الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَهَذَا لَا يُنَاقِضُهُ الْأَمْرُ بِجِهَادِ مَنْ أَمَرَ بِجِهَادِهِ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّ الْأَمْرَ بِالْقِتَالِ يُنَاقِضُ النَّهْيَ عَنْهُ وَالِاقْتِصَارَ عَلَى الْمُجَادَلَةِ.
[وُجُوهُ الْجَمْعِ بَيْنَ مُجَادَلَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَقِتَالِهِمْ]
فَأَمَّا مَعَ إِمْكَانِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْجِدَالِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَالْقِتَالِ الْمَأْمُورِ بِهِ، فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا، وَإِذَا لَمْ يَتَنَافَيَا بَلْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ لَمْ يَجُزِ الْحُكْمُ بِالنَّسْخِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَنْفَعُ حَيْثُ لَا يَنْفَعُ الْآخَرُ، وَأَنَّ اسْتِعْمَالَهُمَا جَمِيعًا أَبْلَغُ فِي إِظْهَارِ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ وُجُوهٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْعَهْدِ وَالْمُسْتَأْمَنِ مِنْهُمْ لَا يُجَاهَدُ بِالْقِتَالِ، فَهُوَ دَاخِلٌ فِيمَنْ أَمَرَ اللَّهُ بِدَعْوَتِهِ وَمُجَادَلَتِهِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَلَيْسَ هُوَ دَاخِلًا فِيمَنْ أَمَرَ اللَّهُ بِقِتَالِهِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا} [العنكبوت: 46] .
فَالظَّالِمُ لَمْ يُؤْمَرْ بِجِدَالِهِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، فَمَنْ كَانَ ظَالِمًا مُسْتَحِقًّا لِلْقِتَالِ غَيْرَ طَالِبٍ لِلْعِلْمِ وَالدِّينِ فَهُوَ مِنْ هَؤُلَاءِ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ لَا يُجَادَلُونَ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، بِخِلَافِ مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ وَالدِّينَ، وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ ظُلْمٌ، سَوَاءٌ كَانَ قَصْدُهُ الِاسْتِرْشَادَ، أَوْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ عَلَى حَقٍّ يَقْصِدُ نَصْرَ مَا يَظُنُّهُ حَقًّا، وَمَنْ كَانَ قَصْدُهُ الْعِنَادَ يَعْلَمُ أَنَّهُ عَلَى بَاطِلٍ وَيُجَادِلُ عَلَيْهِ فَهَذَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمُجَادَلَتِهِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، لَكِنْ قَدْ نُجَادِلُهُ بِطُرُقٍ أُخْرَى نُبَيِّنُ فِيهَا عِنَادَهُ وَظُلْمَهُ وَجَهْلَهُ جَزَاءً لَهُ بِمُوجِبِ عَمَلِهِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: 6] .
فَهَذَا مُسْتَجِيرٌ مُسْتَأْمِنٌ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ أَمَرَ اللَّهُ بِإِجَارَتِهِ حَتَّى تَقُومَ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَيْهِ، ثُمَّ يُبْلِغُهُ مَأْمَنَهُ، وَهَذَا فِي سُورَةِ (بَرَاءَةَ) الَّتِي فِيهَا نَقْضُ الْعُهُودِ، وَفِيهَا آيَةُ السَّيْفِ، وَذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ فِي ضِمْنِ الْأَمْرِ بِنَقْضِ الْعُهُودِ ; لِيُبَيِّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ مِثْلُ هَذَا يَجِبُ أَمَانُهُ ; حَتَّى تَقُومَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ، لَا تَجُوزُ مُحَارَبَتُهُ كَمُحَارَبَةِ مَنْ لَمْ يَطْلُبْ أَنْ يُبَلَّغَ حُجَّةَ اللَّهِ عَلَيْهِ.
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: 6] إِنْ لَمْ يُوَافِقْهُ مَا نَقُصُّ عَلَيْهِ وَنُخْبِرُ بِهِ فَأَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ، قَالَ: وَلَيْسَ هَذَا بِمَنْسُوخٍ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَنْ جَاءَكَ وَاسْتَمَعَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَهُوَ آمِنٌ حَتَّى
يَأْتِيَكَ.
وَقَالَ عَطَاءٌ فِي الرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ يَأْتِي الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ عَهْدٍ، قَالَ: تُخَيِّرُهُ إِمَّا أَنْ تُقِرَّهُ، وَإِمَّا أَنْ تُبْلِغَهُ مَأْمَنَهُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] .
قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ يُسْمِعُهُ سَمْعًا يَتَمَكَّنُ مَعَهُ مِنْ فَهْمِ مَعْنَاهُ، إِذِ الْمَقْصُودُ لَا يَقُومُ بِمُجَرَّدِ سَمْعِ لَفْظٍ لَا يَتَمَكَّنُ مَعَهُ مِنْ فَهْمِ الْمَعْنَى، فَلَوْ كَانَ غَيْرَ عَرَبِيٍّ وَجَبَ أَنْ يُتَرْجَمَ لَهُ مَا يَقُومُ بِهِ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ -
وَلَوْ كَانَ عَرَبِيًّا - وَفِي الْقُرْآنِ أَلْفَاظٌ غَرِيبَةٌ لَيْسَتْ لُغَتَهُ، وَجَبَ أَنْ يُبَيَّنَ لَهُ مَعْنَاهَا، وَلَوْ سَمِعَ اللَّفْظَ كَمَا يَسْمَعُهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَلَمْ يَفْقَهِ الْمَعْنَى وَطَلَبَ مِنَّا أَنْ نُفَسِّرَهُ لَهُ وَنُبَيِّنَ لَهُ مَعْنَاهُ، فَعَلَيْنَا ذَلِكَ.
وَإِنْ سَأَلَنَا عَنْ سُؤَالٍ يَقْدَحُ فِي الْقُرْآنِ أَجَبْنَاهُ عَنْهُ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَوْرَدَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ أَوْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَوِ الْمُسْلِمِينَ سُؤَالًا يُورِدُونَهُ عَلَى الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ كَانَ يُجِيبُهُ عَنْهُ كَمَا أَجَابَ ابْنَ الزِّبَعْرِيِّ لَمَّا قَاسَ الْمَسِيحَ عَلَى آلِهَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَظَنَّ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ بِمُجَرَّدِ كَوْنِهِمْ مَعْبُودِينَ، وَأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي كُلَّ مَعْبُودٍ غَيْرِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ يُعَذَّبُ فِي الْآخِرَةِ، فَجَعَلَ الْمَسِيحَ مَثَلًا لِآلِهَةِ الْمُشْرِكِينَ قَاسَهُمْ عَلَيْهِ قِيَاسَ الْفَرْعِ عَلَى الْأَصْلِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ - وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 57 - 58] .
فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ الْفَرْقَ الْمَانِعَ مِنَ الْإِلْحَاقِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101] .
وَبَيَّنَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَائِسِينَ مَا قَاسُوهُ إِلَّا جَدَلًا مَحْضًا لَا يُوجِبُ عِلْمًا ; لِأَنَّ الْفَرْقَ حَاصِلٌ بَيْنَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ، فَإِنَّ الْأَصْنَامَ إِذَا جُعِلُوا حَصَبًا لِجَهَنَّمَ كَانَ ذَلِكَ إِهَانَةً وَخِزْيًا لِعَابِدِيهَا مِنْ غَيْرِ تَعْذِيبِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ التَّعْذِيبَ، بِخِلَافِ مَا إِذَا عُذِّبَ عِبَادُ اللَّهِ الصَّالِحُونَ بِذَنْبِ غَيْرِهِمْ، فَإِنَّ هَذَا لَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ تَعَالَى، لَا سِيَّمَا عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْمُسْلِمِينَ وَسَائِرِ أَهْلِ الْمِلَلِ سَلَفِهِمْ وَخَلَفِهِمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْلُقُ وَيَأْمُرُ إِلَّا لِحِكْمَةٍ، وَلَا يَظْلِمُ أَحَدًا فَيُنْقِصُهُ شَيْئًا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَلَا يَحْمِلُ عَلَيْهِ سَيِّئَاتِ غَيْرِهِ، بَلْ وَلَا يُعَذِّبُ أَحَدًا إِلَّا بَعْدَ إِرْسَالِ رَسُولٍ إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} [طه: 112] .
وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا} [الجن: 13] .
وَقَالَ تَعَالَى: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل: 90] .
وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] .
وَمَنْ قَالَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ: إِنَّهُ يَجُوزُ مِنْهُ تَعَالَى فِعْلُ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّ الظُّلْمَ هُوَ الْمُمْتَنِعُ الَّذِي لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْقُدْرَةِ، فَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إِنَّمَا يَعْلَمُ مَا يَفْعَلُهُ وَمَا لَا يَفْعَلُهُ بِدَلَالَةِ خَبَرِ الصَّادِقِ أَوْ بِالْعَادَةِ، وَإِنْ كَانَ الْجُمْهُورُ يَسْتَدِلُّونَ بِخَبَرِ الصَّادِقِ وَبِغَيْرِهِ عَلَى مَا يَمْتَنِعُ مِنَ اللَّهِ.
وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ عِبَادَهُ الصَّالِحِينَ فِي الْجَنَّةِ، لَا يُعَذِّبُهُمْ فِي النَّارِ، بَلْ يَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا، وَيَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ، فَضْلًا أَنْ يُعَاقِبَهُمْ بِذَنْبِ غَيْرِهِمْ مَعَ كَرَاهِيَةٍ لِفِعْلِهِمْ، وَنَهْيِهِمْ عَنْ ذَلِكَ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ لَفْظَ (مَا) كَانَتْ تَتَنَاوَلُ الْمَسِيحَ وَأَخَّرَ بَيَانَ الْعَامِّ أَوْ أَجَابَ بِأَنَّ لَفْظَ (مَا) لَا يَتَنَاوَلُ إِلَّا مَا لَا يَعْقِلُ، فَالْقَوْلَانِ ضَعِيفَانِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ.
وَإِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ عَارَضُوا النَّصَّ الصَّحِيحَ بِقِيَاسٍ فَاسِدٍ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى فَسَادَ الْقِيَاسِ وَذَكَرَ الْفَرْقَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ.
وَكَذَلِكَ لَمَّا أَوْرَدَ بَعْضُ النَّصَارَى عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأُخْتَ هَارُونَ} [مريم: 28] ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ هَارُونَ هَذَا هُوَ هَارُونُ أَخُو مُوسَى بْنِ
عِمْرَانَ، وَأَنَّ عِمْرَانَ هَذَا هُوَ عِمْرَانُ أَبُو مَرْيَمَ أَمِّ الْمَسِيحِ، فَسُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، أَجَابَ بِأَنَّ هَارُونَ هَذَا لَيْسَ هُوَ ذَاكَ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ بِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ.
وَبَعْضُ جُهَّالِ النَّصَارَى يَقْدَحُ فِي الْقُرْآنِ بِمِثْلِ هَذَا وَلَا يَعْلَمُ هَذَا الْمُفْرِطُ فِي جَهْلِهِ أَنَّ آحَادَ النَّاسِ يَعْلَمُونَ أَنَّ بَيْنَ مُوسَى وَعِيسَى مُدَّةً طَوِيلَةً جِدًّا يَمْتَنِعُ مَعَهَا أَنْ يَكُونَ مُوسَى وَهَارُونُ خَالَيِ الْمَسِيحِ، وَأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَخْفَى عَلَى أَقَلِّ أَتْبَاعِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَخْفَى عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
وَهَذَا السُّؤَالُ مِمَّا أَوْرَدَهُ أَهْلُ نَجْرَانَ، كَمَا ثَبَتَ «عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَهْلِ نَجْرَانَ فَقَالُوا: أَلَسْتُمْ تَقْرَءُونَ {يَاأُخْتَ هَارُونَ} [مريم: 28] ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا بَيْنَ مُوسَى وَعِيسَى، فَلَمْ أَدْرِ مَا أُجِيبُهُمْ، فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: أَلَا أَخْبَرْتَهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ بِأَسْمَاءِ أَنْبِيَائِهِمْ وَالصَّالِحِينَ قَبْلَهُمْ؟» .
وَهَذَا السُّؤَالُ الَّذِي هُوَ سُؤَالُ الطَّاعِنِ فِي الْقُرْآنِ لَمَّا أَوْرَدَهُ أَهْلُ نَجْرَانَ الْكُفَّارُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يُجِبْهُمْ
عَنْهُ أَجَابَ عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يَقُلْ لَهُمْ: لَيْسَ لَكُمْ عِنْدِي إِلَّا السَّيْفُ، وَلَا قَالَ: قَدْ نَقَضْتُمُ الْعَهْدَ إِنْ كَانُوا قَدْ عَاهَدُوهُ، وَقَدْ عُرِفَ أَنَّ أَهْلَ نَجْرَانَ لَمْ يُرْسِلْ إِلَيْهِمْ رَسُولًا إِلَّا وَالْجِهَادُ مَأْمُورٌ بِهِ.
وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُورِدُونَ الْأَسْئِلَةَ عَلَيْهِ، كَمَا أَوْرَدَ عَلَيْهِ عُمَرُ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، لَمَّا صَالَحَ الْمُشْرِكِينَ وَلَمْ يَدْخُلْ مَكَّةَ فَقَالَ لَهُ: أَلَمْ تَكُنْ تُحَدِّثُنَا أَنَّا نَأْتِي الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ، قَالَ: بَلَى، أَقُلْتُ لَكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ فِي هَذَا الْعَامِ؟ ، قَالَ: لَا، قَالَ: فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَوِّفٌ بِهِ.
وَكَذَلِكَ أَجَابَهُ أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ يَكُنْ سَمِعَ جَوَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ، مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ فِي ظَاهِرِ اللَّفْظِ تَوْقِيتُ ذَلِكَ بِعَامٍ، وَلَكِنَّ السَّائِلَ ظَنَّ مَا لَا يَدُلُّ اللَّفْظُ عَلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ لَمَّا قَالَ: مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ، «قَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق: 7] .
فَقَالَ: ذَلِكَ الْعَرْضُ، وَمَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ» .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحِسَابَ الْيَسِيرَ لَا يَتَنَاوَلُ مَنْ نُوقِشَ، وَقَدْ زَادَهَا بَيَانًا، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ الْعَرْضُ لَا الْمُقَابَلَةُ الْمُتَضَمِّنَةُ لِلْمُنَاقَشَةِ.
