الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثامن: وجوب إحسان الظن بالله تعالى وبخاصة عند الموت
يجب على المسلم أن يحسن ظنه بربه سبحانه وتعالى في جميع أحواله، ويتأكد ذلك عند الموت.
روى جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاثة أيام يقول: “لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله” 1.
قال أبو سليمان الخطابي: “إنما يحسن بالله الظن من حسن عمله، فكأنه قال: أحسنوا أعمالكم يحسن ظنكم بالله، فإن من ساء عمله ساء ظنه، وقد يكون أيضاً حسن الظن بالله من ناحية الرجاء، وتأميل العفو، والله جواد كريم”2.
وقال النووي: “قال العلماء: هذا تحذير من القنوط، وحث على الرجاء عند الخاتمة..، قال العلماء معنى حسن الظن بالله تعالى: أن يظن أنه يرحمه، ويعفو عنه، قالوا: وفي حالة الصحة يكون خائفاً راجياً، ويكونان سواء، وقيل يكون الخوف أرجح؛ فإذا دنت أمارات الموت غلب الرجاء، أو محضه؛ لأن مقصود الخوف: الانكفاف عن المعاصي والقبائح، والحرص على الإكثار من الطاعات والأعمال، وقد تعذر ذلك أو معظمه في هذه الحال، فاستحب إحسان الظن، المتضمن للافتقار إلى الله تعالى، والإذعان له، ويؤيده الحديث المذكور بعده “يبعث كل عبد على ما مات عليه” 3؛ ولهذا عقبه مسلم للحديث الأول، قال
1 رواه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت ح2877.
2 معالم السنن، شرح على سنن أبي داود 3/484، شرح حديث 3113.
3 رواه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت ح2878.
العلماء: معناه يبعث على الحالة التي مات عليها، ومثله الحديث الآخر بعده”1 يشير إلى قوله صلى الله عليه وسلم “إذا أراد الله بقوم عذاباً أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على أعمالهم” 2.
وروى البغوي في باب حسن الظن بالله تعالى، من كتاب الجنائز عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت فقال ”كيف تجدك؟ " فقال: والله يا رسول الله، إني لأرجو الله، وإني أخاف ذنوبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن، إلا أعطاه الله ما يرجو، وآمنه مما يخاف” 3.
وروى البغوي عن ابن عباس أنه قال: “إذا رأيتم الرجل بالموت فبشروه؛ ليلقى ربه وهو حسن الظن به، وإذا كان حياً، فخوّفوه بربه عز وجل”4.
وقال القرطبي: “حسن الظن بالله تعالى ينبغي أن يكون أغلب على العبد عند الموت منه في حال الصحة، وهو أن الله تعالى يرحمه، ويتجاوز عنه، ويغفر له، وينبغي لجلسائه أن يذكروه بذلك حتى يدخل في قوله تعالى ”أنا عند ظن عبدي بي” 5
…
”6، وفي حديث آخر ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال “إن الله تعالى
1 صحيح مسلم بشرح النووي 16/210.
2 رواه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت ح2879.
3 شرح السنة 5/274. ورواه ابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر الموت والاستعداد له ح4261 وقال عنه الألباني (حسن) في صحيح سنن الترمذي 1/503 ح983، وفي صحيح سنن ابن ماجه 2/420 ح3436.
4 شرح السنة 5/275.
5 الحديث القدسي رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى:{ويحذركم الله نفسه} ح7405.
6 التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة 1/58، 59.
يقول: أنا عند ظن عبدي بي، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر” 1
وعن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم “يقول الله سبحانه وتعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني” 2 الحديث.
قال ابن حجر: “وهو كما قال أهل التحقيق مقيد بالمحتضر، ويؤيد ذلك حديث ”لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله..” 3، ولكن ظاهر الحديث لا يدل على تقييده بالمحتضر، بل في جميع أحوال العبد.
ويقول ابن الجوزي: “وأما حسن الظن فهو مستحب في هذا الوقت [أي عند الاحتضار] ، وقد وردت الأخبار بفضل حسن الظن بالله تعالى”4
فينبغي على المريض، مع إحسان ظنه بالله تعالى أن يكون بين الخوف والرجاء، يخاف عقاب الله على ذنوبه، ويرجو رحمة ربه5، وقد جاء في الحديث "إن المؤمن تخرج نفسه من بين جنبيه وهو يحمد الله تعالى”6، ولعلّ ذلك لحسن ظنه بربه سبحانه وتعالى.
ومما ينبغي أن يعلم أنه لا بد من حسن العمل مع إحسان الظن، فلا معنى لحسن الظن مع سوء العمل، إذ قد يمنعه سوء عمله من إحسان الظن بربه، وأسوأ من ذلك سوء الظن بالله مع سوء العمل فإن قوماً أساءوا الظن بالله فقال
1 رواه الطبراني في الأوسط ح8115، وأبو نعيم في الحلية 9/306 وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 4/224 ح1663.
2 سبق تخريجه في ص: 132.
3 فتح الباري شرح صحيح البخاري 13/385، 386.
4 الثبات عند الممات ص71.
5 انظر أحكام الجنائز ص7.
6 رواه أحمد في مسنده 1/273، 274، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 4/173 ح1632.
لهم سبحانه وتعالى: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 1.
