المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[فصل: الدلائل القاطعة عند أهل مكة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم] - الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية - جـ ٥

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌[فَصْلٌ: مُنَاقَشَةُ النَّصَارَى فِي إِطْلَاقِ لَفْظِ الْجَوْهَرِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى]

- ‌[فَصْلٌ: نَقْضُ دَعْوَاهُمُ الِاسْتِغْنَاءَ بِالْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ]

- ‌[فَصْلٌ: بُطْلَانُ اسْتِدْلَالِهِمْ بِمَا يَدَّعُونَهُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ]

- ‌[فَصْلٌ: إِثْبَاتُ الْفَضْلِ لِرَسُولِ اللَّهِ وَلِشَرِيعَتِهِ وَلِأُمَّتِهِ]

- ‌[فَصْلٌ: اشْتِرَاطُهُمْ لِصِحَّةِ النُّبُوَّةِ تَبْشِيرُ الْأَنْبِيَاءِ بِهَا وَالرَّدُّ عَلَيْهِمْ]

- ‌[فَصْلٌ: طُرُقُ الْعِلْمِ بِبِشَارَةِ الْأَنْبِيَاءِ بِمُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام]

- ‌[فَصْلٌ: شَهَادَاتُ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ لِمُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام وَأَمْثِلَةٌ مِنْهَا]

- ‌[فَصْلٌ: بِشَارَةٌ مِنَ الزَّبُورِ وَتَفْسِيرُهَا]

- ‌[فَصْلٌ: بِشَارَةٌ أُخْرَى مِنَ الزَّبُورِ]

- ‌[فَصْلٌ: بِشَارَةٌ ثَالِثَةٌ مِنْ دَاوُدَ عليه السلام]

- ‌[فَصْلٌ: بِشَارَةٌ رَابِعَةٌ مِنْ دَاوُدَ عليه السلام]

- ‌[فَصْلٌ: بِشَارَةٌ خَامِسَةٌ مِنْ دَاوُدَ عليه السلام]

- ‌[فَصْلٌ: شَهَادَةُ سِفْرِ أَشْعِيَا " رَاكِبُ الْحِمَارِ وَرَاكِبُ الْجَمَلِ

- ‌[فَصْلٌ: بِشَارَةُ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِالْمَسِيحِ وَبِمُحَمَّدٍ وَإِنْذَارُهَا بِالدَّجَّالِ]

- ‌[فَصْلٌ: بِشَارَةُ أَشْعِيَاءَ بِشَأْنِ مَكَّةَ]

- ‌[فَصْلٌ: بِشَارَةٌ ثَالِثَةٌ مِنْ أَشْعِيَاءَ]

- ‌[فَصْلٌ: بِشَارَةٌ رَابِعَةٌ مِنْ أَشْعِيَاءَ]

- ‌[فَصْلٌ: بِشَارَةٌ خَامِسَةٌ مِنْ أَشْعِيَاءَ]

- ‌[فَصْلٌ: بِشَارَةٌ سَادِسَةٌ مِنْ أَشْعِيَاءَ]

- ‌[فَصْلٌ: بِشَارَةٌ سَابِعَةٌ مِنْ أَشْعِيَاءَ]

- ‌[فَصْلٌ: بِشَارَةٌ ثَامِنَةٌ مِنْ أَشْعِيَاءَ]

- ‌[فَصْلٌ: بِشَارَةٌ تَاسِعَةٌ مِنْ أَشْعِيَاءَ]

- ‌[فَصْلٌ: بِشَارَةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِنْ حَبْقُوقَ]

- ‌[فَصْلٌ: بِشَارَةٌ مِنْ حَزْقِيَالَ]

- ‌[فَصْلٌ: بِشَارَتَانِ مِنْ دَانْيَالَ عليه السلام]

- ‌[فَصْلٌ: بِشَارَةٌ ثَالِثَةٌ مِنْ دَانْيَالَ عليه السلام]

- ‌[فَصْلٌ: مَا نُقِلَ مِنْ بِشَارَاتِ الْمَسِيحِ بِمُحَمَّدٍ وَالتَّعْلِيقِ الْمُفَصَّلِ عَلَيْهَا]

- ‌[فَصْلٌ: بَرَاهِينُ قُرْآنِيَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ عَلَى نُبُوَّتِهِ صلى الله عليه وسلم]

- ‌[فَصْلٌ: الدَّلَائِلُ الْقَاطِعَةُ عِنْدَ أَهْلِ مَكَّةَ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم]

- ‌[فَصْلٌ: جَلَاءُ آيَاتِ النُّبُوَّةِ وَتَنَوُّعُهَا وَكَثْرَتُهَا]

- ‌[فَصْلٌ: التَّحْقِيقُ فِي اسْمِ الْمُعْجِزَةِ وَالْآيَةِ وَالْكَرَامَةِ وَإِطْلَاقِهِنَّ]

- ‌[فَصْلٌ: بَحْثٌ فِي الْإِعْجَازِ الْقُرْآنِيِّ]

- ‌[فَصْلٌ: شَخْصِيَّةُ الرَّسُولِ وَشَرِيعَتُهُ وَأُمَّتُهُ، وَكَرَامَاتُ الصَّالِحِينَ مِنْهَا، كُلُّ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِهِ]

- ‌[فَصْلٌ: نَقْلُ النَّاسِ لِصِفَاتِهِ عليه السلام الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِهِ]

الفصل: ‌[فصل: الدلائل القاطعة عند أهل مكة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم]

[فَصْلٌ: الدَّلَائِلُ الْقَاطِعَةُ عِنْدَ أَهْلِ مَكَّةَ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم]

وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْمَهُ الْمُعَادِينَ لَهُ غَايَةَ الْعَدَاوَةِ مَا زَالُوا مُعْتَرِفِينَ بِصِدْقِهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّهُمْ لَمْ يُجَرِّبُوا عَلَيْهِ كَذِبًا، بَلْ وَمُعْتَرِفِينَ بِأَنَّ مَا يَقُولُهُ لَيْسَ بِشِعْرٍ وَلَا كِهَانَةٍ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِسَاحِرٍ، وَكَانُوا فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ يُرْسِلُونَ إِلَى الْبِلَادِ الَّتِي فِيهَا عُلَمَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ يَسْأَلُونَهُمْ عَنْهُ؛ لِأَنَّ مَكَّةَ لَمْ يَكُنْ بِهَا ذَلِكَ.

فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ حَدَّثَهُ، قَالَ: " انْطَلَقْتُ إِلَى الشَّامِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَبَيْنَمَا أَنَا بِالشَّامِ إِذْ جِيءَ بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى هِرَقْلَ، قَالَ: وَكَانَ دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ جَاءَ بِهِ، فَدَفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى، فَدَفَعَهُ عَظِيمُ بُصْرَى إِلَى هِرَقْلَ، فَقَالَ هِرَقْلُ:: هَلْ هَاهُنَا أَحَدٌ مِنْ قَوْمِ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَدُعِيتُ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَدَخَلْنَا عَلَى هِرَقْلَ، فَأَجْلَسَنَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا مِنْ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَقُلْتُ أَنَا. فَأَجْلَسُونِي بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَجْلَسُوا أَصْحَابِي خَلْفِي. فَدَعَا بِتَرْجُمَانِهِ، فَقَالَ: قُلْ لَهُمْ: إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ.

ص: 358

قَالَ: فَقَالَ: وَايْمِ اللَّهِ! لَوْلَا مَخَافَةُ أَنْ يُؤْثَرَ عَلَيَّ كَذِبٌ لَكَذَبْتُ عَلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: سَلْهُ كَيْفَ حَسَبُهُ فِيكُمْ؟ قَالَ: قُلْتُ: هُوَ فِينَا ذُو حَسَبٍ. قَالَ: فَهَلْ كَانَ فِي آبَائِهِ مَنْ مَلَكَ، قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قُلْتُ: لَا "، وَذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ:

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، لَمَّا قَالَ لِأُمَيَّةَ: إِنَّهُمْ قَاتِلُوكَ (يَعْنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ) ، وَفَزِعَ مِنْهُ لِذَلِكَ، وَقَالَ لِامْرَأَتِهِ ذَلِكَ، فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا يَكْذِبُ مُحَمَّدٌ، وَقَالَ هُوَ - فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى -: وَاللَّهِ مَا يَكْذِبُ مُحَمَّدٌ، وَعَزَمَ أَنْ لَا يَخْرُجَ خَوْفًا مِنْ هَذَا، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَخْرُجُ مِنْ مَكَّةَ. وَأَرَادَ التَّخَلُّفَ عَنْ بَدْرٍ، حَتَّى قَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ: إِنَّكَ مَتَى يَرَاكَ النَّاسُ قَدْ تَخَلَّفْتَ وَأَنْتَ سَيِّدُ هَذَا الْوَادِي تَخَلَّفُوا مَعَكَ. فَقَالَ: أَمَّا إِذْ غَلَبْتَنِي فَلَأَشْتَرِيَنَّ أَجْوَدَ بَعِيرٍ بِمَكَّةَ، وَذَكَّرَتْهُ امْرَأَتُهُ بِقَوْلِ سَعْدٍ، فَقَالَ: مَا أُرِيدُ أَنْ

ص: 359

أَكُونَ مَعَهُمْ إِلَّا قَرِيبًا.

وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ الْمَغَازِي وَغَيْرُهُمْ «أَنَّ أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ لَمَّا

ص: 360

بَلَغَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَنَا أَقْتُلُهُ، ثُمَّ طَعَنَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَخَدَشَهُ، وَجَعَلَ أَصْحَابُهُ يُجَزِّعُونَهُ وَيَقُولُونَ: إِنَّمَا هُوَ خَدْشٌ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْ كَانَ بِمُضَرَ لَقَتَلَهُمْ، أَلَيْسَ قَالَ: " لَأَقْتُلَنَّكَ» . وَعَنْ مُجَاهِدٍ: قَالَ مَوْلَايَ السَّائِبُ بْنُ أَبِي السَّائِبِ: كُنْتُ فِيمَنْ بَنَى الْبَيْتَ، وَأَنَّ قُرَيْشًا اخْتَلَفُوا فِي الْحَجَرِ حِينَ أَرَادُوا أَنْ يَضَعُوهُ، حَتَّى كَادُوا يَقَعُ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ بِالسُّيُوفِ، فَقَالَ: اجْعَلُوا بَيْنَكُمْ أَوَّلَ رَجُلٍ يَدْخُلُ مِنَ الْبَابِ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانُوا يُسَمُّونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ الْأَمِينَ.