فَبَيَّنَ صلى الله عليه وسلم أَنَّ هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ، وَهَذَا الدُّخُولُ هُوَ الَّذِي نَفَاهُ عَنْ أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَأَمَّا الْوُرُودُ فَهُوَ مُرُورُ النَّاسِ عَلَى الصِّرَاطِ، كَمَا فَسَّرَهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَهَذَا الْمُرُورُ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الدُّخُولِ الَّذِي يَجْزِي بِهِ الْعُصَاةَ، وَيَنْفِي عَنِ الْمُتَّقِينَ، وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ.
وَأَمَّا مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذِكْرِ أَقْوَالِ الْكُفَّارِ وَحُجَجِهِمْ وَجَوَابِهَا، فَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا، فَإِنَّهُ يُجَادِلُهُمْ تَارَةً فِي التَّوْحِيدِ، وَتَارَةً فِي النُّبُوَّاتِ، وَتَارَةً فِي الْمَعَادِ، وَتَارَةً فِي الشَّرَائِعِ بِأَحْسَنِ الْحُجَجِ وَأَكْمَلِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا - وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 32 - 33] .
وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تبارك وتعالى عَنْ أُولِي الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ بِمُجَادَلَةِ الْكُفَّارِ فَقَالَ تَعَالَى: {قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} [هود: 32] .
وَقَالَ عَنِ الْخَلِيلِ: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي} [الأنعام: 80] . إِلَى قَوْلِهِ: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [الأنعام: 83] .
وَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بِالْمُجَادَلَةِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَذَمَّ سُبْحَانَهُ مَنْ جَادَلَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، أَوْ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ، وَمَنْ جَادَلَ بِالْبَاطِلِ:{هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [آل عمران: 66] .
وَقَالَ تَعَالَى: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ} [الأنفال: 6] .
وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [غافر: 5] .
وَهَذَا هُوَ الْجِدَالُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} [غافر: 4] .
وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحَاجُّ الْكُفَّارَ بَعْدَ نُزُولِ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ، وَقَدْ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُجِيرَ الْمُسْتَجِيرَ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُبْلِغُهُ مَأْمَنَهُ، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ: تَبْلِيغُ رِسَالَاتِ اللَّهِ، وَإِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ قَدْ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِتَفْسِيرِهِ لَهُ الَّذِي تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ، وَيُجَابُ بِهِ عَنِ الْمُعَارَضَةِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ.
عُلِمَ بُطْلَانُ قَوْلِ مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْجِهَادِ نَاسِخٌ الْأَمْرَ بِالْمُجَادَلَةِ مُطْلَقًا.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: إِنَّ الْقَائِلَ إِذَا قَالَ: إِنَّ آيَةَ مُجَادَلَةِ الْكُفَّارِ - أَوْ غَيْرَهَا مِمَّا يَدَّعِي نَسْخَهُ - مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ قِيلَ لَهُ: مَا تَعْنِي بِآيَةِ السَّيْفِ؟ أَتَعْنِي آيَةً بِعَيْنِهَا، أَمْ تَعْنِي كُلَّ آيَةٍ فِيهَا الْأَمْرُ بِالْجِهَادِ؟
فَإِنْ أَرَادَ الْأَوَّلَ، كَانَ جَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الْجِهَادِ مُتَعَدِّدَةٌ، فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ بَعْضِهَا.
وَإِنْ قَالَ: أُرِيدُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] .
قِيلَ لَهُ: هَذِهِ فِي قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ قَالَ بَعْدَهَا فِي قِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ:
فَلَوْ لَمْ تَكُنْ آيَةُ السَّيْفِ إِلَّا وَاحِدَةً لَمْ تَكُنْ هَذِهِ أَوْلَى مِنْ هَذِهِ، وَإِنْ قَالَ: كُلَّ آيَةٍ فِيهَا ذِكْرُ الْجِهَادِ.
قِيلَ لَهُ الْجِهَادُ شُرِعَ عَلَى مَرَاتِبَ، فَأَوَّلُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ الْإِذْنَ بِقَوْلِهِ:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39] .
فَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذِهِ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْجِهَادِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ نَزَلَ وُجُوبُهُ بِقَوْلِهِ:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة: 216] .
وَلَمْ يُؤْمَرُوا بِقِتَالِ مَنْ طَلَبَ مُسَالَمَتَهُمْ، بَلْ قَالَ:{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا - إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ - أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ - وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} [النساء: 89 - 90] .
وَكَذَلِكَ مَنْ هَادَنَهُمْ لَمْ يَكُونُوا مَأْمُورِينَ بِقِتَالِهِ، وَإِنْ كَانَتِ الْهُدْنَةُ عَقْدًا جَائِزًا غَيْرَ لَازِمٍ.
