غنجه بنبال
وكسا الجسم من هواه نحولاً
…
قصده في النوى بذاك انتحالي
ما ابتدى في الوصال يوماً بعطف
…
مذ روى في الغرام باب اشتغالي
ليس لي منه في الهوى من مجير
…
غير تاج العلا وقطب الكمال
علم الدين عزه وسناه
…
ذروة المجد، بدر أفق الجلال
هوغيث الندى، وبحر العطايا
…
هو شمس الهدى، فريد المعالي
إن وشى في الرقاع بالنقش قلنا
…
صفحة الطرس حليت باللآلي
أودجا الخطب فهوفيه شهاب
…
زانه الصبح في ظلام الضلال
أو نبا الأمر فهوفيه عضب
…
صادق العزم عند ضيق المجال
لست تلقى مثاله في زمان
…
جل في الدهر يا أخي عن مثال
قد نأى بي حبي له عن دياري
…
لا لجدوى ولا لنيل نوال
لكن اشتقت أن أرى منه وجهاً
…
نوره فاضح لنور الهلال
وكما همت فيه ألثم كفاً
…
جاد لي بالنوال قبل السؤال
هاكها ابن الخطيب عذراء جاءت
…
تلثم الأرض قبل شسع النعال
وتوفي حق الوزارة عمن
…
هو ملك لها على كل حال ومن نظمه قوله يخاطبه مهنئاً في إعذاره أولاده بعد نثر نصه: يعتذر عن خدمة الإعذار، ويصل المدح والثناء على بعد الدار، بتاريخ الوسط من شهر
شعبان عام تسعة وأربعين وسبعمائة:
لا عذر لي عن خدمة الإعذار
…
ولئن نأى وطني وشط مزاري
أو عاقني عنه الزمان وصرفه
…
تقضي الأماني عادة الاعصار
قد كنت أرغب أن أفوز بخدمتي
…
وأحط رحلي عند باب الدار
بادي المسرة بالصنيع وأهله
…
متشمراً فيه بفضل إزاري
من شاء أن يلقى الزمان وأهله
…
ويرى جلالاً شاع في الأقطار
فليأت حي ابن الخطيب ملبياً
…
فيفوز بالإعظام والإكبار
كم ضم من صيد كرام قدرهم
…
يسمو ويعلوفي ذوي (1) الأقدار
إن جئت ناديه فنب عني وقل
…
نلت المنى بتلطف ووقار
يا من له الشرف القديم ومن له ال
…
حسب الصميم العد يوم فخار
يهنيك ما قد نلت من أمل به
…
في الفرقدين النيرين لساري
نجلاك قطبا كل مجد باذخ
…
أملان مرجوان في الإعسار
عبد الإله وصنوه قمر العلا
…
فرعان من أصل زكا ونجار
ناهيك من قمرين في أفق العلا
…
ينميهما نور من الأنوار
زاكي الأرومة معرق في مجده
…
جم الفضائل طيب الأخبار
رقت طبائعه وراق جماله
…
فكأنما خلقا من الأزهار
وحلت شمائل حسنه فكأنما
…
خلعت عليه رقة الأسحار
فإذا تكلم قلت طل ساقط
…
أو وقع در من نحور جواري
أوفت حبر المسك في قرطاسه
…
فالروض غب الواكف المدرار
تبتسم الأقلام بين بنانه
…
فتريك نظم الدر في الأسطار
فتخال من تلك البنان كمائماً
…
ظلت تفتح ناضر النوار
(1) ق: ذرى.
تلقاه فياض الندى متهللاً
…
يلقاك بالبشرى والاستبشار
بحر البلاغة قسها وإيادها
…
سبحانها حبر من الأحبار
إن ناظر العلماء فهو إمامهم
…
شرف المعارف، واحد النظار
أربى على العلماء بالصيت الذي
…
قد طار في الآفاق كل مطار
ما ضره أن لم يجئ متقدماً
…
بالسبق يعرف آخر المضمار
إن كان أخره الزمان لحكمة
…
ظهرت وما خفيت كضوء نهار
الشمس تحجب وهي أعظم نير
…
وترى من الآفاق إثر دراري
يا ابن الخطيب خطبتها لعلاكم
…
بكراً تزف لكم من الأفكار
جاءتك من خجل على قدم الحيا
…
قد طيبت بثنائك المعطار
وأتت تؤدي بعض حق واجب
…
عن نازح الأوطان والأوطار
مدت يد التطفيل نحوعلاكم
…
فتوشحت من حليكم بنضار
فابذل لها في النقد صفحك إنها
…
تشكو من التقصير في الأشعار
لا زلت في دعة وعز دائم
…
ومسرة تترى مع الأعمار [ترجمة أبي يحيى البلوي]
قال لسان الدين في حق المذكور في الإحاطة هومحمد بن محمد بن عبد الواحد بن محمد البلوي، من أبناء النعم وذوي البيوتات، كثير السكون والحياء، آل به ذلك أخيراً إلى لوثة لم يستفق منها لطف الله به حسن الخط مطبوع الأدب سيال الطبع معينه وناب عن بعض القضاة وهوالآن رهين ماذكر يتمنى أهله موته والله ولي المعافاة.
وجرى ذكره في " الإكليل " بما نصه " من أولي الاتصال بأولى الخلال البارعة والخصال خطاً رائقاً ونظماً بمثله (1) لائقاً ودعابة يسترها تجهم،
(1) ق: به.
وسكوناً في طيه إدراك وتفهم، عني بالدراية والتقييد، ومال في النظم إلى بعض التوليد، وله أصالة نبتت في السرو عروقها، وتألقت في سماء المجادة بروقها، وتصرف بين النيابة في الأحكام الشرعية، وبين الشهادات العلمية المرعية؛ انتهى.
ورأيت بخط أبي الحسن علي بن لسان الدين على هامش هذا المحل من الإحاطة ما صورته: رحمة الله عليه ما أعذب حلاوته، وأعظم مروءته، وأكرم أصالته، وبنوالبلوى ذووحسب، وأهل نعيم، وتربية ملوكية، حياهم الله وبياهم! قال ذلك حبيبهم وأخوهم علي بن الخطيب؛ انتهى.
[18 - من ابن مرزوق إلى لسان الدين]
وقال لسان الدين رحمه الله تعالى عند ذكر الخطيب الرئيس أبي عبد الله محمد بن مرزوق التلمساني ما صورته: ولما قدمت على مدينة فاس في غرض الرسالة خاطبني بمنزل (1) الشاطبي على مرحلة منها بما نصه:
يا قادماً وافى بكل نجاح
…
أبشر بما تلقاه من أفراح
هذي ذرى ملك الملوك فلذ بها
…
تنل المنى وتفز بكل سماح
مغنى الإمام أبي عنان يممن
…
تظفر ببحر في العلا طفاح
من قاس جود أبي عنان في الندى
…
بسواه قاس البحر بالضحضاح
ملك يفيض على العفاة نواله
…
قبل السؤال وقبل بسطة راح
فلجود كعب وابن سعدى (2) في الندى
…
ذكر محاه عن نداه ماحي
ما إن سمعت ولا رأيت بمثله
…
من أريحي للندى مرتاح
بسط الأمان على الأنام فأصبحوا
…
قد ألحفوا منه بظل جناح
وهمى على العافين سيب نواله
…
حتى حكى سح الغمام الساحي
(1) ص: بمنزلة.
(2)
ابن سعدي: أوس بن حارثة الطائي.
فنواله وجلاله وفعاله
…
فاقت وأعيت ألسن المداح
وبه الدنا أضحت تروق وأصبحت
…
كل المنى تنقاد بعد جماح
من كان ذا ترح فرؤية وجهه
…
متلافة الأحزان والأتراح
فانهض أبا عبد الإله تفز بما
…
تبغيه من أمل ونيل نجاح
لا زلت ترتشف الأماني راحة
…
من راحة المولى بكل صباح فالحمد لله يا سيدي وأخي على نعمه التي لا تحصى، حمداً يؤم به جميعنا المقصد الأسنى فيبلغ الأمد الأقصى، فطالما كان معظم سيدي للأسى في خبال، وللأسف بين اشتغال بال، واشتعال بلبال، ولقدومكم على هذا المقام المولوي في ارتقاب، ولمواعيدكم بذلك في تحقق (1) وقوعه من غير شك ولا ارتياب، فها أنت تجتلي من هذا المقام العلي بتشيعك وجوه المسرات صباحاً، وتتلقى أحاديث مكارمه ومواهبه مسندة صحاحاً، بحول الله تعالى، ولسيدي الفضل في قبول مركوبه الواصل إليه بسرجه ولجامه، فهومن بعض ما لدى المعظم من إحسان مولاه وإنعامه، ولعمري لقد كان وافداً على سيدي في مستقره مع غيره، فالحمد لله الذي يسر في إيصاله، على أفضل أحواله.
[19 - جواب لسان الدين]
فراجعته بما نصه:
راحت تذكرني كؤوس الراح
…
والقرب يخفض للجنوح جناحي
وسرت تدل على القبول كأنما
…
دل النسيم على انبلاج صباح
حسناء قد غنت بحسن صفاتها
…
عن دملج وقلادة ووشاح
أمست تحض على اللياذ بمن جرت
…
بسعوده الأقلام في الألواح
(1) ص: ولمواعدكم.... محقق.
بخليفة الله المؤيد فارس
…
شمس المعالي الأزهر الوضاح
ما شئت من شيم ومن همم غدت
…
كالزهر أوكالزهر في الأدواح
فضل الملوك فليس يدرك شأوه
…
أنى يقاس الغمر بالضحضاح
أنسى بني عباسهم بلوائه ال
…
منصور، أو بحسامه السفاح
وغدت مغاني الملك لما حلها
…
تزهى ببدر هدى وبحر سماح
وحياة من أهداك تحفة قادم
…
في العرف منها راحة الأرواح
ما زلت أجعل ذكره وثناءه
…
روحي وريحاني الأريج وراحي
ولقد تمازج حبه بجوارحي
…
كتمازج الأجسام بالأرواح
ولوأنني أبصرت يوماً في يدي
…
أمري لطرت إليه دون جناح
فالآن ساعدني الزمان وأيقنت
…
من قربه نفسي بفوز قداحي
إيه أبا عبد الإله، وإنه
…
لنداء ود في علاك صراح
أما إذا استنجدتني من بعد ما
…
ركدت لما جنت الخطوب رياحي
فإليكها مهزولة وأنا امرؤ
…
قررت عجزي واطرحت سلاحي " سيدي أبقاك الله لعهد تحفظه، وولي بعين الوفاء تلحظه، وصلتني رقعتك التي أبدعت، وبالحق من مولى الخليقة صدعت، وألفتني وقد سطت بي الأوجال، حتى كادت تتلف الرحال، والحاجة إلى الغذاء قد شمرت كشح البطين، وثانية العجماوين قد توقع فوات وقتها وإن كانت صلاتها صلاة الطين، والفكر قد غاض معينه، وضعف وعلى الله جزاء المولى الذي يعينه، فغرتني بكتيبة بيان أسدها هصور، وعلمها منصور، وألفاظها ليس فيها قصور، ومعانيها عليها الحسن مقصور، واعتراف مثلي بالعجز في المضايق حول ومنة، " وقول لا أدري " للعالم فكيف لغيره جنة، لكنها بشرتني بما يقل لمؤديه بذل النفوس وإن جلت، وأطلعتني من السراء على وجه تحسده الشمس إذا تجلت، بما أعلمتني به من جميل اعتقاد مولانا أمير المؤمنين أيده الله في
عبده، وصدق المخيلة في كرم مجده، وهذا هوالجود المحض، والفضل الذي شكره هوالفرض، وتلك الخلافة المولوية تتصف بصفات من يبدأ بالنوال، من قبل الضراعة والسؤال، من غير اعتبار للأسباب ولا مجازاة للأعمال، نسأل الله تعالى ان يبقي منها على الإسلام أوفى الظلال، ويبلغها من فضله أقصى الآمال، ووصل ما بعثه سيدي صحبتها من الهدية، والتحفة الودية، وقبلتها امتثالاً واستجليت (1) منها عتقاً وجمالاً وسيدي في الوقت أنسب لاتخاذ ذلك الجنس، وأقدر على الاستكثار من إناث البهم والإنس، وأنا ضعيف القدرة، غير مستطيع على ذلك إلا في الندرة، فلوراء سيدي ورأيه سداد، وقصده فضل ووداد، أن ينقل القضية إلى باب العارية من باب الهبة، مع وجود الحقوق المترتبة، لبسط خاطري وجمعه، وعمل في رفع المؤونة على شاكلة حالي معه، وقد استصحبت مركوباً يشق علي هجره، وسيدي في الإسعاف على الله أجره، وهذا أمر عرض، وفرض فرض، وعلى نظره المعول، واعتماد إغضائه هوالمعقول الأول، والسلام على سيدي من معظم قدره، وملتزم بره، ابن الخطيب، في ليلة الأحد السابع وال عشرين لذي قعدة خمس وخمسين وسبعمائة، والسماء قد جادت بمطر سهرت منه الأجفان، وظن أنه الطوفان، واللحاق في غدها بالباب المولوي مؤمل بحول الله " انتهى.
[20 - من البرجي إلى لسان الدين]
وكتب القاضي أبوالقاسم البرجي (2) للسان الدين في غرض الشفاعة لبعض قرابته قوله (3) :
(1) ص ق: واستجلبت.
(2)
ترجمة البرجي في الإحاطة 2: 215 والكتيبة: 250 ونيل الابتهاج: 172.
(3)
الكتيبة: 251.
أيا سابقاً في مجال البراعه
…
وفارس ميدان أهل اليراعه
ومن بدره في سماء المعالي
…
يزين بوصف الكمال ارتفاعه
بما لك في الفضل من حجة
…
ومن إمرة في ذويه مطاعه
قضائك في معسر حل دين
…
عليه فإرجاؤه قد أضاعه
وقد كان يبغي لديكم شفيعاً
…
توسط عندكم في شفاعه
على أنه في اقتضاء الوداد
…
يوفى موازينه أوصواعه
وما هوفي سوق تقريظكم
…
ونشر حلالكم بمزجى البضاعه " كتبت يا سيدي أدام الله تعالى علاكم، وحرس مجدكم الطاهر وسناكم، وأنا بين خجل مفحم وعجل مقحم، أتذكر تسويقي بلقائكم، حين سمع الدهر بإقترابكم، فأحجم وأفكر في أن إحجامي عند ذلك بإرجائي، عسى أن يكون وفق رجائي، أفاتني المقصود فأرى الحزم في أن أقدم، وموقفها بين يديكم فلان، يطالبني مطالبة الغريم، وأروم مطاله فلا يبرح ولا يريم، والانقياد في زمام طاعته مما توجبه المروة بعدما أوجبه الشارع إذ جعل له حظاً في الأبوة، وقد أعلقته من ذمام علائكم بالحبل المتين، وأنزلته من حماكم بربوة ذات قرار ومعين، فإن أعرتموه من لحظكم الجميل طرف اهتبال، وأقبلتموه من اعتنائكم الجزيل وجه إقبال، فقد عاد دهره بعد النفار مواتياً ونزل على أهل المهلب شاتياً ومجدكم كفيل بتبليغ أمله، وتوسيع جذله، وذلكم يد على معظمكم شكرها، وعلى الله أجرها "؛ انتهى.
[ترجمة أبي القاسم البرجي]
والبرجي المذكور هومحمد بن يحيى بن محمد بن يحيى بن علي بن إبراهيم، الغساني البرجي، يكنى أبا القاسم، من أهل غرناطة، قال في " الإحاطة ": هوفاضل مجمع على فضله، صالح الأبوة ن طاهر النشأة، بادي الصيانة والعفة
طرف في الخير والحشمة، صدر في الأدب جم المشاركة، ثاقب الفهم، جميل العشرة، ممتع المجالسة حسن الشعر والخط والكتابة، فذ في الانطباع، صناع اليد (1) ، محكم لعمل الكثير من الآلات العلمية، ويجيد تسفير الكتب، رحل إلى العدوة ولقي جلة، وتوسل إلى ملكها مجدد الرسم ومعتام أولي الشهرة وعامر دست الشعر والكتابة، أمير المسلمين أبي عنان، فاشتمل عليه، ونوه به وملأ بالخير يده، فاقتنى جدة وحظوة، وذكراً وشهرة، وانقبض مع استرسال الملك لفضل عقله، حتى تشكى إلي سلطانه بث ذلك عند قدومي عليه، وآثر الراحة، وجهد في التماس الرحلة الحجازية، ونبذ الكل، وقصر الخطوة (2) ، وسلا الحظوة، فأسعفه سلطانه بغرضه، وجعل حبل همه (3) على غاربه، وأصحبه إلى النبي الكريم صلوات الله عليه رسالة من إنشائه وقصيدة من نظمه، وكلاهما يعلن في الخلفاء ببعد شأوه، ورسوخ قدم علمه، وعراقة البلاغة في نسب خصله، ولما هلك وولي ابنه [قدمه] قاضياً بمدينة (4) ملكه وضاعف له التنويه، فأجرى الخطة على سبيل من السداد والنزاهة، ثم لما ولي السلطان أبوسالم عمه أجراه على الرسم المذكور، واستجلى المشكلات بصدقه، وهوالآن بحاله الموصوفة مفخر من مفاخر ذلك الباب السلطاني على تعدد مفاخره.
شعره - ثبت في كتاب " نفاضة الجراب " من تأليفنا عند ذكر المدعى الكبير بباب ملك المغرب ليلة ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر من أنشد ليلتئذ من الشعراء ما نصه: وتلاه الفقيه الكاتب الحاج القاضي جملة السذاجة (5) وكرم الخلق وطيب النفس وخدن العافية وابن الصلاح والعبادة ونشأة القرآن
(1) الإحاطة: اليدين.
(2)
ص: الخطو.
(3)
ق والإحاطة: نعمه.
(4)
قدمه
…
بمدينة: سقطتا من ق، ولفظة " قدمه " سقطت من ص.
(5)
ص: الشذاخة.
المتحيز إلى حزب السلامة المنقبض عن الغمار العزوف عن فضول القول والعمل جامع المحاسن الأشتات (1) من عقل رصين وطلب ممتع وأدب نقاوة ويد صناع أبوالقاسم بن أبي زكريا البرجي، فأنشدت له على الرسم المذكور هذه القصيدة الفريدة (2) :
أصغى إلى الوجد لما جد عاتبه
…
صب له شغل عمن يعاتبه
لم يعط للصبر من بعد الفراق يداً
…
فضل من ظل إرشاداً يخاطبه
لولا النوى لم يبت حران مكتئباً
…
يغالب الوجد كتما ًوهوغالبه
يستودع الليل أسرار الغرام وما
…
تمليه أشجانه فالدمع كاتبه
لله عصر بشرقي الحمى سمحت
…
بالوصل أوقاته لوعاد ذاهبه
يا جيرة أودعوا إذ ودعوا حرقاً
…
يصلى بها من صميم القلب ذائبه
يا هل ترى تجمع (3) الأيام ألفتنا
…
كعهدنا أويرد القلب سالبه
ويا أهيل ودادي، والنوى قذف
…
والقرب قد أبهمت دوني مذاهبه
هل ناقض العهد بعد البعد حافظه
…
وصادع الشمل يوم الشعب شاعبه
ويا ربوع الحمى لا زلت ناعمة
…
يبكي عهودك مضنى الجسم شاحبه
يا من لقلب مع الأهواء منعطف
…
في كل أوب له شوق يجاذبه
يسمو إلى طلب الباقي بهمته
…
والنفس بالميل للفاني تطالبه
وفتنة المرء بالمألوف معضلة
…
والأنس بالإلف نحوالإلف جاذبه
أبكي لعهد الصبا والشيب يضحك بي
…
يا للرجال سبت جدي ملاعبه
ولن ترى كالهوى، أشجاه سالفه
…
ولا كوعد المنى، أحلاه كاذبه
وهمة المرء تغليه وترخصه
…
من عز نفساً لقد عزت مطالبه
(1) الأشتات: ثبتت في ق ص وسقطت من الإحاطة.
(2)
القصيدة في الإحاطة وبعضها في الكتيبة.
(3)
الكتيبة: ترجع.
ما هان كسب المعالي أوتناولها
…
بل هان في ذاك ما يلقاه طالبه (1)
لولا سرى الفلك السامي لما ظهرت
…
آثاره ولما لاحت كواكبه
في ذمة الله ركب للعلا ركبوا
…
ظهر السرى فأجابتهم نجائبه
يرمون عرض الفلا بالسير عن عرض
…
طي السجل إذا ما جد كاتبه
كأنهم في فؤاد الليل سر هوى
…
لولا الضرام لما خفت جوانبه
شدوا على لهب الرمضاء وطأتهم
…
فغاض في لجة الظلماء راسبه
وكلفوا الليل من طول السرى شططاً
…
فخلفوه وقد شابت ذوائبه
حتى إذا أبصروا الأعلام مائلة
…
بجانب الحرم المحمي جانبه
بحيث يأمن من مولاه خائفه
…
من ذنبه وينال القصد راغبه
فيها وفي طيبة الغراء لي أمل
…
يصاحب القلب منه ما يصاحبه
إن أنس (2) لا أنس أياماً بظلهما
…
سقى ثراه عميم الغيث ساكبه
شوقي إليها وإن شط المزار بها
…
شوق المقيم وقد سارت حبائبه
إن ردها الدهر يوماً بعدما عبثت
…
في الشمل منا يداه لانعاتبه
معاهد شرفت بالمصطفى فلها
…
من فضله شرف تعلو مراتبه (3)
محمد المجتبى الهادي الشفيع إلى
…
رب العباد أمين الوحي عاقبه
أوفى الورى ذمماً، أسماهم همماً
…
أعلاهم كرماً، جلت مناقبه
هو المكمل في خلق وفي خلق
…
زكت حلاه كما طابت مناسبه
عناية قبل بدء الخلق سابقة
…
من أجلها كان آتيه وذاهبه
جاءت تبشرنا الرسل الكرام به
…
كالصبح تبدو تباشيراً كواكبه
أخباره سر علم الأولين وسل
…
بدير تيماء ما أبداه راهبه
تطابق الكون في البشرى بمولده
…
وطبق الأرض أعلاماً تجاوبه
(1) سقط البيت من ص.
(2)
ق ص: لا أنس؛ الإحاطة: لم أنس.
(3)
ص: مراقبه.
فالجن تهتف إعلاناً هواتفه
…
والجن تقذف إحراقاً ثواقبه
ولم تزل عصمة التأييد تكنفه
…
حتى انجلى الحق وانزاحت شوائبه
سرى وجنح ظلام الليل منسدل
…
والنجم لا يهتدي في الأفق ساربه
يسمو لكل سماء منه منفرد
…
عن الأنام وجبرائيل صاحبه
لمنتهى وقف الروح الأمين به
…
وامتاز قرباً فلا خلق يقاربه
لقاب قوسين أوأدنى فما علمت
…
نفس بمقدار ما أولاه واهبه
أراه أسرار ما قد كان أودعه
…
في الخلق والأمر باديه وغائبه
وآب والبدر في بحر الدجى غرق
…
والصبح لما يؤب للشرق آيبه
فأشرقت بسناه الأرض واتبعت
…
سبل النجاة بما أبدت مذاهبه
وأقبل الرشد والتاحت زواهره
…
وأدبر الغي فانجابت غياهبه
وجاء بالذكر آيات مفصلة
…
يهدى بها من صراط الله لاحبه
نور من الحكم لا تخبو سواطعه
…
بحر من العلم لا تفنى عجائبه
له مقام الرضى المحمود شاهده
…
في موقف الحشر إذ نابت نوائبه
والرسل تحت لواء الحمد يقدمها
…
محمد أحمد السامي مراتبه
له الشفاعات مقبولاً وسائلها
…
إذا دهى الأمر واشتدت مصاعبه
والحوض يروي الصدى من عذب مورده
…
لا يشتكي غلة الظمآن شاربه
محامد المصطفى لا ينتهي أبداً
…
تعدادها، هل يعد القطر حاسبه
فضل تكفل بالدارين يوسعها
…
نعمى ورحمى فلا فضل يناسبه
حسبي التوسل منها بالذي سمحت
…
به القوافي وجلتها غرائبه
حياه من صلوات الله صوب حياً
…
تحدى إلى قبره الزاكي نجائبه
وخلد الله ملك المستعين به
…
مؤيد الأمر منصوراً كتائبه
إمام عدل بتقوى الله مشتمل
…
في الأمر والنهي يرضيه يراقبه
مسدد الحكم، ميمون نقيبته
…
مظفر العزم، صدق الرأي صائبه
مشمرٌ للتقى أذيال مجتهدٍ
…
جرار أذيال سحب الجود ساحبه
قد أوسعت أمل الراجي مكارمه
…
وأحبست رغبة العافي رغائبه
وفاز بالأمن محبوراً مسالمه
…
وباء بالخزي مقهوراً محاربه
كم وافدٍ آملٍ معهود نائله
…
أثنى وأثنت بما أولى حقائبه
ومستجيرٍ بعز من مثابته
…
عزت مراميه وانقادت مآربه
وجاء الدهر يسترضيه معتذراً
…
مستغفراً من وقوع الذنب تائبه
لولا الخليفة إبراهيم لانبهمت
…
طرق المعالي ونال الملك غاصبه
ينميه للعز والعليا أبو حسنٍ
…
سمح الخلائق محمودٌ ضرائبه
من آل يعقوب حسب الملك مفتخراً
…
بباب عزهم السامي تعاقبه
أطواد حلمٍ رسا بالأرض محتده
…
وزاحمت منكب الجوزا مناكبه
تحفها من مرين أبحرٌ زخرت
…
أمواجها وغمامٌ ثار صائبه
بكل نجمً لدى الهيجاء ملتهبٍ
…
ينقض وسط سماء النقع ثاقبه
أكفهم في دياجيها مطالعه
…
وفي نحور أعيادهم مغاربه
يا خير من خلصت لله نيته
…
في الملك أوخطب العلياء خاطبه
جردت والفتنة الشعواء ملبسةٌ
…
سيفاً من العزم لا تنبو مضاربه
وخضتها غير هياب ولا كلٍ (1)
…
وقلما أدرك المطلوب هائبه
صبرت نفساً لعقبى الصبر حامدةً
…
والصبر مذ كان محمودٌ عواقبه
فليهن دين الهدى إذ كنت ناصره
…
أمنٌ يواليه أوخوفٌ يجانبه
لا زال ملكك والتأييد يخدمه
…
تقضي بخفض مناوبه قواضبه
ودمت في نعمٍ تضفوملابسها
…
في ظل عز علاً تصفو مشاربه
ثم الصلاة على خير البرية ما
…
سارت إليه بمشتاقٍ ركائبه
(1) ق: وهل.