ص: 361

فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، قَدْ رَضِينَا بِكَ.

وَعَنْ عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: " «جَاءَتْ قُرَيْشٌ إِلَى أَبِي طَالِبٍ فَقَالُوا لَهُ: إِنَّ ابْنَ أَخِيكَ يَأْتِينَا فِي كَعْبَتِنَا وَنَادِينَا وَيُسْمِعُنَا

ص: 362

مَا يُؤْذِينَا، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَكُفَّهُ عَنَّا فَافْعَلْ. قَالَ: فَقَالَ لِي: يَا عَقِيلُ الْتَمِسِ ابْنَ عَمِّكَ. قَالَ: فَأَخْرَجْتُهُ مِنْ كِبْسٍ مِنْ أَكْبَاسِ شِعْبِ أَبِي طَالِبٍ، فَأَقْبَلَ يَمْشِي حَتَّى انْتَهَى إِلَى أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ أَخِي، وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِنْ كُنْتَ لِي مُطِيعًا، وَقَدْ جَاءَنِي قَوْمُكَ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ تَأْتِيهِمْ فِي كَعْبَتِهِمْ وَنَادِيهِمْ فَتُسْمِعُهُمْ مَا يُؤْذِيهِمْ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَكُفَّ عَنْهُمْ؟ قَالَ: فَحَلَّقَ بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَنَا بِأَقْدَرَ عَلَى أَنْ أَدَعَ مَا بُعِثْتُ بِهِ مِنْ أَنْ يُشْعِلَ أَحَدُكُمْ مِنْ هَذِهِ الشَّمْسِ شُعْلَةً مِنَ النَّارِ فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: إِنَّهُ - وَاللَّهِ - مَا كَذَبَ قَطُّ فَارْجِعُوا رَاشِدِينَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَأَبُو زُرْعَةَ فِي الدَّلَائِلِ، وَرَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ قَرِيبًا مِنْ هَذَا اللَّفْظِ، وَقَالَ: " فَأَخْرَجْتُهُ مِنْ حِفْشٍ - وَهُوَ بَيْتٌ صَغِيرٌ - وَقَالَ فِيهِ: فَظَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ قَدْ بَدَا لِعَمِّهِ، وَأَنَّهُ خَاذِلُهُ وَمُسْلِمُهُ، وَضَعُفَ عَنِ الْقِيَامِ مَعَهُ، فَقَالَ:«يَا عَمِّ لَوْ وُضِعَتِ الشَّمْسُ فِي يَمِينِي وَالْقَمَرُ فِي يَسَارِي مَا تَرَكْتُ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللَّهُ أَوْ أَهْلِكَ فِي طَلَبِهِ» .

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: " قَالَ أَبُو ذَرٍّ:

ص: 363

خَرَجْنَا مِنْ قَوْمِنَا غِفَارٍ، وَكَانُوا يُحِلُّونَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ، فَخَرَجْتُ أَنَا وَأَخِي أُنَيْسٌ وَأُمُّنَا، فَنَزَلْنَا عَلَى خَالٍ لَنَا فَأَكْرَمَنَا، وَأَحْسَنَ إِلَيْنَا فَحَسَدَنَا قَوْمُهُ، فَقَالُوا: إِنَّكَ إِذَا خَرَجْتَ عَنْ أَهْلِكَ خَالَفَ إِلَيْهِمْ أُنَيْسٌ. فَجَاءَ خَالُنَا فَثَنَا عَلَيْنَا الَّذِي قِيلَ لَهُ، فَقُلْتُ لَهُ: أَمَّا مَا مَضَى مِنْ مَعْرُوفِكَ فَقَدْ كَدَّرْتَهُ، وَلَا جِمَاعَ لَكَ فِيمَا بَعْدُ. فَقَرَّبْنَا صِرْمَتَنَا، فَاحْتَمَلْنَا عَلَيْهَا، وَتَغَطَّى خَالُنَا بِثَوْبِهِ يَبْكِي، وَانْطَلَقْنَا حَتَّى نَزَلْنَا بِحَضْرَةِ مَكَّةَ.

فَنَافَرَ أُنَيْسٌ رَجُلًا عَنْ صِرْمَتِنَا وَعَنْ مِثْلِهَا فَأَتَيْنَا الْكَاهِنَ فَخَيَّرَ

ص: 364

أُنَيْسًا فَأَتَى بِصِرْمَتِنَا وَمِثْلِهَا مَعَهَا. قَالَ: وَقَدْ صَلَّيْتُ يَا ابْنَ أَخِي قَبْلَ أَنْ أَلْقَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِثَلَاثِ سِنِينَ، قُلْتُ: لِمَنْ؟ قَالَ: لِلَّهِ، قُلْتُ: فَأَيْنَ تَوَجَّهُ؟ قَالَ: أَتَوَجَّهُ حَيْثُ يُوَجِّهُنِي رَبِّي، أُصَلِّي عِشَاءً، حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ أُلْقِيتُ كَأَنِّي خِفَاءٌ، حَتَّى تَعْلُوَنِي الشَّمْسُ، فَقَالَ أُنَيْسٌ: إِنَّ لِي حَاجَةً بِمَكَّةَ فَاكْفِنِي. فَانْطَلَقَ أُنَيْسٌ حَتَّى أَتَى مَكَّةَ فَرَاثَ عَلَيَّ، ثُمَّ جَاءَ فَقُلْتُ: مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: لَقِيتُ رَجُلًا بِمَكَّةَ عَلَى دِينِكَ يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ، قُلْتُ: فَمَا يَقُولُ النَّاسُ؟ قَالَ: يَقُولُونَ: شَاعِرٌ، كَاهِنٌ، سَاحِرٌ. وَكَانَ أُنَيْسٌ أَحَدَ الشُّعَرَاءِ، قَالَ أُنَيْسٌ: لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ، فَمَا هُوَ بِقَوْلِهِمْ، وَلَقَدْ وَضَعْتُ قَوْلَهُ عَلَى أَقْرَاءِ الشُّعَرَاءِ فَمَا يَلْتَئِمُ عَلَى لِسَانِ أَحَدٍ يُقْرِي بَعْدِي أَنَّهُ شِعْرٌ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لِصَادِقٌ، وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ. قَالَ: قُلْتُ: فَاكْفِنِي حَتَّى أَذْهَبَ فَأَنْظُرَ، قَالَ: فَأَتَيْتُ مَكَّةَ فَضَعَّفْتُ رَجُلًا مِنْهُمْ، فَقُلْتُ: أَيْنَ هَذَا الَّذِي

ص: 365

تَدْعُونَهُ الصَّابِئَ؟ فَأَشَارَ إِلَيَّ فَقَالَ: الصَّابِئَ، فَمَالَ عَلَيَّ أَهْلُ الْوَادِي بِكُلِّ مَدَرَةٍ وَعَظْمٍ حَتَّى خَرَرْتُ مَغْشِيًّا عَلَيَّ. . . "، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَصِفَةَ إِسْلَامِهِ رضي الله عنه بِلَفْظِ مُسْلِمٍ.

وَفِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " أَنَّ أَبَا ذَرٍّ أَرْسَلَ أَخَاهُ، وَقَالَ: اعْلَمْ لِي عِلْمَ هَذَا الرَّجُلِ، الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ يَأْتِيهِ الْخَبَرُ مِنَ السَّمَاءِ، فَاسْمَعْ مِنْ قَوْلِهِ، ثُمَّ ائْتِنِي، فَانْطَلَقَ الْآخَرُ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ، وَسَمِعَ مِنْ قَوْلِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَبِي ذَرٍّ فَقَالَ: رَأَيْتُهُ يَأْمُرُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَكَلَامًا مَا هُوَ بِالشِّعْرِ.

فَقَالَ: مَا شَفَيْتَنِي فِيمَا أَرَدْتُ، فَتَزَوَّدَ وَحَمَلَ شَنَّةً لَهُ فِيهَا مَاءٌ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ فَأَتَى الْمَسْجِدَ. . . " وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ.

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ " قَالَ الْمَلَأُ وَأَبُو جَهِلٍ: لَقَدْ غَلَبَنَا أَمْرُ

ص: 366

مُحَمَّدٍ، فَلَوِ الْتَمَسْتُمْ رَجُلًا عَالِمًا بِالشِّعْرِ وَالْكِهَانَةِ وَالسِّحْرِ، فَأَتَاهُ فَكَلَّمَهُ، وَأَتَانَا بِبَيَانٍ مِنْ أَمْرِهِ.

قَالَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ: وَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ الشِّعْرَ وَالْكِهَانَةَ وَالسِّحْرَ، وَعَلِمْتُ مِنْ ذَلِكَ عِلْمًا، فَمَا يَخْفَى عَلَيَّ إِنْ كَانَ كَذَلِكَ. فَأَتَاهُ، فَلَمَّا خَرَجَ إِلَيْهِ قَالَ: أَنْتَ - يَا مُحَمَّدُ - خَيْرٌ أَمْ هَاشِمٌ؟ وَأَنْتَ خَيْرٌ أَمْ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ؟ أَنْتَ خَيْرٌ أَمْ عَبْدُ اللَّهِ؟ فِيمَ تَشْتُمُ آلِهَتَنَا، وَتُضَلِّلُ آبَاءَنَا؟ فَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا بِكَ الرِّيَاسَةُ عَقَدْنَا لَكَ الرِّيَاسَةَ، فَكُنْتَ رَأْسَنَا مَا بَقِيتَ، وَإِنْ كَانَ بِكَ الْبَاهُ زَوَّجْنَاكَ عَشْرَ نِسْوَةٍ تَخْتَارُ مِنْ أَيِّ بَنَاتِ قُرَيْشٍ شِئْتَ، وَإِنْ كَانَ بِكَ الْمَالُ، جَمَعْنَا لَكَ مَا تَسْتَغْنِي بِهِ أَنْتَ وَعَقِبُكَ مِنْ بَعْدُ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَاكِتٌ لَا يَتَكَلَّمُ، فَلَمَّا

ص: 367

فَرَغَ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:

(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {حم - تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ - كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت: 1 - 3] .

