الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[قُدُومُ الْوُفُودِ عَلَى الرَّسُولِ دَلِيلٌ عَلَى عُمُومِ رِسَالَتِهِ]
وَأَمَّا النَّصَارَى فَإِنَّ أَهْلَ نَجْرَانَ الَّتِي بِالْيَمَنِ كَانُوا نَصَارَى، فَقَدِمَ عَلَيْهِ وَفْدُهُمْ سِتُّونَ رَاكِبًا وَنَاظَرَهُمْ فِي مَسْجِدِهِ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ صَدْرَ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَلَمَّا ظَهَرَتْ حُجَّتُهُ عَلَيْهِمْ، وَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْهِمْ، أَمَرَهُ اللَّهُ إِنْ لَمْ يُجِيبُوهُ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى الْمُبَاهَلَةِ فَقَالَ تَعَالَى:{فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61] .
فَلَمَّا دَعَاهُمْ إِلَى الْمُبَاهَلَةِ طَالَبُوا أَنْ يُمْهِلَهُمْ حَتَّى يَشْتَوِرُوا
فَاشْتَوَرُوا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: تَعْلَمُونَ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَأَنَّهُ مَا بَاهَلَ قَوْمٌ نَبِيًّا إِلَّا نَزَلَ بِهِمُ الْعَذَابُ.
فَاسْتَعْفَوْا مِنَ الْمُبَاهَلَةِ، فَصَالَحُوهُ، وَأَقَرُّوا لَهُ بِالْجِزْيَةِ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ، لَمَّا خَافُوا مِنْ دُعَائِهِ عَلَيْهِمْ، لِعِلْمِهِمْ أَنَّهُ نَبِيٌّ، فَدَخَلُوا تَحْتَ حُكْمِهِ، كَمَا يَدْخُلُ أَهْلُ الذِّمَّةِ الَّذِينَ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ تَحْتَ حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأَدَّوْا إِلَيْهِ الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ، وَهُمْ أَوَّلُ مَنْ أَدَّى الْجِزْيَةَ مِنَ النَّصَارَى.
وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ وَعَلَى مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ عَمْرَو بْنَ حَزْمٍ الْأَنْصَارِيَّ، وَكَتَبَ لَهُ كِتَابًا مَشْهُورًا، يَذْكُرُ فِيهِ شَرَائِعَ الدِّينِ، فَكَانُوا فِي ذِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ تَحْتَ حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَنَائِبِ رَسُولِهِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ الْأَنْصَارِيِّ، رضي الله عنه، وَقِصَّتُهُمْ مَشْهُورَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ، نَقَلَهَا أَهْلُ السِّيَرِ،
وَأَهْلُ الْحَدِيثِ، وَأَهْلُ الْفِقْهِ، وَأَصْلُ حَدِيثِهِمْ مَعْرُوفٌ فِي الصِّحَاحِ، وَالسُّنَنِ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَوَفْدُ نَجْرَانَ لَمَّا قَدِمُوا أَنْزَلَ اللَّهُ تبارك وتعالى بِسَبَبِ مَا جَرَى صَدْرَ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَذَكَرَ تَعَالَى فَرْضَ الْحَجِّ بِقَوْلِهِ:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] .
وَهَذَا نَزَلَ إِمَّا سَنَةَ تِسْعٍ وَإِمَّا سَنَةَ عَشْرٍ، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمُ: الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى، وَغَيْرُهُ.
قَالُوا وُجُوبُ الْحَجِّ ثَبَتَ بِقَوْلِهِ {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] .
وَرُوِيَ أَنَّهُ نَزَلَ فِي سَنَةِ عَشْرٍ، وَرُوِيَ أَنَّهُ نَزَلَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ.
قَالُوا إِنَّ فَرْضَ الْحَجِّ، إِنَّمَا ثَبَتَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] .
وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ سَنَةَ سِتٍّ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، لَمَّا صَدَّ الْمُشْرِكُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْبَيْتِ، وَصَالَحَهُمْ ذَلِكَ الْعَامَ، وَبَايَعَ الْمُسْلِمِينَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهَا سُورَةَ الْفَتْحِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ خَيْبَرَ سَنَةَ سَبْعٍ، وَفِيهَا قَدِمَ عَلَيْهِ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مَعَ وَفْدِ الْحَبَشَةِ، ثُمَّ أَرْسَلَ جَعْفَرًا،
وَزَيْدًا وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ لِغَزْوِ النَّصَارَى لِمُؤْتَةَ، ثُمَّ فَتَحَ مَكَّةَ سَنَةَ ثَمَانٍ فِي رَمَضَانَ، ثُمَّ فِي أَثْنَاءِ سَنَةِ تِسْعٍ غَزَا النَّصَارَى إِلَى تَبُوكَ، وَفِيهَا حَجَّ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه، وَأَمَرَ أَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ.
وَأَرْدَفَهُ بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه لِنَبْذِ الْعُهُودِ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ السَّيْفِ الْمُطْلَقَةَ بِجِهَادِ الْمُشْرِكِينَ وَجِهَادِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَالَ تَعَالَى:{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] .
وَهَذِهِ الْأَشْهُرُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} [التوبة: 2] .
فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا عَلَى نَوْعَيْنِ: نَوْعًا لَهُمْ عَهْدٌ مُطْلَقٌ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ، وَهُوَ عَقْدٌ جَائِزٌ غَيْرُ لَازِمٍ، وَنَوْعًا لَهُمْ عَهْدٌ مُؤَقَّتٌ، فَأَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْ يَنْبِذَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ أَهْلِ الْعَهْدِ الْمُطْلَقِ ; لِأَنَّ هَذَا الْعَهْدَ جَائِزٌ غَيْرُ لَازِمٍ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُسَيِّرَهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَمَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ مُؤَقَّتٌ فَهُوَ عَهْدٌ لَازِمٌ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُوَفِّيَ لَهُ إِذَا كَانَ مُؤَقَّتًا، وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ
إِلَى أَنَّ الْهُدْنَةَ لَا تَجُوزُ إِلَّا مُؤَقَّتَةً، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْسَخَ الْهُدْنَةَ مَعَ قِيَامِهِمْ بِالْوَاجِبِ، وَالصَّوَابُ هُوَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ، وَهُوَ أَنَّهَا تَجُوزُ مُطْلَقَةً وَمُؤَقَّتَةً.
