الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ: نَقْضُ دَعْوَاهُمُ الِاسْتِغْنَاءَ بِالْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ]
فَصْلٌ
ثُمَّ قَالُوا: " إِنَّا نَعْجَبُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ، الَّذِينَ مَعَ أَدَبِهِمْ وَمَا يَأْخُذُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ مِنَ الْفَضْلِ، كَيْفَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ الشَّرَائِعَ شَرِيعَتَانِ: شَرِيعَةُ عَدْلٍ وَشَرِيعَةُ فَضْلٍ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْبَارِي عَدْلًا وَجَوَّادًا وَجَبَ أَنْ يُظْهِرَ عَدْلَهُ عَلَى خَلْقِهِ فَأَرْسَلَ مُوسَى إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَوَضَعَ شَرِيعَةَ الْعَدْلِ وَأَمَرَهُمْ بِفِعْلِهَا إِلَى أَنِ اسْتَقَرَّتْ فِي نُفُوسِهِمْ، وَلَمَّا كَانَ الْكَمَالُ الَّذِي هُوَ الْفَضْلُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَضَعَهُ إِلَّا أَكْمَلُ الْكُمَّالِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ هُوَ - تَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ وَجَلَّتْ آلَاؤُهُ - الَّذِي يَضَعُهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَكْمَلَ مِنْهُ، وَلِأَنَّهُ جَوَّادٌ؛ وَجَبَ أَنْ يَجُودَ بِأَجَلِّ الْمَوْجُودَاتِ وَلَيْسَ فِي الْمَوْجُودَاتِ أَكْمَلُ مِنْ كَلِمَتِهِ؛ لِذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَجُودَ بِكَلِمَتِهِ، فَلِهَذَا وَجَبَ أَنْ يَجُودَ بِكَلِمَتِهِ، فَلِهَذَا وَجَبَ أَنْ يَتَّحِدَ بِذَاتٍ مَحْسُوسَةٍ يُظْهِرُ مِنْهَا قُدْرَتَهُ وَجُودَهُ. وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَخْلُوقَاتِ أَجَلُّ مِنَ الْإِنْسَانِ، اتَّحَدَ بِالطَّبِيعَةِ الْبَشَرِيَّةِ مِنَ السَّيِّدَةِ الطَّاهِرَةِ، مِنْ مَرْيَمَ الْبَتُولِ الْمُصْطَفَاةِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ، وَبَعْدَ هَذَا الْكَمَالِ مَا تَبَقَّى شَيْءٌ يُوضَعُ؛ لِأَنَّ
جَمِيعَ مَا يَتَقَدَّمُهُ وَمَا يَأْتِي مُقْتَضِيهِ، وَمَا يَأْتِي بَعْدَ الْكَمَالِ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ لَيْسَ شَيْءٌ يَأْتِي بَعْدَ الْكَمَالِ فَيَكُونُ فَاضِلًا، بَلْ دُونَ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ. فَهُوَ فَاضِلٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَفِي هَذَا الْقَوْلِ نَفْعٌ. وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، وَهَذَا مِمَّا عَرَفْتُهُ مِنْ أَنَّ الْقَوْمَ الَّذِينَ رَأَيْتُهُمْ وَخَاطَبْتُهُمْ فِي مُحَمَّدٍ عليه السلام وَمَا يَحْتَجُّونَ بِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، فَإِنْ يَكُنْ مَا ذَكَرُوهُ صَحِيحًا؛ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَإِنْ كَانَ خِلَافَ ذَلِكَ فَمَوْلَانَا يَكْتُبُ ذَلِكَ، فَقَدْ جَعَلُونِي سَفِيرًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ".
وَالْجَوَابُ عَلَى هَذَا مِنْ وُجُوهٍ، أَحَدُهَا: أَنْ يُقَالَ: بَلِ الشَّرَائِعُ ثَلَاثَةٌ: شَرِيعَةُ عَدْلٍ فَقَطْ، وَشَرِيعَةُ فَضْلٍ فَقَطْ، وَشَرِيعَةٌ تَجْمَعُ الْعَدْلَ وَالْفَضْلَ، فَتُوجِبُ الْعَدْلَ، وَتَنْدُبُ إِلَى الْفَضْلِ، وَهَذِهِ أَكْمَلُ الشَّرَائِعِ الثَّلَاثِ وَهِيَ شَرِيعَةُ الْقُرْآنِ الَّذِي
جُمِعَ فِيهِ بَيْنَ الْعَدْلِ وَالْفَضْلِ. مَعَ أَنَّا لَا نُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ مُوسَى عليه السلام أَوْجَبَ الْعَدْلَ وَنَدَبَ إِلَى الْفَضْلِ، وَكَذَلِكَ الْمَسِيحُ - أَيْضًا - أَوْجَبَ الْعَدْلَ وَنَدَبَ إِلَى الْفَضْلِ.
وَأَمَّا مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْمَسِيحَ أَوْجَبَ الْفَضْلَ وَحَرَّمَ عَلَى كُلِّ مَظْلُومٍ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ ظَالِمِهِ، أَوْ أَنَّ مُوسَى لَمْ يَنْدُبْ إِلَى الْإِحْسَانِ، فَهَذَا فِيهِ غَضَاضَةٌ بِشَرِيعَةِ الْمُرْسَلِينَ. لَكِنْ قَدْ يُقَالُ: إِنَّ ذِكْرَ الْعَدْلِ فِي التَّوْرَاةِ أَكْثَرُ، وَذِكْرَ الْفَضْلِ فِي الْإِنْجِيلِ أَكْثَرُ، وَالْقُرْآنُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا عَلَى غَايَةِ الْكَمَالِ.
وَالْقُرْآنُ بَيَّنَ أَنَّ السُّعَدَاءَ أَهْلُ الْجَنَّةِ، وَهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ نَوْعَانِ: أَبْرَارٌ مُقْتَصِدُونَ، وَمُقَرَّبُونَ سَابِقُونَ؛ فَالدَّرَجَةُ الْأُولَى تَحْصُلُ بِالْعَدْلِ: وَهِيَ أَدَاءُ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكُ الْمُحَرَّمَاتِ، وَالثَّانِيَةُ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِالْفَضْلِ: وَهُوَ أَدَاءُ الْوَاجِبَاتِ وَالْمُسْتَحَبَّاتِ، وَتَرْكُ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ.
فَالشَّرِيعَةُ الْكَامِلَةُ تَجْمَعُ الْعَدْلَ وَالْفَضْلَ؛ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] .
فَهَذَا عَدْلٌ وَاجِبٌ، مَنْ خَرَجَ عَنْهُ اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
ثُمَّ قَالَ: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 280] .
فَهَذَا فَضْلٌ مُسْتَحَبٌّ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، مَنْ فَعَلَهُ أَثَابَهُ اللَّهُ وَرَفَعَ دَرَجَتَهُ، وَمَنْ تَرَكَهُ لَمْ يُعَاقِبْهُ.
وَقَالَ - تَعَالَى -:.
{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] .
فَهَذَا عَدْلٌ.
ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: {إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92] .
فَهَذَا فَضْلٌ.
وَقَالَ - تَعَالَى -:.
{وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] .
فَهَذَا عَدْلٌ.
ثُمَّ قَالَ:.
{فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45] .
فَهَذَا فَضْلٌ.
وَقَالَ - تَعَالَى -:.
{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] .
فَهَذَا عَدْلٌ.
ثُمَّ قَالَ:.
{إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237] .
فَهَذَا فَضْلٌ.
وَقَالَ - تَعَالَى -:.
{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] .
فَهَذَا عَدْلٌ.
ثُمَّ قَالَ:.
{وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126] .
فَهَذَا فَضْلٌ.
وَقَالَ - تَعَالَى -.
{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] .
فَهَذَا عَدْلٌ.
ثُمَّ قَالَ:.
{فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40] .
فَهَذَا فَضْلٌ.
وَهُوَ - سُبْحَانَهُ - دَائِمًا يُحَرِّمُ الظُّلْمَ وَيُوجِبُ الْعَدْلَ وَيَنْدُبُ إِلَى الْفَضْلِ، كَمَا فِي آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ لَمَّا ذَكَرَ حُكْمَ الْأَمْوَالِ. وَالنَّاسُ فِيهَا إِمَّا مُحْسِنٌ وَإِمَّا عَادِلٌ وَإِمَّا ظَالِمٌ؛ فَالْمُحْسِنُ الْمُتَصَدِّقُ، وَالْعَادِلُ الْمُعَاوِضُ كَالْبَايِعِ، وَالظَّالِمُ كَالْمُرَابِي.
فَبَدَأَ بِالْإِحْسَانِ وَالصَّدَقَةِ فَذَكَرَ ذَلِكَ وَرَغَّبَ فِيهِ فَقَالَ: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ - الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ - قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} [البقرة: 261 - 263] الْآيَاتِ.
