المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث السادس: حضور الشيطان حين الاحتضار - أحوال المحتضر

[محمد عبد العزيز أحمد العلي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌التمهيد

- ‌ تعريف الاحتضار

- ‌الموت حق لازم لكل مخلوق:

- ‌المبحث الأول: سكرات الموت وغمراته

- ‌المطلب الأول: تعريف السكرات والغمرات

- ‌المطلب الثاني:الأدلة من الكتاب والسنة على سكرات الموت

- ‌المطلب الثالث: سكرات الموت تحصل لكل المخلوقات

- ‌المبحث الثاني: وصف حال توفي الملائكة الكفار

- ‌المبحت الثالث: حضور الملائكة مع ملك الموت وتبشيرهم المحتضر

- ‌المطلب الأول: مع ملك الموت ملائكة يعاونونه في قبض الروح بأمر الله تعالى

- ‌المطلب الثاني: بشارة الملائكة المؤمن برضوان الله وفرحه بذلك

- ‌المطلب الثالث: بشارة الملائكة الكافر بالعذاب

- ‌المبحث الرابع: انقطاع التوبة بحضور الموت

- ‌المبحث الخامس: سؤال الرجعة إلى الدنيا عند الاحتضار

- ‌المبحث السادس: حضور الشيطان حين الاحتضار

- ‌المبحث الثامن: وجوب إحسان الظن بالله تعالى وبخاصة عند الموت

- ‌المبحث التااسع: تخيير الأنبياء عند الموت

- ‌المبحث العاشر: الأعمال بالخواتيم

- ‌المطلب الأول: الأدلة على أن الأعمال بالخواتيم

- ‌المطلب الثاني: حسن الخاتمة وأبرز علاماتها

- ‌المطلب الثالث: سوؤ الخاتمة وأبرز أسبابها

- ‌الخاتمة

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌المبحث السادس: حضور الشيطان حين الاحتضار

‌المبحث السادس: حضور الشيطان حين الاحتضار

روى مسلم في صحيحه بسنده عن جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ”إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه حتى يحضره عند طعامه، فإذا سقطت من أحدكم اللقمة فليمط ما كان بها من أذى ثم ليأكلها ولا يدعها للشيطان فإذا فرغ فليلعق أصابعه فإنه لا يدري في أي طعامه تكون البركة” 1.

فقوله صلى الله عليه وسلم في أول هذا الحديث ”إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه" فيه تحذير للعباد من الشيطان، وتنبيه على ملازمته للإنسان في تصرفاته وجميع أحواله؛ ليتأهبوا ويحترزوا منه، ولا يغتروا بما يزينه لهم2.

وقد استدل بعض العلماء بهذا الحديث على حضور الشيطان عند المحتضر؛ لإغوائه وافتتانه، كما استدلوا أيضاً بما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال ”كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال” 3.

قال ابن دقيق العيد ت 702هـ: “فتنة المحيا ما يعرض للإنسان مدة حياته من الافتتان بالدنيا والشهوات والجهالات، وأعظمها والعياذ بالله أمر الخاتمة عند الموت، وفتنة الممات يجوز أن يراد بها الفتنة عند الموت، أضيفت إليه لقربها منه، ويكون المراد بفتنة المحيا على هذا ما قبل ذلك، ويجوز

1 رواه مسلم، كتاب الأشربة، باب استحباب لعق الأصابع والقصعة وأكل اللقمة الساقطة ح2033.

2 انظر صحيح مسلم بشرح النووي 13/205- 206.

3 رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب التعوذ من عذاب القبر ح1377.

ص: 119

أن يراد بها فتنة القبر”1.

