الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع: انقطاع التوبة بحضور الموت
أخبرنا الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز أن الذين يعملون السيئات ثم يتوبون فإنه تعالى يقبل توبتهم، حيث قال سبحانه {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} 1 وغيرها من الآيات الكثيرة، ويقول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عنه أبو هريرة رضي الله عنه”لو أخطأتم حتى تبلغ خطاياكم السماء، ثم تبتم لتاب عليكم”2، وعن أبي عبيدة بن عبد الله، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “التائب من الذنب كمن لا ذنب له” 3، وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون” 4، وغيرها من الأحاديث الشريفة، فالنصوص الشرعية التي تحث على التوبة كثيرة جداً، إلا أنها غير مقبولة عند الله تعالى إلا حين تتوفر شروطها التي ذكرها العلماء استقراءً من نصوص كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن تلك الشروط:
1-
أن تكون التوبة خالصة لوجه الله تعالى، فلا يراد بها الدنيا أو مدح الناس وثناؤهم.
1 سورة النساء، الآية 17.
2 رواه ابن ماجه في سننه، كتاب الزهد، باب ذكر التوبة ح4248، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه 2/417 ح3426، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة ح 903، و1951
3 رواه ابن ماجه في سننه، كتاب الزهد، باب ذكر التوبة ح4250، وقال عنه الألباني:(حديث حسن) انظر صحيح سنن ابن ماجه 2/418 ح3427.
4 رواه ابن ماجه في سننه، كتاب الزهد، باب ذكر التوبة ح4251، وقال عنه الألباني:(حديث حسن) في صحيح سنن ابن ماجه 2/418 ح3428
2-
الإقلاع عن المعصية.
3-
الندم على فعلها.
4-
العزم على عدم العودة إليها.
5-
إرجاع الحقوق إلى أصحابها، إن كانت المعصية حقوقاً للآخرين.
6-
أن تكون قبل طلوع الشمس من مغربها، وقبل حضور الموت1.
والذي يعنينا من هذه الشروط في هذا المبحث هو أن التوبة لا بد أن تكون قبل حضور الموت2 لقوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً. وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} 3.
يقول الطبري: “ما التوبة على الله لأحد من خلقه إلا للذين يعملون السوء من المؤمنين بجهالة، ثم يتوبون من قريب، يقول: ما الله براجع لأحد من خلقه إلى ما يحبه من العفو عنه، والصفح عن ذنوبه التي سلفت منه إلا للذين يأتون ما يأتونه من ذنوبهم جهالة منهم وهم بربهم مؤمنون ثم يراجعون طاعة الله ويتوبون منه إلى ما أمرهم الله به من الندم عليه والاستغفار وترك العودة إلى مثله قبل نزول الموت بهم، وذلك هو القريب الذي ذكره الله تعالى ذكره، فقال {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ}
…
، تأويله يتوبون قبل مماتهم في الحال التي يفهمون فيها أمر الله تبارك وتعالى، ونهيه، وقبل أن يغلبوا على أنفسهم وعقولهم، وقبل حال اشتغالهم بكرب الحشرجة وغم الغرغرة، فلا يعرفوا أمر الله ونهيه، ولا يعقلوا التوبة؛ لأن التوبة لا تكون توبة إلا ممن ندم على ما سلف وعزم فيه على ترك المعاودة، وهو
1 انظر التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة 1/85.
2 انظر فتح الباري بشرح صحيح البخاري 11/487.
3 سورة النساء، الآية 17 وَ 18.
يعقل الندم، ويختار ترك المعاودة، وأما إذا كان بكرب الموت مشغولاً، وبغم الحشرجة مغموراً فلا أخاله إلا عن الندم على ذنوبه مغلوباً؛ ولذلك قال من قال: إن التوبة مقبولة ما لم يغرغر العبد بنفسه؛ فإن كان المرء في تلك الحال يعقل عقل الصحيح، ويفهم فهم العاقل الأديب فأحدث إنابة من ذنوبه، ورجعة من شروده عن ربه إلى طاعته كان إن شاء الله ممن دخل في وعد الله الذي وعد التائبين إليه من إجرامهم من قريب”1.