ثُمَّ ذَكَرَ تَحْرِيمَ الرِّبَا، فَقَالَ:
ثُمَّ لَمَّا أَحَلَّ الْبَيْعَ ذَكَرَ الْمُدَايَنَاتِ، وَحُكْمَ الْبَيْعِ الْحَالِّ وَالْمُؤَجَّلِ، وَحِفْظَ ذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَالشُّهُودِ أَوِ الرَّهْنِ، وَخَتَمَ السُّورَةَ بِأُصُولِ
الْإِيمَانِ مِنَ الْإِيمَانِ بِالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ، وَهُوَ - سُبْحَانَهُ - بَعْدَ أَنِ افْتَتَحَهَا بِذِكْرِ أَصْنَافِ النَّاسِ، وَهُمْ ثَلَاثَةٌ: إِمَّا مُؤْمِنٌ وَإِمَّا كَافِرٌ وَإِمَّا مُنَافِقٌ. فَذَكَرَ نَعْتَ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ ذَكَرَ نَعْتَ الْكَافِرِينَ، ثُمَّ ذَكَرَ نَعْتَ الْمُنَافِقِينَ، ثُمَّ مَهَّدَ أُصُولَ الْإِيمَانِ؛ فَأَمَرَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَذِكْرِ آيَاتِهِ وَآلَائِهِ. ثُمَّ قَرَّرَ نُبُوَّةَ رُسُلِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَالْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ، ثُمَّ ذَكَرَ بَدْءَ الْعَالَمِ وَخَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، ثُمَّ خَلْقَ آدَمَ وَإِسْجَادَ الْمَلَائِكَةِ لَهُ وَخُرُوجَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَهُبُوطَهُ إِلَى الْأَرْضِ.
ثُمَّ بَعْدَ أَنْ عَمَّ بِالدَّعْوَةِ جَمِيعَ الْخَلْقِ، خَصَّ أَهْلَ الْكِتَابِ فَخَاطَبَهُمْ: خَاطَبَ الْيَهُودَ أَوَّلًا بَنِي إِسْرَائِيلَ، ثُمَّ النَّصَارَى، ثُمَّ خَاطَبَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَرَّرَ لَهُمْ قَوَاعِدَ دِينِهِ؛ فَذَكَرَ أَصْلَ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَبِنَاءَهُ لِلْبَيْتِ وَدُعَاءَهُ لِأَهْلِ مَكَّةَ، وَوَكَّدَ الْأَمْرَ بِمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَيْتِ مِنِ اتِّخَاذِهِ قِبْلَةً وَمِنْ تَعْظِيمِ شَعَائِرِ اللَّهِ الَّتِي عِنْدَهُ كَالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ التَّوْحِيدَ وَالْحَلَالَ وَالْحَرَامَ وَالْمَطَاعِمَ لِلنَّاسِ عُمُومًا، ثُمَّ لِلَّذِينِ آمَنُوا خُصُوصًا.
ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَتْلِ مِنَ الْقِصَاصِ وَبِالْمَوْتِ مِنَ الْوَصِيَّةِ، ثُمَّ
ذَكَرَ شَرَائِعَ الدِّينِ، فَذَكَرَ صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَمَا يَكُونُ فِيهِ مِنَ الِاعْتِكَافِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَتَّصِلُ بِشَهْرِ الصِّيَامِ، وَهُوَ أَشْهُرُ الْحَجِّ، فَذَكَرَ الْحَجَّ، وَذَكَرَ حُكْمَ الْقِتَالِ عُمُومًا، وَخُصُوصًا فِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ. وَلَمَّا ذَكَرَ الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ وَالْحَجَّ وَالْجِهَادَ وَالصَّدَقَةَ، ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ فِي الْفُرُوجِ. فَذَكَرَ أَحْكَامَ وَطْءِ النِّسَاءِ وَالْحُيَّضِ وَالْإِيلَاءِ مِنْهُنَّ وَالطَّلَاقِ لَهُنَّ، وَاخْتِلَاعِهِنَّ. وَذَكَرَ حُكْمَ الْأَوْلَادِ وَإِرْضَاعِهِمْ، وَاعْتِدَادِ النِّسَاءِ وَخِطْبَتِهِنَّ فِي الْعِدَّةِ، وَطَلَاقِهِنَّ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ الصَّلَوَاتِ وَالْمُحَافَظَةَ عَلَيْهِنَّ، ثُمَّ قَرَّرَ الْمَعَادَ وَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى فِي الدُّنْيَا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ.
فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ السُّورَةُ الْوَاحِدَةُ جَمِيعَ مَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِي الدِّينِ وَأُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ، وَافْتَتَحَهَا بِالْإِيمَانِ بِالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ، وَوَسَّطَهَا بِالْإِيمَانِ بِالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ، وَخَتَمَهَا بِالْإِيمَانِ بِالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ. فَإِنَّ الْإِيمَانَ بِالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ هُوَ عَمُودُ الْإِيمَانِ وَقَاعِدَتُهُ وَجِمَاعُهُ.
وَأَمَرَ فِيهَا الْخَلْقَ عُمُومًا وَخُصُوصًا، وَذَكَرَ فِيهَا الْإِيمَانَ بِالْخَالِقِ وَآيَاتِ رُبُوبِيَّتِهِ، وَالْإِيمَانَ بِالْمَعَادِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ، وَالْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ الَّتِي أَمَرَ بِهَا، وَأَنَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.
وَالصَّابِئِينَ قَائِمًا بِهَذِهِ الْأُصُولِ: وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ فَهُوَ السَّعِيدُ فِي الْآخِرَةِ الَّذِي لَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ، وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ.
بِخِلَافِ مَنْ بَدَّلَ مِنْهُمُ الْكِتَابَ، أَوْ كَذَّبَ بِكِتَابٍ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مِنَ الْكُفَّارِ. فَمَنْ كَانَ مُتَّبِعًا لِشَرْعِ التَّوْرَاةِ قَبْلَ مَبْعَثِ الْمَسِيحِ، غَيْرَ مُبَدِّلٍ لَهُ فَهُوَ مِنَ السُّعَدَاءِ. وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ مُتَّبِعًا لِشَرْعِ الْإِنْجِيلِ قَبْلَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم غَيْرَ مُبَدِّلٍ لَهُ فَهُوَ مِنَ السُّعَدَاءِ. وَمَنْ بَدَّلَ شَرْعَ التَّوْرَاةِ أَوْ كَذَّبَ بِالْمَسِيحِ فَهُوَ كَافِرٌ، كَالْيَهُودِ بَعْدَ مَبْعَثِ الْمَسِيحِ عليه السلام وَكَذَلِكَ مَنْ بَدَّلَ شَرْعَ الْإِنْجِيلِ أَوْ كَذَّبَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فَهُوَ كَافِرٌ كَالنَّصَارَى بَعْدَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ، صلى الله عليه وسلم.
فَقُدَمَاءُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ اتَّبَعُوا الدِّينَ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ سُعِدُوا، وَأَمَّا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ تَمَسَّكُوا بِشَرْعٍ مُبْدَّلٍ مَنْسُوخٍ وَتَرَكُوا اتِّبَاعَ الْكُتُبِ وَالرَّسُولِ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَإِلَى غَيْرِهِمْ وَعَدَلُوا عَنِ الشَّرْعِ الْمُنَزَّلِ الْمُحْكَمِ، فَهُمْ كُفَّارٌ.
وَرَدَّ دَعَاوَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الْكَاذِبَةَ، مِثْلَ قَوْلِ هَؤُلَاءِ:
{لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا} [البقرة: 111] .
وَقَوْلِ هَؤُلَاءِ: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ نَصَارَى، فَقَالَ:.
{بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 112] .
وَبَيَّنَ مِنْ كُفْرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، مِمَّا عُرِفَ بِهِمْ حَالُهُمْ.
لَكِنَّ أَكْثَرَ مَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ: الْيَهُودُ، كَمَا أَنَّ أَكْثَرَ مَا ذُكِرَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ النَّصَارَى، فَإِنَّ هَذِهِ نَزَلَتْ أَوَّلَ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ، وَكَانَ الْيَهُودُ جِيرَانَهُ. وَآلُ عِمْرَانَ تَأَخَّرَ نُزُولُهَا إِلَى آخِرِ الْأَمْرِ، لَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ نَصَارَى نَجْرَانَ، وَفِيهَا فُرِضَ الْحَجُّ، لَمَّا طَهَّرَ اللَّهُ مَكَّةَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَكَانَ أَكْثَرُ دُعَائِهِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ لِلْمُشْرِكِينَ؛ لِأَنَّهُمْ جِيرَانُهُ
بِمَكَّةَ، ثُمَّ لِلْيَهُودِ؛ لِأَنَّهُمْ جِيرَانُهُ بِالْمَدِينَةِ، ثُمَّ لِلنَّصَارَى؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَبْعَدَ عَنْهُ مِنْ نَاحِيَةِ الشَّامِ وَالْيَمَنِ، وَالْمَجُوسِ - أَيْضًا - لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَبْعَدَ عَنْهُ بِأَرْضِ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ.