إِلَى قَوْلِهِ:

{فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 13] .

فَأَمْسَكَ عُتْبَةُ عَلَى فِيهِ، وَنَاشَدَ بِالرَّحِمِ أَنْ يَكُفَّ، وَرَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ، فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَى قُرَيْشٍ، فَاحْتَبَسَ عَنْهُمْ عُتْبَةُ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، وَاللَّهِ مَا نَرَى عُتْبَةَ إِلَّا قَدْ صَبَأَ إِلَى مُحَمَّدٍ، وَأَعْجَبَهُ طَعَامَهُ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا مِنْ حَاجَةٍ أَصَابَتْهُ، فَانْطَلِقُوا بِنَا إِلَيْهِ، فَأَتَاهُ أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ: يَا عُتْبَةُ، مَا حَبَسَكَ عَنَّا إِلَّا أَنَّكَ صَبَوْتَ إِلَى مُحَمَّدٍ، وَأَعْجَبَكَ أَمْرَهُ، فَإِنْ كَانَتْ بِكَ حَاجَةٌ جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِنَا مَا يُغْنِيكَ عَنْ طَعَامِ مُحَمَّدٍ، فَغَضِبَ وَأَقْسَمَ أَنْ لَا يُكَلِّمَ مُحَمَّدًا اأَبَدًا، وَقَالَ: لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي مِنْ أَكْثَرِ قُرَيْشٍ مَالًا، وَلَكِنِّي أَتَيْتُهُ وَقَصَصْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، فَأَجَابَنِي بِشَيْءٍ، وَاللَّهِ مَا هُوَ بِشِعْرٍ وَلَا كِهَانَةٍ وَلَا سِحْرٍ:

{حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت: 1] .

ص: 368

إِلَى قَوْلِهِ:

{فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 13] .

فَأَمْسَكْتُ بِفِيهِ، وَنَاشَدْتُهُ الرَّحِمَ أَنْ يَكُفَّ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا إِذَا قَالَ شَيْئًا لَمْ يَكْذِبْ، فَخِفْتُ أَنْ يَنْزِلَ بِكُمُ الْعَذَابُ ". رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مَرْدَوَيْهِ، فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ عَنِ الْأَجْلَحِ عَنِ الذَّيَّالِ بْنِ حَرْمَلَةَ عَنْهُ،

ص: 369

وَرَوَاهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ، وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى الْمُوصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ، وَرَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ شَيْخِ أَبِي يَعْلَى ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ.

وَفِي بَعْضِ الطُّرُقِ: " إِنْ كُنْتَ تَزْعُمُ أَنَّ هَؤُلَاءِ خَيْرًا مِنْكَ فَقَدْ عَبَدُوا الْآلِهَةَ، وَإِنْ كُنْتَ تَزْعُمُ أَنَّكَ خَيْرًا مِنْهُمْ فَتَكَلَّمَ حَتَّى نَسْمَعَ "، وَرَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ زِيَادٍ مَوْلًى لِبَنِي هَاشِمٍ عَنْ

ص: 370

مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: حُدِّثْتُ أَنَّ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَكَانَ سَيِّدًا حَلِيمًا. . وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ: " لَمَّا جَلَسَ إِلَيْهِمْ قَالُوا: مَا وَرَاءَكَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ، قَالَ: وَرَائِي أَنِّي - وَاللَّهِ - قَدْ سَمِعْتُ قَوْلًا مَا سَمِعْتُ بِمِثْلِهِ قَطُّ، وَاللَّهِ مَا هُوَ بِالشِّعْرِ وَلَا السِّحْرِ وَلَا الْكِهَانَةِ، يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَطِيعُونِي، وَاجْعَلُوهَا بِي، خَلُّوا بَيْنَ هَذَا الرَّجُلِ وَبَيْنَ مَا هُوَ فِيهِ، وَاعْتَزِلُوهُ، فَوَاللَّهِ لَيَكُونَنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي سَمِعْتُ نَبَأٌ، فَإِنْ تُصِيبُهُ الْعَرَبُ فَقَدْ كَفَيْتُمُوهُ بِغَيْرِكُمْ، وَإِنْ يَظْهَرْ عَلَى الْعَرَبِ فَمُلْكُهُ مُلْكُكُمْ، وَعِزُّهُ عِزُّكُمْ، وَكُنْتُمْ أَسْعَدَ النَّاسِ بِهِ، فَقَالُوا: سَحَرَكَ - وَاللَّهِ - يَا أَبَا الْوَلِيدِ بِلِسَانِهِ، قَالَ: هَذَا رَأْيِي لَكُمْ فَاصْنَعُوا مَا بَدَا لَكُمْ،. ثُمَّ ذَكَرَ شِعْرَ أَبِي طَالِبٍ يَمْدَحُ عُتْبَةَ فِيمَا قَالَ.

ص: 371

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «قَدِمَ ضِمَادٌ مَكَّةَ وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ، وَكَانَ يَرْقِي مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ، فَسَمِعَ سُفَهَاءَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يَقُولُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا مَجْنُونٌ، فَقَالَ: لَوْ أَنِّي رَأَيْتُ هَذَا الرَّجُلَ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَشْفِيَهُ عَلَى يَدِي، قَالَ: فَلَقِيتُ مُحَمَّدًا، فَقُلْتُ: إِنِّي أَرْقِي مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ، وَإِنَّ اللَّهَ يَشْفِي عَلَى يَدِي مَنْ شَاءَ، فَهَلُمَّ، فَقَالَ مُحَمَّدٌ:" إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، أَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَمَّا بَعْدُ " قَالَ: فَقَالَ: أَعِدْ عَلَيَّ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ. فَأَعَادَهُنَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ، وَقَوْلَ السَّحَرَةِ، وَقَوْلَ الشُّعَرَاءِ، فَمَا سَمِعْتُ بِمِثْلِ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ، وَلَقَدْ بَلَغْنَ نَاعُوسَ الْبَحْرِ.

ص: 372

فَقَالَ: هَاتِ يَدَكَ أُبَايِعُكَ عَلَى الْإِسْلَامِ، قَالَ: فَبَايَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " وَعَلَى قَوْمِكَ "، فَقَالَ: وَعَلَى قَوْمِي» . الْحَدِيثَ.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ:

{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90] .

قَالَ: أَعِدْ، فَأَعَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " وَاللَّهِ إِنَّ لَهُ لَحَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لِطَلَاوَةً، وَإِنَّ أَعْلَاهُ لِمُثْمِرٌ، وَإِنَّ أَسْفَلَهُ.

ص: 373

لَمُغْدِقٌ، وَمَا يَقُولُ هَذَا الْبَشَرُ ".

وَفِي لَفْظٍ: أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، فَكَأَنَّهُ رَقَّ لَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا جَهْلٍ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: يَا عَمِّ، إِنَّ قَوْمَكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَجْمَعُوا لَكَ مَالًا. قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ: لِيُعْطُوكَهُ، فَإِنَّكَ أَتَيْتَ مُحَمَّدًا لِتُعَوَّضَ مِمَّا قِبَلَهُ، قَالَ: قَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنِّي مِنْ أَكْثَرِهَا مَالًا، قَالَ: فَقُلْ فِيهِ قَوْلًا يَبْلُغُ قَوْمَكَ أَنَّكَ مُنْكِرٌ لَهُ وَأَنَّكَ كَارِهٌ لَهُ، قَالَ: وَمَاذَا أَقُولُ؟ فَوَاللَّهِ مَا فِيكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمُ بِالْأَشْعَارِ مِنِّي، وَلَا أَعْلَمُ بِرَجْزِهِ وَلَا بِقَصِيدِهِ مِنِّي، وَاللَّهِ مَا يُشْبِهُ الَّذِي يَقُولُ شَيْئًا مِنْ هَذَا، وَوَاللَّهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُهُ لَحَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَإِنَّهُ لَمُثْمِرٌ أَعْلَاهُ، مُغْدِقٌ أَسْفَلُهُ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يُعْلَى، وَإِنَّهُ لَيَحْطِمُ

ص: 374

مَا تَحْتَهُ. قَالَ: لَا تَرْضَى عَنْكَ قَوْمُكَ حَتَّى تَقُولَ فِيهِ. قَالَ: فَدَعْنِي حَتَّى أُفَكِّرَ فِيهِ. فَلَمَّا فَكَّرَ قَالَ: هَذَا سِحْرٌ يُؤْثَرُ، يَأْثُرُهُ عَنْ غَيْرِهِ. فَنَزَلَتْ:

{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر: 11] » .

رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْهُ.

وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: " أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ اجْتَمَعَ، وَنَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانَ ذَا سِنٍّ فِيهِمْ، وَقَدْ حَضَرَ الْمَوْسِمَ فَقَالَ: إِنَّ وُفُودَ الْعَرَبِ سَتُقْدِمُ عَلَيْكُمْ فِيهِ، وَقَدْ سَمِعُوا بِأَمْرِ صَاحِبِكُمْ هَذَا، فَأَجْمِعُوا فِيهِ رَأْيًا وَاحِدًا وَلَا تَخْتَلِفُوا، فَيُكَذِّبُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَيَرُدُّ بَعْضُكُمْ قَوْلَ بَعْضٍ، فَقَالُوا:

ص: 375

فَأَنْتَ يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ فَقُلْ، وَأَقِمْ لَنَا رَأْيًا نَقُومُ بِهِ. فَقَالَ: بَلْ أَنْتُمْ فَقُولُوا وَأَنَا أَسْمَعُ، فَقَالُوا: نَقُولُ كَاهِنٌ، فَقَالَ: مَا هُوَ بِكَاهِنٍ، لَقَدْ رَأَيْتُ الْكُهَّانَ فَمَا هُوَ بِزَمْزَمَةِ الْكُهَّانِ. فَقَالُوا: نَقُولُ مَجْنُونٌ، فَقَالَ: مَا هُوَ بِمَجْنُونٍ، لَقَدْ رَأَيْنَا الْمَجْنُونَ وَعَرَفْنَاهُ فَمَا هُوَ بِخَنَقِهِ وَلَا تَخَالُجِهِ وَلَا وَسْوَسَتِهِ. قَالُوا: فَنَقُولُ شَاعِرٌ، فَقَالَ: مَا هُوَ بِشَاعِرٍ، قَدْ عَرَفْنَا الشِّعْرَ بِرَجَزِهِ وَهَزَجِهِ وَقَرِيظِهِ وَمَقْبُوضِهِ وَمَبْسُوطِهِ فَمَا هُوَ

ص: 376

بِالشِّعْرِ. قَالُوا: فَنَقُولُ سَاحِرٌ، قَالَ: فَمَا هُوَ بِسَاحِرٍ، قَدْ رَأَيْنَا السُّحَّارَ وَسِحْرَهُمْ، فَمَا هُوَ بِنَفْثِهِ وَلَا عَقْدِهِ. فَقَالُوا: مَا نَقُولُ يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ؟ قَالَ: وَاللَّهِ إِنْ لِقَوْلِهِ حَلَاوَةً، وَإِنَّ أَصْلَهُ لَغَدِقٌ، وَإِنَّ فَرْعَهُ لَجَنَى، فَمَا أَنْتُمْ بِقَائِلِينَ مِنْ هَذَا شَيْئًا إِلَّا عُرِفَ أَنَّهُ بَاطِلٌ، وَإِنَّ أَقْرَبَ الْقَوْلِ أَنْ تَقُولُوا: سَاحِرٌ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَبَيْنَ أَبِيهِ، وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَبَيْنَ أَخِيهِ، وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجَتِهِ، وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَعَشِيرَتِهِ. فَتَفَرَّقُوا عَنْهُ، فَجَعَلُوا يَجْلِسُونَ لِلنَّاسِ حِينَ قَدِمُوا الْمَوْسِمَ لَا يَمُرُّ بِهِمْ أَحَدٌ إِلَّا حَذَّرُوهُ إِيَّاهُ، وَذَكَرُوا لَهُ أَمْرَهُ ; فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ:

{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر: 11] .

إِلَى قَوْلِهِ:

{سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر: 26] .

وَأَنْزَلَ فِي النَّفَرِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ:

{الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر: 91] .

أَيْ أَصْنَافًا.

ص: 377

وَرَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ شَيْخٍ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَامَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ فَقَالَ: " يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، وَاللَّهِ لَقَدْ نَزَلَ بِكُمْ أَمْرٌ مَا ابْتُلِيتُمْ بِمِثْلِهِ، لَقَدْ كَانَ مُحَمَّدٌ فِيكُمْ غُلَامًا حَدَثًا، أَرْضَاكُمْ فِيكُمْ، وَأَصْدَقَكُمْ حَدِيثًا، وَأَعْظَمَكُمْ أَمَانَةً، حَتَّى إِذَا رَأَيْتُمْ فِي صُدْغِهِ الشَّيْبَ، وَجَاءَكُمْ بِمَا جَاءَكُمْ بِهِ قُلْتُمْ: سَاحِرٌ، لَا - وَاللَّهِ - مَا هُوَ بِسِحْرٍ، قَدْ رَأَيْنَا السَّحَرَةَ وَنَفْثَهُمْ وَعَقْدَهُمْ، وَقُلْتُمْ: كَاهِنٌ، لَا - وَاللَّهِ - مَا هُوَ بِكَاهِنٍ، قَدْ رَأَيْنَا الْكَهَنَةَ وَسَمِعْنَا سَجْعَهُمْ، وَقُلْتُمْ: شَاعِرٌ، لَا - وَاللَّهِ - مَا هُوَ بِشَاعِرٍ، لَقَدْ رَوَيْنَا الشِّعْرَ، وَسَمِعْنَا أَصْنَافَهُ كُلَّهَا؛ هَزَجَهُ وَرَجَزَهُ وَقَرِيظَهُ، وَقُلْتُمْ: مَجْنُونٌ، وَلَا - وَاللَّهِ - مَا هُوَ بِمَجْنُونٍ، لَقَدْ رَأَيْنَا الْمَجْنُونَ فَمَا هُوَ بِخَنْقِهِ، وَلَا تَخْلِيطِهِ، يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ انْظُرُوا فِي

ص: 378

شَأْنِكُمْ فَإِنَّهُ - وَاللَّهِ - لَقَدْ نَزَلَ بِكُمْ أَمْرٌ عَظِيمٌ ". وَكَانَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ مِنْ شَيَاطِينِ قُرَيْشٍ، وَمِمَّنْ يُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَيَنْصِبُ لَهُ الْعَدَاوَةَ.

قَالَ: وَحَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ قَالَ: " حُدِّثْتُ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ وَأَبَا سُفْيَانَ، وَالْأَخْنَسَ بْنَ شَرِيقٍ، خَرَجُوا لَيْلَةً لِيَسْمَعُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ فِي بَيْتِهِ، وَأَخَذَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَجْلِسًا لِيَسْتَمِعَ فِيهِ، وَكُلٌّ لَا يَعْلَمُ بِمَكَانِ صَاحِبِهِ، فَبَاتُوا يَسْتَمِعُونَ لَهُ حَتَّى إِذَا أَصْبَحُوا، وَطَلَعَ الْفَجْرُ تَفَرَّقُوا، فَجَمَعَتْهُمُ الطَّرِيقُ فَتَلَاوَمُوا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَا تَعُودُوا، فَلَوْ رَآكُمْ بَعْضُ سُفَهَائِكُمْ لَأَوْقَعْتُمْ فِي - نَفْسِهِ شَيْئًا، ثُمَّ انْصَرَفُوا، حَتَّى إِذَا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّانِيَةُ، عَادَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ إِلَى مَجْلِسِهِ فَبَاتُوا يَسْتَمِعُونَ لَهُ، حَتَّى إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ تَفَرَّقُوا فَجَمَعَتْهُمُ الطَّرِيقُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ مِثْلَ مَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ، ثُمَّ انْصَرَفُوا، فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ

ص: 379

الثَّالِثَةُ، فَعَلُوا كَذَلِكَ، ثُمَّ جَمَعَتْهُمُ الطَّرِيقُ فَتَعَاهَدُوا أَنْ لَا يَعُودُوا، فَلَمَّا أَصْبَحَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ أَخَذَ عَصَاهُ، ثُمَّ أَتَى أَبَا سُفْيَانَ فِي بَيْتِهِ فَقَالَ: أَخْبِرْنِي يَا أَبَا حَنْظَلَةَ عَنْ رَأْيِكَ فِيمَا سَمِعْتَ مِنْ مُحَمَّدٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا ثَعْلَبَةَ، وَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ أَشْيَاءَ أَعْرِفُهَا، وَأَعْرِفُ مَا يُرَادُ بِهَا، فَقَالَ الْأَخْنَسُ: وَأَنَا، وَالَّذِي حَلَفْتَ بِهِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ حَتَّى أَتَى أَبَا جَهْلٍ فَدَخَلَ عَلَيْهِ بَيْتَهُ، فَقَالَ: يَا أَبَا الْحَكَمِ مَا رَأْيُكَ فِيمَا سَمِعْتَ مِنْ مُحَمَّدٍ، فَقَالَ: مَاذَا سَمِعْتُ، تَنَازَعْنَا نَحْنُ وَبَنُو عَبْدِ مُنَافٍ الشَّرَفَ؛ أَطْعَمُوا فَأَطْعَمْنَا، وَحَمَلُوا فَحَمَلْنَا، وَأَعْطَوْا فَأَعْطَيْنَا، ثُمَّ إِذَا تَجَاثَيْنَا عَلَى الرُّكَبِ، وَكُنَّا كَفَرَسَيْ رِهَانٍ، قَالُوا: مِنَّا نَبِيٌّ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنَ السَّمَاءِ، فَمَتَى نُدْرِكُ هَذِهِ؟ وَاللَّهِ لَا نُؤْمِنُ بِهِ وَلَا نُصَدِّقُهُ أَبَدًا ".

وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَقَالَ: إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّ مَا يَقُولُ حَقٌّ، وَلَكِنَّ بَنِي قُصَيٍّ قَالُوا: فِينَا النَّدْوَةُ.

ص: 380

فَقُلْنَا: نَعَمْ، فِينَا الْحِجَابَةُ، فَقُلْنَا: نَعَمْ، فِينَا السِّقَايَةُ، فَقُلْنَا: نَعَمْ. وَذَكَرَ نَحْوَهُ.

وَقَدْ كَانُوا يُرْسِلُونَ إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ لِيَسْأَلُوهُمْ عَنْ أَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم.

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ قَدِمَ مُنْذُ بِضْعٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " بَعَثَتْ قُرَيْشٌ النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ، وَعُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ إِلَى أَحْبَارِ يَهُودَ بِالْمَدِينَةِ، فَقَالُوا لَهُمْ: اسْأَلُوهُمْ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَصِفُوا لَهُمْ صِفَتَهُ، وَأَخْبِرُوهُمْ بِقَوْلِهِ، فَإِنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ، وَعِنْدَهُمْ عِلْمُ مَا لَيْسَ عِنْدَنَا مِنْ عِلْمِ الْأَنْبِيَاءِ، فَخَرَجَا حَتَّى قَدِمَا الْمَدِينَةَ، فَسَأَلُوا أَحْبَارَ يَهُودَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَوَصَفُوا لَهُمْ أَمْرَهُ وَبَعْضَ قَوْلِهِ

ص: 381

وَقَالَا: إِنَّكُمْ أَهْلُ التَّوْرَاةِ، وَقَدْ جِئْنَاكُمْ لِتُخْبِرُونَا عَنْ صَاحِبِنَا هَذَا، قَالَ: فَقَالَتْ لَهُمْ أَحْبَارُ يَهُودَ: " سَلُوهُ عَنْ ثَلَاثٍ نَأْمُرْكُمْ بِهِنَّ، فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ بِهِنَّ فَهُوَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَالرَّجُلُ مُتَقَوِّلٌ، فَرُوا فِيهِ رَأْيَكُمْ. سَلُوهُ عَنْ فِتْيَةٍ ذَهَبُوا فِي الدَّهْرِ الْأَوَّلِ، مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ؟ فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ لَهُمْ حَدِيثٌ عَجِيبٌ. وَسَلُوهُ عَنْ رَجُلٍ طَوَّافٍ بَلَغَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا مَا كَانَ نَبَؤُهُ. وَسَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، مَا هُوَ؟ فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ نَبِيٌّ فَاتَّبِعُوهُ، وَإِنْ هُوَ لَمْ يُخْبِرْكُمْ فَهُوَ رَجُلٌ مُتَقَوِّلٌ، فَاصْنَعُوا فِي أَمْرِهِ مَا بَدَا لَكُمْ.