فهذه الآية تدل على قبول الله تعالى للتوبة قبل حضور الموت، أما إذا حضر موته وغرغرت روحه فليس توبته معتبرة حينئذ ولا مقبولة، قال ابن كثير في تفسيره للآيتين السابقتين: “يقول سبحانه وتعالى إنما يقبل الله التوبة ممن عمل السوء بجهالة ثم يتوب ولو بعد معاينة الملك يقبض روحه قبل الغرغرة..، فقد دلت الأحاديث على أن من تاب إلى الله عز وجل وهو يرجو الحياة فإن توبته مقبولة..، وأما متى وقع الإياس من الحياة، وعاين الملك، وخرجت الروح من الحلق، وضاق بها الصدر، وبلغت الحلقوم، وغرغرت النفس صاعدة من الغلاصم2، فلا توبة مقبولة حينئذ ولات حين مناص”3.
وهذا مثل قوله تعالى عن فرعون: {
…
حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ. آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} 4.
ففرعون كفر بالله تعالى وكذّب رسوله عليه الصلاة والسلام، وأساء إلى نفسه أيام حياته وفي صحته بتماديه في طغيانه ومعصية ربه، فلما حل به سخط
1 جامع البيان في تفسير القرآن 4/202، 205 وانظر ص206.
2 الغلاصم: جمع غلصمة وهي رأس الحلقوم، انظر لسان العرب 2/1005.
3 تفسير القرآن العظيم 1/439، 440.
4 سورة يونس، الآيتان 90 و91.
الله ونزل عليه عقابه، فزع إليه مستجيراً به من عذابه الواقع به، وناداه وقد علته أمواج البحر، وغشيته كرب الموت قائلاً:{آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} له المنقادين بالذلة والعبودية، فقال سبحانه وتعالى معرفاً فرعون قبح صنيعه في حياته:{آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} آلآن تقر بالعبودية وتستسلم له بالذلة وتخلص له الألوهية، وقد عصيته قبل نزول نقمته بك فأسخطته على نفسك، وكنت من الصادين عن سبيله، فهلا وأنت في مهل وباب التوبة لك منفتح أقررت بما أنت به الآن مقر1.
قال السعدي: “حتى إذا أدرك فرعون الغرق وجزم بهلاكه {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ} وهو الله الحق، الذي لا إله إلا هو {وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} أي: المنقادين لدين الله، ولما جاء به موسى، قال الله تعالى، مبيناً أن هذا الإيمان في هذه الحالة غير نافع له {آلْآنَ} تؤمن، وتقر برسول الله {وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ} أي: بارزت بالمعاصي والكفر والتكذيب {وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} فلا ينفعك الإيمان كما جرت عادة الله أن الكفار إذا وصلوا إلى هذه الحالة الاضطرارية أنه لا ينفعهم إيمانهم؛ لأن إيمانهم صار إيماناً مشاهداً كإيمان من ورد القيامة، والذي ينفع إنما هو الإيمان بالغيب”2.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “بل هذه التوبة لا تمنع إلا إذا عاين أمر الآخرة، كما قال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ الآية
…
وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب، وأما من تاب عند معاينة الموت فهذا كفرعون الذي قال: أنا الله فلما أدركه الغرق قال {قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} قال الله: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ
1 انظر جامع البيان في تفسير القرآن 11/113.
2 تيسير الكريم الرحمن في تفيسر كلام المنان ص328، 329.
قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} وهذا استفهام إنكار بين به أن هذه التوبة ليست هي التوبة المقبولة المأمور بها
…
ومثله قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ. فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ. فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} 1 الآية، بين أن التوبة بعد رؤية البأس لا تنفع، وأن هذه سنة الله التي قد خلت في عباده كفرعون وغيره”2.