وَهَذَا هُوَ التَّرْتِيبُ الْمُنَاسِبُ، يَدْعُو الْأَقْرَبَ إِلَيْهِ فَالْأَقْرَبَ، ثُمَّ يُرْسِلُ رُسُلَهُ إِلَى الْأَبْعَدِ. وَهُوَ صلى الله عليه وسلم كَانَ - أَوَّلًا - مَشْغُولًا بِجِهَادِ الْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودِ. فَلَمَّا صَالَحَ الْمُشْرِكِينَ صُلْحَ
الْحُدَيْبِيَةِ، وَحَارَبَ يَهُودَ خَيْبَرَ عَقِيبَ ذَلِكَ، فَفَتَحَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ، وَقَسَّمَهَا بَيْنَ الَّذِينَ بَايَعُوهُ تَحْتَ الشَّجَرَةِ: الَّذِينَ شَهِدُوا صُلْحَ الْحُدَيْبِيَةِ، تَفَرَّغَ لِمَنْ بَعُدَ عَنْهُ، فَأَرْسَلَ رُسُلَهُ إِلَى جَمِيعِ مَنْ حَوَالَيْهِ مِنَ الْأُمَمِ.
أَرْسَلَ إِلَى مُلُوكِ النَّصَارَى بِمِصْرَ وَالشَّامِ وَالْحَبَشَةِ، فَإِنَّهُ كَانَ
قَدْ مَاتَ مَلِكُ الْحَبَشَةِ النَّجَاشِيُّ الَّذِي أَسْلَمَ، وَأَخْبَرَ النَّاسَ بِمَوْتِهِ يَوْمَ مَاتَ، وَخَرَجَ بِأَصْحَابِهِ إِلَى ظَاهِرِ الْمَدِينَةِ فَصَلَّى عَلَيْهِ بِهِمْ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ كَمَا كَانَ يُصَلِّي عَلَى سَائِرِ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ. وَتَوَلَّى بَعْدَ النَّجَاشِيِّ آخَرُ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ كَمَا ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَأَرْسَلَ إِلَى مُلُوكِ الْيَمَنِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودِ، وَإِلَى مُلُوكِ الْعَرَبِ. وَكَانَ فِي الْعَرَبِ خَلْقٌ كَثِيرٌ يَهُودُ، وَخَلْقٌ كَثِيرٌ نَصَارَى، وَخَلْقٌ كَثِيرٌ مَجُوسٌ فَدَعَا جَمِيعَ الْخَلْقِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ وَالْمُشْرِكِينَ، عَرِبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ لَهُمُ: النَّاسُ لَهُمْ فِي أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى مَحْضِ الْمَشِيئَةِ، لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ بِهِ مَصْلَحَةً لِلْخَلْقِ، وَإِنِ اتَّفَقَ أَنْ يَكُونَ مَصْلَحَةً، وَإِنْ كَانَ الْوَاقِعُ كَوْنَهُ مَصْلَحَةً، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: لَا يَفْعَلُ وَلَا يَحْكُمُ بِسَبَبٍ وَلَا لِحِكْمَةٍ وَلَا لِغَرَضٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: - وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ النَّاسِ - إِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا أَرْسَلَ الرُّسُلَ لِيَأْمُرُوا النَّاسَ بِمَا يُصْلِحُهُمْ وَيَنْفَعُهُمْ إِذَا فَعَلُوهُ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -:
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] .
وَقَالَ - تَعَالَى -:
فَإِنْ قِيلَ بِالْأَوَّلِ: لَمْ يُسْأَلْ عَنْ حِكْمَةِ إِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَإِنْ قِيلَ بِالثَّانِي: فَفِي إِرْسَالِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْحَكَمِ
وَالْمَصَالِحِ أَعْظَمُ مِمَّا كَانَ فِي إِرْسَالِ مُوسَى وَالْمَسِيحِ، وَالَّذِي حَصَلَ بِهِ مِنْ صَلَاحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ أَضْعَافُ مَا حَصَلَ بِإِرْسَالِ مُوسَى وَالْمَسِيحِ مِنْ جِهَةِ الْأَمْرِ وَالْخَلْقِ. فَإِنَّ فِي شَرِيعَتِهِ مِنَ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ أَكْمَلَ مِمَّا فِي الشَّرِيعَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ. وَتَيْسِيرُ اللَّهِ مِنِ اتِّبَاعِ الْخَلْقِ لَهُ وَاهْتِدَائِهِمْ بِهِ مَا لَمْ يَتَيَسَّرْ مِثْلُهُ لِمَنْ قَبْلَهُ، فَحَصَلَ فَضِيلَةُ شَرِيعَتِهِ مِنْ جِهَةِ فَضْلِهَا فِي نَفْسِهَا، وَمِنْ جِهَةِ كَثْرَةِ مَنْ قَبِلَهَا وَكَمَالِ قَبُولِهِمْ لَهَا، بِخِلَافِ شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَهُ، فَإِنَّ مُوسَى صلى الله عليه وسلم بُعِثَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ فِيهِمْ مِنَ الرَّدِّ وَالْعِنَادِ فِي حَيَاةِ مُوسَى وَبَعْدَ مَوْتِهِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ، وَقَدْ ذَكَرَ النَّصَارَى فِي كِتَابِهِمْ هَذَا مِنْ ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ.
وَلَمْ تَكُنْ شَرِيعَةُ التَّوْرَاةِ فِي الْكَمَالِ مِثْلَ شَرِيعَةِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ
فِيهِ ذِكْرُ الْمَعَادِ وَإِقَامَةُ الْحُجَجِ عَلَيْهِ وَتَفْصِيلُهُ، وَوَصْفُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، مَا لَمْ يُذْكَرْ مِثْلُهُ فِي التَّوْرَاةِ. وَفِيهِ مِنْ ذِكْرِ قِصَّةِ هُودٍ وَصَالِحٍ وَشُعَيْبٍ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، مَا لَمْ يُذْكَرْ فِي التَّوْرَاةِ، وَفِيهِ مِنْ ذِكْرِ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ وَوَصْفِ مَلَائِكَتِهِ وَأَصْنَافِهِمْ وَخَلْقِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ مَا لَمْ يُفَصَّلْ مِثْلُهُ فِي التَّوْرَاةِ، وَفِيهِ مِنْ تَقْرِيرِ التَّوْحِيدِ بِأَنْوَاعِ الْأَدِلَّةِ مَا لَمْ يُذْكَرْ مِثْلُهُ فِي التَّوْرَاةِ، وَفِيهِ مِنْ ذِكْرِ أَدْيَانِ أَهْلِ الْأَرْضِ مَا لَمْ يُذْكَرْ مِثْلُهُ فِي التَّوْرَاةِ، وَفِيهِ مِنْ مُنَاظَرَةِ الْمُخَالِفِينَ وَإِقَامَةِ الْبَرَاهِينِ عَلَى أُصُولِ الدِّينِ مَا لَمْ يُذْكَرْ مِثْلُهُ فِي التَّوْرَاةِ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ كِتَابٌ مِنَ السَّمَاءِ أَهْدَى مِنَ الْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ. وَفِي شَرِيعَةِ الْقُرْآنِ تَحْلِيلُ الطَّيِّبَاتِ وَتَحْرِيمُ الْخَبَائِثِ، وَشَرِيعَةُ التَّوْرَاةِ فِيهَا تَحْرِيمُ كَثِيرٍ مِنَ الطَّيِّبَاتِ عَلَيْهِمْ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ عُقُوبَةً لَهُمْ، وَفِي شَرِيعَةِ الْقُرْآنِ مِنْ قَبُولِ الدِّيَةِ فِي الدِّمَاءِ مَا لَمْ يُشْرَعْ فِي التَّوْرَاةِ، وَفِيهَا مِنْ وَضْعِ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ الَّتِي فِي التَّوْرَاةِ مَا يَظْهَرُ بِهِ أَنَّ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَى أَهْلِ الْقُرْآنِ أَكْمَلُ.
وَأَمَّا الْإِنْجِيلُ؛ فَلَيْسَ فِيهِ شَرِيعَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، وَلَا فِيهِ الْكَلَامُ عَلَى التَّوْحِيدِ وَخَلْقِ الْعَالَمِ وَقَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ وَأُمَمِهِمْ، بَلْ أَحَالَهُمْ عَلَى التَّوْرَاةِ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ. وَلَكِنْ أَحَلَّ الْمَسِيحُ بَعْضَ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ، وَأَمَرَهُمْ
بِالْإِحْسَانِ وَالْعَفْوِ عَنِ الظَّالِمِ وَاحْتِمَالِ الْأَذَى، وَالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَضَرَبَ الْأَمْثَالَ لِذَلِكَ.
