المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[فصل في أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق] - التنبيهات اللطيفة على ما احتوت عليه العقيدة الواسطية من المباحث المنيفة

[عبد الرحمن السعدي]

الفصل: ‌[فصل في أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق]

وأنه معنا حق على حقيقته لا يحتاج إلى تحريف، ولكن يصان عن الظنون الكاذبة مثل أن يظن أن ظاهر قوله:"في السماء" أن السماء تقله أو تظله، وهذا باطل بإجماع أهل العلم والإيمان، فإن الله قد وسع كرسيه السماوات والأرض، وهو الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا، ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره

[فصل في الإيمان بأن الله تعالى قريب]

فصل قال المصنف رحمه الله: (وقد دخل في ذلك الإيمان بأنه قريب مجيب، كما جمع بين ذلك في قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا} [البقرة: 186] وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته» وما ذكر في الكتاب والسنة من قربه ومعيته لا ينافي ما ذكر من علوه وفوقيته، فإنه سبحانه ليس كمثله شيء في جميع نعوته، وهو في دنوه قريب في علوه) .

[فصل في أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق]

فصل قال المصنف: ومن الإيمان به وبكتبه الإيمان بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعوده، وأن الله تكلم به حقيقة، وأن هذا القرآن الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم هو كلام الله حقيقة لا كلام غيره، ولا يجوز إطلاق القول بأنه حكاية عن كلام الله أو عبارة، بل إذا قرأه الناس أو كتبوه في المصاحف لم يخرج بذلك أن يكون كلام الله حقيقة، فإن الكلام إنما يضاف حقيقة

ص: 77

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الفطر والعقول معترفة بل ومضطرة إلى الإيمان بعلو الله، إلا من غيرت فطرته العقائد الباطلة.

وقد بين المصنف في هذا الموضوع الجمع بين الإيمان بعلو الله وإثبات معيته وعلمه المحيط، وحققه في كلام واضح، مبين بالأمثلة المقربة للمعاني بما لا مزيد عليه.

خصص المصنف رحمه الله هذا البحث بهذين الأمرين؛ وذلك لشدة الحاجة إلى الإيمان بقربه وإجابته؛ ليكون العبد مراقبًا لله إذا آمن بقربه إيمانا تامًا، وكان منيبًا إليه على الدوام إذا آمن بإجابته للسائلين وإثابته للمطيعين.

ثم ذكر رحمه الله الجمع بين الإيمان بعلو الله وقربه ومعيته؛ لئلا يظن الظان أن ذلك مثل صفات المخلوقين، وأنه إذا قيل إنه علي فوق خلقه كيف يكون معهم وقريبًا منهم؟ فأجاب بما تضمنه هذا الأصل الثابت في الكتاب السنة وإجماع الأمة، وهو أن اللهّ تعالى ليس كمثله شيء في جميع نعوته، ومن نعوته اللازمة العلو المطلق والقرب العام والخاص، وأن القرب والعلو في حقه يجتمعان لعظمته وكبريائه وإحاطته من كل وجه، فهو العلي في دنوه، القريب في علوه، وهذا الأصل ينفعك في كل ما ورد عليك من صفات اللهّ الثابتة، فأثبتها ولا تتوقف، فإن الذي أثبتها هو الله الذي هو أعلم بنفسه، ورسوله

ص: 78

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الذي هو أعلم الخلق وأورعهم وأنصحهم للمخلوقين، فإن خطر ببالك تمثيل أو تشبيه فتفطن لقوله:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]

وكذلك أيضا فإن الكلام على الصفات مثل الكلام على الذات؛ فكما أنه لا نظير له ولا مثيل له في ذاته، فكذلك لا مثيل له ولا نظير له في صفاته.