فَأَقْبَلَ النَّضْرُ وَعُقْبَةُ، حَتَّى قَدِمَا مَكَّةَ عَلَى قُرَيْشٍ، فَقَالَا: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ قَدْ جِئْنَاكُمْ بِفَصْلِ مَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ، قَدْ أَمَرَنَا أَحْبَارُ يَهُودَ أَنْ نَسْأَلَهُ عَنْ أُمُورٍ، فَأَخْبَرُوهُمْ بِهَا فَجَاءُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، خَبِّرْنَا فَسَأَلُوهُ عَمَّا أَمَرُوهُمْ بِهِ. فَقَالَ: لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُخْبِرُكُمْ، وَجَاءَهُ جِبْرِيلُ مِنَ اللَّهِ بِسُورَةِ الْكَهْفِ، فِيهَا خَبَرُ مَا سَأَلُوهُ عَنْهُ، مِنْ أَمْرِ الْفِتْيَةِ، وَالرَّجُلِ الطَّوَّافِ، وَقَوْلِ اللَّهِ:

{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] .

ص: 382

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم افْتَتَحَ السُّورَةَ فَقَالَ:

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف: 1] .

يَعْنِي مُحَمَّدًا، إِنَّكَ رَسُولِي فِي تَحْقِيقِ مَا سَأَلُوهُ عَنْهُ مِنْ نُبُوَّتِهِ.

{وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّمًا} [الكهف: 1] .

أَيْ أَنْزَلَهُ قَيِّمًا؛ أَيْ مُعْتَدِلًا لَا اخْتِلَافَ فِيهِ، وَذَكَرَ تَفْسِيرَ السُّورَةِ إِلَى قَوْلِهِ:

{أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف: 9] .

أَيْ وَمَا قَدَّرُوا مِنْ قَدْرِي، وَفِيمَا صَنَعْتُ مِنْ أَمْرِ الْخَلَائِقِ، وَمَا وَضَعْتُ عَلَى الْعِبَادِ مِنْ حُجَّتِي، مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ.

قَالَ مُجَاهِدٌ: " لَيْسَ بِأَعْجَبَ مِنْ آيَاتِنَا مَنْ هُوَ أَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ ".

ص: 383

وَفِي تَفْسِيرِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " الَّذِي آتَيْتُكَ مِنَ الْعِلْمِ وَالسُّنَّةِ وَالْكِتَابِ، أَفْضَلُ مِنْ شَأْنِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ ".

قُلْتُ: وَالْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ السَّلَفُ، فَإِنَّ قِصَّةَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ هِيَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، فَإِنَّ مُكْثَهُمْ نِيَامًا لَا يَمُوتُونَ ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ، آيَةٌ دَالَّةٌ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَأَنَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ، لَيْسَ كَمَا يَقُولُهُ أَهْلُ الْإِلْحَادِ. وَهِيَ آيَةٌ عَلَى مَعَادِ الْأَبْدَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:

{وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا} [الكهف: 21] .

وَكَانَ النَّاسُ قَدْ تَنَازَعُوا فِي زَمَانِهِمْ: هَلْ تُعَادُ الْأَرْوَاحُ دُونَ الْأَبْدَانِ.

وَإِخْبَارُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِقِصَّتِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعَلِّمَهُ بَشَرٌ آيَةٌ عَلَى نُبُوَّتِهِ، فَكَانَتْ قِصَّتُهُمْ آيَةً عَلَى أُصُولِ الْإِيمَانِ الثَّلَاثَةِ ; الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْإِيمَانِ بِرَسُولِهِ. وَمَعَ هَذَا فَلَيْسُوا مِنْ آيَاتِ اللَّهِ بِعَجَبٍ، بَلْ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَا هُوَ أَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ.

ص: 384

وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى سُؤَالَهُمْ عَنِ الْآيَاتِ الَّتِي كَانُوا يَسْأَلُونَهُ عَنْهَا لِيَعْلَمُوا: هَلْ هُوَ نَبِيٌّ صَادِقٌ أَمْ كَاذِبٌ؟ فَقَالَ تَعَالَى:

{وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ} [الكهف: 83] .

وَقَالَ:

{لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} [يوسف: 7] .

إِلَى قَوْلِهِ:

{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} [يوسف: 102] .

إِلَى قَوْلِهِ:

{وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 105] .

إِلَى قَوْلِهِ:

{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 109] .

ص: 385

وَقَالَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ قِصَّةَ أَهْلِ الْكَهْفِ الَّتِي سَأَلُوهُ عَنْهَا:

{وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف: 83] .

أَيْ يَسْأَلُونَكَ عَنْ ذَاكَ، وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ هَذَا.

وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْ إِخْبَارِهِ عَنِ الْغَيْبِ الْمَاضِي، الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ مِنَ الْبَشَرِ، إِلَّا مِنْ جِهَةِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ أَخْبَرَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ، لَيْسَ هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي تَزْعُمُهُ مَلَاحِدَةُ الْمُتَفَلْسِفَةِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ الْغَيْبِيَّةَ الْمُعَيَّنَةَ الْمُفَصَّلَةَ لَا يُؤْخَذُ خَبَرُهَا قَطُّ إِلَّا عَنْ نَبِيٍّ، كَمُوسَى، وَمُحَمَّدٍ، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِمَّنْ يَدَّعِي الْمُكَاشَفَاتِ؛ لَا مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، وَلَا مِنْ غَيْرِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ يُخْبِرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ; وَلِهَذَا كَانَ هَذَا مِنْ أَعْلَامِ الْأَنْبِيَاءِ وَخَصَائِصِهِمُ الَّتِي لَا يَشْرَكُهُمْ فِيهَا غَيْرُهُمْ.

وَأَهْلُ الْمِلَلِ مُتَّفِقُونَ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ الصَّرِيحُ مِنْ أَنَّ هَذَا

ص: 386

لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِخَبَرِ نَبِيٍّ. فَإِذَا كَانَ مُحَمَّدٌ قَدْ أُخْبِرَ مِنْ ذَلِكَ بِمَا أُخْبِرَ بِهِ مُوسَى وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَأُخْبِرَ بِمَا يَعْلَمُونَهُ مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ إِلَّا بِالتَّعَلُّمِ مِنْهُمْ، وَقَدْ عُرِفَ أَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَتَعَلَّمْ هَذَا مِنْ بَشَرٍ، كَانَ هَذَا آيَةً وَبُرْهَانًا قَاطِعًا عَلَى نُبُوَّتِهِ،. ثُمَّ الْعِلْمُ بِأَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَتَعَلَّمْ هَذَا مِنْ بَشَرٍ يَحْصُلُ فِي حَيَاتِهِ، أَمَّا قَوْمُهُ الْمُبَاشِرُونَ لَهُ، الْخَبِيرُونَ بِحَالِهِ، فَكَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّمْ هَذَا مِنْ بَشَرٍ، فَقَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ بِذَلِكَ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَعْرِفْ حَالَهُ إِلَّا بِالسَّمَاعِ فَيَعْلَمُ ذَلِكَ بِطُرُقٍ:

مِنْهَا: تَوَاتُرُ أَخْبَارِهِ، وَكَيْفَ كَانَ؟ مِنْ حِينِ وُلِدَ إِلَى أَنْ مَاتَ كَمَا هِيَ مُسْتَفِيضَةٌ مَشْهُورَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ، يَعْلَمُهَا مَنْ كَانَ لَهُ خِبْرَةٌ بِذَلِكَ، أَعْظَمَ مِمَّا يَعْلَمُ بِهِ حَالَ مُوسَى وَعِيسَى، فَإِنَّ مُحَمَّدًا ظَهَرَ أَمْرُهُ، وَانْتَشَرَتْ أَخْبَارُهُ، وَتَوَاتَرَتْ أَحْوَالُهُ، أَعْظَمَ مِنْ جَمِيعِ بَنِي آدَمَ. فَمَا بَقِيَ مَا دُونَ هَذَا مِنْ أَحْوَالِهِ يَخْفَى عَلَى النَّاسِ فَكَيْفَ مِثْلُ هَذَا؟ !

وَمِنْهَا: أَنَّهُ أُخْبِرَ فِي الْقُرْآنِ بِمَا لَا يُوجَدُ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ، مِثْلُ:

ص: 387

قِصَّةِ هُودٍ وَصَالِحٍ وَشُعَيْبٍ، وَبَعْضِ التَّفَاصِيلِ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى؛ مِثْلُ تَكْلِيمِ الْمَسِيحِ فِي الْمَهْدِ، وَمِثْلُ نُزُولِ الْمَائِدَةِ، فَإِنَّ هَذَا لَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَمِثْلُ إِيمَانِ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَيَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذَا تَعَلَّمَهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَوْمُهُ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ، بَلْ قَدْ أَرَاهُمْ وَغَيْرَهُمْ آثَارَ الْمُنْذَرِينَ الَّذِينَ عَاقَبَهُمُ اللَّهُ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ، كَقَوْمِ عَادٍ وَثَمُودَ، وَغَيْرِهِمْ.

فَيَسْتَدِلُّ النَّاسُ بِالْآثَارِ الْمَوْجُودَةِ عَلَى صِدْقِ الرُّسُلِ، وَعُقُوبَةِ اللَّهِ لِمَنْ يُكَذِّبُهُمْ. وَيَسْتَدِلُّ قَوْمُهُ وَغَيْرُهُمْ عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي لَمْ يَتَعَلَّمْهَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِتَصْدِيقِ أَهْلِ الْكِتَابِ لَهُ فِيمَا وَافَقَهُمْ فِيهِ، مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّمْ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَيَكُونُ هَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ شَيْئًا كَمَا قَدْ يَظُنُّهُ بَعْضُهُمْ، وَذَلِكَ مِنَ الْوَجْهَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ.