فَعَامَّةُ مَا امْتَازَ بِهِ الْإِنْجِيلُ عَنِ التَّوْرَاةِ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ الْمُسْتَحْسَنَةِ، وَالزُّهْدِ الْمُسْتَحَبِّ، وَتَحْلِيلِ بَعْضِ الْمُحَرَّمَاتِ وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْقُرْآنِ، وَهُوَ فِي الْقُرْآنِ أَكْمَلُ، فَلَيْسَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالنُّبُوَّاتِ مَا هُوَ مِنَ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ إِلَّا وَهُوَ فِي الْقُرْآنِ أَوْ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ. وَفِي الْقُرْآنِ مِنَ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مِنَ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ مَا لَيْسَ فِي الْكِتَابَيْنِ. لَكِنَّ النَّصَارَى لَمْ يَتَّبِعُوا لَا التَّوْرَاةَ وَلَا الْإِنْجِيلَ، بَلْ أَحْدَثُوا شَرِيعَةً لَمْ يُبْعَثْ بِهَا نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، كَمَا وَضَعُوا لِقُسْطَنْطِينَ (الْأَمَانَةَ) وَوَضَعُوا لَهُ أَرْبَعِينَ كِتَابًا فِيهَا الْقَوَانِينُ، فِيهَا بَعْضُ مَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ، وَفِيهَا شَيْءٌ كَثِيرٌ مُخَالِفٌ لِشَرْعِ الْأَنْبِيَاءِ وَصَارُوا إِلَى كَثِيرٍ مِنْ دِينِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَبَدُوا مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى، وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ فَصَارَ فِي دِينِهِمْ مِنَ الشِّرْكِ وَتَغْيِيرِ دِينِ الرُّسُلِ مَا غَيَّرُوا بِهِ شَرِيعَةَ الْإِنْجِيلِ؛ وَلِهَذَا الْتَبَسَتْ عِنْدَ عَامَّتِهِمْ شَرِيعَةُ الْإِنْجِيلِ بِغَيْرِهَا، فَلَا يَعْرِفُونَ مَا نَسَخَهُ الْمَسِيحُ مِنْ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ مِمَّا أَقَرَّهُ وَلَا مَا شَرَعَهُ مِمَّا أُحْدِثَ بَعْدَهُ.
فَالْمَسِيحُ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِتَصْوِيرِ الصُّوَرِ وَتَعْظِيمِهَا، وَلَا دُعَاءِ مَنْ صُوِّرَتْ تِلْكَ التَّمَاثِيلُ عَلَى صُورَتِهِ، وَلَا أَمَرَ بِهَذَا أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ.
لَا يُوجَدُ قَطُّ عَنْ نَبِيٍّ أَنَّهُ أَمَرَ بِدُعَاءِ الْمَلَائِكَةِ وَالِاسْتِشْفَاعِ بِهِمْ، وَلَا بِدُعَاءِ الْمَوْتَى مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَالِاسْتِشْفَاعِ بِهِمْ، فَضْلًا عَنْ دُعَاءِ تَمَاثِيلِهِمْ وَالِاسْتِشْفَاعِ بِهَا، فَإِنَّ هَذَا مِنْ أُصُولِ الشِّرْكِ الَّذِي نَبَّهَتْ عَلَيْهِ الرُّسُلُ، وَهَذَا كَانَ أَصْلَ الشِّرْكِ فِي بَنِي آدَمَ مِنْ عَهْدِ نُوحٍ عليه السلام.
قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - عَنْ قَوْمِ نُوحٍ:
قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: وَهَؤُلَاءِ كَانُوا قَوْمًا
صَالِحِينَ فِي قَوْمِ نُوحٍ، فَلَمَّا مَاتُوا عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِمْ، ثُمَّ صَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُمْ، ثُمَّ عَبَدُوهُمْ وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الْمَسِيحُ وَعُلَمَاءُ النَّصَارَى.
وَالْمَسِيحُ عليه السلام لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِعِبَادَتِهِ وَلَا قَالَ: إِنَّهُ اللَّهُ، وَلَا بِمَا ابْتَدَعُوهُ مِنَ التَّثْلِيثِ وَالِاتِّحَادِ. وَالْمَسِيحُ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِاسْتِحْلَالِ كُلِّ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ مِنَ الْخَبَائِثِ؛ كَالْخِنْزِيرِ وَغَيْرِهِ، فَاسْتَحَلُّوا الْخَبَائِثَ الْمُحَرَّمَةَ وَغَيَّرُوا شَرِيعَةَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. وَالْمَسِيحُ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِأَنْ يُصَلُّوا إِلَى الْمَشْرِقِ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ أَنْ يُعَظِّمُوا الصَّلِيبَ، وَلَمْ
يَأْمُرْهُمْ بِتَرْكِ الْخِتَانِ وَلَا بِالرَّهْبَانِيَّةِ وَلَا بِسَائِرِ مَا ابْتَدَعُوهُ بَعْدَهُ.
وَلِهَذَا لَمَّا ظَهَرَ فَسَادُ دِينِ النَّصَارَى، صَارَ بَعْضُ النَّاسِ، كَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيِّ يَقُولُ: " لَمْ يَظْهَرِ الِانْتِفَاعُ بِدِينِ الْمَسِيحِ، إِلَّا فِي طَائِفَةٍ قَلِيلَةٍ كَانُوا قَبْلَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ الدِّينَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ جُمْهُورُ النَّصَارَى، لَيْسَ هُوَ دِينَ الْمَسِيحِ.
وَتَبَيَّنَ هَذَا:
بِالْوَجْهِ الثَّالِثِ: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: هَبْ إِنَّ شَرِيعَةَ الْكِتَابِ كَانَتْ كَافِيَةً، فَإِنَّمَا ذَاكَ إِذَا كَانَتْ مَحْفُوظَةً مَعْمُولًا بِهَا، وَلَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَلْ كَانَتْ قَدْ دُرِسَ كَثِيرٌ مِنْ مَعَالِمِهَا.
وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْكِتَابِ فِي الْمَسِيحِ وَغَيْرِهِ اخْتِلَافًا عَظِيمًا كَمَا قَالَ تَعَالَى:
وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى -: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة: 213] .
أَيْ فَاخْتَلَفُوا.
وَالْوَقْتُ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ فِيهِ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ قَدْ بَقِيَ أَحَدٌ مُظْهِرًا لِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ الرُّسُلَ قَبْلَهُ.
فَبَعَثَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، وَطُمُوسٍ مِنَ السُّبُلِ، أَحْوَجَ مَا كَانَ النَّاسُ إِلَى رَسُولٍ، كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ، عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ، إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ» ".
وَكَانَ النَّاسُ حِينَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إِمَّا أُمِّيِّينَ، لَا كِتَابَ لَهُمْ، يُشْرِكُونَ بِالرَّحْمَنِ، وَيَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ، وَإِمَّا أَهْلُ كِتَابٍ قَدْ بَدَّلُوا مَعَانِيَهُ وَأَحْكَامَهُ وَحَرَّفُوا حَلَالَهُ وَحَرَامَهُ وَلَبَّسُوا حَقَّهُ بِبَاطِلِهِ، كَمَا هُوَ الْمَوْجُودُ. فَلَوْ أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يُمَيِّزَ لَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ مَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ مِمَّا هُمْ عَلَيْهِ مِمَّا أَحْدَثُوهُ بَعْدَهُمْ، لَمْ يَعْرِفْ جُمْهُورُهُمْ ذَلِكَ، بَلْ قَدْ صَارَ الْجَمِيعُ عِنْدَهُمْ دِينًا وَاحِدًا.
فَبَعَثَ اللَّهُ تبارك وتعالى مُحَمَّدًا بِالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا، فَمَيَّزَ بِهِ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ وَالْهُدَى مِنَ الضَّلَالِ وَالْغَيَّ مِنَ الرَّشَادِ. قَالَ - تَعَالَى -:
إِلَى قَوْلِهِ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: إِنَّ شَرِيعَةَ التَّوْرَاةِ تَغْلِبُ عَلَيْهَا الشِّدَّةُ، وَشَرِيعَةَ الْإِنْجِيلِ يَغْلِبُ عَلَيْهَا اللِّينُ، وَشَرِيعَةَ الْقُرْآنِ مُعْتَدِلَةٌ جَامِعَةٌ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] .
وَقَالَ فِي وَصْفِ أُمَّتِهِ:
{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] .
وَقَالَ - أَيْضًا -:
{فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54] .
فَوَصَفَهُمْ بِالرَّحْمَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالذِّلَّةِ لَهُمْ، وَالشِّدَّةِ عَلَى الْكُفَّارِ وَالْعِزَّةِ عَلَيْهِمْ.
وَكَذَلِكَ كَانَ صِفَةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم نَبِيِّهِمْ، أَكْمَلِ النَّبِيِّينَ وَأَفْضَلِ الرُّسُلِ؛ بِحَيْثُ قَالَ:" «أَنَا مُحَمَّدٌ وَأَنَا أَحْمَدُ، وَأَنَا نَبِيُّ الرَّحْمَةِ، وَأَنَا نَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ، وَأَنَا نَبِيُّ التَّوْبَةِ، وَأَنَا الضَّحُوكُ الْقَتَّالُ» ".
فَوَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ نَبِيُّ الرَّحْمَةِ وَالتَّوْبَةِ، وَأَنَّهُ نَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ، وَأَنَّهُ الضَّحُوكُ الْقَتَّالُ، وَهَذَا أَكْمَلُ مِمَّنْ نُعِتَ بِالشِّدَّةِ وَالْبَأْسِ غَالِبًا، أَوْ بِاللِّينِ غَالِبًا، وَقَدْ قِيلَ بِسَبَبِ ذَلِكَ: أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ نُفُوسُهُمْ قَدْ ذُلَّتْ لِقَهْرِ فِرْعَوْنَ لَهُمْ وَاسْتِعْبَادِ فِرْعَوْنَ لَهُمْ، فَشُرِعَتْ لَهُمُ الشِّدَّةُ لِتَقْوَى أَنْفُسُهُمْ وَيَزُولَ عَنْهُمْ ذَلِكَ الذُّلُّ.