فَأَمَّا الْمُطْلَقَةُ فَجَائِزَةٌ غَيْرُ لَازِمَةٍ، يُخَيَّرُ بَيْنَ إِمْضَائِهَا وَبَيْنَ نَقْضِهَا. وَالْمُؤَقَّتَةُ لَازِمَةٌ.
فَمِنَ الْحَوَادِثِ فِيهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ فَرَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَالِدًا فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ أَوْ جُمَادَى الْأَوَّلِ فِي سَنَةِ عَشْرٍ إِلَى بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ بِنَجْرَانَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يُقَاتِلَهُمْ، وَذَكَرَ الْقِصَّةَ، ثُمَّ قَالَ: وَفِيهَا قَدِمَ وَفْدُ الْأَزْدِ وَفِيهَا قَدِمَ
وَفْدُ غَسَّانَ وَفِيهَا قَدِمَ وَفْدُ زُبَيْدٍ، وَفِيهَا قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْجَارُودُ بْنُ عَمْرٍو فِي وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمُوا، وَفِيهَا قَدِمَ وَفْدُ
كِنْدَةَ فَأَسْلَمُوا، وَفِيهَا قَدِمَ وَفْدُ بَنِي حَنِيفَةَ، وَفِيهَا قَدِمَ وَفْدُ بَجِيلَةَ، قَالَ: وَفِيهَا قَدِمَ الْعَاقِبُ وَالسَّيِّدُ مِنْ نَجْرَانَ، فَكَتَبَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كِتَابَ صُلْحٍ.
وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ قُدُومَهُمْ فِي
الْوُفُودِ فَقَالَ: ذِكْرُ بَعْثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ عَشْرٍ إِلَى بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ ذَكَرَهُ بِإِسْنَادِهِ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى الْمَخْزُومِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِكْرِمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِيهِ، ثُمَّ ذَكَرَ قُدُومَ نَصَارَى نَجْرَانَ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، فَقَالَ: أَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْمَدَائِنِيُّ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ
رُومَانَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: وَأَنَا عَلِيُّ بْنُ مُجَاهِدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَعِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ، وَعَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، أَنَا يَزِيدُ بْنُ عَايِضِ بْنِ جُعْدُبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، وَعَنْ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَزِيدُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ قَالُوا: وَوَفْدُ فُلَانٍ وَفُلَانٍ فِي رِجَالٍ مِنْ خَثْعَمَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَمَا هَدَمَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه ذَا الْخَلَصَةِ، وَقَتَلَ مَنْ قَتَلَ مِنْ خَثْعَمَ، فَقَالُوا: آمَنَّا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
فَاكْتُبْ لَنَا كِتَابًا. وَذَكَرُوا الْقِصَّةَ، وَقُدُومَ وُفُودٍ مُتَعَدِّدَةٍ.
قَالُوا: وَقَدِمَ وَفْدُ نَجْرَانَ وَكَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَهْلِ نَجْرَانَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ مِنْ أَشْرَافِهِمْ نَصَارَى وَفِيهِمْ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ يَتَوَلَّوْنَ أُمُورَهُمْ: الْعَاقِبُ، وَاسْمُهُ عَبْدُ الْمَسِيحِ رَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ وَهُوَ أَمِيرُهُمْ وَصَاحِبُ مَشُورَتِهِمْ وَالَّذِي يَصْدُرُونَ عَنْ رَأْيِهِ، وَأَبُو الْحَارِثِ أُسْقُفُّهُمْ وَإِمَامُهُمْ، وَصَاحِبُ مَدْرَاسِهِمْ، وَالسَّيِّدُ وَهُوَ صَاحِبُ رِحْلَتِهِمْ فَدَخَلُوا
الْمَسْجِدَ وَعَلَيْهِمْ ثِيَابُ الْحِبَرَةِ، وَأَرْدِيَةٌ مَكْفُوفَةٌ بِالْحَرِيرِ، فَقَامُوا
يُصَلُّونَ فِي الْمَسْجِدِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: دَعُوهُمْ، ثُمَّ أَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَعْرَضَ عَنْهُمْ فَلَمْ يُكَلِّمْهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ عُثْمَانُ: ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ زِيِّكُمْ هَذَا فَانْصَرَفُوا يَوْمَهُمْ ذَلِكَ، ثُمَّ غَدَوْا عَلَيْهِ بِزِيِّ الرُّهْبَانِ فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيْهِمْ وَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَأَبَوْا وَكَثُرَ الْكَلَامُ، وَالْحِجَاجُ بَيْنَهُمْ وَتَلَا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِنْ أَنْكَرْتُمْ مَا أَقُولُ فَهَلُمَّ أُبَاهِلْكُمْ. فَانْصَرَفُوا عَلَى ذَلِكَ، فَغَدَا عَبْدُ الْمَسِيحِ وَرَجُلَانِ مِنْ ذَوِي رَأْيِهِمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: قَدْ بَدَا لَنَا أَنْ لَا نُبَاهِلَكَ، فَاحْكُمْ عَلَيْنَا بِمَا أَحْبَبْتَ نُعْطِكَ وَنُصَالِحْكَ. فَصَالَحَهُمْ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ فِي رَجَبٍ، وَأَلْفٍ فِي صَفَرٍ، أَوْ قِيمَةِ كُلِّ حُلَّةٍ مِنَ الْأَوَاقِي، وَعَلَى عَارِيَّةٍ ثَلَاثِينَ دِرْعًا وَثَلَاثِينَ رُمْحًا، وَثَلَاثِينَ بَعِيرًا، وَثَلَاثِينَ فَرَسًا إِنْ كَانَ بِالْيَمَنِ كَيْدٌ. وَلِنَجْرَانَ وَحَاشِيَتِهِمْ جِوَارُ اللَّهِ وَذِمَّةُ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَمِلَّتِهِمْ، وَأَرْضِهِمْ، وَأَمْوَالِهِمْ، وَغَائِبِهِمْ، وَشَاهِدِهِمْ، وَبِيَعِهِمْ، لَا يُغَيَّرُ أُسْقُفٌّ مِنْ سِقِّيفَاهُ، وَلَا رَاهِبٌ مِنْ رَهْبَانِيَّتِهِ، وَلَا وَاقِفٌ مِنْ وَقْفَانِيَّتِهِ، وَأَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ شُهُودًا مِنْهُمْ
أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَالْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، فَرَجَعُوا إِلَى بِلَادِهِمْ، فَلَمْ يَلْبَثِ السَّيِّدُ وَالْعَاقِبُ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى رَجَعَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَسْلَمَا وَأَنْزَلَهُمَا دَارَ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ، وَأَقَامَ أَهْلُ نَجْرَانَ عَلَى مَا كَتَبَ لَهُمْ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَرَحْمَتُهُ وَرِضْوَانُهُ.
