المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[فصل: ما نقل من بشارات المسيح بمحمد والتعليق المفصل عليها] - الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية - جـ ٥

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌[فَصْلٌ: مُنَاقَشَةُ النَّصَارَى فِي إِطْلَاقِ لَفْظِ الْجَوْهَرِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى]

- ‌[فَصْلٌ: نَقْضُ دَعْوَاهُمُ الِاسْتِغْنَاءَ بِالْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ]

- ‌[فَصْلٌ: بُطْلَانُ اسْتِدْلَالِهِمْ بِمَا يَدَّعُونَهُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ]

- ‌[فَصْلٌ: إِثْبَاتُ الْفَضْلِ لِرَسُولِ اللَّهِ وَلِشَرِيعَتِهِ وَلِأُمَّتِهِ]

- ‌[فَصْلٌ: اشْتِرَاطُهُمْ لِصِحَّةِ النُّبُوَّةِ تَبْشِيرُ الْأَنْبِيَاءِ بِهَا وَالرَّدُّ عَلَيْهِمْ]

- ‌[فَصْلٌ: طُرُقُ الْعِلْمِ بِبِشَارَةِ الْأَنْبِيَاءِ بِمُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام]

- ‌[فَصْلٌ: شَهَادَاتُ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ لِمُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام وَأَمْثِلَةٌ مِنْهَا]

- ‌[فَصْلٌ: بِشَارَةٌ مِنَ الزَّبُورِ وَتَفْسِيرُهَا]

- ‌[فَصْلٌ: بِشَارَةٌ أُخْرَى مِنَ الزَّبُورِ]

- ‌[فَصْلٌ: بِشَارَةٌ ثَالِثَةٌ مِنْ دَاوُدَ عليه السلام]

- ‌[فَصْلٌ: بِشَارَةٌ رَابِعَةٌ مِنْ دَاوُدَ عليه السلام]

- ‌[فَصْلٌ: بِشَارَةٌ خَامِسَةٌ مِنْ دَاوُدَ عليه السلام]

- ‌[فَصْلٌ: شَهَادَةُ سِفْرِ أَشْعِيَا " رَاكِبُ الْحِمَارِ وَرَاكِبُ الْجَمَلِ

- ‌[فَصْلٌ: بِشَارَةُ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِالْمَسِيحِ وَبِمُحَمَّدٍ وَإِنْذَارُهَا بِالدَّجَّالِ]

- ‌[فَصْلٌ: بِشَارَةُ أَشْعِيَاءَ بِشَأْنِ مَكَّةَ]

- ‌[فَصْلٌ: بِشَارَةٌ ثَالِثَةٌ مِنْ أَشْعِيَاءَ]

- ‌[فَصْلٌ: بِشَارَةٌ رَابِعَةٌ مِنْ أَشْعِيَاءَ]

- ‌[فَصْلٌ: بِشَارَةٌ خَامِسَةٌ مِنْ أَشْعِيَاءَ]

- ‌[فَصْلٌ: بِشَارَةٌ سَادِسَةٌ مِنْ أَشْعِيَاءَ]

- ‌[فَصْلٌ: بِشَارَةٌ سَابِعَةٌ مِنْ أَشْعِيَاءَ]

- ‌[فَصْلٌ: بِشَارَةٌ ثَامِنَةٌ مِنْ أَشْعِيَاءَ]

- ‌[فَصْلٌ: بِشَارَةٌ تَاسِعَةٌ مِنْ أَشْعِيَاءَ]

- ‌[فَصْلٌ: بِشَارَةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِنْ حَبْقُوقَ]

- ‌[فَصْلٌ: بِشَارَةٌ مِنْ حَزْقِيَالَ]

- ‌[فَصْلٌ: بِشَارَتَانِ مِنْ دَانْيَالَ عليه السلام]

- ‌[فَصْلٌ: بِشَارَةٌ ثَالِثَةٌ مِنْ دَانْيَالَ عليه السلام]

- ‌[فَصْلٌ: مَا نُقِلَ مِنْ بِشَارَاتِ الْمَسِيحِ بِمُحَمَّدٍ وَالتَّعْلِيقِ الْمُفَصَّلِ عَلَيْهَا]

- ‌[فَصْلٌ: بَرَاهِينُ قُرْآنِيَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ عَلَى نُبُوَّتِهِ صلى الله عليه وسلم]

- ‌[فَصْلٌ: الدَّلَائِلُ الْقَاطِعَةُ عِنْدَ أَهْلِ مَكَّةَ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم]

- ‌[فَصْلٌ: جَلَاءُ آيَاتِ النُّبُوَّةِ وَتَنَوُّعُهَا وَكَثْرَتُهَا]

- ‌[فَصْلٌ: التَّحْقِيقُ فِي اسْمِ الْمُعْجِزَةِ وَالْآيَةِ وَالْكَرَامَةِ وَإِطْلَاقِهِنَّ]

- ‌[فَصْلٌ: بَحْثٌ فِي الْإِعْجَازِ الْقُرْآنِيِّ]

- ‌[فَصْلٌ: شَخْصِيَّةُ الرَّسُولِ وَشَرِيعَتُهُ وَأُمَّتُهُ، وَكَرَامَاتُ الصَّالِحِينَ مِنْهَا، كُلُّ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِهِ]

- ‌[فَصْلٌ: نَقْلُ النَّاسِ لِصِفَاتِهِ عليه السلام الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِهِ]

الفصل: ‌[فصل: ما نقل من بشارات المسيح بمحمد والتعليق المفصل عليها]

[فَصْلٌ: مَا نُقِلَ مِنْ بِشَارَاتِ الْمَسِيحِ بِمُحَمَّدٍ وَالتَّعْلِيقِ الْمُفَصَّلِ عَلَيْهَا]

قَالُوا: وَقَالَ يُوحَنَّا الْإِنْجِيلِيُّ: قَالَ يَسُوعُ الْمَسِيحُ - فِي الْفَصْلِ الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِهِ -: " إِنَّ الْفَارَقْلِيطَ رُوحُ الْحَقِّ الَّذِي يُرْسِلُهُ أَبِي، هُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ ".

ص: 284

وَقَالَ: يُوحَنَّا - التِّلْمِيذُ - أَيْضًا - عَنِ الْمَسِيحِ، أَنَّهُ قَالَ لِتَلَامِيذِهِ:" إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونِي فَاحْفَظُوا وَصَايَايَ وَأَنَا أَطْلُبُ مِنَ الْأَبِ أَنْ يُعْطِيَكُمْ فَارَقْلِيطَ آخَرَ، يَثْبُتُ مَعَكُمْ إِلَى الْأَبَدِ، رُوحُ الْحَقِّ الَّذِي لَمْ يُطِقِ الْعَالَمُ أَنْ يَقْتُلُوهُ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوهُ، وَلَسْتُ أَدَعُكُمْ أَيْتَامًا؛ لِأَنِّي سَآتِيكُمْ عَنْ قَرِيبٍ ".

وَقَالَ يُوحَنَّا: قَالَ الْمَسِيحُ: " مَنْ يُحِبُّنِي يَحْفَظُ كَلِمَتِي، وَأَبِي يُحِبُّهُ، وَإِلَيْهِ يَأْتِي، وَعِنْدَهُ يَتَّخِذُ الْمَنْزِلَ، كَلَّمْتُكُمْ بِهَذَا؛ لِأَنِّي عِنْدَكُمْ مُقِيمٌ، وَالْفَارَقْلِيطُ رُوحُ الْحَقِّ الَّذِي يُرْسِلُهُ أَبِي، هُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ، وَهُوَ يُذَكِّرُكُمْ كُلَّ مَا قُلْتُ لَكُمُ اسْتَوْدَعْتُكُمْ سَلَامِي، لَا تَقْلَقْ قُلُوبُكُمْ وَلَا تَجْزَعْ، فَإِنِّي مُنْطَلِقٌ وَعَائِدٌ إِلَيْكُمْ، لَوْ كُنْتُمْ تُحِبُّونِي كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ بِمُضِيِّي إِلَى الْأَبِ، فَإِنْ أَنْتُمْ ثَبَتُّمْ فِي كَلَامِي وَثَبَتَ كَلَامِي فِيكُمْ كَانَ لَكُمْ كُلُّ مَا تُرِيدُونَ، وَبِهَذَا يُمَجَّدُ أَبِي ".

