الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ) إيْ والله، أمين من الشيطان والأنصاب والأحزان.
وقوله (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) الجنات والعيون ترجمة عن المقام الأمين، والمقام الأمين: هو الجنات والعيون، والجنات: البساتين، والعيون: عيون الماء المطرد في أصول أشجار الجنات.
وقوله (يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ) يقول: يلبس هؤلاء المتقون في هذه الجنات من سندس، وهو ما رقّ من الديباج وإستبرق: وهو ما غلظ من الديباج.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن عكرمة، في قوله (مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) قال: الإستبرق: الديباج الغليظ.
وقيل: (يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) ولم يقل لباسا، استغناء بدلالة الكلام على معناه.
وقوله (مُتَقَابِلِينَ) يعني أنهم في الجنة يقابل بعضهم بعضا بالوجوه، ولا ينظر بعضهم في قفا بعض.
وقد ذكرنا الرواية بذلك فما مضى، فأغنى ذلك عن إعادته.
القول في تأويل قوله تعالى: {كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ
(54)
يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) }
يقول تعالى ذكره: كما أعطينا هؤلاء المتقين في الآخرة من الكرامة بإدخالناهم
الجنات، وإلباسناهم فيها السندس والإستبرق، كذلك أكرمناهم بأن زوّجناهم أيضا فيها حورا من النساء، وهن النقيات البياض، واحدتهنّ: حَوْراء.
وكان مجاهد يقول في معنى الحُور، ما حدثني به محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) قال: أنكحناهم حورا. قال: والحُور: اللاتي يحار فيهنّ الطرف بادٍ مُخُّ سوقهنّ من وراء ثيابهنّ، ويرى الناظر وجهه في كبد إحداهنّ كالمرآة من رقة الجلد، وصفاء اللون. وهذا الذي قاله مجاهد من أن الحور إنما معناها: أنه يحار فيها الطرف، قول لا معنى له في كلام العرب، لأن الحُور إنما هو جمع حوراء، كالحمر جمع حمراء، والسود: جمع سوداء، والحوراء إنما هي فعلاء من الحور وهو نقاء البياض، كما قيل للنقيّ البياض من الطعام الحُوَّارِيُّ. وقد بينَّا معنى ذلك بشواهده فيما مضى قبل.
وبنحو الذي قلنا في معنى ذلك قال سائر أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) قال: بيضاء عيناء، قال: وفي قراءة ابن مسعود (بعِيس عِين) .
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله (بِحُورٍ عِينٍ) قال: بيض عين، قال: وفي حرف ابن مسعود (بعِيس عِين) . وقرأ ابن مسعود هذه، يعني أن معنى الحور غير الذي ذهب إليه مجاهد، لأن العيس عند العرب جمع عيساء، وهي البيضاء من الإبل، كما قال الأعشى:
وَمَهْمَهٍ نَازِحٍ تَعْوِي الذّئابُ بِهِ
…
كَلَّفْتُ أَعْيَسَ تَحْتَ الرَّحْلِ نَعَّابا (1)
(1) البيت: لأعشى بني قيس بن ثعلبة (ديوانه طبع القاهرة 1361) والرواية فيه:"قفر مساربه" في موضع"تعوي الذئاب به" والمهمه: الصحراء، ونازح: بعيد. وقفر: خال من النبات والإنس. ومساربه مسالكه. وأعيس: حمل أبيض يخالطه شقرة أو ظلمة. والرحل: الخشب يشد على الجمل ليركب فوقه. ونعاب: من نعبت الإبل: إذا مدت أعناقها في سيرها. وقيل هو أن يحرك البعير رأسه إذا أسرع (اللسان: نعب) . ومحل الشاهد في البيت عند المؤلف أن العيس عند العرب جمع أعيس، وعيساء، وهي الناقة البيضاء، كما جاء في شعر الأعشى: الأعيس: الجمل الأبيض.