ثُمَّ وُلِّيَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه فَكَتَبَ بِالْوَصَاةِ بِهِمْ عِنْدَ وَفَاتِهِ، ثُمَّ أَصَابُوا رِبًا فَأَخْرَجَهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِنْ أَرْضِهِمْ، وَكَتَبَ لَهُمْ هَذَا مَا كَتَبَ عُمَرُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لِنَجْرَانَ، أَنَّهُ مَنْ سَارَ مِنْهُمْ أَنَّهُ آمَنَ بِأَمَانِ اللَّهِ، لَا يَضُرُّهُمْ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَوَفَّى لَهُمْ بِمَا كَتَبَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ: أَمَّا بَعْدُ، فَمَنْ وَقَعُوا بِهِ مِنْ أُمَرَاءِ الشَّامِ وَأُمَرَاءِ الْعِرَاقِ فَلْيُوسِعْهُمْ مِنْ جَرِيبِ الْأَرْضِ فَمَا اعْتَمَلُوا مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ لَهُمْ صَدَقَةٌ، وَعَقَبَةٌ لَهُمْ فَكَانَ أَرْضُهُمْ لَا سَبِيلَ عَلَيْهِمْ فِيهِ لِأَحَدٍ وَلَا مُغْرِمٍ.
أَمَّا بَعْدُ فَمَنْ حَضَرَهُمْ مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ فَلْيَنْصُرْهُمْ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُمْ ; فَإِنَّهُمْ أَقْوَامٌ لَهُمُ الذِّمَّةُ، وَجِزْيَتُهُمْ عَنْهُمْ مَتْرُوكَةٌ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ شَهْرًا بَعْدَ أَنْ يَقْدَمُوا، وَلَا يُكَلَّفُوا إِلَّا مِنْ ضَيْعَتِهِمُ الَّتِي اعْتَمَلُوا غَيْرَ مَظْلُومِينَ وَلَا مَعْنُوفٍ عَلَيْهِمْ. شَهِدَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رضي الله عنه، وَمُعَيْقِيبُ بْنُ أَبِي فَاطِمَةَ، فَوَقَعَ نَاسٌ مِنْهُمُ الْعِرَاقَ، فَنَزَلُوا النَّجْرَانِيَّةَ الَّتِي بِنَاحِيَةِ الْكُوفَةِ.
وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَدَائِنِيِّ، عَنْ أَشْيَاخِهِ فِي حَدِيثِ وَفْدِ نَجْرَانَ، فَهُوَ يُوَافِقُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، فَإِنَّ قَوْلَهُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ مِنْ أَشْرَافِهِمْ يُوَافِقُ قَوْلَ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ جَعْفَرٍ قَالَ:
قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفْدُ نَجْرَانَ سِتُّونَ رَاكِبًا فِيهِمْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ مِنْ أَشْرَافِهِمْ فِي الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ، إِلَيْهِمْ يَئُولُ أَمْرُهُمُ الْعَاقِبُ أَمِيرُ الْقَوْمِ، وَذُو رَأْيِهِمْ، وَصَاحِبُ مَشُورَتِهِمْ، وَالَّذِي لَا يَصْدُرُونَ إِلَّا عَنْ رَأْيِهِ وَاسْمُهُ عَبْدُ الْمَسِيحِ وَالسَّيِّدُ ثَمَّالُهُمْ، وَصَاحِبُ رَحْلِهِمْ وَنَجْعَتِهِمْ، وَاسْمُهُ الْأَيْهَمُ، وَأَبُو حَارِثَةَ بْنُ عَلْقَمَةَ أَخُو بَنِي بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ أُسْقُفُّهُمْ، وَحَبْرُهُمْ، وَإِمَامُهُمْ وَصَاحِبُ مَدْرَاسِهِمْ، وَكَانَ أَبُو حَارِثَةَ قَدْ شَرُفَ فِيهِمْ وَدَرَسَ كُتُبَهُمْ حَتَّى حَسُنَ عِلْمُهُ فِي دِينِهِمْ، فَكَانَتْ مُلُوكُ الرُّومِ مِنْ أَهْلِ النَّصْرَانِيَّةِ قَدْ شَرَّفُوهُ، وَمَوَّلُوهُ، وَأَخْدَمُوهُ، وَبَنَوْا لَهُ الْكَنَائِسَ، وَبَسَطُوا لَهُ الْكَرَامَاتِ لِمَا بَلَغَهُمْ عَنْهُ مِنْ عِلْمِهِ وَاجْتِهَادِهِ فِي دِينِهِمْ، فَلَمَّا وَجَّهُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ نَجْرَانَ جَلَسَ
أَبُو حَارِثَةَ عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ مُوَجِّهًا وَإِلَى جَنْبِهِ أَخٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ كُرْزُ بْنُ عَلْقَمَةَ، فَعَثَرَتْ بَغْلَةُ أَبِي حَارِثَةَ، فَقَالَ كُرْزٌ: تَعِسَ الْأَبْعَدُ، يُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ أَبُو حَارِثَةَ: بَلْ أَنْتَ تَعِسْتَ، فَقَالَ، لِمَ يَا أَخِي؟ قَالَ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَلنَّبِيُّ الَّذِي كُنَّا نَنْتَظِرُهُ، فَقَالَ لَهُ كُرْزٌ: فَمَا مَنْعَكَ مِنْهُ وَأَنْتَ تَعْلَمُ هَذَا؟ قَالَ: مَا صَنَعَ بِنَا هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ شَرَّفُونَا، وَمَوَّلُونَا، وَأَكْرَمُونَا، وَقَدْ أَبَوْا إِلَّا خِلَافَهُ، فَلَوْ فَعَلْتُ نَزَعُوا مِنَّا كُلَّ مَا تَرَى فَأَضْمَرَ عَلَيْهَا مِنْهُ أَخُوهُ كُرْزُ بْنُ عَلْقَمَةَ حَتَّى أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ وَهُوَ كَانَ يُحَدِّثُ عَنْهُ هَذَا الْحَدِيثَ فِيمَا بَلَغَنِي.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَبَلَغَنِي أَنَّ رُؤَسَاءَ نَجْرَانَ كَانُوا يَتَوَارَثُونَ كِتَابًا عِنْدَهُمْ فَكُلَّمَا مَاتَ