وَقَالَ - أَيْضًا -: " إِذَا جَاءَ الْفَارَقْلِيطُ الَّذِي أَبِي أَرْسَلَهُ، رُوحُ الْحَقِّ الَّذِي مِنْ أَبِي، هُوَ يَشْهَدُ لِي، قُلْتُ لَكُمْ هَذَا حَتَّى إِذَا كَانَ تُؤْمِنُوا بِهِ وَلَا تَشُكُّوا فِيهِ ".

وَقَالَ - أَيْضًا -: " إِنَّ خَيْرًا لَكُمْ أَنْ أَنْطَلِقَ؛ لِأَنِّي إِنْ لَمْ أَذْهَبْ

ص: 285

لَمْ يَأْتِكُمُ الْفَارَقْلِيطُ، فَإِذَا انْطَلَقْتُ أَرْسَلْتُهُ إِلَيْكُمْ، فَهُوَ يُوَبِّخُ الْعَالَمَ عَلَى الْخَطِيئَةِ، وَإِنَّ لِي كَلَامًا كَثِيرًا، أُرِيدُ أَنْ أَقُولَهُ، وَلَكِنَّكُمْ لَا تَسْتَطِيعُونَ حَمْلَهُ. لَكِنْ إِذَا جَاءَ رُوحُ الْحَقِّ ذَاكَ يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ يَنْطِقُ مِنْ عِنْدِهِ، بَلْ يَتَكَلَّمُ بِمَا يَسْمَعُ، وَيُخْبِرُكُمْ بِكُلِّ مَا يَأْتِي، وَيُعَرِّفُكُمْ جَمِيعَ مَا لِلْأَبِ ".

وَقَالَ يُوحَنَّا الْحِوَارِيُّ: قَالَ الْمَسِيحُ: " إِنَّ أُرْكُونَ الْعَالَمِ سَيَأْتِي، وَلَيْسَ لِي شَيْءٌ ".

وَقَالَ مَتَّى التِّلْمِيذُ: قَالَ الْمَسِيحُ: " أَلَمْ يَقْرَءُوا أَنَّ الْحَجَرَ الَّذِي أَرْذَلَهُ الْبَنَّاءُونَ صَارَ رَأْسًا لِلزَّاوِيَةِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، كَانَ هَذَا - وَهُوَ عَجِيبٌ فِي أَعْيُنِنَا - وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَلَكُوتَ اللَّهِ سَيُؤْخَذُ مِنْكُمْ، وَيُدْفَعُ إِلَى أُمَّةٍ أُخْرَى تَأْكُلُ ثَمَرَهَا، وَمَنْ سَقَطَ عَلَى هَذَا الْحَجَرِ

ص: 286

يَنْشَرِحُ، وَكُلُّ مَنْ سَقَطَ هُوَ عَلَيْهِ يَمْحَقُهُ ".

وَقَالَ يُوحَنَّا التِّلْمِيذُ - فِي كِتَابِ رَسَائِلِ التَّلَامِيذِ، الْمُسَمَّى بِفَرَاكْسِيسَ -:" يَا أَحْبَابِي، إِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِكُلِّ رُوحٍ. لَكِنْ مَيِّزُوا الْأَرْوَاحَ الَّتِي مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِهَا، وَاعْلَمُوا أَنَّ كُلَّ رُوحٍ يُؤْمِنُ بِأَنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ قَدْ جَاءَ فَكَانَ جَسَدَانِيًّا، فَهِيَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَكُلُّ رُوحٍ لَا تُؤْمِنُ بِأَنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ جَاءَ، وَكَانَ جَسَدَانِيًّا، فَلَيْسَتْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، بَلْ مِنَ الْمَسِيحِ الْكَذَّابِ الَّذِي سَمِعْتُمْ بِهِ، وَهُوَ الْآنَ فِي الْعَالَمِ ".

وَقَالَ شَمْعُونُ الصَّفَا، رَئِيسُ الْحَوَارِيِّينَ - فِي كِتَابِ فَرَاكْسِيسَ -:" إِنَّهُ قَدْ حَانَ أَنْ يَبْتَدِئَ الْحُكْمُ مِنْ بَيْتِ اللَّهِ ابْتِدَاءً ".

قُلْتُ: وَهَذَا اللَّفْظُ، لَفْظُ الْفَارَقْلِيطِ، فِي لُغَتِهِمْ ذَكَرُوا فِيهِ أَقْوَالًا: قِيلَ: إِنَّهُ الْحَمَّادُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ الْحَامِدُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ الْمُعِزُّ، وَقِيلَ: إِنَّهُ الْحَمْدُ، وَرَجَّحَ هَذَا طَائِفَةٌ ; وَقَالُوا: الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهِ الْبُرْهَانُ فِي لُغَتِهِمْ أَنَّهُ الْحَمْدُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُ يُوشَعُ: " مَنْ عَمِلَ حَسَنَةً تَكُونُ لَهُ فَارَقْلِيطَ

ص: 287

جَيِّدًا - أَيْ حَمْدًا جَيِّدًا - وَقَوْلُهُمُ الْمَشْهُورُ فِي تَخَاطُبِهِمْ: فَارَقْلِيطُ، وَفَارَقْلِيطَانِ، وَمَا زَادَ عَلَى الْجَمِيعِ - أَيْ حَمْدٌ - وَمِنْهُ كَمَا نَقُولُ نَحْنُ: يَدٌ وَمِنَّةٌ. وَمَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ الْمُخَلِّصُ فَيَحْتَجُّونَ بِأَنَّهَا كَلِمَةٌ سُرْيَانِيَّةٌ، وَمَعْنَاهَا الْمُخَلِّصُ، وَقَالُوا: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ قَوْلِنَا: " رَاوَفَ "، وَيُقَالُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ " فَارُوقٌ "، فَجُعِلَ " فَارَقَ ". قَالُوا: وَمَعْنَى " لِيطَ " كَلِمَةٌ تُزَادُ، وَالتَّقْدِيرُ كَمَا يُقَالُ فِي الْعَرَبِيَّةِ: رَجُلٌ هُوَ، وَحَجَرٌ هُوَ، وَبَدْرٌ هُوَ، وَذَكَرٌ هُوَ. قَالُوا: وَكَذَلِكَ يُزَادُ فِي السُّرْيَانِيَّةِ " لِيطُ ". وَالَّذِينَ قَالُوا: هُوَ الْمُعِزُّ، قَالُوا: هُوَ فِي لِسَانِ الْيُونَانِ الْمُعِزُّ.

وَيُعْتَرَضُ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ بِأَنَّ الْمَسِيحَ لَمْ تَكُنْ لُغَتُهُ سُرْيَانِيَّةً وَلَا يُونَانِيَّةً، بَلْ عِبْرَانِيَّةً. وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ تَكَلَّمَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ، وَتَرْجَمَ عَنْهُ بِلُغَةٍ أُخْرَى كَمَا أَمْلَوْا أَحَدَ الْأَنَاجِيلِ بِالْيُونَانِيَّةِ، وَالْآخَرَ بِالرُّومِيَّةِ.

ص: 288

وَوَاحِدٌ بَقِيَ عِبْرَانِيًّا. وَأَكْثَرُ النَّصَارَى عَلَى أَنَّهُ الْمُخَلِّصُ، وَالْمَسِيحُ - نَفْسُهُ - يُسَمُّونَهُ الْمُخَلِّصَ، وَفِي الْإِنْجِيلِ الَّذِي بِأَيْدِيهِمْ أَنَّهُ قَالَ:" إِنِّي لَمْ آتِ لِأُزَيِّنَ الْعَالَمَ، بَلْ لِأُخَلِّصَ الْعَالَمَ "، وَالنَّصَارَى يَقُولُونَ فِي صَلَاتِهِمْ:" لَقَدْ وُلِدْتَ لَنَا مُخَلِّصًا ".

وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ، فَمِنَ النَّصَارَى مَنْ قَالَ: هُوَ رُوحٌ نَزَلَتْ عَلَى الْحَوَارِيِّينَ، وَقَدْ يَقُولُونَ: إِنَّهُ أَلْسُنٌ نَارِيَّةٌ نَزَلَتْ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى التَّلَامِيذِ، فَفَعَلَتِ الْآيَاتِ وَالْعَجَائِبَ ; وَلِهَذَا يَقُولُ مَنْ خَبَرَ أَحْوَالَ النَّصَارَى: إِنَّهُ لَمْ يَرَ أَحَدًا مِنْهُمْ يُحْسِنُ تَحْقِيقَ مَجِيءِ هَذَا الْفَارَقْلِيطِ الْمَوْعُودِ بِهِ.

مِنْهُمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ الْمَسِيحُ - نَفْسُهُ - لِكَوْنِهِ جَاءَ بَعْدَ الصَّلْبِ بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَكَوْنِهِ قَامَ مِنْ قَبْرِهِ. وَتَفْسِيرُهُ بِالرُّوحِ بَاطِلٌ، وَأَبْطَلُ مِنْهُ

ص: 289

تَفْسِيرُهُ بِالْمَسِيحِ لِوُجُوهٍ:

مِنْهَا: أَنَّ رُوحَ الْقُدُسِ مَا زَالَتْ تَنْزِلُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ قَبْلَ الْمَسِيحِ وَبَعْدَهُ، وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْكِتَابِ: أَنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَزَلَتْ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ قَبْلَ الْمَسِيحِ وَبَعْدَهُ، وَلَيْسَتْ مَوْصُوفَةً بِهَذِهِ الصِّفَاتِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:

{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22] .

«وَقَالَ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ لَمَّا كَانَ يَهْجُو الْمُشْرِكِينَ، قَالَ: " اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ "، وَقَالَ: " إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ مَعَكَ مَا زِلْتَ تُنَافِحُ عَنْ نَبِيِّهِ» .

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَلَمْ يُسَمِّ أَحَدٌ هَذِهِ الرُّوحَ فَارَقْلِيطَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْفَارَقْلِيطَ أَمْرٌ غَيْرُ هَذَا. وَأَيْضًا فَمِثْلُ هَذِهِ مَا زَالَتْ يُؤَيَّدُ بِهَا الْأَنْبِيَاءُ

ص: 290

وَالصَّالِحُونَ، وَمَا بَشَّرَ بِهِ الْمَسِيحُ أَمْرٌ عَظِيمٌ، يَأْتِي بَعْدَهُ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ وَصَفَ الْفَارَقْلِيطَ بِصِفَاتٍ لَا تُنَاسِبُ هَذَا، وَإِنَّمَا تُنَاسِبُ رَجُلًا يَأْتِي بَعْدَهُ نَظِيرًا لَهُ، فَإِنَّهُ قَالَ:(إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونِي فَاحْفَظُوا وَصَايَايَ، وَأَنَا أَطْلُبُ مِنَ الْأَبِ أَنْ يُعْطِيَكُمْ فَارَقْلِيطَ آخَرَ، يَثْبُتُ مَعَكُمْ إِلَى الْأَبَدِ) . فَقَوْلُهُ: (فَارَقْلِيطَ آخَرَ) دَلَّ عَلَى أَنَّهُ ثَانٍ لِأَوَّلٍ كَانَ قَبْلَهُ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ فِي حَيَاةِ الْمَسِيحِ إِلَّا هُوَ، لَمْ تَنْزِلْ عَلَيْهِمْ رُوحٌ، فَعَلِمَ أَنَّ الَّذِي يَأْتِي بَعْدَهُ نَظِيرًا لَهُ، لَيْسَ أَمْرًا مُعْتَادًا يَأْتِي لِلنَّاسِ.

وَأَيْضًا، فَإِنَّهُ قَالَ:(يَثْبُتُ مَعَكُمْ إِلَى الْأَبَدِ) ، وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ لِمَا يَدُومُ، وَيَبْقَى مَعَهُمْ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بَقَاءَ ذَاتِهِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ بَقَاءُ شَرَعِهِ وَأَمَرِهِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْفَارَقْلِيطَ الْأَوَّلَ لَمْ يَثْبُتْ مَعَهُمْ شَرْعُهُ وَدِينُهُ إِلَى الْأَبَدِ، وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الثَّانِي صَاحِبُ شَرْعٍ لَا يُنْسَخُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَنْطَبِقُ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.

وَأَيْضًا، فَإِنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ هَذَا الْفَارَقْلِيطَ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ يَشْهَدُ لَهُ، وَيُعَلِّمُهُمْ كُلَّ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ يُذَكِّرُكُمْ كُلَّ مَا قَالَ الْمَسِيحُ، وَأَنَّهُ يُوَبِّخُ الْعَالَمَ عَلَى خَطِيئَتِهِ فَقَالَ: (وَالْفَارَقْلِيطُ الَّذِي يُرْسِلُهُ أَبِي هُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ

ص: 291

شَيْءٍ، وَهُوَ يُذَكِّرُكُمْ كُلَّ مَا قُلْتُ لَكُمْ) .

وَقَالَ: (إِذَا جَاءَ الْفَارَقْلِيطُ الَّذِي أَبِي أَرْسَلَهُ، هُوَ يَشْهَدُ لِي، قُلْتُ لَكُمْ هَذَا حَتَّى إِذَا كَانَ تُؤْمِنُوا بِهِ، وَلَا تَشُكُّوا فِيهِ) .

وَقَالَ: (إِنَّ خَيْرًا لَكُمْ أَنْ أَنْطَلِقَ؛ لِأَنِّي إِنْ لَمْ أَذْهَبْ لَمْ يَأْتِكُمُ الْفَارَقْلِيطُ، فَإِذَا انْطَلَقْتُ أَرْسَلْتُهُ إِلَيْكُمْ، فَهُوَ يُوَبِّخُ الْعَالَمَ عَلَى الْخَطِيئَةِ، وَإِنَّ لِي كَلَامًا كَثِيرًا أُرِيدُ أَنْ أَقُولَهُ، وَلَكِنَّكُمْ لَا تَسْتَطِيعُونَ حَمْلَهُ. لَكِنْ إِذَا جَاءَ رُوحُ الْحَقِّ ذَاكَ الَّذِي يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ يَنْطِقُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، بَلْ يَتَكَلَّمُ بِمَا يَسْمَعُ، وَيُخْبِرُ بِكُلِّ مَا يَأْتِي، وَيُعَرِّفُكُمْ جَمِيعَ مَا لِلْأَبِ) .

فَهَذِهِ الصِّفَاتُ وَالنُّعُوتُ الَّتِي تَلَقُّوهَا عَنِ الْمَسِيحِ، لَا تَنْطَبِقُ عَلَى شَيْءٍ فِي قَلْبِ بَعْضِ النَّاسِ، لَا يَرَاهُ أَحَدٌ، وَلَا يَسْمَعُ كَلَامَهُ، وَإِنَّمَا تَنْطَبِقُ عَلَى مَنْ يَرَاهُ النَّاسُ، وَيَسْمَعُونَ كَلَامَهُ، فَيَشْهَدُ لِلْمَسِيحِ، وَيُعَلِّمُهُمْ كُلَّ شَيْءٍ، وَيُذَكِّرُهُمْ كُلَّ مَا قَالَ لَهُمُ الْمَسِيحُ، وَيُوَبِّخُ الْعَالَمَ عَلَى الْخَطِيئَةِ، وَيُرْشِدُ النَّاسَ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ، وَهُوَ لَا يَنْطِقُ مِنْ عِنْدِهِ، بَلْ يَتَكَلَّمُ بِمَا يَسْمَعُ، وَيُخْبِرُهُمْ بِكُلِّ مَا يَأْتِي، وَيُعَرِّفُهُمْ جَمِيعَ مَا لِرَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَهَذَا لَا يَكُونُ مَلَكًا لَا يَرَاهُ أَحَدٌ، وَلَا يَكُونُ هُدًى، وَلَا عِلْمًا فِي قَلْبِ بَعْضِ النَّاسِ، بَلْ لَا يَكُونُ إِلَّا إِنْسَانًا عَظِيمَ الْقَدْرِ يُخَاطِبُ النَّاسَ

ص: 292

بِمَا أَخْبَرَ بِهِ الْمَسِيحَ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا، بَلْ يَكُونُ أَعْظَمَ مِنَ الْمَسِيحِ، بَيَّنَ أَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْمَسِيحُ، وَيَعْلَمُ مَا لَا يَعْلَمُهُ الْمَسِيحُ، وَيُخْبِرُ بِكُلِّ مَا يَأْتِي، وَبِمَا يَسْتَحِقُّهُ الرَّبُّ حَيْثُ قَالَ:(إِنَّ لِي كَلَامًا كَثِيرًا أُرِيدُ أَنْ أَقُولَهُ، وَلَكِنَّكُمْ لَا تَسْتَطِيعُونَ حَمْلَهُ، وَلَكِنْ إِذَا جَاءَ رُوحُ الْحَقِّ ذَاكَ الَّذِي يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ يَنْطِقُ مِنْ عِنْدِهِ، بَلْ يَتَكَلَّمُ بِمَا يَسْمَعُ، وَيُخْبِرُكُمْ بِمَا يَأْتِي، وَيُعَرِّفُكُمْ جَمِيعَ مَا لِلْأَبِ) .

