المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[فصل: مناقشة النصارى في إطلاق لفظ الجوهر على الله تعالى] - الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية - جـ ٥

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌[فَصْلٌ: مُنَاقَشَةُ النَّصَارَى فِي إِطْلَاقِ لَفْظِ الْجَوْهَرِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى]

- ‌[فَصْلٌ: نَقْضُ دَعْوَاهُمُ الِاسْتِغْنَاءَ بِالْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ]

- ‌[فَصْلٌ: بُطْلَانُ اسْتِدْلَالِهِمْ بِمَا يَدَّعُونَهُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ]

- ‌[فَصْلٌ: إِثْبَاتُ الْفَضْلِ لِرَسُولِ اللَّهِ وَلِشَرِيعَتِهِ وَلِأُمَّتِهِ]

- ‌[فَصْلٌ: اشْتِرَاطُهُمْ لِصِحَّةِ النُّبُوَّةِ تَبْشِيرُ الْأَنْبِيَاءِ بِهَا وَالرَّدُّ عَلَيْهِمْ]

- ‌[فَصْلٌ: طُرُقُ الْعِلْمِ بِبِشَارَةِ الْأَنْبِيَاءِ بِمُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام]

- ‌[فَصْلٌ: شَهَادَاتُ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ لِمُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام وَأَمْثِلَةٌ مِنْهَا]

- ‌[فَصْلٌ: بِشَارَةٌ مِنَ الزَّبُورِ وَتَفْسِيرُهَا]

- ‌[فَصْلٌ: بِشَارَةٌ أُخْرَى مِنَ الزَّبُورِ]

- ‌[فَصْلٌ: بِشَارَةٌ ثَالِثَةٌ مِنْ دَاوُدَ عليه السلام]

- ‌[فَصْلٌ: بِشَارَةٌ رَابِعَةٌ مِنْ دَاوُدَ عليه السلام]

- ‌[فَصْلٌ: بِشَارَةٌ خَامِسَةٌ مِنْ دَاوُدَ عليه السلام]

- ‌[فَصْلٌ: شَهَادَةُ سِفْرِ أَشْعِيَا " رَاكِبُ الْحِمَارِ وَرَاكِبُ الْجَمَلِ

- ‌[فَصْلٌ: بِشَارَةُ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِالْمَسِيحِ وَبِمُحَمَّدٍ وَإِنْذَارُهَا بِالدَّجَّالِ]

- ‌[فَصْلٌ: بِشَارَةُ أَشْعِيَاءَ بِشَأْنِ مَكَّةَ]

- ‌[فَصْلٌ: بِشَارَةٌ ثَالِثَةٌ مِنْ أَشْعِيَاءَ]

- ‌[فَصْلٌ: بِشَارَةٌ رَابِعَةٌ مِنْ أَشْعِيَاءَ]

- ‌[فَصْلٌ: بِشَارَةٌ خَامِسَةٌ مِنْ أَشْعِيَاءَ]

- ‌[فَصْلٌ: بِشَارَةٌ سَادِسَةٌ مِنْ أَشْعِيَاءَ]

- ‌[فَصْلٌ: بِشَارَةٌ سَابِعَةٌ مِنْ أَشْعِيَاءَ]

- ‌[فَصْلٌ: بِشَارَةٌ ثَامِنَةٌ مِنْ أَشْعِيَاءَ]

- ‌[فَصْلٌ: بِشَارَةٌ تَاسِعَةٌ مِنْ أَشْعِيَاءَ]

- ‌[فَصْلٌ: بِشَارَةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِنْ حَبْقُوقَ]

- ‌[فَصْلٌ: بِشَارَةٌ مِنْ حَزْقِيَالَ]

- ‌[فَصْلٌ: بِشَارَتَانِ مِنْ دَانْيَالَ عليه السلام]

- ‌[فَصْلٌ: بِشَارَةٌ ثَالِثَةٌ مِنْ دَانْيَالَ عليه السلام]

- ‌[فَصْلٌ: مَا نُقِلَ مِنْ بِشَارَاتِ الْمَسِيحِ بِمُحَمَّدٍ وَالتَّعْلِيقِ الْمُفَصَّلِ عَلَيْهَا]

- ‌[فَصْلٌ: بَرَاهِينُ قُرْآنِيَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ عَلَى نُبُوَّتِهِ صلى الله عليه وسلم]

- ‌[فَصْلٌ: الدَّلَائِلُ الْقَاطِعَةُ عِنْدَ أَهْلِ مَكَّةَ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم]

- ‌[فَصْلٌ: جَلَاءُ آيَاتِ النُّبُوَّةِ وَتَنَوُّعُهَا وَكَثْرَتُهَا]

- ‌[فَصْلٌ: التَّحْقِيقُ فِي اسْمِ الْمُعْجِزَةِ وَالْآيَةِ وَالْكَرَامَةِ وَإِطْلَاقِهِنَّ]

- ‌[فَصْلٌ: بَحْثٌ فِي الْإِعْجَازِ الْقُرْآنِيِّ]

- ‌[فَصْلٌ: شَخْصِيَّةُ الرَّسُولِ وَشَرِيعَتُهُ وَأُمَّتُهُ، وَكَرَامَاتُ الصَّالِحِينَ مِنْهَا، كُلُّ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِهِ]

- ‌[فَصْلٌ: نَقْلُ النَّاسِ لِصِفَاتِهِ عليه السلام الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِهِ]

الفصل: ‌[فصل: مناقشة النصارى في إطلاق لفظ الجوهر على الله تعالى]

[فَصْلٌ: مُنَاقَشَةُ النَّصَارَى فِي إِطْلَاقِ لَفْظِ الْجَوْهَرِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى]

فَصْلٌ

قَالَ الْحَاكِي عَنْهُمْ: فَقُلْتُ فَإِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ عَلَيْنَا قَوْلَنَا: إِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - جَوْهَرٌ قَالُوا إِنَّنَا نَسْمَعُ عَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ أَنَّهُمْ ذَوُو فَضْلٍ وَأَدَبٍ وَمَعْرِفَةٍ، وَمَنْ هَذَا صُورَتُهُ، وَقَدْ قَرَأَ شَيْئًا مِنْ كُتُبِ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمَنْطِقِ فَمَا حَقُّهُمْ يُنْكِرُونَ هَذَا عَلَيْنَا وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ

ص: 5

فِي الْوُجُودِ شَيْءٌ إِلَّا وَهُوَ إِمَّا جَوْهَرٌ وَإِمَّا عَرَضٌ؛ لِأَنَّ أَيَّ أَمْرٍ نَظَرْنَاهُ وَجَدْنَاهُ إِمَّا قَائِمًا بِنَفْسِهِ غَيْرَ مُفْتَقِرٍ فِي وُجُودِهِ إِلَى غَيْرِهِ، وَهُوَ الْجَوْهَرُ، وَإِمَّا مُفْتَقِرٌ فِي وُجُودِهِ إِلَى غَيْرِهِ لَا قِوَامَ لَهُ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ الْعَرَضُ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِهَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ قِسْمٌ ثَالِثٌ. فَأَشْرَفُ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ الْقَائِمُ بِذَاتِهِ الْغَيْرُ مُفْتَقِرٍ فِي وُجُودِهِ إِلَى غَيْرِهِ. وَهُوَ الْجَوْهَرُ.

وَلَمَّا كَانَ الْبَارِي - تَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ - أَشْرَفَ الْمَوْجُودَاتِ؛ إِذْ هُوَ سَبَبُ سَائِرِهَا، أَوْجَبَ أَنْ يَكُونَ أَشْرَفَ الْأُمُورِ وَأَعْلَاهَا الْجَوْهَرُ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا إِنَّهُ جَوْهَرٌ لَا كَالْجَوَاهِرِ الْمَخْلُوقَةِ، كَمَا نَقُولُ إِنَّهُ شَيْءٌ لَا كَالْأَشْيَاءِ الْمَخْلُوقَةِ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ قِوَامُهُ بِغَيْرِهِ وَمُفْتَقِرٌ فِي وُجُودِهِ إِلَى غَيْرِهِ، وَهَذَا مِنَ الْقَبِيحِ أَنْ يُقَالَ عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى - فَقُلْتُ

ص: 6

لَهُمْ إِنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّا إِنَّمَا نَمْتَنِعُ مِنْ تَسَمِّيهِ جَوْهَرًا؛ لِأَنَّ الْجَوْهَرَ مَا قَبِلَ عَرَضًا وَمَا شَغَلَ الْحَيِّزَ وَلِهَذَا مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ - تَعَالَى - جَوْهَرٌ. قَالُوا: إِنَّ الَّذِي يَقْبَلُ عَرَضًا وَيَشْغَلُ حَيِّزًا هُوَ الْجَوْهَرُ الْكَثِيفُ، فَأَمَّا الْجَوْهَرُ اللَّطِيفُ فَمَا يَقْبَلُ عَرَضًا وَلَا يَشْغَلُ حَيِّزًا؛ مِثْلَ جَوْهَرِ النَّفْسِ، وَجَوْهَرِ الْعَقْلِ، وَجَوْهَرِ الضَّوْءِ، وَمَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى مِنَ الْجَوَاهِرِ اللَّطِيفَةِ الْمَخْلُوقَةِ.

فَإِذَا كَانَتِ الْجَوَاهِرُ اللَّطِيفَةُ الْمَخْلُوقَةُ لَا تَقْبَلُ عَرَضًا، وَلَا تَشْغَلُ حَيِّزًا فَيَكُونُ خَالِقُ الْجَوَاهِرِ اللَّطَائِفِ وَالْكَثَائِفِ، وَمُرَكِّبُ اللَّطَائِفِ بِالْكَثَائِفِ يَقْبَلُ عَرَضًا وَيَشْغَلُ حَيِّزًا؟ كَلَّا.

وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ:

أَحَدهَا: أَنْ يُقَالَ: أَمَّا تَسْمِيَةُ الْبَارِي جَوْهَرًا. فَهُوَ مِنْ أَهْوَنِ مَا يُنْكَرُ عَلَى النَّصَارَى؛ وَلِهَذَا كَانَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُنْكِرُهُ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ - فَقَطْ - أَوِ اللُّغَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُهُ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ أَيْضًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَاهُ نِزَاعًا لَفْظِيًّا. وَطَائِفَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُسَمُّونَهُ جَوْهَرًا وَجِسْمًا أَيْضًا. وَذَلِكَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ - تَعَالَى - عَلَى طَرِيقَتَيْنِ، فَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَقُولُ: إِنَّ أَسْمَاءَهُ سَمْعِيَّةٌ شَرْعِيَّةٌ، فَلَا يُسَمَّى إِلَّا بِالْأَسْمَاءِ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الشَّرِيعَةُ، فَإِنَّ هَذِهِ عِبَادَةٌ، وَالْعِبَادَاتُ مَبْنَاهَا عَلَى التَّوْقِيفِ وَالِاتِّبَاعِ.

وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: مَا صَحَّ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ، وَكَانَ مَعْنَاهُ ثَابِتًا لَهُ،

ص: 7

لَمْ يَحْرُمْ تَسْمِيَتُهُ بِهِ، فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْنَا ذَلِكَ، فَيَكُونُ عَفْوًا. وَالصَّوَابُ الْقَوْلُ الثَّالِثُ؛ وَهُوَ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ أَنْ يُدْعَى بِالْأَسْمَاءِ أَوْ يُخْبَرَ بِهَا عَنْهُ. فَإِذَا دُعِيَ لَمْ يُدْعَ إِلَّا بِالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى كَمَا قَالَ - تَعَالَى -:

{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف: 180]

وَأَمَّا الْإِخْبَارُ عَنْهُ فَهُوَ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ؛ فَإِذَا احْتِيجَ فِي تَفْهِيمِ الْغَيْرِ الْمُرَادَ إِلَى أَنْ يُتَرْجَمَ أَسْمَاؤُهُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، أَوْ يُعَبَّرَ عَنْهُ بِاسْمٍ لَهُ مَعْنًى صَحِيحٌ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُحَرَّمًا.

وَأَمَّا الَّذِينَ مَنَعُوهُ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ فَكَثِيرٌ: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْجَوْهَرَ مَا شَغَلَ الْحَيِّزَ، وَحَمَلَ الْأَعْرَاضَ وَاللَّهُ سبحانه وتعالى لَيْسَ كَذَلِكَ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ نَفَى ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الْجَوْهَرُ مَا إِذَا وُجِدَ كَانَ وُجُودُهُ لَا فِي مَوْضُوعٍ، وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا وُجُودُهُ زَائِدٌ عَلَى ذَاتِهِ، وَوَاجِبُ الْوُجُودِ وُجُودُهُ عَيْنُ ذَاتِهِ، فَلَا يَكُونُ

ص: 8

جَوْهَرًا. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ سِينَا وَأَمْثَالِهِ مِنْ مُتَأَخِّرِي الْمُتَفَلْسِفَةِ.

وَأَمَّا قُدَمَاءُ الْفَلَاسِفَةِ؛ كَأَرِسْطُو وَأَمْثَالِهِ؛ فَكَانُوا يُسَمُّونَهُ جَوْهَرًا؛ وَعَنْهُمْ أَخَذَتِ النَّصَارَى هَذِهِ التَّسْمِيَةَ؛ فَإِنَّ أَرِسْطُو كَانَ قَبْلَ الْمَسِيحِ

ص: 9

بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ وَلِهَذَا قَالَ هَؤُلَاءِ فِي كِتَابِهِمْ نَعْجَبُ مِمَّنْ يُنْكِرُ ذَلِكَ وَهُوَ قَدْ قَرَأَ شَيْئًا مِنْ كُتُبِ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمَنْطِقِ.