ومن شعره ما قيده لي بخطه صاحب قلم الإنشاء بالحضرة المرينية الفقيه الرئيس الصدر المتفن أبوزيد ابن خلدون (1) :
صحا القلب عما تعلمين فاقلعا
…
وعطل من تلك المعاهد أربعا
وأصبح لا يلوي على حد منزلٍ
…
ولا يتبع الطرف الخلي المودعا
وأضحى من السلوان في حرز معقلٍ
…
بعيد عن الأيام أن يتضعضعا
يرد الجفون النجل عن شرفاته
…
وإن لحظت عن كل أجيد أتلعا
عزيزٌ على داعي الغرام انقياده
…
وكان إذا ناداه للوجد أهطعا
أهاب به للشيب أنصح واعظٍ
…
أصاخ له قلباً منيباً ومسمعا
وساف في أفق التفكير والحجى
…
زواهره لاتبرح الدهر طلعا
لعمري لقد أنضيت عزمي تطلباً
…
وقضيت عمريرقبةً وتطلعا
وخضت عباب البحر أخضر مزبداً
…
ودست أديم الأرض أغبر أسفعا وقال حسبما قيده المذكور (2) :
نهاه النهى بعد طول التجارب
…
ولاح له منهج الرشد لاحب
وخاطبه دهره ناصحاً
…
بألسنة الوعظ من كل جانب
فأضحى إلى نصحه واعياً
…
وألغى حديث الأماني الكواذب
وأصبح لا تستبيه الغواني
…
ولا تزدريه حظوظ المناصب ثم قال في الإحاطة ": وإحسانه كثير في النثر والنظم والقصار والمطولات واستعمل في السفارة إلى ملك مصر وملك قشتالة وهوالآن قاضي حضرة الملك
(1) الإحاطة: 220.
(2)
المصدر السابق: 221 والكتيبة: 251 وقد حولت في ق إلى وزن الطويل مثل " ولاح له نهج من الرشد لاحب " أو " وخاطبه دهر له كان ناصحاً "
…
الخ.
نسيج وحده في السلامة والتخصص واجتناب فضول القول والعمل كان الله له؛ انتهى.
وكتب ابن الصنف بهامش تذكرة المذكور من الإحاطة ما صورته: سيدي وشيخي علامة المغرب اليوم وحائز رتبة العلية من خطابة وقضاء وعلامة وهوأحق بها لخلاله الحميدة أبقاه الله تعالى قال محبه علي بن الخطيب؛ انتهى.
وكتب على القصيدة الميلادية المتقدمة ما نصه رويتها عنه وسمعتها من لفظه واجازني إياها بتلمسان؛ انتهى.
وكتب على حاشية قصيدته " صحا القلب - إلى آخره " ما صورته: سمعتها من لفظ سيدي وشقيق روحي الإمام العلامة الرائس أبي زيد ابن خلدون بالأندلس أمتع الله به تعالى قال ذلك أخوه علي بن الخطيب؛ انتهى.
[21 - مخاطبات ابن زمرك للسان الدين]
وقال في الإحاطة وفي ترجمة ابن زمرك ما صورته (1) : وشعره مترامٍ إلى هدف الإجادة خفاجي النزعة كلف بالمعاني البديعة والألفاظ الصقيلة غزير المادة فمن ذلك ماخاطبني به وهي من أول ما نظمه قصيدة مطلعها:
" أما وانصداع النور من مطلع الفجر "
…
يقول فيها بعد أبيات:
لك الله من فذ الجلالة أوحدٍ
…
تطاوعه الآمال في النهي والأمر
لك القلم الأعلى الذي طال فخره
…
على المرهفات البيض والأسل السمر
يقلد أجياد الطروس تمائماً
…
بصنفي لآل من نظامٍ ومن نثر
(1) الإحاطة 2: 184 وانظر القصيدة في الكتيبة: 284 وأزهار الرياض 2: 164.
تهيبك القرطاس فاحمر إذ غدا
…
يقل بحوراً من أناملك العشر
كأن رياض الطرس خدٌ موردٌ
…
يطرزه وشي العذار من الحبر
فشارة هذا الملك رائقة الحلى
…
بألويةٍ حمرٍ وبالصحف الحمر
ومروضةٌ غناء عاهدتها الحيا
…
تحوك بها وشي الربيع يد القطر
تغني قيان الطير في جنباتها
…
فيرقص غصن البان في حللٍ خضر
تمد لأكواس العرار أناملً
…
من السوسن الغض المختم بالتبر
ويحرس خد الورد صارم نهرها
…
ويمنع ثغر النور بالذابل النضر
يفاخر مرآها السماء محاسناً
…
وتزري نجوم الزهر منها على الزهر
إذا مسحت كف الصبا جفن نورها
…
تنفس ثغر الزهر عن عنبر الشحر
بأعطر من ريا ثنائك في السرى
…
وأبهر حسناً من شمائلك الغر
عجبت له يحكي خلال خميلةٍ
…
وتفرق منه الأسد في موقف الذعر
إذا أضرمت من بأسها الحرب جاحماً
…
تأجج منه العضب في لجة البحر
وغن كلح الأبطال في حومة الوغى
…
ترقرق ماء البشر في صفحة البدر
لك الحسب الوضاح والسؤدد الذي
…
يضيق نطاق الوصف فيه عن الحصر
تشرف افقٌ أنت بدر كماله
…
فغرناطةٌ تختال تيهاً على مصر
تكلل تاج الملك منك محاسناً
…
وفاخرت الأملاك منك بنو نصر
بعزمة مضمون السعادة أوحدٍ
…
وغرة وضاح المكارم والنجر
طوى الحيف منشور اللواء مؤيداً
…
فعز حمى الإسلام بالطي والنشر
ومد ظلال الأمن إذ قصر العدا
…
فيتلى سناء الملك بالمد والقصر
إذا احتفل الإيوان يوم مشورة
…
وتضطرب الآراء من كل ذي حجر
صدعت بفصل القول غير منازعٍ
…
وأطلعت آراء قبسن من الفجر
فإن تظفر الخيل المغيرة بالضحى
…
فعن رأيك الميمون تظفر بالنصر
فلا زلت للعلياء تحمي ذمارها
…
وتسحب أذيال الفخار على النسر
وللعلم فخر الدين والفتك بالعدا
…
بأوت به يا ابن الخطيب على الفخر
فيهنيك عيد الفطر
…
ويثني بما أوليت من نعمٍ غر
جبرت مهيضاً من جناحي ورشته
…
وسهلت لي من جانب الزمن الوعر
وبوأتني من ذروة العز معتلى
…
وشرفتني من حيث أدري ولا أدري
وسوغتني الآمال عذباً مسلسلاً
…
وأسميت من ذكري ورفعت من قدري
فدهري عيدٌ بالسرور وبالمنى
…
وكل ليالي العمر لي ليلة القدر
فأصبحت مغبوطاً على خير نعمةٍ
…
يقل لأدناها الكثير من الشكر وهي طويلة؛ انتهى.
قلت هذا الرئيس ابن زمرك صرح هنا بأنه بجاه لسان الدين ابن الخطيب أدرك من العز ما أدرك ثم أنقلب عليه مع الدهر وكفر نعمته وبها أشرك وحرك من دواعي قتله ما حرك وكم من صديق لك ضرك وعقك بعدما برك وسائك إثر ما سرك ولذا رأيت بخط ابن لسان الدين على هامش قوله في هذه القصيدة " ومد ظلال الأمن - إلخ " ما صورته: هذا مدحه لحاه الله وعلى قوله " وبوأتني من ذروة العز - إلخ " ما مثاله هكذا شهادتك لحقه ثم تحولك عنه وكفر نعمته اغرب أغرب أخزاك الله؛ وانتهى
وكتب بهامش أول ترجمته من الإحاطة ما نصه: اتبعه الله خزياً وعامله بما يستحقه فبهذا ترجمه والدي مولاه الذي رفع من قدره فيه ولم يقتله أحد غيره كفانا الله تعالى شر من أحسنا إليه. وكتب أيضا تحت هذا ما مثاله: هذا الوغد ابن زمرك من شياطين الكتاب ابن حداد بالبيازين قتل أباه بيده أوجعه ضرباً فمات من ذلك وهوأخس عباد الله تربية وأحقرهم صورة وأخملهم شكلاً استعمله أبي في الكتابة السلطانية فجنينا أيام تحولنا عن الأندلس منه كل شر وهوكان السبب في قتل أبي مصنف هذا الكتاب الذي رباه وأدبه واستخدمه، حسبما هومعروف
وكفانا الله شر من أحسنا إليه وأساء إلينا؛ انتهى
وقد ألممنا بترجمته في هذا الكتاب في باب تلامذة لسان الدين فلتراجع هنالك ومما كتب به ابن زمرك المذكور إلى لسان الدين ابن الخطيب جواباً عن رسالة قوله (1) :
حيت صباحاً فأحيت ساكني القصبه
…
واسترجعت أنفساً بالشوق مغتصبه
قضى البيان لها أن لانظير لها
…
فأحرزت من معاني خصله قصبه
ناجت طليح سرىً لا يستفيق لها
…
هدت جوارحه واستوهنت عصبه
فحركته على فتك الكلال به
…
وأذهبت بسرور الملتقى نصبه
وأذكرت عهد مهديها على شحطٍ
…
فعاود القلب من تذكاره وصبه
ما كنت أسمح من دهري بجوهره
…
لو كان يسمح لي بالقلب من غصبه
سل أدمع الصب من أعدى السحاب بها
…
وقلبه بجمار الشوق من حصبه
فالله يحمد مهديها ويشكره
…
فوجهها بعصاب الحسن قد عصبه
من كان وارث آداب يشعشعها
…
بالفرض إني في إرثي لها عصبه
هوالملاذ ملاذ الناس قاطبةً
…
سبحان من لغاث الخلق قد نصبه وخاطبه كذلك بقوله (2) :
يكلفني مولاي رجع جوابه
…
وما لتعاطي المعجزات وما ليا
أجيبك للفضل الذي أنت أهله
…
وأكتب مما قد أفدت الأماليا
فأنت الذي طوقتني كل منةٍ
…
وأحسبت آمالي وأكسبت ماليا
وأنت الذي أعدى الزمان كماله
…
وصيرت أحرار الزمان مواليا
فلازلت للفعل الجميل مواصلاً
…
ولازلت للشكر الجزيل مواليا
(1) الأزهار 2: 166.
(2)
الكتيبة: 288 والأزهار 2: 167.
وخاطبه كذلك بقوله (1) :
طالعتها دون الصباح صباحا
…
لما جلت غرور البيات صباحا
ولقد رأيت وما رايت كحسنها
…
وجهاً أغر ومبسماً وضاحا
عذراء أرضعتها البيان لبانه
…
وأطال مغدى عندها ومراحا
فأتت كما شاءت وشاء نجيبها
…
تذكي الحجى وتنعم الأرواحا
لا بل كمثل الروض باكره الحيا
…
وسقى به زهر الكمام ففاحا
وطوت بساط الشوق مني بعدما
…
نشرت علي من القبول جناحا وخاطبه كذلك بقوله (2) :
ذروني فإني بالعلاء خبير
…
اسير فإن النيرات تسير
وكم بت أطوي الليل في طلب العلا
…
كأني إلى نجم السماء سفير
بعزمٍ إذا ما الليل مد رواقه
…
يكر على ظلمائه فينير
أخو كلفٍ بالمجد لا يستفزه
…
مهادٌ إذا جن الظلام وثير
إذا ما طوى يوماً على السر كشحه
…
فليس له حتى الممات نشور
وإني وإن كنت الممنع جاره
…
لتسبي فؤادي أعين وثغور
وما تعتريني فترة ٌفي مدى العلا
…
إلى أن أرى لحظاًعليه فتور
وفي السرب من نجدٍ تعلقت ظبيةً
…
تصول على ألبابنا وتغير
وتمنع ميسور الكلام أخا الهدى
…
وتبخل حتى بالخيال يزور
أسكان نجدٍ جادها واكف الحي
…
هواكم بقلبي منجدٌ ومغير
ويا سكني بالأجرع الفرد من منىً
…
وأيسر حظ من رضاك كثير
ذكرتك فوق البحر والبعد بيننا
…
فمدته من فيض الدموع بحور
(1) الأزهار 2: 167.
(2)
الأزهار 2: 167.
وأومض خفاق الذؤابة بارقٌ
…
فطارت بقلبي أنهٌ وزفير
ويهفو فؤادي كلما هبت الصبا
…
أما لفؤادي في هواك نصير
ووالله ما أدري أذكرك هزتي
…
أم الكأس ما بين الخيام تدور
فمن مبلغٌ عني النوى ما يسوءها
…
وللبين حكمٌ يتعدى ويجور
بأنا غداً أوبعده سوف نلتقي
…
ونمسي ومنا زائرٌ ومزور
إلى كم أرى أكني ووجدي مصرحٌ
…
وأخفي اسم من أهواه وهو شهير
أمنجد آمالي، ومغلي كاسدي
…
ومصدر جاهي، والحديث كثير
أأنسى، ولا أنسى، مجالسك التي
…
بها تلتقي نضرةٌ وسرور
نزورك في جنح الظلام وننثني
…
وبين يدينا من حديثك نور
على أنني إن غبت عنك فلم تغب
…
لطائف لم يحجب لهن سفور
نروح ونغدو كل يوم وعندها
…
رواحٌ علينا دائمٌ وبكور
فظلك فوقي حيثما كنت وارفٌ
…
ومورد آمالي لديك نمير
وعذراً فإني إن أطلت فإنما
…
قصاراي من بعد البيان قصور وكتب إليه خاتمة رسالة كذلك:
وحقك ما استطعمت بعدك غمضةً
…
من النوم حتى آذن النجم بالغروب
وعارضت مسرى الريح قلت لعلها
…
تنم بريا منك عاطرة الهبوب
إلى أن بدا وجه الصباح كأنه
…
محياك إذا يجلوبغرته الخطوب
فقلت لقلبي استشعر الأنس وابتهج
…
فإن تبعد الأجسام لم تبعد القلوب
وسر في ضمان الله حيث توجهت
…
ركابك لا تخشى الحوادث أن تنوب قلت هذه غاية في معناها، ولولا خروجها عن القواعد في ترتيب قافيتها ومبناها، فانظر إلى تحوله عن لسان الدين بعد هذه المدائح، ونسبته إليه بعده القبائح، والإنسان خوان، إلا النادر من الإخوان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
[22 - من ابن سلبطور إلى لسان الدين]
قال في " الإحاطة " في ترجمة ابن سلبطور ما نصه: ومما خاطبني به:
تالله ما أورى زناد القلق
…
سوى بريق لاح لي بالأبرق
أيقنت بالحين فلولا نفحةٌ
…
نجديةٌ منكم تلافت رمقي
لكنت أقضي بتلظي زفرةٍ
…
وحسرةٍ بين القلوب موقف التفريق
فآه من هول النوى وما جنى
…
على القلوب موقف التفرق
يا حاكي الغصن انثني متوجاً
…
بالبدر تحت لمة من غسق
الله في نفس معنى أقصدت
…
من لاعج الشوق بما لم تطق
أتى على أكثرها برح الأسى
…
دع ما مضى منها وأدرك ما بقي
ولو بإلمام خيالٍ في الكرى
…
إن ساعد الجفن رقيب الأرق
فرب زورٍ من خيالٍ زائر
…
أقر عيني وإن لم يصدق
شقيت من برح الأسى لو أن من
…
أصبح رقي في يديه معتقي
ففي معاناة الليالي عائقٌ
…
عن التصابي وفنون العلق
وفي ضمان ما يعاني المرء من
…
نوائب الدهر مشيب المفرق
هذا لعمري مع أني لم أبت
…
منها بشكوى روعة أوفرق
فقد أخذت من الخطوب غدرها
…
بابن الخطيب الأمن مما أتقى
فخر الوزارة الذي ما مثله
…
بدرٌ علا في مغربٍ أومشرق
ومذ أرانيه زماني لم أبل
…
من صرفه بمرعدٍ أومبرق
لاسيما منذ حططت في حمى
…
مقامه (1) الأمنع رحل أينقى
أيقنت أني في رجائي لم أخب
…
وأن مسعى بغيتي لم يخفق
ندبٌ له في كل حسنٍ آيةٌ
…
تنساب في الخلق أوفي الخُلُقِ
(1) سقطت هذه الكلمة من ص، وفي ق: مسعاه.
في وجه مسحة بشر إن بدت
…
تبهرجت أنوار شمس الأفق
تعتبر الأبصار في اللألاء ما
…
عليه من نور السماح المشرق
كالدهر في استينائه وبطشه
…
كالسيف في حد الظبى والرونق
إن بخل الغيث استهلت يده
…
بوابلٍ من غيث جودٍ غدق
وإن وشت صفحة طرسٍ انجلى
…
ليل دجاها عن سنا مؤتلق
بمثلها من حبراتٍ أخجلت
…
حواشي الروض خدود المهرق
ما راق في الآذان أشنافٌ سوى
…
ملتقطات لفظه المفترق
تود أجياد الغواني أن يرى
…
حليها من در ذاك المنطق
فسل به هل آداه الأمر الذي
…
حمل في شرخ الشباب المونق
إذا رأى الرأي فلا يخطئه
…
يمن اختيار للطريق الأوفق
إيهٍ أبا عبد الإله هاكها
…
عذراء تحثو في وجوه السبق
خذها إليك بكر فكرٍ يزدري
…
لديك بالأعشى لدى المحلق
لازلت مرهوب الجناب مرتجىً
…
موصول عز في سعود ترتقي
مبلغ الآمال فيما تبتغي
…
مؤمن الأغراض مما تتقي [ترجمة ابن سلبطور]
وابن سلبطور هو: محمد بن محمد بن أحمد بن سلبطور الهاشمي.
قال في الإحاطة ": من أهل المرية يكنى أبا عبد الله من وجوه بلده وأعيانه نشأ نبيه البيت ساجباً بنفسه وبما له ذيل الحظوة متحلياً بخصل من خط وأدب وزيراً متجنداً ظريفاً درباً على ركوب البحر وقيادة الأساطيل ثم انحط في هواه انحطاطاً أضاع مروءته واستهلك عقاره وهد بيته وألجأه أخيراً إلى اللحاق بالعدوة فهلك بها.
وجرى ذكره في الإكليل بما نصه مجموع شعر وخط وذكاء عن
درجة الظرفاء غير منحط إلى مجادة أثيلة البيت شهيرة الحي والميت نشأ في حجر الترف والنعمة محفوفاً بالمالية الجمة فلما عقل عن ذاته وترعرع بين لداته أجرى خيول لذاته فلم يدع منها ربعاً إلا أقفره، ولاعقاراً إلاعقره حتى حط بساحلها واستولى بسفر الإنفاق على جميع مراحلها إلا انه خلص بنفس طيبة وسراوة سماؤها صيبة وتمتع ما شاء من وزير وبم وتأنس لم يعط القياد لهم وفي عفوالله سعة وليس مع التوكل عليه ضعة.
شعره - من شعر قوله يمدح السلطان وأنشدها إياه بالمضارب من وادي الغيران عند قدومه المرية:
أثغرك أم سمطٌ من الدر ينظم
…
وريقك أم مسكٌ به الراح تختم
ووجهك أم بادٍ من الصبح نيرٌ
…
وفرعك أم داج ٍمن الليل مظلم
أعلل منك الوجد والليل ملتفي
…
وهل ينفع التعليل والخطب مؤلم
وأقنع من طيف الخيال بزورةٍ
…
لو أن جفوني بالمنام تنعم ثم سرد لسان الدين القصيدة وهي طويلة.
ثم قال ومن شعره مذيلاً على البيت الأخير حسبما نسب إليه ببلده:
نامت جفونك يا سؤلي ولم أنم
…
وما ذاك إلا لفرط الوجد والسقم
أشكو إلى الله ما بي من محبتكم
…
فهو العليم بما ألقى من الألم
إن كان سفك دمي أقصى مرادكم
…
فما غلت نظرةٌ منكم بسفك دمي ومما ينسب إليه كذلك:
قف بي ونادِ بين تلك الطلول
…
أين الألى كانوا عليها نزول
أين ليالينا بهم والمنى
…
نجنيه غضا ًبالرضى والقبول
لا حملوا بعض الذي حملوا
…
يوم تولت بالقباب الحمول
إن غبتم يا أهل نجد ففي
…
قلبي أنتم وضلوعي حلول (1) ثم قال: ناب في القيادة البحرية عن خاله القائد أبي علي الرنداحي، وولي أسطول المنكب (2) برهة، وتوفي بمراكش عام خمسة وخمسين وسبعمائة، رحمه الله تعالى؛ انتهى.
[23 - من ابن راجح إلى لسان الدين]
وقال لسان الدين: كتب إلي أبوعبد الله ابن راجح التونسي بما يظهر من أبياته، وهي:
أما والذي لي في حلاك من الحمد
…
ومالك ملاكي لدي من الرفد
لقد أشعرتني النفس أنك معرض
…
عن المسرف الآتي لفضلك يستجدي
فإن زلة مني بدت لك جهرة
…
فصفحاً فما والله أذنبت عن قصد [24 - جواب لسان الدين]
فراجعته بقولي:
أجلك عن عتب يغض من الود
…
وأكرم وجه العذر منك عن الرد
ولكنني أهدي إليك نصيحتي
…
وإن كنت قد أهديتها ثم لم تجد
إذا مقول الإنسان جاوز حده
…
تحولت الغراض منه إلى الضد
فأصبح منه الجد هزلاً مذمماً
…
وأصبح منه الهزل في معرض الجد
فما اسطعت قبضاً للعنان فإنه
…
أحق السجايا بالعلاء وبالمجد
(1) ق: نزول؛ ص: حمول.
(2)
هذه رواية ص؛ وفي ق: المبكم.
[ترجمة ابن راجح]
وقال في " الإحاطة " في حق ابن راجح المذكور ما محصله (1) : محمد بن علي بن الحسن بن راجح، باعترافه " ولا تزر وازرة وزر أخرى " (الزمر:7، الإسراء:15، والأنعام:164) تونسي، أبوعبد الله، يعرف بابن راجح، صاحب رواء وأبهة (2) ، نظيف البزة، فاره المركب، مطفف مكيال الإطراء، جموح في إيجاب الحقوق، مترام إلى أقصى أماد التوغل، سخي السان بالثناء ثرثاره، مرسل لعنانه في كل المحافل، متواضع متودد فكه مطبوع حسن الخلق عذب الفكاهة، مخصوص حيث حل من الملوك والأمراء بالإثرة، وممن دونهم بالمداخلة والصحبة، ينظم الشعر ويحاضر بالأبيات، ويقوم على تاريخ بلده، ويثابر على لقاء أهل المعرفة، والأخذ عن أولي الرواية، قدم الأندلس عام خمسين وسبعمائة مفلتاً من الوقيعة بالسلطان ابي الحسن، فمهد له سلطانها كنف بره، وآواه لإلى سعة رعيه، وتأكدت بيني وبينه صحبة.
[25 - من لسان الدين إلى ابن راجح]
كتبت إليه أول قدومه بما نصه أحذوحذوأبيات ذكر أن شيخنا أبا محمد الحضرمي خاطبه بها:
أمن الغربي نفحة بارح
…
سرت منه أرواح الجوى في الجوارح
قدحت بها زند الغرام وإنما
…
تجافيت في دين السلو لقادح
وما هي إلا نسمة حاجرية
…
رمى الشوق منها كل قلب بقادح
رجحنا من غير شك كأنها
…
شمائل أخلاق الشريف ابن راجح
(1) ق: حاصله.
(2)
ق: وبديهة.