وقبول التوبة قبل حضور الموت؛ لأن الرجاء باق ويصح الندم والعزم على ترك الفعل، قال القرطبي: “قال علماؤنا رحمهم الله وإنما صحت منه التوبة في هذا الوقت؛ لأن الرجاء باق ويصح الندم والعزم على ترك الفعل، وقيل: المعنى يتوبون على قرب عهد من الذنب من غير إصرار، والمبادرة في الصحة أفضل وألحق لأمله في العمل الصالح والبعد كل البعد عن الموت، وأما ما كان قبل الموت فهو قريب”3.
وقد أخبر الله تعالى عن الأمم المكذبة بالرسل في قديم الدهر بأنهم لما رأوا وقوع عذاب الله بهم وحّدوا الله عز وجل وكفروا بالطاغوت فلم يقبل الله منهم توبتهم، قال تعالى:{فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ. فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} 4، فهذا حكم الله في جميع من تاب عند معاينة العذاب أنه لا يقبل، وهذه سنة الله وعادته أن المكذبين حين ينْزل بهم بأس الله وعقابه إذا آمنوا كان إيمانهم غير صحيح ولا مقبولاً؛ لأنه إيمان ضرورة قد اضطروا إليه، وإيمان
1 سورة غافر، الآيات 83- 85.
2 مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية 18/190، 191.
3 التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة 1/85.
4 سورة غافر، الآيتان 84 وَ 85.
مشاهدة، وإنما الإيمان المقبول المنجي هو الإيمان الاختياري، الذي يكون إيماناً بالغيب، وذلك قبل وجود قرائن العذاب1.
يقول الطبري: “لم يك ينفعهم تصديقهم في الدنيا بتوحيد الله عند معاينة عقابه قد نزل، وعذابه قد حل؛ لأنهم صدقوا حين لا ينفع التصديق مصدقا؛ إذ كان قد مضى حكم الله في السابق من علمه أن من تاب بعد نزول العذاب من الله على تكذيبه لم تنفعه توبته”2.
ويشهد لهذا الشرط المهم من شروط قبول التوبة ما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال”إن الله عز وجل ليقبل توبة العبد ما لم يغرغر”3، أي فإذا غرغر وبلغت الروح الحنجرة، وعاين الملك فلا توبة حينئذ4.
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} 5، قال بعض العلماء بأن المراد: إذا أخروا التوبة إلى حضور الموت فتابوا حينئذ، فلن تقبل توبتهم، فيكون مثل قوله تعالى في الآية السابقة:{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} ، وتقرر في الأصول حمل المطلق على المقيد، ولا سيما إذا اتحد الحكم والسبب كما هنا6.
وروى الطبري ت310? بسنده عن الحسن البصري ت110? قوله في
1 انظر تفسير القرآن العظيم 4/91، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص690
2 جامع البيان في تفسير القرآن 24/58.
3 رواه ابن ماجه في سننه، كتاب الزهد، باب ذكر التوبة، ح4253، وقال الألباني عنه (حسن) انظر صحيح سنن ابن ماجه 2/418ح 3430.
4 انظر تفسير القرآن العظيم 4/91.
5 سورة آل عمران، الآية 90.
6 انظر أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن 1/343.
هذه الآية هم اليهود والنصارى لن تقبل توبتهم عند الموت1.
وقال ابن تيمية: “قال الأكثرون
…
لن تقبل توبتهم حين يحضرهم الموت
…
، قلت: وذلك لأن التائب راجع عن الكفر، ومن لم يتب فإنه مستمر يزداد كفراً بعد كفر، فقوله {ثُمَّ ازْدَادُوا} بمنْزلة قول القائل: ثم أصروا على الكفر، واستمروا على الكفر، وداموا على الكفر، فهم كفروا بعد إسلامهم، ثم زاد كفرهم ما نقص، فهؤلاء لا تقبل توبتهم، وهي التوبة عند حضور الموت؛ لأن من تاب قبل حضور الموت فقد تاب من قريب، ورجع عن كفره، فلم يزدد بل نقص، بخلاف المصر إلى حين المعاينة، فما بقي له زمان يقع لنقص كفره فضلاً عن هدمه”2.