رَئِيسٌ مِنْهُمْ فَأَفْضَتِ الرِّيَاسَةُ إِلَى غَيْرِهِ، خَتَمَ عَلَى تِلْكَ الْكُتُبِ خَاتَمًا مَعَ الْخَوَاتِمِ الَّتِي قَبْلَهُ وَلَمْ يَكْسِرْهَا، فَخَرَجَ الرَّئِيسُ الَّذِي كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمْشِي، فَعَثَرَ فَقَالَ ابْنُهُ: تَعِسَ الْأَبْعَدُ، يُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ: لَا تَفْعَلْ ; فَإِنَّهُ نَبِيٌّ وَاسْمُهُ فِي الْوَضَائِعِ، يَعْنِي الْكُتُبَ.
فَلَمَّا مَاتَ لَمْ تَكُنْ لِابْنِهِ هِمَّةٌ إِلَّا أَنْ شَدَّ فَكَسَرَ الْخَوَاتِمَ، فَوَجَدَ فِيهَا ذِكْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَسْلَمَ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَحَجَّ وَهُوَ يَقُولُ:
إِلَيْك تَغْدُو قَلِقًا وَضِينُهَا
…
مُعْتَرِضًا فِي بَطْنِهَا جَنِينُهَا
مُخَالِفًا لِدِينِ النَّصَارَى دِينُهَا
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ مَسْجِدَهُ حِينَ صَلَّى الْعَصْرَ عَلَيْهِمْ ثِيَابُ الْحِبَرَاتِ جُبَبٌ، وَأَرْدِيَةٌ فِي جِمَالِ رِجَالِ بَنِي
الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: يَقُولُ بَعْضُ مَنْ رَآهُمْ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ: مَا رَأَيْنَا بَعْدَهُمْ وَفْدًا مِثْلَهُمْ، وَقَدْ حَانَتْ صَلَاتُهُمْ، فَقَامُوا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: دَعُوهُمْ، فَصَلَّوْا إِلَى الْمَشْرِقِ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ تَسْمِيَةُ الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ الَّذِينَ يَئُولُ إِلَيْهِمْ أَمْرُهُمْ: الْعَاقِبُ وَهُوَ عَبْدُ الْمَسِيحِ، وَالسَّيِّدُ وَهُوَ الْأَيْهَمُ، وَأَبُو حَارِثَةَ بْنُ عَلْقَمَةَ أَخُو بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، وَأَوْسٌ، وَالْحَارِثُ، وَزَيْدٌ، وَقَيْسٌ، وَيَزِيدُ، وَنُبَيْهٌ، وَخُوَيْلِدٌ، وَعُمَرُ، وَخَالِدٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَيُحَنَّسُ فِي سِتِّينَ رَاكِبًا، فَكَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهُمْ أَبُو حَارِثَةَ بْنُ عَلْقَمَةَ، وَالْعَاقِبُ عَبْدُ الْمَسِيحِ، وَالْأَيْهَمُ السَّيِّدُ، وَهُمْ مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ عَلَى دِينِ الْمَلِكِ مَعَ اخْتِلَافِهِمْ مِنْ أَمْرِهِمْ يَقُولُونَ هُوَ اللَّهُ، وَيَقُولُونَ هُوَ وَلَدُ اللَّهِ، وَيَقُولُونَ هُوَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ النَّصْرَانِيَّةِ.
فَهُمْ يَحْتَجُّونَ فِي قَوْلِهِمْ: هُوَ اللَّهُ، بِأَنَّهُ كَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى، وَيُبْرِئُ الْأَسْقَامَ، وَيُخْبِرُ بِالْغُيُوبِ، وَيَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ، ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَائِرًا، وَذَلِكَ كُلُّهُ بِأَمْرِ اللَّهِ وَلِيَجْعَلَهُ آيَةَ النَّاسِ.
وَيَحْتَجُّونَ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ وَلَدُ اللَّهِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ
يُعْلَمُ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي الْمَهْدِ، وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يَصْنَعْهُ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِ آدَمَ.
وَيَحْتَجُّونَ فِي قَوْلِهِمْ: ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، بِقَوْلِ اللَّهِ: فَعَلِمْنَا، وَأَمَرْنَا، وَخَلَقْنَا، وَقَضَيْنَا، فَيَقُولُونَ: لَوْ كَانَ وَاحِدًا مَا قَالَ إِلَّا فَعَلْتُ، وَقَضَيْتُ، وَأَمَرْتُ، وَخَلَقْتُ، وَلَكِنَّهُ هُوَ عِيسَى وَمَرْيَمُ فَفِي كُلِّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ قَدْ نَزَلَ الْقُرْآنُ فَلَمَّا كَلَّمَهُ الْحَبْرَانِ، قَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَسْلِمَا، قَالَا: قَدْ أَسْلَمْنَا. قَالَ: إِنَّكُمَا لَمْ تُسْلِمَا فَأَسْلِمَا، قَالَا: بَلَى، قَدْ أَسْلَمْنَا قَبْلَكَ. قَالَ: كَذَبْتُمَا، يَمْنَعُكُمَا مِنَ الْإِسْلَامِ دَعْوَاكُمَا لِلَّهِ وَلَدًا، وَعِبَادَتُكُمَا لِلصَّلِيبِ، وَأَكْلُكُمَا لِلْخِنْزِيرِ، قَالَا: فَمَنْ أَبُوهُ يَا مُحَمَّدُ؟ فَصَمَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْهُمَا، فَلَمْ يُجِبْهُمَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ فِي أَمْرِهِمْ كُلِّهِ صَدْرًا مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ إِلَى بِضْعٍ وَثَمَانِينَ آيَةً.