فتى هاشم سبقاً إلى كل غاية
…
وصبراً، مغار الفتل في كل فادح
أصيل العلا جم السيادة، ذكره
…
طراز ندار في برود المدائح
وفرقان مجد يصدع الشك نوره
…
حبا الله منه كل صدر بشارح
وفارس ميدان البيان إذا انتضى
…
صحائفه أنست مضاء الصفائح
رقيق كما راقتك نغمة ساجع
…
وجزل كما راعتك صولة جارح
إذا ما أحتبى مستحضراً في بلاغة
…
وخوض خضيم القول منه بسابح
وقد شرعت في مجمع الحفل (1) نحوه
…
أسنة حرب للعيون اللوامح
فما ضعضعت منه لصولة صادع
…
ولا ذهبت منه بحمة ناصح
تذكرت قساً قائماً في عكاظه
…
وقد غص بالشم الأنوف الجحاجح
ليهنك شمس الدين ما حزت من علا
…
خواتمه موصولة بالفواتح
رعى الله ركباً أطلع الصبح مسفراً
…
لمرآك من فوق الربى والبطائح
ولله ما أهدته كوماء أوضعت
…
برحلك في قفر عن الأندلس نازح
أقول لقومي عندما حط كورها
…
وساعدها السعدان وسط الأباطح
ذروها وأرض الله لا تعرضوا لها
…
بمعرض سوء فهي ناقة صالح
إذا ما أردنا القول فيه فمن لنا
…
بطوع القوافي وانبعاث القرائح
بقيت مني نفس وتحفة قادم
…
ومورد ظمآن وكعبة مادح
ولا زلت تلقى البر والرحب حيثما
…
أرحت السرى من كل غاد ورائح [26 - جواب ابن راجح]
فأجابني بما نصه:
أمن مطلع الأنوار لمحة لامح
…
تعاد لمفؤود عن الحي نازح
وهل بالمنى من مورد الوصل يرتوي
…
غليل عليل للتواصل جانح
(1) ق: الخصل.
فيا فيض عين الدمع مالك والحمى
…
ورند الحمى والشيح شيح الأشايح
مرابع آرامي ومورد ناقتي
…
فسقياً لها سقياً لناقة صالح
سقى الله ذاك الحي ودقاً فإنه
…
حمى لمحات العين عن لمح لامح
وأبدى لنا حر الخيام تزف في
…
حلى الحسن والحسنى وحلي الملامح
ترى حي تلك الحور للحور مهيع
…
يدل، وهل حسم لداء التبارح
ويا دوحة الريحان هل لي عودة
…
لعفر عفار الأندلس بين الأباطح
وهل أنت إلا حلة حاتمية
…
تغص نواديها بغاد ورائح
أقام بها الفخر الخطيب منابراً
…
لترتيل آيات الندى والمنائح
وشفع بالإنجيل حمد مديحه
…
وأوتر بالتوراة شفع المدائح
وفرق بالفرقان كل فريقة
…
نأت عن رشاد فيه محض النصائح
وهل هو إلا للبرية مرشد
…
لكل هدى هاد لأرجح راجح
فبشرى لسان الدين ساد بك الورى
…
وأورى الهدى للرشد أوضح واضح
متى قلت لم تترك مقال لقائل (1)
…
وإن لم تقل لم يغني مدح لمادح
فمن حام بالحي الذي أنت ربه
…
وعام ببحر من عطاياك طافح
يحق له أن يشفع الحمد بالثنا
…
ويغدو بذاك البحر أسبح سابح
ويا فوز ملك دمت صدر صدروه
…
وبشرى له قد راح أربح رابح (2)
بآرائك اللاتي تدل على الهدى
…
ويبدي لمن خصصت سبل المناجح
ملكت خصال السبق في كل غاية
…
وملكت ما ملكت يا ابن الجحاجح
مطامح (3) آمال لأشرف همة
…
أقل مراميها أجل المطامح
فدونكها يا مهدي المدح مدحة
…
أجبت بها عن مدح أشرف مادح
(1) من قول حسان في مدح ابن عباس:
إذا قال لم يترك مقالا لقائل
…
بملتقطات لا ترى بينها فصلا (2) سقط البيت من ص.
(3)
ق: مطالب.
تهنيك بالعام الذي عم مدحه
…
مواهب هاتيك البحار الطوافح
فخذها سمي الفخر يا خير مسبل
…
على الخلق إغضاء ستور التسامح
ودم خاطب العليا بها خير خاطب
…
وأتوق تواق واطمح طامح [بقية ترجمة ابن راجح]
ثم قال لسان الدين: توفي يوم الخميس ثالث شعبان سنة خمس وستين وسبعمائة، وقد ناهز السبعين، ودفناه بروضتنا بباب إلبيرة، وأعفي شارب الشعر من ثاني (1) مقصه، عفا الله تعالى عنا وعنه؛ انتهى.
قلت: رأيت بخط البدر البشتكي في اختصاره لإحاطة لسان الدين وسماه بمركز الإحاطة في هذا المحل ما نصه: قال كاتبه: لو وفق الله تعالى هذا الرجل لم يجب عن مثل تلك الحائية بهذا الهذاء، ولعل ما في كتاب أبي البركات الذي اسمه شعر من لا شعر له أنزل من هذه الطبقة؛ انتهى.
ولقد أشار لسان الدين لهذا بقوله السابق: وأعفي شارب الشعر من ثاني مقصه، فلله دره من لوذعي زان خاتم البراعة بفصه، فلكم له من عبارة وجيزة يقضي بها ما لم يستطع غيره أن يعبر عنه بإطنابه، فعلى كل من يروم التعبير، عما في الضمير، أن يتمسك بأطنابه.
وقال ابن خاتمة: حدثني الشريف الأديب أبوعبد الله ابن راجح التونسي مقدمه علينا بالمرية قال: سجن القاضي أبوعبد الله ابن عبد السلام شاباً وسيماً لحق تعين عليه، فأنشدته مداعباً:
أقاضي المسلمين حكمت حكماً
…
غدا (2) وجه الزمان له عبوسا
(1) ص: نابي.
(2)
ق: بدا.
سجنت على الدراهم ذا الجمال
…
ولم تسجنه إذ غصب النفوسا فأجابني بأن قال: إنما شكاه لي أرباب الدراهم، دون أرباب النفوس؛ انتهى.
رجع إلى ما خوطب به لسان الدين رحمه الله تعالى:
[27 - من العشاب إلى لسان الدين]
ومما خاطبه به أبوعبد الله العشاب (1) التونسي في بعض الأعياد قوله:
بيمن أبي عبد الإله محمد
…
تيمّن هذا القطر وانسجم القطر
أفاض علينا من جزيل عطائه
…
بحوراً تديم المدّ ليس له جزر
وآنسنا لمّا عدمنا مغانياً
…
إذا ذكرت في القلب ليس لها (2) ذعر
هنيئاً بعيد الفطر يا خير ماجد
…
كريم به تسموالسيادة والفخر
ودمت مدى الأيام في ظل نعمة
…
تطيع لك الدّنيا ويعنولك الدهر [28 - من محمد بن محمد بن عبد الملك المراكشي إلى لسان الدين]
وقال لسان الدين في ترجمة ابن عبد الملك المراكشي ماصورته: وخاطبني بقوله:
وليت ولايةً أحسنت فيها
…
ليعلم أنها شرفت بقدرك
وكم والٍ أساء فقيل فيه
…
دني القدر ليس لها بمدرك وقال أيضاً يخاطبني في المعنى:
(1) ق: الفشتالي.
(2)
ص: من ذكرها.
وليت فقيل أحسن خير وال
…
ففاق مدى مداركها بفضله
وكم وال أساء فقيل فيه
…
دنا فمحا محاسنها بفعله [ترجمة ولد ابن عبد الملك]
وفي الإحاطة ما محصلّه أن المذكور محمد بن محمد بن عبد الملك بن سعيد الأنصاري الأوسي، كان شديد الإنقباض، محجوب المحاسن، تنبوالعين عنه جهامة ووحشة ظاهر وغرابة شكل، وفي طي ذلك أدب غضّ، ونفس حرّة، وحديث ممتع، وأبوّة كريمة، أحد لصابرين على الجهد، المستمسكين بأسباب الحشمة، الراضين بالخصاصة، وأبوه قاضي القضاة نسيج وحده الإمام العالم التاريخي المتبحر في الآداب، تقلبت به أيدي الليالي بعد وفاته لتبعة سلطت على نشبه، فاستقر بمالقة مقدوراً عليه، لا يهتدي لمكان فضله إلا من عثر عليه، ومن شعره قوله:
من لم يصن في أمل وجهه
…
عنك فصن وجهك عن ردّه
واعرف له الفضل وعرّف له
…
حيث أحل النفس من قصده ثم قال: توفي في ذي القعدة عام ثلاثة وأربعين وسبعمائة؛ انتهى.
[29 - من المكودي إلى لسان الدين]
ومما مدح به لسان الدين قول أبي عبد الله محمد المكودي الفاسي رحمه الله تعالى:
رحماك بي فلقد خلدت في خلدي
…
هوىً أكابد منه حرقة الكبد
حللت عقد سلوي عن فؤادي إذ
…
حللت منه محل الروح من جسدي
مرآك بدري، التذاذ فمي
…
ودين حبّك إضماري ومعتقدي
ومن جمالك نور لاح في بصري
…
ومن ودادك روح حل في خلدي
لا تحسبنّ فؤادي عنك مصطبراً
…
فقبل حبك كان الصبر طوع يدي
وهاك جسمي قد أوحى النحول به
…
فلوطلبت وجوداَ منه لم تجد
بما في طرفك من غنج ومن حور
…
وما بثغرك من در ومن برد
كن بين طرفي وقلبي منصفاً فلقد
…
حابيت بعضهما فلعدل ولا تحد
فقال لي: قد جعلت القلب لي وطناً
…
وقد قضيت على الأجفان بالسهد
وكيف تطلب عدلً والهوى حكم
…
وحكمه قط لم يعدل على أحد
من لي بأغيد لا يرثي لذي شجن
…
وليس يعرف ما يلقاه ذو كمد
ما كنت من قبل إذعاني لسطوته
…
إخال أن الرشا يسطوعلى الأسد
إن جاد بالوعد لم تصدق مواعده
…
فإن قنعت بزور الوعد لم يعد
شكوته علتي منه فقال: ألا
…
سر للطبيب فما برء الضنى بيدي
فقلت: إن شئت برئي أوشفى ألمي
…
فبارتشاف لماك الكوثري جد
وإن بخلت فلي مولى يجود على
…
ضعفي ويبرئ ما أضنيت من جسدي وخرج بعد هذا إلى مدح لسان الدين فأطال وأطاب، وكيف لا وقد ملأ من إحسانه الوطاب، رحم الله تعالى الجميع.
[30 - من اليتيم إلى لسان الدين]
وقال لسان الدين: كتبت إلى عبد الله اليتيم (1) أسأل منه ما أثبت في كتاب " التاج " من شعره، فكتبت إلي بهذه الأبيات:
أما الغرام فلم أخلل بمذهبه
…
فلم حرمت فؤادي نيل مطلبه
(1) هو محمد بن علي بن محمد العبدري، وسينقل المقري ترجمته عن التاج فيما يلي، وبعضها مثبت أيضاً في الكتيبة:59.
يا معرضاً عن فؤاد لم يزل كلفاً
…
بحبه، ذا حذار من تجنبه
قطعت عنه الذي عودته فغدا
…
وحظه من رضاه برق خلبه
أيام وصلك مبذول، وبرك بي
…
مجدد، قد صفا لي عذب مشربه
وسمع ودك عن إفك العواذل في
…
شغل وبدر الدجى ناس لمغربه
لا أنت تمنعني نيل الرضا كرماً
…
ولا فؤادي بوان في تطلبه
لله عرفك ما أذكى تنسمه
…
لو كنت تمنحني استنشاق طيبه
أنت الحبيب الذي لم أتخذ بدلاً
…
منه وحاشا لقلبي من تقلبه
يا ابن الخطيب الذي قد فقت كل سنا
…
أزال عن ناظري إظلام غيهبه
محمد الحسن في خلق وفي خلق
…
أكملت باسمك معنى الحسن فازه به
حضرت (1) أوغبت مالي عن هواك غنى
…
لا ينقص البدر حسناً في تغيبه
سيان حال التداني والبعاد، وهل
…
لمبصر البدر نيل في ترقبه
يا من أحسن ظني في رضاه وما
…
ينفك يهدي قبيحاً من تغضبه
إن كان ذنبي الهوى فالقلب مني لا
…
يصغي لسمع ملام من مؤنبه [31 - من لسان الدين إلى اليتيم]
فأجبته بهذه الرسالة، وهي ظريفة في معناه: يا سيدي الذي إذا رفعت راية ثنائه تلقيتها باليدين (2) ، وإذا قسمت سهام وداده على ذوي اعتقاده كنت صاحب الفريضة والدين (3) ، دام بقاؤك لطرفة تبديها، وغريبة تردفها بأخرى تليها، وعقيلة بيان تجليها، ونفس أخذ الحزن بكظمها، وكلف الدهر بشت نظمها، تؤنسها وتسليها، لم أزل أشد على بدائعك يد الضنين، وأقتني
(1) ص: نأيت.
(2)
فيه إشارة إلى قول الشماخ:
إذا ما راية رفعت لمجد
…
تلقاها عرابة باليمين (3) الفريضة: الإرث أو الحصة منه.
درر كلامك، ونفثات أقلامك، اقتناء الدر الثمين، والأيام بلقائك تعد ولا تسعد، وفي هذه الأيام انثالت علي سماؤك بعد القحط، وتواترت لدي آلاؤك على شحط، وزارتني من عقائل بيانك كل فاتنة الطرف، عاطرة العرف، رافلة في حلل البيان والظرف، لوضربت بيوتها بالحجاز، لأقرت لها العرب العاربة بالإعجاز، ما شئت من رصف المبنى، ومطاوعة اللفظ لغرض المعنى، وطيب الأسلوب، والتشبث بالقلوب غير أن سيدي أفرط في التنزل وخلط المخاطبة بالتغزل وراجع الالتفاف ورام استدراك مافات ويرحم الله تعالى شاعر المعرة فلقد أجاد في قوله وانكر مناجاة الشوق بعد انصرام حوله (1) :
أبعد حول تناجي الشوق ناجيةٌ
…
هلاة نحن على عشرٍ من العشر (2)" ولقد تجاوزت في الأمد وأنسيت أخبار صاحبك عبد الصمد فأقسم بألفات القدود وهمزات الجفون السود وحامل الأرواح مع الألواح بالغدووالرواح لولا بعد مزارك ما أمنت غائلة ما تحت إزارك ثم إني حققت الغرض وبحثت عن المشكل الذي عرض فقلت للخواطر (3) انتقال ولكل مقام مقال وتختلف الحوائج باختلاف الأوقات ثم رفع اللبس خبر الثقات ".
ومنها - " وتعرفت ما كان من مراجعة سيدي لحرفة التكتيب والتعليم، والحنين إلى العهد القديم، فسررت باستقامة حاله، وفضل ماله، وإن لاحظ
(1) من قصيدته التي مطلعها:
يا شاهر البرق أيقظ راقد السمر
…
لعل بالجزع أعواناً على السهر (شروح السقط: 114) .
(2)
الناحية: الناقة السريعة؛ والعشر: شجر، واراد به هنا المكان الذي ينبت فيه.
(3)
ق: للخاطر.
اللاحظ ما قال الجاحظ (1) ، فاعتراض لا يرد وقياس لا يطرد حبذا والله عيش التأديب فلا بالضنك ولا بالجديب معاهدة الإحسان ومشاهدة الصور الحسان (2) . يميناً إن المعلمين لسادة المسلمين وإني لأنظر منهم كلما خطرت على المكاتب أمراء فوق المراتب من كل مسيطر الدرة متقطب الأسرة متنمر للوارد تنمر الهرة يغدوإلى مكتبه كالأمير في موكبه حتى إذا أستقل في فرشه (3) ، واستوى على عرشه وترنم بتلاوة قالونه وورشه (4) ، أظهر للخلق احتقار أوأزرى بالجبال وقاراً ورفعت إليه الخصوم ووقف بين يديه الظالم والمظلوم فتقول كسرى في إيوانه والرشيد في أوانه أوالحجاج بين أعوانه فإذا استولى على البدر السرار وتبين للشهر الغرار تحرك إلى الخرج تحرك العود إلى الفرج استغفر الله مما يشق على سيدي سماعه وتشمئز من ذكره طباعه شيم اللسان خلط الإساءة بالإحسان والغفلة من صفات الإنسان فأي عيش كهذا العيش وكيف حال أمير هذا الجيش طاعة معروفة ووجوه إليه مصروفة فإن أشار بالإنصات لتحقق القصات فكأنما طمس على الأفواه ولأم بين الشفاه وإن أمر بالإفصاح وتلاوة الألواح علا الضجيج والعجيج وحف به كما حف بالبيت الحجيج وكم من بين ذلك رشوة تدس وغمزة لا تحس ووعد يستنجز وحاجة تستعجل وتحفز هنأ الله سيدي ما خوله أنساه بطيب أخراه أوله وقد بعثت بدعابتي مع إجلال قدره والثقة وبسعة صدره فليتها بيمينه ويفسح لها في المرتبة بينه وبين خدينه ويفرغ لمراجعتها وقتاً من أوقاته عملاً بمقتضى دينه وفضل يقينه؛ والسلام ".
(1) يومئ إلى أن الجاحظ قد ذم معلمي الصبيان، ويداعب ابن اليتيم في عودته إلى عودته إلى هذه الحرفة.
(2)
ومشاهدة
…
الحسان: سقطت من ق.
(3)
ق: استقبل على فرشه.
(4)
قالون وورش: مقرئان اختص كل منهما بقراءة من القراءات.
[ترجمة أبي عبد الله اليتيم]
ثم قال ومن المداعبة التي وقعت إليها الإشارة ما كتب به إليه صديقه أبوعلي ابن عبد السلام:
أبا عبد الإله نداء خل
…
وفي جاء يمنحك النصيحة
إلى كم تألف الشبان غياً
…
وخذلاناً أما تخشى الفضيحة فأجبه بقوله:
فديتك صاحب السمة المليحه
…
ومن طابت ارومته الصريحة
ومن قلبي وضعت له محلاً
…
فما عنه يحل بأن أزيحه
نأيت فدمع عيني في انسكاب
…
واكبادي لفرقتكم قريحة
وطرفي لا يتاح له رقادٌ
…
وهل نومٌ لأجفانٍ جريحه
وزاد تشوقي أبيات شعرٍ
…
أتت منكم بألفاظٍ فصيحه (1)
ولم تقصد بها جداً ولكن
…
قصدت بها مداعبة وقيحه
فقلت أتألف الشبان غياً
…
وخذلاناً أما تخشى الفضيحة
ففيهم حرفتي وقوام عيشي
…
وأحوالي بخلطتهم نجيحه
وامري فيهم أمرٌ مطاعٌ
…
وأوجههم مصابيحٌ صبيحة
وتعلم أنني رجلٌ حصور
…
وتعرف ذاك معرفةً صحيحة ثم قال لسان الدين - بعد إيراده ما مر - ما صورته ولم اشتهر المشيب بعارضه ولمته وخفر الدهر بعهود صباه وأذمته أقلع استرجع وتألم لما فرط وتوجع وهوالآن من جلة (2) الخطباء طاهر العرض والثوب خالص
(1) سقط هذان البيتان من ق.
(2)
ق: جملة.
من الثوب بادٍ عليه قبول قابل التوبة وتوفي في أخريات صفر سنة خمسين وسبعمائة في الطاعون رحمه الله تعالى وغفر له؛ انتهى.
واليتيم المذكور هوأبوعبد الله بن محمد بن علي العبدري المالقي وفي حقه يقول لسان الدين في التاج ما مثاله: هومجموع أدوات حسان من خط ونغمة (1) لسان أخلاقه روض تتضوع نسماته وبشره صبح تتألق قسماته ولاتخفى سماته يقرطس أغراض الدعابة ويصميها ويفوق سهام الفكاهة إلى مراميها فكلما صدرت في عصره هازلة أوأبيات منحطة عن الإجادة نازلة خمس أبياتها وذيلها وصرف معانيها وسيلها وتكها سمر الندمان وأضحوكة الأزمان وهوالآن خطيب المسجد الأعلى بمالقة متحل بوقار وسكينة حال من أهلها بمكانة مكينة لسهولة جانبه واتضاح مقاصده في الخير ومذاهبه واشتغل لأول أمره بالتكتيب وبلغ الغاية في التعليم والترتيب والشباب لم ينصل خضابه ولا سلت للمشيب عضابه ونفسه بالمحاسن كلفة صبة وشأنه كله هوى ومحبة ولذلك ماخاطبه بعض أودائه وكلاهما رمى أخاه بدائه حسبما يأتي خلال هذا المقول وفي أثنائه؛ انتهى.
وذكر نحوما تقدم ذكره سامح الله الجميع بفضله
[32 - مخاطبة الكرسوطي للسان الدين]
وقال لسان الدين في ترجمة أبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن الكرسوطي الفاسي (2) نزيل مالقة ما صورته: وأنشدني وأنا بمالقة أحاول لوث العمامة وأستعين بالغير على الإحكام لها:
(1) ق: من خطط ونعمة.
(2)
ترجمة الكرسوطي في الإحاطة، الورقة: 50 وفي البيتان.
أمعممّاً قمراً تكامل حسنه
…
أربى على الشمس المنيرة في البها
لا تلتمس ممّن لديك زيادةً
…
فالبدر لا يمتار من نور السها [ترجمة ابي عبد الله الكرسوطي]
قال لسان الدين: وهوفقيه محدث متكلم، ألف كتباً منها الغرر في تكميل الطرر، طرر أبي إبراهيم الأعرج، ثم كتاب الدرر في إختصار الطّرر، المذكور، وتقييدان على الرسالة كبير وصغير، ولخص التهذيب لابن بشير، وحذف أسانيد المصنفات الثلاثة، والتزم إسقاط التكرار، واسترك الصحاح الواقعة في الترمذي على البخاري ومسلم، وقيد على مختصر الطليطلي، وشرع في تقييد على قواعد الإمام أبي الفضل عيّاض بن موسى برسم ولدي، ويصدر منه الشعر مصدراً لاتكنفه منه العناية، وكانت له اليد الطولى في عبارة الرؤيا، ومولده بفاس عام تسعين وستمائة، انتهى ملخصاً.
[33 - مخاطبة ابن الزبير للسان الدين]
وقال في ترجمة أبي عمروبن الزبير ما صورته: ومما خاطبني به عند إيابي من العدوة في غرض الرسالة قوله:
نوالي الشكر للرحمن فرضاً
…
على نعم كست طولاً وعرضا
وكم لله من لطف خفي
…
لنا منه الذي قد شا وأمضى
بمقدمك السعيد أتت سعود
…
ننال بها نعيم الدهر محضا
فيا بشرى لأندلس بما قد
…
به والاك بارينا وأمضى
ويا لله من سفر سعيد
…
قد أقرضك المهيمن فيك قرضا
ورحت بنية أخلصت فيها
…
فأبت بكل ما يبغى ويرضى
وثبت لنصرة الإسلام لمّا
…
علمت بأن الأمر إليك أفضى
لقد أحييت بالتقوى رسوماً
…
كما أرضيت بالتمهيد أرضا
وقمت بسنة المختار فينا
…
تمهد سنة وتقيم فرضا
ورضت من العلوم الصعب حتى
…
جنيت ثمارها رطباً وغضاً
فرأيك راجح فيما تراه
…
وعزمك من مواضي الهند أمضى
تدبر أمر مولانا فيلقى ال
…
مسيء لديك إشفاقاً وإغضا
فأعقبنا شفاء وانبساطاً
…
وقد كانت قلوب الناس مرضى
ومن أضحى على ظماء وأمسى
…
يرد إن شاء من نعماك حوضا
أبا عبد الإله إليك أشكو
…
زماني حين زاد الفقر عضا
ومن نعماك أستجدي لباساً
…
تفيض به علي الجاه فيضا
بقيت مؤملاً ترجى وتخشى
…
ومثلك من إذا جاد أرضى [ترجمة أبي عمرو ابن الزبير]
وأبوعمرو المذكور هومحمد بن أحمد بن إبراهيم بن الزبير، أبوه الأستاذ أبوجعفر ابن الزبير، أستاذ الزمان شيخ أبي حيان وغيره، وقال في الإحاطة في حقه: إنه فكه حسن الحديث، ركض طرف الشبيبة في ميدان الراحة منكباً عن سنن أبيه وقومه، مع شفوف وإدراك، وجودة وحفظ، كانا يطمعان والده في نجابته، فلم يعلم قادحاً، شرق فنال حظوة، وجرت عليه خطوب، ثم عاد إلى الأندلس فتطور بها، وهوالأن قد نال منه الكبر يزجي لوقته (1) بمالقة متعللاً برمق من بعض الخدم المخزنية (2) ، إستجاز له والده الطم والرم من أهل المغرب والمشرق، وبضاعته في الشعر مزجاة، ثم قال: مات تاسع المحرم عام خمسة وستين وسبعمائة؛ انتهى.
(1) ق: الوقت.
(2)
المخزنية: نسبة إلى المخزن وهو الدولة.
[ترجمة أبي يحيى الأكحل]
وقال في ترجمة أبي يحيى محمد بن أحمد بن محمد بن الأكحل ما صورته:
شيخ هيدوري (1) الذقن، خدوع الظاهر، خلوب اللفظ، شديد اللفظ، شديد الهوى إلى الصوفية، والكلف بإطراء أهل الخير، من بيت صون وحشمة، متقدم في معرفة الأمور العلمية، خائض في غمار التصوف، وانتحال في كيمياء السعادة، راكب متن دعوى عريضة في مقام التوحيد، تكذبها أحوالها الراهنة، لمعاصاة خلقه على الرياضة واستيلاء الشره، وغلبة سلطان الشهوة، والمشاحة أيام الولاية، والسباب (2) الشاهد بالشدة، والحلف المتصل بياض اليوم في ثمن الخردلة باليمين التي فيها فساد الأنكحة، والغضب الذي يقلب العين.