وَلِهَذَا لَمَّا أُمِرُوا بِالْجِهَادِ نَكَلُوا عَنْهُ وَقَالَ لَهُمْ مُوسَى:
وَأَمَّا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ قَائِلُهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ: «وَاللَّهِ لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى:
{فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] .
" لَكِنْ نُقَاتِلُ أَمَامَكَ وَوَرَاءَكَ وَعَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ يَسَارِكَ. وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْتَهُ لَخُضْنَاهُ مَعَكَ، وَلَوْ سِرْتَ بِنَا إِلَى بِرْكِ الْغِمَادِ لَسِرْنَا مَعَك» .
وَكَانَ الْكَلَامُ قَرِيبًا مِنْ (بَدْرٍ) وَالْبَحْرُ مِنْ جِهَةِ الْغَرْبِ وَ (بِرْكُ الْغِمَادِ) مَكَانٌ مِنْ يَمَانِيِّ مَكَّةَ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ عِدَّةُ لَيَالٍ، وَالْكُفَّارُ كَانُوا - إِذْ ذَاكَ - بِمَكَّةَ وَأَصْحَابُهُ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ شَامِيِّ مَكَّةَ، فَمَكَّةُ جَنُوبُهُمْ وَالْبَحْرُ غَرْبُهُمْ. تَقُولُ: لَوْ طَلَبْتَ أَنْ نَدْخُلَ بَلَدَ الْعَدُوِّ وَنَذْهَبَ إِلَى تِلْكَ النَّاحِيَةِ لَفَعَلْنَاهُ. قَالُوا: فَلَمَّا نَصَرَ اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَظْهَرَهُمْ، ظَهَرَتْ فِيهِمُ الْأَحْدَاثُ بَعْدَ ذَلِكَ وَتَجَبَّرُوا، وَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَصَارُوا شَبَهًا بِآلِ فِرْعَوْنَ، فَبَعَثَ اللَّهُ الْمَسِيحَ عليه السلام بِاللِّينِ وَالصَّفْحِ وَالْعَفْوِ عَنِ الْمُسِيءِ وَاحْتِمَالِ أَذَاهُ؛ لِيُلَيِّنَ أَخْلَاقَهُمْ وَيُزِيلَ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْجَبْرِيَّةِ وَالْقَسْوَةِ.
فَأَفْرَطَ هَؤُلَاءِ فِي اللِّينِ حَتَّى تَرَكُوا الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَتَرَكُوا الْحُكْمَ بَيْنَ النَّاسِ بِالْعَدْلِ وَإِقَامَةَ الْحُدُودِ، وَتَرَهَّبَ عُبَّادُهُمْ مُنْفَرِدِينَ، مَعَ أَنَّ فِي مُلُوكِ النَّصَارَى مِنَ الْجَبْرِيَّةِ وَالْقَسْوَةِ وَالْحُكْمِ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ بِغَيْرِ حَقٍّ مِمَّا يَأْمُرُهُمْ بِهِ عُلَمَاؤُهُمْ وَعُبَّادُهُمْ وَمِمَّا لَمْ يَأْمُرُوهُمْ بِهِ مَا شَارَكُوا فِيهِ الْيَهُودَ.
فَبَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بِالشَّرِيعَةِ الْكَامِلَةِ الْعَادِلَةِ، وَجَعَلَ أُمَّتَهُ عَدْلًا خِيَارًا لَا يَنْحَرِفُونَ إِلَى هَذَا الطَّرَفِ وَلَا إِلَى هَذَا الطَّرَفِ، بَلْ يَشْتَدُّونَ عَلَى أَعْدَاءِ اللَّهِ وَيَلِينُونَ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَيَسْتَعْمِلُونَ الْعَفْوَ وَالصَّفْحَ فِيمَا كَانَ لِنُفُوسِهِمْ، وَيَسْتَعْمِلُونَ الِانْتِصَارَ وَالْعُقُوبَةَ فِيمَا كَانَ حَقًّا لِلَّهِ.
وَهَذَا كَانَ خُلُقَ نَبِيِّهِمْ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:" «مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ بِيَدِهِ خَادِمًا وَلَا امْرَأَةً وَلَا دَابَّةً وَلَا شَيْئًا قَطُّ، إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ فَانْتَقَمَ لِنَفْسِهِ، إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ مَحَارِمُ اللَّهِ، فَإِذَا انْتُهِكَتْ مَحَارِمُ اللَّهِ لَمْ يَقُمْ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ حَتَّى يَنْتَقِمَ لِلَّهِ» ".
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: " «خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا قَالَ لِي أُفٍّ قَطُّ، وَلَا قَالَ لِشَيْءٍ فَعَلْتُهُ لِمَ فَعَلْتَهُ؟ وَلَا لِشَيْءٍ لَمْ أَفْعَلْهُ: لِمَ لَا فَعَلْتَهُ؟» «وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِهِ
إِذَا عَتَبُونِي عَلَى شَيْءٍ يَقُولُ: " دَعُوهُ، فَلَوْ قُدِّرَ شَيْءٌ لَكَانَ» ، هَذَا مَعَ قَوْلِهِ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ - «لَمَّا سَرَقَتِ امْرَأَةٌ كَانَتْ مِنْ أَشْرَفِ قُرَيْشٍ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ فَأَمَرَ بِقَطْعِ يَدِهَا، فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالُوا: مَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ؟ فَكَلَّمُوهُ فَكَلَّمَهُ فِيهَا، فَقَالَ: " يَا أُسَامَةُ! أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟ إِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ! وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ
بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا» .
فَفِي شَرِيعَتِهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ اللِّينِ وَالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ أَعْظَمُ مِمَّا فِي الْإِنْجِيلِ، وَفِيهَا مِنَ الشِّدَّةِ وَالْجِهَادِ، وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَى الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ أَعْظَمُ مِمَّا فِي التَّوْرَاةِ، وَهَذَا هُوَ غَايَةُ الْكَمَالِ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: بُعِثَ مُوسَى بِالْجَلَالِ، وَبُعِثَ عِيسَى بِالْجَمَالِ، وَبُعِثَ مُحَمَّدٌ بِالْكَمَالِ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: إِنَّ نِعَمَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ تَتَضَمَّنُ نَفْعَهُمْ وَالْإِحْسَانَ إِلَيْهِمْ، وَذَلِكَ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَدْفَعَ بِذَلِكَ مَضَرَّتَهُمْ وَيُزِيلَ حَاجَتَهُمْ وَفَاقَتَهُمْ؛ مِثْلَ رِزْقِهِمُ الَّذِي لَوْلَا هُوَ لَمَاتُوا جُوعًا، وَنَصْرِهِمُ الَّذِي لَوْلَا هُوَ لَأَهْلَكَهُمْ عَدُوُّهُمْ، وَمِثْلَ هُدَاهُمُ الَّذِي لَوْلَا هُوَ لَضَلُّوا ضَلَالًا يَضُرُّهُمْ فِي آخِرَتِهِمْ. وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ النِّعْمَةِ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ، وَإِنْ فَقَدُوهُ حَصَلَ لَهُمْ ضَرَرٌ، إِمَّا فِي الدُّنْيَا وَإِمَّا فِي الْآخِرَةِ وَإِمَّا فِيهِمَا؛ وَلِهَذَا كَانَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ، وَهِيَ
سُورَةُ النِّعَمِ، فِي أَوَّلِهَا أُصُولُ النِّعَمِ، وَفِي أَثْنَائِهَا كَمَالُ النِّعَمِ.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: النِّعَمُ الَّتِي تَحْصُلُ بِهَا مِنْ كَمَالِ النِّعَمِ وَعُلُوِّ الدَّرَجَةِ مَا لَا يَحْصُلُ بِدُونِهَا، كَمَا أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ نَوْعَانِ: أَبْرَارٌ أَصْحَابُ يَمِينٍ، وَمُقَرَّبُونَ سَابِقُونَ. وَمَنْ خَرَجَ عَنْ هَذَيْنِ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ.
وَإِذَا كَانَتِ النِّعْمَةُ نَوْعَيْنِ، فَالْخَلْقُ كَانُوا مُحْتَاجِينَ إِلَى إِرْسَالِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، وَحَصَلَ بِإِرْسَالِهِ هَذَانِ النَّوْعَانِ مِنَ النِّعْمَةِ، فَإِنَّ النَّاسَ بِدُونِهِ كَانُوا جُهَّالًا ضَالِّينَ أُمِّيِّينَ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ مِنْهُمْ.
