الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالْفَصْلُ السَّادِسُ: أَنَّ الْمَسِيحَ عليه السلام جَاءَ بَعْدَ مُوسَى عليه السلام بِغَايَةِ الْكَمَالِ، فَلَا حَاجَةَ بَعْدَ النِّهَايَةِ إِلَى شَرْعٍ يَزِيدُ عَلَى الْغَايَةِ، بَلْ يَكُونُ مَا بَعْدَ ذَلِكَ شَرْعًا غَيْرَ مَقْبُولٍ.
[نَهْجُ الْمُؤَلِّفِ فِي رَدِّ دَعَاوِيهِمُ الْبَاطِلَةِ]
وَنَحْنُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ نُبَيِّنُ أَنَّ كُلَّ مَا احْتَجُّوا بِهِ مِنْ حُجَّةٍ سَمْعِيَّةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، أَوْ مِنَ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى الْقُرْآنِ، أَوْ عَقْلِيَّةٍ، فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، بَلِ الْكُتُبُ كُلُّهَا مَعَ الْقُرْآنِ وَالْعَقْلِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، لَا لَهُمْ، بَلْ عَامَّةُ مَا يَحْتَجُّونَ بِهِ مِنْ نُصُوصِ الْأَنْبِيَاءِ، وَمِنَ الْمَعْقُولِ فَهُوَ نَفْسُهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، وَيَظْهَرُ مِنْهُ فَسَادُ قَوْلِهِمْ مَعَ مَا يُفْسِدُهُ مِنْ سَائِرِ النُّصُوصِ النَّبَوِيَّةِ، وَالْمَوَازِينِ الَّتِي هِيَ مَقَايِيسُ عَقْلِيَّةٌ.
وَهَكَذَا يُوجَدُ عَامَّةُ مَا يَحْتَجُّ بِهِ أَهْلُ الْبِدَعِ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ عز وجل فَفِي تِلْكَ النُّصُوصِ مَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهَا، بَلْ
هِيَ بِعَيْنِهَا حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، كَمَا ذُكِرَ أَمْثَالُ ذَلِكَ فِي الرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ.
وَإِنَّمَا عَامَّةُ مَا عِنْدَ الْقَوْمِ أَلْفَاظٌ مُتَشَابِهَةٌ، تَمَسَّكُوا بِمَا ظَنُّوهَا تَدَلُّ عَلَيْهِ، وَعَدَلُوا عَنِ الْأَلْفَاظِ الْمُحْكَمَةِ الصَّرِيحَةِ الْمُبَيِّنَةِ، مَعَ مَا يَقْتَرِنُ بِذَلِكَ مِنَ الْأَهْوَاءِ.
وَهَذِهِ حَالُ أَهْلِ الْبَاطِنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23] .
فَهُمْ فِي جَهْلٍ وَظُلْمٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا - لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 72 - 73] .
فَالْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ هُمْ أَتْبَاعُ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ بُعِثُوا بِالْعِلْمِ وَالْعَدْلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى - مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى - وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى - إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 1 - 4] .
فَبَيَّنَ سبحانه وتعالى أَنَّهُ لَيْسَ ضَالًّا جَاهِلًا، وَلَا غَاوِيًا مُتَّبِعًا هَوَاهُ، وَلَا يَنْطِقُ عَنْ هَوَاهُ، إِنَّمَا نُطْقُهُ وَحْيٌ أَوْحَاهُ اللَّهُ سبحانه وتعالى.
وَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح: 28] .
فَالْهُدَى يَتَضَمَّنُ الْعِلْمَ النَّافِعَ، وَدِينُ الْحَقِّ يَتَضَمَّنُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ، وَمَبْنَاهُ عَلَى الْعَدْلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25] .
وَأَصْلُ الْعَدْلِ الْعَدْلُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ عِبَادَتُهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ; فَإِنَّ الشِّرْكَ ظُلْمٌ عَظِيمٌ، كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ:{يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، رضي الله عنه، لَمَّا نَزَلَتِ {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيْمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] الْآيَةَ، شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَيْسَ هُوَ كَمَا تَظُنُّونَ إِنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ، أَلَمْ تَسْمَعُوا إِلَى قَوْلِ الْعَبْدِ الصَّالِحِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ؟ .
وَلَمَّا كَانَ أَتْبَاعُ الْأَنْبِيَاءِ هُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْعَدْلِ، كَانَ كَلَامُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ مَعَ الْكُفَّارِ، وَأَهْلِ الْبِدَعِ بِالْعِلْمِ وَالْعَدْلِ لَا بِالظَّنِّ، وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ ; وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: قَاضِيَانِ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ، رَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ وَقَضَى بِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، وَرَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ وَقَضَى بِخِلَافِهِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ قَضَى
لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ.
فَإِذَا كَانَ مَنْ يَقْضِي بَيْنَ النَّاسِ فِي الْأَمْوَالِ وَالدِّمَاءِ وَالْأَعْرَاضِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا عَادِلًا، كَانَ فِي النَّارِ، فَكَيْفَ بِمَنْ يَحْكُمُ فِي الْمِلَلِ، وَالْأَدْيَانِ، وَأُصُولِ الْإِيْمَانِ، وَالْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ، وَالْمَعَالِمِ الْكُلِّيَّةِ بِلَا عِلْمٍ، وَلَا عَدْلٍ؟ كَحَالِ أَهْلِ الْبِدَعِ، وَالْأَهْوَاءِ، الَّذِينَ يَتَمَسَّكُونَ بِالْمُتَشَابِهِ الْمَشْكُوكِ، وَيَدَعُونَ الْمُحْكَمَ الصَّرِيحَ مِنْ نُصُوصِ