(ووجه ذلك وأنه داخل في الإيمان بالله وبكتبه- أن الإيمان بكلام الله على هذا الوصف الذي ذكره المصنف وأنه من الإيمان بالله؛ لأنه وصفه، والكلام صفة للمتكلم. فإن الله تعالى موصوف بأنه متكلم إذا شاء بما شاء، وأنه لم يزل ولا يزال يتكلم، وكلامه تعالى لا ينفد ولا يبيد، ونوع الكلام أزلي أبدي ومفرداته لا تزال تقع شيئا فشيئا بحسب حكمة الله تعالى، والله تعالى أضافه إلى نفسه في قوله:" كلام الله " إضافة الصفة لموصوفها، فدل على أنه كلامه لفظه ومعناه ووصفه، وإذا كان كذلك كان غير مخلوق، ومن زعم أنه مخلوق من المعتزلة فقد أعظم الفرية على الله، ونفى كلام الله عن الله وصفا وجعله وصفا للمخلوق، ومن زعم أن القرآن الموجود بيننا عبارة عن كلام الله أو حكاية

ص: 80

إلى من قاله مبتدءا لا إلى من قاله مبلغا مؤديا. وهو كلام الله حروفه ومعانيه، ليس كلام الله الحروف دون المعاني ولا المعاني دون الحروف فيؤمنون بفتنة القبر وبعذابه ونعيمه: فأما الفتنة فإن الناس يفتنون في قبورهم، فيقال للرجل:(من ربك؟ وما في دينك؟ وما نبيك) فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فيقول المؤمن: الله ربي، والإسلام ديني، ومحمد صلى الله عليه وسلم نبيي. وأما المرتاب فيقول: هاه هاه، لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئا فقلته، فيضرب بمرزبة من حديد، فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لصعق ثم بعد هذه الفتنة إما نعيم وإما عذاب، إلى أن تقوم القيامة الكبرى، فتعاد الأرواح إلى الأجساد، وتقوم القيامة التي أخبر الله بها في كتابه وعلى لسان رسوله وأجمع عليها المسلمون، فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة غرلًا، وتدنوا منهم الشمس، ويلجمهم العرق، وتنصب الموازين، فتوزن فيها أعمال العباد، (1)

ــ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(1) الجمع بين النصوص الواردة في وزن الأعمال، والعاملين، والصحائف- أنه لا منافاة بينها، فالجميع يوزن، ولكن الاعتبار في الثقل والخفة يكون بالعمل نفسه لا بذات العامل ولا بالصحيفة.

ص: 81

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

عنه كما قاله الكلاّبية والأشعرية فقد قال بنصف قول المعتزلة.

فالقرآن كلام الله حيث تصرف، سواء كان محفوظًا في الصدور أو متلوًا بالألسنة أو مكتوبًا في المصاحف، فلا يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله، كما قال المصنف.

فإن الكلام إنما يضاف إلى من قاله مبتدءا لا إلى من قاله مبلغًا مؤديًا. وقول السلف: (كلام الله منه بدأ) أي: هو الذي تكلم به لا غيره وقوله: (إليه يعود) أي يرجع، أي يوصف الله به. وقيل: إن المراد بذلك ما ورد من أن من أشراط الساعة أن يرفع القرآن من الصدور والمصاحف، والأول أولى. وهذه المسألة - مسألة الكلام- عظيمة تكلم فيها الناس على اختلاف طرائقهم. ولكن المصنف ذكر في هذا الفصل كلامًا في التكلم جامعًا نافعًا مأخوذًا من الأدلة الشرعية العقلية والنقلية.

ص: 82

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وأما كون هذا داخلا في الإيمان بكتبه فإن الإيمان بالكتب وخصوصا القرآن يقتضي أن يؤمن العبد بكل ألفاظها ومعانيها وما دلت عليه من العقائد والمعاني الجليلة، فمن لم يؤمن بجميع ذلك فلن يتم إيمانه.

واعلم أن المؤمنين بالقرآن على قسمين: كاملين، وناقصين.

أما الكاملون: فإنهم أقبلوا على القرآن فتفهموا معانيه، ثم آمنوا بها واعتقدوها كلها، وتخلقوا بأخَلاقها، وعملوا بما دل عليه امتثالًا لأوامره واجتنابًا لنواهيه، ولم يفرقوا بين نصوصه كحال أهل البدع الذين آمنوا ببعض دون بعض.

وأما الناقصون: فهم قسمان:

قسم مبتدعون، وقسم فاسقون ظالمون.