كما قد استدل شيخ الإسلام ابن تيمية بحديث الاستعاذة من فتنة المحيا والممات على حضور الشيطان عند المحتضر لإغوائه، وأنه قد يعرض الأديان على بعض العباد، حيث قال رحمه الله: “أما عرض الأديان على العبد وقت الموت فليس هو أمراً عاماً لكل أحد، ولا هو أيضاً منتفياً عن كل أحد، بل من الناس من تعرض عليه الأديان قبل موته، ومنهم من لا تعرض عليه، وقد وقع ذلك لأقوام، وهذا كله من فتنة المحيا والممات التي أمرنا أن نستعيذ منها في صلاتنا، منها ما في الحديث الصحيح "أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نستعيذ في صلاتنا من أربع من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال” 2، ولكن وقت الموت أحرص ما يكون الشيطان على إغواء بني آدم؛ لأنه وقت الحاجة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ”الأعمال بخواتيمها” 3 وقال صلى الله عليه وسلم “إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن العبد ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها” 4

، ولهذا يقال: إن من لم يحج يخاف عليه من ذلك، لما روى أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ”من ملك زاداً أو راحلة تبلغه إلى بيت الله الحرام ولم يحج، فليمت إن شاء يهودياً، وإن شاء

1 نقلاً عن فتح الباري شرح صحيح البخاري 2/319.

2 سبق تخريجه في ص: 119.

3 رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب الأعمال بالخواتيم، وما يخاف منها، ح6493.

4 رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب قوله تعالى {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} ح7454.

ص: 120

نصرانياً” 1

2.

وقال في موضع آخر: “وأما عرض الأديان وقت الموت فيبتلى به بعض الناس دون بعض

3.

وذكر ابن حجر أن الأكثر والأغلب في سوء الخاتمة أنه لا يقع إلا لمن في طويته فساد أو ارتياب، ويكثر وقوعه للمصرّ على الكبائر والمجترئ على العظائم، إذ يهجم عليه الموت بغته فيصطلمه4 الشيطان عند تلك الصدمة، فيكون ذلك سبباً لسوء خاتمته5.

ويدل على حضور الشيطان عند المحتضر قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ. وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} 6، فالمعنى: أعوذ بك أن يحضرني الشيطان في أمرٍ من أموري كائناً ما كان، سواء كان ذلك وقت تلاوة القرآن، أو عند حضور الموت، أو غير ذلك من جميع الشؤون في جميع الأوقات7.

وتحدث أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن مفلح المقدسي عن حضور الشيطان عند المحتضر تحت عنوان (الفصل الثاني والعشرون في اجتهاد الشيطان على المؤمن عند الموت)، واستشهد بما رواه النسائي وأبو داود بسنديهما عن أبي اليسر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ”اللهم إني أعوذ بك من التردّي،

1 رواه الترمذي في سننه، كتاب الحج، باب ما جاء في التغليظ في ترك الحج ح812، وقال عنه الألباني:(ضعيف) ، انظر ضعيف سنن الترمذي ص88.

2 مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية 4/255، 256.

3 المصدر السابق 14/202.

4 الاصطلام: الاستئصال والهلاك والقطع، انظر لسان العرب 2/469.

5 انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري 11/489، 490.

6 سورة (المؤمنون) ، الآيتان 97 وَ 98.

7 انظر أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن 5/819.

ص: 121

والهدم، والغرق، والحريق، وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت، وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبراً، وأعوذ بك أن أموت لديغاً” 1.

فقوله صلى الله عليه وسلم “وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت"، قال الخطابي ت388هـ في شرحه: “هو أن يستولي عليه عند مفارقة الدنيا، فيضله، ويحول بينه وبين التوبة أو يعوقه عن إصلاح شأنه والخروج من مظلمة تكون قبله، أو يؤيسه من رحمة الله، أو يكره له الموت ويؤسفه على حياة الدنيا، فلا يرضى بما قضاه الله عليه من الفناء والنقلة إلى الدار الآخرة، فيختم له، ويلقى الله وهو ساخط عليه”2.

ويقول ابن الجوزي ت597هـ: “وقد يتعرض إبليس للمريض فيؤذيه في دينه ودنياه، وقد يستولي على الإنسان فيضله في اعتقاده، وربما حال بينه وبين التوبة

وربما جاء الاعتراض على المقدر؛ فينبغي للمؤمن أن يعلم أن تلك الساعة هي مصدرية للحرب، وحين يحمى الوطيس فينبغي أن يتجلد، ويستعين بالله على العدو”3.