وَذَكَرَ نُزُولَ الْآيَاتِ بِسَبَبِهِمْ غَيْرُ وَاحِدٍ مِثْلَمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ - يَعْنِي - عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيَّ، عَنْ أَبِيهِ، «عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{الم - اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران: 1 - 2] . قَالَ: إِنَّ النَّصَارَى أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَخَاصَمُوهُ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَقَالُوا لَهُ: مَنْ أَبُوهُ؟ وَقَالُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ
وَالْبُهْتَانَ - لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ وَلَدٌ إِلَّا وَهُوَ يُشْبِهُ أَبَاهُ؟ ، قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَبَّنَا حَيٌّ لَا يَمُوتُ وَأَنَّ عِيسَى يَأْتِي عَلَيْهِ الْفَنَاءُ؟ ، قَالُوا: بَلَى. قَالَ: أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَبَّنَا قَيِّمٌّ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ يَكْلَؤُهُ وَيَحْفَظُهُ وَيَرْزُقُهُ؟ ، قَالُوا: بَلَى. قَالَ: فَهَلْ يَمْلِكُ عِيسَى مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ؟ ، قَالُوا: بَلَى. قَالَ: فَهَلْ يَعْلَمُ عِيسَى مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا إِلَّا مَا عُلِّمَ؟ ، قَالُوا: لَا. قَالَ: فَإِنَّ رَبَّنَا صَوَّرَ عِيسَى فِي الرَّحِمِ كَيْفَ شَاءَ قَالَ: أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَبَّنَا لَا يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَلَا يَشْرَبُ الشَّرَابَ وَلَا يُحْدِثُ الْحَدَثَ؟ ، قَالُوا: بَلَى. قَالَ: أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ عِيسَى حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كَمَا تَحْمِلُ الْمَرْأَةُ، ثُمَّ وَضَعَتْهُ كَمَا تَضَعُ الْمَرْأَةُ وَلَدَهَا، ثُمَّ غُذِّيَ كَمَا يَتَغَذَّى الصَّبِيُّ، ثُمَّ كَانَ يَطْعَمُ الطَّعَامَ وَيَشْرَبُ الشَّرَابَ وَيُحْدِثُ الْحَدَثَ؟ ، قَالُوا: بَلَى. قَالَ: فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا كَمَا زَعَمْتُمْ؟ . قَالَ: فَعَرَفُوا ثُمَّ أَبَوْا إِلَّا الْجُحُودَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {الم - اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران: 1 - 2] » .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ حَدِيثُ وَفْدِ نَجْرَانَ فَفِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ عَنْ حُذَيْفَةَ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} [آل عمران: 61] .
وَفِي الْبُخَارِيِّ «عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ جَاءَ السَّيِّدُ وَالْعَاقِبُ صَاحِبَا نَجْرَانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُرِيدَانِ أَنْ يُلَاعِنَاهُ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: لَا تَفْعَلْ فَوَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ نَبِيًّا فَلَاعَنَنَا لَا نُفْلِحُ نَحْنُ وَلَا عَقِبُنَا مِنْ بَعْدِنَا، قَالَا: إِنَّمَا نُعْطِيكَ مَا سَأَلْتَنَا، وَابْعَثْ مَعَنَا رَجُلًا أَمِينًا، وَلَا تَبْعَثْ مَعَنَا إِلَّا أَمِينًا، قَالَ: لَأَبْعَثَنَّ مَعَكُمْ رَجُلًا أَمِينًا حَقَّ أَمِينٍ.
قَالَ فَاسْتَشْرَفَ لَهَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: قُمْ يَا أَبَا عُبَيْدَةَ ابْنَ الْجَرَّاحِ، فَلَمَّا قَامَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هَذَا أَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ» .
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ: أَخْبَرَنَا مُصَرِّفُ بْنُ عَمْرٍو الْيَامِيُّ، حَدَّثَنَا يُونُسُ يَعْنِي ابْنَ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ الْهَمْدَانِيُّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقُرَشِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ «صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ نَجْرَانَ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ،
النِّصْفُ فِي صَفَرٍ، وَالنِّصْفُ فِي رَجَبٍ، يُؤَدُّونَهَا إِلَى الْمُسْلِمِينَ ; وَعَارِيَةٍ ثَلَاثِينَ دِرْعًا، وَثَلَاثِينَ فَرَسًا، وَثَلَاثِينَ بَعِيرًا، وَثَلَاثِينَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِ السِّلَاحِ يَغْزُونَ بِهَا، وَالْمُسْلِمُونَ ضَامِنُونَ لَهَا حَتَّى يَرُدُّوهَا عَلَيْهِمْ إِنْ كَانَ بِالْيَمِينِ كَيْدٌ ذَاتُ غَدْرٍ، عَلَى أَنْ لَا يُهْدَمَ لَهُمْ بَيْعَةٌ، وَلَا يُخْرَجَ لَهُمْ قَسٌّ، وَلَا يُفْتَنُونَ عَنْ دِينِهِمْ مَا لَمْ يُحْدِثُوا حَدَثًا، أَوْ يَأْكُلُوا الرِّبَا» .
قَالَ إِسْمَاعِيلُ: فَقَدْ أَكَلُوا الرِّبَا. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: إِذَا نَقَضُوا بَعْضَ مَا شُرِطَ عَلَيْهِمْ فَقَدْ أَحْدَثُوا.