وَأَمَّا اللُّغَةُ: فَإِنَّ لَفْظَ الْجَوْهَرِ لَيْسَ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ الْعَرْبَاءِ؛ وَلِهَذَا لَا يُعْرَفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْمَحْضِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُعَرَّبٌ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْجَوْهَرُ مُعَرَّبٌ، الْوَاحِدَةُ

ص: 10

جَوْهَرَةٌ، فَهُوَ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ الْمُعَرَّبَةِ، لَا مِنَ الْعَرَبِيَّةِ الْعَرْبَاءِ، كَلَفْظِ سِجِّيلٍ، وَإِسْتَبْرَقٍ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُعَرَّبَةِ، وَهَذَا اللَّفْظُ لَيْسَ مَوْجُودًا فِي الْقُرْآنِ. وَمَعَ هَذَا فَلَمَّا عُرِّبَ كَانَ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْجَوْهَرَ الْمَعْرُوفَ. وَتَسْمِيَةُ الْقَائِمِ بِنَفْسِهِ أَوِ الشَّاغِلِ لِلْحَيِّزِ جَوْهَرًا، فَهُوَ أَمْرٌ اصْطِلَاحِيٌّ، لَيْسَ هُوَ مِنَ الْأَسْمَاءِ اللُّغَوِيَّةِ وَلَا الْعُرْفِيَّةِ الْعَامَّةِ، وَلَا الْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ.

وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامِ الْأَوَائِلِ، كَالْيُونَانِ وَغَيْرِهِمْ، فَإِنَّهُ

ص: 11

يُوجَدُ فِي كَلَامِهِمْ تَسْمِيَةُ الْقَائِمِ بِنَفْسِهِ جَوْهَرًا. وَقَدْ قِيلَ: سَمَّوْهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ جَوْهَرَ الشَّيْءِ أَصْلُهُ وَالْقَائِمُ بِنَفْسِهِ هُوَ الْأَصْلُ. وَقَدْ يُسَمُّونَ الْعَرَضَ الْقَائِمَ بِغَيْرِهِ جَوْهَرًا. وَقِيلَ: لِأَنَّ لَفْظَ الْجَوْهَرِ، فَوَعْلٌ، مِنَ الْجَهْرِ؛ وَهُوَ الظُّهُورُ وَالْوُضُوحُ، وَالْقَائِمُ بِنَفْسِهِ يَظْهَرُ وَيُعْرَفُ قَبْلَ أَنْ يُعْرَفَ مَا قَامَ بِهِ مِنَ الْأَعْرَاضِ.

وَالنَّاسُ مُتَّفِقُونَ عَلَى إِثْبَاتِ الْأَعْيَانِ الْقَائِمَةِ بِنَفْسِهَا الَّتِي تُسَمَّى جَوَاهِرَ أَوْ أَجْسَامًا، وَتَنَازَعُوا فِي ثُبُوتِ الْأَعْرَاضِ الْقَائِمَةِ بِهَا، وَالنِّزَاعُ عِنْدَ مُحَقَّقِيهِمْ لَفْظِيٌّ، فَإِنَّ عَاقِلًا لَا يُنَازِعُ أَنَّ الْجِسْمَ يَتَحَرَّكُ بَعْدَ سُكُونِهِ. لَكِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: حَرَكَتُهُ لَيْسَتْ زَائِدَةً عَلَى ذَاتِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هِيَ زَائِدَةٌ عَلَى ذَاتِهِ. وَهُوَ نَظِيرُ نِزَاعِهِمْ فِي الصِّفَاتِ: هَلْ هِيَ زَائِدَةٌ عَلَى الذَّاتِ أَوْ لَيْسَتْ زَائِدَةً؟ .

وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ مُسَمَّى الْإِنْسَانِ إِذَا أُطْلِقَ دَخَلَ فِيهِ صِفَاتُهُ، وَإِذَا مُيِّزَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا قِيلَ: الذَّاتُ وَالصِّفَاتُ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَخُصُّ بِلَفْظِ الْعَرَضِ مَا لَمْ يَكُنْ مِنَ الصِّفَاتِ لَازِمًا لِلْمَوْصُوفِ، وَالصِّفَاتُ اللَّازِمَةُ يُسَمِّيهَا صِفَاتٍ ذَاتِيَّةً جَوْهَرِيَّةً. وَمِنْهُمْ مَنْ يَخُصُّ بِالْعَرَضِ

ص: 12

مَا لَا يَبْقَى عِنْدَهُ زَمَانَيْنِ، وَيَقُولُ: صِفَاتُ الْمَخْلُوقِ تُسَمَّى أَعْرَاضًا؛ لِأَنَّهَا لَا تَقْبَلُ زَمَانَيْنِ بِخِلَافِ صِفَاتِ اللَّهِ، فَإِنَّهَا عِنْدَهُ بَاقِيَةٌ فَلَا تُسَمَّى أَعْرَاضًا.

وَمِنْ نُظَّارِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يُسَمِّي صِفَاتِ كُلِّ مَوْصُوفٍ أَعْرَاضًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَدْخُلُ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ الَّتِي تُذْكَرُ فِي أُصُولِ الْإِيمَانِ الَّتِي يَجِبُ اعْتِقَادُهَا مِنَ الْأَسْمَاءِ مَا هُوَ اصْطِلَاحُ طَائِفَةٍ مِنَ النَّاسِ، مَعَ أَنَّهُ يُوهِمُ مَعْنًى بَاطِلًا. وَهَذَا الْوَضْعُ مِمَّا اضْطَرَبَ فِيهِ - مَعَ النَّصَارَى - كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ.

مِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ الصِّفَاتِ أَعْيَانًا قَائِمَةً بِنَفْسِهَا وَجَوَاهِرَ قَائِمَةً بِنَفْسِهَا.

وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ الْأَعْيَانَ الْقَائِمَةَ بِنَفْسِهَا صِفَاتٍ، وَالصِّفَاتُ لَا تَقُومُ بِأَنْفُسِهَا بَلْ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مَوْصُوفٍ تَقُومُ بِهِ.

وَالْأَوَّلُونَ نَوْعَانِ:

مِنْهُمْ مَنْ نَفَى الصِّفَاتِ، وَقَالَ: لَوْ أَثْبَتْنَا لَهُ حَيَاةً وَعِلْمًا وَقُدْرَةً

ص: 13

لَزِمَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ آلِهَةً فَإِنَّ الْقِدَمَ أَخَصُّ وَصْفِهِ، فَلَوْ أَثْبَتْنَا قَدِيمًا لَيْسَتْ هِيَ الذَّاتَ، لَزِمَ أَنْ يُشَارِكَ الذَّاتَ فِي أَخَصِّ وَصْفِهَا، فَتَكُونُ ذَاتًا أُخْرَى قَائِمَةً بِنَفْسِهَا. وَهَذِهِ طَرِيقَةُ كَثِيرٍ مِنْ نُفَاةِ الصِّفَاتِ مِنْ مُبْتَدِعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى احْتَجُّوا عَلَى نَفْيِ الصِّفَاتِ بِأَنَّا لَوْ أَثْبَتْنَاهَا لَزِمَ أَنْ تَكُونَ آلِهَةً.

وَقَالَ مَنْ قَالَ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ: أَنَّا لَوْ أَثْبَتْنَا الصِّفَاتِ لَقُلْنَا بِقَوْلِ النَّصَارَى، حَيْثُ أَثْبَتُوا لِلَّهِ الْأَقَانِيمَ، وَحُجَّةُ هَؤُلَاءِ قَائِمَةٌ عَلَى النَّصَارَى، وَهُمُ النَّوْعُ الثَّالِثُ، فَإِنَّهُمْ أَثْبَتُوا لِلَّهِ صِفَاتٍ جَعَلُوهَا جَوْهَرًا

ص: 14

قَائِمًا بِنَفْسِهِ، وَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ حَيٌّ نَاطِقٌ، ثُمَّ قَالُوا حَيَاتُهُ جَوْهَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ، وَنُطْقُهُ - وَهُوَ الْكَلِمَةُ - جَوْهَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ وَقَالُوا فِي هَذَا: إِنَّهُ إِلَهٌ مِنْ إِلَهٍ، وَهَذَا إِلَهٌ مِنْ إِلَهٍ، فَأَثْبَتُوا صِفَاتٍ لِلَّهِ وَجَعَلُوهَا جَوَاهِرَ قَائِمَةً بِنَفْسِهَا، ثُمَّ قَالُوا: الْجَمِيعُ جَوْهَرٌ، فَكَانَ فِي كَلَامِهِمْ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْبَاطِلِ الْمُتَنَاقِضِ. مِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الصِّفَاتِ جَوْهَرًا. وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الْجَوَاهِرَ الْمُتَعَدِّدَةَ جَوْهَرًا وَاحِدًا.

وَالَّذِينَ قَالُوا مِنْ نُفَاةِ الصِّفَاتِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ: إِنَّ مَنْ أَثْبَتَ الصِّفَاتِ فَقَدْ قَالَ بِقَوْلِ النَّصَارَى، هُوَ مُتَوَجِّهٌ عَلَى مَنْ جَعَلَ الصِّفَاتِ جَوَاهِرَ. وَهَؤُلَاءِ هُمُ النَّصَارَى يَزْعُمُونَ أَنَّ الصِّفَاتِ جَوَاهِرُ آلِهَةٍ، ثُمَّ قَالَ هَؤُلَاءِ: وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَلَا صِفَةَ لَهُ. وَقَالَتِ النَّصَارَى: بَلِ الْأَبُ جَوْهَرُ إِلَهٍ، وَالِابْنُ جَوْهَرُ إِلَهٍ، وَرُوحُ الْقُدُسِ جَوْهَرُ إِلَهٍ، ثُمَّ قَالُوا: وَالْجَمِيعُ إِلَهٌ وَاحِدٌ. وَنَفْسُ تَصَوُّرِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ - التَّصَوُّرَ التَّامَّ - يُوجِبُ الْعِلْمَ بِفَسَادِهَا. وَأَمَّا الرُّسُلُ وَأَتْبَاعُهُمْ فَنَطَقُوا أَنَّ لِلَّهِ عِلْمًا وَقُدْرَةً وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ، وَثَبَتُوا أَنَّ الْإِلَهَ إِلَهٌ وَاحِدٌ. فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: عَبَدْتُ اللَّهَ وَدَعَوْتُ اللَّهَ؛ فَإِنَّمَا دَعَا وَعَبَدَ إِلَهًا وَاحِدًا؛ وَهُوَ ذَاتٌ مُتَّصِفَةٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، لَمْ يَعْبُدْ ذَاتًا لَا حَيَاةَ لَهَا وَلَا عِلْمَ وَلَا قُدْرَةَ، وَلَا عَبَدَ ثَلَاثَةَ آلِهَةٍ وَلَا ثَلَاثَةَ جَوَاهِرَ، بَلْ نَفْسُ اسْمِ اللَّهِ يَتَضَمَّنُ ذَاتَهُ الْمُقَدَّسَةَ الْمُتَّصِفَةَ

ص: 15

بِصِفَاتِهِ - سُبْحَانَهُ - وَلَيْسَتْ صِفَاتُهُ خَارِجَةً عَنْ مُسَمَّى اسْمِهِ، وَلَا زَائِدَةً عَلَى مُسَمَّى اسْمِهِ، بَلْ إِذَا قُدِّرَ ذَاتٌ مُجَرَّدَةٌ عَنِ الصِّفَاتِ، فَالصِّفَاتُ زَائِدَةٌ عَلَى هَذِهِ الذَّاتِ الْمُقَدَّرَةِ فِي الذِّهْنِ الْمُجَرَّدَةِ عَنِ الصِّفَاتِ لَيْسَتِ الصِّفَاتُ زَائِدَةً عَنِ الذَّاتِ الْمُتَّصِفَةِ بِالصِّفَاتِ، فَإِنَّ تِلْكَ لَا تَحَقَّقُ إِلَّا بِصِفَاتِهَا فَتَقْدِيرُهَا - مُجَرَّدَةً عَنْ صِفَاتِهَا - تَقْدِيرٌ مُمْتَنِعٌ.

وَقَدْ تَنَازَعَ الْمُثْبِتَةُ: هَلْ يُقَالُ الصِّفَاتُ عَيْنُ الذَّاتِ، أَمْ يُقَالُ لَيْسَتْ عَيْنَ الذَّاتِ؟ أَمْ يُقَالُ: لَا يُقَالُ هُنَّ غَيْرُ الذَّاتِ، وَلَا يُقَالُ لَيْسَتْ غَيْرَ الذَّاتِ؟ وَتَنَازَعُوا فِي مُسَمَّى الْغَيْرَيْنِ: هَلْ هُمَا مَا جَازَ مُفَارَقَةُ أَحَدِهِمَا الْآخَرَ مُطْلَقًا، أَوْ مَا جَازَ مُفَارَقَتُهُ بِوُجُودٍ أَوْ زَمَانٍ أَوْ مَكَانٍ، أَوْ هُمَا مَا جَازَ الْعِلْمُ بِأَحَدِهِمَا مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِالْآخَرِ؟ وَغَايَةُ ذَلِكَ مُنَازَعَاتٌ لَفْظِيَّةٌ.

وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَرَّقَ فِي الصِّفَاتِ اللَّازِمَةِ بَيْنَ بَعْضِهَا وَبَعْضٍ؛ فَجَعَلَ بَعْضَهَا زَائِدًا عَلَى الذَّاتِ وَبَعْضَهَا لَيْسَ بِزَائِدٍ عَلَى الذَّاتِ، وَكَانَ الْفَرْقُ بِحَسَبِ مَا يَتَصَوَّرُهُ، لَا بِحَسَبِ مَا الْأَمْرُ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ. فَإِذَا

ص: 16

أَمْكَنَهُمْ تَصَوُّرُ الذَّاتِ بِدُونِ صِفَةٍ قَالُوا: هَذِهِ زَائِدَةٌ، وَإِلَّا قَالُوا لَيْسَتْ زَائِدَةً. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهَا زَائِدَةٌ عَلَى مَا تَصَوَّرُوهُ هُمْ مِنَ الذَّاتِ، لَا أَنَّهُ فِي الْخَارِجِ ذَاتٌ مُجَرَّدَةٌ عَنْ تِلْكَ الصِّفَةِ، وَصِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَيْهَا، بَلْ لَيْسَ إِلَّا الذَّاتُ الْمُتَّصِفَةُ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ.

وَلَكِنْ يَجِبُ الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الصِّفَاتِ غَيْرُ الذَّاتِ، وَبَيْنَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا غَيْرُ اللَّهِ؛ فَإِنَّ اسْمَ (اللَّهِ) مُتَنَاوِلٌ لِذَاتِهِ الْمُتَّصِفَةِ بِصِفَاتِهِ. فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: دَعَوْتُ اللَّهَ وَعَبَدْتُ اللَّهَ؛ فَلَمْ يَدْعُ ذَاتًا مُجَرَّدَةً وَلَا صِفَاتٍ مُجَرَّدَةً، بَلْ دَعَا الذَّاتَ الْمُتَّصِفَةَ بِصِفَاتِهَا فَاسْمُهُ - تَعَالَى - يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ. فَلَيْسَتْ صِفَاتُهُ خَارِجَةً عَنْ مُسَمَّى اسْمِهِ وَلَا زَائِدَةً عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ قِيلَ إِنَّهَا زَائِدَةٌ عَلَى الذَّاتِ الْمُجَرَّدَةِ. وَمَنْ ظَنَّ أَنَّهَا زَائِدَةٌ عَلَى الذَّاتِ الْمُتَّصِفَةِ بِصِفَاتِهَا الَّتِي تَدْخُلُ صِفَاتُهَا فِي مُسَمَّاهَا، فَقَدْ غَلِطَ وَلَكِنْ فِي الْأَذْهَانِ وَالْأَلْسِنَةِ زَلَقٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَثِيرًا.

فَإِذَا قِيلَ: الصِّفَاتُ مُغَايِرَةٌ لِلذَّاتِ، لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا مِنَ الْمَحْذُورِ مَا فِي قَوْلِنَا: إِنَّ صِفَاتِ اللَّهِ غَيْرُ اللَّهِ؛ فَإِنَّ اسْمَ اللَّهِ يَتَنَاوَلُ صِفَاتِهِ.

فَإِذَا قِيلَ: إِنَّهَا غَيْرُهُ؛ فُهِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهَا مُبَايِنَةٌ لَهُ وَهَذَا بَاطِلٌ. وَلِهَذَا كَانَ النُّفَاةُ إِذَا نَاظَرُوا أَئِمَّةَ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا نَاظَرُوا الْإِمَامَ

ص: 17

أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ فِي مِحْنَتِهِ الْمَشْهُورَةِ فَقَالُوا لَهُ: " مَا تَقُولُ فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ اللَّهِ، أَهْوَ اللَّهُ أَمْ غَيْرُ اللَّهِ؟ " عَارَضَهُمْ بِالْعِلْمِ؛ وَقَالَ لَهُمْ: " مَا تَقُولُونَ فِي عِلْمِ اللَّهِ، أَهْوَ اللَّهُ أَمْ غَيْرُ اللَّهِ؟ ". وَأَجَابَ - أَيْضًا -

ص: 18

بِأَنَّ الرُّسُلَ لَمْ تَنْطِقْ بِوَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ، فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَقُلْ لِكَلَامِهِ: هُوَ أَنَا، وَلَا قَالَ: إِنَّهُ غَيْرِي! حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ: إِذَا كَانَ قَدْ جَعَلَ كَلَامَهُ غَيْرَهُ وَسِوَاهُ فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ خَالِقٌ لِكُلِّ مَا سِوَاهُ! .

فَإِنْ كَانَ الِاحْتِجَاجُ بِالسَّمْعِ؛ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ الِاحْتِجَاجُ بِالْعَقْلِ؛ فَالْمَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إِلَى الْمَعَانِي لَا إِلَى الْعِبَارَاتِ. فَإِنْ أَرَادَ الْمُرِيدُ بِقَوْلِهِ: هَلْ كَلَامُهُ وَعِلْمُهُ غَيْرُهُ، أَنَّهُ مُبَايِنٌ لَهُ. فَلَيْسَ هُوَ غَيْرًا لَهُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ. وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ نَفْسَ الْكَلَامِ وَالْعِلْمِ لَيْسَ هُوَ الْعَالِمَ الْمُتَكَلِّمَ؛ فَهُوَ غَيْرٌ لَهُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ. وَإِذَا كَانَ اللَّفْظُ مُجْمَلًا لَمْ يَجُزْ إِطْلَاقُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُفْهِمُ الْمَعْنَى الْفَاسِدَ. وَأَمَّا الَّذِينَ جَعَلُوا الْأَعْيَانَ الْقَائِمَةَ بِأَنْفُسِهَا صِفَاتٍ، فَهُمْ هَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةُ النُّفَاةُ لِلصِّفَاتِ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ؛ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ عَقْلٌ وَعَاقِلٌ وَمَعْقُولٌ.

وَلَفْظُ (الْعَقْلِ) عِنْدَهُمْ وَإِنْ كَانُوا يَقُولُونَ: هُوَ جَوْهَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ، فَقَدْ صَرَّحُوا أَيْضًا بِأَنَّهُ - نَفْسَهُ - عِلْمُهُ، حَتَّى صَرَّحُوا بِأَنَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ عِلْمٌ، كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ ابْنُ رُشْدٍ وَغَيْرُهُ، وَنَقَلُوهُ عَنْ أَرِسْطُو،

ص: 19

وَأَنَّ الْعُقُولَ الْعَشَرَةَ كُلٌّ مِنْهَا عِلْمٌ، فَهُوَ عِلْمٌ وَعَالِمٌ وَمَعْلُومٌ، بَلْ قَالُوا: عَقْلٌ وَعَاقِلٌ وَمَعْقُولٌ، وَعَاشِقٌ وَمَعْشُوقٌ وَعِشْقٌ، وَلَذِيذٌ وَمُلْتَذٌّ وَلَذَّةٌ، فَجَعَلُوهُ - نَفْسَهُ - لَذَّةً وَعَقْلًا وَعِشْقًا، وَجَعَلُوا ذَلِكَ هُوَ الْعَالِمَ الْعَاشِقَ الْمُلْتَذَّ، وَجَعَلُوا نَفْسَ الْعِلْمِ نَفْسَ الْعِشْقِ وَنَفْسَ اللَّذَّةِ؛ فَجَعَلُوهُ - نَفْسَهُ - صِفَاتٍ، وَجَعَلُوهُ ذَاتًا قَائِمَةً بِنَفْسِهَا، وَجَعَلُوا كُلَّ صِفَةٍ هِيَ الْأُخْرَى، وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ - بِصَرِيحِ الْعَقْلِ - بُطْلَانُهُ.

وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُصَرِّحُ بِأَنَّهُ - نَفْسَهُ - عِلْمٌ، فَإِنَّهُ يَقُولُ: هُوَ عَاقِلٌ وَمَعْقُولٌ وَعَقْلٌ؛ يَقُولُ: إِنَّهُ يَعْلَمُ - نَفْسَهُ - بِلَا عِلْمٍ عَلِمَهُ، بَلْ هُوَ الْعَالِمُ، وَهُوَ الْمَعْلُومُ وَهُوَ الْعِلْمُ. وَحَقِيقَةُ كَلَامِهِمْ تَعُودُ إِلَى قَوْلِ أُولَئِكَ؛ فَإِنَّهُمْ إِذَا قَالُوا: إِنَّ الْعِلْمَ الَّذِي يَعْلَمُ بِهِ ذَاتَهُ هُوَ الْعَالِمُ وَهُوَ الْمَعْلُومُ؛ فَقَدْ جَعَلُوا نَفْسَ الْعِلْمِ نَفْسَ الْعَالِمِ وَنَفْسَ الْعِلْمِ نَفْسَ الْمَعْلُومِ وَهِيَ حَقِيقَةُ قَوْلِ أُولَئِكَ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.

ص: 20

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ لَهُمْ: أَنْتُمْ تَقُولُونَ إِنَّكُمْ مُتَّبِعُونَ لِلْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَنْبَغِ لَكُمْ فِي شَرِيعَةِ إِيمَانِكُمْ مِنَ الْأَسْمَاءِ إِلَّا مَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ عليهم السلام.

وَالْأَنْبِيَاءُ لَمْ يُسَمِّ اللَّهَ أَحَدٌ مِنْهُمْ جَوْهَرًا، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ بِذَلِكَ أَرِسْطُو وَأَمْثَالُهُ، وَهَؤُلَاءِ كَانُوا مُشْرِكِينَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَلَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ اللَّهَ الْمَعْرِفَةَ الصَّحِيحَةَ، وَلَا يَقُولُونَ: إِنَّهُ خَالِقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وَلَا عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ الْعُلْوِيَّةَ، وَالْأَصْنَامَ السُّفْلِيَّةَ وَيَعْبُدُونَ الشَّيَاطِينَ وَيُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ، وَإِنَّمَا صَارُوا مُؤْمِنِينَ لَمَّا دَخَلَ إِلَيْهِمْ دِينُ الْمَسِيحِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ بَعْدَ الْإِسْكَنْدَرِ الْمَقْدُونِيِّ

ص: 20

- صَاحِبِ أَرِسْطُو - بِنَحْوِ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ آخِرُ مُلُوكِهِمْ كَانَ (بَطْلَيْمُوسَ) وَكَانُوا يُسَمُّونَ الْمَلِكَ مِنْ مُلُوكِهِمْ (بَطْلَيْمُوسَ) كَمَا يُسَمُّونَ الْقِبْطُ مَلِكَهَا (فِرْعَوْنَ) وَالْحَبَشَةُ مَلِكَهَا (النَّجَاشِيَّ) وَالْفُرْسُ (كِسْرَى) وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَحِينَئِذٍ فَعُدُولُكُمْ عَنْ طَرِيقَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ. إِلَى طَرِيقَةِ الْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ الْمُعَطِّلِينَ مِنَ الضَّلَالِ الْمُبِينِ.

وَفِي كُتُبِهِمْ: أَنْ بُولِصَ لَمَّا صَارَ إِلَى (أَيْثِينِيَّةَ) دَارِ الْفَلَاسِفَةِ، وَفِيهَا دَارُ الْأَصْنَامِ، وَجَدَ مَكْتُوبًا عَلَى بَابِ دَارِ الْعُلَمَاءِ: الْإِلَهُ الْخَفِيُّ

ص: 22

الَّذِي لَا يُعْرَفُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْعَالَمَ.

فَكَانُوا لَا يَعْرِفُونَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، فَكَيْفَ يُعْدَلُ عَنْ طَرِيقَةِ رُسُلِ اللَّهِ وَأَنْبِيَائِهِ كَمُوسَى، وَدَاوُدَ، وَالْمَسِيحِ، إِلَى طَرِيقَةِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ الْمُشْرِكِينَ الْمُعَطِّلِينَ؟ ! .

وَلَكِنَّ النَّصَارَى رَكَّبُوا دِينًا مِنْ دِينَيْنِ: مِنْ دِينِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُوَحِّدِينَ وَدِينِ الْمُشْرِكِينَ، فَصَارَ فِي دِينِهِمْ قِسْطٌ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ، وَقِسْطٌ مِمَّا ابْتَدَعُوهُ مِنْ دِينِ الْمُشْرِكِينَ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، كَمَا أَحْدَثُوا أَلْفَاظَ الْأَقَانِيمِ، وَهِيَ أَلْفَاظٌ لَا تُوجَدُ فِي كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ، وَكَمَا أَحْدَثُوا الْأَصْنَامَ الْمَرْقُومَةَ بَدَلَ الْأَصْنَامِ الْمُجَسَّدَةِ، وَالصَّلَاةَ إِلَى الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ، بَدَلَ الصَّلَاةِ لَهَا، وَالصِّيَامَ فِي وَقْتِ الرَّبِيعِ، لِيَجْمَعُوا بَيْنَ الدِّينِ الشَّرْعِيِّ وَالْأَمْرِ الطَّبِيعِيِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُمْ: إِنَّ الَّذِي يَشْغَلُ حَيِّزًا وَيَقْبَلُ عَرَضًا هُوَ الْجَوْهَرُ الْكَثِيفُ، فَأَمَّا الْجَوْهَرُ اللَّطِيفُ فَمَا يَقْبَلُ عَرَضًا وَلَا يَشْغَلُ حَيِّزًا، مِثْلَ جَوْهَرِ النَّفْسِ وَجَوْهَرِ الْعَقْلِ وَجَوْهَرِ الضَّوْءِ. فَيُقَالُ: الْكَلَامُ فِي

ص: 23

الْجَوَاهِرِ. هَلْ هِيَ مُنْقَسِمَةٌ إِلَى مُتَحَيِّزٍ وَغَيْرِ مُتَحَيِّزٍ أَوْ كُلُّهَا مُتَحَيِّزَةٌ؟ مُتَّصِلٌ بِالْكَلَامِ عَلَى نَفْسِ الْإِنْسَانِ النَّاطِقَةِ.