[34 - مخاطبة الأكحل للسان الدين]
خاطبني بين يدي نكبته ولم أظن الشعر مما تلوكه جحفلته (3)، ولكنه من أهل الكفاية:
رجوتك بعد الله يا خير منجد
…
واكرم مأمول وأعظم مرفد
وأفضل من أملت للحادث الذي
…
فقدت به صبري وما ملكت يدي
وحاشا وكلا أن يخيب مؤملي
…
وقد علقت بابن الخطيب محمد
وما أنا إلا عبد نعمته التي
…
عهدت بها يمني وإنجاح مقصدي
وأشرف من حض الملوك على التقى
…
وأبدى لهم رشداُ نصيحة (4) مرشد
(1) ق: هيدري؛ ولعلها هدوري من قولهم هدر النبت إذا كثر وطال.
(2)
ص: والسيد ولعلها محرفة عن " والسب ".
(3)
الجحفلة للدابة بمنزلة الشفة للإنسان.
(4)
ق: رشد النصيحة.
وساس الرعايا الآن خير سياسة
…
مباركة في كل غيب ومشهد
وأعرض عن دنياه زهداً وإنها
…
لمظهرة طوعاً له عن تودد
وما هو إلا الليث إن أتى
…
له خائف أوجاء مغناه مجتدي
وبحر علوم دره كلماته
…
إذا رددت في الحفل أي تردد
صقيل مراء الفكر رب لطائف
…
محاسنها تجلى بحسن تعبد
بديع عروج النفس للملأ الذي
…
تجلت له الأسرار في كل مصعد
شفيق رفيق دائم الحلم راحم
…
ورأي جميل للجميل معود
صفوح عن الجاني على حين قدرة
…
مواصل تقوى الله في اليوم والغد
أيا سيدي يا عمدتي عند شدتي
…
ويا مشربي مهما ظمئت وموردي
حنانينك والطف بي وكن لي راحماً
…
ورفقاً على شيخ ضعيف منكد
رجاك رجاء للذي أنت أهله
…
ووافاك يهدي للثناء المجدد
وأمك مضطراً لرحماك شاكياً
…
بحال كحر الشمس حر توقد
وعندي افتقار لا يزال مواصلاً
…
لأكرم مولى حاز أجراً وسيد
ترفق بأولاد صغار بكائهم
…
يزيد لوقع الحادث المتزيد
وليس لهم إلا إليك تطلع
…
إذا مسهم ضر أليم التعهد
أنلهم أيا مولاي نظرة مشفق
…
وجد بالرضى وانظر لشمل مبدد
وعامل أخا الكرب الشديد برحمة
…
وأسعف بغفران الذنوب وأسعد
ولا تنظرن إلا لفضلك لا إلى
…
جريمة شيخ عن محلك مبعد
وإن كنت قد أذنبت إني تائب
…
فعود لي الفعل الجميل وجدد (1)
بقيت بخير لا يزال وعزة
…
وعيش هنيْ كيف شئت وأسعد
وسخرك الرحمن للعبد؛ إنه
…
لمثن وداع للمحل الممجدد ثم قال: وهوالآن من مسطري الأعمال على تهور واقتحام كبرة (2) ، من
(1) سقط البيت من ص.
(2)
ق: كبيرة.
خط لا غاية وراءه في الركاكة، كما قال المعري (1) :
تمشت (2) فوقه حمر المنايا
…
ولكن بعدما مسخت نمالا (3)[35 - مخاطبة ابن عياش للسان الدين]
وقال في ترجمة أبي عبد الله محمد بن علي بن عياش بن مشرف الأمي: إنه من أهل الأصالة والحسب، ظهرت منه على حداثة السن أبيات، ونسب إليه شعر توسل بهن وتصرف في الإشراف، فحمدت سيرته، وكتب إلي بقوله:
وسفرت شموس اليمن والإقبال
…
وبدت بدور السعد ذات كمال
لقدوم سيدنا الوزير محمد
…
أعزز به من سيد مفضال
قمر تجلى بين زهر تجتلي
…
يهدي لفعل الخير لا الإضلال
سر آمناً لا تكترث، فلأنت في
…
حفظ الإله الواحد المتعالي
براً وبحراً لا تخاف ململة
…
وعدو ذاتك خلف ظهرك صالي
لا يستقر له قرار بعدكم
…
مما يحل به من الأوجال
والآن ترجع سالماً ومبشراً
…
ببلوغ كل مسرة ومنال وهي طويلة، نمطها متخلف عن الإجادة، وهي من مثله مما يستظرف؛ انتهى.
[36 - مخاطبة أبي عبد الله الوادي آشي للسان الدين]
وقال في ترجمة أبي عبد الله محمد العراقي الوادي آشي: فاضل
(1) شروح السقط: 104.
(2)
السقط: وديت.
(3)
البيت في وصف السيف؛ أي أن إفرنده وكأنما دبت فوقه النمل.
الأبوة، بادي الاستقامة، حسن الأخلاق، تولى أعمالاً، كتب إلي وقد أبى عملاً عرض عليه بقوله:
أأصمت ألفاً ثم أنطق بالخلف
…
وأفقد إلفاً ثم آنس بالجلف
وأمسك دهري ثم أفطر علقماً
…
ويمحق بدري ثم ألحق بالخسف
وعزكم لا كنت بالذل عاملاً
…
ولو أن ضعفي ينتهي بي إلى الحتف
فإن تعلموني في تصرف عزة
…
وعدل وإلا فاحسموا علة الصرف
بقيتم وسحب العفومنكم تظلني
…
وحظ ثنائي دائماًثاني العطف [37 - مخاطبة أبي محمد الأزدي للسان الدين]
وقال في ترجمة أبي محمد عبد الله بن إبراهيم الأزدي ما صورته: وخاطبني لما وليت خطة الإنشاء وغيرها في أواخر عام تسعة وأربعين وسبعمائة بما نصه:
حشاشة نفس أعلنت لمذيبها
…
بتذكار أيام الوصال وطيبها
ونادته رحمى أحييها نفس مد نف
…
تموت إذا لم تحيها بوجيبها
فداو بقرب منك لاعج وجدها
…
وفيض أماقيها، وطول نحيبها
وقد بلغت حداً به صح في الهوى
…
وأحكامه ثوب الضنى في نصيبها
وهل يتداوى داء نفس تعيسة
…
إذا كان يوماً داؤها من طبيبها
لعل أوار الوجد تخمد ناره
…
فيبرد عنها ما بها من لهيبها
إليك حداها الشوق يا بدرها الذي
…
يعز عليها منه طول مغيبها
سلكت بها سبل الهوى فهي تبتغي
…
لقاك وتبغي غفلة من رقيبها
اجبها بإبقاء عليها فإنها
…
ستفنى إذا ما لم تكن بمجيبها
ومل نحوها بالود فهي قد أذعنت
…
كما تذعن الأقلام لابن خطيبها
وحيد الزمان الماهر الباهر الحلى
…
وجهبذ آداب العلا وأديبها
إمام معاليها، وبحر علومها
…
وبدر دياجيها، وصدر شعوبها
مصرفها كيف اثنت ومعيدها
…
ومبدئها حيث انتهت ومصيبها
ورافع أعلام البلاغة والذي
…
أتى ناثراً أوناظماً بعجيبها
وحامل رايات الرياسة رفعة
…
قضى المجد تخصيصاً لها بوجوبها
من الغر لمن أوجبت لشبابها
…
معاليهم الفضل العظيم وشيبها
من أبناء أرباب المنابر والألى
…
سما فخرهم بين الورى بركوبها
خلال ابن عبد الله طود الحجى أبي
…
محمد باد حسنها من ضروبها
أجاد وأجدى فأسل عن ذكر طيْ
…
وحاتمها زهواً به وحبيبها
ففي كل ما يبدي محمد عبرة
…
محاسنها تنبي بسر عيوبها
تجيب القوافي إن دعا ببعيدها
…
وتنقاد طوعاً إن دعا بقريبها
تخير أخلاق الكرام فلم يكن
…
نهى ولهى يرضى بغير رحيبها
تقدم في دار الخلافة حاجباً
…
لينجدها في سلمها وحروبها
وقام لها في ساحة العز كاتباً
…
بمحضرها أسرارها ومغيبها
فأبدى من أنواع الفضائل أوجها
…
تقر لها بالحسن عين لبيبها
هنيئاً به يمناً بأسعد ماثل
…
لغرناطة قاض بصرف خطوبها
فللسعد تأثير يجيْ إذا جرى
…
به قدر كالريح عند هبوبها
أموقد نار الفكر يقدح زندها
…
فيسبي به الألباب سحر نسيبها
حداني إليك الحب قدماً ومال بي
…
حديث لآمال خلت عن غريبها
فقدمتها نظماً قوافي قصرت
…
لديك بذاوي فكرتي ورطيبها
وكنت كمن وافى لدى الدار بالحصى
…
يرفع منها ساهياً عن عيوبها
فصلها وخذ بالعفوفيها فلم أصل
…
لأبلغ منها فأغتفر من ذنوبها [قطع من شعر الأزدي]
وصاحب هذا النظم من أهل بلش، وله اقتدار على النظم والنثر، قال في
الإحاطة ما محصله: ومما وقع له أثناء مقامات وأغراض تشهد باقتداره مهملأً:
رعى الله عهداً حوى ما حوى
…
لأهل الوداد وأهل الهوى
أراهم أموراً حلا وردها
…
وأعطاهم السؤال كلاً سوا
ولما حلا الوصل صالوا له
…
وراموه مأوى وماء روا
وأوردهم سر أسرارهم
…
ورد إلى كل داء دوا
وما أمل طال إلا وهي
…
وما آمل صال إلا هوى وقال معجمة:
بث بيني يبثني فيض جفني
…
شغفي شفني فشبت ببيني
فتنتني بغنج ظبي تجنى
…
تبتغي نقض نيتي بتجني
بزة زينت قضيب تثني
…
قضيت بغيتي ففزت بفن
خفت تشتيت بنيتي فجفتني
…
ثقة تثني فخيب ظني وقال كلمة وكلمة:
الهوى شفني وأهمل جفني
…
أدمعاً تثني دماً بتثني
احور شب حر بثي لما
…
نقض العهد بين طول تجني
حاكم يتقى ولا ذنب إلا
…
شغف لم يخب لمسعاه ظني
ماله ينقض العهود فيشجي
…
ولها يثني مسهد جفن
لم يجز وصله فبت محالاً
…
يقتضي حل بغيتي كل فن وقال يرثي ديكاً فقده، ويصف الوجد الذي وجده، ويبكي عدم أذانه، إلى غير ذلك من مستظرف شانه:
أودى به الحتف لما جاءه الأجل
…
ديكاً فلا عوض منه ولا بدل
قد كان لي أمل في أن يعيش فلم
…
يثبت مع الحتف في بقياه لي أمل
فقدته فلعمري إنها عظة
…
وبالمواعظ تذري دمعها المقل
ما كان أبدع مرآه ومنظره
…
وصفاً به كل حين يضرب المثل
كأن مطرف وشي فوق ملبسه
…
عليه من كل حسن باه حلل
كأن إكليل كسرى فوق مفرقه
…
وتاجه فهوعالي الشكل محتفل
موقت لم يكن يعزى له خطأ
…
فيما يرتب من ورد ولا خلل
كأن زرقال (1) فيما مر علمه
…
علم المواقيت مما رتب الأول
يرحل الليل، يحيي بالصراخ فما
…
يصده كلل عنه ولا ملل
رأيته قد وهت منه القوى فهوى
…
للأرض فعلأً يريه الشارب الثمل
لو يفتدى بديوك الأرض قل له
…
ذاك الفداء ولكن فاجأ الأجل
قالوا الدواء فلم يغن الدواء ولم
…
ينفعه من ذاك ما قالوا وما فعلوا
أملت فيه ثواباً أجر محتسب
…
إن نلت ذلك صح القول والعمل وأمره السلطان أبوعبد الله سادس الملوك النصريين، وقد نظر إلى شلير وقد تردى بالثلج وتعمم، وكمل ما أراد من بزته وتمم، أن ينظم في وصفه، فقال بديهاً:
وشيخ جليل القدر قد طال عمره
…
وما عنده علم بطول ولا قصر
عليه لباس أبيض باه السنا
…
وليس بثوب أحكمته يد البشر
فطوراً تراه كله كاسياً به
…
وكسوته فيها لأهل النهى عبر
وطوراً تراه عارياً ليس يكتسي
…
بحر ولا برد من الشمس والقمر
وكم مرت الأيام وهوكما ترى
…
على حاله لم يشك ضعفاً ولا كبر
وذاك شلير شيخ غرناطة التي
…
لبهجتها في الأرض ذكر قد اشتهر
(1) يريد إبراهيم بن يحيى النقاش المعروف بولد الزرقال وقد وضع صحيفة في الرصد اسمها الزرقلة (او الزرقالة) .
بها ملك سامي المراقي، أطاعه
…
كبار ملوك الأرض في حالة الصغر
تولاه رب العرش منه بعصمة
…
تقيه مدى الأيام من كل ما ضرر وتوفي المذكور في بلده بلش في طاعون خمسين وسبعمائة؛ انتهى.
[38 - من لسان الدين إلى ابن رضوان]
وقال في " الإحاطة " في ترجمة صاحب القلم الأعلى بالمغرب أبي القاسم بن رضوان النجاري (1) ما صورته: ولما ولي الإنشاء بباب ملك المغرب ظهر لسلطاننا بعض قصور في المراجعات، فكتبت إليه (2) :
أبا القاسم (3) لا زلت للفضل قاسماً
…
بميزان عدل ينصر الحق من نصر
مدادك وهوالمسك طيباً ومنظراً
…
وإلا سواد القلب والفود والبصر
عهدناه في كل المعارف مطنباً
…
فما باله في حرمة الود مختصر
أظنك من ليل الوصال انتخبته
…
إلينا، وذاك الليل يوصف بالقصر
أردنا بك العذر الذي أنت أهله
…
ومثلك لا يرمي بعي ولا حصر [39 - جواب ابن رضوان]
فراجعني، ولا أدري أهي من نظمه أم نظم غيره:
(1) هو صاحب كتاب " الشهب اللامعة في السياسة النافعة " وترجمته في الإحاطة، الورقة: 244 والكتيبة: 254 ونبل الابتهاج 123 والتعريف 41 (وص: 20) وفهرسة السراج (ك: 1242 د: 2643) الورقة: 139، 148 ومستودع العلامة: 52 ونثير الجمان، الورقة: 65 (نسخة دار الكتب) وجذوة الاقتباس: 247 وقد كتبنا عنه دراسة مفصلة (نشرت في كتاب العيد الصادر ببيروت سنة 1967) .
(2)
الأبيات وجابها في الكتيبة: 256.
(3)
كناه في الإحاطة بأبي محمد.
حقيق أبا عبد الإله بك الذي
…
لمذهبه في البر يتضح الأثر
وإن الذي نبهت مني لم يكن
…
نؤوماً وحاشا الود أن أغمط الأثر
ورب اختصار لم يشن نظم ناظم
…
ورب اقتصار لم يعب نثر من نثر
وعذرك عني من محاسنك التي
…
نظام حلاها في الممادح ما انتثر
ومن عرف الوصف المناسب منصفاً
…
تأتى له نهج من العذر ما دثر [ترجمة ابن رضوان]
وهوعبد الله ابن يوسف بن لرضوان بن يوسف بن رضوان النجاري، من أهل مالقة، صاحب العلامة العلية والقلم الأعلى بالمغرب، قرأ على جماعة منهم بتونس قاضي الجماعة ابن عبد السلام، قال في التاج فيه أيام لم يفهق حوضه، ولا أزهر روضه، ما نصه: أديب أحسن ما شاء، ومتح قليبه فملأ الدلووبل الرشاء، وعانى على حداثته الشعر والإنشاء، وله ببلده بيت معمور بفضل وأمانة، ومجد وديانة، ونشأ هذا الفاضل على أتم العفاف والصون، فما مال إلى فساد بعد الكون، وله خط بارع، وفهم إلى الغوامض مسارع، وقد أثبت من كلامه، ونفثات أقلامه، كل محكم العقود، زار بابنة العنقود، فمن ذلك قوله (1) :
لعلكما أن ترعيا لي وسائلا
…
فبالله عوجا بالركاب وسائلا ومنها:
لقد جار دهري إذ نأى بمطالبي
…
وظل بما أبغى من القرب ماطلا
عتبت عليه فاغتدى لي عتباً
…
وقال: أصخ لي لا تكن قط عاذلا
أتعبتني أن قد أفدتك موقفاً
…
لدى أعظم الأملاك حلماً ونائلا
(1) القصيدة في الإحاطة: 246 - 248.
مليك حباه الله بالخلق الرضى
…
وأعلى له في المكرمات المنازلا وهي طويلة.
ومن نظم ابن لرضوان المذكور (1) :
تبرأت من حولي إليك وأيقنت
…
برحماك آمالي أصح يقين
فلا أرهب الأيام إذ كنت ملجأ
…
وحسبي يقيني باليقين يقيني وكلفه أبوعنان وصف صيد من غدير فقال من أبيات (2) :
ولرب يوم في حماك شهدته
…
والسرح ناشرة عليك ظلالها
حيث الغدير يريك من صفحاته
…
درعاً تجيد به الرياح صقالها
والمنشآت به تدير حبائلأً
…
للصيد في حيل تدير حبالها
وتريك إذ يلقي بها اليم الذي
…
أخفت جوانحه وغاب خلالها
فحسبتها زرداً وأن (3) عوالياً
…
تركت به عند الطعان نصالها وقال فيه أيضاً:
أبصرت في يوم الغدير عجائباً
…
جاءت بآيات العجائب مبصره
سمكاً لدى شبك فقل ليل بدت
…
فيه الزواهر للنواظر نيره
فكأن ذا (4) زرد تضاعف نسجه
…
وكأن تلك أسنة متكسره ومما نظمه عن أمر الخلافة المستعينية ليكتب في طرة قبة رياض الغزلان
(1) الإحاطة: 250 والكتيبة: 259.
(2)
الكتيبة: 257.
(3)
ق ص: لو أن.
(4)
ق: فكأنه.
من حضرته (1) :
هذا محل المنى بالأمن معمور
…
من حله فهوبالآمال محبور
مأوى النعيم به ما شئت من ترف
…
تهوى محاسنه الولدان والحور
ويطلع الروض منه مصنعاً عجباً
…
يضاحك النور من لألائه النور
ويسطع الزهر من أرجائه أرجاً
…
ينافح الند نشر منه منشور
مغنى السرور سقاه الله ما حملت
…
غر الغمام وحلته الأزاهير
انظر إلى الروض تنظر كل معجبة
…
مما ارتضاه لرأي العين تحبير
مر النسيم به يبغي القرى فقرى
…
دراهم النور تبديد وتنثير
وهامت الشمس في حسن الظلال به
…
ففرقت فوقها منه دنانير
والدوح ناعمة تهتز من طرب
…
همساً، وصوت غناء الطير مجهور
كأنما الطير في أفنائها صدحت
…
بشكر مالكها، والفضل مشكور
والنهر شق بساط الروض تحسبه
…
سيفاً ولكنه في السلم مشهور
ينساب للجة الخضراء أزرقه
…
كالأيم جد انسياباً وهو مذعور
هذي المصانع مولانا التي جمعت
…
شمل السرور، وأمر السعد مأمور
وهذه القبة الغراء ما نظرت
…
لشكلها العين إلا عز تنظير
ولا يصورها في الفهم ذو فكر
…
إلا ومنه لكل الحسن تصوير
ولا يرام بحصر وصف ما جمعت
…
من المحاسن إلا صد تقصير
فيها المقاصير تحميها مهابته
…
لله ما جمعت تلك المقاصير
كأنها الأفق تبدوالنيرات به
…
ويستقيم بها في السعد تسيير
وينشأ المزن في أرجائه وله
…
من عنبر الشحر إنشاء وتسخير
وينهمي القطر منه وهو منسكب
…
ماء من الورد يذكو منه تقطير
(1) القصيدة في الاستقصا 4: 40.
وتخفق الريح منه وهي ناسمة
…
مما أهب به مسك وكافور
ويشرق الصبح منه وهو من غرر
…
غر تلألأ منهن الأسارير
وتطلع الشمس فيه من سنا ملك
…
تبسم الدهر منه وهو مسرور
لله منه إمام عادل بهرت
…
أوصافه فهي للأمداح تحبير
غيث السماح وليث البأس فالق به
…
محيي الهدى وهوللعادين تتبير
قل للمباري وإن لم تلقه أبداً
…
ورب فرض محال وهو تقدير
فخر الأنام أحل الفخر منزله
…
فكل مدح على علياه مقصور
إذا أبوسالم مولى الملوك بدا
…
بدراً تضيْ بمرآه الدياجير
فأي خطب يخاف الدهر آمله
…
وأي سؤل له في النيل تعذير
بشراك بشراك يا نجل الخلافة ما
…
خولت من نيلها والضد مقهور
لك الخلود بعز الملك في نعم
…
لا يعتري صفوها في الدهر تكدير
فانعم هنيئاً بلذات مواصلة
…
لا يأتليهن إلمام وتكرير
لازلت تلقى المنى في غبطة أبداً
…
ما دام لله تهليل وتكبير وقال وكتب به على قلم فضة:
إذا شهدت بالنصر خطية القنا
…
فملكت أمر الفتح من دون ما شرط
كفى شاهداً مني بفضلك ناطقاً
…
لساني مهما أفصحت ألسن الخطي وقال وكتب به على سكين:
أروح بأمر المستعين وأغتدي
…
لإذهاب طغيان اليراع الرواقم
ويفل في الأقلام حدي مصلحاً
…
كفعل ظبي أسيافه في الأقالم قال: ومما كتب به على قصيدة عيدية:
لما رأيت هدايا أعظمها
…
هدية الطيب في حسن وتعجيب
ولم أجد في دروب العاطرات شذا
…
يحكي ثنائك في نشر وفي طيب
أهديت نحوك منه كل ذي أرج
…
أنفاسه بين تشريق وتغريب
وفي القبول منال السعد فالق به
…
تلق الأماني بتأهيل وترحيب وقال في رجل يلقب بالبعير:
وذي لقب عنت له عند صحبه
…
مآرب لم يسعد عليهن مسعد
دعوه بعيراً فاستشاط فقال مه
…
أبا أحمد، وارتد عنهم يهدهد
فقلت له عد نحوهم لتعود من
…
مرامك بالمطلوب توفى وتحمد
فقال وقد غص الفضاء بصوته
…
وقد هدرت منه الشقاشق تزبد
لئن عدت نادوني بعيراً كمثلها
…
فقلت له لا تخشى فالعود (1) أحمد وقال (2) :
وبخيل لما دعوه لسكنى
…
منزل بالجنان ضن بذلك
قال لي مخزن بداري فيه
…
كل مالي فلست للدار تارك
قلت وفقت للصواب فحاذر
…
قول خل مرغب في انتقالك
لا تعرج على الجنان بسكنى
…
ولتكن ساكناً بمخزن مالك (3) وقال رحمه الله تعالى في مركب:
يا رب منشأة عجبت لشأنها
…
وقد احتوت في البحر أعجب شان
سكنت بجنبيها عصابة شدة
…
حلت محل الروح في الجثمان
فتحركت بإرادة مع أنها
…
في جنسها ليست من الحيوان
(1) يوري بكلمة " العود " وهو البعير أيضاً. وفي ص: لا تمش.
(2)
الأبيات في الإحاطة: 254 وكذلك القطعتان التاليتان. والثانية منهما في الكتيبة: 258.
(3)
يوري بمالك التي تعني المال، ومالك هو خازن النار.
وجرت كما قد شاءه سكانها
…
فعلمت أن السر في السكان (1) وقال رحمه الله تعالى:
وذي خدع دعوه لاشتغال
…
وما عرفوه غثاً من سمين
فأظهر زهده وغنى بمال
…
وجيش الحرص منه في كمين
وأقسم لا فعلت يمين خب
…
فيما عجباً لحلاف مهين
يغر بيسره ويمين حنث
…
ليأكل باليسار وباليمين وهوالآن بحالة الموصوفة؛ انتهى.
[40 - مخاطبة أبي بكر بن عبد الله للسان الدين]
وقال لسان الدين رحمه الله تعالى: خاطبني أبوبكر عبد الرحمن بن عبد الملك مستدعياً إلى إعذاره ولده بقوله:
أريد من سيدي الأعلى تكلفه
…
إلى الوصول إلى داري صباح غد
يزيدني شرفاً منه ويبصر لي
…
صناعة القاطع الحجام في ولدي فأجبته:
يا سيدي الأوحد الأسمى ومعتمدي
…
وذا الوسيلة من أهلي ومن بلدي
دعوت في يوم الاثنين الصحاب ضحى
…
وفيه ما ليس في سبت ولا أحد
يوم السلام على المولى وخدمته
…
فاصفح وإن عثرت رجلي فخذ بيدي
والعذر أوضح من نار على علم
…
فعد إن غبت عن لوم وعن فند
بقيت في ظل عيش لا نفاذ له
…
مصاحباً غير محصور إلى أمد
(1) التورية في السكان من المثل " الشأن في السكان لا في المكان " والسكان أيضاً " دفة السفينة ".
[ترجمة أبي بكر بن عبد الملك]
وأبوبكر المذكور أصله من باغه، ونشأ بلوشة، وهومحسوب من الغرناطيين.