وَمَا ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ وَأَهْلُ السِّيَرِ مِنْ مُصَالَحَتِهِ لِأَهْلِ نَجْرَانَ عَلَى
الْجِزْيَةِ الْمَذْكُورَةِ مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ ذَكَرَهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ:
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ رحمه الله: حَدَّثَنَا أَبُو أَيُّوبَ الدِّمَشْقِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَعْدَانُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حُمَيْدٍ، عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ الْهُذَلِيِّ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَالَحَ أَهْلَ نَجْرَانَ، فَكَتَبَ لَهُمْ كِتَابًا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذَا مَا كَتَبَ مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأَهْلِ نَجْرَانَ، إِذْ كَانَ لَهُ
حُكْمُهُ عَلَيْهِمْ أَنَّ فِي كُلِّ سَوْدَاءَ وَبَيْضَاءَ وَصَفْرَاءَ وَحَمْرَاءَ أَوْ ثَمَرَةٍ وَرَقِيقٍ وَأُفْضِلَ عَلَيْهِمْ وَتَرَكَ ذَلِكَ لَهُمْ أَلْفَيْ حُلَّةٍ، فِي كُلِّ صَفَرٍ أَلْفُ حُلَّةٍ، وَفِي كُلِّ رَجَبٍ أَلْفُ حُلَّةٍ، كُلُّ حُلَّةٍ أُوقِيَّةٌ مَا زَادَ الْخَرَاجُ أَوْ نَقَصَ فَعَلَى الْأَوَاقِي فَلْيُحْسَبْ، وَمَا قَضَوْا مِنْ رِكَابٍ أَوْ خَيْلٍ أَوْ دُرُوعٍ أُخِذَ مِنْهُمْ بِالْحِسَابِ، وَعَلَى أَهْلِ نَجْرَانَ مَقْرَى رُسُلِي عِشْرِينَ لَيْلَةً فَمَا دُونَهَا وَعَلَيْهِمْ عَارِيَةُ ثَلَاثِينَ فَرَسًا وَثَلَاثِينَ بَعِيرًا وَثَلَاثِينَ دِرْعًا إِذَا كَانَ كَيْدٌ بِالْيَمَنِ ذُو مَغْدَرَةٍ، وَمَا هَلَكَ مِمَّا أَعَارُوا رُسُلِي فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى رُسُلِي حَتَّى يُؤَدُّوهُ إِلَيْهِمْ وَلِنَجْرَانَ وَحَاشِيَتِهَا ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَمِلَّتِهِمْ وَبِيَعِهِمْ وَرُهْبَانِهِمْ وَأَسَاقِفِهِمْ وَشَاهِدِهِمْ وَغَائِبِهِمْ وَكُلِّ مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، وَعَلَى أَنْ لَا يُغَيِّرُوا أُسْقُفًّا مِنْ سَقِيفَاهُ، وَلَا وَاقِهًا مِنْ وَقِيهَاهُ، وَلَا رَاهِبًا مِنْ رَهَابِنِهِ، وَعَلَى أَنْ لَا يُخْسِرُوا، وَلَا يُعْشِرُوا، وَلَا يَطَأَ أَرْضَهُمْ جَيْشٌ، وَمَنْ مَلَكَ مِنْهُمْ حَقًّا فَالنِّصْفُ بَيْنَهُمْ بِنَجْرَانَ، عَلَى أَنْ لَا يَأْكُلُوا الرِّبَا، فَمَنْ أَكَلَ الرِّبَا مِنْ ذِي قَبْلُ فَذِمَّتِي مِنْهُمْ بَرِيئَةٌ وَعَلَيْهِمُ الْجُهْدُ وَالنُّصْحُ فِيمَا اسْتَقْبَلُوا غَيْرَ مَظْلُومِينَ وَلَا مَعْنُوفٍ عَلَيْهِمْ، شَهِدَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَمُعَيْقِيبٌ» .
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْوَاقَةُ وَلِيُّ الْعَهْدِ فِي لُغَةِ بِلْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ يَقُولُ: إِذَا مَاتَ هَذَا الْأُسْقُفُّ قَامَ الْآخَرُ مَكَانَهُ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: قَالَ أَبُو أَيُّوبَ وَحَدَّثَنِي عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حُمَيْدٍ، عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ ذَلِكَ، وَزَادَ فِي حَدِيثِهِ قَالَ:«فَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَتَوْا أَبَا بَكْرٍ، فَوَفَّى لَهُمْ بِذَلِكَ، وَكَتَبَ لَهُمْ كِتَابًا نَحْوًا مِنْ كِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا وُلِّيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَصَابُوا الرِّبَا فِي زَمَانِهِ، فَأَجْلَاهُمْ عُمَرُ، وَكَتَبَ لَهُمْ: أَمَّا بَعْدُ فَمَنْ وَقَعُوا بِهِ مِنْ أُمَرَاءِ الشَّامِ أَوِ الْعِرَاقِ فَلْيُوسِعْهُمْ مِنْ جَرِيبِ الْأَرْضِ، وَمَا اعْتَمَلُوا مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ لَهُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ وَعُقْبَى مِنْ أَرْضِهِمْ، قَالَ فَأتَوُا الْعِرَاقَ فَاتَّخَذُوا النَّجْرَانِيَّةَ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَهِيَ قَرْيَةٌ بِالْكُوفَةِ» .