وقد رُوي عن عبد الله بن أحمد بن حنبل أنه قال: حضرت وفاة أبي أحمد، وبيدي الخرقة لأشد لحييه، فكان يغرق ثم يفيق، ويقول بيده: لا بعد، لا بعد، فعل هذا مراراً فقلت له يا أبت أي شيء ما يبدو منك؟ فقال: إن الشيطان قائم بحذائي عاض على أنامله يقول: يا أحمد فتني، وأنا أقول: لا بعد، لا بعد،

1 رواه النسائي، كتاب الاستعاذة، باب الاستعاذة من التردي والهدم ح5546، ورواه أبو داود في سننه، كتاب الصلاة، باب في الاستعاذة ح1552، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي 3/483 ح5546 وَ 5547 وَ 5548.

2 معالم السنن، شرح على سنن أبي داود 2/194.

3 الثبات عند الممات ص41، 42.

ص: 122

حتى أموت1.

وقال القرطبي: “سمعت شيخنا الإمام أبا العباس أحمد بن عمر القرطبي بثغر الإسكندرية يقول: حضرت أخا شيخنا أبي جعفر أحمد بن محمد بن محمد القرطبي بقرطبة وقد احتُضر، فقيل له: قل: لا إله إلا الله، فكان يقول: لا، لا، فلما أفاق ذكرنا له ذلك فقال: أتاني شيطانان، عن يميني وعن شمالي، يقول أحدهما: مت يهودياً فإنه خير الأديان، والآخر يقول: مت نصرانياً فإنه خير الأديان، فكنت أقول لهما: لا، لا2.

وقد روي أن الشيطان لا يكون في حال أشد على ابن آدم منه في حال الموت، وهو يقول لأعوانه دونكم هذا فإن فاتكم اليوم لم تلحقوه”3

1 انظر سير أعلام النباء 11/341.

2 التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة 1/68.

3 انظر معالم السنن حاشية على سنن أبي داود 2/194، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية 4/250.

ص: 123

المبحث السابع: مشروعية تلقين المحتضر: لا إله إلا الله، وقول الخير عنده

يشرع تلقين المحتضر لا إله إلا الله، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “لقنوا موتاكم لا إله إلا الله” 1.

قال النووي: “معناه من حضره الموت، والمراد: ذكروه لا إله إلا الله؛ لتكون آخر كلامه

، والأمر بهذا التلقين أمر ندب، وأجمع العلماء على هذا التلقين”2.

وقال القرطبي: “أي قولوا ذلك، وذكروهم به عند الموت، وسماهم موتى؛ لأن الموت قد حضرهم”3.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “تلقين الميت سنة مأمور بها”4.

وروى معاذ بن جبل رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة”5، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “لقنوا موتاكم لا إله إلا الله؛ فإنه من كان آخر كلامه لا إله إلا الله عند الموت دخل الجنة يوماً من الدهر، وإن أصابه قبل ذلك ما أصابه” 6، وقال صلى الله عليه وسلم “خير العمل أن تفارق الدنيا ولسانك رطب من ذكر الله” 7.

1 رواه مسلم، كتاب الجنائز، باب تلقين الموتى لا إله إلا الله ح916.

2 صحيح مسلم بشرح النووي 6/219.

3 التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة 1/61.

4 مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية 24/297.

5 رواه أبو داود في سننه، كتاب الجنائز، باب في التلقين ح3116، وحسنه الألباني في إرواء الغليل 3/149 ح687.

6 رواه ابن حبان في صحيحه 719، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير 2/916ح 1652.

7 رواه أحمد في مسنده 4/190، وأبو نعيم في الحلية 6/111، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 4/451ح 1836.