وفي " التاج " حقه ما صورته: فارض هاجي، مداهن مداجي، أخبث من نظر من طرف خفي، وأغدر من تلبس بشعار وفي، إلى مكيدة مبثوثة الحبائل، وإغراء يقطع بين الشعوب والقبائل، من شيوخ طريقة العمل، المتقلبين من أحوالها بين الصحو والثمل، المتعللين برسومها حين اختلط المرعي بالهمل، وهوناظم أرجاز، ومستعمل حقيقة ومجاز، نظم مختصر السيرة، في الألفاظ اليسيرة، ونظم رجزاً في الزجر والفال، نبه به تلك الطريقة بعد الإغفال؛ انتهى.
قال: ومن شعره:
إن الولاية رفعة لكنها
…
أبداً إذا حققتها تتنقل
فانظر فضائل من مضى من أهلها
…
تجد الفضائل كلها لا تعزل توفى بالطاعون بغرناطة عام خمسين وسبعمائة؛ انتهى.
[41 - مخاطبة أبي سلطان للسان الدين]
وقال في ترجمة أبي سلطان عبد العزيز بن علي الغرناطي بن يشت ما صورته (1) : ومما خاطبني به قوله:
أطلت عتب زمان فل من أملي
…
وسمته الذم في حل ومرتحل
عاتبته ليلين العتب جانبه
…
فما تراجع عن مطل ولا بخل
(1) ترجمته في الإحاطة، الورقة:315.
فعدت أمنحه العتبى ليشفق لي
…
فقال لي إن سمعي عنك في شغل
فالعتب عندي كالعتبى فلست أرى
…
أصغي لمدحك إذ لم أصغ للعذل
فقلت للنفس كفي عن معاتبةٍ
…
لا تنقضي وجوابٍ صيغ من وجل
من يتعلق في الدنا بابن الخطيب فقد
…
سما عن الذل واستولى على الجذل
قالت فمن لي بتقريبي لخدمته
…
فقد أجاب قريباً من جوابك لي
فقال للناس كفوا عن محادثتي
…
فليس ينفعكم حولي ولا حيلي
قد أشتغلت عن الدنيا بآخرتي
…
وكان ما كان من أيامي الأول
وقد رعيت وما أهملت من منح
…
فكيف يختلط المرعي بالهمل
ولست أرجع للدنيا وزخرفها
…
من بعد شيب غدا في الرأس مشتعل
ألست تبصر أطماري وبعدي عن
…
نيل الحظوظ وإغذاذي إلى أجلي
فقلت ذلك قولٌ صح مجمله
…
لكن من شأنه التفصيل للجمل
ما أنت جالب أمرٍ نستعين به
…
على المظالم في حال ومقتبل
ولا تحل حراماً أو تحرم ما
…
أحل ربك في قولٍ ولاعمل
ولا تبع آجل الدنيا بعاجلها
…
كما الولاة تبيع اليم بالوشل
وأين عنك الرشا إن ظلت تطلبها
…
هذا لعمري أمرٌ غير منفعل
هل أنت تطلب إلا أن تعود إلى
…
كتب المقال الرفيع القدر في الدول
فما لأوحد هذا الكون قاطبةً
…
وأسمح الخلق من حافٍ ومنتعل
لم يلتفت نحوما تبغيه من وطرٍ
…
ولم يسد الذي قد بان من خلل
إن لم تقع نظرةٌ منه عليك فما
…
يصفو لديك الذي أملت من أمل
فدونك السيد الأعلى فمطلبكم
…
قد نيط منه بفضلٍ غير منفصل
قد خبرت بني الدنيا بأجمعهم
…
من عالمٍ وحكيم عارفٍ وولي
فما رأيت له في الناس من شبهٍ
…
قل النظير له عندي فلا تسل
وقد قصدتك يا أسمى الورى همماً
…
وليس لي عن حمى علياك من حول
فما سواك لما أملت من أملٍ
…
وليس لي عنك من زيغ ولا ميل
فأنظر لحالتي فقد ترق الحسود لها
…
واحسم زمانة ما قد ساء من علل
ودم لنا ولدين الله ترفعه
…
ما أعقبت بكر الإصباح بالأصل
لازلت معاتباً عن كل حادثةٍ
…
كما علت ملة الإسلام في الملل انتهى.
[ترجمة عبد العزيز أبي سلطان]
والمذكور هوعبد العزيز بن علي بن أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد العزيز بن يشت، من غرناطة، يكنى أبا سلطان قال في " الإحاطة " في حقه: فاضل حيي حسن الصورة بادي الحشمة فاضل البيت سريه كتب في ديوان الأعمال فأتقن وترقى إلى الكتابة السلطانية وسفر في بعض الأغراض الغربية ولازم الشيخ أبا بكر عتيق بن مقدم من مشيخة الصوفية بالحضرة فظهرت عليه آثار ذلك في نظمه ومقاصده فمن نظمه ومقاصده فمن نظمه ما أنشده ليلة الميلاد المعظم:
القلب يعشق والمدامع تنطق
…
برح الخفاء فكل عضو منطق
إن كنت أكتم ما أكن من الجوى
…
فشحوب لوني في الغرام مصدق
وتذللي عند اللقا وتملقي
…
إن المحب إذا دنا يتملق
فلكم سرت عن الوجود محبتي
…
والدمع يفضح ما يسر المنطق
ولكم أموه بالطلول وبالكنى
…
وأخوض بحر الكتم وهو الأليق
ظهر الحبيب فلست لأبصر غيره
…
فبكل مرئي أرى يتحقق
ما في الوجود تكثرٌ لمكثرٍ
…
إنا لمكثر بالأباطل يعلق
فمتى نظرت فأنت موضع نظرتي
…
ككل اللسان وكل عنه المنطق
فاسلك مقامات الرجال محققاً
…
إن المحقق شأوه لا يلحق
مزق حجاب الوهم لا تحفل به
…
فالوهم يستر ما العقول تحقق
واخلص إذا شئت الوصول ولاتئل (1)
…
فالعجز عن طلب المعارف موبق
إن التحلي في التخلي فاقتصد
…
ذاك الجناب فبابه لا يغلق
ولتقتبس نار الكليم ولاتخف
…
والغ السوى إن كنت منها تفرق
ومتى تجلى فيك سر جماله
…
فصعقت خوفاً فالمكلم يصعق
دع رتبة (2) التقليد عنك ولاتته
…
تلق الذي قيدت وهوالمطلق
واقطع حبال علائقٍ وعوائقٍ
…
إن العوائق بالمكاره تطرق
جرد حسام النفس عن جفن الهوى
…
إن العوائد بالتجرد تخرق
فإذا فهمت السر منك فلا تبح
…
فالسيف من بث الحقائق أصدق
بالذوق لا بالعلم يدرك علمنا
…
سر بمكنون الكتاب يصدق
رفعت له الحجب التي لم ترتفع
…
إلا إليه فكل ستر يخرق
ورقي مقاماً قصرت عن كهنه
…
رتب الوجود وكع عنه السبق
وطئ البساط تدللاً وجرى إلى
…
أمد تناهى ما إليه مسبق
إنسان عين الكون مبلغ سره
…
قطب الجمال وغيثه المتدفق
سر الوجود ونكتة الدهر الذي
…
كل الوجود بجوده يتعلق
من جاء بالآيات يسطع نورها
…
والذكر فهو عن الهوى لا ينطق
يا سيد الأرسال غير مدافعٍ
…
وأجلهم سبقاً وإن هم أعنقوا
بالفقر جئتك مؤلي لا بالغنى
…
فالذل والإذعان عندك ينفق
فاجبر كسير جرائرٍ وجرائمِ
…
فالقلب من عظم الخطايا يقلق
(1) لا تتل: لا تقصر.
(2)
ق: ريبة.
أرجوك يا غوث الأنام فلا تدع
…
باب الرضى دوني يسد ويغلق
حاشاك تطرد من أتاك مؤملاً
…
فلأنت لي مني أن وأرفق
ومحبتي تقتضي بأنك منقذي
…
مما أخاف فما بغيرك أعلق
يا هل تساعدني الأماني والمنى
…
وأحل حيث سنا الرسالة يشرق
فعليك يا أسنى الوجود تحيةٌ
…
من طيب نفحتها البسيطة تعبق
وعلى صحابتك الذين تأنقوا
…
رتب الكمال ومثلهم يتأنق
وعلى الألى آووك في أوطانهم
…
نالوا بذلك رتبةً لا تلحق
أعظم بأنصار النبي وحزبه
…
وبمن أتى بعباءة يتعلق
من مثل سعدٍ أو كقيسٍ نجله
…
عرف السيادة من حماهم ينشق
أكرم بهم وبمن أتى من سرهم
…
عز النظير فمجدهم لا يلحق
من مثل نصرٍ أوبنيه ملوكنا
…
كل الأنام لعزهم يتملق
بمحمدٍ نجل الخليفة يوسفٍ
…
عز الهدى فحماه ما إن يطرق
مولى الملوك وتاج مفرق عزهم
…
وأجل من تحدى إليه الأنيق
ملكٌ يرى أن التقدم مغنمٌ
…
مهما تعرض موكبٌ أو فيلق
تروى أحاديث الوغى عن بأسه
…
فالسيف يسند والعوالي تطلق
ملك البسالة والمكارم والنهى
…
فعداته منه تغص وتفرق
ملئت قلوب عداه منه مهابةً
…
فمغربٌ من خوفه ومشرق
مولاي يا أسمى الملوك ومن غدت
…
عين الزمان إلى سناه تحدق
لا تقطعوا عني الذي عودتم
…
فالعبد من قطع العوائد يشفق
لا تحرموني مطلبي فمحبتي
…
تقضي لسعيي أنه لا يخفق
فانعم بردي في بساطك كاتباً
…
وأعد لما قد كنت فهوالأليق
فاسلم أمير المسلمين لأمةٍ
…
أفواههم ما إن بغيرك تنطق
وأهنأ بها من ليلةٍ نبويةٍ
…
جاءت بأكرم من به يتعلق
صلى عليه الله ما هبت صباً
…
واهتز غصنٌ في الحديقة مورق ثم قال وهوبحالته الموصوفة؛ انتهى.
[42 - رسالة من النباهي للسان الدين]
ومما خوطب به لسان الدين رحمه الله تعالى ما حكاه في الإحاطة في ترجمة القاضي أبي حسن النباهي إذ قال ما نصه وخاطبني بسبتة وأنا يومئذ بسلا بقوله يا أيتها الآية البالغة وقد طمست الأعلام والغرة الواضحة وقد تنكرت الأيام والبقية الصالحة وقد ذهب الكرام أبقاكم الله تعالى البقاء الجميل وأبلغكم غاية المراد ومنتهى التأميل أبي الله أن يتمكن المقام بالأندلس بعدكم وأن يكون سكون النفس إلا عندكم سرٌ من الكون غريب ومعنى في التشاكل عجيب أختصر لكم الكلام فأقول بعد التحية والسلام تفاقمت الحوداث وتعاظمت الخطوب والكوارث واستأسدت الذئاب الأخابث ونكث الأكثر من ولد سام وحام ويافث فلم يبق إلا كاشح باحث أومكافح عابث وياليت شعري من الثالث فحينئذ وجهت وجهي للفاطر البعث ونجوت بنفسي لكن منجى الحارث وقد عبرت البحر كسير الجناح دامي الجراح وإني لأرجوالله سبحانه بحسن نيتكم أن يكون الفرج قريباً والصنع عجيباً فعمادي أعان الله على القيام بواجبه هوالركن الذي مازلت أميل على جوانبه ولا تزيدني الأيام إلا بصيرة في الإقرار بفضله والاعتداد به وقد وصلني خطاب سيدي الذي جلى الشكوك بنور يقينه ونصح النصح اللائق بعلمه ودينه وكأنه نظر إلى الغيب من وراء حجاب فأشار بما أشار به على سارية عمر بن الخطاب ومن العجب أني علمت بمقتضى إشارته قبل بلوغ إضبارته فلله ما تضمنه مكتوبكم الكريم من الدر وحرره من الكلام
الحر وايم الله لوتجسم لكان ملكاً ولوتنسم لكان مسكاً ولوقبس لكان شهاباً ولولبس لكان شباباً فحل مني علم الله تعالى محل البرء من المريض وأعاد الأنس من التعريض والكلم المزرية بقطع الروض الأريض فقبلته عن راحتكم وتخليت أنه مقيم بساحتكم ثم وردت معينه الأصفى وكلت من بركات مواعظه بالمكيال الأوفى وليست بأول أياديكم وإحالتكم على الله فهوالذي يجازيكم وبالجملة فالأمور بيد الأقدار لا إلى المراد والاختيار:
وما كل ما ترجوالنفوس بنافعٍ
…
ولا كل ما تخشى النفوس بضرار انتهى.
قات أين هذا الكتاب من الذي قدمناه عنه في الباب الثاني حين أظلم بينه وبين لسان الدين الجووعطفه إلى مهاجا ته ثاني وسفر في أمره إلى العدوة واجتهد في ضرره بعد أن كان له به القدوة وقد قابله لسان الدين بما أذهب عن جفنه الوسن وألف فيه كما سبق " خلع الرسن ".
[ترجمة النباهي]
على أنه عرف به في " الإحاطة " أحسن تعريف وشرفه بحلاه أجمل تشريف إذ قال ما ملخصه (1) : علي بن عبد الله بن محمد بن محمد بن عبد الله ابن الحسن بن محمد بن الحسن الجذامي المالقي أبوالحسن، ويعرف بالنباهي، هذا الفاضل قريع بيت مجادة وجلالة، وبقية تعين وأصالة، عف النشأة، طاهر الثوب، مؤثر للوقار والحشمة، خاطب للشيخوخة، مستعجل للشيبة، ظاهر الحياء، متحرك مع السكون، بعيد الغور، مرهف الجوانب
(1) قارن بما كتبه عنه في الكتيبة: 146 بعد أن تغيرة النفوس.
مع الانكماش في والآلة متاظهر بالسذاجة بريء من النوك والغفلة يقظ للمعاريض مهتدٍ إلى الملاحن طرف في الجود (1) ، حافظ مقيد طلعة إخباري قائم على تاريخ بلده شرع في تكميل ما صنف فيه ملازم للتقييد والتطرير (2)، منقر عن الإجادات والفوائد استفدت منه في هذا الغرض وغيره كثيراً حسن الخط ناظم ناثر نثره يشف على نظمه ذاكر للكثير استظهر محفوظات منها النوادر لقالي وناهيك به محفوظاً مهجوراً ومسكاً غفلاً فما ظنك بسواه نشا ببلده حر الطعمة فاضل الأبوة وقرأ به ثم ولى القضاء بملتماس (3) ثم ببلش وعملها فسيح الخطة مطلق الجراية بعيد المدى في باب النزاهة ماضياً غير هيوب حتى أربى في الزمن القريب على المحتنكين وغبر في وجوه أهل الدربة وجرت أحكامه مستندة إلى الفتيا جارية على المسائل المشهورة ثم نقل منها إلى النظر في أمور الحل والعقد بمالقة مضافة إليه الخطط النبيهة وصدر له منشور من إملائي إلى أن قال في ترجمة نظمه قال نظمت سمح الله تعالى لي قطعتين موطئاً فيهما على البيتين المشهورين إحداهما:
بنفسي من غزلان حزوى غزالةٌ
…
جمال محياهاعن النسك زاجر
تصيد بلحظ الطرف من رام صيدها
…
ولو أنه النسر الذي هو طائر
معطرة الأنفاس رائقة الحلى
…
هواها بقلبي في المهامة سائر
" إذا رمت عنها سلوة قال شافعٌ
…
من الحب ميعاد السلو المقابر " والأخرى:
وقائلةٍ لما رأت شيب لمتي
…
لئن ملت عن سلمى فعذرك ظاهرُ
(1) ق: المجون.
(2)
التطرير: التقييد في طرر الكتب.
(3)
ق: بملتمامو.
زمان التصابي قد مضى لسبيله
…
وهل لك بعد الشيب في الحب عاذ
فقلت لها كلا وإن تلف الفتى
…
فما لهواها عند مثلي آخ
" سيبقى لها في مضمر القلب والحشا
…
سريرة ود يوم تبلى السرائر " وكتب على مثال النعل الكريم وأهداه لمزمع سفر:
فديتك لا يهدى إليك أجل من
…
حديث نبي الله خاتم رسله
ومن ذلك الباب المثال الذي أتى
…
به الأثر المأثور في شأن نعله
ومن فضله مهما يكن عند حاملٍ
…
له نال ما يهواه ساعة حمله
ولا سيما إن كان ذا سفرٍ به
…
فقد ظفرت يمناه بالأمن كله
فدونك منه أيها المعلم الرضى
…
مثالاً كرماً لا نظير لمثله وقال مراجعاً عن أبيات يظهر منها غرضها:
إذا كنت بالقصد الصحيح لنا تهوى
…
فسلم لنافي حكمنا ودع الشكوى
ولا تتبع أهواء نفسك والتفت
…
لنا حيث كنا في الرخاء وفي اللأوا (1)
وكم من محب في رضانا وحبنا
…
محا كل ما يبدو سوانا له محوا
رآنا عياناً عين معنى وجوده
…
فعاج عن الشكوى وفوض في البلوى
وقال تحكم كيف شئت بما ترى
…
رضيت بما تقضي وهمت بما تهوى
فحل لدينا بالخلوص وبالرضى
…
محلٍ اختصاصٍ نال منه المنى صفوا
فإن كنت ترجوفي الصبابة والهوى
…
لحاقاً بهم فاسلك طريقهم الأضوا
ومت في سبيل الحب إن كنت مخلصاً
…
لنا في الهوى تحيا حياة أولي التقوى
هنالك تؤتى ما تريد وتقتضي
…
ديونك منا دون مطلٍ ولا دعوى
وتشرب من عين اليقين وتغتذي
…
بخمر الصفا الصرف الزلال لكي تروى
(1) اللأواء: الشدة.
وقال:
لا تلجأن لمخلوقٍ من الناس
…
من يافثٍ كان أصلاً أومن الياس
وثق بربك لاتيأس تجد عجباَ
…
فلا أضر على عبدٍ من اليأس وقال:
فديتك لا تصحب لئيماً ولا تكن
…
معيناً له إن اللئيم خؤؤن
فلا عهد يرعى لا ولا نعمةً يرى
…
ولا سر خلٍ عن عداه يصون وقال يخاطب أبا القاسم عبد الله بن يوسف بن رضوان:
لك الله قلبي في هواك رهين
…
وروحي عني إن رحلت ظعين
ملكت بحكم الفضل كلي خالصاً
…
وملكك للحر الصريح يزين
فهب لي من نطقي بمقدار ما به
…
يترجم سرٌ في الفؤاد دفين
فقد شملتنا من رضاك ملابسٌ
…
وسح لدينا من نداك معين
أعنت على الدهر الغشوم ولم تزل
…
بدنياك في الأمر المهم تعين
وقصر من لم تعلم النفس أنه
…
خذولٌ إذا خان الزمان يخون
وإني بحمد الله عنه لفي غنىً
…
وحسبي صبرٌ عن سواك يصون
ابى لي مجدٌ عن كرام ورثته
…
وقوفاً ببابٍ للكريم يهين
ونفسٌ سئمت فوق السماكين همةٌ
…
وما كل نفسٍ بالهوان تدين
ولما رأت عيني محياك أقسمت
…
بأنك للفعل الجميل ضمين
وعاد لها الأنس الذي كان قد مضى
…
برية إذ شرخ الشباب خدين
بحيث نشئنا لابسين حلى التقى
…
وكلٌ بكلٍ عند ذاك ضنين
أما وسنا تلك الليالي وطيبها
…
ووجد غرامي والحديث شجون
وفتيان صدقٍ كالشموس وكالحيا
…
حديثهم ما شئت عنه يكون
لئن نزحت تلك الديار فوجدنا
…
عليها له بين الضلوع أنين
إذ مر حينٌ زاده الشوق جدةً
…
وليس بعابٍ للربوع حنين
وأنى بمسلاها وللبين لذعةٌ
…
اقل أذاها للسليم جنون
لقد عبثت أيدي الزمان بجمعنا
…
وحان أفتراقٌ لم نخله يحين
وبعد التقينا في محل تغرب
…
وكل الذي دون الفراق يهون
فقابلت بالفضل الذي أنت أهله
…
ومالك في حسن الصنيع قرين
وغبت وما غابت مكارمك التي
…
على شكرها الرب العظيم يعين
يميناً لقد أوليتنا منك نعمةً
…
تلذ بها عند العيان عيون
ويقصر عنها الوصف إذ هيا كلها
…
لها وجه حرٍ بالحياء مصون
ولما قدمت الآن زاد سرورنا
…
ومقدمك الأسى بذاك قمين
لأنك أنت الروح منا وكلنا
…
جسومٌ فعند البعد كيف نكون
ولو كان قدر الحب فيك لقاؤنا
…
إليك لكنا باللزوم ندين
ولكن قصدنا راحة المجد جهدنا
…
فراحته شمل الجميع تصون
هنيئاً هنيئاً أيها العلم الرضى
…
بما لك في طي القلوب كمين
لك الحسن والإحسان والعلم والتقى
…
فحبك دنيا للمحب ودين
وكم لك في باب الخلافة من يد
…
أقرت لها بالصدق منك مرين
وقامت عليها للملوك أدلةٌ
…
فأنت لديها ما حييت مكين
فلا وجه إلا وهوبالبشر مشرقٌ
…
ولا نطق إلا عن علاك مبين
بقيت لربع الفضل تحمي ذماره
…
صحيحاً كما قد صح منك يقين
ودونك يا قطب المعالي بنيةً
…
من الفكر عن حال المحب تبين
أتتك ابن رضوان تمت بودها
…
وما لسوى الإغضاء منك ركون
فخل انتقاد البحث عن هفواتها
…
ومهد لها بالسمح حيث تكون
وخذها على علاتها فحديثها
…
حديث غريبٍ قد عراه سكون وهوبحاله الموصوفة؛ انتهى باختصار.
[43 - مخاطبات بين لسان الدين وابن الجياب]
ولما كتب لسان الدين إلى شيخه الرئيس الكاتب أبي الحسن الجياب قصيدة أولها (1) :
أمستخرجا كنز العقيق بآماقي
…
أناشدك الرحمن بالرمش الباقي
فقد ضعفت عن حمل صبري طاقتي
…
عليك وضاقت عن زفيري أطواقي وهي طويلة أجابه عنها بقوله:
سقاني فأهلاً بالمدامة (2) والساقي
…
سلافاً بها قام السرور على ساق
ولا نقل إلا من بدائع حكمةٍ
…
ولا كاس إلا من سطورٍ وأوراق
فقد أنشأت لي نشوةً بعد نشوةٍ
…
تمد بروحانيةٍ ذات أذواق
فمن خطها الفاني (3) متاع لناظري
…
وسمعي وحظ الروح من خطها الباقي
أعادت شبابي بعد سبعين حجةً
…
فأثوابه قد جددت بعد إخلاقي
ولا خالطن لحمي ولا مازجت دمي
…
كفى شرها مولاي فالفضل للواقي
وهذا على عهد الشباب فكيف لي
…
بها بعد ماءٍ للشبيبة مهراق
تبصر فحكما القهوتين تخالفا
…
فكم بين إثبات لعقلٍ وإزهاق
وشتان بين المدامين فاعتبر
…
فكم بين إنجاح لسعي وإخفاق
فتلك تهادى بين ظلمٍ وظلمةٍ
…
وهذي تهادى بين عدلٍ وإشراق
أيا علم الإحسان غير منازعٍ
…
شهادة إجماعٍ عليها وإصفاقٍ (4)
(1) انظر الكتيبة: 186.
(2)
الكتيبة: بالسقاية.
(3)
الكتيبة: الباهي.
(4)
الكتيبة: وإطباق.
فضائلك الحسنى علي تواترت
…
بمنهمرٍ من سحب فكرك غيداق
خزائن آداب بعثت بدرها
…
إلي ولم تمنن بخشية إنفاق
ولا مثل بكرٍ حرة عربية
…
زكية أخلاقٍ كريمة أعراق
فأقسم ما البيض الحسان تبرجت
…
تناجيك سراً بين وحي وإطراق
بدورٌ بدت من أفق أطواقها على
…
رياض شدت في قطبها ذات أطواق
فناظر منها الأقحوان ثغورها
…
وقابل منها نرجس سحر (1) أحداق
وناسب منها الورد خداً مورداً
…
سقاه الشباب النضر بورك من ساق
وألبسن من صنعاء وشياً منمنماً
…
وحلين من درٍ نفائس أعلاق
بأحلى لأفواهٍ وأبهى لأعين
…
وأحيى لألباب وأشهى لعشاق
رأيت بها شهب السماء تنزلت
…
إلي تحييني تحية مشتاق
ألا إن هذا السحر لا سحر بابلٍ
…
فقد سحرت قلبي المعنى فمن راق
لقد أعجزت شكري فضائل ماجدٍ
…
أبر بأحباب وأوفى بميثاق
تقاضى ديون الشعر مني منبهاً
…
رويدك لاتعجل علي يإرهاق
فلونشر الصادان من ملحديهم
…
لإنصاف هذا الدين لاذا بإملاق (2)
فخذ بزمام الرفق شيخاً تقاصرت
…
خطاه وعاهده بمعهود إشفاق
فلا زلت تحيي للمكارم رسمها
…
وقدرك في أهل العلا والنهي راق قال وكتبت إليه في غرض العتاب قصيدة أولها:
أدرنا وضوء الأفق قد صدع الفضا
…
مدامة عتب بيننا نقلها الرضى
فلله عينا من رآنا وللحيا
…
حبي بآفاق البشاشة أومضا
(1) الكتيبة: حسن.
(2)
الصادان: الصابي أبو غسحاق والصاحب بن عباد.
