الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلى يوم القيامة
[فصل في اتباع آثار رسول الله ظاهرا وباطنا]
فصل قال المصنف رحمه الله: ثم من طريقة أهل السنة والجماعة اتباع آثار (1) رسول الله ظاهرًا وباطنًا، واتباع
ــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(1) مراد المصنف بذلك: اتباع ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو عمل أو تقرير، وذلك هو اتباع السنة والتمسك بها. وأوجه السنة ثلاثة: قول وعمل وتقرير. وأما آثاره الحسية كموضع جلوسه، وما هو عليه وما وطئه بقدمه الشريفة، أو استند إليه، أو اضطجع عليه، ونحو ذلك فلا يشرع اتباعه في ذلك. بل تتبع هذه الآثار من وسائل الغلو فيه، وقد أنكر بعض أعيان الصحابة على ابن عمر ذلك. وقطع عمر الشجرة التي بويع النبي تحتها لما علم أن الناس يقصدونها، خوفا من الفتنة. ولما بلغه أن ناسا يقصدون مسجدا صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم في الطريق أنكر ذلك وقال ما معناه:(إنما أهلك من كان قبلكم مثل هذا، كانوا يتتبعون آثار أنبيائهم، فمن أدركته الصلاة في شيء من هذه المساجد فليصل، ومن لا فليمض ولا يقصدها) .
وأما ما صلى فيه صلوات التشريع، فالصلاة فيه مشروعة، كمسجده صلى الله عليه وسلم، والكعبة، ومسجد قباء، والموضع الذي صلى فيه في بيت عتبان كما طلب منه ذلك ليتخذه مصلى فأجابه صلى الله عليه وسلم إلى ذلك. وهكذا التبرك بشعره صلى الله عليه وسلم، وريقه، وعرقه، وما ماس جسده، فكله لا بأس به؛ لأن السنة قد صحت بذلك، وقد قسم صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بين الناس شعر رأسه، لما قد جعل الله فيه من البركة، وليس هذا من الغلو الممنوع، وإنما الغلو الممنوع هو أن يعتقد فيه صلى الله عليه وسلم ما لا يجوز، أو يصرف له شيئا من العبادة.
وأما التبرك بغيره صلى الله عليه وسلم فالصحيح منعه لأمرين:
أحدها: أن غيره لا يقاس به، لما جعل الله فيه من الخير والبركة، بخلاف غيره، فلا يتحقق فيه ذلك.
الأمر الثاني: أن ذلك ربما يوقع في الغلو وأنواع الشرك، فوجب سد الذرائع بالمنع من ذلك، وإنما جاز في حق النبي لمجيء النص به.
وهناك أمر ثالث أيضا: وهو أن الصحابة لم يفعلوا مثل ذلك مع غير النبي صلى الله عليه وسلم، لا مع الصديق ولا مع عمر ولا مع غيرهما، ولو كان ذلك سائغًا أو قربة لسبقونا إليه، ولم يجمعوا على تركه، فلما تركوه علم أن الحق ترك ذلك وعدم إلحاق غير النبي به في ذلك.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
والوقائع قديمًا وحديثًا على وقوع كرامات الله لأوليائه المتبعين لأنبيائه. وكرامتهم في الحقيقة تفيد ثلاث قضايا:
أعظمها: الدلالة على كمال قدرة الله ونفوذ مشيئته، وكما أن لله سننًا وأسبابًا تقتضي مسبباتها الموضوعة لها شرعًا وقدرًا، فإن لله أيضًا سننًا أخرى لا يقع عليها علم البشر، ولا تدركها أعمالهم وأسبابهم. فمعجزات الأنبياء، وكرامات الأولياء، بل وأيام الله وعقوباته في أعدائه الخارقة للعادة - كلها تدل دلالة واضحة أن الأمر كله لله، والتقدير والتدبير كله لله، وأن لله سننا لا يعلمها بشر ولا ملك. فمن ذلك قصة أصحاب الكهف، والنوم الذي
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أوقعه الله بهم تلك المدة العظيمة، وقيض أسبابا متنوعة لحفظ دينهم وأبدانهم، كما ذكر الله في قصتهم. ومنها ما أكرم الله به مريم بنت عمران، وأنه {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37] وكذلك حملها وولادتها بعيسى على ذلك الوصف الذي ذكر الله، وكلامه في المهد، هذا فيه كرامة لمريم، ومعجزة لعيسى عليه السلام، وكذلك هبته تعالى الولد لِإبراهيم من سارة وهي عجوز عقيم على كبره، كما وهب لزكريا يحيى على كبره وعقم زوجته، وهذه معجزة للنبي وكرامة لزوجته. وقد أطال المؤلف النفس، وبسط الكلام في هذا الموضوع في كتابه (الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان) وذكر قصصًا كثيرة متوافرة تدل على هذه القضية.