وَمِنْهَا: أَنَّ أَكْثَرَ قَوْمِهِ كَانُوا مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ عَدَاوَةً لَهُ، وَحِرْصًا عَلَى تَكْذِيبِهِ وَالطَّعْنِ فِيهِ، وَبَحْثًا عَمَّا بِهِ يَقْدَحُونَ فِيهِ. فَلَوْ كَانَ قَدْ تَعَلَّمَ هَذِهِ الْأَخْبَارَ مِنْ بَشَرٍ لَكَانُوا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ، وَيَقْدَحُونَ بِهِ فِيهِ وَيُظْهِرُونَهُ، وَلَكَانَ هَذَا مِمَّا يَظْهَرُ أَعْظَمَ مِمَّا ظَهَرَ غَيْرُهُ. فَلَمَّا لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنَ الْقَدْحِ بِهِ فِيهِ مَعَ

ص: 388

عِلْمِهِمْ بِحَالِهِ، وَرَغْبَتِهِمْ فِي الْقَدْحِ بِهِ. وَمَعَ كَمَالِ الدَّاعِي وَالْقُدْرَةِ، يَجِبُ وُجُودُ الْمَقْدُورِ، فَلَمَّا كَانَ دَاعِيهُمْ تَامًّا، وَلَمْ يَقْدَحُوا، عُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لِعَجْزِهِمْ. وَعَجْزُهُمْ عَنِ الْقَدْحِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِحَالِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّمْهُ مِنْ بَشَرٍ.

وَمِنْهَا: أَنْ يُقَالَ: مِثْلُ هَذَا لَوْ وَقَعَ لَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ مَا تَتَوَفَّرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ، بَلْ كَانَ الْمُتَّبِعُونَ لَهُ الْمُؤْمِنُونَ بِهِ إِذَا اطَّلَعُوا عَلَى ذَلِكَ فَلَا بُدَّ أَنْ يُشِيعُوهُ وَيُعْلِنُوهُ، فَكَيْفَ الْمُخَالِفُونَ لَهُ، الْمُكَذِّبُونَ لَهُ؟ فَإِنَّ الْقَوْمَ الْمُتَفَرِّقِينَ الَّذِينَ لَمْ يَتَوَاطَئُوا، كَمَا لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى تَعَمُّدِ الْكَذِبِ، فَلَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى كِتْمَانِ مِثْلِ ذَلِكَ، بَلْ يَجْتَهِدُ الْمُلُوكُ وَالرُّؤَسَاءُ فِي إِخْفَاءِ مَا يُبْطِنُونَهُ مِنْ أَمْرِ مُلْكِهِمُ الَّذِي بَنَوْهُ عَلَيْهِ، وَيُحَلِّفُونَ أَوْلِيَاءَهُمْ عَلَى كِتْمَانِ ذَلِكَ، وَيَبْذُلُونَ لَهُمُ الرَّغْبَةَ وَالرَّهْبَةَ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ يَظْهَرُ ذَلِكَ كَمَا فَعَلَ الْقَرَامِطَةُ الْبَاطِنِيَّةُ، مَنْ أَهْلِ

ص: 389

الْبَحْرَيْنِ بَنِي عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَيْمُونٍ الْقَدَّاحِ، وَكَمَا عَرَفَ النَّاسُ أَنَّ النَّصِيرِيَّةَ لَهُمْ خِطَابٌ يُسِرُّونَهُ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَكْثَرُ النَّاسِ مَا ذَلِكَ الْخِطَابُ الَّذِي يُسِرُّونَهُ.

لَا سِيَّمَا وَالَّذِينَ آمَنُوا بِحَمْدِهِ وَاتَّبَعُوهُ - أَوَّلًا - مِنَ الْمُهَاجِرِينَ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، هَجَرُوا لِأَجْلِهِ الْأَوْطَانَ وَالْأَهْلَ وَالْمَالَ، وَصَبَرُوا عَلَى أَنْوَاعِ الْمَكَارِهِ وَالْأَذَى: طَائِفَةٌ كَبِيرَةٌ ذَهَبَتْ إِلَى الْحَبَشَةِ،

ص: 390

مُهَاجِرَةً بِدِينِهَا لَمَّا عَذَّبَهَا الْمُخَالِفُونَ لَهُ حَتَّى يَرْجِعُوا عَنْ دِينِهِ، وَطَائِفَةٌ كَانُوا بِمَكَّةَ يُعَذَّبُونَ ; هَذَا يُقْتَلُ، وَهَذَا يُخْرَجُ بِهِ إِلَى بَطْحَاءِ مَكَّةَ فِي الْحَرِّ وَتُوضَعُ الصَّخْرَةُ عَلَى بَطْنِهِ حَتَّى يَكْفُرَ، وَهَذَا يُمْنَعُ رِزْقَهُ وَيُتْرَكُ جَائِعًا عُرْيَانًا.

ثُمَّ إِنَّهُمْ هَجَرُوا أَحَبَّ الْبِلَادِ إِلَيْهِمْ، وَأَفْضَلَهَا عِنْدَهُمْ: مَكَّةَ - أُمِّ الْقُرَى - إِلَى مَدِينَةٍ كَانُوا فِيهَا مُحْتَاجِينَ إِلَى أَهْلِهَا، وَتَرَكُوا أَمْوَالَهُمْ بِمَكَّةَ، قَالَ تَعَالَى:

{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 8] .

وَقَالَ تَعَالَى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج: 39] .

ص: 391

وَقَالَ تَعَالَى: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [آل عمران: 195] .

وَقَوْلُهُ:

{يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} [الممتحنة: 1] .

وَجَمِيعُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ آمَنُوا بِهِ طَوْعًا وَاخْتِيَارًا، قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرَ أَحَدٌ بِقِتَالٍ.

فَإِنَّهُ مَكَثَ بِمَكَّةَ بِضْعَ عَشْرَةَ سَنَةً لَا يُقَاتِلُ أَحَدًا، وَلَمْ يُؤْمَرْ بِقِتَالٍ، بَلْ كَانَ لَا يُكْرِهُ أَحَدًا عَلَى الدِّينِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:

{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256] .

وَكَانُوا خَلْقًا كَثِيرًا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخَلْقَ الْكَثِيرَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا شَخْصًا قَدْ جَاءَ بِدِينٍ لَا يُوَافِقُهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَطَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ وَيَتَّبِعُوهُ، وَيُفَارِقُوا دِينَ آبَائِهِمْ، وَيَصْبِرُوا عَلَى عَدَاوَةِ النَّاسِ وَأَذَاهُمْ، وَيَهْجُرُوا لِأَجْلِهِ مَا تَرْغَبُ النُّفُوسُ فِيهِ مِنَ الْأَهْلِ وَالْمَالِ وَالْوَطَنِ، وَهُوَ - مَعَ

ص: 392

ذَلِكَ - لَمْ يُعْطِ أَحَدًا مِنْهُمْ مَالًا، وَلَا كَانَ لَهُ مَالٌ يُعْطِيهِمْ إِيَّاهُ، وَلَا وَلَّى أَحَدًا وِلَايَةً، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ وِلَايَةٌ يُوَلِّيهِمْ إِيَّاهَا، وَلَا أَكْرَهَ أَحَدًا، وَلَا بِقَرْصَةٍ فِي جِلْدِهِ، فَضْلًا عَنْ سَوْطٍ أَوْ عَصًا أَوْ سَيْفٍ، وَهُوَ - مَعَ ذَلِكَ - يَقُولُ عَمَّا يُخْبِرُهُمْ بِهِ مِنَ الْغَيْبِ:" «اللَّهُ أَخْبَرَنِي بِهِ، لَمْ يُخْبِرْنِي بِذَلِكَ بَشَرٌ» ".

فَلَوْ كَانُوا - مَعَ ذَلِكَ - يَعْلَمُونَ أَنَّ تَعَلُّمَهُ مِنْ بَشَرٍ لَكَانَ هَذَا مِمَّا يَقُولُهُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ. وَيَمْتَنِعُ فِي جِبِلَّةِ بَنِي آدَمَ وَفِطَرِهِمْ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ كَاذِبٌ وَأَنَّهُ قَدْ تَعَلَّمَ هَذَا مِنْ بَشَرٍ، وَلَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يُخْبِرُ بِذَلِكَ، مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا كَثِيرِينَ لَا يُمْكِنُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ وَالْكِتْمَانِ، بَلْ وَلَا دَاعِيَ لَهُمْ يَدْعُوهُمْ إِلَى ذَلِكَ. وَيَمْتَنِعُ أَنْ لَا يَعْلَمُوا ذَلِكَ، وَهُمْ بِطَانَتُهُ الْمُطَّلِعُونَ عَلَى أَحْوَالِهِ، وَهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ أَعْدَائِهِ الْمُطَّلِعِينَ عَلَى حَالِهِ.