وَلَمْ يَكُنْ قَدْ بَقِيَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ - أَتْبَاعِ الْمَسِيحِ - مَنْ هُوَ قَائِمٌ بِالدَّيْنِ الَّذِي يُوجِبُ السَّعَادَةَ عِنْدَ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ، بَلْ كَانُوا قَدْ بَدَّلُوا وَغَيَّرُوا. وَأَيْضًا فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُمْ لَمْ يُبَدِّلُوا شَيْئًا فَفِي إِرْسَالِهِ مِنْ كَمَالِ النِّعَمِ وَتَوَاصُلِهَا وَعُلُوِّ الدَّرَجَاتِ فِي السَّعَادَةِ مَا لَمْ يَكُنْ حَاصِلًا بِالْكِتَابِ الْأَوَّلِ، فَكَانَ إِرْسَالُهُ أَعْظَمَ نِعْمَةٍ أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ مِنْ نَوْعَيِ النَّعِيمِ.
وَمَنِ اسْتَقْرَأَ أَحْوَالَ الْعَالَمِ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُنْعِمْ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ نِعْمَةً أَعْظَمَ مِنْ إِنْعَامِهِ بِإِرْسَالِهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّ الَّذِينَ رَدُّوا رِسَالَتَهُ هُمْ مَنْ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم: 28] .
وَلِهَذَا وَصَفَ بِالشُّكْرِ مَنْ قَبِلَ هَذِهِ النِّعْمَةَ فَقَالَ - تَعَالَى -:
وَقَالَ - تَعَالَى -:
الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنْ يُقَالَ: قَوْلُهُمْ: " إِنَّا نَعْجَبُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ. . . . " إِلَى آخِرِ الْفَصْلِ، قَوْلُ جَاهِلٍ ظَالِمٍ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُقَالَ لَهُ: بَلِ
الْعَجَبُ مِنْ هَذَا الْعَجَبِ هُوَ الْوَاجِبُ، بَلْ هُوَ الَّذِي لَا يَنْقَضِي مِنْهُ الْعَجَبُ، وَإِنَّ كُلَّ عَاقِلٍ لَيَعْجَبُ مِمَّنْ عَرَفَ دِينَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَقَصْدُهُ الْحَقَّ، ثُمَّ اتَّبَعَ غَيْرَهُ، وَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا مُفْرِطٌ فِي الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ أَوْ مُفْرِطٌ فِي الظُّلْمِ وَاتِّبَاعِ الْهَوَى.
وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْأَرْضِ نَوْعَانِ: أَهْلُ الْكِتَابِ وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَغَيْرُ أَهْلِ الْكِتَابِ كَالْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ وَالْهِنْدِ وَالتُّرْكِ، وَغَيْرِهِمْ كَالْمَجُوسِ مِنَ الْفُرْسِ، وَغَيْرِهِمْ كَالصَّابِئَةِ مِنَ الْمُتَفَلْسِفَةِ، وَغَيْرِهِمْ.
وَأَهْلُ الْكِتَابِ يُسَلِّمُونَ لَنَا أَنَّ مَنْ سِوَى أَهْلِ الْكِتَابِ انْتَفَعَ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مَنْفَعَةً ظَاهِرَةً، وَأَنَّهُ دَعَا جَمِيعَ طَوَائِفِ
الْمُشْرِكِينَ وَالْمَجُوسِ وَالصَّابِئِينَ إِلَى خَيْرٍ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ، بَلْ كَانُوا أَحْوَجَ النَّاسِ إِلَى رِسَالَتِهِ. وَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ: فَالْيَهُودُ مُسَلِّمُونَ لَنَا حَاجَةَ النَّصَارَى إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ دَعَاهُمْ إِلَى خَيْرٍ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ، وَالنَّصَارَى تُسَلِّمُ لَنَا حَاجَةَ الْيَهُودِ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ دَعَاهُمْ إِلَى خَيْرٍ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ.
فَمَا مِنْ طَائِفَةٍ مِنْ طَوَائِفِ أَهْلِ الْأَرْضِ إِلَّا وَهُمْ مُقِرُّونَ بِأَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم دَعَا سَائِرَ الطَّوَائِفِ - غَيْرَهُمْ - إِلَى خَيْرٍ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ هَذِهِ شَهَادَةٌ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ؛ بِأَنَّهُ دَعَا أَهْلَ الْأَرْضِ إِلَى خَيْرٍ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ. فَإِنَّ شَهَادَةَ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ مَقْبُولَةٌ عَلَى غَيْرِهِمْ؛ إِذْ كَانُوا غَيْرَ مُتَّهَمِينَ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّهُمْ مُعَادُونَ لِمُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ، مُعَادُونَ لِسَائِرِ الطَّوَائِفِ، وَأَمَّا شَهَادَتُهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ فَغَيْرُ مَقْبُولَةٍ فَإِنَّهُمْ خُصُومُهُ وَشَهَادَةُ الْخَصْمِ عَلَى خَصْمِهِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ.
وَقَدِ اعْتَرَفَ الْفَلَاسِفَةُ بِأَنَّهُ لَمْ يَقْرَعِ الْعَالِمَ نَامُوسٌ بِأَفْضَلَ مِنْ نَامُوسِهِ، وَاعْتَرَفُوا بِأَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ نَامُوسِ مُوسَى وَالْمَسِيحِ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، بَلْ كَانَ لَهُمْ مِنَ الطَّعْنِ فِي نَوَامِيسِ غَيْرِهِ مَا لَيْسَ
هَذَا مَوْضِعَ ذِكْرِهِ. بِخِلَافِ نَامُوسِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ لَمْ يَطْعَنْ فِيهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ، إِلَّا مَنْ كَانَ خَارِجًا عَنْ قَانُونِ الْفَلْسَفَةِ الَّتِي تُوجِبُ عِنْدَهُمُ الْعَدْلَ وَالْكَلَامَ بِعِلْمٍ. وَأَمَّا مَنِ الْتَزَمَ مِنْهُمُ الْكَلَامَ بِعِلْمٍ وَعَدْلٍ فَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ نَامُوسَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَفْضَلُ نَامُوسٍ طَرَقَ الْعَالَمَ، فَكَيْفَ يُعْجَبُ مِنْ مِثْلِ هَذَا النَّامُوسِ؟ ! .
الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنْ يُقَالَ لِأَهْلِ الْكِتَابِ خُصُوصًا، فَيُقَالُ لِلْيَهُودِ: أَنْتُمْ أَذَلُّ الْأُمَمِ، فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ دِينُ اللَّهِ الَّذِي لَمْ يُبَدَّلْ فَهُوَ مَغْلُوبٌ مَقْهُورٌ فِي جَمِيعِ الْأَرْضِ، فَهَلْ تَعْجَبُونَ مِنْ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ رَسُولًا يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ، فَيَبْعَثُهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ حَتَّى يَصِيرَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ مَنْصُورًا ظَاهِرًا بِالْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ وَالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ.
وَيُقَالُ لِلنَّصَارَى: أَنْتُمْ لَمْ تُخَلِّصُوا دِينَ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ مِنْ دِينِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُعَطِّلِينَ، بَلْ أَخَذْتُمْ مِنْ أُصُولِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُعَطِّلِينَ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ مَا أَدْخَلْتُمُوهُ فِي دِينِكُمْ، وَلَيْسَ لَكُمْ عَلَى أَكْثَرِ الْكُفَّارِ حُجَّةٌ عِلْمِيَّةٌ وَلَا يَدٌ قَهْرِيَّةٌ، بَلْ لِلْكُفَّارِ فِي
قُلُوبِكُمْ مِنَ الرُّعْبِ وَالْخَوْفِ وَالتَّعْظِيمِ مَا أَنْتُمْ بِهِ مِنْ أَضْعَفِ الْأُمَمِ حُجَّةً وَأَضْيَقِهَا مَحَجَّةً، وَأَبْعَدِهَا عَنِ الْعِلْمِ وَالْبَيَانِ، وَأَعْجَزِهَا عَنْ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ؛ تَارَةً تَخَافُونَ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْفَلَاسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُعَطِّلِينَ، فَإِمَّا أَنْ تُوَافِقُوهُمْ عَلَى أَقْوَالِهِمْ، وَإِمَّا أَنْ تَخْضَعُوا لَهُمْ مُتَوَاضِعِينَ، وَتَارَةً تَخَافُونَ مِنْ سُيُوفِ الْمُشْرِكِينَ، فَإِمَّا أَنْ تَتْرُكُوا بَعْضَ دِينِكُمْ لِأَجْلِهِمْ، وَإِمَّا أَنْ تَذِلُّوا لَهُمْ خَاضِعِينَ.
فَفِيكُمْ مِنْ ضَعْفِ سُلْطَانِ الْحُجَّةِ، وَضَعْفِ سُلْطَانِ النُّصْرَةِ مَا يَظْهَرُ بِهِ حَاجَتُكُمْ إِلَى قِيَامِ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ فَالْعَجَبُ مِنْكُمْ كَيْفَ تَعْدِلُونَ عَمَّا فِيهِ سَعَادَتُكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِلَى مَا فِيهِ شَقَاؤُكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. هَذَا هُوَ الْعَجَبُ لَيْسَ الْعَجَبُ مِمَّنْ آمَنَ بِمَا فِيهِ سَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَفِي خِلَافِهِ شَقَاوَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَمِثْلُ هَذَا لَا يَرِدُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ فِيهِ طَائِفَةٌ قَائِمَةٌ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ ظَاهِرَةٌ بِالْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ وَالْيَدِ وَالسِّنَانِ إِلَى أَنْ يَرِثَ اللَّهُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا، وَهُوَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:" «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ» " وَفِي لَفْظٍ " «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرَةً حَتْي يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ» ".