القضية الثانية: أن وقوع الكرامات للأولياء في الحقيقة
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
معجزات للأنبياء؛ لأن تلك الكرامات لم تحصل لهم إلا ببركة متابعة نبيهم التي نالوا بها خيرًا كثيرًا، من جملته الكرامات.
القضية الثانية: أن كرامات الأولياء هي من البشرى المعجلة في الحياة الدنيا، كما قال تعالى:{لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس: 64] وهي على قول بعض المفسرين: كل أمر يدل على ولايتهم وحسن عاقبتهم. ومن ذلك الكرامات. ولم تزل الكرامات موجودة لم تنقطع في أي وقت وفي أي زمن، وقد رأى الناس منها العجائب والأمور الكثيرة، ولم ينكرها إلا زنادقة الفلاسفة، وليس غريبًا عليهم، فإنه فرع عن جحودهم وإنكارهم لرب العالمين وقضائه وقدره. وقد أنكرها أيضًا طائفة من أهل الكلام ظنًّا منهم أن في إثباتها إبطال لمعجزات الأنبياء، وهذا وهم باطل، أبطله المؤلف في كتاب (النبوات) وغيره من كتبه. فأهل السنة والجماعة يعترفون بكرامات الله لأوليائه إجمالًا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وتفصيلًا، ويثبتون ذلك على وجه التفصيل، كما ورد عن المعصوم صلى الله عليه وسلم، وكما تحقق وقوعه. ولكن قد أدخل الناس في الكرامات أمورا كثيرة، اخترعوها، وافتروها، وخدعوا بها العوام والسذج من الناس، وأوهموهم بأنها من الكرامات وليست إلا قسمًا من الخرافات والشعوذات. وأهل السنة أبعد الناس عن التصديق بالخرافات والأكاذيب المفتراة، وأعرف بالطرق التي يتبين بها كذب الكاذبين وافتراء المفترين.
لما ذكر طريقة أهل السنة في مسائل الأصول المعينة، ذكر طريقهم الكلي في أخذ دينهم أصوله وفروعه، وأنهم سلكوا في ذلك الصراط المستقيم، والعصمة النافعة للكتاب والسنة، واتبعوا أعظم الناس معرفة وعلما واتباعا للكتاب والسنة، وهم الصحابة رضي الله عنهم عمومًا، والخلفاء الراشدين خصوصًا، فسلكوا إلى الله ذلك الطريق مستصحبين هذه الأصول الجليلة، وما جاءهم مما قاله الناس أو ذهبوا إليه من المقالات وزنوه بمعيار الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والقرون المفضلة؛ فاستقامت طريقتهم، وسلموا من بدع الأقوال المخالفة لما عليه الرسول وأصحابه في الاعتقادات، كما سلموا من بدع الأعمال، فلم يتعبدوا ولم يشرعوا إلا ما شرعه الله ورسوله.
أي: باليد ثم باللسان ثم بالقلب، تبع للقدرة والمصلحة، ويسلكون أقرب طريق يحصل به المقصود بالرفق والسهولة، متقربين بنصيحة الخلق إلى الله، قاصدين نفع الخلق وإيصالهم إلى كل خير وكفهم عن كل شر، ساعين في ذلك حسب وسعهم.
وذلك لأن غرضهم الوحيد تحصيل المصالح وتكملتها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فلا يمتنعون من إعانة الظالم على الخير وترغيبه فيه، قولًا وفعلًا، فيشاركون الولاة الظلمة في الخير، ويفارقونهم في الشر، ويحرصون على الاتفاق، وينهون عن الافتراق.
وهذا كلام جامع واضح نادر، جمعه في موضع واحد، لا يحتاج إلى شرح ولا إلى مزيد من الإيضاح.
سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، واتباع وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال:«عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة» . ويعلمون أن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، فيقدمون هديه على هدي كل أحد؛ ولهذا سموا (أهل الكتاب والسنة) وسموا:(أهل الجماعة) ؛ لأن الجماعة هي الاجتماع وضدها الفرقة، وإن كان لفظ الجماعة قد صار اسما لنفس القوم المجتمعين. والإجماع هو الأصل الثالث الذي يعتمد عليه في العلم والدين، وهم يزنون بهذه الأصول الثلاثة جميع ما عليه
الناس من أقوال وأعمال باطنة أو ظاهرة، مما له تعلق بالدين. والإجماع الذي ينضبط هو: ما كان عليه السلف الصالح؛ إذ بعدهم كثر الاختلاف وانتشرت الأمة