فَنَقُولُ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ مَعْرِفَةً بِوُجُودِ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ، وَكَذَلِكَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا يَعْرِفُونَ وُجُودَ النَّفْسِ الَّتِي هِيَ رُوحُ الْإِنْسَانِ الَّتِي تُفَارِقُ بَدَنَهُ حِينَ الْمَوْتِ، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَزْعُمُ أَنَّهَا عَرَضٌ مِنْ

ص: 24

أَعْرَاضِ الْبَدَنِ، أَوْ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ، فَهَذَا قَوْلٌ مُحْدَثٌ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يَذْهَبْ إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ، وَإِنْ كَانَ مَحْكِيًّا عَنْ أَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ، فَلَيْسَ الَّذِينَ قَالُوا هَذَا مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَلَا أَئِمَّتِهَا، بَلْ هُمْ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمُحْدَثِ الْمَذْمُومِ عِنْدَ السَّلَفِ. وَأَئِمَّةُ الْأُمَّةِ وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُتَفَلْسِفَةِ الدَّاخِلِينَ فِي أَهْلِ الْمِلَلِ يَقُولُونَ: إِنَّ الذَّوَاتِ الَّتِي تُسَمِّيهَا الْأَنْبِيَاءُ الْمَلَائِكَةَ هِيَ الَّتِي تُسَمِّيهَا الْمُتَفَلْسِفَةُ الْمَشَّاءُونَ عُقُولًا، أَوْ عُقُولًا وَنُفُوسًا، وَهَذَا غَلَطٌ عَظِيمٌ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ.

فَإِنَّ الْعُقُولَ الَّتِي يُثْبِتُهَا هَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةُ لَا حَقِيقَةَ لَهَا عِنْدَ الرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ، بَلْ وَلَا حَقِيقَةَ لَهَا فِي الْمَعْقُولِ الصَّرِيحِ، بَلْ حَقِيقَةُ كَلَامِهِمْ أَنَّهَا أَعْرَاضٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا. وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ وَاجِبَ الْوُجُودِ - نَفْسَهُ - هُوَ عِلْمٌ، وَجَعَلُوا نَفْسَ الْعِلْمِ هُوَ نَفْسَ الْعَالِمِ، وَنَفْسُ تَصَوُّرِ هَذَا الْقَوْلِ يَكْفِي فِي الْعِلْمِ بِفَسَادِهِ، كَمَا أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةَ

ص: 25

- أَتْبَاعَ أَرِسْطُو - لَا يَعْرِفُونَ الْمَلَائِكَةَ، بَلْ وَلَا الْجِنَّ، وَإِنَّمَا عِلْمُهُمْ مَعْرِفَةُ الْأَجْسَامِ الطَّبِيعِيَّةِ، وَتَكَلَّمُوا فِي الْإِلَهِيَّاتِ بِكَلَامٍ قَلِيلٍ نَزْرٍ؛ بَاطِلُهُ أَكْثَرُ مِنْ حَقِّهِ، كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ.

وَهَؤُلَاءِ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْعَقْلَ الْأَوَّلَ أَبْدَعَ مَا دُونَهُ مِنَ الْعُقُولِ وَالْأَفْلَاكِ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ الْأَمْرُ إِلَى الْعَقْلِ الْعَاشِرِ، فَهُوَ مُبْدِعٌ مَا تَحْتَ فَلَكِ الْقَمَرِ. وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْكُفْرِ عِنْدَ الرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ أَهْلِ الْمِلَلِ. فَإِنَّ مَضْمُونَ هَذَا أَنَّ مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ خَلَقَ كُلَّ مَا تَحْتَ السَّمَاءِ، وَمَلَكًا فَوْقَهُ خَلَقَ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ - سُبْحَانَهُ - وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْكُفْرِ فِي دِينِ الْمُرْسَلِينَ وَأَهْلِ الْمِلَلِ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. قَالَ - تَعَالَى -:{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ - لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ - يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 26 - 28]

فَأَخْبَرَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَسْبِقُهُ بِالْقَوْلِ، وَلَا تَعْمَلُ إِلَّا بِأَمْرِهِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مَلَكٌ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ.

ص: 26

وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إِنَّ الْوَحْيَ وَالْكَلَامَ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، إِنَّمَا هُوَ فَيْضٌ مِنْ هَذَا الْعَقْلِ الْفَعَّالِ عَلَى قُلُوبِ الْأَنْبِيَاءِ. وَاللَّهُ - تَعَالَى - عِنْدَ هَؤُلَاءِ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ مُوسَى وَلَا عِيسَى وَلَا إِبْرَاهِيمَ وَلَا مُحَمَّدًا وَلَا غَيْرَهُمْ مِنَ الرُّسُلِ، وَلَا يَعْرِفُ الْجُزْئِيَّاتِ، بَلْ عِنْدَ أَرِسْطُو وَأَتْبَاعِهِ: أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ، بَلْ وَلَا خَلَقَ عِنْدَهُمْ شَيْئًا، بَلْ وَلَا يَقْدِرُ عِنْدَهُمْ عَلَى خَلْقِ شَيْءٍ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنْ يَكُونَ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا.

وَأَرِسْطُو وَقَوْمُهُ كَانُوا مُشْرِكِينَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ بِمَقْدُونِيَّةَ وَأَثِينِيَّةَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ مَدَائِنِ فَلَاسِفَةِ الْيُونَانِ، وَكَانَ وَزِيرًا لِلْإِسْكَنْدَرِ بْنِ فِيلِبْسَ الْمَقْدُونِيِّ، وَكَانَ هَذَا قَبْلَ الْمَسِيحِ عليه السلام بِنَحْوِ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ وَزِيرًا لِذِي الْقَرْنَيْنِ الَّذِي بَنَى سَدَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ،

ص: 27

وَعَامَّةُ عِلْمِ الْقَوْمِ عِلْمُ الطَّبِيعِيَّاتِ وَالْحِسَابِيَّاتِ، وَأَمَّا الْعِلْمُ الْإِلَهِيُّ - وَهُوَ الَّذِي يُسَمُّونَهُ عِلْمَ مَا بَعْدَ الطَّبِيعَةِ، وَهُوَ مُنْتَهَى فَلْسَفَتِهِمْ - فَإِنَّمَا تَكَلَّمُوا فِيهِ عَلَى أُمُورٍ كُلِّيَّةٍ، قَسَّمُوا الْوُجُودَ إِلَى جَوْهَرٍ وَتِسْعَةِ أَعْرَاضٍ يَجْمَعُهَا بَيْتَانِ

زَيْدُ الطَّوِيلُ الْأَسْوَدُ بْنُ مَالِكٍ

فِي دَارِهِ بِالْأَمْسِ كَانَ مُتَّكَى

فِي يَدِهِ سَيْفٌ نَضَاهُ فَانْتَضَى

فَهَذِهِ عَشْرُ مَقُولَاتٍ سِوَا

وَهِيَ: الْجَوْهَرُ، وَالْكَمُّ، وَالْكَيْفُ، وَالْأَيْنُ، وَمَتَى، وَالْإِضَافَةُ، وَالْمِلْكُ، وَالْوَضْعُ، وَأَنْ يَفْعَلَ، وَأَنْ يَنْفَعِلَ.

وَقَدْ نَازَعَهُ أَتْبَاعُهُ وَغَيْرُهُمْ فِي هَذَا الْحَصْرِ وَقَالُوا: إِنَّهُ لَا دَلِيلَ

ص: 28

عَلَيْهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا ثَلَاثَةً. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ وَأَثْبَتَ الْعِلَّةَ الْأُولَى بِنَاءً عَلَى حَرَكَةِ الْفَلَكِ، وَأَنَّهُ يَتَحَرَّكُ حَرَكَةً شَوْقِيَّةً، فَلَابُدَّ لَهُ مِمَّا يَتَشَبَّهُ بِهِ. فَالْعِلَّةُ الْأُولَى هِيَ غَايَةٌ لِحَاجَةِ الْفَلَكِ إِلَيْهَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مُتَحَرِّكٌ لِيَتَشَبَّهَ بِهَا كَحَرَكَةِ الْمُؤْتَمِّ بِإِمَامِهِ، وَالْمُقْتَدِي بِقُدْوَتِهِ، وَقَدْ يَقُولُونَ: كَتَحْرِيكِ الْمَعْشُوقِ لِعَاشِقِهِ.

وَكَلَامُ أَرِسْطُو فِي ذَلِكَ مَوْجُودٌ، وَقَدْ نَقَلْتُهُ بِأَلْفَاظِهِ وَتَكَلَّمْتُ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَقَالَةِ اللَّامِ وَهِيَ آخِرُ فَلْسَفَتِهِ وَمُنْتَهَى حِكْمَتِهِ.

وَفِي كِتَابِ أَثُولُوجْيَا " وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ الرَّبَّ مُبْدِعٌ لِفَلَكٍ

ص: 29

وَعِلَّةٌ فَاعِلَةٌ، وَلَا يُسَمَّى وَاجِبَ الْوُجُودِ.

وَلَا قَسَّمَ الْمَوْجُودَاتِ إِلَى وَاجِبٍ قَدِيمٍ وَمُمْكِنٍ قَدِيمٍ، بَلْ ذَلِكَ فِعْلُ الْمُتَأَخِّرِينَ؛ كَابْنِ سِينَا وَأَمْثَالِهِ، وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.

وَالْمُتَأَخِّرُونَ الَّذِينَ سَمِعُوا كَلَامَ أَهْلِ الْمِلَلِ أَرَادُوا إِصْلَاحَ كَلَامِهِ وَتَقْرِيبَهُ إِلَى الْعُقُولِ، لَعَلَّهُ يُوَافِقُ مَا عُلِمَ بِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَصَحِيحِ الْمَنْقُولِ. فَتَكَلَّمَ عَلَيْهِ ثَابِتُ بْنُ قُرَّةَ وَبَيَّنَ أَنَّ الْفَلَكَ لَا قِوَامَ لَهُ إِلَّا بِطَبِيعَتِهِ وَلَا قِوَامَ لِطَبِيعَتِهِ إِلَّا بِحَرَكَتِهِ، وَلَا قِوَامَ لِحَرَكَتِهِ الْإِرَادِيَّةِ إِلَّا بِمُحَرِّكٍ لَهَا.

وَزَعَمُوا أَنَّ الْمُحَرِّكَ يَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ مُتَحَرِّكًا، وَقَرَّرُوا ذَلِكَ بِأَدِلَّةٍ

ص: 30

فَاسِدَةٍ، قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ فَقَالُوا: إِنَّهُ إِنَّمَا تَحَرَّكَ الْفَلَكُ مِنْ جِهَةِ نِسْبَةِ الْفَلَكِ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْقَادِرَ عَلَى تَحْرِيكِ الْفَلَكِ، بَلْ وَلَا شُعُورَ مِنْهُ بِالْفَلَكِ. وَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ ابْنُ رُشْدٍ الْفَيْلَسُوفُ وَأَمْثَالُهُ؛ فَقَالُوا: إِنَّهُ يَأْمُرُ الْفَلَكَ بِالْحَرَكَةِ وَقِوَامُ الْفَلَكِ بِطَاعَتِهِ لِأَمْرِ اللَّهِ. مَعَ أَنَّهُ عِنْدَهُمْ لَا إِرَادَةَ لَهُ وَلَا عِلْمَ لَهُ بِمَا يَأْمُرُ بِهِ، بَلْ كَوْنُهُ آمِرًا وَهُوَ مَعْنَى كَوْنِ الْفَلَكِ يَتَشَبَّهُ بِهِ، كَمَا يَأْمُرُ الْمَعْشُوقُ عَاشِقَهُ أَنْ يُحِبَّهُ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْشُوقُ لَا شُعُورَ لَهُ وَلَا إِرَادَةَ فِي أَنْ يُحِبَّهُ ذَلِكَ.

ثُمَّ لَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ هُوَ الْآمِرُ؛ فَإِنَّمَا يَصْدُرُ بِسَبَبِ أَمْرِهِ، مُجَرَّدُ حَرَكَةِ الْفَلَكِ؛ وَلِهَذَا شَبَّهُوا ذَلِكَ بِأَمْرِ السُّلْطَانِ لِعَسْكَرِهِ بِأَمْرٍ يُطِيعُونَهُ فِيهِ، فَجَعَلُوا الْحَرَكَاتِ مَعْلُولَةً بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، لَمْ يُثْبِتُوا أَنَّهُ أَبْدَعَ شَيْئًا مِنَ الْأَفْلَاكِ وَالْعَنَاصِرِ وَالْمُوَلَّدَاتِ وَلَا الْعُقُولَ وَلَا النُّفُوسَ، لَا أَبْدَعَ أَعْيَانَهَا وَلَا صِفَاتِهَا، وَلَا أَفْعَالَهَا، بَلْ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ آمِرًا لَهَا بِالْحَرَكَةِ؛ كَأَمْرِ الْمَلِكِ لِعَسْكَرِهِ، مَعَ أَنَّهُ عِنْدَهُمْ لَيْسَ آمِرًا بِالْحَقِيقَةِ، بَلْ وَلَا عِلْمَ لَهُ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ، بَلْ غَايَةُ مَا يَزْعُمُ أَرِسْطُو وَأَتْبَاعُهُ أَنَّ لِلْفَلَكِ حَاجَةً إِلَيْهِ مِنْ جِهَةِ تَشَبُّهِهِ بِهِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ هُوَ عِلِّيَّةٌ مُوجِبَةٌ لِلْفَلَكِ، فَإِنَّمَا يَقُولُ هَذَا مَنْ يَقُولُهُ مِنْ مُتَأَخِّرِيهِمْ كَابْنِ سِينَا.