وَهَذِهِ الصِّفَاتُ لَا تَنْطَبِقُ إِلَّا عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِخْبَارَ عَنِ اللَّهِ بِمَا هُوَ مُتَّصِفٌ بِهِ مِنَ الصِّفَاتِ، وَعَنْ مَلَائِكَتِهِ، وَعَنْ مَلَكُوتِهِ، وَعَنْ مَا أَعَدَّهُ اللَّهُ فِي الْجَنَّةِ لِأَوْلِيَائِهِ، وَفِي النَّارِ لِأَعْدَائِهِ، أَمْرٌ لَا يَحْتَمِلُ عُقُولُ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ مَعْرِفَتَهُ عَلَى التَّفْصِيلِ ; وَلِهَذَا قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه:" حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، وَدَعُوا مَا يُنْكِرُونَ، أَتُرِيدُونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ".

وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: " مَا مِنْ رَجُلٍ يُحَدِّثُ قَوْمًا بِحَدِيثٍ لَا يَبْلُغُهُ

ص: 293

عُقُولُهُمْ إِلَّا كَانَ فِتْنَةً لِبَعْضِهِمْ ". وَسَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:

{خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} [الطلاق: 12] .

قَالَ: " مَا يُؤَمِّنُكَ أَنْ لَوْ أَخْبَرْتُكَ بِتَفْسِيرِهَا لَكَفَرْتَ؟ وَكُفْرُكَ بِهَا تَكْذِيبُكَ بِهَا ". فَقَالَ لَهُمُ الْمَسِيحُ عليه السلام: (إِنَّ لِي كَلَامًا كَثِيرًا أُرِيدُ أَنْ أَقُولَهُ، وَلَكِنَّكُمْ لَا تَسْتَطِيعُونَ حَمْلَهُ) ، وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ فِي هَذَا ; لِهَذَا لَيْسَ فِي الْإِنْجِيلِ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ، وَصِفَاتِ مَلَكُوتِهِ، وَمِنْ صِفَاتِ الْيَوْمِ الْآخِرِ إِلَّا أُمُورٌ مُجْمَلَةٌ، وَكَذَلِكَ التَّوْرَاةُ، لَيْسَ فِيهَا مِنْ ذِكْرِ الْيَوْمِ الْآخِرِ إِلَّا أُمُورٌ مُجْمَلَةٌ، مَعَ أَنَّ مُوسَى كَانَ قَدْ مَهَّدَ الْأَمْرَ لِلْمَسِيحِ، وَمَعَ هَذَا فَقَدْ قَالَ لَهُمُ الْمَسِيحُ:(إِنَّ لِي كَلَامًا كَثِيرًا أُرِيدُ أَنْ أَقُولَهُ، وَلَكِنَّكُمْ لَا تَسْتَطِيعُونَ حَمْلَهُ)، ثُمَّ قَالَ:(وَلَكِنْ إِذَا جَاءَ رُوحُ الْحَقِّ ذَلِكَ الَّذِي يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ)، وَقَالَ:(إِنَّهُ يُخْبِرُكُمْ بِكُلِّ مَا يَأْتِي، وَيُعَرِّفُكُمْ بِجَمِيعِ مَا لِلرَّبِّ) .

فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ هَذَا الْفَارَقْلِيطَ هُوَ الَّذِي يَفْعَلُ هَذَا دُونَ الْمَسِيحِ، وَكَذَلِكَ كَانَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم أَرْشَدَ النَّاسَ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ، حَتَّى أَكْمَلَ اللَّهُ لَهُ الدِّينَ، وَأَتَمَّ بِهِ النِّعْمَةَ ; وَلِهَذَا كَانَ خَاتَمَ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ يَأْتِي بِهِ غَيْرُهُ، وَأَخْبَرَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

ص: 294

وَسَلَّمَ بِكُلِّ مَا يَأْتِي مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، وَالْقِيَامَةِ، وَالْحِسَابِ، وَالصِّرَاطِ، وَوَزْنِ الْأَعْمَالِ، وَالْجَنَّةِ وَأَنْوَاعِ نَعِيمِهَا، وَالنَّارِ وَأَنْوَاعِ عَذَابِهَا، وَلِهَذَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ تَفْصِيلِ أَمْرِ الْآخِرَةِ، وَذِكْرِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَمَا يَأْتِي مِنْ ذَلِكَ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ تُوجَدُ لَا فِي التَّوْرَاةِ، وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ، وَذَلِكَ تَصْدِيقُ قَوْلِ الْمَسِيحِ: إِنَّهُ يُخْبِرُ بِكُلِّ مَا يَأْتِي.

وَمُحَمَّدٌ بَعَثَهُ اللَّهُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ كَمَا قَالَ: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ، وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ السَّبَّابَةِ، وَالْوُسْطَى» . وَكَانَ إِذَا ذَكَرَ السَّاعَةَ عَلَا صَوْتُهُ، وَاحْمَرَّ وَجْهُهُ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ، وَقَالَ:

ص: 295

{إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ: 46] .

وَقَالَ: ( «أَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ» ) .

فَأَخْبَرَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تَأْتِي فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِمَا لَمْ يَأْتِ بِهِ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، كَمَا نَعَتَهُ بِهِ الْمَسِيحُ حَيْثُ قَالَ:(إِنَّهُ يُخْبِرُكُمْ بِكُلِّ مَا يَأْتِي) ، وَلَا يُوجِدُ مِثْلُ هَذَا قَطُّ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم،

ص: 296

فَضْلًا عَنْ أَنْ يُوجَدَ شَيْءٌ نَزَلَ عَلَى قَلْبِ بَعْضِ الْحَوَارِيِّينَ.

وَأَيْضًا، فَقَالَ:(وَيُعَرِّفُكُمْ جَمِيعَ مَا لِلرَّبِّ) ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ يُعَرِّفُ النَّاسَ جَمِيعَ مَا لِلَّهِ، وَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ مَا لِلَّهِ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَمَا لَهُ مِنَ الْحُقُوقِ، وَمَا يَجِبُ مِنَ الْإِيمَانِ بِهِ، وَبِمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، بِحَيْثُ يَكُونُ مَا يَأْتِي بِهِ جَامِعًا لِكُلِّ مَا يَسْتَحِقُّهُ الرَّبُّ.

وَهَذَا لَمْ يَأْتِ بِهِ أَحَدٌ غَيْرُ مُحَمَّدٍ حَيْثُ يَتَضَمَّنُ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ، هَذَا كُلُّهُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا نَزَلْ عَلَى الْحَوَارِيِّينَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ هَذَا كُلُّهُ وَلَا نِصْفُهُ وَلَا ثُلُثُهُ، بَلْ مَا جَاءَ بِهِ الْمَسِيحُ أَعْظَمُ مِمَّا جَاءَ بِهِ الْحَوَارِيُّونَ، وَهَذَا الْفَارَقْلِيطُ الثَّانِي جَاءَ بِأَعْظَمِ مِمَّا جَاءَ بِهِ الْمَسِيحُ.

وَأَيْضًا، فَالْمَسِيحُ قَالَ: (إِذَا جَاءَ الْفَارَقْلِيطُ الَّذِي أَرْسَلَهُ أَبِي هُوَ يَشْهَدُ لِي، قُلْتُ لَكُمْ هَذَا، حَتَّى إِذَا كَانَ تُؤْمِنُوا بِهِ وَلَا تَشُكُّوا.

ص: 297

فِيهِ) . فَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُمْ بِهِ ; لِيُؤْمِنُوا بِهِ إِذَا جَاءَ، وَلَا يَشُكُّوا فِيهِ، وَأَنَّهُ يَشْهَدُ لَهُ، وَهَذِهِ صِفَةُ مَنْ بَشَّرَ بِهِ الْمَسِيحُ، وَيَشْهَدُ لِلْمَسِيحِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:

{وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6] .

وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُوَبِّخُ الْعَالَمَ عَلَى الْخَطِيئَةِ، وَلَمْ يُوجَدْ أَحَدٌ وَبَّخَ جَمِيعَ الْعَالَمِ عَلَى الْخَطِيئَةِ إِلَّا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّهُ أَنْذَرَ جَمِيعَ الْعَالَمِ مِنْ أَصْنَافِ النَّاسِ، وَوَبَّخَهُمْ عَلَى الْخَطِيئَةِ: مِنَ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، وَبَّخَ جَمِيعَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ وَالْهِنْدِ وَالتُّرْكِ وَغَيْرِهِمْ، وَوَبَّخَ الْمَجُوسَ، وَكَانَتْ مَمْلَكَتُهُمْ أَعْظَمَ الْمَمَالِكِ، وَوَبَّخَ أَهْلَ الْكِتَابَيْنِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْهُ: «إِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ، إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ

ص: 298

الْكِتَابِ» . لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى مُجَرَّدِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، بَلْ وَبَّخَهُمْ وَقَرَّعَهُمْ وَتَهَدَّدَهُمْ.

وَأَيْضًا، فَإِنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَيْسَ يَنْطِقُ مِنْ عِنْدِهِ، بَلْ يَتَكَلَّمُ بِكُلِّ مَا يَسْمَعُ. وَهَذَا إِخْبَارٌ بِأَنَّ كُلَّ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ فَهُوَ وَحْيٌ يَسْمَعُهُ، لَيْسَ هُوَ شَيْئًا تَعَلَّمَهُ مِنَ النَّاسِ، أَوْ عَرَفَهُ بِاسْتِنْبَاطِهِ، وَهَذِهِ خَاصَّةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّ الْمَسِيحَ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ كَانُوا يَتَعَلَّمُونَ مِنْ غَيْرِهِمْ، مَعَ مَا كَانَ يُوحَى إِلَيْهِمْ، فَعِنْدَهُمْ عِلْمٌ غَيْرُ مَا يَسْمَعُونَهُ مِنَ الْوَحْيِ.

وَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَنْطِقْ إِلَّا بِمَا يَسْمَعُهُ مِنَ الْوَحْيِ، فَهُوَ مُبَلِّغٌ لِمَا أُرْسِلَ بِهِ، وَقَدْ قِيلَ لَهُ:

{بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] .

فَضَمِنَ اللَّهُ لَهُ الْعِصْمَةَ إِذَا بَلَّغَ رِسَالَاتِهِ، فَلِهَذَا أَرْشَدَ النَّاسَ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ، وَأَلْقَى إِلَى النَّاسِ مَا لَمْ يُمْكِنْ غَيْرُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلْقَاءَهُ ; خَوْفًا أَنْ يَقْتُلُوهُ كَمَا يَذْكُرُونَ عَنِ الْمَسِيحِ، وَغَيْرِهِ.

وَقَدْ أَخْبَرَ الْمَسِيحُ بِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ لَهُمْ جَمِيعَ مَا عِنْدَهُ، وَأَنَّهُمْ لَا يُطِيقُونَ حَمْلَهُ، وَهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُ كَانَ يَخَافُ مِنْهُمْ إِذَا أَخْبَرَهُمْ

ص: 299

بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ. وَمُحَمَّدٌ أَيَّدَهُ اللَّهُ تَأْيِيدًا لَمْ يُؤَيِّدْهُ لِغَيْرِهِ، فَعَصَمَهُ مِنَ النَّاسِ حَتَّى لَمْ يَخَفْ مِنْ شَيْءٍ يَقُولُهُ، وَأَعْطَاهُ مِنَ الْبَيَانِ وَالْعِلْمِ مَا لَمْ يُؤْتِهِ غَيْرَهُ. فَالْكِتَابُ الَّذِي بُعِثَ بِهِ فِيهِ مِنْ بَيَانِ حَقَائِقِ الْغَيْبِ مَا لَيْسَ فِي كِتَابٍ غَيْرِهِ.

وَأَيَّدَ أُمَّتَهُ تَأْيِيدًا أَطَاقَتْ بِهِ حَمْلَ مَا أَلْقَاهُ إِلَيْهِمْ، فَلَمْ يَكُونُوا كَأَهْلِ التَّوْرَاةِ الَّذِينَ حَمَلُوا التَّوْرَاةَ، ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا، وَلَا كَأَهْلِ الْإِنْجِيلِ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ الْمَسِيحُ:(إِنَّ لِي كَلَامًا كَثِيرًا أُرِيدُ أَنْ أَقُولَهُ لَكُمْ، وَلَكِنْ لَا تَسْتَطِيعُونَ حَمْلَهُ) ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ أَكْمَلُ عُقُولًا، وَأَعْظَمُ إِيمَانًا، وَأَتَمُّ تَصْدِيقًا وَجِهَادًا ; وَلِهَذَا كَانَتْ عُلُومُهُمْ وَأَعْمَالُهُمُ الْقَلْبِيَّةُ وَإِيمَانُهُمْ أَعْظَمَ.

وَكَانَتِ الْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ لِغَيْرِهِمْ أَعْظَمَ، قَالَ تَعَالَى:

{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ - لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 285 - 286] .

وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ اللَّهَ

ص: 300

قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ.

وَأَيْضًا، فَإِنَّهُ أَخْبَرَ عَنِ الْفَارَقْلِيطِ أَنَّهُ يَشْهَدُ لَهُ، وَأَنَّهُ يُعَلِّمُهُمْ كُلَّ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ يُذَكِّرُهُمْ كُلَّ مَا قَالَهُ الْمَسِيحُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا إِذَا شَهِدَ لَهُ شَهَادَةً يَسْمَعُهَا النَّاسُ، لَا يَكُونُ هَذَا شَيْئًا فِي قَلْبِ طَائِفَةٍ قَلِيلَةٍ، وَلَمْ يَشْهَدْ أَحَدٌ لِلْمَسِيحِ شَهَادَةً سَمِعَهَا عَامَّةُ النَّاسِ إِلَّا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّهُ أَظْهَرَ أَمْرَ الْمَسِيحِ، وَشَهِدَ لَهُ بِالْحَقِّ حَتَّى سَمِعَ شَهَادَتَهُ لَهُ عَامَّةُ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَعَلِمُوا أَنَّهُ صَدَّقَ الْمَسِيحَ، وَنَزَّهَهُ عَمَّا افْتَرَتْهُ عَلَيْهِ الْيَهُودُ، وَعَمَّا غَلَتْ فِيهِ النَّصَارَى، فَهُوَ الَّذِي شَهِدَ لَهُ بِالْحَقِّ ; وَلِهَذَا لَمَّا سَمِعَ النَّجَاشِيُّ مِنَ الصَّحَابَةِ مَا شَهِدَ بِهِ مُحَمَّدٌ لِلْمَسِيحِ قَالَ لَهُمْ:(مَا زَادَ عِيسَى عَلَى مَا قُلْتُمْ هَذَا الْعُودَ) .

وَجَعَلَ اللَّهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ، يَشْهَدُونَ عَلَيْهِمْ بِمَا عَلِمُوهُ مِنَ الْحَقِّ، إِذْ كَانُوا وَسَطًا

ص: 301

عَدْلًا، لَا يَشْهَدُونَ بِبَاطِلٍ، فَإِنَّ الشَّاهِدَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَدْلًا بِخِلَافِ مَنْ جَارَ فِي شَهَادَتِهِ، فَزَادَ عَلَى الْحَقِّ أَوْ نَقَصَ مِنْهُ، كَشَهَادَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ.

وَأَيْضًا، فَإِنَّ مَعْنَى الْفَارَقْلِيطِ، إِنْ كَانَ هُوَ الْحَامِدَ أَوِ الْحَمَّادَ أَوِ الْحَمْدَ، أَوِ الْمُعِزَّ، فَهَذَا الْوَصْفُ ظَاهِرٌ فِي مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّهُ وَأُمَّتَهُ الْحَمَّادُونَ الَّذِينَ يَحْمَدُونَ اللَّهَ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَهُوَ صَاحِبُ لِوَاءِ الْحَمْدِ، وَالْحَمْدُ مِفْتَاحُ خُطْبَتِهِ، وَمِفْتَاحُ صَلَاتِهِ، وَلَمَّا كَانَ حَمَّادًا جُوزِيَ بِوَصْفِهِ ; فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ. فَكَانَ اسْمُهُ مُحَمَّدًا، وَأَحْمَدَ. وَأَمَّا مُحَمَّدٌ فَهُوَ عَلَى وَزْنِ مُكَرَّمٍ وَمُعَظَّمٍ وَمُقَدَّسٍ، وَهُوَ الَّذِي يُحْمَدُ حَمْدًا كَثِيرًا مُبَالَغًا فِيهِ، وَيَسْتَحِقُّ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ حَمَّادًا لِلَّهِ كَانَ مُحَمَّدًا، وَفِي شِعْرِ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ:

ص: 302

وَشَقَّ لَهُ مِنِ اسْمِهِ لِيُجِلَّهُ

فَذُو الْعَرْشِ مَحْمُودٌ وَهَذَا مُحَمَّدُ.