وَالْقُرْآنُ كَانَ يَنْزِلُ شَيْئًا فَشَيْئًا، لَمْ يَنْزِلْ جُمْلَةً، بَلْ كَانُوا يَسْأَلُونَهُ عَنِ الشَّيْءِ بَعْدَ الشَّيْءِ مِنَ الْغَيْبِ بَيْنَ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَبَاطَنُوهُ وَاطَّلَعُوا عَلَى أَسْرَارِهِ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ يُخْبِرُهُمْ بِهِ، وَهُمْ مُطَّلِعُونَ عَلَى أَمْرِهِ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ، وَسُؤَالًا بَعْدَ سُؤَالٍ، وَهَذَا كَانَ

ص: 393

بِمَكَّةَ، وَلَيْسَ بِهَا أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ، لَا الْيَهُودِ وَلَا النَّصَارَى، ثُمَّ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَبِهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْيَهُودِ ; قَيْنُقَاعَ وَالنَّضِيرِ وَقُرَيْظَةَ، وَلَعَلَّهُمْ كَانُوا بِقَدْرِ نِصْفِ أَهْلِهَا، أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ، وَهُمْ - أَيْضًا - يَسْأَلُونَهُ عَنِ الْغُيُوبِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا نَبِيٌّ فَيُخْبِرُهُمْ بِهَا، وَيَتْلُو عَلَيْهِمْ مَا سَأَلَهُ عَنْهُ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْغَيْبِ، وَمَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ، وَيَتْلُو عَلَيْهِمْ هَذَا الْغَيْبَ الَّذِي أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، وَيُبَيِّنُ أَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُهُ ذَلِكَ، لَمْ يُعْلِمْهُ إِيَّاهُ بَشَرٌ، فَآمَنَ بِهِ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَكَفَرَتْ بِهِ طَائِفَةٌ أُخْرَى، وَالطَّائِفَتَانِ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ هَذَا تَعَلَّمَهُ مِنَّا أَوْ مِنْ إِخْوَانِنَا أَوْ نُظَرَائِنَا، وَلَا إِنَّكَ قَرَأْتَهُ فِي كُتُبِنَا. مَعَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَدْ تَعَلَّمَ ذَلِكَ مِنْهُمْ لَكَانَ شُيُوخُهُ مِنْهُمْ، وَشُيُوخُهُمْ إِذَا عَلِمُوا أَنَّهُ كَاذِبٌ تَعَلَّمَهُ مِنْهُمْ، يَمْتَنِعُ أَنْ يُصَدِّقُوهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، بَلْ تَصْدِيقُهُمُ الْكِتَابَ الْأَوَّلَ، وَعِلْمُهُمْ بِكَذِبِ مَنِ ادَّعَى نُزُولَ كِتَابٍ ثَانٍ وَقَدْ تَعَلَّمَ مِنْهُمْ يَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يُبَيِّنُوا أَمْرَهُ، وَيُظْهِرُوا كَذِبَهُ، وَيَقُولُوا لِلنَّاسِ تَعَلَّمَ مِنَّا، نَحْنُ أَخْبَرْنَاهُ بِذَلِكَ، لَا سِيَّمَا مَعَ مَا فَعَلَهُ بِالْيَهُودِ مِنَ الْقَتْلِ وَالْحِصَارِ وَالْجَلَاءِ وَالسَّبْيِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَهَذَا لَوْ وَقَعَ، لَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ مَا تَتَوَفَّرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ، يَنْقُلُهُ الْمُوَافِقُ وَالْمُخَالِفُ، فَلَمَّا لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ أَحَدٌ، وَلَمْ يَنْقُلْهُ أَحَدٌ مَعَ مَا أَظْهَرَهُ مِنَ الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ الَّتِي عَلِمَهَا الْخَاصُّ وَالْعَامُّ،

ص: 394

بِأَنَّ هَذَا مِمَّا أَنْبَأَنِي اللَّهُ، لَمْ يُخْبِرْنِي بِهِ بَشَرٌ، كَانَ هَذَا دَلِيلًا قَاطِعًا بَيِّنًا فِي أَنَّ هَذِهِ الْأَخْبَارَ الْغَيْبِيَّةَ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا نَبِيٌّ أَعْلَمَهُ اللَّهُ بِهَا، أَوْ مَنْ تَعَلَّمَهَا مِنْ نَبِيٍّ: هِيَ مِمَّا أَنْبَأَهُ اللَّهُ بِهِ، وَلَمْ يُعَلِّمْهُ ذَلِكَ بَشَرٌ، وَهَذَا مِنَ الْغَيْبِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ - فِي السُّورَةِ الَّتِي فِيهَا اسْتِمَاعُ الْجِنِّ لِلْقُرْآنِ، وَإِنْذَارُ قَوْمِهِمْ بِهِ حَيْثُ قَالَ -:

{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا} [الجن: 1] .

إِلَى قَوْلِهِ:

{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} [الجن: 19] .

ص: 395

فَقَوْلُهُ تَعَالَى:

{فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ} [الجن: 26] .

يُبَيِّنُ أَنَّهُ غَيْبٌ يُضَافُ إِلَيْهِ يَخْتَصُّ بِهِ، لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ، بِخِلَافِ مَا يَغِيبُ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ وَيَعْلَمُهُ بَعْضُهُمْ، فَإِنَّ هَذَا قَدْ يَتَعَلَّمُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ.

فَمِمَّا سَأَلَهُ عَنْهُ أَهْلُ الْكِتَابِ فِي الْمَدِينَةِ مَسَائِلُ، وَهِيَ غَيْرُ الْمَسَائِلِ الَّتِي كَانَ يُسْأَلُ عَنْهَا وَهُوَ بِمَكَّةَ، كَمَا كَانَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ يُرْسِلُونَ إِلَى الْيَهُودِ بِالْمَدِينَةِ، يَسْأَلُونَهُمْ عَنْ مُحَمَّدٍ، فَيُرْسِلُ الْيَهُودُ بِمَسَائِلَ يَمْتَحِنُونَ بِهَا نُبُوَّتَهُ، وَذَلِكَ مِثْلُ مَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: " «جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَقْدَمَهُ

ص: 396

الْمَدِينَةَ فَقَالَ: إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ ثَلَاثٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا نَبِيٌّ: مَا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، وَمَا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ، وَالْوَلَدُ يَنْزِعُ إِلَى أُمِّهِ تَارَةً، وَإِلَى أَبِيهِ ". قَالَ:" أَخْبَرَنِي جِبْرِيلُ آنِفًا ". قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: ذَاكَ عَدُوُّ الْيَهُودِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. " أَمَّا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فَنَارٌ تَحْشُرُهُمْ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَأَمَّا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَزِيَادَةُ كَبِدِ حُوتٍ، وَأَمَّا الْوَلَدُ، فَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ نَزَعَ الْوَلَدُ إِلَى أَبِيهِ، وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الْمَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ نَزَعَ الْوَلَدُ إِلَى أُمِّهِ "، فَقَالَ:" أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ "، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ بُهْتٌ، فَإِنْ عَلِمُوا بِإِسْلَامِي قَبْلَ أَنْ تَسْأَلَهُمْ عَنِّي بَهَتُونِي عِنْدَكَ، فَجَاءَتِ الْيَهُودُ، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ رَجُلٍ عَبْدُ اللَّهِ فِيكُمْ، قَالُوا: خَيْرُنَا وَابْنُ خَيْرِنَا، وَسَيِّدُنَا وَابْنُ سَيِّدِنَا، وَعَالِمُنَا وَابْنُ عَالِمِنَا، قَالَ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ، قَالُوا: أَعَاذَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ فَقَالَ: " أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ

ص: 397

أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ "، فَقَالُوا: " شَرُّنَا وَابْنُ شَرِّنَا "، وَتَنَقَّصُوهُ. قَالَ: فَهَذَا مَا كُنْتُ أَخَافُ وَأَحْذَرُ» .

وَرَوَى مُسْلِمٌ - فِي صَحِيحِهِ - عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: " «كُنْتُ قَائِمًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَاءَ حَبْرٌ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ، وَقَالَ: " السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ "، فَدَفَعْتُهُ دَفْعَةً كَادَ يُصْرَعُ مِنْهَا، فَقَالَ: لِمَ تَدْفَعُنِي؟ قَالَ: قُلْتُ: أَلَا تَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إِنَّمَا سَمَّيْتُهُ بِاسْمِهِ الَّذِي سَمَّاهُ بِهِ أَهْلُهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اسْمِي الَّذِي سَمَّانِي بِهِ أَهْلِي مُحَمَّدٌ، فَقَالَ: الْيَهُودِيُّ جِئْتُ أَسْأَلُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَنْفَعُكَ شَيْءٌ إِنْ حَدَّثْتُكَ. قَالَ: أَسْمَعُ بِأُذُنِي، فَنَكَتَ بِعَوْدٍ مَعَهُ، فَقَالَ لَهُ: سَلْ، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: " أَيْنَ النَّاسُ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ؟ " فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فِي الظُّلْمَةِ دُونَ الْجِسْرِ، قَالَ: فَمَنْ أَوَّلُ النَّاسِ إِجَازَةً؟ قَالَ: فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: فَمَا تُحْفَتُهُمْ حِينَ يَدْخُلُونَ؟ قَالَ: زِيَادَةُ كَبِدِ نُونٍ، قَالَ: وَمَا غِذَاؤُهُمْ

ص: 398

عَلَى أَثَرِهِ؟ قَالَ: يُنْحَرُ لَهُمْ ثَوْرُ الْجَنَّةِ الَّذِي كَانَ يَأْكُلُ مِنْ أَطْرَافِهَا قَالَ: فَمَا شَرَابُهُمْ عَلَيْهِ؟ قَالَ: مِنْ عَيْنٍ فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا قَالَ: صَدَقْتَ. قَالَ: وَجِئْتُ أَسْأَلُكَ عَنْ شَيْءٍ لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ رَجُلٌ أَوْ رَجُلَانِ، قَالَ: يَنْفَعُكَ إِذَا حَدَّثْتُكَ قَالَ: أَسْمَعُ بِأُذُنِي، قَالَ: جِئْتُ أَسْأَلُكَ عَنِ الْوَلَدِ، قَالَ: مَاءُ الرَّجُلِ أَبْيَضُ، وَمَاءُ الْمَرْأَةِ أَصْفَرُ، فَإِذَا اجْتَمَعَا فَعَلَا مَنِيُّ الرَّجُلِ مَنِيَّ الْمَرْأَةِ أَذْكَرَا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَإِذَا عَلَا مِنَيُّ الْمَرْأَةِ مَنِيَّ الرَّجُلِ آنَثَا بِإِذْنِ اللَّهِ فَقَالَ: الْيَهُودِيُّ صَدَقْتَ، وَإِنَّكَ لَنَبِيٌّ، ثُمَّ انْصَرَفَ. فَقَالَ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّهُ سَأَلَنِي هَذَا الَّذِي سَأَلَنِي عَنْهُ، وَمَا أَعْلَمُ شَيْئًا مِنْهُ حَتَّى أَتَانِي بِهِ اللَّهُ تَعَالَى» .

وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ بَهْرَامَ، عَنْ

ص: 399

شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «حَضَرَتْ عِصَابَةٌ مِنَ الْيَهُودِ يَوْمًا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَدِّثْنَا عَنْ خِلَالٍ نَسْأَلُكَ عَنْهَا لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا نَبِيٍّ، فَقَالَ: سَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ، وَلَكِنِ اجْعَلُوا لِي ذِمَّةَ اللَّهِ، وَمَا أَخَذَ يَعْقُوبُ عَلَى بَنِيهِ إِنْ أَنَا حَدَّثْتُكُمْ بِشَيْءٍ تَعْرِفُونَهُ صِدْقًا لَتُتَابِعُونِي عَلَى الْإِسْلَامِ قَالُوا: لَكَ ذَلِكَ، قَالَ: فَسَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ، قَالُوا: أَخْبِرْنَا عَنْ أَرْبَعِ خِلَالٍ ; أَخْبِرْنَا عَنِ الطَّعَامِ الَّذِي حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ، وَأَخْبِرْنَا عَنْ مَاءِ الرَّجُلِ كَيْفَ يَكُونُ الذَّكَرُ مِنْهُ حَتَّى يَكُونَ ذَكَرًا، وَكَيْفَ يَكُونُ الْأُنْثَى حَتَّى يَكُونَ أُنْثَى، وَأَخْبِرْنَا كَيْفَ هَذَا النَّبِيُّ فِي النَّوْمِ، وَمَنْ وَلِيُّكَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ؟ قَالَ: فَعَلَيْكُمْ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ لَئِنْ أَنَا حَدَّثْتُكُمْ لَتُتَابِعُونِي، فَأَعْطَوْهُ مَا شَاءَ مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ، قَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى ; هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ إِسْرَائِيلَ - يَعْقُوبَ - مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا طَالَ سَقَمُهُ فِيهِ فَنَذَرَ لِلَّهِ نَذْرًا لَئِنْ شَفَاهُ اللَّهُ مِنْ سَقَمِهِ لِيُحَرِّمَنَّ أَحَبَّ الشَّرَابِ إِلَيْهِ، وَأَحَبَّ الطَّعَامِ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَحَبُّ الشَّرَابِ إِلَيْهِ أَلْبَانَ الْإِبِلِ، وَأَحَبُّ الطَّعَامِ إِلَيْهِ لُحُومَ الْإِبِلِ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ اشْهَدْ عَلَيْهِمْ، قَالَ: فَأَنْشُدُكُمْ

ص: 400

بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى ; هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ مَاءَ الرَّجُلِ غَلِيظٌ أَبْيَضُ، وَأَنَّ مَاءَ الْمَرْأَةِ رَقِيقٌ أَصْفَرُ فَأَيُّهُمَا عَلَا كَانَ الْوَلَدُ، وَالشَّبَهُ لَهُ بِإِذْنِ اللَّهِ، قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ، قَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى ; هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ تَنَامُ عَيْنَاهُ، وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ، قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ، قَالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ، قَالُوا: أَنْتَ الْآنَ حَدِّثْنَا مَنْ وَلِيُّكَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَعِنْدَهَا نُجَامِعُكَ أَوْ نُفَارِقُكَ، قَالَ: وَلِيِّي جِبْرِيلُ عليه السلام، وَلَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا قَطُّ إِلَّا وَهُو وَلِيُّهُ، قَالُوا: فَعِنْدَهَا نُفَارِقُكَ، لَوْ كَانَ غَيْرَهُ لَاتَّبَعْنَاكَ وَصَدَّقْنَاكَ، قَالَ: فَمَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تُصَدِّقُوا قَالُوا: إِنَّهُ عَدُّوُنَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل:

{مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا} [البقرة: 97] .

إِلَى قَوْلِهِ:

{فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 98] » .

ص: 401

فَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ عُلَمَاءَ الْيَهُودِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَغَيْرِهِ كَانُوا يَسْأَلُونَهُ عَنْ مَسَائِلَ، يَقُولُونَ فِيهَا: لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا نَبِيٌّ: أَيْ وَمَنْ تَعَلَّمَهَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّ السَّائِلِينَ كَانُوا يَعْلَمُونَهَا، كَمَا جَاءَ - أَيْضًا -:" لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ رَجُلٌ أَوْ رَجُلَانِ ". فَكَانُوا يَمْتَحِنُونَهُ بِهَذِهِ الْمَسَائِلِ لِيَتَبَيَّنَ هَلْ يَعْلَمُهَا، وَإِذَا كَانَ يَعْلَمُ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا نَبِيٌّ، كَانَ نَبِيًّا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَقْصُودَهُمْ بِذَلِكَ إِنَّمَا يَتِمُّ إِذَا عَلِمُوا أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ هَذِهِ الْمَسَائِلَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَمَنْ تَعَلَّمَ مِنْهُمْ، وَإِلَّا فَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الْمَسَائِلَ كَانَ تَعَلَّمَهَا بَعْضُ النَّاسِ، لَكِنْ تَعَلَّمَهَا هَؤُلَاءِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ.

وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ هَؤُلَاءِ السَّائِلِينَ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْبَشَرِ لَمْ يُعَلِّمْهُ مَا عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْعِلْمِ ; إِذْ لَوْ جَوَّزُوا ذَلِكَ عَلَيْهِ لَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُهُمْ مِنِ امْتِحَانِهِ ; هَلْ هُوَ نَبِيٌّ أَمْ لَا؟ فَإِنَّهُمْ إِذَا جَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ تَعَلَّمَ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا نَبِيٌّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، كَانَ مِنْ جِنْسِهِمْ، فَلَمْ يَكُنْ فِي عِلْمِهِ بِهَا وَإِجَابَتِهِمْ عَنْهَا دَلِيلٌ عَلَى نُبُوَّتِهِ.

فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ السَّائِلُونَ يَقْطَعُونَ بِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّمْ مَنْ أَهْلِ

ص: 402

الْكِتَابِ. وَهَذَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ أَنْ أَقَامَ بِمَكَّةَ بِضْعَةَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَانْتَشَرَ أَمْرُهُ، وَكَذَّبَهُ قَوْمُهُ، وَحَرَصُوا عَلَى إِبْطَالِ دَعْوَتِهِ بِكُلِّ طَرِيقٍ يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ، فَلَوْ كَانَ بِمَكَّةَ أَوْ بِالْمَدِينَةِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَتَعَلَّمُ مِنْهُ، أَوْ لَقِيَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي طَرِيقٍ فَتَعَلَّمَ مِنْهُ، لَكَانَ ذَلِكَ يَقْدَحُ فِي مَقْصُودِ هَؤُلَاءِ السَّائِلِينَ.

فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّمْ شَيْئًا مِنَ الْغَيْبِ مِنْ بَشَرٍ، لَا سِيَّمَا وَلَوْ كَانَ قَدْ تَعَلَّمَهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَقَدْ كَذَّبَهُمْ وَحَارَبَهُمْ، لَأَظْهَرُوا ذَلِكَ، وَلَشَاعَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، فَكَانَ إِذَا أَجَابَهُمْ قَالُوا: هَذَا تَعَلَّمْتَهُ مِنْ فُلَانٍ، وَفُلَانٌ مِنَّا، أَوْ هَذَا عَلَّمَكَهُ بَعْضُ أَهْلِ دِينِنَا. وَهَذَا كَمَا كَانُوا يُرْسِلُونَ إِلَى قَوْمِهِ مِنْ قُرَيْشٍ لِيَسْأَلُوهُ عَنْ مَسَائِلَ، وَيَقُولُونَ: إِنْ أَخْبَرَكُمْ بِهِنَّ فَهُوَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَإِلَّا فَهُوَ مُتَقَوِّلٌ، وَيَقُولُونَ: سَلُوهُ عَنْ مَسَائِلَ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا نَبِيٌّ.

فَهَذَا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمِنْ قُرَيْشٍ قَوْمُهُ، يُبَيِّنُ أَنَّ قَوْمَهُ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ كَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ الْبَشَرِ، إِذْ لَوْ جَوَّزُوا ذَلِكَ لَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُهُمْ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَقُولُوا لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا نَبِيٌّ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا جَمِيعًا يَعْلَمُونَ أَنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْلَمُ هَذِهِ الْمَسَائِلَ، وَبِذَلِكَ يُعْرَفُ هَلْ يُجِيبُ فِيهَا بِمَا قَالَتْهُ الْأَنْبِيَاءُ، أَوْ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّ مَنْ كَانَ تَعَلَّمَهَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَمَنْ تَعَلَّمَ مِنْهُمْ لَا يَدُلُّ جَوَابُهُ عَنْهَا عَلَى نُبُوَّتِهِ كَمَا لَوْ أَجَابَ عَنْ تِلْكَ

ص: 403

الْمَسَائِلِ بَعْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَكَمَا لَوْ سَأَلَ فِي زَمَانِنَا بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ تِلْكَ الْمَسَائِلِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ، الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا نَبِيٌّ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى نُبُوَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَعَلَّمَ ذَلِكَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ.

فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُمْ بِقَوْلِهِمْ: لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا نَبِيٌّ: أَيْ لَا يَعْلَمُهَا ابْتِدَاءً بِدُونِ تَعْلِيمٍ مِنْ بَشَرٍ إِلَّا نَبِيٌّ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ كَانُوا جَمِيعًا مُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّمْ مِنْ بَشَرٍ مَعَ انْتِشَارِ أَخْبَارِهِ، وَمَعَ اطِّلَاعِ قَوْمِهِ عَلَى أَسْرَارِهِ، وَمَعَ ظُهُورِ ذَلِكَ - لَوْ وُجِدَ - وَمَعَ أَنَّهُمْ لَوْ جَوَّزُوا تَجْوِيزًا أَنْ يَكُونَ قَدْ تَعَلَّمَهَا مِنْ بَشَرٍ فِي الْبَاطِنِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى نُبُوَّتِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا قَاطِعِينَ بِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّمْ ذَلِكَ مِنْ بَشَرٍ؛ لَا فِي الْبَاطِنِ، وَلَا فِي الظَّاهِرِ، وَهَذَا طَرِيقٌ بَيِّنٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّمْ ذَلِكَ مِنْ بَشَرٍ سِوَى الطُّرُقِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا.

ص: 404