أما ما ثبت “أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل ـ فقال: أي عم، قل: لا إله إلا الله كلمةًَ أحاجُّ لك بها عند الله”3 الحديث، فقد قال ابن حجر بأنه صلى الله عليه وسلم لقن عمه الشهادة قبل أن يدخل في الغرغرة، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم (أحاج لك بها عند الله) كأنه عليه الصلاة والسلام فهم من امتناع أبي طالب من الشهادة في تلك الحالة أنه ظن أن ذلك لا ينفعه؛ لوقوعه عند الموت؛ أو لكونه لم يتمكن من سائر الأعمال الصالحة كالصلاة وغيرها، فلذلك ذكر له المحاججة، وأما لفظ (الشهادة) فيحتمل أنه يكون ظن أن ذلك لا ينفعه إذ لم يحضر حينئذ أحد من المؤمنين مع النبي صلى الله عليه وسلم فطيب قلبه بأن يشهد له بها فينفعه، وهذا يدل على “أن التوبة مقبولة ولو في شدة مرض الموت حتى يصل إلى المعاينة فلا يقبل”4، كما يدل هذا الحديث على أن الكافر إذا شهد شهادة الحق
1 انظر جامع البيان في تفسير القرآن 3/243.
2 مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية 16/29.
3 رواه البخاري في صحيحه، كتاب مناقب الأنصار، باب قصة أبي طالب ح3884.
4 فتح الباري شرح صحيح البخاري 7/195، 196 وانظر ما ذكره ابن بطال في شرح صحيح البخاري 3/344.
قبل المعاينة وتحقق الموت نجا من العذاب؛ لأن الإسلام يجب ما قبله1.
ونقل ابن حجر عن الكرماني قوله بأن عرض الرسول صلى الله عليه وسلم الشهادة على عمه كان عند حضور علامات الوفاة، “وإلا فلو كان انتهى إلى المعاينة لم ينفعه الإيمان لو آمن، ويدل على الأول ما وقع من المراجعة بينه وبينهم”، ثم قال ابن حجر: “ويحتمل أن يكون انتهى إلى تلك الحالة، لكن رجا النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا أقر بالتوحيد، ولو في تلك الحالة أن ذلك ينفعه بخصوصه، وتسوغ شفاعته صلى الله عليه وسلم لمكانه منه، ولهذا قال”أجادل لك بها وأشفع لك)
…
، ويؤيد الخصوصية أنه بعد أن امتنع من الإقرار بالتوحيد، وقال (هو على ملة عبد المطلب) ومات على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك الشفاعة له، بل شفع له حتى خفف عنه العذاب بالنسبة لغيره، وكان ذلك من الخصائص في حقه”2، يشير في هذا إلى ما ثبت أن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: “ما أغنيت عن عمّك؛ فإنه كان يحوطك ويغضب لك” قال صلى الله عليه وسلم “هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار” 3.
وقال ابن بطال ت449?: “فإن قال قائل: فأي محاجة يحتاج إليها من وافى ربه بما يدخله به الجنة؟ فالجوا ب: أنه يحتمل وجوهاً من التأويل:
أحدها: أن يكون ظن عليه السلام أن عمه اعتقد أن من آمن في مثل حاله لا ينفعه إيمانه؛ إذ لم يقارنه عمل سواه من صلاة وصيام وزكاة وحج وشرائط الإسلام كلها، فأعلمه عليه السلام أن من قال: لا إله إلا الله عند موته أنه يدخل في جملة المؤمنين، وإن تعرى من عمل سواها.
ويحتمل وجهاً آخر: وهو أن يكون أبو طالب قد عاين أمر الآخرة، وأيقن
1 انظر المصدر السابق ص196.
2 المصدر السابق 8/506، 507.
3 رواه البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب قصة أبي طالب ح3883.