ص: 124

وقد ذكر النووي كراهة العلماء للإكثار على المحتضر بالتلقين والموالاة، لئلا يضجر بضيق حاله وشدة كربه؛ فيكره ذلك أو يتكلم بما لا يليق؛ ولهذا قالوا إذا نطق بالشهادة مرة لا يكرر عليه إلا أن يتكلم بعده بكلام آخر، فيعاد التعريض به؛ ليكون آخر كلامه1.

وقال الترمذي ت279هـ: “وقد كان يستحب أن يلقن المريض عند موته قول: لا إله إلا الله، وقال بعض أهل العلم: إذا قال ذلك مرة فما لم يتكلّم بعد ذلك فلا ينبغي أن يلقن، ولا يكثر عليه هذا، وروى عن ابن المبارك أنه لما حضرته الوفاة جعل رجل يلقنه لا إله إلا الله، وأكثر عليه، فقال عبد الله: إذا قلت مرة فأنا على ذلك ما لم أتكلم بكلام، وإنما معنى قول عبد الله إنما أراد ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم “من كان آخر قوله: لا إله إلا الله دخل الجنة)

2.

وقال القرطبي: “قال علماؤنا: تلقين الموتى هذه الكلمة سنة مأثورة عمل بها المسلمون؛ وذلك ليكون آخر كلامهم لا إله إلا الله فيختم له بالسعادة، وليدخل في عموم قوله عليه السلام "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة"

، ولينبه المحتضر على ما يدفع به الشيطان؛ فإنه يتعرض للمحتضر ليفسد عليه عقيدته، فإذا تلقنها المحتضر وقالها مرة واحدة فلا تعاد عليه لئلا يضجر، وقد كره أهل العلم الإكثار من التلقين، والإلحاح عليه إذا هو تلقنها أو فهم ذلك عنه”3؛ لأنه قد يتبرم من الإلحاح والإعادة، فيثقلها الشيطان عليه، فيكون سبباً لسوء الخاتمة4.

1 انظر صحيح مسلم بشرح النووي 6/219، وشرح السنة 5/296.

2 سنن الترمذي 3/307، 308، وانظر صحيح سنن الترمذي 1/502.

3 التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة 1/62.

4 انظر المصدر السابق، الصفحة نفسها. وانظر ما قاله أبو حامد الغزالي ت505هـ، في كتاب الموت ص78.

ص: 125

وقد ذكر بعض أهل العلم أن المراد بتلقين المحتضر الشهادة: ذكرها عنده وتسميعها إياه، دون أمره بقولها1، والحق أن ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم “لقنوا موتاكم لا إله إلا الله" يدل على أن المراد أمره بأن يقولها، لا مجرد ذكر الشهادة عنده وتسميعها إياه، كما يشهد لذلك ما رواه أنس رضي الله عنه ”أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلاً من الأنصار فقال: يا خال، "قل: لا إله إلا الله"، فقال: أخال أم عم؟ فقال: بل خال، فقال: فخير لي أن أقول: لا إله إلا الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم” 2.

قال القرطبي: “لا بد من تلقين الميت، وتذكيره الشهادة، وإن كان على غاية من التيقظ”3، وقال ابن عثيمين ت 1421هـ: “أهل العلم قالوا: يسن تلقين المحتضر لا إله إلا الله، لكن بدون قول قل؛ لأنه ربما مع الضجر يقول: لا؛ لضيق صدره مع نزول الموت، أو يكره هذه الكلمة أو معناها، وفي هذا الحديث [أي في قصة تلقين الرسول صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب] قال”قل، والجواب: أن أبا طالب كان كافراً فإذا قيل له: قل، وأبى فهو باق على كفره، لم يضره التلقين بهذا؛ فإما أن يبقى على كفره ولا ضرر عليه بهذا التلقين، وإما أن يهديه الله، بخلاف المسلم، فهو على خطر؛ لأنه ربما يضره التلقين على هذا الوجه”4.