وَأَمَّا الْفَارَابِيُّ؛ فَهُوَ الَّذِي وَسَّعَ الْقَوْلَ فِي هَذَا الْبَابِ،

ص: 31

وَقَسَّمَ الْوُجُودَ إِلَى وَاجِبٍ وَمُمْكِنٍ، وَجَعَلَ الْأَفْلَاكَ مُمْكِنَةً وَاجِبَةً بِهِ، وَفِي ذَلِكَ مِنَ الْفَسَادِ وَالِاضْطِرَابِ مَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَبَنَى ابْنُ سِينَا الْكَلَامَ فِي نَفْيِ صِفَاتِهِ عَلَى كَوْنِهِ وَاجِبَ الْوُجُودِ.

وَأَمَّا الْفَارَابِيُّ فِي كِتَابِ " آرَاءِ الْمَدِينَةِ الْفَاضِلَةِ " وَغَيْرِ ذَلِكَ فَاعْتَمَدَ عَلَى كَوْنِهِ أَوَّلَ، وَكَذَا أَرِسْطُو فِي كِتَابِ " أَثُولُوجْيَا " اعْتَمَدَ عَلَى كَوْنِهِ هُوَ الْأَوَّلَ، وَشَبَّهَهُ بِالْأَوَّلِ فِي الْعَدَدِ، وَعَلَى ذَلِكَ بَنَوْا نَفْيَ

ص: 32

الصِّفَاتِ، وَإِنَّمَا لَوْ أَثْبَتْنَاهَا لَخَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ أَوَّلَ، مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يُقِيمُوا حُجَّةً عَلَى كَوْنِهِ أَوَّلَ بِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي زَعَمُوهُ، كَمَا لَمْ يُقِيمُوا حُجَّةً عَلَى كَوْنِهِ وَاجِبَ الْوُجُودِ بِالْمَعْنَى الَّذِي ادَّعَوْهُ، بَلْ تَكَلَّمُوا بِأَلْفَاظٍ مُجْمَلَةٍ مُتَشَابِهَةٍ، تَحْتَمِلُ حَقًّا وَبَاطِلًا؛ فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ وَاجِبُ الْوُجُودِ بِذَاتِهِ مَوْجُودٌ بِنَفَسِهِ، وَأَنَّهُ الْأَوَّلُ الَّذِي لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ، وَهُوَ الْقَدِيمُ الْأَزَلِيُّ الَّذِي لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ، وَهَؤُلَاءِ جَعَلُوا وُجُوبَ الْوُجُودِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِهِ فَلَا يَكُونُ لَهُ صِفَةً. وَكَوْنُهُ أَوَّلَ بِمَعْنَى أَوَّلِ الْأَعْدَادِ الَّذِي لَا تَعَدُّدَ فِيهِ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْوَاحِدَ وَالْأَوَّلَ الْمُجَرَّدَ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّمَا يُقَدَّرُ فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ.

فَالذِّهْنُ يُقَدِّرُ وَاحِدًا وَاثْنَيْنِ وَثَلَاثَةً وَأَرْبَعَةً، إِلَى سَائِرِ الْأَعْدَادِ الْمُجَرَّدَةِ، وَالْعَدَدُ الْمُجَرَّدُ عَنِ الْمَعْدُودِ إِنَّمَا يُوجَدُ فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ، فَأَمَّا الْمَوْجُودُ فِي الْخَارِجِ فَإِنَّمَا هِيَ أَعْيَانٌ قَائِمَةٌ بِأَنْفُسِهَا وَصِفَاتِهَا الْقَائِمَةِ بِهَا وَالْأَوَّلُ مِنْهَا هُوَ ذَاتٌ مُتَّصِفَةٌ بِصِفَاتِهَا لَا تُوجَدُ فِي الْأَعْيَانِ، لَيْسَ بِذَاتٍ قَائِمَةٍ بِنَفْسِهَا، وَلَا صِفَةٍ قَائِمَةٍ بِغَيْرِهَا، بَلْ

ص: 33

لَا تُوجَدُ ذَاتٌ مُجَرَّدَةٌ عَنْ صِفَاتِهَا وَهَذِهِ الْأُمُورُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَلَكِنْ نَبَّهْنَا هُنَا عَلَيْهَا لِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ قَالُوا إِنَّا نَعْجَبُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ أَنَّهُمْ ذُو فَضْلٍ وَأَدَبٍ وَمَعْرِفَةٍ، وَمَنْ هَذَا صُورَتُهُ وَقَدْ قَرَأَ شَيْئًا مِنْ كُتُبِ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمَنْطِقِ، فَمَا حَقُّهُمْ يُنْكِرُونَ عَلَيْنَا هَذَا.

فَكُلُّ كَلَامِ هَؤُلَاءِ النَّصَارَى يَتَضَمَّنُ تَعْظِيمَ الْفَلَاسِفَةِ وَأَهْلِ الْمَنْطِقِ، وَأَنَّ مَنْ قَرَأَ كُتُبَهُمْ عَرَفَ بِهَا مِنَ الْحَقِّ فِي الْإِلَهِيَّاتِ مَا لَا يَعْرِفُهُ سَائِرُ أَهْلِ الْمِلَلِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَهْلِ هَؤُلَاءِ النَّصَارَى بِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَبِمَا يُعْرَفُ بِالْعَقْلِ الْمَحْضِ.

أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ الْمَسِيحَ وَأَتْبَاعَهُ كَالْحِوَارِيِّينَ وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ لَيْسَ

ص: 34

فِيهِمْ مَنْ عَظَّمَ هَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةَ، وَلَا اسْتَعَانَ بِهِمْ، وَلَا الْتَفَتَ إِلَيْهِمْ، بَلْ وَهُمْ عِنْدَهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْكُفْرِ وَرُءُوسِ الضَّلَالِ، وَكَذَلِكَ مُوسَى وَأَتْبَاعُهُ، وَكَذَلِكَ مُحَمَّدٌ وَأَتْبَاعُهُ، فَلَيْسَ فِي رُسُلِ اللَّهِ وَأَنْبِيَائِهِ وَلَا فِي أَتْبَاعِهِمْ مَنْ يُعَظِّمُهُمْ وَلَا يَسْتَعِينُ بِكَلَامِهِمْ، بَلِ الرُّسُلُ وَأَتْبَاعُهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى تَضْلِيلِهِمْ وَتَجْهِيلِهِمْ.

وَأَمَّا الْعَقْلِيَّاتُ: فَإِنَّمَا يُعَظِّمُ كَلَامَ هَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةِ فِي الْعُلُومِ الْكُلِّيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ مَنْ هُوَ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ بِالْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْعُلُومِ الْكُلِّيَّةِ؛ إِذْ كَانَ كَلَامُهُمْ فِي ذَلِكَ، فِيهِ مِنَ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ مَا لَا يُحِيطُ بِهِ إِلَّا ذُو الْجَلَالِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْقَوْمُ يَعْرِفُونَ مَا يَعْرِفُونَهُ مِنَ الطَّبِيعِيَّاتِ وَالرِّيَاضِيَّاتِ كَالْهَنْدَسَةِ وَبَعْضِ الْهَيْئَةِ وَشَيْئًا مِنْ عُلُومِ الْأَخْلَاقِ وَالسِّيَاسَاتِ الْمَدَنِيَّةِ وَالْمَنْزِلِيَّةِ الَّتِي هِيَ جُزْءٌ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ أَعْلَمُ مِنْ هَؤُلَاءِ بِالْعُلُومِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْأَخْلَاقِ وَالسِّيَاسَاتِ، فَضْلًا عَمَّا وَرَاءَ ذَلِكَ.

فَاعْتِضَادُ هَؤُلَاءِ النَّصَارَى هَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةَ يَدُلُّ عَلَى عَظِيمِ جَهْلِهِمْ بِالشَّرْعِيَّاتِ وَالْعَقْلِيَّاتِ، وَهَذَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ؛ إِذْ كَانَ الرَّدُّ عَلَى الْفَلَاسِفَةِ لَا يُخْتَصُّ بِهِ النَّصَارَى، بَلِ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ مَعَهُمْ وَمَعَ مَنْ يُعَظِّمُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ عُمُومًا.

ص: 35

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ مِنْ أَتْبَاعِ الْفَلَاسِفَةِ؛ كَالْفَارَابِيِّ وَابْنِ سِينَا وَالسُّهْرَوَرْدِيِّ الْمَقْتُولِ، وَابْنِ رُشْدٍ الْحَفِيدِ إِمَامِهِمْ، أَحَذَقُ بِهِمْ وَأَعْلَمُ مِنَ النَّصَارَى.

وَكُتُبُ الْفَلَاسِفَةِ الَّتِي صَارَتْ إِلَى الْإِسْلَامِ، مِنَ الطِّبِّ وَالْحِسَابِ وَالْمَنْطِقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، هَذَّبَهَا الْمُنْتَسِبُونَ إِلَى الْإِسْلَامِ فَجَاءَ كَلَامُهُمْ فِيهَا خَيْرًا مِنْ كَلَامِ أُولَئِكَ الْيُونَانِ.

وَالنَّصَارَى وَالْيَهُودُ إِنَّمَا يَعْتَمِدُونَ فِي هَذِهِ الْعُلُومِ عَلَى مَا وَصَفَهُ هَؤُلَاءِ الْمُنْتَسِبُونَ إِلَى الْإِسْلَامِ، مَعَ أَنَّ هَؤُلَاءِ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ جُهَّالٌ

ص: 36

ضُلَّالٌ فِي الْإِلَهِيَّاتِ وَالْكُلِّيَّاتِ، فَكَيْفَ يَكُونُ سَلَفُهُمْ وَمَنْ يُعَظِّمُهُمْ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؟ .

وَلَمَّا صَارَ أُولَئِكَ الْيُونَانُ عَارِفِينَ بِاللَّهِ، مُوَحِّدِينَ لَهُ، عَابِدِينَ لَهُ، مُؤْمِنِينَ بِمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، لَمَّا دَخَلَ إِلَيْهِمْ أَتْبَاعُ الْمَسِيحِ يَدْعُونَهُمْ إِلَى دِينِ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ الْمَسِيحَ. وَكُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ أَتْبَاعِ الْمَسِيحِ - غَيْرَ مُبَدِّلٍ لِشَيْءٍ مِنْ دِينِهِ قَبْلَ النَّسْخِ - فَإِنَّهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُهْتَدِينَ، وَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ.

وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ كَلَامَ الرُّسُلِ يُوَافِقُ هَؤُلَاءِ الْيُونَانَ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى جَهْلِهِ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَبِمَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ. وَإِنَّمَا يُوجَدُ مِثْلُ هَذَا فِي كَلَامِ الْمَلَاحِدَةِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ؛ مَلَاحِدَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ؛ كَأَصْحَابِ رَسَائِلِ إِخْوَانِ الصَّفَا، وَأَمْثَالِهِمْ مِنَ الْمَلَاحِدَةِ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى

ص: 37

تَشَيُّعٍ أَوْ إِلَى تَصَوُّفٍ كَابْنِ عَرَبِيٍّ

ص: 38

وَابْنِ سَبْعِينَ وَأَمْثَالِهِمَا. وَفِي الْكُتُبِ الْمَضْنُونِ بِهَا عَلَى غَيْرِ أَهْلِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْكَلَامِ الْمَنْسُوبِ إِلَى أَبِي حَامِدٍ قِطْعَةٌ مِنْ ذَلِكَ.

وَهَؤُلَاءِ يَحْتَجُّونَ بِالْحَدِيثِ الْمَأْثُورِ «أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلُ فَقَالَ لَهُ: أَقْبِلْ. فَأَقْبَلَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ، فَقَالَ: وَعِزَّتِي مَا خَلَقْتُ خَلْقًا أَكْرَمَ عَلَيَّ مِنْكَ، فَبِكَ آخُذُ وَبِكَ أُعْطِي، وَبِكَ الثَّوَابُ وَعَلَيْكَ الْعِقَابُ» .

ص: 39

وَهَذَا الْحَدِيثُ كَذِبٌ مَوْضُوعٌ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ؛ كَأَبِي جَعْفَرٍ الْعَقِيلِيِّ،

ص: 40

وَأَبِي حَاتِمِ بْنِ حِبَّانَ الْبُسْتِيِّ، وَأَبِي الْحَسَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَأَبِي الْفَرَجِ بْنِ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرِهِمْ.

ثُمَّ لَفْظُهُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا حُجَّةٌ عَلَى نَقِيضِ مَطْلُوبِهِمْ، فَإِنَّهُ قَالَ:" أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلُ " بِنَصْبِ " أَوَّلَ "، وَفِي لَفْظٍ " لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلَ قَالَ لَهُ ".

فَلَفْظُهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ خَاطَبَهُ فِي أَوَّلِ مَا خَلَقَهُ، فَحَرَّفُوا لَفْظَهُ وَقَالُوا: أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلُ بِالضَّمِّ، وَلَيْسَ هَذَا لَفْظَهُ، وَلَكِنَّ لَفْظَهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ خَاطَبَهُ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِ خَلْقِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ:" «مَا خَلَقْتُ خَلْقًا أَكْرَمَ عَلَيَّ مِنْكَ» "، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ خَلَقَ قَبْلَهُ غَيْرَهُ.

وَعِنْدَهُمْ هُوَ أَوَّلُ الْمُبْدَعَاتِ، يَمْتَنِعُ أَنْ يَتَقَدَّمَهُ شَيْءٌ، مَعَ أَنَّهُ وَسَائِرَ الْعُقُولِ وَالْأَفْلَاكَ - عِنْدَهُمْ - قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ لَمْ تَزَلْ وَلَا تَزَالُ.

ص: 41

ثُمَّ قَالَ: " «فَبِكَ آخُذُ وَبِكَ أُعْطِي وَبِكَ الثَّوَابُ وَعَلَيْكَ الْعِقَابُ» " فَجَعَلَ بِهِ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ الْأَرْبَعَةَ.

وَعِنْدَهُمْ أَنَّ الْعَقْلَ صَدَرَ عَنْهُ جَمِيعُ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ؛ وَذَلِكَ أَنَّ لَفْظَ (الْعَقْلِ) فِي الْحَدِيثِ سَوَاءٌ كَانَ صَحِيحًا أَوْ ضَعِيفًا، هُوَ الْعَقْلُ فِي لُغَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، هُوَ عَقْلُ الْإِنْسَانِ، وَهُوَ عَرَضٌ قَائِمٌ بِهِ، وَهَذِهِ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِالْإِنْسَانِ، لَيْسَ هُوَ جَوْهَرًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ.

وَالْعَقْلُ فِي لُغَةِ هَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةِ هُوَ جَوْهَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ. وَأَمَّا النَّفْسُ الْفَلَكِيَّةُ، فَلَهُمْ فِيهَا قَوْلَانِ: قِيلَ: إِنَّهَا عَرَضٌ قَائِمٌ بِالْفَلَكِ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِهِمْ. وَقِيلَ: بَلْ جَوْهَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ، وَلِهَذَا يَمِيلُ ابْنُ سِينَاءَ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ مَبْسُوطَةٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ.

وَالْمَقْصُودُ هُنَا ذِكْرُ هَؤُلَاءِ النَّصَارَى أَنَّ ثَمَّ جَوْهَرًا لَطِيفًا، غَيْرَ الْجَوْهَرِ الْكَثِيفِ، وَمَثَّلُوا ذَلِكَ بِالنَّفْسِ وَالْعَقْلِ وَالضَّوْءِ، ثُمَّ لَمْ يُقِيمُوا عَلَى ثُبُوتِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ دَلِيلًا، وَلَا دَلِيلَ مِمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْكُتُبُ الْإِلَهِيَّةُ، فَإِنَّ النَّفْسَ الْفَلَكِيَّةَ وَالْعُقُولَ الْعَشَرَةَ لَمْ يَنْطِقْ بِهَا كِتَابٌ

ص: 42

وَلَا رَسُولٌ، بَلْ وَلَا دَلَّ عَلَيْهَا دَلِيلٌ عَقْلِيٌّ، وَأَدِلَّةُ الْمُتَفَلْسِفَةِ عَلَيْهَا ضَعِيفَةٌ. وَإِنَّمَا دَلَّ الْعَقْلُ عَلَى مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ.

وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ حَمَلُوا كَلَامَ الرُّسُلِ عَلَى مَا يُوَافِقُ قَوْلَ الْمُتَفَلْسِفَةِ يَجْعَلُونَ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ، هُوَ النَّفْسَ الْفَلَكِيَّةَ، كَمَا يَجْعَلُونَ الْعَقْلَ وَالْقَلَمَ هُوَ الْعَقْلَ الْأَوَّلَ وَالْعَرْشَ هُوَ الْفَلَكَ التَّاسِعَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ.

وَإِذْ لَمْ يُقِيمُوا حُجَّةً شَرْعِيَّةً وَلَا عَقْلِيَّةً عَلَى مَا مَثَّلُوا بِهِ مِنَ الْجَوَاهِرِ اللَّطِيفَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ الْجَوْهَرَ مَا يَشْغَلُ حَيِّزًا وَيَقْبَلُ عَرَضًا. وَلَمَّا قَرَنُوا النَّفْسَ بِالْعَقْلِ، كَانَ ذَلِكَ ظَاهِرًا فِي أَنَّهُمْ أَرَادُوا النَّفْسَ الْفَلَكِيَّةَ.

فَأَمَّا إِنْ أَرَادُوا النَّفْسَ الْإِنْسَانِيَّةَ فَهَذِهِ ثَابِتَةٌ، أَخْبَرَتْ بِهَا الرُّسُلُ وَأَتْبَاعُهُمْ، كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ. لَكِنَّ هَذِهِ لَا تُقْرَنُ بِالْعَقْلِ الَّذِي هُوَ جَوْهَرٌ. وَالْعَقْلُ صِفَةُ هَذِهِ وَهُوَ مَصْدَرُ عَقَلَ يَعْقِلُ عَقْلًا. وَقَدْ يُرَادُ بِالْعَقْلِ غَرِيزَةٌ قَائِمَةٌ بِهَا، وَيُرَادُ بِالْعَقْلِ الْعَمَلُ بِالْعِلْمِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ.

الْوَجْهُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُمْ: " وَجَوْهَرُ الضَّوْءِ " فَيُقَالُ لَهُمْ: إِنْ أَرَدْتُمْ بِالضَّوْءِ نَفْسَ الشَّمْسِ وَالنَّارِ فَهَذَا جِسْمٌ مُتَحَيِّزٌ؛ يَشْغَلُ حَيِّزًا، وَيَقْبَلُ عَرَضًا، لَيْسَ هُوَ مِنَ الْجَوَاهِرِ اللَّطِيفَةِ الَّذِي مَثَّلْتُمْ بِهَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ

ص: 43

بِالضَّوْءِ الشُّعَاعَ الْقَائِمَ بِالْهَوَاءِ وَالْجُدْرَانِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَلَيْسَ هَذَا بِجَوْهَرٍ، لَا لَطِيفٍ وَلَا كَثِيفٍ، بَلْ هُوَ عَرَضٌ قَائِمٌ بِغَيْرِهِ.

الْوَجْهُ الْخَامِسُ: قَوْلُكُمْ: " إِنَّ الْجَوْهَرَ اللَّطِيفَ لَا يَقْبَلُ عَرَضًا " كَلَامٌ مَمْنُوعٌ، وَهُوَ بَاطِلٌ أَيْضًا. فَإِنَّ نَفْسَ الْإِنْسَانِ تَقْبَلُ الْأَعْرَاضَ الْقَائِمَةَ بِهَا، وَكَذَلِكَ النَّفْسُ الْفَلَكِيَّةُ - عِنْدَ مَنْ أَثْبَتَهَا - تَقُومُ بِهَا إِرَادَاتٌ وَتَصَوُّرَاتٌ مُتَجَدِّدَةٌ. وَلَفْظُ " الْعَرَضِ " فِي اصْطِلَاحِ النُّظَّارِ يُرَادُ بِهِ مَا قَامَ بِغَيْرِهِ سَوَاءٌ كَانَ صِفَةً لَازِمَةً أَوْ عَارِضَةً، وَهَذَا مُوجَبُ تَقْسِيمِ النَّصَارَى، كَمَا هُوَ قَوْلُ الْفَلَاسِفَةِ.

فَإِنَّهُمْ قَالُوا: لَيْسَ فِي الْوُجُودِ شَيْءٌ إِلَّا وَهُوَ إِمَّا جَوْهَرٌ وَإِمَّا عَرَضٌ؛ لِأَنَّهُ أَيُّ أَمْرٍ نَظَرْنَاهُ وَجَدْنَاهُ إِمَّا قَائِمًا بِنَفْسِهِ، غَيْرَ مُفْتَقِرٍ فِي وُجُودِهِ إِلَى غَيْرِهِ، وَهُوَ الْجَوْهَرُ، وَإِمَّا مُفْتَقِرٌ فِي وُجُودِهِ إِلَى غَيْرِهِ، لَا قِوَامَ لَهُ بِنَفْسِهِ وَهُوَ " الْعَرَضُ " قَالُوا:" وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِهَذَيْنَ قِسْمٌ ثَالِثٌ ".

وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ هُوَ تَقْسِيمُ أَرِسْطُو وَأَتْبَاعِهِ، وَهُوَ يُسَمِّي الْمَبْدَأَ الْأَوَّلَ جَوْهَرًا وَهَذَا تَقْسِيمُ سَائِرِ النُّظَّارِ. لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يُدْخِلُونَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فِي مُسَمَّى الْجَوْهَرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُدْخِلُهُ فِيهِ، وَبَعْضُ النِّزَاعِ فِي ذَلِكَ لَفْظِيٌّ.

وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالُوهُ؛ فَالضَّوْءُ الْقَائِمُ بِالْأَرْضِ وَالْهَوَاءِ عَرَضٌ لَيْسَ جَوْهَرًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ، وَهُمْ قَدْ جَعَلُوهُ جَوْهَرًا، وَهَذَا تَنَاقُضٌ بَيِّنٌ. وَأَيْضًا فَالْجَوَاهِرُ اللَّطِيفَةُ تَقُومُ بِهَا الْأَعْرَاضُ؛ كَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ، بَلْ وَالرَّبُّ - عَلَى قَوْلِهِمْ - تَقُومُ بِهِ الْحَيَاةُ وَالْعِلْمُ.

ص: 44

فَإِذَا سَمَّوْهُ جَوْهَرًا، لَزِمَهُمْ أَنْ يُسَمُّوا صِفَاتِهِ أَعْرَاضًا، إِذَا قَالُوا: لَا مَوْجُودَ إِلَّا جَوْهَرٌ أَوْ عَرَضٌ.

فَهَذَا يُنَاقِضُ قَوْلَهُمْ: " الْمَوْجُودُ إِمَّا جَوْهَرٌ وَإِمَّا عَرَضٌ، فَلَيْسَ فِي الْمَوْجُودَاتِ إِلَّا هَذَا أَوْ هَذَا " بَلْ مُوجَبُ كَلَامِهِمْ أَنَّهَا قَائِمَةٌ بِذَاتِ اللَّهِ، فَكَيْفَ بِذَاتِ غَيْرِهِ؟ .

وَإِذَا قَالُوا: " وَيُعْنَى بِالْأَعْرَاضِ، الصِّفَاتُ الْعَارِضَةُ أَوِ الْقَائِمَةُ بِالْأَجْسَامِ " كَانَ هَذَا مُنَاقِضًا لِقَوْلِهِمْ: " الْمَوْجُودُ إِمَّا جَوْهَرٌ وَإِمَّا عَرَضٌ " مَعَ قَوْلِهِمْ: " إِنَّ الرَّبَّ جَوْهَرُ ثَلَاثَةِ أَقَانِيمَ، وَالْأُقْنُومُ ذَاتٌ وَصِفَةٌ " وَمَعَ قَوْلِهِمْ: " إِنَّ الرَّبَّ جَوْهَرٌ " فَقَوْلُهُمْ يَقْتَضِي أَنَّ الرَّبَّ جَوْهَرٌ تَقُومُ بِهِ الْأَعْرَاضُ، فَكَيْفَ غَيْرُهُ.

ثُمَّ يُقَالُ: إِذَا قُدِّرَ أَنَّهُمْ يَدَّعُونَ ثُبُوتَ جَوْهَرٍ لَا يَقُومُ بِهِ الْأَعْرَاضُ، فَهَذَا اصْطِلَاحٌ لَهُمْ وَافَقُوا فِيهِ نُفَاةَ الصِّفَاتِ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ كَأَرِسْطُو وَذَوِيهِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الرَّبَّ جَوْهَرٌ لَا يَتَّصِفُ بِشَيْءٍ مِنَ

ص: 45

الصِّفَاتِ الثُّبُوتِيَّةِ، لَكِنْ لَيْسَ هَذَا قَوْلَ النَّصَارَى، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُمْ فِي قَوْلِهِمْ:" إِنَّ الرَّبَّ جَوْهَرٌ " وَفِي قَوْلِهِمْ: " إِنَّ مِنَ الْجَوَاهِرِ مَا لَا يَقُومُ بِهِ الصِّفَاتُ " مُوَافِقُونَ لِلْمُشْرِكِينَ الْفَلَاسِفَةِ، أَرِسْطُو وَأَتْبَاعِهِ، لَا مُوَافِقِينَ لِلْمَسِيحِ وَالْحَوَارِيِّينَ، وَأَنَّهُمْ أَثْبَتُوا الصِّفَاتِ لِلَّهِ مُوَافَقَةً لِلْمَسِيحِ وَالْحَوَارِيِّينَ ثُمَّ جَعَلُوهُ جَوْهَرًا، ثُمَّ قَالُوا:" إِنَّ الْجَوْهَرَ اللَّطِيفَ لَا تَقُومُ بِهِ الصِّفَاتُ " وَهَذَا قَوْلُ الْفَلَاسِفَةِ الْمُشْرِكِينَ الْمُعَطِّلِينَ، وَهَذَا تَحْقِيقُ مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ رَكَّبُوا دِينًا مِنْ دِينِ الْمَسِيحِ وَالْحَوَارِيِّينَ وَمِنْ دِينِ الْكُفَّارِ الْمُشْرِكِينَ.