الْوَجْهُ الثَّامِنُ: أَنْ يُقَالَ لِأَهْلِ الْكِتَابِ: لِلْيَهُودِ: أَنْتُمْ لَمَّا كُنْتُمْ مُتَّبِعِينَ لِمُوسَى عليه السلام كُنْتُمْ عَلَى الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ مَنْصُورِينَ، ثُمَّ كَثُرَتْ فِيكُمُ الْأَحْدَاثُ الَّتِي تَعْرِفُونَهَا كَمَا قَالَ - تَعَالَى -:
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة: 60] مَعْطُوفٌ عَلَى (لَعَنَهُ اللَّهُ) أَيْ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِمْ وَعَبَدَ هُوَ الطَّاغُوتَ، لَيْسَ هُوَ دَاخِلًا فِي خَبَرِ " جَعَلَ "، حَتَّى يَلْزَمَ إِشْكَالٌ كَمَا ظَنَّهُ بَعْضُ النَّاسِ.
وَأَهْلُ الْكِتَابِ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ الْيَهُودَ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ مَرَّاتٍ، وَقَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ.
وَقَالَ - تَعَالَى -:
وَهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ بَيْتَ الْمَقْدِسِ خُرِّبَ مَرَّتَيْنِ.
فَالْخَرَابُ الْأَوَّلُ لَمَّا جَاءَ " بُخَتُنَصَّرُ " وَسَبَاهُمْ إِلَى بَابِلَ وَبَقِيَ خَرَابًا سَبْعِينَ سَنَةً، وَالْخَرَابُ الثَّانِي بَعْدَ الْمَسِيحِ بِنَحْوِ سَبْعِينَ سَنَةً، وَقَدْ قِيلَ: هَذَا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ:
{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [المائدة: 78] .
فَبَعْدَ الْخَرَابِ الثَّانِي تَفَرَّقُوا فِي الْأَرْضِ وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ مُلْكٌ. وَبَيْنَ الْخَرَابَيْنِ كَانُوا تَحْتَ قَهْرِ الْمُلُوكِ الْكُفَّارِ، وَبُعِثَ الْمَسِيحُ عليه الصلاة والسلام وَهُمْ كَذَلِكَ.
وَيُقَالُ لِلنَّصَارَى: أَنْتُمْ مَا زِلْتُمْ مَقْهُورِينَ مَغْلُوبِينَ مُبَدَّدِينَ فِي الْأَرْضِ، حَتَّى ظَهَرَ قُسْطَنْطِينُ وَأَقَامَ دِينَ النَّصْرَانِيَّةِ بِالسَّيْفِ، وَقَتَلَ مَنْ خَالَفَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودِ. لَكِنْ أَظْهَرَ دِينًا مُبَدَّلًا مُغَيَّرًا لَيْسَ هُوَ دِينَ الْمَسِيحِ عليه السلام وَمَعَ هَذَا فَكَانَتْ أَرْضُ الْعِرَاقِ وَفَارِسَ كُفَّارًا - الْمَجُوسُ وَغَيْرُهُمْ - مَجُوسًا وَمُشْرِكِينَ. وَكَانُوا فِي بَعْضِ الْأَزْمِنَةِ يَقْهَرُونَ النَّصَارَى عَلَى بِلَادِهِمْ، وَأَمَّا أَرْضُ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فَفِيهِمَا مِنْ أَنْوَاعِ الْمُشْرِكِينَ أُمَمٌ، وَكَانَ الشِّرْكُ وَالْكُفْرُ ظَاهِرًا فِي أَرْضِ الْيَمَنِ وَالْحِجَازِ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أَظْهَرَ بِهِ تَوْحِيدَ اللَّهِ وَعِبَادَتَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ظُهُورًا لَمْ يُعْرَفْ فِي أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ، وَلَمْ يَحْصُلْ مِثْلُهُ لِنَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَظْهَرَ بِهِ مِنْ تَصْدِيقِ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ وَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ، وَمُوسَى وَعِيسَى وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الرُّسُلِ مَا لَمْ يَكُنْ ظَاهِرًا لَا عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا غَيْرِهِمْ، فَأَهْلُ الْكِتَابِ وَإِنْ كَانُوا خَيْرًا مِنْ غَيْرِهِمْ فَلَمْ يَكُونُوا قَائِمِينَ بِمَا يَجِبُ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا شَرَائِعِ دِينِهِ، وَلَا كَانُوا قَاهِرِينَ لِأَكْثَرِ الْكُفَّارِ، وَلَا كَانُوا مَنْصُورِينَ عَلَيْهِمْ وَلِهَذَا قَالَ: - تَعَالَى -.:
أَمَّا الْيَهُودُ فَفِيهِمْ مِنَ التَّنَقُّصِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِي سَبِّهِمْ، وَذِكْرِ عُيُوبٍ نَزَّهَهُمُ اللَّهُ عَنْهَا، مَا هُوَ مَعْرُوفٌ. حَتَّى إِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ سَاحِرًا، وَدَاوُدَ كَانَ مُنَجِّمًا لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا، إِلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ.
مِمَّا يَطُولُ وَصْفُهُ. فَفِيهِمْ مِنَ الْكُفْرِ بِالْأَنْبِيَاءِ، مِنْ جِنْسِ مَا كَانَ فِي سَلَفِهِمُ الْخَبِيثِ. .
وَأَمَّا النَّصَارَى - فَمَعَ غُلُوِّهِمْ فِي الْمَسِيحِ وَأَتْبَاعِهِ - يَسْتَخِفُّونَ بِغَيْرِهِ فَتَارَةً يَجْعَلُونَ الْحَوَارِيِّينَ مِثْلَ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى أَوْ أَفْضَلَ مِنْهُمْ، وَتَارَةً يَقُولُونَ - كَمَا قَالَ الْيَهُودُ -:" إِنَّ سُلَيْمَانَ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا بَلْ سَقَطَ مِنَ النُّبُوَّةِ "، وَتَارَةً يَجْعَلُونَ مَا خَاطَبَ اللَّهُ بِهِ دَاوُدَ وَغَيْرَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ الْمَسِيحُ، مَعَ أَنَّ اللَّفْظَ لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ يَتَأَوَّلُونَ كُتُبَ اللَّهِ بِمُجَرَّدِ هَوَى أَنْفُسِهِمْ، وَتَارَةً يَقُولُونَ: إِنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ إِذَا أَطَاعَ اللَّهَ بِمَا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ طَاعَةٌ، صَارَ مِثْلَ وَاحِدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَيُسَوِّغُونَ لِمِثْلِ هَؤُلَاءِ أَنْ يُغَيِّرُوا شَرَائِعَ الْأَنْبِيَاءِ وَيَضَعُوا دِينًا ابْتَدَعُوهُ وَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وَأُمَّتُهُ أَقَامُوا تَوْحِيدَ اللَّهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَسَائِرُ الرُّسُلِ وَآمَنُوا بِكُلِّ كِتَابٍ أَنْزَلَهُ اللَّهُ وَكُلِّ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ، وَأَقَامُوا دِينَ الرَّحْمَنِ إِقَامَةً لَمْ يُقِمْهَا أَحَدٌ مِنَ الْأُمَمِ. فَعَامَّةُ أَهْلِ الْأَرْضِ مَعَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم: إِمَّا مُؤْمِنٌ بِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا - وَهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ الْمُتَّقُونَ وَحِزْبُهُ الْمُفْلِحُونَ وَجُنْدُهُ الْغَالِبُونَ - وَإِمَّا مُسْلِمُونَ لَهُ فِي الظَّاهِرِ تَقِيَّةً وَخَوْفًا مِنْ أُمَّتِهِ، وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ.
وَإِمَّا مُسَالِمُونَ لَهُ بِالْعَهْدِ وَالذِّمَّةِ وَالْهُدْنَةِ - وَهُمْ أَهْلُ الذِّمَّةِ وَالْهُدْنَةِ فِي جَمِيعِ الْأَرْضِ - وَإِمَّا خَائِفُونَ مِنْ أُمَّتِهِ.
وَحَيْثُ كَانَ الْوَاحِدُ وَالطَّائِفَةُ مِنْ أُمَّتِهِ مُتَمَسِّكًا بِدِينِهِ، كَانَ نُورُهُ ظَاهِرًا وَبُرْهَانُهُ بَاهِرًا مُعَظَّمًا مَنْصُورًا، يُعْرَفُ فَضْلُهُ عَلَى كُلِّ مَنْ سِوَاهُ.
وَهَذَا أَمْرٌ يَعْرِفُهُ النَّاسُ فِي أَرْضِ الْكُفَّارِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ؛ لِمَا خَصَّ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم وَأُمَّتَهُ مِنَ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ. وَقَدْ أَظْهَرُوا دِينَ الرَّبِّ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ. فَهَلْ يَقُولُ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ وَعَدْلٌ: إِنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي إِرْسَالِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّهُ يُسْتَغْنَى بِمَا عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ عَنْ رِسَالَتِهِ؟ !
