الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قدرتهم وإرادتهم، كما قال تعالى:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ - وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 28 - 29]
وهذه الدرجة. من القدر يكذب بها عامة القدرية الذين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة، ويغلو فيها قوم من أهل الإثبات، حتى سلبوا العبد قدرته واختياره، ويخرجون عن أفعال الله وأحكامه حكمها ومصالحها) (1)
[فصل في أن الإيمان قول وعمل]
فصل قال المصنف رحمه الله ومن أصول أهل السنة أن
ــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(1) أقسام القدر أربعة:
الأول: التقدير العام؛ وهو تقدير الرب لجميع الأشياء، بمعنى علمه بها وكتابته لها ومشيئته وخلقه لما كان منها، ويدل على هد النوع دلائل كثيرة، منها قوله تعالى:" أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ " الآية، وقوله:" لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا " وقوله: " ولو شاء الله ما اقتتلوا " الآية، وقوله:" إن الله يفعل ما يشاء " وقوله: " الله خالق كل شيء ". وفي صحيح مسلم، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء".
القسم الثاني: تقدير عمري؛ وهو تقدير كل ما يجري على العبد في حياته إلى نهاية أجله وكتابة شقاوته وسعادته، وقد دل عليه حديث ابن مسعود المخرج في الصحيحين مرفوعًا:"إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل اللهّ الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات؛ بكتابة رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد" الحديث.
الثالث: التقدير السنوي؛ وذلك يكون في ليلة القدر، ويدل عليه قوله سبحانه وتعالى:" فيها يفرق كل أمر حكيم "، وقوله تعالى:" تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ " قيل: يكتب في هذه الليلة ما يحدث في السنة من موت وعز وذل وغير ذلك، روي هذا عن ابن عمر، ومجاهد، وأبي مالك، والضحاك، وغير واحد من السلف.
الرابع: التقدير اليومي؛ ويدل عليه قوله تعالى: " كل يوم هو في شأن ". ولأثر عن ابن عباس: (إن الله خلق لوحًا محفوظًا من درة بيضاء، دفتاه ياقوتة حمراء، قلمه نور، وكتابه نور، عرضه ما بين السماء والأرض، ينظر فيه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة، يخلق بكل نظرة، ويحي ويميت، ويعز ويذل، ويفعل ما يشاء) أخرجه ابن جرير. وفي إسناده أبو حمزة التمامي، وهو ضعيف ورمي بالرفض، فلا يعتمد عليه. وأخرج ابن جرير عن عبد الله بن حنيف الأزدي، وابن أبي حاتم، عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير كل يوم هو في شأن، قال:(من شأنه أن يغفر ذنبًا، ويفرج كربًا، ويرفع قومًا، ويضع آخرين) علقه البخاري عن أبي الدرداء موقوفًا.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
لا يمكن إحصاؤها.
وتثبت النصوص أيضًا أن مشيئة الله عامة، وإرادته القدرية شاملة، لا يخرج عنها حادث صغير ولا كبير ولا عين ولا فعل ولا وصف، وأنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. والنصوص على شمول قدرة الله ومشيئته لكل حادث لا تحصى.
وتثبت النصوص أيضًا أن العباد مختارون غير مجبورين على أفعالهم، وأن أعمالهم خيرها وشرها واقعة بمشيئتهم وقدرتهم التي خلقها الله لهم، وخالق السبب التام خالق للمسبب.