نفر إلى عدل الزمان الذي أتى
…
ونبرأ من جور الزمان الذي مضى
ونأسو كلوم اللفظ باللفظ عاجلاً
…
كذا قدح الصهباء داوى وأمرضا فراجعني عنها بهذه القصيدة:
ألا حبذا ذاك العتاب الذي مضى
…
وإن جره واش بزور تمضمضا
أغارت له خيل فما ذعرت حمى
…
ولكنها كانت طلائع للرضى
تألق منه بارق صاب مزنه
…
على معهد الحب الصميم فروضا
تلألأ نوراً للصداقة حافظاً
…
وإن ظن سيفاً للقطيعة منتدى
فإن سود الشيطان منه صحيفة
…
أتى ملك الرحمى عليها فبيضى
وما حب أحكم الصدق عهده
…
ليرمى بوسواس الوشاة فيرفضا
أعيذ وداداً زاكي القصد وافياً
…
تخلص من أدرانه فتمحضا
ونية صدق في رضى الله أخلصت
…
سناها بآفاق البسيطة قد أضا
من الآفك الساعي ليخفي نورها
…
أيخفي شعاع الشمس قد ملأ الفضا
وكيف يحل المبطلون بإفكهم
…
معاقد حب أحكمتها يد القضا
تعرض يبغي هدمها فكأنه
…
لتشييد مبناها الوثيق تعرضا
وحرض في تنفيره فكأنما
…
على البر والتسكين والحب حرضا
وأوقد ناراً فهو يصلى جحيمها
…
يقلب منها القلب في موقد الغضى
أيا واحدي المعدود بالألف وحده
…
ويا ولدي البر الزاكي إن ارتضى
بعثت من الدار النفيس قلائداً
…
على ما ارتضى حكم المحبة واقتضى
نتيجة آداب وطبع مهذب
…
أطال مداه في البيان وأعرضا
ولا مثل بكر باكرتني آنفا
…
كزورة خل بعد ما كان أعرضا
هي الروضة الغناء أينع زهرها
…
تناظر حسناً مذهباً ومفضضا
أو الغادة الحسناء راقت فينقضي
…
مدى العمر في وصفي لها وهو ما انقضى
تطابق منها شعرها وجبنها
…
فذا الليل مسوداً وذا الصبح أبيضا
أو الشهب منها زينة وهداية
…
ورجم لشيطان إذا هو قيضا
أتت بديع الشعر طوراً مصرحاً
…
بآياتك الحسنى، وطوراً معرضا
ومهدت الأعذار دون جناية
…
ولو أنك الجاني لكنك المغمضا
لك الله من بر وفي وصاحب
…
محضت له صدق الضمير فأمحضا
لسانك في شكري مفيض تفضلاً
…
فيا حسن ما أهدى وأسدى وأقرضا
وقبلك فاضت فيه أنوار خلتي
…
فألقى يدي تسليمه لي مفوضا
وقصدك مشكور، وعهدك ثابت
…
وفضلك منشور، وفعلك مرتضى
فهل مع هذا ريبة في مودة
…
بحال وإن رابت فما أنا معرضا
فثق بولائي إنني لك مخلص
…
هوى ثابتاً يبقى فليس له انقضا
عليك سلام الله ما هبت الصبا
…
وما بارق جنح الدجنة أومضا وقال لسان الدين: من غريب ما خاطبني به قوله (1) :
أقسم بالقيسين والنابغتين
…
وشاعري طيْ المولدين
وبابن حجر وزهير وابنه
…
والأعشيين بعد ثم الأعميين
ثم بعشاق الثريا والرق
…
يات وعزة ومي وبثين
وبأبي الشيص ودعبل ومن
…
كشاعري خزاعة المخضرمين
وولد المعتز والرضي وال
…
سري ثم حسن وابن الحسين
واختم بقس وسبحان وإن
…
أوجب حق أن يكونا أولين
وحلبتي نثرهم ونظمهم
…
في مشرقي أقطارهم والمغربين
إن الخطيب ابن الخطيب سابق
…
بنثره ونظمه للحلبتين
راقتني الصحيفة الحسنا التي
…
شاهدت فيها المكرمات رأي العين
تجمع من براعة المعنى إلى
…
براعة الألفاظ كلتا الحسنيين
(1) الكتيبة: 188.
أشهد أنك الذي سبقت في
…
طريقي الآداب أقصى الأمدين
شعر حوى جزالة ورقة
…
تصاغ منه حلة للشعريين
رسائل أزهارها منثورة
…
سرور قلب ومتاع ناظرين
يا أحوذياً يا نسيج وحده
…
شهادة تنزهت عن قول مين
بقيت في مواهب الله التي
…
تقر عينيك وتملأ اليدين انتهى.
[44 - من سعيد الغرناطي إلى لسان الدين]
وحكى لسان الدين أن سعيد بن محمد الغرناطي الغساني استعار منه كتاباً، فأرسله إليه وعلى ظهره هذه الأبيات:
هذا كتاب كله معجم
…
أفحمني معناه إفحاما
أعجمه منشئه أولاً
…
وزاده الناسخ إعجاما
أسقط من إجماله جملة
…
وزاد في التفصيل أقساما
وغير الألفاظ عن وضعها
…
وصير الإيجاد إعداماً
فليس في إصلاحه حيلة
…
ترجى، ولوقوبل أعواما ولم أقف على جواب لسان الدين له عنها، والله تعالى أعلم.
وولد سعيد المذكور سنة699.
[45 - مخاطبات بين ابن البناء ولسان الدين]
ومما خوطب به لسان الدين لما تقلد الكتابة العليا قول أبي الحسن علي بن محمد بن علي بن البناء الوادي آشي رحمه الله تعالى:
هو العلاء جرى باليمين طائره
…
فكان منك على الآمال ناصره
ولو جرى بك ممتداً إلى أمد
…
لأعجز الشمس ما آبت عساكره
لقد حباه منيع العز خالقه
…
بفاضل منك لا تحصى مآثره
فليزه فخراً فما خلق يعارضه
…
ولا علاء مدى الدنيا يفاخره
لله أوصافك الحسنى لقد عجزت
…
من كل ذي لسن عنها خواطره
هيهات ليس عجيباً عجز ذي لسن
…
عن وصف بحر رمى بالدار زاخره
هل أنت إلا الخطيب ابن الخطيب ومن
…
زانت حلى الدين والدنيا مفاخره
فإن يقصر عن الوصاف ذو أدب
…
فما بدا منك في التقصير عاذره
يا ابن الكرام الألى ما شب طفلهم
…
إلا وللمجد قد شدت مآزره
مهلاً عليك فما العلياء قافية
…
ولا العلاء بسجع أنت ناثره
ولا المكارم طرساً أنت راقمه
…
ولا المناقب طباً أنت ماهره
ماذا على سابق يسري إلى سنن
…
إن كان من رفقه خل يسايره
سر حيث شئت من العلياء متئداً
…
فما أمامك سباق تحاذره
أنت الإمام لأهل الفخر إن فخروا
…
أنت الجواد الذي عزت أوافره
ما بعد ما حزته من عزة وعلا
…
شأو يطارد فيه المجد كابره
نادت بك الدولة النصري محتدها
…
نداء مستنجد أزراً يوازره
حليتها برداء مرتدياً
…
وصبح يمنك فجر السعد سافره
فالملك يرفل في أبراده مرحاً
…
قد عمت الأرض إشراقاً بشائره
فاهنأ بها نعمة ما إن يقوم لها
…
من اللسان ببعض الحق شاكره
وليهنها أنها نعمة ما إن يقوم مقالدها
…
إلى زكي زكت منه عناصره
فإنه بدر تم في مطالعها
…
قد طبق الأرض بالأنوار نائره وقال لسان الدين: وأهدي إلي قباقب خشب جوز وكتب معها:
هاكها ضمراً مطايا حسانا
…
نشأت في الرياض قضباً لدانا
وثوت بين روضة وغدير
…
مرضعات من النمير لبانا
لابسات من الظلال بروداً
…
دونها القضب رقة وليانا
ثم لما أراد إكرامها الله
…
وسنى لها المنى والأمانا
قصدت بابك العلي ابتداراً
…
ورجت في قبولك الإحسانا قال: فأجبته:
قد قبلنا جيادك الدهم لما
…
أن بلونا منها العتاق الحسانا
أقبلت خلف كل حجر تبيع
…
خلعت وصفها عليها عيانا
فعنينا برعيها وفسحنا
…
في ربوع العلا لها ميدانا
وأردنا امتطائها فاتخذنا
…
من شراك الأديم فيها عنانا
قدمت قبلها كتيبة سحرٍ
…
من كتاب سبت به الأذهانا
مثلما تجنب الجيوش المذاكي
…
عدةً للقاء مهما كانا
لم يرق مقلتي ولا راق قلبي
…
كعلاها براعةً وبيانا
من يكن مهدياً فمثلك يهدي
…
لم أجد للثنا عليك لسانا وقال لسان الدين: ومن أبدع ما هز به إلى إقامة سوقه، ورعي حقوقه قوله:
يا معدن الفضل مورثاً ومكتسباً
…
وكل مجدٍ إلى عليائه انتسبا
بباب مجدكم الأسمى أخو أدبٍ
…
مستصرخٌ بكم يستنجد الأدبا
ذل الزمان له طوراً فبلغه
…
من بعض آماله فوق الذي طلبا
والآن اركبه من كل نائبةٍ
…
صعب الأعنة لا يألوبه نصبا
فحملته دواعي حبكم وكفى
…
بذاك شافع صدقٍ يبلغ الأربا
فهل سرى نسمة من جاهكم فبها
…
خليفة الله فينا يمطر الذهبا
[ترجمة ابن البناء]
وقال لسان الدين في " الإكليل " في حق المذكور ما صورته: فاضل يروقك وقاره وصقر بعد مطاره قدم من بلده يروم اللحاق بكتاب الإنشاء وتوسل بنظم أنيق ونسيب في نسب الإجادة عريق تعرب براعته عن لسان ذليق وطبع طليق وذكاء بالأثرة خليق وبينما هويلحم في ذلك الغرض ويسدي ويعيد ويبدي وقد كادت وسائله أن تنجح وليل رجائه أن يصبح اغتاله الحمام وخانته الأيام والبقاء لله تعالى والدوام توفي بالطاعون في عام واحد وخمسين وسبعمائة وسنه دون الثلاثين، رحمه الله تعالى؛ انتهى.
[46 - رسالة من لسان الدين إلى سلطان تونس]
ولما خوطب لسان الدين من سلطان تونس بما لم يحضرني الآن أجاب عنه بما نص " المقام الإمامي الإبراهيمي المولوي المستنصري الحفصي الذي كرم فرعاً وأصلاً وشرف جنساً وفصلاً وتملى في ظلل رعاية المجد من لدن المهد كرماً وخصلاً وصرفت متجردة الأقلام إلى مثابة خلافته المنصورة الأعلام وجوه عبارة الكلام فاتخذ من مقام إبراهيم مصلى مقام مولانا أمير المؤمنين الخليفة الإمام أبي إسحاق ابن مولانا أبي يحيى أبي بكر ابن الخلفاء الراشدين أبقاه الله تعالى تهوي إليه الأفئدة كلما انتشت بذكره وتتنافس الألسنة في إحراز غاية حمده وشكره وتتكفل الأقدار بإنفاذ نهيه وأمره وتغرى عوامل عوامله بحذف زيد عدوه وعمره ويتبرع أسمر الليل وأبيض النهار بإعمال بيضه وسمره ولازال حسامه الماضي يغني يومه في النصر عن شهره والروض يحييه بمباسم زهره ويرفع إليه رقع الحمد ببنان قبضه الناشئة من معصم نهره وولي الدنيا والآخرة يمتعنا بهما بعد الإعانة على مهره يقبل بساطه المعود الاستلام بصفحات الخدود، الرافع
عماده ظل العدوالممدود عبد مقامه المحمود ووارد غمر إنعامه غير المنزور ولا المثمود المثني على نعمه العميمة ومنحه الجسيمه ثناء الروض المجود على العهود ابن الخطيب من باب المولى الموجب حقه المتأكد الفروض الثابت العهود المعتد منه بالود الجامع الرسوم والحدود والفضل المتوارث عن الآباء والجدود يسلم على مثابتها سلام متلوعلى مثلها إن وجد المثل في الثاني ويعوذ كمالها بالسبع المثاني ويدعوالله تعالى لسلطانها بتشييد المباني وتسيير الأماني وينهي إلى علوم تلك الخلافة الفاروقية المقدسة بمنايب التوحيد المستولية من مدارك الآمال إلى الأمد البعيد أن مخاطبتها المولوية تاهت على الملوك فارعة العلا مزعفرة الحلل والحلى ذهبية المجلى تفيد العز المكين والدنيا والدين وترعى في الآباء والبنين على مر السنين " صفراء فاقع لونها تسر الناظرين "(البقرة 69) وقد حملت من مدحها الكريم ما أخفى للملوك من قرة عين ودرة زين جبين الشرف الوضاح ومستوجب الحق على مثله من الخلق بالنسب الصراح والغرر والأوضاح والأرج الفواح فاقتنى درها النفيس ووجد المروع (1) في جانب الخلافة التنفيس وقراه لما قراه التعظيم والتقديس وقال {يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتابٌ كريم} (النمل 29) وإن لم يكن بلقيس أعلى الله تعالى تلك اليد مطوقة الأيادي ومخجلة الغمائم والغوادي وأبقاها عامرة النوادي غالبة الأعادي وجعل سيفها السفاح ورأيها الرشيد وعلمها الهادي ووصل ما ألطف به رعيها من أشتات بر بلغت وموارد فضل سوغت أمدتها سعادة المولى بمدد لم يضر معه البحر الهائل ولا العدوالغائل وأقام أودها عند الشدائد الفلك المائل لا بل الملك الذي له إلى الله الوسائل وحسب الجفن رسالتكم الكريمة لحظاً فصان وأكرم وعوذةً فتعوذ بها وتحرم وتولى الملوك تنفيق عروضها
(1) ص: المروح.
بانشراح صدره وعلى قدره فوقعت الموقع الذي لم يقع سواها فاما الخيل فأكرم مثواها وجعلت جنان (1) الصون مأواها ولوكسيت الربيع المزهر حللاً واوردت في نهر المجرة علاً ونهلاً وقلدت النجوم العواتم صحلاً ومسحت أعطافها بمنديل النسيم والحفت بأردية الصباح الوسيم وافترشت لمرابطها الحشايا وأقضمت حبات القلوب بالعشايا لكان بعض ما يجد لحقها الذي لا يجحد فضله ولا يحتجب وما عداها من الرقيق والفتيان رعاة ذلك الفريق تكفله الاستحسان وأطنب الاعتقاد وإن قصر اللسان تولى الله تعالى تلك الخلافة بالشكر الذي يحسب العطاء والحفظ الذي يسبل الغطاء والصنع الذي ييسر من مطا الأمل الامتطاء واما ما يختص بالملوك فقد خصه بقبوله تبركاً بتلك المقاصد التي سددها الدين وعددها الفضل المبين وأنشد الخلافة التي راق من مجدها الجبين:
قلدتني بفرائد أخرجتها
…
من بحر جودك وهوملتطم الثبج
ورعيت نسبتها فإن سبيكة
…
مما يلائم لونها قطع السبج والمملوك بهذا الباب النصري أعزه الله تعالى على قدم خدمة وقائم بشكر منة لكم ونعمة وحاضر في جملة الأولياء بدعائه وحبه ومتوسل في دوام بقاء أيامكم ونصر أعلامكم إلى ربه وإن بعد بجسمه فلم يبعد نقلبه والسلام الكريم الطيب البر العميم يخصها دائماً متصلاً ورحمة الله وبركاته " انتهى.
[47 - مخاطبة من ابن البربري المالقي إلى لسان الدين]
ومما خوطب به لسان الدين قول أبي الحسن علي بن يحيى الفزاري المالقي
(1) ص: جنات.
المعروف بابن البربري، وكان ممن يمدح الملوك والكبراء:
لبابك أم الآملون ويمموا
…
وفي ساحتي رحماك حطوا وخيموا
ومن راحتي كفيك جدواك تنهمي
…
فتروى عطاش من نداك وتنعم
وأنت لما راموه كعبة حجهم
…
إذا شاهدوا مرآك لبوا وأحرموا
يطوفون سبعاً حول بابك عندما
…
يلوح لهم ذاك المقام المعظم
فيمناك يمن للرعايا ومنة
…
ويسراك يسر للعفاة ومغنم
ولقياك بشر للنفوس وجنة
…
ترن بها ورق المنى وترنم
فيا واحد الأزمان علماً ومنصباً
…
ويا من به الدنيا تروق وتبسم
ومن وجهه كالبدر يشرق نوره
…
ومن جوده كالغيث بل هو أكرم
ومن ذكره كالمسك فض ختامه
…
وكالشمس نوراً بشره المتوسم
لقد حزت فضل السبق غير منازع
…
فأنت على أهل السباق مقدم
حويت من العلياء كل كريمة
…
بها الروض يندى والربى تتبسم
وباهيت أقلام الأنام براعة
…
فلا قلم إلا يراعك يخدم
إذا فاخر الأمجاد يوماً فإنما
…
لمجدك في حال الفخار يسلم
وإن سكتوا كنت البليغ لديهم
…
تعبر عن سر العلا وتترجم ومنها:
فيا صاحبي نجواي عوجا برامة
…
على ربعه حيث الندى والتكرم
وقولا له عبد ببابك يرتجي
…
قضاء لبانات لديك تتمم
فليس له إلا علاك وسيلة
…
ولا شيْ أسمى من علاك وأعظم
فجد بالذي يرجوه منك فما له
…
كعقد ثمين من ثنائك ينظم
بقيت ونجم السعد عندك طالع
…
يضيء له بدر وتشرق أنجم توفي المذكور بالطاعون عام خمسين وسبعمائة؛ انتهى.
[48 - مخاطبة من الحرالي إلى لسان الدين]
ومما خوطب به قول أبي القاسم اسم بن محمد الحرالي المالقي القاضي بانتقيرة (1) قبل وفاته:
عليك قصرت المدح يا خير ماجد
…
وأفضل موصوف بكل المحامد
ويا كهف ملهوف، وملجأ خائف
…
ومورد جود قد كفى كل وارد
لقد شهرت بالمجد منك شمائل
…
محاسنها أزكى وأعدل شاهد
وكل الذي يبدو من الفضل بعض ما
…
حبيت به، أعظم بها من محامد
إذا أملت منك المكارم ألفيت
…
تنادي هلموا فزتم بالمساعد
عطاؤكم جزل فمن أمل الغنى
…
فمثلكم يبغي فيا سعد قاصد
وراثة مجد كابراً بعد كابر
…
وأصل زكي الفرع عذب الموارد [ترجمة أبي القاسم الحراني]
وتوفي المذكور بالطاعون عام خمسين وسبعمائة، وفي حقه يقول في الإكليل: مشمر في الطلب عن ساق، مثابر على اللحاق بدرجات الحذاق، منتحل للعربية، جاد في إحصاء خلافها، ومعاطاة سلافها، وربما شرست في المذاكرة أخلاقه، إذا بهرجت أعلاقه، ونوزع تمسكه بالحجة واعتلاقه.
وقال لسان الدين في ترجمة شعر المذكور: إنه ضعيف مهزول؛ انتهى.
[49 - رسالة من المنتشاقري إلى لسان الدين]
وما خوطب به قول أبي الحجاج يوسف بن موسى الجذامي المنتشاقري من أهل رندة، ونصه:
حباك فؤادي نيل بشرى وأحياكا
…
وحيد بآداب نفائس حياكا
(1) انتقيرة (Antequera) تبعد عن مالقة حوالي 60 كيلومتراً شمالاً.
بدائع أبداها بديع زمانه
…
فطاب بها يا عاطر الروض رياكا
أمهديها أودعت قلبي علاقة
…
وإن لم يزل مغزى قديماً بعياكا
إذا ما أشار العصر نحو فريده
…
فإياك يعني بالإشارة إياكا
لأتحفني لقياك أسنى مؤملي
…
وهل تحفه في الدهر إلا بلقياكا
وأعقبت تحافي فرائدك التي
…
وجوب ثناها يا لساني أعياكا ووصل هذا النظم بنثر صورته: " خصصتني أيها المخصوص بمآثر أعيا عدها وحصرها، ومكارم طيب أرواح الأزاهر عطرها، وسارت الركبان بثنائها، وشملت الخواطر محبة علائها، بفرائدك الأنيقة، وفوائدك المزرية جمالاً على أزهار الحديقة، ومعارفك التي زكت حقاً وحقيقة، وهدت الضال عن سبيل الأدب مهيعه وطريقه، وسبق تحفتك أعلى التحف عندي وهومأمول لقائك، والتمتع بالتماح سناك الباهر وسنانك، على حين امتدت لذلكم اللقاء أشواقي، وعظم من فوت استنارتي بنور محياك إشفاقي، وتردد لهجي بما يبلغني من معاليك ومعانيك، وما شاده فكرك الوقاد من مبانيك، وما أهلت به بلاغتك من دراسه، وما أضيفت (1) على الزمان من رائق ملابسه، وما جمعت من أشتاته، وأحييت من أمواته، وأيقظت من سناته، وما جاد به الزمان من حسناته، فلترداد هذه المحاسن نم أنبائك، وتصرف الألسنة بثنائك، علقت النفس من هواها بأشد علاقة، وجنحت إلى لقائك جنوح والهة مشتاقة، والحوادث الجارية تصرفها، والعوائق الحادثة كلما عطفت أملها إليه لا تتحفها به ولا تعطفها، إلى أن ساعد الوقت، وأسعد البخت، بلقائكم في هذه السفرة الجهادية، وجاد إسعاف الإسعاد من أمنيتي بأسنى هدية، فلقيتكم لقيا خجل، ولمحت أنواركم لمحة على وجل، ومحبتي في محاسنكم الرائقة، ومعاليكم الفائقة، على
(1) ق ص: أضيفت.
ما يعلمه ربنا عز وجل، وتذكرت عند لقائكم المأمول، إنشاء قائل يقول:
كنت مساءلة الركبان تخبر عن
…
محمد بن الخطيب أطيب الخبر
حتى التقينا فلا والله ما سمعت
…
أذني بأحسن مما قد رأى بصري قسم لعمري أقوله وأعتقده، وأعتده وأعتمده، فلقد بهرت منك المحاسن، وفقت من يحاسن، وقصر عن شأوك كل بليغ لسن، وسبقت فطنتك النارية النورية بلاغة كل فطن، وشهد لك الزمان أنك وحيده، ورئيس عصبته الأدبية وفريده، فبورك لك فيما أنلت من الفضائل، وأوتيت من آيات المعارف التي بها نور الغزالة ضائل، ولا زلت ترقى في مراتب المعالي، موقى صروف الأيام والليالي " انتهى.
[50 - رسالة لسان الدين إلى المنتشاقري]
وهذا الخطاب جواب من المذكور لكلام خاطبه به لسان الدين نصه:
حمدت على فرط المشقة رحلة
…
أتاحت لعيني اجتلاء محياكا
وقد كنت بالتذكار في البعد قانعاً
…
وبالريح إن هبت بعاطر رياكا
فحلت لي النعمى بما أنعمت به
…
علي فحياها الإله وحياكا أيها الصدر الذي بمخاطبته يباهي ويتشرف، والعلم الذي بالإضافة إليه يتعرف، والروض الذي لم يزل على البعد بأزهاره الغضة يتحف، دمت تتزاحم على موارد ثنائك الألسن، ويروي الرواة من أنبائك ما يصح ويحسن، طالما مالت إليك النفوس منا وجنحت، وزجرت الطائر الميمون من رقاعك كلما سنحت، فالآن اتضح البيان، وصدق الأثر العيان، ولقد كنا للمقام بهذه الرحال نرتمض، ويجن الظلام فلا نغتمض، هذا يقلقه إصفار كيسه، وهذا يتوجع لبعد أنيسه، وهذا تروعه الأهوال، وتضجره بتقلباتها الأحوال
فمن أنة لا تنفع، وشكوى إلى الله تعالى ترفع، فلما ورد بقدومك البشير، وأشار إلى ثنية طلوعك المشير، تشوفت النفوس الصدئة إلى جلائها وصقالها، والعقول إلى حل عقالها، والأنفس المفحمة إلى فصل مقالها، ثم إن الدهر راجع التفاته، واستدرك ما فاته، فلم يسمح من لقائك إلا بلمحة، ولا بعث من نسيم روضك بغير نفحة، فما زاد أن هيج الأشواق فالتهبت، وشن غاراتها على الجوانح فانتهبت، وأعل القلوب وأمرضها، ورمى ثغرة الصبر فأصاب غرضها، فإن رأيت أن تنفس عن نفس شد الشوق مخنقها، وكدر مشارب أنسها وأذهب رونقها، وتتحف من آدابك بدرر تقتنى، وروضة طيبة الجنى، فليست ببدع في شيمك، ولا شاذة في باب كرمك، ولولا شاغل لا يبرح، وعوائق أكثرها لا يشرح، لنافست هذه السحاءة في القدوم عليك، والمثول بين يديك، فتشوقي إلى اجتلاء أنوارك شديد، وتشيعي إلى إبلاء الزمان جديد انتهى.