وَكَتَبَ عُثْمَانُ إِلَى الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْعَاقِبَ
وَالْأَسْقُفَّ وَسَرَاةَ أَهْلِ نَجْرَانَ أَتَوْنِي بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَرَوْنِي شَرْطَ عُمَرَ رضي الله عنه، وَقَدْ سَأَلْتُ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ فَأَنْبَأَنِي أَنَّهُ قَدْ كَانَ بَحَثَ عَلَى ذَلِكَ، فَوَجَدَهُ صَارَ لِلدَّهَاقِينِ لِيَرْدَعَهُمْ عَنْ أَرْضِهِمْ، وَإِنِّي قَدْ وَضَعْتُ عَنْهُمْ مِنْ جِزْيَتِهِمْ مِائَتَيْ حُلَّةٍ لِوَجْهِ اللَّهِ وَعُقْبَى لَهُمْ مِنْ أَرْضِهِمْ، وَإِنِّي أُوصِيكَ بِهِمْ فَإِنَّهُمْ قَوْمٌ لَهُمْ ذِمَّةٌ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَحَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ لِأَهْلِ نَجْرَانَ: مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ هَذِهِ النُّسْخَةِ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِهِ قِصَّةُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما، وَفِي آخِرِهِ شَهِدَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَغِيلَانُ بْنُ عَمْرٍو وَمَالِكُ بْنُ
عَوْفٍ مِنْ بَنِي نَضْرٍ، وَالْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ الْحَنْظَلِيُّ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ الْأَيْلِيِّ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَوَّلُ مَنْ أَعْطَى الْجِزْيَةَ أَهْلُ نَجْرَانَ وَكَانُوا نَصَارَى.
فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} [آل عمران: 64] .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَدْ كَتَبَ إِلَى هِرَقْلَ مَعَ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ مُدَّةَ هُدْنَتِهِ لِلْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ إِذْ ذَاكَ لَمْ يُسْلِمْ، وَقَدْ حَضَرَ عِنْدَ هِرَقْلَ، وَسَأَلَهُ هِرَقْلُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَبُو سُفْيَانَ أَسْلَمَ عَامَ الْفَتْحِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ كَانَ قَبْلَ الْفَتْحِ، وَنُزُولُ آيَةِ الْجِزْيَةِ كَانَ بَعْدَ الْفَتْحِ سَنَةَ تِسْعٍ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ قَبْلَ آيَةِ الْجِزْيَةِ، وَقَبْلَ آيَةِ الْمُبَاهَلَةِ، وَآيَةُ الْمُبَاهَلَةِ قَدْ عُلِمَ يَقِينًا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ قُدُومِ وَفْدِ نَجْرَانَ وَالْمُفَسِّرُونَ وَأَهْلُ السِّيَرِ ذَكَرُوا أَنَّ آلَ عِمْرَانَ نَزَلَتْ بِسَبَبِ مُنَاظَرَةِ أَهْلِ نَجْرَانَ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مِنْ نَقْلِ أَهْلِ الْحَدِيثِ بِالْإِسْنَادِ الْمُتَّصِلِ.
وَنَقَلَ أَهْلُ الْمَغَازِي وَالسِّيَرِ أَنَّ وَفْدَ نَجْرَانَ صَالَحَهُمْ عَلَى الْجِزْيَةِ وَهُمْ أَوَّلُ مَنْ أَدَّاهَا، فَعُلِمَ أَنَّ قُدُومَهُمْ كَانَ بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ الْجِزْيَةِ، وَآيَةُ الْجِزْيَةِ نَزَلَتْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَعُلِمَ أَنَّ قُدُومَ وَفْدِ نَجْرَانَ كَانَ بَعْدَ آيَةِ السَّيْفِ الَّتِي هِيَ آيَةُ الْجِزْيَةِ.
قَالَ الزُّهْرِيُّ: أَهْلُ نَجْرَانَ أَوَّلُ مَنْ أَدَّى الْجِزْيَةَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64] . بَعْدَهَا آيَاتٌ نَزَلَتْ قَبْلَ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ - يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران: 70 - 71] .
فَيَكُونُ هَذَا مِمَّا تَقَدَّمَ نُزُولُهُ وَتِلْكَ مِمَّا تَأَخَّرَ نُزُولُهُ، وَجُمِعَ بَيْنَهُمَا
لِلْمُنَاسَبَةِ كَمَا فِي نَظَائِرِهِ، فَإِنَّ الْآيَاتِ كَانَتْ إِذَا نَزَلَتْ يَأْمُرُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَضَعَهَا فِي مَوَاضِعَ تُنَاسِبُهَا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ، وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64] لَفْظُهَا يَعُمُّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى. وَكَذَلِكَ ذَكَرَ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّهَا دُعَاءٌ لِطَائِفَتَيْنِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَعَا بِهَا الْيَهُودَ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ نُزُولَهَا مُتَقَدِّمٌ، فَإِنَّ دُعَاءَهُ لِلْيَهُودِ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الْجِزْيَةِ، وَلِهَذَا لَمْ يَضْرِبِ الْجِزْيَةَ عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ يَهُودِ الْحِجَازِ، وَلَكِنْ لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ وَكَانَ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِهَا يَهُودُ أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا أَوْ عَدْلَهُ مَعَافِرًا، وَهَذَا كَانَ مُتَأَخِّرًا بَعْدَ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَتُوُفِّيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَمُعَاذٌ بِالْيَمَنِ، قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ
فِي تَفْسِيرِهِ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حَوْشَبٍ وَغَيْرُهُ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ
كَتَبَ إِلَى أَلْيُونَ طَاغِيَةِ الرُّومِ، قَالَ: فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ} [آل عمران: 64] يَعْنِي الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64] .
وَرُوِيَ بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64] .
قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَعَا يَهُودَ أَهْلِ الْكِتَابِ فَأَبَوْا عَلَيْهِ فَجَاهَدَهُمْ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا خِطَابٌ لِلطَّائِفَتَيْنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ - هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ - مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 65 - 67] .
وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ، أَنَّ أَهْلَ نَجْرَانَ كَانَ مِنْهُمْ نَصَارَى أَهْلُ ذِمَّةٍ وَكَانَ مِنْهُمْ مُسْلِمُونَ - وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ - وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ لِهَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ، وَاسْتَعْمَلَ عَمْرَو بْنَ حَزْمٍ عَلَى هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ، كَمَا أَخْرَجَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينًا، وَإِنَّ أَمِينَنَا أَيَّتُهَا الْأُمَّةُ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ» .