فَهَؤُلَاءِ إِنْ عَنَوْا بِالْعَرَضِ هَذَا فَكُلُّ جَوْهَرٍ يَقْبَلُ الصِّفَاتِ، وَإِنْ أَرَادُوا بِالْعَرَضِ مَا تَعْنِيهِ الْمُتَفَلْسِفَةُ بِالصِّفَاتِ الْعَرَضِيَّةِ الَّتِي يُفَرِّقُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الذَّاتِيَّةِ - مَعَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مُقْتَضَى كَلَامِهِمْ - فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ تَقْسِيمَ هَؤُلَاءِ الصِّفَاتِ اللَّازِمَةَ لِلْمَوْصُوفِ إِلَى ذَاتِيَّةٍ وَعَرَضِيَّةٍ تَقْسِيمٌ بَاطِلٌ، وَتَقْدِيرُ أَنْ يَكُونَ حَقًّا، فَالنَّفْسُ - أَيْضًا - تَقْبَلُ الصِّفَاتِ الْعَرَضِيَّةَ، بَلْ وَكَذَلِكَ كُلُّ جَوْهَرٍ سَوَاءٌ كَانَ لَطِيفًا أَوْ كَثِيفًا. فَقَوْلُكُمْ: " إِنَّ الْجَوْهَرَ اللَّطِيفَ لَا يَقْبَلُ عَرَضًا؛ مِثْلَ جَوْهَرِ النَّفْسِ وَجَوْهَرِ الْعَقْلِ وَجَوْهَرِ الضَّوْءِ وَمَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى مِنَ الْجَوَاهِرِ اللَّطِيفَةِ، كَلَامٌ بَاطِلٌ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ.

ص: 46

وَإِنْ عَنَوْا بِلَفْظِ الْعَرَضِ شَيْئًا آخَرَ، لَمْ يَنْفَعْهُمْ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ الَّذِينَ قَالُوا:" الْجَوْهَرُ هُوَ مَا يَشْغَلُ حَيِّزًا وَيَقْبَلُ عَرَضًا " إِنَّمَا أَرَادُوا بِالْعَرَضِ مَا يَقُومُ بِغَيْرِهِ مِنَ الْمَعَانِي، سَوَاءٌ كَانَ لَازِمًا لَهُ أَوْ عَارِضًا لَهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ جَوْهَرٍ فَإِنَّهُ يَقُومُ بِهِ الْمَعَانِي. وَالْخَالِقُ - تَعَالَى - عِنْدَهُمْ يَقُومُ بِهِ الْحَيَاءُ وَالْعِلْمُ، فَإِذَا كَانَ الْخَالِقُ - تَعَالَى - يَقُومُ بِهِ الْمَعَانِي - وَهُمْ يُسَمُّونَهُ جَوْهَرًا - فَكَيْفَ لَا تَقُومُ الْمَعَانِي بِغَيْرِهِ.

وَهَؤُلَاءِ يُثْبِتُونَ جَوْهَرًا لَطِيفًا لَا تَقُومُ بِهِ الْأَعْرَاضُ، مَعَ قَوْلِهِمْ:" إِنَّهُ تَقُومُ بِهِ الْمَعَانِي " وَهَذَا اصْطِلَاحٌ لَهُمْ لَا يُوَافِقُهُمْ عَلَيْهِ أَحَدٌ. ثُمَّ يَتَنَاقَضُونَ فَيَقُولُونَ: " الْمَوْجُودُ إِمَّا جَوْهَرٌ وَإِمَّا عَرَضٌ " وَهَذَا تَنَاقُضٌ.

وَنُظَّارُ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ فِي تَسْمِيَةِ صِفَاتِ اللَّهِ الْقَائِمَةِ بِهِ أَعْرَاضًا نِزَاعٌ: بَعْضُهُمْ يُسَمِّيهَا أَعْرَاضًا، وَبَعْضُهُمْ يُنْكِرُ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ، مَعَ اتِّفَاقِ هَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ عَلَى قِيَامِ الصِّفَاتِ بِهِ. وَجُمْهُورُ نُظَّارِ الْمُسْلِمِينَ

ص: 47

لَا يُسَمُّونَهُ جَوْهَرًا، وَبَعْضُهُمْ يُسَمِّيهِ جَوْهَرًا، وَأَمَّا مَنْ أَنْكَرَ قِيَامَ الصِّفَاتِ بِهِ فَذَاكَ لَا يُسَمِّي اللَّهَ جَوْهَرًا وَلَا جِسْمًا.

وَهَؤُلَاءِ النَّصَارَى مُتَنَاقِضُونَ تَنَاقُضًا بَيِّنًا، وَلِهَذَا كَانَ لَهُمْ طَرِيقَةٌ لَا يُوَافِقُهُمْ عَلَيْهَا أَحَدٌ مِنْ طَوَائِفِ الْعُقَلَاءِ، ذَلِكَ يَظْهَرُ:.

بِالْوَجْهِ السَّادِسِ: وَهُوَ أَنَّ النَّاسَ لَهُمْ فِي إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِذَاتِ اللَّهِ - تَعَالَى - قَوْلَانِ: فَسَلَفُ الْمُسْلِمِينَ وَأَئِمَّتُهُمْ وَجُمْهُورُ الْخَلْقِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ وَغَيْرِ أَهْلِ الْمِلَلِ، يُثْبِتُونَ قِيَامَ الصِّفَاتِ بِاللَّهِ، تبارك وتعالى. وَهَلْ تُسَمَّى أَعْرَاضًا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَوْلُ مَنْ يَنْفِي الصِّفَاتِ، مِثْلُ الْمَلَاحِدَةِ الْجَهْمِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ، مِنْ مُبْتَدِعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ، وَبَعْضِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَهَؤُلَاءِ لَا تَقُومُ بِهِ الْمَعَانِي وَالصِّفَاتُ عِنْدَهُمْ، فَلَا يَقُولُونَ: تَقُومُ بِهِ الْأَعْرَاضُ. ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُسَمِّيهِ جَوْهَرًا كَأَرِسْطُو وَأَتْبَاعِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُسَمِّيهِ جَوْهَرًا، كَمُتَأَخِّرِي الْفَلَاسِفَةِ: ابْنِ سِينَا

ص: 48

وَأَمْثَالِهِ، مَعَ جُمْهُورِ نُظَّارِ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ، سَوَاءٌ سَمَّوْهُ جَوْهَرًا أَوْ لَمْ يُسَمُّوهُ.

وَأَمَّا الْجُمْهُورُ الْقَائِلُونَ بِقِيَامِ الْمَعَانِي بِهِ؛ فَبَعْضُهُمْ يُسَمِّيهَا أَعْرَاضًا وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِ جَوْهَرًا. وَقَدْ سَمَّاهُ بَعْضُهُمْ جَوْهَرًا، وَبَعْضُهُمْ يَنْفِي أَنْ يَكُونَ أَعْرَاضًا، وَبَعْضُهُمْ يَسْكُتُ عَنِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، فَلَا يُسَمِّيهَا أَعْرَاضًا وَلَا يَنْفِي تَسْمِيَتَهَا بِذَلِكَ، أَوْ يَسْتَفْصِلُ الْقَائِلَ عَنْ كَوْنِهَا أَعْرَاضًا.

وَأَمَّا هَؤُلَاءِ النَّصَارَى فَقَالُوا: " جَوْهَرُ ثَلَاثَةِ أَقَانِيمَ " وَوَصَفُوهُ بِالصِّفَاتِ الثُّبُوتِيَّةِ؛ وَهِيَ الْحَيَاةُ وَالنُّطْقُ، وَقَالُوا:" الْمَوْجُودُ إِمَّا جَوْهَرٌ وَإِمَّا عَرَضٌ " فَلَزِمَهُمْ أَنْ تَكُونَ صِفَاتُ اللَّهِ أَعْرَاضًا عِنْدَهُمْ، ثُمَّ قَالُوا:" الْجَوْهَرُ اللَّطِيفُ لَا يَقُومُ بِهِ الْأَعْرَاضُ " وَنَزَّهُوا الرَّبَّ أَنْ تَقُومَ بِهِ الْأَعْرَاضُ، مَعَ قَوْلِهِمْ:" إِنَّهُ جَوْهَرٌ " تَنَاقَضُوا تَنَاقُضًا بَيِّنًا، حَيْثُ جَمَعُوا بَيْنَ كَلَامِ الرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ وَبَيْنَ كَلَامِ الْمُشْرِكِينَ

ص: 49

الْمُعَطِّلِينَ الْفَلَاسِفَةِ. فَمَا تَلَقَّوْهُ عَنِ الْمَسِيحِ فَهُوَ حَقٌّ، وَمَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ قَوْلِ مَنْ خَالَفَ الرُّسُلَ فَهُوَ بَاطِلٌ. فَجَمَعُوا فِي قَوْلِهِمْ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَسَلَكُوا مَسْلَكًا لَا يُعْرَفُ عَنْ غَيْرِهِمْ، وَإِيضَاحُ هَذَا أَنْ يُقَالَ فِي:

الْوَجْهِ السَّابِعِ: أَنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرُوهُ تَنَاقُضٌ بَيِّنٌ؛ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: الْمَوْجُودُ إِمَّا جَوْهَرٌ وَإِمَّا عَرَضٌ: " الْقَائِمُ بِذَاتِهِ هُوَ الْجَوْهَرُ، وَالْقَائِمُ بِغَيْرِهِ هُوَ الْعَرَضُ ".

ثُمَّ قَالُوا: " إِنَّهُ مَوْجُودٌ حَيٌّ نَاطِقٌ، لَهُ حَيَاةٌ وَنُطْقٌ ". فَيُقَالُ لَهُمْ: حَيَاتُهُ وَنُطْقُهُ؛ إِمَّا جَوْهَرٌ وَإِمَّا عَرَضٌ، وَلَيْسَ جَوْهَرًا؛ لِأَنَّ الْجَوْهَرَ مَا قَامَ بِنَفْسِهِ، وَالْحَيَاةُ وَالنُّطْقُ لَا يَقُومَانِ بِنَفْسَيْهِمَا، بَلْ بِغَيْرِهِمَا، فَهُمَا مِنَ الْأَعْرَاضِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ عِنْدَهُمْ جَوْهَرٌ يَقُومُ بِهِ الْأَعْرَاضُ، مَعَ قَوْلِهِمْ:" إِنَّهُ جَوْهَرٌ لَا يَقْبَلُ عَرَضًا ".

ص: 50

فَإِنْ قِيلَ: أَرَادُوا بِقَوْلِهِمْ: " لَا يَقْبَلُ عَرَضًا " مَا كَانَ حَادِثًا؛ قِيلَ: فَهَذَا يَنْقُضُ تَقْسِيمَهُمُ الْمَوْجُودَ إِلَى جَوْهَرٍ وَعَرَضٍ، فَإِنَّ الْمَعْنَى الْقَدِيمَ الَّذِي يَقُومُ بِهِ لَيْسَ جَوْهَرًا وَلَيْسَ حَادِثًا. فَإِنْ كَانَ عَرَضًا؛ فَقَدْ قَامَ بِهِ الْعَرَضُ وَقَبِلَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَرَضًا؛ بَطَلَ التَّقْسِيمُ.

يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّهُ يُقَالُ: أَنْتُمْ قُلْتُمْ: " إِنَّهُ شَيْءٌ حَيٌّ نَاطِقٌ " وَقُلْتُمْ: " هُوَ ثَلَاثَةُ أَقَانِيمَ " وَقُلْتُمْ: " الْمُتَّحِدُ بِالْمَسِيحِ أُقْنُومُ الْكَلِمَةِ " وَقُلْتُمْ فِي الْأَمَانَةِ: " نُؤْمِنُ بِإِلَهٍ وَاحِدٍ أَبٍ ضَابِطِ الْكُلِّ، وَبِرَبٍّ وَاحِدٍ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِ اللَّهِ الْوَحِيدِ الْمَوْلُودِ مِنَ الْأَبِ قَبْلَ كُلِّ الدُّهُورِ، إِلَهٍ حَقٍّ مِنْ إِلَهٍ حَقٍّ مِنْ جَوْهَرِ أَبِيهِ مَوْلُودٍ غَيْرِ مَخْلُوقٍ مُسَاوٍ لِلْأَبِ فِي الْجَوْهَرِ ".

ثُمَّ قُلْتُمْ: " إِنَّ الرَّبَّ جَوْهَرٌ " وَقُلْتُمْ: " إِنَّ الَّذِي يَشْغَلُ حَيِّزًا

ص: 51

أَوْ يَقْبَلُ عَرَضًا هُوَ الْجَوْهَرُ الْكَثِيفُ؛ فَأَمَّا الْجَوْهَرُ اللَّطِيفُ فَلَا يَقْبَلُ عَرَضًا وَلَا يَشْغَلُ حَيِّزًا؛ مِثْلَ جَوْهَرِ النَّفْسِ وَجَوْهَرِ الْعَقْلِ، وَمَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى مِنَ الْجَوَاهِرِ اللَّطِيفَةِ. فَإِذَا كَانَتِ الْجَوَاهِرُ اللَّطِيفَةُ الْمَخْلُوقَةُ لَا تَقْبَلُ عَرَضًا وَلَا تَشْغَلُ حَيِّزًا؛ فَيَكُونُ خَالِقُ الْجَوَاهِرِ اللَّطَائِفِ وَالْكَثَائِفِ وَمُرَكِّبِ اللَّطَائِفِ بِالْكَثَائِفِ يَقْبَلُ عَرَضًا وَيَشْغَلُ حَيِّزًا كَلَّا " فَصَرَّحْتُمْ بِأَنَّهُ جَوْهَرٌ لَا يَقْبَلُ عَرَضًا، وَقُلْتُمْ: " لَيْسَ فِي الْمَوْجُودِ شَيْءٌ إِلَّا وَهُوَ إِمَّا جَوْهَرٌ وَإِمَّا عَرَضٌ؛ فَإِنْ كَانَ قَائِمًا بِنَفْسِهِ غَيْرَ مُحْتَاجٍ فِي وُجُودِهِ إِلَى غَيْرِهِ فَهُوَ الْجَوْهَرُ، وَإِنْ كَانَ مُفْتَقِرًا فِي وُجُودِهِ إِلَى غَيْرِهِ لَا قِوَامَ لَهُ بِنَفْسِهِ فَهُوَ الْعَرَضُ ".