وبهذا ينحل عن العبد الإشكال، ويتسع قلبه لمجمع بين إثبات عموم مشيئته وقدرته وشمولهما لأفعال العباد مع وقوعها شرعًا وحسًا وعقلًا باختيارهم. فمتى جمع العبد هذه المراتب الأربع وآمن بها إيمانًا صحيحًا كان هو المؤمن بالقدر حقًا الذي يعلم أن الله بكل شيء عليم، وعلمه بالحوادث قد أودعه في اللوح المحفوظ، والحوادث كلها
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
تجري على ما علمه الله وكتبه وتقع بأسباب ربطها العزيز الحكيم بمسبباتها، والأسباب والمسببات من قضاء الله وقدره. ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه:«ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة أو النار" فقالوا يا رسول الله: أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ قال: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة" ثم قرأ صلى الله عليه وسلم: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى - وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى - فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى - وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى - وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى - فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 5 - 10] » متفق عليه. وتوضيح ذلك أن العبد إذا صلى وصام وعمل الخير أو عمل شيئًا من المعاصي كان هو الفاعل لذلك العمل الصاع وذلك العمل السيئ، وفعله المذكور بلا ريب واقع باختياره، وهو يحس ضرورة أنه غير مجبور على الفعل
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أو الترك، وأنه لو شاء لم يفعل، وكما أن هذا هو الواقع، فهو الذي نص الله عليه في كتابه ونص عليه رسوله، حيث أضاف الأعمال صالحها وسيئها إلى العباد وأخبر أنهم الفاعلون لها، وأنهم محمودون عليها إن كانت صالحة ومثابون عليها، ومذمومون إن كانت سيئة ومعاقبون عليها. فقد تبين بهذا واتضح أنها واقعة منهم وباختيارهم وأنهم إن شاءوا فعلوا، وإن شاءوا تركوا، وأن هذا الأمر ثابت عقلًا وحسًا وشرعًا ومشاهدة، ومع ذلك فإذا أردت أن تعرف أنها كذلك واقعة منهم واعترض معترض وقال: كيف تكون داخلة في القدر وكيف تشملها المشيئة؟ فيقال: بأي شيء وقعت هذه الأعمال الصادرة من العباد خيرها وشرها، فهي بقدرتهم وإرادتهم، وهذا يعترف به كل أحد، ويقال أيضا: إن الله خلق قدرتهم ومشيئتهم وإرادتهم. والجواب كذلك يعترف به كل أحد، وأن الله هو الذي خلق قدرتهم وإرادتهم وهو الذي خلق ما به تقع الأفعال كما
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أنه الخالق للأفعال، وهذا هو الذي يحل الإشكال ويتمكن العبد أن يعقل بقلبه اجتماع القدر والقضاء والاختيار.
ومع ذلك فهو تعالى أمد المؤمنين بأسباب وألطاف وإعانات متنوعة، وصرف عنهم الموانع كما قال صلى الله عليه وسلم:«أما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة» وكذلك خذل الفاسقين ووكلهم إلى أنفسهم ولم يعنهم؛ لأنهم لم يؤمنوا به ولم يتوكلوا عليه فولاهم ما تولوه لأنفسهم.
ولما ضاق تحقيق هذا المقام على قلوب كثير من الخلق انحرفت هنا طائفتان من الناس:
طائفة يقال لهم الجبرية؛ غلو في إثبات القدر وتوهموا أن العبد ليس له فعل حقيقة، وأنه لا يمكن أن يثبت للعبد عموم المشيئة، ولا يثبت له أيضًا عموم الاختيار.
والطائفة الأخرى: القدرية، قابلتهم فشهدت وقوع أفعالهم بقدرتهم واختيارهم، وتوهموا أنه لا يمكن مع ذلك
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أن يدخل ذلك في قضاء الله وقدره. ولم تتسع قلوب الجبرية والقدرية للجمع بين الأمرين.
فرد كل منهما قسمًا كبيرًا من نصوص الكتاب والسنة المؤيدة للقول الصحيح، وهدى الله أهل السنة والجماعة فآمنوا بجميع الكتاب والسنة، وآمنوا بقضائه وقدره وشمولهما لكل موجود وبشرعه وأمره، وأن العباد فاعلون حقيقة مختارون. فإيمانهم بعموم القدر يوجب لهم الاستعانة التامة بربهم؛ لعلمهم أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأن له في عباده المؤمنين ألطافا وتيسيرا لا يناله أحد منهم إلا بقوة الإيمان والتوكل، وأوجب لهم إيمانهم بالشرع والأمر والنهي والأسباب وأنها مرتبطة بمسبباتها شرعًا قدرًا - الجد والاجتهاد في فعل الأسباب النافعة، وبذلك تعرف أن الإيمان الصحيح سبب لكل خير.
ومن فوائد الإيمان بالقضاء والقدر: أنه يوجب للعبد سكون القلب وطمأنينته وقوته وشجاعته؛ لعلمه أن ما أصابه
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
كما أنه يسلي العبد عن المصائب ويوجب له الصبر والتسليم والقناعة بما رزقه الله، قال تعالى:{وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11] قال بعض السلف: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلِّم.
ومن فوائده: أنه يوجب للعبد شهود منة الله عليه فيما يمن به عليه من فعل الخيرات وأنواع الطاعات، فلا يعجب بنفسه ولا يدلي بعمله؛ لعلمه أنه تعالى هو الذي تفضل عليه بالتوفيق والإعانة وصرف الموانع والعوائق، وأنه لو وكل إلى نفسه لضعف وعجز عن العمل. كما أنه سبب لشكر نعم الله بما ينعم عليه من نعم الدين والدنيا. فإنه يعلم أنه ما بالعبد من نعمة إلا من الله وأن الله هو الدافع لكل مكروه ونقمة.)