بالموت، وصار في حالة من لا ينتفع بالإيمان لو آمن، وهو الوقت الذي قال فيه: هو على ملة عبد المطلب، عند خروج نفسه، فرجا له عليه السلام إن قال: لا إله إلا الله، وأيقن بنبوته أن يشفع له بذلك، ويحاج له عند الله في أن يتجاوز عنه، ويتقبل منه إيمانه في تلك الحال، ويكون ذلك خاصاً لأبي طالب وحده؛ لمكانه من الحماية والمدافعة عن النبي عليه السلام
…
ويحتمل وجهاً آخر: وهو أن أبا طالب كان ممن عاين براهين النبي عليه السلام وصدق معجزاته، ولم يشك في صحة نبوته، وإن كان ممن حملته الأنفة وحمية الجاهلية على تكذيب النبي
…
، فاستحق أبو طالب ونظراؤه على ذلك من عظيم الوزر وكبير الإثم أن باؤوا بإثمهم على تكذيب النبي عليه السلام، فرجا له عليه السلام المحاجة بكلمة الإخلاص عند الله، حتى يسقط عنه إثم العناد والتكذيب لما قد تبين حقيقته وإثم من اقتدى به في ذلك، وإن كان الإسلام يهدم ما قبله لكن آنسه بقوله: “أحاج لك بها عند الله” لئلا يتردد في الإيمان، ولا يتوقف عليه؛ لتماديه على خلاف ما تبين حقيقته، وتورطه في أنه كان مضلاًَ لغيره.
وقيل: إن قوله”أحاج لك بها عند الله" كقوله”أشهد لك بها عند الله"، لأن الشهادة المرجحة له في طلب حقه؛ ولذلك ذكر البخاري هذا الحديث في هذا الباب بلفظ (الشهادة”1 لأنه أقرب للتأويل، وذكر قوله”أحاج لك بها عند الله) في قصة أبي طالب في كتاب مبعث النبي عليه السلام، لاحتمالها التأويل”2.
ونص بعض أهل العلم على أن الخبر الذي فيه حضور أبي طالب الوفاة مطابق لقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ} ، وبالتالي فإن الأوضح أن يقال بأن ذلك خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم مع أبي طالب، واستدل من قال بهذا القول بأمرين:
1 أي في باب إذا قال المشرك عند الموت: لا إله إلا الله، من كتاب الجنائز.
2 شرح صحيح البخاري 3/344- 346.
الأول: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال”كلمة أحاج لك بها عند الله"، ولم يجزم بنفعها له، ولم يقل: تخرجك من النار.
الثاني: أنه سبحانه أذن للنبي صلى الله عليه وسلم بالشفاعة لعمه مع كفره، وهذا لا يستقيم إلا له، والشفاعة له ليخفف عنه العذاب1.
هذه أقوال بعض أهل العلم في قصة أبي طالب، ولعل الأقرب أن تكون خاصة به، وعلى كل الأحوال فإن مما لا خلاف فيه أن الذين يعملون السيئات من أهل الإصرار على المعاصي حتى إذا حضر أحدهم الموت، وحشرج بنفسه، وعاين الملائكة قد أقبلوا عليه لقبض روحه، وقد غلب على نفسه، وحيل بينه وبين فهمه بشغله بكرب حشرجته وغرغرته قال:{إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} فليس لهذا عند الله تبارك وتعالى توبة؛ لأنه قال ما قال في غير حال توبة2.
فإن قيل: هل تصح توبة من حكم عليه بالقتل، أو حضر في مكان يحترق أو كان في طائرة حدث فيها خلل وبدأت تهوي إلى الأرض، ونحو هذه الحالات.
فإنه يقال: نعم تصح توبة هؤلاء؛ لأنهم ربما ينجون من الموت، فمن هوت به الطائرة، أو كان في بيت يحترق، فربما ينجو، وكذلك من حكم عليه بالقتل فربما يرفع القتل عنه3.
1 انظر القول المفيد على كتاب التوحيد 1/354.
2 انظر جامع البيان في تفسير القرآن 4/205، 206.
3 انظر فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين 2/990.