يعني بالأعيس: جملا أبيض. فأما العين فإنها جمع عيناء، وهي العظيمة العينين من النساء.
وقوله (يَدْعُونَ فِيهَا)
…
الآية، يقول: يدعو هؤلاء المتقون في الجنة بكلّ نوع من فواكه الجنة اشتهوه، آمنين فيها من انقطاع ذلك عنهم ونفاده وفنائه، ومن غائلة أذاه ومكروهه، يقول: ليست تلك الفاكهة هنالك كفاكهة الدنيا التي نأكلها، وهم يخافون مكروه عاقبتها، وغبّ أذاها مع نفادها من عندهم، وعدمها في بعض الأزمنة والأوقات.
وكان قتادة يوجه تأويل قوله: (آمِنِينَ) إلى ما حدثنا به بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ) أمنوا من الموت والأوصاب والشيطان.
وقوله: (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأولَى) يقول تعالى ذكره: لا يذوق هؤلاء المتقون في الجنة الموت بعد الموتة الأولى التي ذاقوها في الدنيا.
وكان بعض أهل العربية يوجه"إلا" في هذا الموضع إلى أنها في معنى سوى، ويقول: معنى الكلام: لا يذوقون فيها الموت سوى الموتة الأولى، ويمثله بقوله تعالى ذكره:(وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ) بمعنى: سوى ما قد فعل آباؤكم، وليس للذي قال من ذلك عندي وجه مفهوم، لأن الأغلب من قول القائل: لا أذوق اليوم الطعام إلا الطعام الذي ذقته قبل اليوم أنه يريد الخبر عن قائله أن عنده طعاما في ذلك اليوم ذائقه وطاعمه دون سائر الأطعمة غيره.
وإذ كان ذلك الأغلب من معناه وجب أن يكون قد أثبت
بقوله (إِلا الْمَوْتَةَ الأولَى) موتة من نوع الأولى هم ذائقوها، ومعلوم أن ذلك ليس كذلك، لأن الله عز وجل قد آمَن أهل الجنة في الجنة إذا هم دخلوها من الموت، ولكن ذلك كما وصفت من معناه. وإنما جاز أن توضع"إلا" في موضع"بعد" لتقارب معنييهما في هذا الموضع وذلك أن القائل إذا قال: لا أكلم اليوم رجلا إلا رجلا بعد رجل عند عمرو قد أوجب على نفسه أن لا يكلم ذلك اليوم رجلا بعد كلام الرجل الذي عند عمرو.
وكذلك إذا قال: لا أكلم اليوم رجلا بعد رجل عند عمرو، قد أوجب على نفسه أن لا يكلم ذلك اليوم رجلا إلا رجلا عند عمرو، فبعد، وإلا متقاربتا المعنى في هذا الموضع. ومن شأن العرب أن تضع الكلمة مكان غيرها إذا تقارب معنياهما، وذلك كوضعهم الرجاء مكان الخوف لما في معنى الرجاء من الخوف، لأن الرجاء ليس بيقين، وإنما هو طمع، وقد يصدق ويكذب كما الخوف يصدق أحيانا ويكذب، فقال في ذلك أبو ذُؤَيْب:
إذا لَسَعَتْهُ الدَّبْرُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَها
…
وَخَالَفهَا فِي بَيْتِ نُوبٍ عَوَامِلُ (1)
فقال: لم يرج لسعها، ومعناه في ذلك: لم يخف لسعها، وكوضعهم الظنّ موضع العلم الذي لم يدرك من قِبل العيان، وإنما أدرك استدلالا أو خبرا، كما قال الشاعر:
فَقُلْتُ لَهُمْ ظُنُّوا بألْفَيْ مُدَجَّجٍ
…
سَرَاتُهُمُ في الفَارِسِيّ المُسَرَّدِ (2)
(1) البيت لأبي ذؤيب. وهو شاهد على أن لم يرج: أي لم يخف. وقد سبق الاستشهاد به في هذا التفسير، وتقدم الكلام عليه مفصلا (انظره في 5: 264 من هذه الطبعة) . وفي قافيته:"عواسل" في موضع عوامل. وكلتاهما صحيحة.