يقول ابن القيم: ولا ريب أن حسن الظن إنما يكون مع الإحسان؛ فإن المحسن حسن الظن بربه أن يجازيه على إحسانه، ولا يخلف وعده، ويقبل توبته، وأما المسيء المصر على الكبائر والظلم والمخالفات؛ فإن وحشة المعاصي والظلم والحرام تمنعه من حسن الظن بربه
…
ولا يجامع وحشة الإساءة إحسان الظن أبداً؛ فإن المسيء مستوحش بقدر إساءته، وأحسن الناس ظناً بربه أطوعهم له
…
، وقد قال الله في حق من شك في تعلق سمعه ببعض الجزئيات، وهو السر من القول:{وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} فهؤلاء لما ظنوا أن الله سبحانه لا يعلم كثيراً مما يعملون كان هذا إساءة لظنهم بربهم فأرداهم ذلك الظن
…
، فتأمل هذا الموضع وتأمل شدة الحاجة إليه، وكيف يجتمع في قلب العبد تيقنه بأنه ملاقي الله وأن الله يسمع ويرى مكانه ويعلم سره وعلانيته ولا يخفى عليه خافية من أمره وأنه موقوف بين يديه ومسؤول عن كل ما عمل وهو مقيم على مساخطه مضيع لأوامره مبطل لحقوقه، وهو مع هذا يحسن الظن به، وهل هذا إلا من خدع النفوس وغرور الأماني”2.
ويشهد لهذا ما رواه أبو أمامة بن سهل قال: دخلت أنا وعروة بن الزبير يوماً على عائشة، فقالت: لو رأيتما نبي الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم في مرض مرضه، وكان له عندي ستة دنانير أو سبعة، فأمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أفرّقها، فشغلني وجع النبي صلى الله عليه وسلم حتى عافاه الله، ثم سألني عنها فقال ”ما فعلت الستة ـ قال: أو السبعة؟ ” قلت: لا والله، لقد كان شغلني وجعك، قالت: فدعا بها، ثم صفها في
1 سورة فصلت / الآية 23.
2 الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي ص14.
كفه فقال: "ما ظن نبي الله لو لقي الله عز وجل، وهذه عنده.." يعني ستة دنانير أو سبعة ـ أنفقيها” 1.
يقول ابن القيم تعليقاً على هذا الحديث: “فيالله ما ظن أصحاب الكبائر والظلمة بالله، إذا لقوه ومظالم العباد عندهم؛ فإن كان ينفعهم قولهم: حسناً ظنوننا بك لم يعذب ظالم ولا فاسق، فليصنع العبد ما شاء وليرتكب كل ما نهاه الله عنه وليحسن ظنه بالله فإن النار لا تمسه، فسبحان الله ما يبلغ الغرور بالعبد، وقد قال إبراهيم لقومه {أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 2، أي ما ظنكم أن يفعل بكم إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره، ومن تأمل هذا الموضع حق التأمل علم أن حسن الظن بالله هو حسن العمل نفسه؛ فإن العبد إنما يحمله على حسن العمل حسن ظنه بربه أن يجازيه على أعماله، ويثيبه عليها، ويتقبلها منه فالذي حمله على العمل حسن الظن، فكلما حَسُنَ ظنه حسُنَ عمله، وإلا فحسن الظن مع اتباع الهوى عجز
…
، وبالجملة فحسن الظن إنما يكون مع انعقاد أسباب النجاة، وإما مع انعقاد أسباب الهلاك فلا يتأتى إحسان الظن”3.
فإن قال قائل: بأن إحسان الظن يتأتى مع سوء العمل، وذلك راجع إلى سعة مغفرة الله ورحمته التي سبقت غضبه.
فالجواب عليه بأن يقال: “الأمر هكذا والله فوق ذلك وأجل وأكرم وأجود وأرحم، ولكن إنما يضع ذلك في محله اللائق به؛ فإنه سبحانه موصوف بالحكمة والعزة والانتقام، وشدة البطش، وعقوبة من يستحق العقوبة، فلو كان معول حسن الظن على مجرد صفاته وأسمائه لاشترك في ذلك البر والفاجر،
1 رواه أحمد في مسنده 6/104 وَ 6/182، والبغوي في شرح السنة 6/156، 157 وذكره الألباني في سلسة الأحاديث الصحيحة 3/12 ح1014.
2 سورة الصافات، الآيتان 86 وَ 87.
3 الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي ص14، 15.
والمؤمن والكافر، ووليه وعدوه فما ينفع المجرم أسماؤه وصفاته وقد باء بسخطه وغضبه، وتعرض للعنته، وأوقع في محارمه، وانتهك حرماته، بل حسن الظن ينفع من تاب وندم وأقلع، وبدل السيئة بالحسنة، واستقبل بقية عمره بالخير والطاعة ثم أحسن الظن، فهذا حُسْنُ ظن، والأول غرور”1.
وقال الخطابي: “إنما يحسن بالله ظن من حسن عمله، فكأنه قال: أحسنوا أعمالكم يحسن بالله ظنكم؛ فإن من ساء عمله ساء ظنه، وقد يكون حسن الظن أيضاً من ناحية الرجاء، وتأميل العفو، والله جواد كريم”2.
1 المصدر السابق ص15.
2 معالم السنن بحاشية سنن أبي داود 3/484.