ثُمَّ أَنْزَلَ فِي (بَرَاءَةَ) الْأَمْرَ بِنَبْذِ الْعُهُودِ، وَأَمَرَهُمْ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً، وَأَمَرَهُمْ بِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ إِذَا لَمْ يُسْلِمُوا حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ، وَلَمْ يُبِحْ لَهُمْ تَرْكَ قِتَالِهِمْ وَإِنْ سَالَمُوهُمْ وَهَادَنُوهُمْ هُدْنَةً مُطْلَقَةً مَعَ إِمْكَانِ جِهَادِهِمْ.
فَإِنْ قَالَ: آيَةُ السَّيْفِ الَّتِي نَسَخَتِ الْمُجَادَلَةَ هِيَ آيَةُ الْإِذْنِ. قِيلَ: فَآيَةُ الْإِذْنِ نَزَلَتْ فِي أَوَّلِ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ قَبْلَ أَنْ يَبْعَثَ شَيْئًا مِنَ السَّرَايَا، وَقَدْ جَادَلَ بَعْدَ هَذَا الْكُفَّارَ.
وَكَذَلِكَ إِنْ قِيلَ: آيَاتُ فَرْضِ الْقِتَالِ. قِيلَ: فَقَوْلُهُ {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة: 216] . نَزَلَتْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ قَبْلَ بَدْرٍ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْجِهَادَ كَانَ وَاجِبًا يَوْمَ أُحُدٍ
وَالْخَنْدَقِ وَفَتْحِ خَيْبَرَ وَمَكَّةَ، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ آيَاتِ فَرْضِ الْجِهَادِ فِي هَؤُلَاءِ الْمَغَازِي كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَالْأَحْزَابِ. وَإِنْ قِيلَ: بَلِ الْجِدَالُ إِنَّمَا نُسِخَ لَمَّا أُمِرَ بِجِهَادِ مَنْ سَالَمَ وَمَنْ لَمْ يُسَالِمْ، قِيلَ: هَذَا بَاطِلٌ، فَإِنَّ الْجِدَالَ إِنْ كَانَ مُنَافِيًا لِلْجِهَادِ، فَهُوَ مُنَافٍ لِإِبَاحَتِهِ وَلِإِيجَابِهِ وَلَوْ لِلْمُسَالِمِ، وَإِنْ لَمْ يُنَافِ الْجِهَادَ لَمْ يُنَافِ إِيجَابَ الْجِهَادِ لِلْمُسَالِمِينَ، كَمَا لَمْ يُنَافِ إِيجَابَ جِهَادِ غَيْرِهِمْ. فَإِنَّ الْمُسَالِمَ قَدْ لَا يُجَادِلُ وَلَا يُجَالِدُ، وَقَدْ يُجَادِلُ وَلَا يُجَالِدُ، كَمَا أَنَّ غَيْرَهُ قَدْ يُجَالِدُ وَيُجَادِلُ وَقَدْ يَفْعَلُ أَحَدَهُمَا.
فَإِنْ كَانَ إِيجَابُهُ لِجِهَادِ الْمُحَارِبِ الْمُبْتَدِئِ بِالْقِتَالِ لَا يُنَافِي مُجَادَلَتَهُ، فَلَأَنْ يَكُونَ جِهَادُ مَنْ لَا يَبْدَأُ الْقِتَالَ لَا يُنَافِي مُجَادَلَتَهُ أَوْلَى وَأَحْرَى، فَإِنَّ مَنْ كَانَ أَبْعَدَ عَنِ الْقِتَالِ كَانَتْ مُجَادَلَتُهُ أَقَلَّ مُنَافَاةً لِلْقِتَالِ مِمَّنْ يَكُونُ أَعْظَمَ قِتَالًا. يُبَيِّنُ هَذَا:
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: الْمَنْسُوخُ هُوَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْجِدَالِ، فَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ مَأْمُورًا أَنْ يُجَاهِدَ الْكُفَّارَ بِلِسَانِهِ لَا بِيَدِهِ، فَيَدْعُوهُمْ وَيَعِظُهُمْ وَيُجَادِلُهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وَيُجَاهِدُهُمْ بِالْقُرْآنِ جِهَادًا كَبِيرًا، قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ:{وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا - فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان: 51 - 52] .
وَكَانَ مَأْمُورًا بِالْكَفِّ عَنْ قِتَالِهِمْ لِعَجْزِهِ وَعَجْزِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ لَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَصَارَ لَهُ بِهَا أَعْوَانٌ أُذِنَ لَهُ فِي الْجِهَادِ، ثُمَّ لَمَّا قَوَوْا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَيْهِمْ قِتَالُ مَنْ سَالَمَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَطِيقُونَ قِتَالَ جَمِيعِ الْكُفَّارِ.
فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ مَكَّةَ وَانْقَطَعَ قِتَالُ قُرَيْشٍ مُلُوكِ الْعَرَبِ، وَوَفَدَتْ إِلَيْهِ وُفُودُ الْعَرَبِ بِالْإِسْلَامِ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقِتَالِ الْكُفَّارِ كُلِّهِمْ إِلَّا مَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ مُؤَقَّتٌ، وَأَمَرَهُ بِنَبْذِ الْعُهُودِ الْمُطْلَقَةِ، فَكَانَ الَّذِي رَفَعَهُ وَنَسَخَهُ تَرْكَ الْقِتَالِ.