[ترجمة أبي الحجاج المنتشاقري]
ووصف لسان الدين في " التاج المحلى " أبا الحجاج المذكور بما صورته (1) : حسنة الدهر الكثير العيوب، وتوبة الزمان الجم الذنوب، ماشئت من أدب يتألق، وفضل تتعطر به النسمات وتتخلق، ونفس كريمة الشمائل والضرائب، وقريحة يقذف بحرها بدرر الغرائب، إلى خشية لله تعالى تحول بين القلوب وقرارها، وتثني النفوس على اغترارها، ولسان يبوح بأشواقه، وجفن يسخوبدرر آماقه، وحرص على لقاء كل ذي علم وأدب، ومن يمت إلى أهل الديانة والعبادة بسبب، سبق بقطره الحلبة، وفرع من الأدب الهضبة، ورفع الراية،
(1) انظر ترجمة أبي الحجاج المنتشاقري في الكتيبة: 119؛ وهذه النسبة إلى منتشاقر (Monte - Sacro) في مقاطعة أكشونية.
وبلغ في الإحسان الغاية، فطارت قصائده كل المطار، وتغنى بها راكب الفلك وحادي القطار، وتقلد خطة القضاء ببلده، وانتهت إليه رياسة الأحكام بين أهله وولده، فوضحت المذاهب بفضل مذهبه وحسن مقصده، وله شيمة في الوفاء تعلم منها الآس، ومؤانسة عذبة لا تستطيعها الأكواس، وقد أثبت من كلامه ما تتحلى (1) به من مراتب المهارق، ويجعل طيبه فوق المفارق، وكنت أتشوق إلى لقائه، فلقيته بالمحلة من جبل الفتح لقيا لم تبل صدى، ولا شفت كمداً، وتعذر بعد ذلك لقاؤه، فخاطبته بهذه الرقعة:
حمدت على فرط المشقة رحلة
…
فذكر لسان الدين ما قدمنا إلى آخره.
وقد أورد جملة من مطولاته وغيرها ومؤلفاته، ولنخلص بعض ذلك فنقول:
ومن شعر أبي الحجاج المذكور يمدح الجهة الكريمة النبوية، مصدراً بالنسيب لبسط الخواطر النفسانية، قوله:
لما تناهى الصب في تشويقه
…
درر الدموع اعتاضها بعقيقه
متلهف وفؤاده متلهب
…
كيف البقا بعد احتدام حريقه
متموج بحر الدموع بخده
…
أنى خلاص يرتجى لغريقه
متجرع صاب النوى من هاجر
…
ما إن يحن للاعجات مشوقه
يسبي الخواطر حسنه بديعه
…
يصبي النفوس جماله بأنيقه
قيد النواظر إذ يلوح لرامق
…
لا تنثني الاحداق عن تحديقه
لبدر لمحته كبشر ضيائه
…
للمسك نفحته كنشر فتيقه
سكرت خواطر لامحيه كأنهم
…
شربوا من الصهباء كأس رحيقه
عطشوا لثغر لا سبيل لريقه
…
إلا كلمحهم للمع بريقه
(1) ق: تتجلى.
ما ضر مولى عاشقوه عبيده
…
لورق إشفاقاً لحال رقيقه
عنه اصطباري ما أنا بمطيعه
…
مثل السلو ولا أنا بمطيقه
سجع الحمام بشوق ترجيع الهوى
…
فأثار شجومشوقه بمشوقه
وبكت هديلاً راعها تفريقه
…
ويحق أن يبكي أخوت فريقه
وبكاء أمثالي أحق لأنني
…
لم أقض للمولى أكيد حقوقه
وغفلت في زمن الشباب المنقضي
…
أقبح بنسخ بروره بعقوقه
وبدا المشيب وفيه زجر ذوي النهى
…
لو كنت مزدجراً لشيم بروقه
حسبي ندامة آسف مما جنى
…
يصل النشيج لوزره بشهيقه
ويروم ما خرم الهوى زمن الصبا
…
ويروم من مولاه رتق فتوقه
ويردد الشكوى لديه تذللاً
…
عل الرضى يحييه درك لحوقه
فيصح من سكر التصابي سكره
…
نسخاً لحكم صبوحه وغبوقه
لو كنت يممت التقى وصحبته
…
وسلكت إيثاراً سواء طريقه
لأفدت منه فوائداً وفرائداً
…
عرضت تسام لرابح في سوقه
له أرباب القلوب فإنهم
…
من حزب من نال الرضى وفريقه
قاموا وقد نام الأنام فنورهم
…
هتك الدجى بضيائه وشروقه
وتأنسوا بحبيبهم فلهم به
…
بشر لصدق الفضل في تحقيقه
قصرت عنهم عندما سبقوا المدى
…
ولسابق فضل على مسبوقه
لولا رجاء تلمح من نورهم
…
يحيي الفؤاد بسيره وطروقه
وتأرج يستاف من أرواحهم
…
سبب انتعاش الروح طيب خلوقه
لفنيت من جرا جرائري التي
…
من خوفها قلبي حليف خفوقه
ومعي رجاء توسل أعددته
…
ذخراً لصدمات الزمان وضيقه
حبي ومدحي أحمد الهادي الذي
…
فوز الأنام يصع في تصديقه
أسمى الورى في منصب وبمنسب
…
من هاشم زاكي النجار عريقه
الحق أظهره عقيب خفائه
…
والدين نظمه لدى تفريقه
ونفى هداه ضلالة من جائر
…
مستوثق بيغوثه ويعوقه
سبحان مرسله إلينا رحمة
…
يهدي ويهدى الفضل من توفيقه
والمعجزات بدت بصدق رسوله
…
وحقيقة بالمأثرات خليقه
كالظبي في تكليمه، والجذع في
…
تحنينه، والبدر في تشقيقه
والنار إذ خمدت بنور ولادة
…
وأجاج ماء قد حلا من ريقه
والزاد قل فزاد من بركاته
…
فكفى الجيوش بتمره وسويقه
ونبوع ماء الكف من آياته
…
وسلام أحجار غدت بطريقه
والنخل لما أن دعاه مشى له
…
ذا سرعة بعذوقه وعروقه
والأرض عاينها وقد زويت له
…
فقريب ما فيها رأى كسحيقه
وكذا ذراع الشاة قد نطقت له
…
نطق اللسان فصيحه وذليقه
ورمى عداه بكف حصبا فانثنت
…
هرباً كمذعور الجنان فروقه
وعليه آيات الكتاب تنزلت
…
تتلى بعلو جلاله وبسوقه
وأذيق من كأس المحية صرفها
…
سبحان ساقيه بها ومذيقه
حاز السناء وناله بعروجه
…
جاز السماء طباقها بخروقه
ولكم له من آية من ربه
…
وعناية ورعاية بحقوقه
يا خيرة الأرسال عند إلهه
…
يا محرز العليا على مخلوقه
علقت آمالي بجاهك عدة
…
والقصد ليس يخيب في تعليقه
وعلقت من حبل اعتمادي عمدة
…
لتمسكي بقويه ووثيقه
ولئن غدوت أخيذ ذنبي إنني
…
أرجو بقصدك أن أرى لطليقه
وكساد سوقي مذ لجأت لبابكم
…
يقضي حصول نفوذه ونفوقه
ويحن قلبي وهوفي تغريبه
…
لمزاره لرباك في تشريقه
وتزيد لوعته متى حث السرى
…
حاد حدا بجماله وبنوقه
وأرى قشيب العمر أمسى بالياً
…
ومرور دهري جد في تمزيقه
وأخاف أن أقضي ولم أقض المنى
…
بنفوذ سهم منيتي ومروقه
فمتى أحط على اللوى رحلي وقد
…
بلغت ركابي للحمى وعقيقه
وأمرغ الخدين في ترب غدا
…
كالمسك في أرج شذا منشوقه
وأعيد إنشائي وإنشادي الثنا
…
ببديع نظم قريحتي ورقيقه
حتى أميل العاشقين تطرباً
…
كالغصن مر صباً على ممشوقه
وتحية التسليم أبلغ شافع
…
وثنا المديح حديثه وعتيقه
ولذي الفخار وذي الحلى ووزيره
…
صديقه وأخي الهدى فاروقه
مني السلام عليهم كالزهر في
…
تأليفها والزهر في تأنيقه وقال (1) :
هواكم بقلبي ما لمحكمه نسخ
…
ومن أجله جفني بمدمعه يسخو
ومن نشأتي ما إن صحت منه نشوتي
…
سواء به عصر المشيب (2) أو الشرخ
عليه حياتي مذ تمادت وميتتي
…
وبعثي إذا بالصور يتفق النفخ
ولي خلد أضحى قنيص (3) غرامه
…
ولا شرك يدني إليه ولا فخ
قتلت سلوي حين أحييت لوعتي
…
وما اجتيح بالإقرار في حالتي لطخ
وأغدو إلى سعدي بكرخ علاقتي
…
وقصدي قصدي ليس سعدي ولا الكرخ
وناصح كتمي (4) إذ زكت بيناته (5)
…
يجول عليه من دموع الأسى نضخ
وأرجو بتحقيقي هواكم بأن أفي
…
فعهد ولا نقض، وعقد ولا فسخ
وما الحب إلا ما اتسقل ثبوته
…
لمبناه رص في الجوانح أو رسخ (6)
(1) القصيدة في الكتيبة: 121.
(2)
ق والكتيبة: الشباب.
(3)
ق ص: يبيض.
(4)
الكتيبة: وما صح جسمي.
(5)
ق ص: أدركت؛ ص: ببنانه.
(6)
ق: رض
…
أو رضخ.
إذا مسلك لم يستقم بطريقه
…
سلكت اعتدالاً مثلما يسلك الرخ
بدا لضميري من سناكم تلمح
…
فبخ لعقل لم يطر عندها بخ
على عود ذاك اللمح ما زلت نادباً
…
كما تندب الورقاء فارقها الفرخ
يدي بأيديكم وقلبي شاغل
…
فمن فكرتي نسج ومن أنملي نسخ وقال:
إليك تحن النجب والنجباء
…
فهم وهي في أشواقهم شركاء
تخب بركاب تحب وصولها
…
لأرض بها باد سناً وسناء
فأنفاسها ما إن تني صعداؤها
…
وأنفسهم من فوقها سعداء
هم عالجوا إذا عجل السير داءهم
…
وأشباه مثلي مدنفون بطاء
فعدت ودوني للحبيب ترحلوا
…
وما قاعد والراحلون سواء
له وعليه حب قلبي وأدمعي
…
وقد صح لي حب وسح بكاء
بطيبة هل أرضى وتبدو سماؤها
…
وإن تك أرضاً فالحبيب سماء
شذا نفحها واللمح منها كأنه
…
ذكاء عبير والضياء ذكاء
فيا حادياً غنى وللركب حادياً
…
عناني بعد البعد عنك عناء
بسلع فسل عما أقاسي من الهوى
…
وسل بقباء إذ يلوح قباء
وفي عالج مني بقلبي لا عج
…
فهل لي علاج عنده وشفاء
وللرقمتين أرقم الشوق لاذع
…
ودرياقه أن لويباح لقاء
أماكن تمكين وأرض بها الرضى
…
وأرجاء فيها للمشوق رجاء وقال (1) :
أدب الفتى في أن يرى متيقظاً
…
لأوامر من ربه ونواه
فإذا تمسك بالهوى يهوي به
…
والحبل منه لمن تيقن واه
(1) هذه المقطوعة واثنتان تاليتان في الكتيبة: 122.
وقال:
يا من بدنياه ظل في لجج
…
حقق بأن النجاة في الشاطي
تطمع في إرثك الفلاح وقد
…
أضعفت ما قبله من أشراط
كن حذراً في الذي طمعت به
…
من حجب نقص وحجب إسقاط وقال:
ترى شعروا أني غبطت نسيمة
…
ذكت بتلاقي الروض غب الغمائم
كما قابلت زهر الرياض وقبلت
…
ثغور أقاحيه بلا لوم لائم وقال:
ورد المشيب مبيضاً بوروده
…
ما كان في شعر الشبيبة حالكا
يا ليته لوكان بيض بالتقى
…
ما سودته مآثم من حالكا
إن المشيب غدا رداءً للردى
…
فإذا علاك أجد في ترحالكا وقال (1) :
لوعة الحب في فؤادي تعاصت
…
أن تداوي ولوأتى ألف راق
كيف يبرا من علة وعليها
…
زائد علة النوى والفراق
فانسكاب الدموع جار فجار
…
والتهاب الضلوع راق فراق ومن غرائب الاتفاق أنه قال: كنت جالساً بين يدي الخطيب أبي القاسم التاكروني صبيحة يوم بمسجد مالفة، فقال لنا في أثناء حديثه: رأيت البارحة في عالم النوم كأن أبا عبد الله الجلياني يأتيني بيتي شعر في يده، وهما:
(1) الكتيبة: 122.
كل علم يكون لمرء شغلاً
…
بسوى الحق قادح في رشاده
فإذا كان فيه لله حظ
…
فهو مما يعده لمعاده قال: فلم ينفصل المجلس حتى دخل علينا الفقيه الأديب أبوعبد الله الجلياني، والبيتان معه، فعرضهما على الشيخ، فأخبره أنه صنعهما البارحة، فقال له كل من في المجلس: أخبرنا بهما الشيخ قبل مجيئك، فكان هذا من العجائب.
ولأبي الحجاج المكور تواليف، منها كتاب ملاذ المستعين في بعض خصائص سيد المرسلين أربعون حديثاً، وكتاب تخصيص القرب وتحصيل الأرب وقبول الرأي الرشيد في تخميس الوتريات النبوية لابن رشيد وانتشاق النسمات النجدية واتساق النزعات الجدية وغرر الأماني المسفرات في نظم المكفرات، والنفحات الرندية مجموع شعره، وحقائق بركات المنام في مرأى المصطفى خير الأنام والاستشفاء بالعدة والاستشفاع بالعمدة في تخميس البردة وتوجع الراثي في تنوع المراثي واعتلاق السائل بأفضل الوسائل ولمح البهيج ونفح الأريج في ترجيز كلام الشيخ مسائل البيان والتحصيل لتيسير البلوغ لمطالعتها والتوصيل وفهرسة روايته، ورجز ذكر مشايخ أبي عمر الطنجي، وكتاب أرج الأرجاء في مزج الخوف والرجاء، أربعون حديثاً في الرجاء والخوف.
وكان رحمه الله تعالى حياً حين ألف لسان الدين الإحاطة رحم الله تعالى الجميع.
ورأيت على ظهر أول ورقة من الريحانة بخط الإمام الكبير الشهير الشيخ إبراهيم الباعوني الدمشقي رحمه الله تعالى ما نصه: قال كاتبه إبراهيم بن أحمد الباعوني - غفر الله ذنوبه - وستر عيوبه، وبلغه من فضله مطلوبه - صاحب كتاب الريحانة، آية من آيات الله سبحانه، لوجه أدبه طلاقه، وللسانه ذلاقة
وللقلوب به علاقة، وفي خطه غلاقة، يعرفها ن عرق اصطلاحه بمطالعته، وينفتح له باب فهمها بتكرير مراجعته، فليتأمل الناظر إليه، والمقبل عليه، ما فيه من الجواهر، والنجوم الزواهر، بل الآيات البواهر، وليسبح الله تعالى تعجباً من قدرته جل وعلا، ومواهبه التي عذب ماؤها النمير وحلا، وليقل عند تأمل دره النظيم " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذوالفضل العظيم " الحديد:21؛ انتهى.
وقوله رحمه الله تعالى وفي خطه غلاقة ليس المراد به إلا صعوبة الخط المغربي على أهل المشرق حسبما يعلم مما بعده، وإلا فإن خط لسان الدين رحمه الله تعالى محمود عند المغاربة، ولنقتصر من هذا الغرض على ما ذكر، فإن تتبعه يطول؛ إذ هوبحر لا ساحل له.
[نقل من الروض الأريض لابن عاصم]
وكان لسان الدين رحمه الله تعالى مؤثراً حاجة من أمله، وقصد بابه وأم له، سواء كان من أودائه، أومن أعدائه، وقد ذكر الوزير الرئيس الكاتب أبويحيى ابن عاصم رحمه الله تعالى عنه في ذلك حكاية في أثناء كلام رأيت أن أذكر جملته لما اشتمل عليه من الفائدة، وهوأنه ذكر في ترجمة شموس العصر من ملوك بني نصر من كتابه المسمى بالروض الأريض في اسم السلطان الذي كان ابن الخطيب وزيره، وهوالغني بالله محمد بن يوسف ين إسماعيل بن فرج بن نصر الخزرجي، بعد كلام ما صورته (1) : كان قد جرى عليه التمحيص الذي أزعجه عن وطنه إلى الدار البيضاء بالمغرب من إيالة بني مرين، فأفادته الحنكة والتجربة هذه السيرة التي وقف شيوخنا على حقيقتها، وانتهجوا واضح طريقتها، وبلغتنا بألسنة صدقهم، معبراً عنها في عرف
(1) أزهار الرياض 1: 58 - 60.
التخاطب بالعادة، فلم يكن الوزير الكيس والرئيس الجهبذ يجريان من الاستقامة على قانون، ولا يطردان من الصواب على أسلوب، إلا بالمحافظة على ما رسم من القواعد، والمطابقة لما ثبت من العوائد، وكان ذووالنبل من هذه الطبقة وأولوالحذق من أرباب هذه المهن السياسية يتعجبون من صحة اختياره لما رسم، وجودة تمييزه لما قصد، ويرون المفسدة في الخروج عنها ضربة لازب، وأن الاستمرار على مراسمها آكد واجب، فيتحرونها بالالتزام كما تتحرى السنن، ويتوخونها بالإقامة كما تتوخى الفرائض، وسواء تبادر لهم معناها ففهموه، أوخفي عليهم وجه رسمها فجهلوه، حدثني شيخنا القاضي أبوالعباس أحمد بن أبي القاسم الحسني أن الرئيس (1) أبا عبد الله ابن زمرك دخل على الشيخ ذي الوزارتين أبي عبد الله ابن الخطيب يستأذنه في جملة مسائل مما يتوقف عادة على إذن الوزير، وكان معظمها فيما يرجع إلى مصلحة الرئيس أبي عبد الله ابن زمرك، قال الشريف: فأمضاها كلها له، ما عدا واحدة منها تضمنت نقض عادة مستمرة، فقال ذوالوزارتين ابن الخطيب: لا، واله يا رئيس أبا عبد الله لا آذن في هذا، لأنا ما استقمنا في هذه الدار إلا بحفظ العوائد.
ثم قال صاحب الروض: فلما تأذن الله تعالى للدولة بالاضطراب، واستحكم الوهن بتمكن الأسباب، عدل عن تلك القواعد الراسخة، واستخف بتلك القوانين الثابتة، فنشأ من المفاسد ما أعوز رفعه، وتعدد وتره وشفعه، واستحكم ضرره حتى لم يمكن دفعه، وتعذر فيه الدواء الذي يرجى نفعه، وكان قد صحبه من الجد ما نسى آماله، وأنجح بإذن الله تعالى أقواله وأعماله، فكان يجري الأمر على رسم من السياسة واضح، ونظر من الآراء السديدة راجح، ثم يحفه من الجد سياج لا يفارقه إلى تمام الغاية المطلوبة من حصوله، وتمكن مقتضى الإرادة السلطانية من فروعه وأصوله؛ انتهى كلام ابن عاصم.
(1) ص: الرائس، حيثما وقعت.
وإذ جرى ذكره فلا بأس أن نلمع بشيء من أحواله، لأن أهل الأندلس كانوا يسمونه ابن الخطيب الثاني، فنقول:
[ترجمة أبي يحيى ابن عاصم]
هوالإمام العلامة الوزير الرئيس الكاتب الجليل البليغ الخطيب الجامع الكامل الشاغر المفلق الناثر الحجة، خاتمة رؤساء الأندلس بالاستحقاق، ومالك خدم البراعة بالاسترقاق، أبويحيى محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن عاصم، القيسي الأندلسي الغرناطي، قاضي الجماعة بها - كان - رحمه الله تعالى - من أكابر فقهائها وعلمائها ورؤسائها، أخذ عن الغمام المحقق أبي الحسن ابن سمعت، والإمام القاضي أبي القاسم ابن سراج، والشيخ الراوية أبي عبد الله المنتوري، والإمام أبي عبد الله البياني، وغيرهم، ومن تآليفه شرح تحفة والده، وذكر فيه أنه ولي القضاء سنة ثمان وثلاثين وثمانمائة، ومنها كتاب جنة الرضى في التسليم لما قدر الله تعالى وقضى، وكتاب الروض الأيض في تراجم ذوي السيوف والأقلام والقريض كأنه ذيل به إحاطة لسان الدين ابن الخطيب، وله غير ذلك، وقد أطلت الكلام في ترجمته من كتابي " أزهار الرياض في أخبار عياض وما يناسبها مما يحصل للنفس به ارتياح وللعقل ارتياض "(1) .
ووصفه ابن فرج السبي بأنه الأستاذ العلم الصدر المفتي القاضي رئيس الكتاب، ومعدن السماحة، ومنبع الآداب؛ انتهى.
[نموذج من نثر ابن عاصم]
وقد تقدم بعض كلامه فيما مر، ومن بديع نثره الذي يسلك به نهج ابن
(1) انظر ص: 145 وما بعدها من الجزء الأول من أزهار الرياض.
الخطيب رحمه الله تعالى قوله من كلام جلبت جملته في أزهار الرياض، واقتصرا هنا على قوله بعد الحمدلة الطويلة ما صورته (1) : أما بعد فإن الله على كل شيء قدير، وإنه بعباده لخبير بصير، وهولمن أهل نيته، وأخلص طويته، نعم المولى ونعم المصير، بيده الرفع والخفض، والبسط والقبض، والرشد والغي، والنشر والطي، والمنح والمنع، والضر والنفع، والبطء والعجل، والرزق والأجل، والمسرة والسماءة، والإسحان والإساءة، والإدراك والفوت، والحياة والموت، إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون، وهوالفاعل على الحقيقة وتعالى الله عما يقول الآفكون، وهوالكفيل بأن يظهر دينه على الدين كله ولوكره المشركون، وإن في أحوال الوقت الداهية لذكرى لمن كان له قلب أوألقى السمع وهوشهيد، وعبرة لمن يفهم قوله تعالى " إن الله يفعل ما يشاء " الحج: 18 و " إن الله يحكم ما يريد " المائدة:1 بينما الدسوت عامرة، والولاة آمرة، والفئة مجموعة، والدعوة مسموعة، والإمرة مطاعة، والأجوبة سمعاً وطاعة، وإذا بالنعمة قد كفرت، والذمة قد خفرت.
إلى أن قال: والسعيد من اتعظ بغيره، ولا يزيد المؤمن عمره إلا خيراً جعلنا الله تعالى ممن قضى عمره بخيره، وبينما الفرقة حاصلة، والقطيعة فاصلة، والمضرة واصلة، وأحبل في انبتات والوطن في شتات، والخلاف يمنع رعي متات، والقلوب شتى من قوم أشتات، والطاغية يتمطى لقصم الوطن وقضمه، ويلحظه لحظ الخائف على هضمه، والآخذ بكظمه، ويتوقع الحسرة أن يأذن الله يجمع شمله ونظمه، على رغم الشيطان ورغمه، وإذا بالقلوب قد ائتلفت، والمتنافرة قد اجتمعت عدما اختلفت، والأفئدة بالألفة قد اقتربت إلى الله تعالى وازدلفت، والمتضرعة إلى الله تعالى قد ابتهلت، في إصلاح الحالة التي سلفت، فألقت الحرب أوزارها، وأدنت الفرقة النافرة مزارها، وجلت الألفة الدينية
(1) أزهار الرياض 1: 160.
أنوارها، وأوضحت العصمة الشرعية آثرها، ورفعت الوحشة الناشبة أظفارها أعذارها، وأرضت الخلافة الفلانية أنصارها، وغضت الفئة المتعرضة أبصارها، وأصلح الله تعالى أسرارها، فجمعت الأوطان بالطاعة، والتزمت نصيحة الدين بأقصى الاستطاعة، وتسابقت إلى لزوم السنة والجماعة، وألقت إلى الإمامة الفلانية يد التسليم والضراعة، فتقبلت فيأتهم، وأحمدت جيأتهم، وأسعدت آمالهم، وارتضيت أعمالهم، وكملت كطالبهم، وتممت مآربهم، وقضيت حاجاتهم، واستمعت مناجاتهم، وألسنتهم بالدعاء قد انطلقت، ووجهتهم في الخلوص قد صدقت، وقلوبهم على جمع الكلمة قد اتفقت، وأكفهم بهذه الإمامة الفلاينة قد اعتقلت، وكانت الإدالة في الوقت على عدوالدين قد ظهرت وبرقت، إلى أن قال: وكفت القدرة القاهرة، والعزة الباهرة، من عدوان الطاغية غوائل، بإعزاز دين الله الموعود بظهوره على الدين كله فواتح وأوائل، ومعلوم بالضرورة أن الله تعالى لطيف بعباده حسبما شهد بذلك برهان الوجود،: وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " دليل على ما سوغ من الكرم والجود؛ انتهى المقصود منه، وهوكلام بليغ، ومن أراد جملته فعليه بأزهار الرياض.