وقد يرد إشكال عدم ذكر مشروعية تلقين المحتضر شهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجواب على ذلك ما ذكره ابن حجر بقوله:

“والمراد بقول لا إله إلا الله في هذا الحديث وغيره كلمتا الشهادة، فلا يرد إشكال ترك ذكر الرسالة”، ثم نقل قول ابن المنير: “قول لا إله إلا الله لقب

1 أشار إليه السندي ت911هـ في حاشيته على سنن النسائي 3/5، والسهارنفوري ت1346هـ في بذل المجهود في حل أبي داود 14/79، 80، وغيرهم.

2 رواه الإمام أحمد 3/152، 154، 268 بإسناد صحيح على شرط مسلم.

3 التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة 1/64.

4 القول المفيد على كتاب التوحيد 1/355.

ص: 126

جرى على النطق بالشهادتين شرعاً”1.

وقد روى ابن ماجة بسنده عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “ما من نفس تموت وهي تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، يرجع ذلك إلى قلب مؤمن إلا غفر الله لها” 2.

ويشهد له ما رواه الإمام أحمد بسنده عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، صادقاً من قلبه دخل الجنة” 3.

وما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد، غير شاك فيهما إلا دخل الجنة” 4.

فدلت هذه النصوص على أن تلقين المحتضر: لا إله إلا الله، ونطقه بها متضمن لإيمانه بأن محمداً رسول الله.

قال ابن القيم: “لشهادة أن لا إله إلا الله عند الموت تأثير عظيم في تكفير السيئات وإحباطها؛ لأنها شهادة من عبد موقن بها، عارف بمضمونها، قد ماتت منه الشهوات، ولانت نفسه المتمردة، وانقادت بعد إبائها واستعصائها، وأقلبت بعد إعراضها، وذلت بعد عزّها، وخرج منها حرصها على الدنيا وفضولها،

1 فتح الباري شرح صحيح البخاري 3/110 وانظر 7/196.

2 رواه ابن ماجه في سننه، كتاب الأدب، باب فضل لا إله إلا الله ح3796 وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه 2/318 ح3063، وسلسلة الأحاديث الصحيحة 5/347 ح2278.

3 رواه الإمام أحمد في مسنده 5/229 وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة

5/348 تحت حديث رقم 2278.

4 رواه مسلم في كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً ح27.

ص: 127

واستخذت بين يدي ربها وفاطرها ومولاها الحق أذل ما كانت له وأرجى ما كانت لعفوه ومغفرته ورحمته، وتجرد منها التوحيد بانقطاع أسباب الشرك وتحقق بطلانه، فزالت منها تلك المنازعات التي كانت مشغولة بها، واجتمع همها على من أيقنت بالقدوم عليه والمصير إليه، فوجه العبد وجهه بكليته إليه، وأقبل بقلبه وروحه وهمه عليه فاستسلم وحده ظاهراً وباطناً، واستوى سره وعلانيته فقال لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه، وقد تخلص قلبه من التعلق بغيره والالتفات إلى ما سواه، قد خرجت الدنيا كلها من قلبه وشارف القدوم على ربه وخمدت نيران شهوته وامتلأ قلبه من الآخرة فصارت نصب عينيه وصارت الدنيا وراء ظهره فكانت تلك الشهادة الخالصة خاتمة عمله فطهرته من ذنوبه وأدخلته على ربه؛ لأنه لقي ربه بشهادة صادقة خالصة، وافق ظاهرها باطنها وسرها علانيتها، فلو حصلت له الشهادة على هذا الوجه في أيام الصحة لاستوحش من الدنيا وأهلها وفرّ إلى الله من الناس، وأنس به دون ما سواه لكنه شهد بها بقلب مشحون بالشهوات وحب الحياة وأسبابها ونفس مملوءة بطلب الحظوظ والالتفات إلى غير الله، فلو تجردت كتجردها عند الموت لكان لها نبأ آخر وعيش آخر سوى عيشها البهيمي”1.