وَأَمَّا مُجَاهَدَةُ الْكُفَّارِ بِاللِّسَانِ، فَمَا زَالَ مَشْرُوعًا مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ إِلَى آخِرِهِ،
فَإِنَّهُ إِذَا شَرَعَ جِهَادَهُمْ بِالْيَدِ، فَبِاللِّسَانِ أَوْلَى، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَيْدِيكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ» .
وَكَانَ يَنْصِبُ لِحَسَّانَ مِنْبَرًا فِي مَسْجِدِهِ يُجَاهِدُ فِيهِ الْمُشْرِكِينَ بِلِسَانِهِ جِهَادَ هَجْوٍ، وَهَذَا كَانَ بَعْدَ نُزُولِ آيَاتِ الْقِتَالِ، وَأَيْنَ مَنْفَعَةُ الْهَجْوِ مِنْ مَنْفَعَةِ إِقَامَةِ الدَّلَائِلِ وَالْبَرَاهِينِ عَلَى صِحَّةِ الْإِسْلَامِ، وَإِبْطَالِ حُجَجِ الْكُفَّارِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ؟
الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْقِتَالَ إِنَّمَا شُرِعَ لِلضَّرُورَةِ، وَلَوْ أَنَّ النَّاسَ آمَنُوا بِالْبُرْهَانِ وَالْآيَاتِ لَمَا احْتِيجَ إِلَى الْقِتَالِ، فَبَيَانُ آيَاتِ الْإِسْلَامِ وَبَرَاهِينُهُ وَاجِبٌ مُطْلَقًا وُجُوبًا أَصْلِيًّا.
وَأَمَّا الْجِهَادُ: فَمَشْرُوعٌ لِلضَّرُورَةِ، فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا مَانِعًا مِنْ ذَلِكَ؟
فَإِنْ قِيلَ: الْإِسْلَامُ قَدْ ظَهَرَتْ أَعْلَامُهُ وَآيَاتُهُ فَلَمْ يَبْقَ حَاجَةٌ إِلَى
إِظْهَارِ آيَاتِهِ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إِلَى السَّيْفِ. قِيلَ: مَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ وَعَدَ بِإِظْهَارِهِ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ظُهُورَ عِلْمٍ وَبَيَانٍ وَظُهُورَ سَيْفٍ وَسِنَانٍ، فَقَالَ تَعَالَى:{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33] .
وَقَدْ فَسَّرَ الْعُلَمَاءُ ظُهُورَهُ بِهَذَا وَهَذَا، وَلَفْظُ الظُّهُورِ يَتَنَاوَلُهُمَا، فَإِنَّ ظُهُورَ الْهُدَى بِالْعِلْمِ وَالْبَيَانِ، وَظُهُورَ الدِّينِ بِالْيَدِ وَالْعَمَلِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ ; لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ ظُهُورَ الْإِسْلَامِ بِالْعِلْمِ وَالْبَيَانِ قَبْلَ ظُهُورِهِ بِالْيَدِ وَالْقِتَالِ ; فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَكَثَ بِمَكَّةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ بِالْعِلْمِ وَالْبَيَانِ وَالْآيَاتِ وَالْبَرَاهِينِ، فَآمَنَتْ بِهِ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ طَوْعًا وَاخْتِيَارًا بِغَيْرِ سَيْفٍ لِمَا بَانَ لَهُمْ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ وَالْبَرَاهِينِ وَالْمُعْجِزَاتِ، ثُمَّ أَظْهَرَهُ بِالسَّيْفِ، فَإِذَا وَجَبَ عَلَيْنَا جِهَادُ الْكُفَّارِ بِالسَّيْفِ ابْتِدَاءً وَدَفْعًا، فَلَأَنْ يَجِبُ عَلَيْنَا بَيَانُ الْإِسْلَامِ وَإِعْلَامُهُ ابْتِدَاءً وَدَفْعًا لِمَنْ يَطْعَنُ فِيهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى.