أما المبتدعون: فكل من ابتدع بدعة ترك لها شيئًا من كتاب الله وسنة رسوله، وهؤلاء على مراتبهم في البدعة بحسب ما خالفوا فيه. وأما الفاسقون فهم الذين عرفوا

ص: 83

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

أنه يجب عليهم الإيمان بالكتاب والعمل به، فاعترفوا بذلك ولكن أعمالهم ناقضت أقوالهم فتجرءوا على مخالفة الكتاب بترك كثير من واجباته والاقتحام على كثير مما نهى عنه من غير أن يجحدوا، ولكن نفوسهم الأمارة بالسوء غلبتهم واستولت عليهم.

فنسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن آمن بكتابه إيمانًا صحيحًا حتى نكون لجميع نصوصه معتقدين، ولأوامره ونواهيه خاضعين، إنه جواد كريم.)

(وهذا ضابط جامع يدخل فيه الإيمان بالنصوص الواردة في حالة الإحتضار وفي القبر والقيامة والجنة والنار وجميع

ص: 84

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

ما احتوت عليه من التفاصيل التي صنفت فيها المصنفات المطولة والمختصرة، وكلها داخلة في الإيمان باليوم الآخر.

ثم أشار المصنف إلى شيء منها فقال:)

(وهذا الابتلاء والامتحان لكل عبد، فأما من كان مؤمنا إيمانًا صحيحًا ثبته الله ولقنه الجواب الصحيح للملكين، كما قال تعالى:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27] فذكر أن تثبيته لهم جزاء لهم على إيمانهم في الدنيا، فالمؤمن يجيب الجواب الصحيح وإن كان عاميا أو أعجميا، وأما الكافر

ص: 85

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

والمنافق ممن كان في الدنيا غير مؤمن بما جاء به الرسول فإنه يستعجم عليه الجواب، ولو كان من أعلم الناس وأفصحهم، كما قال تعالى:{وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم: 27]

ومن حكمة الله أن نعيم البرزخ وعذابه لا يحس به الإنس والجن بمشاعرهم؛ لأن الله تعالى جعله من الغيب، ولو أظهره لفاتت الحكمة المطلوبة.)

(ذكر المصنف رحمه الله هذا الكلام النفيس المتعلق باليوم الآخر المأخوذ من نصوص الكتاب والسنة، وهو واضح جامع، وأحال على الكتاب والسنة في بقية اليوم الآخر.

وقد كتب أهل الإسلام من النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة فيما يتعلق باليوم الآخر وبالجنة والنار وتفاصيل ذلك كثير، وصنفوا المصنفات المطولة والمبسوطة. والمهم أن ذلك كله داخل في الإيمان باليوم الآخر. واعلم أن أصل الجزاء على الأعمال خيرها وشرها ثابت بالعقل وواقع بالسمع، فإن الله نبه العقول إلى ذلك في مواضع كثيرة من الكتاب، وذكر بما هو مستقر في العقول الصحيحة من أنه لا يليق بحكمة الله وحمده أن يترك الناس سدى، أو أن يكونوا خلقوا عبثًا لا يؤمرون ولا ينهون ولا يثابون ولا يعاقبون، وأن العقول الصحيحة تنكر ذلك أشد الإنكار، وهذا شيء مشاهد محسوس

ص: 86

{فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ - وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون: 102 - 103] وتنشر الدواوين وهي صحائف الأعمال، فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله أو من وراء ظهره، قال تعالى:{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا - اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 13 - 14] ويحاسب الله الخلق، ويخلو بعبده المؤمن فيقرره بذنوبه كما وصف ذلك في الكتاب والسنة، وأما الكفار فلا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته؛ فإنه لا حسنات لهم، ولكن تعد أعمالهم فتحصى فيوقفون عليها ويقررون بها ويجزون بها.

وفي عرصات القيامة الحوض المورود لمحمد صلى الله عليه وسلم، ماؤه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، آنيته عدد نجوم السماء، طوله شهر وعرضه شهر، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا. والصراط منصوب على متن

ص: 87