فَيُقَالُ لَكُمْ: الِابْنُ الْقَدِيمُ الْأَزَلِيُّ الْمَوْلُودُ مِنْ جَوْهَرِ أَبِيهِ - الَّذِي هُوَ مَوْلُودٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، الَّذِي تَجَسَّدَ وَنَزَلَ - جَوْهَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ أَمْ هُوَ عَرَضٌ قَائِمٌ بِغَيْرِهِ، وَالْمَوْجُودُ عِنْدَكُمْ: إِمَّا جَوْهَرٌ وَإِمَّا عَرَضٌ. فَإِنْ قُلْتُمْ: هُوَ جَوْهَرٌ، فَقَدْ صَرَّحْتُمْ بِإِثْبَاتِ جَوْهَرَيْنِ: الْأَبُ جَوْهَرٌ، وَالِابْنُ جَوْهَرٌ، وَيَكُونُ حِينَئِذٍ أُقْنُومُ الْحَيَاةِ جَوْهَرًا ثَالِثًا، فَهَذَا تَصْرِيحٌ بِإِثْبَاتِ ثَلَاثَةِ جَوَاهِرَ قَائِمَةٍ بِنَفْسِهَا، وَحِينَئِذٍ فَيَبْطُلُ قَوْلُكُمْ:" إِنَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ، وَإِنَّهُ أَحَدِيُّ الذَّاتِ ثُلَاثِيُّ الصِّفَاتِ، وَإِنَّهُ وَاحِدٌ بِالْجَوْهَرِ ثَلَاثَةٌ بِالْأُقْنُومِ " إِذْ كُنْتُمْ قَدْ صَرَّحْتُمْ - عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ - بِإِثْبَاتِ ثَلَاثَةِ جَوَاهِرَ.

ص: 52

وَإِنْ قُلْتُمْ: بَلِ الِابْنُ الْقَدِيمُ الْأَزَلِيُّ، الَّذِي هُوَ الْكَلِمَةُ، الَّتِي هِيَ الْعِلْمُ وَالْحِكْمَةُ، عَرَضٌ قَائِمٌ بِجَوْهَرِ الْأَبِ، لَيْسَ هُوَ جَوْهَرًا ثَانِيًا؛ فَقَدْ صَرَّحْتُمْ بِأَنَّ الرَّبَّ جَوْهَرٌ تَقُومُ بِهِ الْأَعْرَاضُ، وَقَدْ أَنْكَرْتُمْ هَذَا فِي كَلَامِكُمْ، وَقُلْتُمْ:" هُوَ جَوْهَرٌ لَا تَقُومُ بِهِ الْأَعْرَاضُ " وَقُلْتُمْ: " إِنَّ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ جَوَاهِرَ لَا تَقُومُ بِهَا الْأَعْرَاضُ، فَالْخَالِقُ أَوْلَى " وَهَذَا تَنَاقُضٌ بَيِّنٌ لَا حِيلَةَ فِيهِ لِمَنْ تَدَبَّرَ كَلَامَهُمْ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ.

فَإِنَّ كَلَامَهُمْ هَذَا يُوجِبُ أَنَّهُ جَوْهَرٌ وَاحِدٌ، لَا يَقُومُ بِهِ شَيْءٌ مِنَ الْأَعْرَاضِ.

وَهُمْ يَقُولُونَ: " جَوْهَرٌ وَاحِدٌ، ثَلَاثَةُ أَقَانِيمَ " وَسَوَاءٌ سَمَّوْهَا صِفَاتٍ أَوْ خَوَاصَّ أَوْ أَعْرَاضًا، أَوْ قَالُوا: الْأُقْنُومُ هُوَ الذَّاتُ وَالصِّفَةُ. فَيُقَالُ لَهُمْ: الرَّبُّ مَعَ الْأَقَانِيمِ: ثَلَاثَةُ جَوَاهِرَ أَوْ جَوْهَرٌ وَاحِدٌ لَهُ ثَلَاثَةُ صِفَاتٍ، أَوْ جَوْهَرٌ لَا صِفَةَ لَهُ. فَإِنْ قَالُوا: ثَلَاثَةُ جَوَاهِرَ، أَثْبَتُوا ثَلَاثَةً وَبَطَلَ قَوْلُهُمْ:" إِنَّ الرَّبَّ جَوْهَرٌ وَاحِدٌ وَإِلَهٌ وَاحِدٌ " وَصَرَّحُوا بِإِثْبَاتِ ثَلَاثَةِ آلِهَةٍ.

وَإِنْ قَالُوا: بَلْ جَوْهَرٌ وَاحِدٌ لَهُ ثَلَاثُ صِفَاتٍ، فَقَدْ صَرَّحُوا أَنَّ هَذَا الْجَوْهَرَ تَقُومُ بِهِ الصِّفَاتُ، وَإِذَا قَامَتْ بِهِ الصِّفَاتُ - وَقَدْ سَمَّوْهُ جَوْهَرًا - وَقَالُوا:" كُلُّ مَوْجُودٍ إِمَّا جَوْهَرٌ وَإِمَّا عَرَضٌ " لَزِمَهُمْ قَطْعًا أَنْ تَكُونَ صِفَاتُهُ

ص: 53

أَعْرَاضًا فَبَطَلَ قَوْلُهُمْ: " إِنَّهُ جَوْهَرٌ لَا يَقُومُ بِهِ الْأَعْرَاضُ " وَإِنْ قَالُوا: جَوْهَرٌ وَاحِدٌ لَا تَقُومُ بِهِ الصِّفَاتُ. بَطَلَ قَوْلُهُمْ: " لَهُ حَيَاةٌ وَنُطْقٌ " وَإِذَا نَفَوُا الصِّفَاتِ؛ أَبْطَلُوا التَّثْلِيثَ وَالِاتِّحَادَ وَبَطَلَتِ الْأَمَانَةُ، مَعَ مُخَالَفَتِهِمْ لِكُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّهَا مُصَرِّحَةٌ بِإِثْبَاتِ الصِّفَاتِ، وَمَعَ مُخَالَفَتِهِمْ لِصَرِيحِ الْعَقْلِ.

وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ يَتَنَاقَضُونَ تَنَاقُضًا بَيِّنًا؛ لِأَنَّهُمْ أَثْبَتُوا جَوْهَرًا لَا تَقُومُ بِهِ الْأَعْرَاضُ مَعَ قَوْلِهِمْ: " الْمَوْجُودُ إِمَّا جَوْهَرٌ وَإِمَّا عَرَضٌ " وَمَعَ قَوْلِهِمْ: " إِنَّهُ جَوْهَرُ ثَلَاثَةِ أَقَانِيمَ " فَإِذَا لَمْ تَقُمْ بِهِ الْأَعْرَاضُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ صِفَاتٌ، فَإِنَّ الصِّفَةَ قَائِمَةٌ بِغَيْرِهَا لَيْسَتْ جَوْهَرًا، بَلْ هِيَ - إِذَا كَانَ الْمَوْجُودُ إِمَّا جَوْهَرٌ وَإِمَّا عَرَضٌ - مِنْ قِسْمِ الْأَعْرَاضِ، لَا مِنْ قِسْمِ الْجَوَاهِرِ، فَكَانَ هَذَا الْكَلَامُ نَافِيًا لِقِيَامِ الصِّفَاتِ بِهِ مُطْلَقًا.

ثُمَّ قَالُوا بِالْأَقَانِيمِ الَّتِي تُوجِبُ إِمَّا إِثْبَاتَ صِفَاتٍ، وَإِمَّا إِثْبَاتَ جَوَاهِرَ ثَلَاثَةٍ قَائِمَةٍ بِنَفْسِهَا، مَعَ أَنَّهَا إِذَا قَامَتْ بِنَفْسِهَا لَزِمَ اتِّصَافُهَا بِالصِّفَاتِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْقَوْمَ يَجْمَعُونَ فِي قَوْلِهِمْ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، بَيْنَ إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ وَنَفْيِهَا، وَبَيْنَ إِثْبَاتِ ثَلَاثَةِ جَوَاهِرَ ثَلَاثَةِ آلِهَةٍ، وَبَيْنَ قَوْلِهِمُ الْإِلَهُ الْوَاحِدُ.

وَسَبَبُ ذَلِكَ: أَنَّهُمْ رَكَّبُوا لَهُمُ اعْتِقَادًا، بَعْضُهُ مِنْ نُصُوصِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُحْكَمَةِ، كَقَوْلِهِمْ:" إِلَهٌ وَاحِدٌ " وَبَعْضُهُ مِنْ مُتَشَابِهِ كَلَامِهِمْ، كَلَفْظِ

ص: 54

(الِابْنِ) وَ (رُوحِ الْقُدُسِ) وَبَعْضُهُ مِنْ كَلَامِ الْفَلَاسِفَةِ الْمُشْرِكِينَ الْمُعَطِّلِينَ، كَقَوْلِهِمْ:" جَوْهَرٌ لَا تَقُومُ بِهِ الصِّفَاتُ ".

وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّكَ تَجِدُ عَامَّةَ عُلَمَاءِ النَّصَارَى - فَضْلًا عَنْ عَامَّتِهِمْ - لَا يَعْرِفُونَ مَا نَسَخَهُ الْمَسِيحُ مِنْ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ مِمَّا أَقَرَّهُ، مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ الْمَسِيحَ لَمْ يَنْسَخْهَا كُلَّهَا، وَلَمْ يُقِرَّهَا كُلَّهَا، بَلْ أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ إِنَّمَا جَاءَ لِيُتِمَّهَا لَا لِيُبْطِلَهَا، وَقَدْ أَحَلَّ بَعْضَ مَا حُرِّمَ فِيهَا، كَالْعَمَلِ فِي السَّبْتِ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالرُّسُلِ تَصْدِيقُهُمْ فِيمَا أَخْبَرُوا، وَطَاعَتُهُمْ فِيمَا أَمَرُوا، فَإِذَا كَانَ عَامَّةُ النَّصَارَى لَا يُمَيِّزُونَ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِمَّا لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِهِ، وَلَا مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ مِمَّا لَمْ يَنْهَهُمْ عَنْهُ - مَعَ اعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّهُ أَقَرَّ كَثِيرًا مِنْ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ، بَلْ أَكْثَرَهَا وَأَحَلَّ بَعْضَهَا فَنَسَخَهُ وَرَفَعَهُ، وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ هَذَا مِنْ هَذَا، لَمْ يَكُونُوا عَارِفِينَ بِمَا جَاءَ بِهِ الْمَسِيحُ، وَلَا يَعْرِفُونَ مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ مُوسَى وَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ - فَإِنَّهُمْ لَا يَجُوزُ لَهُمُ الْعَمَلُ بِكُلِّ مَا فِي التَّوْرَاةِ، بَلْ قَدْ نَسَخَ الْمَسِيحُ بَعْضَ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِهِمْ وَاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ذَلِكَ.

وَلَا يَجُوزُ لَهُمْ تَعْطِيلُ جَمِيعِ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِمُ الْعَمَلُ بِمَا لَمْ يَنْسَخْهُ الْمَسِيحُ، وَعَامَّتُهُمْ لَا يَعْرِفُونَ مَا نَسَخَهُ مِمَّا

ص: 55

لَمْ يَنْسَخْهُ، فَلَا يُمْكِنُهُمُ الْعَمَلُ بِالتَّوْرَاةِ وَالِانْتِفَاعُ بِهَا فِي الشَّرْعِ، حَتَّى يَعْرِفُوا الْمَنْسُوخَ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ الْمَنْسُوخِ.

وَعَامَّتُهُمْ لَا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ، فَلَمْ يَكُونُوا حِينَئِذٍ عَلَى شَرِيعَةٍ مُنَزَّلَةٍ مِنَ اللَّهِ، لَا مِنْ جِهَةِ الْمَسِيحِ، وَلَا مِنْ جِهَةِ مُوسَى فَلَمْ يَعْلَمُوهَا، بَلْ كَانَ ذَلِكَ مَجْهُولًا عِنْدَ عَامَّتِهِمْ وَجُمْهُورِهِمْ أَوْ جَمِيعِهِمْ، فَكَانُوا مُحْتَاجِينَ إِلَى أَنْ يَعْرِفُوا مَا شَرَعَهُ اللَّهُ مِمَّا لَمْ يَشْرَعْهُ؛ فَأَرْسَلَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بِشَرْعٍ أَمَرَ فِيهِ بِمَحَاسِنِ مَا فِي الْكِتَابَيْنِ، وَعِوَضٍ عَمَّا نَسَخَهُ بِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ.

ص: 56