فَإِنَّ وُجُوبَ هَذَا قَبْلَ وُجُوبِ ذَاكَ وَمَنْفَعَتَهُ قَبْلَ مَنْفَعَتِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ يَحْتَاجُ كُلَّ وَقْتٍ إِلَى السَّيْفِ، فَكَذَلِكَ هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى الْعِلْمِ وَالْبَيَانِ، وَإِظْهَارُهُ بِالْعِلْمِ وَالْبَيَانِ مِنْ جِنْسِ إِظْهَارِهِ بِالسَّيْفِ وَهُوَ ظُهُورٌ مُجْمَلٌ عَلَا بِهِ عَلَى كُلِّ دِينٍ مَعَ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْكُفَّارِ لَمْ يَقْهَرْهُ سَيْفُهُ فَكَذَلِكَ كَثِيرٌ
مِنَ النَّاسِ لَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ آيَاتُهُ وَبَرَاهِينُهُ، بَلْ قَدْ يَقْدَحُونَ فِيهِ وَيُقِيمُونَ الْحُجَجَ عَلَى بُطْلَانِهِ، لَا سِيَّمَا وَالْمَقْهُورُ بِالسَّيْفِ فِيهِمْ مُنَافِقُونَ كَثِيرُونَ، فَهَؤُلَاءِ جِهَادُهُمْ بِالْعِلْمِ وَالْبَيَانِ دُونَ السَّيْفِ وَالسِّنَانِ، يُؤَكِّدُ هَذَا:
الْوَجْهُ السَّابِعُ: وَهُوَ أَنَّ الْقِتَالَ لَا يَكُونُ إِلَّا لِظَالِمٍ، فَإِنَّ مَنْ قَاتَلَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَكُنْ إِلَّا ظَالِمًا مُعْتَدِيًا، وَمَنْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ فَشَاقَّ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى، وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَكُنْ إِلَّا ظَالِمًا.
وَأَمَّا الْمُجَادَلَةُ فَقَدْ تَكُونُ لِظَالِمٍ: إِمَّا طَاعِنٍ فِي الدِّينِ بِالظُّلْمِ، وَإِمَّا مَنْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الظَّاهِرَةُ فَامْتَنَعَ مِنْ قَبُولِهَا، وَقَدْ تَكُونُ لِمُسْتَرْشِدٍ طَالِبِ حَقٍّ لَمْ يَبْلُغْهُ.
وَإِمَّا مَنْ بَلَغَهُ بَعْضُ أَعْلَامِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَدَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ، وَلَكِنْ عُورِضَ ذَلِكَ عِنْدَهُ بِشُبُهَاتٍ تُنَافِي ذَلِكَ، فَاحْتَاجَ إِلَى جَوَابِ تِلْكَ الْمُعَارَضَاتِ.
وَإِمَّا طَالِبٌ لِمَعْرِفَةِ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُعْلَمُ بِهِ ذَلِكَ.
فَإِذَا كَانَ الْقِتَالُ الَّذِي لَا يَكُونُ إِلَّا لِدَفْعِ ظُلْمِ الْمُقَاتِلِ مَشْرُوعًا.
فَالْمُجَادَلَةُ الَّتِي تَكُونُ لِدَفْعِ ظُلْمِهِ وَلِانْتِفَاعِهِ وَانْتِفَاعِ غَيْرِهِ مَشْرُوعَةٌ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.
قَالَ مُجَاهِدٌ: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت: 46] . قَالَ: الَّذِينَ ظَلَمُوا مَنْ قَاتَلَكَ وَلَمْ يُعْطِكَ الْجِزْيَةَ. وَفِي لَفْظٍ آخَرَ عَنْهُ قَالَ: الَّذِينَ ظَلَمُوا: مِنْهُمْ أَهْلُ الْحَرْبِ مَنْ لَا عَهْدَ لَهُمُ؛ الْمُجَادَلَةُ لَهُمْ بِالسَّيْفِ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ قَالَ: لَا تُقَاتِلْ إِلَّا مَنْ قَاتَلَكَ وَلَمْ يُعْطِكَ الْجِزْيَةَ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ قَالَ: مَنْ أَدَّى مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ فَلَا تَقُولُوا لَهُ إِلَّا خَيْرًا. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، فَإِنْ قَالُوا شَرًّا فَقُولُوا خَيْرًا، فَهَذَا مُجَاهِدٌ لَا يَجْعَلُهَا مَنْسُوخَةً وَهِيَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ.
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46]، قَالَ: لَيْسَتْ مَنْسُوخَةً، وَلَكِنْ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: نَسَخَتْهَا {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] ، وَلَا مُجَادَلَةَ أَشَدُّ مِنَ السَّيْفِ.
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ; لِأَنَّ هَؤُلَاءِ مِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا فَلَا
نَسْخَ.
وَمِمَّا يُعْجَبُ مِنْهُ أَنَّ بَعْضَ الْمُنْكِرِينَ لِمُجَادَلَةِ الْكُفَّارِ بِنَاءً عَلَى ظُهُورِ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ نَجِدُهُ هُوَ وَمَنْ يُعَظِّمُهُ مِنْ شُيُوخِهِ الَّذِينَ يَعْتَمِدُ فِي أُصُولِ الدِّينِ عَلَى نَظَرِهِمْ وَمُنَاظَرَتِهِمْ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ قَرَّرُوا دَلَائِلَ النُّبُوَّةِ قَدْ أَوْرَدُوا مِنَ الشُّبُهَاتِ وَالشُّكُوكِ وَالْمَطَاعِنِ عَلَى دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ مَا يَبْلُغُ نَحْوَ ثَمَانِينَ سُؤَالًا وَأَجَابُوا عَنْهُ بِأَجْوِبَةٍ لَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ جَوَابًا فِي الْمَسَائِلِ الظَّنِّيَّةِ، بَلْ هِيَ إِلَى تَقْرِيرِ شُبَهِ الطَّاعِنِينَ أَقْرَبُ مِنْهَا إِلَى تَقْرِيرِ أُصُولِ الدِّينِ.