فإن قيل: هل يُعرض الإسلام على الصبي والكافر؟

فيقال: عنون البخاري ت256هـ بهذا العنوان (هل يُعرض على الصبي الإسلام) للباب التاسع والسبعين من كتاب الجنائز، كما عنون بـ (كيف يعرض الإسلام على الصبي) للباب الثامن والسبعين بعد المائة من كتاب الجهاد، ثم أورد فيهما ما رواه بسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابن صياد2، وقد قارب الحلم ”أتشهد أني

1 الفوائد ص55، 56.

2 هو صافي بن صياد، كان أبوه يهودياً، واشتهر عن صافي التكهن وهو صغير؛ فجاءه الرسول صلى الله عليه وسلم ليختبره: انظر تجريد أسماء الصحابة 1/319 وفتح الباري 3/220.

ص: 128

سول الله” 1.

وأورد في كتاب الجنائز ما رواه بسنده عن أنس رضي الله عنه قال: “كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له:"أسلم"، فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، فأسلَمَ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار”2، وفي رواية “الحمد الله الذي أنقذه بي من النار” 3.

قال ابن حجر: “وفي الحديث جواز استخدام المشرك، وعيادته إذا مرض، وفيه حسن العهد، واستخدام الصغير، وعرض الإسلام على الصبي، ولولا صحّته منه ما عرضه عليه، وفي قوله (أنقذه بي من النار) دلالة على أنه صح إسلامه”4.

كما دل الحديث على جواز حضور المسلم وفاة الكافر؛ ليعرض الإسلام عليه، رجاء أن يسلم5.

وعلى من يحضر المحتضر ألا يقول إلا خيراً، فعن أم سلمة رضي الله عنها، قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا حضرتم المريض أو الميت فقولوا خيراً؛ فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون..” 6 الحديث.

1 رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب: إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه، وهل يعرض على الصبي الإسلام ح1354، وكتاب الجهاد، باب كيف يعرض الإسلام على الصبي ح3055.

2 رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه، وهل يعرض على الصبي الإسلام ح1356.

3 في سنن أبي داود، كتاب الجنائز، باب في عيادة الذمي، ح3095.

4 فتح الباري شرح صحيح البخاري 3/221 وانظر 6/172، وانظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية 18/191.

5 انظر أحكام الجنائز ص12.

6 رواه مسلم، كتاب الجنائز، باب ما يقال عند المريض والميت ح919.

ص: 129

قال النووي في شرحه هذا الحديث: “فيه الندب إلى قول الخير حينئذ من الدعاء والاستغفار له، وطلب اللّطف به، والتخفيف عنه، ونحوه، وفيه حضور الملائكة حينئذ وتأمينهم”1.

وعنها رضي الله عنها قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة، وقد شق بصره، فأغمضه، ثم قال ”إن الروح إذا قبض تبعه البصر” فضج ناس من أهله، فقال ”لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون”، ثم قال ”اللهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وافسح له في قبره، ونور له فيه” 2، قال النووي في هذا الحديث: “دليل على استحباب إغماض الميت، وأجمع المسلمون على ذلك، قالوا والحكمة فيه ألا يقبح بمنظره لو ترك إغماضه

وفيه استحباب الدعاء للميت عند موته ولأهله وذريته بأمور الآخرة والدنيا”3.

وقال القرطبي: “قال علماؤنا: قوله عليه السلام ”إذا حضرتم المريض أو الميت فقولوا خيراً" أمر ندب وتعليم بما يقال عند المريض أو الميت، وإخبار بتأمين الملائكة على دعاء من هناك؛ ولهذا استحب العلماء أن يحضر الميت الصالحون، وأهل الخير حالة موته ليذكروه، ويدعوا له ولمن يخلفه ويقولوا خيراً فيجتمع دعاؤهم وتأمين الملائكة فينتفع بذلك الميت ومن يصاب به ومن يخلفه”4.

1 صحيح مسلم بشرح النووي 6/222.

2 رواه مسلم، كتاب الجنائز، باب في إغماض الميت والدعاء له إذا حُضر ح920.

3 صحيح مسلم بشرح النووي 6/223.

4 التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة 1/65، 66.

ص: 130