[من نظم ابن عاصم]
ومن نظم ابن عاصم المذكور قوله مخاطباً شيخه قاضي الجماعة أبا القاسم ابن سراج، وقد طلب الاجتماع به زمن فتنة، فظن أنه يستخبره عن سر من أسرار السلطان، فأعده معتذراً، ولم يصدق الظن:
فديتك لا تسأل عن السر كاتباً
…
فتلقاه في حال من الرشد عاطل
وتضطره إما لحالة خائن
…
أمانته أوخائض في الأباطل
فلا فرق عندي بين قاض وكاتب
…
وشى ذا بسر أو قضى ذا بباطل
[قصيدة لابن الأزرق في مدحه]
ومن بديع ما نظم في مدح الرئيس ابن عاصم المذكور قول العلامة ابن الأزرق رحمه الله تعالى:
خضعت لمعطفه الغصون الميس
…
ورنا فهام بملتيه النرجس
ذو مبسم زهر الربى في كسبه
…
متنافس عن طيبه متنفس
ومورد من ورده أو ناره
…
يتنعم القلب العميد وييأس
فالورد فيه من دموعي يرتوي
…
والنار فيه من ضلوعي تقبس
كملت محاسنه فقد ناضر
…
ولواحظ نجل وثغر ألعس
صعب التعطف بالغرام حبيبته
…
فالحب يحبى والتعطف يحبس
غرس التشوق ثم أغرى بي
…
فالوجد يغرى والتشوق يغرس
ما كنت أشقى لوحللت بجنة
…
من وصله تحيا لديها الأنفس
ألحاظه ورضابه وعذاره
…
حور بها أو كوثر أوسندس
وليال أنس قد أمنت بهن من
…
واش ينم ومن رقيب يحرس
أطلعت شمس الراح فيها فاهتدى
…
عاش إلينا في الدجى ومغلس
صفراء كالعقيان في الألوان لل
…
ندمان كالشهبان منها اكؤس
صبت شقيقاً فاستحالت مرجساً
…
في مزجها فمورد ومورس
وحبابها يغني بأسنى جوهر
…
أنفى لغم المعدمين وأنفس
يجلى لها للغم منها حندساً
…
قمر عليه من الذؤابة حندس
حتى إذا عمشت مراة البدر من
…
صبح بدا تلقاه إذ يتنفس
ناديته وسنا الصباح محصحص
…
ينجاب عنه من الظلام معسعس
يا مطلع الأنوار زهراً يجتنى
…
ومشعشع الصهباء ناراً تلمس
بك مجلس الأمس اطمأن بابن عا
…
صم اطمأن من الرياسة مجلس
بدر بأنوار الهدى متطلع
…
غيث بأشتات الندى متبجس
حامى فلم نرتع لخطب يعتري
…
ووفى فلم نحفل بدهر يبخس
شيم مهذبة، وعلم راسخ
…
ومكارم هتن، ومجد أقعس
لو كان شخصاً ذكره لبدا على
…
أعطافه من كل حمد ملبس
ذاكم أبويحيى به تحمى العلا
…
وبه خلال الفخر طراً تحرس
بيت على عمد الفخار مطنب
…
مجد على متن السماك مؤسس
خيم وعرس في حماه فكم حوى
…
فيه المراد مخيم ومعرس
إنا لنغدو هيماً فينيلنا
…
رياً ويوحشنا النوى فيؤنس
حتى أقمنا والأماني منهضا
…
ت وابتسمنا والزمان معبس
لم ندر قبل يراعه وبنانه
…
أن الذوابل بالغمائم تبجس
هن اليراع بها يؤمن خائف
…
ويحاط مذعور، ويغني مفلس
مهما انبرت فهي السهام يرى لها
…
وقع لأغراض البيان مقرطس
يشفى بمأمله الشكي المعتري
…
يحيا بمأمنه الحمام المؤيس
فتقص حين تشق منها ألسن
…
وتسير حين تقط منها أرؤس
من كل وشاء بأسرار النهى
…
درب بإظهار السرائر يهجس
قد جمع الأضداد في حركاته
…
فلذا اطراد فخاره لا يعكس
عطشان ذو ري، يبيس مثمر
…
غضبان ذو صفح، فصيح أخرس
لله من تلك البراع جواذب
…
للسحر منك كأنها المغنطيس
رضنا شماس القول في أوصافها
…
فهي التي راضت لنا ما يشمس
وإليكها حللاً تشابه نسجها
…
مثلي يفصلها ومثلك يلبس
واهنأ بعيد باسم متهلل
…
وافاك يجهر بالسرور ويهمس
واحبس لواء الفخر موقوفاً فإن
…
الحمد موقوف عليك محبس قلت: وعندي الآن شك في صاحب هذه القصيدة، هل هوقاضي الجماعة بغرناطة محمد بن الأزرق أوابن الأزرق الثاني القائل فيما يكتب على السيف:
إن عمت الأفق من نقع الوغى سحب
…
فشيم بها بارقاً من لمع إيماضي
وإن نوت حركات النصر أرضص عداً
…
فليس لفتح إلا فعلي الماضي والله سبحانه أعلم.
[رسالة ابن عاصم إلى ابن طركاط]
ومن إنشاء الرئيس ابن عاصم المذكور ما كتب به يخاطب الكاتب أبا القاسم ابن طركاط، وهو " القضاء - حفظ الله تعالى كمالك، وأنجح آمالك - إذا لم يحطه العدل من كلا جانبيه سبيل معوج، ومذهب لا يوافق عليه مناظر ولا ينصره محتج، كما أنه إذا حاطه العدل حادة لنجاة، وسبب في حصول رحمة الله تعالى المرتجاة، وسوق لنفاق بضاعة العبد المزجاة، وأجمل العدل ما تحلى به في نفسه الحكم، وجرى على مقتضى ما شهدت به الآراء المشهورة والحكم، حتى يكون عن البغي رادعاً، وبالقسط صادعاً، ولأنف الأنفة من الإذعان للحق جادعاً، وأنت أجلك الله تعالى على سعة إطلاعك، وشدة ساعد قيامك بالطريقة واضطلاعك، ممن لا ينبه على ما ينبغي، ولا يرد على طلبته من الإنصاف المبتغي، فلك في الطريقة القاضوية التبريز، وأنت إذا كان غيرك الشبه الذهب الإبريز، ولعلمية عدلك التوشية بالنزاهة والتطريز، وليتني كنت لمظهرك الحكمي حاضراً، ولإعلام القضاة بآرائك المرتضاة محاضراً، والوازع قد تمرس بالخصوم، وجعل المتصدي للإذن في محل المخصوم، وأنت حفظك الله تعالى قد قمت من غلط الحجاب بالمقام المعصوم، ومثلت من سعة المنزل في الفضل والطول كالشهر المصوم، والباب قد سد، وداعي الشفاعة قد رد، والميقات للإذن قد حد، ومطلب الأجرة المتعارفة قد بلغ الأشد، حتى إذا قضي الواجب، وأذن في دخول الخصمين الحاجب، وكبح السابقين إلى الحد الذي
لا يعدونه، وحفز (1) إيماؤه من تعداه أووقف دونه، وقد حصل باللحظ واللفظ التساوي، وأنتج المطالب الأربعة هذا اللازم المساوي، ومجلسك قد رجح وقاره برضوى، ومجتلاك قد فضح نوره البدر الأضوا، وقد امتزت عن سواك نم القضاة بمراسم لا تليق بجملتهم معارفها، وتخصصت عنهم بملابس تعج عجيجاً من جذامهم مطارفها (2) ، بحيث تحد لخلع النعلين حداً لا يتجاوز طواه، وتسد في بعض الأوقات الباب سداً لا ترقع بالمحاجر كواه (3) ، وتفصل بين الخصمين أحياناً بالنية (4) دون الكلام ولكل امرئ ما نواه.
وهذه أعانك الله تعالى مكملات من العدل في الحكم وقف عياض دون تحقيق مناطها، وأعيت ابن رشد فلم يهتد بيانه ولا تحصيله لاستنباطها، فما بال النازحة (5) عنك حساً ومعنى، النازلة من تقاضي دينك بمنزلة الممطول المعنى، المعتقلة من ملكة رقك بحيث أقصاها لاعج الشوق، المعذبة من الصبابة فيك بما شب عمره عن الطوق، تتنفس الصعداء مما تشهده منك من مبتدعات الجور، وتردد البكاء على ضياع ما استعار الحسن لصفاتها من النجد والغور، وتقضي العجب مما تسمع من عدلك الذي لم تجتل لمحة من نوره، ومن حلمك الذي أشقاها (6) فلم تحضر لدكة طوره، وتستصوب أنظار النحاة في منع التهيئة والقطع في العامل، وتستجلب العروضيين في المديد والبسيط دون الطويل والكامل، فهلا راجعت فيها النظر، وأنجزت لها الوعد المنتظر، وكففت من
(1) ص: وأحفز؛ ق: وأحقر.
(2)
إشارة إلى قول الشاعرة:
شكا الخز من روح وأنكر ريحه
…
وعجت عجيجاً من جذام المطارف (3) من قول الشاعر: " ورقعن الكوى بالمحاجز " وأصله قول المثقب العبدي " وثقبن الوصاوص للعبون ".
(4)
ق ص: بالبينة.
(5)
أخذ يتحدث هنا - بضمير المؤنث - عن رسالة لم يحفل القاضي يرد جوابها.
(6)
ص: أشقاها المجد.
عيونها دموعاً مستهلة، واجتليت من جبينها الوضاح ما أخجل بدوراً مشرقة وأهلة، ولم تحوجها إلى أن ينطق قرينها (1) الروحاني بالشعر على لسانها ولسانك، ولم تضطرها في هذه المعاملة إلى ما لا ترتضيه من كفر إحسانك، والعذر أظهر، والبرهان أبهر، وخلافك في العالم أشهر، وأنت إن لم يكن ما يعصم الله تعالى منه لمقتضى الطبيعة أقهر.
وقد أدرجت لك في طي هذا ما يصل إلى يدك، وتلهج به في يومك وغدك، منتظرة منك إطفاء الجوى بالجواب، ومحوما سبق من الخطأ بالخطاب، إن شاء الله تعالى، والله تعالى يصل سعادته، ويحفظ مجادته، ومعاد السلام من الشاكر الذاكر ابن عاصم وفقه الله تعالى في أوائل ذي الحجة عام خمسة وأربعين وثمانمائة انتهى، وهومما لم أذكره في أزهار الرياض ".
[ظهير بتقديم ابن عاصم للنظر في أمور الفقهاء]
ولنذكر هنا الظهير الذي جلبته فيها (2) بتقديم المذكور لنظر في أمور الفقهاء وغيرهم، ونصه: هذا ظهير كريم إليه انتهت الظهائر شرفاً علياً، وبه تقررت المآثر برهاناً جلياً، وراقت المفاخر قلائد وحلياً، وتميزت الأكابر الذين افتخرت بهم الأقلام والمحابر، اختصاصاً مولوياً. فهووإن تكاثرت المرسومات وتعددت، وتوالت المنشورات وتجددت، أكبر (3) مرسوم تمم في الاعتقاد نظراً خطيراً، وأحكم في التفويض أمراً كبيراً، وأبرم في الاستخلاص عزماً أبياً. اعتمد بمسطوره العزيز، واختص (4) بمنشوره الذي تلقاه اليمن بالتعزيز، من لم يزل
(1) قرينها: سقطت من ق.
(2)
فيها: يعني في أزهار الرياض؛ انظر ج: 1 ص: 172.
(3)
ق: أكرم.
(4)
ق: واختبر.
بالتعظيم حقيقاً، وبالإكبار خليقاً، وبالإجلال حرياً. فهوشهير لم يزل في الشهرة سابقاً، هاد لم يزل بالهدى ناطقاً، بليغ لم يزل بالبلاغة درياً، عظيم لم يزل في النفوس معظماً، علم لم يزل في الأعلام مقدماً، كريم لم يزل في الكرام سنياً. اشتملت منه محافل الملك على العقد الثمين، وحلت به المشورة في الكنف المحوط والحرم الأمين، فكان في مشكاة الأمور هادياً، وفي ميدان المراشد جرياً. فإلى مقاماته تبلغ مقامات الإخلاص، وإلى مرتبته تنتهي مراتب الاختصاص، فيمن حاز خصلاً، وزين حفلاً، وشرف ندياً. واستكمل همماً، واستحمل قلماً، واستخدم مشرفياً. فلله ما أعلى قدر هذا الشرف، الجامع بين المتلد والمطرف (1) ، السابق في الفضل أمداً قصياً. الحال من الاصطفاء مظهراً، الفارع من العلاء منبراً، الصاعد من العز كرسياً. حاز الفضل إرثاً وتعصيباً، واستوفى الكمال حقاً ونصيباً، ثناء أرجه كالروض لولم يكن الروض ذابلاً وهدياً. نوره كالبدر لولم يكن البدر آفلاً، ومجد علوه كالسها لولم يكن السها خفياً. فما أشرف الملك الذي اصطفاه، وكمل له حق التقريب ووفاه، وأحله قرارة التمكين، ومن اختصاصه بالمكان المكين، فسبق في ميدان التفويض وشأى (2) ، ورأى من الأنظار الحميدة ما رأى، صاعداً بالحق إماماً علماً، موضحاً من الدين نهجاً أمماً، هادياً من الواجب صراطاً سوياً. بانياً لمجد صرحاً مشيداً، مشهراً للعدل قولاً مؤيداً، مبرماً للخير سبباً قوياً. فالله تعالى يصل لمقام هذا الملك الذي طلع في سمائه بدراً دونه البدور، وصدراً تلوذ به الصدور، سعداً لا تمطله الأيام في تقاضيه، ونصراً يمضي به نصل الجهاد فلا يزال ماضيه، على الفتح مبنياً. ويوالي له عزاً يذود عن حرم الدين ويمنحه تأييداً (3) يصبح في أعناق الكفر حديث سيفه قطعياً.
(1) ق: والطارف.
(2)
الأزهار: وسما؛ ق: وشاء.
(3)
هكذا في الأزهار؛ وفي ص: وخيفة وتأييداً، واللفظتان على الرفع في ق.
أمر به مرسوماً عزيزاً لا تبلغ المرسومات إلى مداه، ولا يبدي بآثار الاختصاص مثل ما أبداه عبد الله أمير المسلمين محمد الغالب بالله أيد الله تعالى مقامه، ونصر أعلامه، وشكر إنعامه، ويسر مرامه، لإمام الأئمة وعلم الأعلام، وعماد ذوي العقول والأحلام، وبركة حملة السيوف والأقلام، وقدوة رجال الدين وعلماء الإسلام، الشيخ الفقيه أبي يحيى ابن كبير العلماء، شهير العظماء، حجة الأكابر والأعيان، مصباح البلاغة والبيان، قاضي القضاة وإمامهم، أوحد الجلة وطود شمامهم، الشيخ الفقيه أبي بكر ابن عاصم أبقاه الله تعالى، ومناطق الشكر به فصيحة اللسا، ومواهب الملك به معهودة الإحسان، وقلائد الأيادي منه متقلدة بجيد كل إنسان، فقد تقرر والمفاخر لا تنسب إلا لبنيها، والفضائل لا تعتبر إلا بمن يشيد أركانها ويبنيها، والكمال لا يصفي شربه، إلا لمن يؤمن سربه، أن هذا العلم الكبير، الذي لا يفي بوصفه التعبير، لم بآثاره يقتدى، وبأنظاره يهتدي، وبإشارته يستشهد، وبإدارته يسترشد، إذ لا أمد علو (1) إلا وقد تخطاه، ولا مركب فضل إلا وقد تمطاه، ولا شراقة هدى إلا وقد جلاها، ولا لبة فخر إلا وقد حلاها، والنعمة إلا وقد أسداها، ولا حرمة إلا وقد أبداها، لما له في دار الملك من الخصوصية العظمى، والمانة التي تسوغ النعمى، والرتب التي تسموالعيون إلى مرتقاها، وتستقبها النفوس بالتعظيم وتتلقاها، حيث سر الملك مكتوم، وقرطاسه مختوم، وأمره محتوم، والأقلام قد روضت الطروس وهي ذاوية، وقسمت الأرزاق وهي طاوية، شقت ألسنتها فنطقت، وقطت (2) أرجلها فسبقت، ويبست أثمرت إنعاماً، ونكست فأظهرت قواماً، وخطت فأعطت، وكتبت فوهبت، ومشقت فرفقت، وأبرمت فأنعمت، فكم يسرت الجبر،
(1) ص: على (علا) .
(2)
ق: وقطعت.
وعفرت الهزبر، وشنفت المسامع، وكيفت المطامع، وأقلت فيما ارتفع من المواضع، وأحلت لما امتنع من المراضع، فهي تنجز النعم، وتحجز النقم، وتبث المذاهب، وتحث المواهب، وتروض المراد، وتنهض المراد، وتحرس الأكناف، وتغرس الأشراف، مصيخة لنداء هذا العماد الأعلى، طامحة لمكانه الذي سما واستعلى، فيما يلي عليها من البيان الذي يقر له بالتفضيل، الملك الضليل، ويشهد له بالإحسان، لسان حسان، يحكم له ببري القوس (1) ، حبيب بن أوس، ويهيم بما من الأساليب عنده، شاعر كندة، ويستمطر سحبه الثرة، فصيح المعرة، إلى منثور تزيل الفقر فقره، وتدر الرزق درره، لوأنهي إلى قس إباد لشكر في الصنيعة أياديه، واستمطر سحبه وغواديه، أوبلغ إلى سحبان لسحره، وما فارقه عشية ولا سحره، ولورآه الصابي لأبدى إليه من صبوته ما أبدى، أوسمعه ابن عباد لكان له عبداً، أبوبلغ بديع الزمان لهجر بدائعه، واستنزر بضائعه، أوأتحف به البستي لا تخذه بستاناً، أوعرض على عبد الحميد لأحمد من صوبه هتاناً، فأعظم به ومن عال لا ترقى ثنيته، ولا تحاز مزيته، ولا يرجم أفقه، ولا يكتم حقه، ولا ينام له عن اكتساب الحمد ناظر، ولا ينقاس به في الفضل مناظر، وهل تقاس الأجادل بالبغاث، أوالحقائق بالأضغاث
ألا وإن بيته هوالبيت الذي طلع في افقه كل كوكب وقاد، ممن وشج به للعلوم اتقاء واتقاد، وترامى به للمدارك ذكاء وانتقاد، فاعظم بهم أعلاماً وصدوراً، وأهلة وبدوراً، خلدت ذكرهم الدواوين المسطرة، وسرت في محامدهم الأنفاس المعطرة، إلى أن نشأ في سمائهم هذا الأوحد، الذي شهرة فضله لا تجحد، فكان قمرهم الأزهر، ونيرهم الأظهر، ووسيطة عقدهم الأنفس، ونتيجة مجدهم الأقعس، فأبعد في المناقب آماده، ورفع الفخر وأقام عماده، وبنى على تلك الأساس المشيدة، وجرى لإدراك تلك الغايات البعيدة،
(1) ق: ببرء النفوس.
فسبق وجلى، وشنف بذكره المسامع وحلى، ورفع المشكل ببيانه، وحرر الملتبس ببرهانه، إلى أن أحله قضاء الجماعة ذروة أفقه الأصعد (1) ، وبوأه عزيز ذلك المقعد، فشرف الخطة، وأخذ على الأيدي المشتطة، لا يراقب إلا ربه، ولا يضمر إلا العدل وحبه، والمجلس السلطاني أسماه الله تعالى يختصه بنفسه، ويفرغ عليه من حلل الاصطفاء ولبسه، ويستمطر فزائده، ويجرب بأنظاره حقوق الملك وعوائده، فكان بين يديه حكماً مقسطاً، ومقسماً لحظوظ الإنعام مقسطاً، إلى أن خصه بالكتابة المولوية، ورأى له ذلك حق الأولوية، إذ كان والده المقدس نعم الله تعالى ثراه، ومنحه السعادة في أخراه، مشرف ذلك الديوان، ومعلي ذلك الإيوان، يحبر رقاع الملك فتروق، وتلوح كالشمس عند الشروق، فحل ابنه هذا (2) الكبير شرفاً، الشهير سلفاً، مرتبته التي سمت، وافترت به عن السعد وابتسمت، فسحبت به لشرف مطارف، وأحرزت به من الفخر التالد والطارف، فهواليوم في وجهها غرة، وفي عينها قرة، ولله هوفي ملاحظة الحقائق ورعيها، وسمع الحجج ووعيها، فلقد فضل بذلك أهل الاختصاص، وسبقهم في تبيين ما يشكل منها وما يعتاص، إذ المشكلة معه جلية الأغراض، والآراء لديه آمنة من مأخذ الاعتراض، فكم رتبة عمرها بذويها، فأكسبها تشريفاً وتنويهاً، وعلى ذلك فأعلام قضاة الوطن، ومن عبر منهم وقطن، مع أقدارهم السامية، ومعاليهم التي هي للزهر مسامية، إنما رقتهم وساطته التي أحسنت، وزينت بهم المجالس وحسنت، فيه (3) أمضوا أحكامهم، وأعلموا في الأباطيل احتكامهم، وكتبوا الرسوم، وكتبوا الخصوم، وحلوا دست القضاء، وسلوا سيف المضاء، وفي زمانه تخرجوا،
(1) ق: الأسعد.
(2)
ص: ذلك.
(3)
كذا في ص ق؛ وفي الأزهار: فبه.
وفي بستانه تأرجحوا، ومن خلفه اكتسبوا، وإلى طرقه انتسبوا، وعلى موارده حاموا، وحول فوائده قاموا، ويتعريفه عرفوا، وبتشريفه شرفوا، وبصفاته ملفوا، ويعرفاته وقفوا، فأمنوا مع انسكاب سحب إفادته من الجذب، وقاموا بذلك الفرض بسبب ذلك الندب، وهل العلماء وإن عمت فوائدهم، وانتظمن بجياد الأذهان فرائدهم، إلا من أنواره مستمدون، فبه اجتنيت من أفنان المنابر ثمراتهم، وتأرجت في روضات المعارف زهراتهم، وبه عمروا الحلق، وائتلق من أنوارهم ما أئتلق، إذ كل من اصطناعه محسوب، وإلى بركته منسوب، فهويدرهم الأهدى، وغيثهم الأجدى، وعقدهم المقتنى، وروضهم المجتنى، وبدر منازلهم، وصدر محافلهم.
وعلى ما أعلى المقام المولوي من مكانه، وقضى به من استمكانه، واعتمد من إبرامه، وأبرم من اعتماده، ومهد من إكرامه، وكرم من مهاده، واختص من علاه، وأعلى من اختصاصه، واستخلص من حلاه،، وحلا من استخلاصه، ووفى من تكرمه، وكرم من يراعته، وشقق من كتابته، وأنطق من خطابته، وسجل من أنظاره، وعجل من اختياره، فذكا ذكره، وسطا سطره، وأمعن معناه، وأغنى مغناه، أشار أيده الله تعالى باستئناف خصوصيته وتجديدها، وإثبات مقاماته وتحديدها، لتعرف تلك الحدود فلا تتخطى، وتكبر تلك المراتب فلا تستعطى، فأصدر له شكر الله تعالى إصداره، وعمر من مناقبه البديع فراق طيه ونشره، وغدا وفرائد المآثر لديه موجدة مكونه (1) ، وأصبح للمفاخر مالكاً لما أتى به مدونه، وخصه فيه بالنظر المطلق الشروط، الملازم للتفويض ملازمة
(1) ق: مكنونه؛ ص: مكمونه.
الشرط للمشروط، المستكمل الفروع والأصول، المستوفي الأجناس والفصول، في الأمور التي تختص بأعلام القضاة الأكابر، وكتاب القضاة ذوي الأقلام والمحابر، وشيوخ العلم وخطباء المنابر، وسائر أرباب الأقلام القاكن منهم والعابر، بالحضرة العلية، وجميع البلاد النصرية، تولى الله تعالى جميع ذلك بمعهود ستره، ووصل لديه ما تعود من شفع اللطف ووتره، يحوط مراتبهم التي قطفت من روضاتها ثمرات الحكم وجنيت، ويراعي أمورهم التي أقيمت على العوائد وبنيت، وحقوقهم التي حفظت لهم في المجالس السلطانية ورعيت، ويحل كل واحد منهم في منزلته التي تليق، ومرتبته التي هوبها خليق، على ما يقتضي ما يعلم من أدواتهم، ويخبر من تباين ذواتهم، ويرشح كل واحد إلى ما استحه، ويؤتي كل ذي حق حقه، اعتماداً على أغراضه التي عدلت، وصدحت على أفنانها من الأفواه طيور الشكر وهدلت، واستناداً في ذلك إلى آرائه، وتفويضاً له في هذا الشأن بين خلصاء الملك وظهرائه، وذلك على مقتضى ما كان عليه أعلام الرياسة الذين سبقوا، وانتهضوا بهممهم واستبقوا، كالشيخ الرئيس الصالح أبي الحسن ابن الجياب، والشيخ ذي الوزارتين أبي عبد الله ابن الخطيب، رحمهما الله تعالى.
فليقم أبقاه الله تعالى بهذه الأعمال التي سمت واعتزت، ومالت بها أعطاف العدل واهتزت، وسار بها الخبر حثيث السرى، وصار بها الحق مشدود العرى، وعلى جميع القضاة الامضايء، والعلماء الأرضياء، والخطباء الأولياء، والمقرئين الأزكياء، وحملة الأقلام الأحظياء، أن يعتمدوا هذا الولي العماد في كل ما يرجع إلى عوائدهم، ويختص في دار الملك من مرتباتهم وفوائدهم، وما يتعلق بولاياتهم وأمنياتهم، ويليق بمقاصدهم ونياتهم، فهوالذي يسوغهم المشارب، ويبلغهم المآرب، ويستقبل العلي بالعلي، والعاطل بالحلي، والمشكل بالجلي، والمفرق بالتاج، والمقدمة بالإنتاج، وعلى ذلك فهذا المنشور الكريم قد أقرهم على ولاياتهم وأبقاهم، ولقاهم من حفظ المراتب ما رقاهم، فليجروا