وَهُمْ كَمَا مَثَّلَهُمُ الْغَزَّالِيُّ وَغَيْرُهُ بِمَنْ يَضْرِبُ شَجَرَةً ضَرْبًا يُزَلْزِلُهَا بِهِ، وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُثَبِّتَهَا، وَكَثِيرٌ مِنْ أَئِمَّةِ هَؤُلَاءِ مُضْطَرِبٌ فِي الْإِيمَانِ بِالنُّبُوَّةِ اضْطِرَابًا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهِ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَدَّعُونَ
أَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ مَا لَمْ يَظْهَرْ عِنْدَ شُيُوخِ هَؤُلَاءِ النُّظَّارِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ إِظْهَارِ آيَاتِ اللَّهِ وَبَرَاهِينِهِ الَّتِي هِيَ غَايَةُ مَطَالِبِ مَشَايِخِهِمْ وَهُمْ لَمْ يُعْطُوهَا حَقَّهَا إِمَّا عَجْزًا وَإِمَّا تَفْرِيطًا.
الْوَجْهُ الثَّامِنُ: أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَزْعُمُ أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم وَأُمَّتَهُ إِنَّمَا أَقَامُوا دِينَهُمْ بِالسَّيْفِ لَا بِالْهُدَى وَالْعِلْمِ وَالْآيَاتِ، فَإِذَا طَلَبُوا الْعِلْمَ وَالْمُنَاظَرَةَ، فَقِيلَ: لَهُمْ لَيْسَ لَكُمْ جَوَابٌ إِلَّا السَّيْفَ، كَانَ هَذَا مِمَّا يُقَرِّرُ ظَنَّهُمُ الْكَاذِبَ، وَكَانَ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ مَا يَحْتَجُّونَ بِهِ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى فَسَادِ الْإِسْلَامِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ دِينُ رَسُولٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَإِنَّمَا هُوَ دِينُ مَلِكٍ أَقَامَهُ بِالسَّيْفِ.
الْوَجْهُ التَّاسِعُ: أَنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ السَّيْفَ لَا سِيَّمَا سَيْفِ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ هُوَ تَابِعٌ لِلْعِلْمِ وَالْحُجَّةِ، بَلْ وَسَيْفُ الْمُشْرِكِينَ هُوَ تَابِعٌ لِآرَائِهِمْ وَاعْتِقَادِهِمْ، وَالسَّيْفُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، وَالْعَمَلُ - أَبَدًا - تَابِعٌ لِلْعِلْمِ وَالرَّأْيِ.
وَحِينَئِذٍ فَبَيَانُ دَيْنِ الْإِسْلَامِ بِالْعِلْمِ وَبَيَانُ أَنَّ مَا خَالَفَهُ ضَلَالٌ وَجَهْلٌ هُوَ تَثْبِيتٌ لِأَصْلِ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَاجْتِنَابٌ لِأَصْلِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَدْيَانِ الَّتِي يُقَاتَلُ عَلَيْهَا أَهْلُهَا، وَمَتَى ظَهَرَ صِحَّتُهُ وَفَسَادُ غَيْرِهِ كَانَ النَّاسُ أَحَدَ رَجُلَيْنِ:
إِمَّا رَجُلٌ تَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ فَاتَّبَعَهُ، فَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ مِنْ إِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَإِمَّا رَجُلٌ لَمْ يَتْبَعْهُ، فَهَذَا قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ، إِمَّا لِكَوْنِهِ لَمْ يَنْظُرْ فِي أَعْلَامِ الْإِسْلَامِ، أَوْ نَظَرَ وَعَلِمَ فَاتَّبَعَ هَوَاهُ أَوْ قَصَّرَ.
وَإِذَا قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ كَانَ أَرْضَى لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَأَنْصَرَ لِسَيْفِ الْإِسْلَامِ وَأَذَلَّ لِسَيْفِ الْكُفَّارِ، وَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ يَعْجِزُ عَنْ فَهْمِ الْحُجَّةِ، فَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا مَعَ عَدَمِ قِيَامِهَا، فَهُوَ مَعَ قِيَامِهَا أَوْلَى أَنْ لَا يُعْذَرَ، وَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا مَعَ قِيَامِهَا فَهُوَ مَعَ عَدَمِهَا أَعْذَرُ، فَعَلَى
التَّقْدِيرَيْنِ قِيَامُ الْحُجَّةِ أَنْصَرُ وَأَعْذَرُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] .
وَقَالَ تَعَالَى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] .
وَقَالَ تَعَالَى: {فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} [المرسلات: 5] وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَا أَحَدٌ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللَّهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَرْسَلَ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ» .