(2)
البيت لدريد بن الصمة الجشمي. (اللسان: ظنن) . قال: الجوهري: الظن معروف. وقد يوضع موضع العلم. قال دريد ابن الصمة:"فقلت لهم ظنوا
…
" البيت: أي استيقنوا، وإنما يخوف عدوه باليقين لا بالشك. والشاهد في البيت عند المؤلف أن العلم قد يوضع في موضع الظن، كما أن الرجاء قد يوضع موضع الخوف.
بمعنى: أيقنوا بألفي مدجَّج واعلموا، فوضع الظنّ موضع اليقين، إذ لم يكن المقول لهم ذلك قد عاينوا ألفي مدجج، ولا رأوهم، وإن ما أخبرهم به هذا المخبر، فقال لهم ظنوا العلم بما لم يعاين من فعل القلب، فوضع أحدهما موضع الآخر لتقارب معنييهما في نظائر لما ذكرت يكثر إحصاؤها، كما يتقارب معنى الكلمتين في بعض المعاني، وهما مختلفتا المعنى في أشياء أخر، فتضع العرب إحداهما مكان صاحبتها في الموضع الذي يتقارب معنياهما فيه.
فكذلك قوله (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأولَى) وضعت"إلا" في موضع"بعد" لما نصف من تقارب معنى"إلا"، و"بعد" في هذا الموضع، وكذلك (وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ) إنما معناه: بعد الذي سلف منكم في الجاهلية، فأما إذا وجهت"إلا" في هذا الموضع إلى معنى سوى، فإنما هو ترجمة عن المكان، وبيان عنها بما هو أشدّ التباسًا على من أراد علم معناها منها.
وقوله (وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ فَضْلا مِنْ رَبِّكَ) يقول تعالى ذكره: ووقى هؤلاء المتقين ربهم يومئذ عذاب النار تفضلا يا محمد من ربك عليهم، وإحسانًا منه عليهم بذلك، ولم يعاقبهم بجرم سلف منهم في الدنيا، ولولا تفضله عليهم بصفحه لهم عن العقوبة لهم على ما سلف منهم من ذلك، لم يقهم عذاب الجحيم، ولكن كان ينالهم ويصيبهم ألمه ومكروهه.
وقوله (ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) يقول تعالى ذكره: هذا الذي أعطينا هؤلاء المتقين في الآخرة من الكرامة التي وصفت في هذه الآيات، هو الفوز العظيم: يقول: هو الظفر العظيم بما كانوا يطلبون من إدراكه في الدنيا بأعمالهم وطاعتهم لربهم، واتقائهم إياه، فيما امتحنهم به من الطاعات والفرائض، واجتناب المحارم.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ
يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فإنما سهَّلنا قراءة هذا القرآن الذي أنزلناه إليك يا محمد بلسانك، ليتذكر هؤلاء المشركون الذين أرسلناك إليهم بعبره وحُججه، ويتَّعظوا بعظاته، ويتفكَّروا في آياته إذا أنت تتلوه عليهم، فينيبوا إلى طاعة ربهم، ويذعنوا للحقّ عند تبينهموه.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ) : أي هذا القرآن (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ) قال: القرآن، ويسَّرناه: أطلق به لسانه.
وقوله (فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فانتظر أنت يا محمد الفتح من ربك، والنصر على هؤلاء المشركين بالله من قومك من قريش، إنهم منتظرون عند أنفسهم قهرك وغلبتك بصدّهم عما أتيتهم به من الحق من أراد قبوله واتباعك عليه.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله (فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) : أي فانتظر إنهم منتظرون.
آخر تفسير سورة الدخان