وَأَمَّا أَحْمَدُ، فَهُوَ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ: أَيْ أَحَقُّ بِأَنْ يَكُونَ مَحْمُودًا أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ، يُقَالُ: هَذَا أَحْمَدُ مِنْ هَذَا ; أَيْ هَذَا أَحَقُّ بِأَنْ يُحْمَدَ مِنْ هَذَا، فَيَكُونُ فِيهِ تَفْضِيلٌ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ فِي كَوْنِهِ مَحْمُودًا. فَلَفَظُ (مُحَمَّدٍ) يَقْتَضِي فَضْلَهُ فِي الْكَمِّيَّةِ، وَلَفْظُ (أَحْمَدَ) يَقْتَضِي فَضْلَهُ فِي الْكَيْفِيَّةِ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ أَحْمَدُ ; أَيْ أَكْثَرُ حَمْدًا مِنْ غَيْرِهِ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ بِمَعْنَى الْحَامِدِ وَالْحَمَّادِ.

وَقَالَ: مَنْ رَجَّحَ أَنَّ مَعْنَى الْفَارَقْلِيطِ فِي لُغَتِهِمْ هُوَ الْحَمْدُ - كَمَا تَقَدَّمَ -: فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ:

{وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6] .

ص: 303

قَالُوا: وَلَا شَكَّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الْحَمْدِ، مِثْلُ مَا نَقُولُ فِي لُغَتِنَا: ضَارِبٌ وَمَضْرُوبٌ. وَأَمَّا مَنْ فَسَّرَهُ بِالْمُعِزِّ فَلَمْ يُعْرَفْ قَطُّ نَبِيٌّ أَعَزَّ أَهْلَ التَّوْحِيدِ لِلَّهِ وَالْإِيمَانِ كَمَا أَعَزَّهُمْ مُحَمَّدٌ، فَهُوَ أَحَقُّ بِاسْمِ الْمُعِزِّ مِنْ كُلِّ إِنْسَانٍ.

وَأَمَّا مَعْنَى الْمُخَلِّصِ، فَهُوَ - أَيْضًا - ظَاهِرٌ فِيهِ، فَإِنَّ الْمَسِيحَ هُوَ الْمُخَلِّصُ الْأَوَّلُ كَمَا ذُكِرَ فِي الْإِنْجِيلِ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ النَّصَارَى أَنَّ الْمَسِيحَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ - سُمِّيَ مُخَلِّصًا، فَيَكُونُ الْمَسِيحُ هُوَ الْفَارَقْلِيطَ الْأَوَّلَ، وَقَدْ بَشَّرَ بِفَارَقْلِيطَ آخَرَ، فَإِنَّهُ قَالَ:(وَأَنَا أَطْلُبُ مِنَ الْأَبِ أَنْ يُعْطِيَكُمْ فَارَقْلِيطَ آخَرَ، يَثْبُتُ مَعَكُمْ إِلَى الْأَبَدِ) ، فَهَذِهِ بِشَارَةٌ بِمُخَلِّصٍ ثَانٍ يَثْبُتُ مَعَهُمْ إِلَى الْأَبَدِ، وَالْمَسِيحُ هُوَ الْمُخَلِّصُ الْأَوَّلُ. وَأَمَّا مَا يَنْزِلُ فِي الْقُلُوبِ فَلَمْ يُسَمِّهِ أَحَدٌ مُخَلِّصًا، وَلَا فَارَقْلِيطَ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفَسَّرَ كَلَامُ الْمَسِيحِ إِلَّا بِلُغَتِهِ، وَمَعَانِيهِ الْمَعْرُوفَةِ الَّتِي خَاطَبَ بِهَا، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَنْبِيَاءِ، بَلْ وَسَائِرُ النَّاطِقِينَ.

وَقَدْ وَصَفَ هَذَا الْمُخَلِّصَ الثَّانِي بِأَنَّهُ يَثْبُتُ مَعَهُمْ إِلَى الْأَبَدِ، وَمُحَمَّدٌ هُوَ الْمُخَلِّصُ الَّذِي جَاءَ بِشَرْعٍ بَاقٍ إِلَى الْأَبَدِ، لَا يُنْسَخُ.

وَأَيْضًا، فَإِنَّ فِي الْإِنْجِيلِ ; إِنْجِيلَ يُوحَنَّا، أَنَّ الْمَسِيحَ قَالَ: (أُرْكُونُ الْعَالَمِ سَيَأْتِي

ص: 304

وَلَيْسَ لِي شَيْءٌ) .

وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ الْأُرْكُونَ بِلُغَتِهِمُ الْعَظِيمُ الْقَدْرِ، وَالْأَرَاكِنَةُ الْعُظَمَاءُ، وَقَدْ كَانُوا يَقُولُونَ: عَنِ الْمَسِيحِ: (إِنَّ أُرْكُونَ الشَّيَاطِينِ يُعِينُهُ) أَيْ عَظِيمُ الشَّيَاطِينِ. وَهُوَ مِنَ افْتِرَاءِ الْيَهُودِ عَلَى الْمَسِيحِ، فَقَوْلُ الْمَسِيحِ عليه السلام: أُرْكُونُ الْعَالَمِ، إِنَّمَا يَنْطَبِقُ عَلَى عَظِيمِ الْعَالَمِ وَسَيِّدِ الْعَالَمِ وَكَبِيرِ الْعَالَمِ. وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ سَيَأْتِي، فَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْأُرْكُونُ الْمَسِيحَ، أَوْ أَحَدًا مِثْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِ بَعْدَ الْمَسِيحِ مَنْ سَادَ الْعَالَمَ، وَأَطَاعَهُ الْعَالَمُ غَيْرَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَهَذَا مِنْ بِشَارَةِ الْمَسِيحِ بِهِ.

وَقَدْ «سُئِلَ صلى الله عليه وسلم مَا كَانَ أَوَّلُ أَمْرِكَ؟ قَالَ: دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبُشْرَى عِيسَى، وَرُؤْيَا أُمِّي رَأَتْ حِينَ وَلَدَتْنِي أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ» .

وَبِالْجُمْلَةِ، فَمَعْلُومٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْأَرْضِ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بَعْدَ الْمَسِيحِ مَنْ سَادَ الْعَالَمَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَانْقَادَتْ لَهُ الْقُلُوبُ وَالْأَجْسَادُ، وَأُطِيعَ فِي

ص: 305

السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، فِي مَحْيَاهُ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ، وَأَفْضَلِ الْأَقَالِيمِ شَرْقًا وَغَرْبًا، غَيْرَ مُحَمَّدٍ، فَإِنَّ الْمُلُوكَ يُطَاعُونَ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا، وَلَا يُطَاعُونَ بَعْدَ مَوْتِهِمْ، وَلَا يُطِيعُهُمْ أَهْلُ الدِّينِ طَاعَةً يَرْجُونَ بِهَا ثَوَابَ اللَّهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَيَخَافُونَ عِقَابَ اللَّهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، بِخِلَافِ الْأَنْبِيَاءِ.

وَمُحَمَّدٌ أَظْهَرَ دِينَ الرُّسُلِ قَبْلَهُ، وَصَدَّقَهُمْ، وَنَوَّهَ بِذِكْرِهِمْ وَتَعْظِيمِهِمْ، فَبِهِ آمَنَ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ قَبْلَ مُوسَى وَالْمَسِيحِ وَغَيْرِهِمَا أُمَمٌ عَظِيمَةٌ، لَوْلَا مُحَمَّدٌ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِمْ. وَمَنْ كَانَ يَعْرِفُ هَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَانُوا مُخْتَلِفِينَ فِيهِمْ كَاخْتِلَافِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي الْمَسِيحِ، وَكَانُوا يَقْدَحُونَ فِي دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَغَيْرِهِمَا بِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَهُمْ.

وَأَيْضًا، فَإِنَّهُ ذَكَرَ لَهُمْ مِنَ الرُّسُلِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَهُ، مِثْلَ هُودٍ وَصَالِحٍ وَشُعَيْبٍ وَغَيْرِهِمْ.

وَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم صَدَّقَ الْمَسِيحَ فِي أَخْبَارِهِ ; بِأَنَّهُ أُرْكُونُ الْعَالَمِ فَقَالَ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ. آدَمُ فَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِي، أَنَا خَطِيبُ الْأَنْبِيَاءِ إِذَا وَفَدُوا، وَإِمَامُ الْأَنْبِيَاءِ إِذَا اجْتَمَعُوا» .

وَهُوَ صَاحِبُ لِوَاءِ الْحَمْدِ، وَهُوَ صَاحِبُ الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ، الَّذِي يَغْبِطُهُ بِهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَهُوَ سَيِّدُ الْعَالَمِينَ حَقًّا، وَهَذَا

ص: 306

مُطَابِقٌ لِقَوْلِ الْمَسِيحِ: (إِنَّهُ أُرْكُونُ الْعَالَمِ) ، فَهُوَ أُرْكُونُ الْآخَرِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَهُوَ أُرْكُونُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ فِي الْآخِرَةِ.

وَقَوْلُ الْمَسِيحِ: (إِنَّ أُرْكُونَ الْعَالَمِ سَيَأْتِي، وَلَيْسَ لِي شَيْءٌ) تَضَمَّنَ الْأَصْلَيْنِ: إِثْبَاتُ الرَّسُولِ، وَإِثْبَاتُ التَّوْحِيدِ، وَأَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ، وَهُوَ تَحْقِيقُ شَهَادَةِ: أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. وَقَوْلُ الْمَسِيحِ: (لَيْسَ لِي شَيْءٌ) تَنْزِيهٌ لَهُ مِمَّا نُسِبَ إِلَيْهِ مِنَ الرُّبُوبِيَّةِ، وَهَذَا النَّفْيُ يَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ الْخَلْقِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم:

{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] .

وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام: 50] .

وَقَالَ:

{قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا - قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [الجن: 21 - 22](أَيْ مَلْجَأً وَمَلَاذًا){إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن: 23] .

ص: 307

وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعراف: 188] .

وَأَيْضًا، فَفِي نُبُوَّةِ أَشْعِيَاءَ أَنَّهُ وَصَفَ مُحَمَّدًا بِأَنَّهُ أُرْكُونُ السِّلْمِ، وَالسِّلْمُ وَالسَّلَامُ: الْإِسْلَامُ. فَهُوَ يُبَيِّنُ أَنَّهُ سَيِّدُ دِينِ الْإِسْلَامِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كُلَّهُمْ بُعِثُوا بِدِينِ الْإِسْلَامِ. لَكِنْ لَمْ يَظْهَرْ هَذَا الدِّينُ وَاسْمُهُ، وَانْتَشَرَ ذِكْرُ دِينِ الْإِسْلَامِ فِي الْأَرْضِ كَمَا ظَهَرَ لِمُحَمَّدٍ، فَمُحَمَّدٌ أُرْكُونُ الْإِسْلَامِ الَّذِي يَجْمَعُ كُلَّ خَيْرٍ وَبِرٍّ، كَمَا أَنَّ إِبْلِيسَ أُرْكُونُ الشَّرِّ، قَالَ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ:

{يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ - فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 71 - 72] .

ص: 308

فَهَذَا نُوحٌ: أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، يَذْكُرُ أَنَّهُ أُمِرَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.

وَقَالَتِ السَّحَرَةُ - لَمَّا أَسْلَمُوا، وَأَرَادَ فِرْعَوْنُ قَتْلَهُمْ -:

{رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف: 126] .

وَقَالَ:

{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} [المائدة: 44] .

وَقَالَ:

{وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة: 111] .

ص: 309

فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ سَمَّى الْمَسِيحَ الْفَارَقْلِيطَ رُوحَ الْحَقِّ، وَسَمَّاهُ رُوحَ الْقُدُسِ. وَقَالَ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ:

{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ - إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ - وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 130 - 132] .

{وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس: 84] .

وَقَالَتْ بِلْقِيسُ:

{رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44] .

قِيلَ: قَدْ قَالَ يُوحَنَّا فِي كِتَابِ أَخْبَارِ الْحَوَارِيِّينَ، الْمُسَمَّى (إِفْرَاكْسِيسَ) : " يَا أَحْبَابِي، إِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِكُلِّ رُوحٍ. لَكِنْ مَيِّزُوا الْأَرْوَاحَ الَّتِي مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِهَا، وَاعْلَمُوا أَنَّ كُلَّ رُوحٍ تُؤْمِنُ بِأَنَّ

ص: 310

يَسُوعَ الْمَسِيحَ قَدْ جَاءَ، فَكَانَ جَسَدَانِيًّا، فَهِيَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَكُلَّ رُوحٍ لَا تُؤْمِنُ بِأَنَّ الْمَسِيحَ جَاءَ، وَكَانَ جَسَدَانِيًّا، فَلَيْسَتْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، بَلْ مِنَ الْمَسِيحِ الْكَذَّابِ الَّذِي هُوَ الْآنَ فِي الْعَالَمِ ".

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ عُلِمَ أَنَّ الرُّوحَ - عِنْدَهُمْ - يَتَنَاوَلُ النَّبِيَّ الْمُرْسَلَ مِنَ الْبَشَرِ، وَجِبْرِيلُ الَّذِي نَزَلَ بِالْوَحْيِ عَلَى مُحَمَّدٍ هُوَ رُوحُ الْقُدُسِ، وَهُوَ رُوحُ الْحَقِّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:

{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل: 102] .

وَقَالَ:

{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ - عَلَى قَلْبِكَ} [الشعراء: 193 - 194] .

وَقَالَ:

{مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 97] .

وَهَذَا الرُّوحُ إِنَّمَا جَعَلَهُ بِمَجِيءِ مُحَمَّدٍ، وَالْكَلَامُ الَّذِي نَزَلَ بِهِ هُوَ

ص: 311

الَّذِي بَلَّغَهُ مُحَمَّدٌ ; وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:

: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: 75] .

فَاصْطَفَى اللَّهُ جِبْرِيلَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَاصْطَفَى مُحَمَّدًا مِنَ الْبَشَرِ ; وَلِهَذَا يُضَافُ الْقَوْلُ الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ إِلَى قَوْلِ هَذَا تَارَةً، وَإِلَى قَوْلِ هَذَا تَارَةً كَمَا قَالَ تَعَالَى:

{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ - ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ - مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير: 19 - 21] .

فَهَذَا الرَّسُولُ هَنَا جِبْرِيلُ، وَقَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى:

{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ - وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ - وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ - تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الحاقة: 40 - 43] .

فَهَذَا الرَّسُولُ هَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَضَافَهُ إِلَى كُلٍّ مِنْهُمَا بِلَفْظِ الرَّسُولِ ; لِتَضَمُّنِهِ أَنَّهُ بَلَّغَهُ عَنْ مُرْسِلِهِ، لَمْ يَقُلْ:" إِنَّهُ لَقَوْلُ مَلَكٍ، وَلَا نَبِيٍّ "، بَلْ كَفَّرَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ قَوْلُ الْبَشَرِ كَمَا ذُكِرَ

ص: 312

ذَلِكَ عَنِ الْوَحِيدِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ:

{قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا - رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الطلاق: 10 - 11] .

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّسُولَ - نَفْسَهُ - لَمْ يُنْزَلْ، بَلْ أُبْدِلَ الرَّسُولُ مِنَ الذِّكْرِ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ جَاءَ بِالذِّكْرِ.

وَلَمَّا كَانَ الرَّسُولُ الْمَلَكِيُّ، وَالرَّسُولُ الْبَشَرِيُّ، وَالذِّكْرُ الْمُنَزَّلُ أُمُورًا مُتَلَازِمَةً يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ وَاحِدٍ ثُبُوتُ الْآخَرِينَ، وَمِنَ الْإِيمَانِ بِوَاحِدٍ الْإِيمَانُ بِالْآخَرِينَ، فَيَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْقُرْآنِ حَقًّا كَوْنُ جِبْرِيلَ وَمُحَمَّدٍ حَقًّا، وَكَذَلِكَ يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ مُحَمَّدٍ حَقًّا كَوْنُ جِبْرِيلَ وَالْقُرْآنِ حَقًّا، وَيَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ جِبْرِيلَ حَقًّا كَوْنُ الْقُرْآنِ وَمُحَمَّدٍ حَقًّا.

وَلِهَذَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَ الْإِيمَانِ بِالْمَلَائِكَةِ وَالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ:

{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة: 285] .

ص: 313

فَتَعْلِيمُ مُحَمَّدٍ وَتَذْكِيرُهُ وَشَهَادَتُهُ هُوَ تَعْلِيمُ رُوحِ الْقُدُسِ وَرُوحِهِ، وَالْأَخْبَارُ بِأَنَّ الْمَلَكَ يَنْطِقُ عَلَى لِسَانِ الْبَشَرِ، أَوِ الْجِنِّيَّ يَنْطِقُ عَلَى لِسَانِ الْبَشَرِ كَثِيرٌ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ:" كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ السَّكِينَةَ تَنْطِقُ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ "، وَيُقَالُ:" مَا أَلْقَى هَذَا عَلَى لِسَانِكَ إِلَّا الشَّيْطَانُ "، وَيَكُونُ مَعَ هَذَا الْبَشَرِ يَنْطِقُ بِقُدْرَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ لَيْسَ هُوَ كَالْمَصْرُوعِ الَّذِي يَتَكَلَّمُ الْجِنِّيُّ عَلَى لِسَانِهِ وَهُوَ يَدْرِي مَا يَقُولُ ; فَلِهَذَا يُقَالُ: هَذَا قَوْلُ الرَّسُولِ الْبَشَرِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ الرَّسُولِ الْمَلَكِيُّ.

وَيُقَالُ: الْفَارَقْلِيطُ رُوحُ الْحَقِّ وَرُوحُ الْقُدُسِ يَشْهَدُ لِي وَهُوَ

ص: 314

يُعَلِّمُكُمْ، وَهُوَ يُذَكِّرُكُمْ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْفَارَقْلِيطَ يَتَضَمَّنُ ذِكْرَ جِبْرِيلَ وَمُحَمَّدٍ جَمِيعًا، وَقَوْلُ أَحَدِهِمَا هُوَ قَوْلُ الْآخَرِ، وَمَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ بَدَلُ الِاشْتِمَالِ ; كَقَوْلِهِ:

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ} [البقرة: 217] .

وَالشَّهْرُ لَيْسَ هُوَ نَفْسَ الْقِتَالِ، لَكِنْ لَمَّا اشْتَمَلَ عَلَى الْقِتَالِ أُبْدِلَ أَحَدُهُمَا مِنَ الْآخَرِ، وَقَوْلُهُ:

{قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا - رَسُولًا} [الطلاق: 10 - 11] .

وَمِنْ هَذَا النَّمَطِ أُبْدِلَ الرَّسُولُ مِنَ الذِّكْرِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَيْهِ، وَهَذَا الثَّانِي اشْتَمَلَ عَلَى الْأَوَّلِ، وَالرَّسُولُ الْبَشَرِيُّ كَانَ الرَّسُولُ الْمَلَكِيُّ يَتَّصِلُ بِهِ فِي الْبَاطِنِ فَيَثْقُلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ حِينَ يُنْزِلُهُ.

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها «أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ؟ قَالَ: أَحْيَانًا يَأْتِينِي فِي مِثْلِ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ، وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ، فَيَفْصِمُ عَنِّي، وَقَدْ وَعِيتُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِي الْمَلَكُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ. قَالَتْ عَائِشَةُ:

ص: 315

" وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لِيَتَفَصَّدُ عَرَقًا» .

وَالْفَصْمُ: الْفَكُّ وَالْفَصْلُ مِنَ الْأُمُورِ اللَّيِّنَةِ، كَمَا قَالَ:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256] .

وَبِالْقَافِ: هُوَ الْكَسْرُ الَّذِي يَكُونُ فِي الْأُمُورِ الصَّلْبَةِ.

فَبَيَّنَ أَنَّ الْمَلَكَ حِينَ يُنْزِلُ الْوَحْيَ عَلَيْهِ يَتَّصِلُ بِهِ، وَيَلْتَبِسُ بِهِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَنْفَصِلُ عَنْهُ وَيَنْفَكُّ عَنْهُ، وَهَذَا الِاشْتِمَالُ وَالِانْفِصَالُ أَبْلَغُ مِنْ غَيْرِهِ، فَيَحْسُنُ مَعَهُ أَنْ يَكُونَ إِبْدَالُ أَحَدِهِمَا مِنَ الْآخَرِ أَحْسَنَ مِنْ غَيْرِهِ. فَيُقَالُ: هَذَا الْقُرْآنُ بَلَّغَهُ الرَّسُولُ النَّبِيُّ، وَبَلَّغَهُ جِبْرِيلُ عَنِ اللَّهِ، وَنَظَائِرُ هَذَا مُتَعَدِّدَةٌ فِي جَمِيعِ بِشَارَاتِ الْمَسِيحِ. يُذْكَرُ أَنَّ الْأَبَ وَهُوَ فِي لُغَتِهِمْ: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الْفَارَقْلِيطَ. وَفِي بَعْضِهَا قَالَ: " أَنَا أَطْلُبُ مِنَ الْأَبِ

ص: 316

يُعْطِيكُمْ فَارَقْلِيطَ آخَرَ، يَثْبُتُ مَعَكُمْ إِلَى الْأَبَدِ "، وَفِي بَعْضِهَا: " وَالْفَارَقْلِيطُ رُوحُ الْحَقِّ الَّذِي يُرْسِلُهُ أَبِي، هُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ "، فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ يُرْسِلُهُ، وَأَنَّهُ يَطْلُبُ مِنَ اللَّهِ أَنْ يُرْسِلَهُ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ: " فَإِذَا انْطَلَقْتُ أَرْسَلْتُهُ إِلَيْكُمْ " فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: إِنِّي أُرْسِلُهُ بِدُعَاءِ أَبِي، وَطَلَبِي مِنْهُ أَنْ يُرْسِلَهُ، كَمَا يَطْلُبُ الطَّالِبُ مِنْ وَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يُرْسِلَ رَسُولًا، أَوْ يُوَلِّي نَائِبًا، أَوْ يُعْطِي أَحَدًا، وَيَقُولُ أَنَا أَرْسَلْتُ هَذَا، وَوَلَّيْتُ هَذَا، وَأَعْطَيْتُ هَذَا ; أَيْ كُنْتُ سَبَبًا فِي ذَلِكَ. وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ إِذَا قَضَى مَا يَكَوِّنُ الشَّيْءَ فَإِنَّهُ يُقَدِّرُ لَهُ أَسْبَابًا يَكُونُ بِهَا، وَمِنْ تِلْكَ الْأَسْبَابِ دُعَاءُ طَائِفَةٍ مِنْ عِبَادِهِ بِهِ. فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ مِنَ النِّعْمَةِ فِي إِجَابَتِهِ دُعَاءُ هَذَا وَهَذَا وَهَذَا.

وَمُحَمَّدٌ دَعَا بِهِ الْخَلِيلُ عليه السلام فَقَالَ:

{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 129] .

مَعَ أَنَّ اللَّهَ قَضَى بِإِرْسَالِهِ، وَأَعْلَنَ بِاسْمِهِ قَبْلَ ذَلِكَ كَمَا قِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَتَى كُنْتَ نَبِيًّا؟ قَالَ:" وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ "، وَقَالَ:" إِنِّي عِنْدَ اللَّهِ لِمَكْتُوبٌ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ ".

ص: 317

وَهَذَا كَمَا أَنَّ اللَّهَ قَضَى بِنَصْرِهِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَمِنْ أَسْبَابِ ذَلِكَ اسْتِغَاثَتُهُ بِاللَّهِ، وَكَذَلِكَ بِمَا يَقْضِيهِ مِنْ إِنْزَالِ الْغَيْثِ يَكُونُ مِنْ أَسْبَابِهِ دُعَاءُ عِبَادِهِ لَهُ، وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ، فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمَسِيحُ سَأَلَ رَبَّهُ بَعْدَ صُعُودِهِ أَنْ يُرْسِلَ مُحَمَّدًا، وَيَكُونُ هَذَا مِنْ أَسْبَابِ إِرْسَالِهِ، لَكِنَّ إِبْرَاهِيمَ سَأَلَ فِي الدُّنْيَا فَذَكَرَ اللَّهُ ذَلِكَ، بِخِلَافِ سُؤَالِ الْمَسِيحِ، فَإِنَّهُ كَانَ بَعْدَ صُعُودِهِ إِلَى السَّمَاءِ.

ص: 318