وَعَنْ أَنَسٍ أَيْضًا: أَنَّ أَهْلَ الْيَمَنِ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا ابْعَثْ مَعَنَا رَجُلًا أَمِينًا، يُعَلِّمُنَا السُّنَّةَ وَالْإِسْلَامَ، فَأَخَذَ بِيَدِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، فَقَالَ: هَذَا أَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، قَالَ:«جَاءَ أَهْلُ نَجْرَانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْعَثْ إِلَيْنَا رَجُلًا أَمِينًا، فَقَالَ: لَأَبْعَثَنَّ إِلَيْكُمْ رَجُلًا أَمِينًا حَقَّ أَمِينٍ حَقَّ أَمِينٍ» .
قَالَ: فَاسْتَشْرَفَ لَهَا النَّاسُ، قَالَ: فَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ.
وَكَذَلِكَ اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِمْ عَمْرَو بْنَ حَزْمٍ، وَكَتَبَ لَهُ الْكِتَابَ الْمَشْهُورَ الَّذِي فِيهِ الْفَرَائِضُ وَالسُّنَنُ، وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ بِطُولِهِ، وَرَوَى النَّاسُ بَعْضَهُ مُفَرَّقًا.
وَمُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ لَمْ يَذْكُرْ بَعْدَ وَفْدِ نَجْرَانَ إِلَّا وَفْدَ جَيْشَانَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قُدُومَهُمْ كَانَ مُتَأَخِّرًا، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ ذَكَرَ قُدُومَهُمْ فِي أَوَائِلِ السِّيرَةِ مَعَ قِصَّةِ الْيَهُودِ ; لِيَجْمَعَ بَيْنَ خَبَرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَذَكَرَ فِي سَنَةِ عَشْرٍ فَتْحَ نَجْرَانَ، وَإِرْسَالَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَإِرْسَالُ خَالِدٍ ذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ مُتَأَخِّرًا قَبْلَ وَفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَأَنَّهُ قَدِمَ وَفْدٌ مِنْهُمْ بِالْإِسْلَامِ، وَهَذَا إِنَّمَا كَانَ بَعْدَ قُدُومِ وَفْدِ النَّصَارَى ; فَإِنَّهُ قَدْ ذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ أَنَّ الْعَاقِبَ وَالسَّيِّدَ أَسْلَمَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَالْعَهْدُ بِالْجِزْيَةِ إِنَّمَا كَانَ مَعَ النَّصَارَى، وَآيَةُ الْجِزْيَةِ هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] .
وَهَذِهِ آيَةُ السَّيْفِ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَدْ ذُكِرَ فِيهَا قِتَالُهُمْ إِذَا لَمْ يُؤْمِنُوا حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْخُذْ مِنْ أَحَدٍ الْجِزْيَةَ إِلَّا بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ، بَلْ وَقَالُوا: إِنَّ أَهْلَ نَجْرَانَ أَوَّلُ مَنْ أُخِذَتْ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ كَالزُّهْرِيِّ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّهُ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ لَمْ يَضْرِبِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَحَدٍ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ جِزْيَةً لَا مِنَ الْأُمِّيِّينَ وَلَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلِهَذَا لَمْ يَضْرِبْهَا عَلَى يَهُودِ قَيْنُقَاعَ وَالنَّضِيرِ وَقُرَيْظَةَ وَلَا ضَرَبَهَا عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ ; فَإِنَّهَا فُتِحَتْ سَنَةَ سَبْعٍ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ
الْجِزْيَةِ، وَأَقَرَّهُمْ فَلَّاحِينَ، وَهَادَنَهُمْ هُدْنَةً مُطْلَقَةً قَالَ فِيهَا: نُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ.
فَإِذَا كَانَ أَوَّلَ مَا أَخَذَهَا مِنْ وَفْدِ نَجْرَانَ عُلِمَ أَنَّ قُدُومَهُمْ عَلَيْهِ وَمُنَاظَرَتَهُ لَهُمْ وَمُحَاجَّتَهُ إِيَّاهُمْ، وَطَلَبَهُ الْمُبَاهَلَةَ مَعَهُمْ كَانَتْ بَعْدَ آيَةِ السَّيْفِ الَّتِي فِيهَا قِتَالُهُمْ.
وَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ مُجَادَلَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا، مُحْكَمٌ لَمْ يَنْسَخْهُ شَيْءٌ، وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ تَعَالَى مِنْ مُجَادَلَةِ الْخَلْقِ مُطْلَقًا بِقَوْلِهِ:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] .
فَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: آيَاتُ الْمُجَادَلَةِ وَالْمُحَاجَّةِ لِلْكُفَّارِ مَنْسُوخَاتٌ بِآيَةِ السَّيْفِ ; لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْقِتَالِ الْمَشْرُوعِ يُنَافِي الْمُجَادَلَةَ الْمَشْرُوعَةَ وَهَذَا غَلَطٌ، فَإِنَّ النَّسْخَ إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا كَانَ الْحُكْمُ النَّاسِخُ مُنَاقِضًا لِلْحُكْمِ الْمَنْسُوخِ، كَمُنَاقَضَةِ الْأَمْرِ بِاسْتِقْبَالِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي الصَّلَاةِ لِلْأَمْرِ بِاسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِالشَّامِ، وَمُنَاقَضَةِ الْأَمْرِ بِصِيَامِ رَمَضَانَ لِلْمُقِيمِ لِلتَّخْيِيرِ بَيْنَ الصِّيَامِ وَبَيْنَ إِطْعَامِ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا، وَمُنَاقَضَةِ نَهْيِهِ عَنْ تَعَدِّي الْحُدُودِ الَّتِي فَرَضَهَا لِلْوَرَثَةِ لِلْأَمْرِ بِالْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، وَمُنَاقَضَةِ قَوْلِهِ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ عَنِ الْقِتَالِ لِقَوْلِهِ: قَاتِلُوهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} [النساء: 77] .
فَأَمْرُهُ لَهُمْ بِالْقِتَالِ نَاسِخٌ لِأَمْرِهِ لَهُمْ بِكَفِّ أَيْدِيهِمْ عَنْهُمْ، فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] .
وَقَوْلُهُ: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت: 46] .