قد دل الكتاب والسنة على ما قاله الشيخ، وأجمع على ذلك سلف الأمة، فكم من آية قرآنية وأحاديث نبوية أطلقت على كثير من الأقوال والأعمال اسم الإيمان، فالإيمان المطلق يدخل فيه جميع الدين، ظاهره وباطنه،
الدين والإيمان قول وعمل، قول القلب واللسان وعمل القلب واللسان والجوارح، وأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالعصية. وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر، كما يفعله الخوارج، بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي، كما قال في آية القصاص:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 178] وقال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ - إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 9 - 10] ولا يسلبون الفاسق الملي اسم الإيمان بالكلية، ولا يخلدونه في النار كما تقول المعتزلة، بل الفاسق يدخل في اسم الإيمان المطلق كما في قوله:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] وقد لا يدخل في اسم الإيمان المطلق كما في قوله:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أصوله وفروعه، ويدخل فيه العقائد التي يجب اعتقادها في كل ما احتوت عليه من هذا الكتاب، ويدخل أعمال القلوب كالحب لله ورسوله.
والفرق بين أقوال القلب وبين أعماله: أن أقواله هي العقائد التي يعترف بها القلب ويعتقدها، وأما أعمال القلب فهي حركته التي يحبها الله ورسوله، وضابطها محبة الخير وإرادته الجازمة، وكراهية الشر والعزم على تركه، وهذه الأعمال القلبية تنشأ عنها أعمال الجوارح، فالصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد- من الإيمان، وبر الوالدين وصلة الأرحام والقيام بحقوق الله وحقوق خلقه المتنوعة- كلها من الإيمان. وكذلك الأقوال؛ فقراءة القرآن وذكر الله والثناء عليه والدعوة إلى الله والنصيحة لعباد الله وتعلم العلوم النافعة - كلها داخلة في الإيمان؛ ولهذا لما كان الإيمان اسمًا لهذه الأمور ترتب عليه أنه يزيد وينقص، كما هو صريح الأدلة من الكتاب والسنة، وكما هو ظاهر مشاهد في تفاوت
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
المؤمنين في عقائدهم وأعمال قلوبهم وجوارحهم.
ومن زيادته ونقصه أن قَسّم المؤمنين إلى ثلاث طبقات:
سابقون بالخيرات: وهم الذين أدوا الواجبات والمستحبات، وتركوا المحرمات والمكروهات، فهؤلاء المقربون.
ومقتصدون: وهم الذين أدوا الواجبات وتركوا المحرمات.
وظالمون لأنفسهم: وهم الذين تجرءوا على بعض المحرمات، وقصروا فيِ بعض الواجبات مع بقاء أصل الإيمان معهم. فهذا من أكبر البراهين على زيادة الإيمان ونقصه. فما أعظم التفاوت بين هؤلاء الطبقات.
ومن وجوه زيادته ونقصه: أن المؤمنين متفاوتون في علوم الإيمان وتفاصيله، فمنهم من وصل إليه من تفاصيله وعقائده خير كثير، فازداد به إيمانه وتم به يقينه، ومنهم ما هو دون ذلك ودون ذلك، حتى تصل الحال إلى أن من المؤمنين من معه إيمان إجمالي ولم يتيسر له من التفاصيل شيء، وهو مع ذلك مؤمن. ومعلوم الفرق بين هذه المراتب.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ومن وجوه زيادة الإيمان ونقصه: أن المؤمنين متفاوتون تفاوتًا كبيرًا في أعمال القلب والجوارح وكثرة الطاعات وقلتها، وهذا شيء محسوس.
ومن وجوه زيادته ونقصه: أن من المؤمنين من لم تجرح المعاصي إيمانه وإن وقع منه شيء من ذلك بادر إلى التوبة والإنابة. ومنهم من هو متجرئ على كثير من المعاصي، ومعلوم الفرق بينهما.
ومن وجوه زيادته ونقصه: أن من المؤمنين من هو واجد حلاوة الإيمان، وقد ذاق طعمه واستحلى الطاعات، وتأثر قلبه بالإيمان، ومنهم من لم يصل إلى ذلك؛
ولهذا قال المصنف رحمه الله: وهذا تحقيق مذهب السلف الذي باينوا فيه الخوارج المارقين الذين يسلبون العصاة اسم الإيمان ويخلدونهم في النار.
وباينوا فيه المعتزلة الذين وافقوا الخوارج في المعنى وخالفوهم في اللفظ.
أما الكتاب والسنة فإنهما دلا من وجوه كثيرة على أن العبد يكون فيه خير وشر، وإيمان، وخصال كفر، وخصال نفاق، لا تخرجه عن الإيمان بالكلية. وأن الإيمان