الْوَجْهُ التَّاسِعُ: أَنْ يُقَالَ: هُمْ مُعْتَرِفُونَ بِانْتِفَاعِ الْمُشْرِكِينَ بِهِ غَايَةَ الِانْتِفَاعِ، فَإِنَّهُ أَقَامَ تَوْحِيدَ اللَّهِ وَدِينَهُ فِيهِمْ، وَأَنَّهُ عَظَّمَ الْمَسِيحَ. وَرَدَّ عَلَى الْيَهُودِ قَوْلَهُمْ فِيهِ وَأَهَانَهُمْ وَحِينَئِذٍ فَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْفَوَائِدِ وَأَجَلِّ الْمَقَاصِدِ وَأَعْظَمِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ، ثُمَّ هُوَ - مَعَ ذَلِكَ - قَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ وَأَمَرَهُ بِذَلِكَ.
فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَالْكَذَّابُ الْمُفْتَرِي عَلَى اللَّهِ مِنْ شَرِّ الْكُفَّارِ، وَمَنْ يَكُونُ كَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ مِنْهُ هَذَا الْخَيْرُ الْعَظِيمُ، الَّذِي مَا حَصَلَ مِثْلُهُ مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّهُ أَزَالَ دِينَ الْمُشْرِكِينَ، وَدِينَ الْمَجُوسِ، وَقَمَعَ الْيَهُودَ وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا أَحَدٌ قَبْلَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ.
وَإِنْ كَانَ صَادِقًا؛ فَهُوَ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى النَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ، وَأَخْبَرَ عَنِ اللَّهِ بِكُفْرِ كُلِّ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ. وَهَذَا الْوَجْهُ مِمَّنْ يُخَاطَبُ بِهِ كُلُّ صِنْفٍ، فَيُقَالُ لِكُلِّ صِنْفٍ مِنَ الْأُمَمِ: أَنْتُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ مَنْ سِوَاكُمْ إِذَا اتَّبَعُوا دِينَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم كَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِمَّا هُمْ عَلَيْهِ؛ فَالْيَهُودُ مُعْتَرِفَةٌ بِأَنَّ النَّصَارَى إِذَا اتَّبَعُوهُ كَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ دِينِ النَّصَارَى، وَالنَّصَارَى مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ الْيَهُودَ إِذَا اتَّبَعُوهُ كَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ دِينِ الْيَهُودِ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ مَنْ سِوَاهُمْ إِذَا اتَّبَعُوا مُحَمَّدًا كَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِمَّا هُمْ عَلَيْهِ.
فَالْمَجُوسُ وَالْمُشْرِكُونَ مِنَ الْعَرَبِ، وَالسُّودَانِ وَالتُّرْكِ وَأَصْنَافِ
الْخَزَرِ وَالصَّقَالِبَةِ، إِذَا اتَّبَعُوهُ كَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِمَّا هُمْ عَلَيْهِ وَسَائِرُ أَصْنَافِ الْكُفَّارِ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ أَتْبَاعَهُ خَيْرٌ مِنْ غَيْرِهِمْ. وَمَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ - عَامَّتُهُمْ - مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ دِينَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ مِنْ دِينِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَحِينَئِذٍ فَيُقَالُ: مَنْ جَاءَ بِهَذَا الدِّينِ الَّذِي يُفَضِّلُهُ جَمِيعُ أَهْلِ الْأَرْضِ عَلَى غَيْرِهِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَكْفَرِ النَّاسِ وَأَحَقِّهِمْ بِغَضَبِ اللَّهِ وَعِقَابِهِ. وَكُلُّ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ؛ فَإِنْ كَانَ صَادِقًا كَانَ مِنْ خَيْرِ أَهْلِ الْأَرْضِ وَأَحَقِّهِمْ بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَثَوَابِهِ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا كَانَ مِنْ شَرِّ أَهْلِ الْأَرْضِ وَأَحَقِّهِمْ بِغَضَبِ اللَّهِ وَعِقَابِهِ. وَمَنْ حَصَلَ مِنْهُ هَذَا الْخَيْرُ وَالْعِلْمُ وَالْهُدَى وَمَا فِيهِ صَلَاحُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَعْظَمُ مِمَّا حَصَلَ مِنْ جَمِيعِ الْخَلْقِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَكْفَرِ النَّاسِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِغَضَبِ اللَّهِ وَعِقَابِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ خَيْرِ أَهْلِ الْأَرْضِ، بَلْ هُوَ خَيْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ وَأَحَقُّهُمْ بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَثَوَابِهِ.
الْوَجْهُ الْعَاشِرُ: إِنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى كَانَتْ سُنَّتُهُ قَبْلَ إِنْزَالِ
التَّوْرَاةِ، إِذَا كُذِّبَ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ يَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْ أَعْدَائِهِ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ، كَمَا أَهْلَكَ قَوْمَ نُوحٍ بِالْغَرَقِ، وَقَوْمَ هُودٍ بِالرِّيحِ الصَّرْصَرِ، وَقَوْمَ صَالِحٍ بِالصَّيْحَةِ، وَقَوْمَ شُعَيْبٍ بِالظُّلَّةِ، وَقَوْمَ لُوطٍ بِالْحَاصِبِ، وَقَوْمَ فِرْعَوْنَ بِالْغَرَقِ قَالَ تَعَالَى:
فَلَمَّا أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ، أَمَرَ أَهْلَ الْكِتَابِ بِالْجِهَادِ، فَمِنْهُمْ مَنْ نَكَلَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَطَاعَ.
وَصَارَ الْمَقْصُودُ بِالرِّسَالَةِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح: 28] .
فَقَوْلُ هَؤُلَاءِ: " إِنَّ التَّوْرَاةَ جَاءَتْ بِالْعَدْلِ، وَالْإِنْجِيلَ بِالْفَضْلِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى غَيْرِهِمَا، لَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ حَقٌّ. إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ إِذَا كَانَ الْكِتَابَانِ لَمْ يُبَدَّلَا، بَلْ كَانَا مُتَّبَعَيْنِ عِلْمًا وَعَمَلًا، وَكَانَ أَهْلُهُمَا مَعَ ذَلِكَ مَنْصُورِينَ مُؤَيَّدِينَ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ، فَكَيْفَ وَكُلٌّ مِنْهُمَا قَدْ بُدِّلَ كَثِيرٌ مِمَّا فِيهِ، وَأَهْلُهُمَا غَيْرُ مَنْصُورِينَ عَلَى سَائِرِ الْكُفَّارِ، بَلِ الْكُفَّارُ ظَاهِرُونَ عَلَيْهِمْ فِي أَكْثَرِ الْأَرْضِ؛ كَأَرْضِ الْيَمَنِ وَالْحِجَازِ وَسَائِرِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَأَرْضِ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ وَالْمَغْرِبِ وَأَرْضِ الْهِنْدِ وَالسِّنْدِ وَالتُّرْكِ، وَكَانَ بِأَيْدِي أَهْلِ الْكِتَابِ الشَّامُ وَمِصْرُ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَمَعَ هَذَا فَكَانَتِ الْفُرْسُ قَدْ غَلَبَتْهُمْ عَلَى ذَلِكَ،، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ أَظْهَرَ النَّصَارَى عَلَيْهِمْ، فَكَانَ ظُهُورُهُمْ تَوْطِئَةً وَتَمْهِيدًا لِإِظْهَارِ دِينِ الْإِسْلَامِ.
فَإِنَّ الْفُرْسَ الْمَجُوسَ لَمَّا غَلَبُوا الرُّومَ سَاءَ ذَلِكَ النَّبِيَّ
- صلى الله عليه وسلم وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ، وَفَرِحَ بِذَلِكَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ وَكَانُوا أَكْثَرَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ أَقْرَبُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْمَجُوسِ، وَالْمَجُوسُ أَقْرَبُ إِلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْهُمْ إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ، وَوَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ تَغْلِبَ الرُّومُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ.
فَأَضَافَ النُّصْرَةَ إِلَى اسْمِ اللَّهِ، وَلَمْ يَقُلْ بِنَصْرِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ. وَذَلِكَ أَنَّهُ حِينَ ظَهَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ قَدْ ظَهَرُوا عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودِ.
وَأَرْسَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذْ ذَاكَ يَدْعُو مُلُوكَ النَّصَارَى بِالشَّامِ وَمِصْرَ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ، فَعَرَفُوهُ وَعَرَفُوا أَنَّهُ النَّبِيُّ الْمُبَشَّرُ بِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ ظُهُورِ دِينِهِ، ثُمَّ أَرْسَلَ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى غَيْرِهِمْ، ثُمَّ خَرَجَ بِالْمُسْلِمِينَ بِنَفْسِهِ مَعَهُمْ عَامَ تَبُوكَ إِلَى الشَّامِ، ثُمَّ فَتَحَ هَذِهِ الْبِلَادَ أَصْحَابُهُ، فَكَانَ تَأْيِيدُ دِينِ اللَّهِ وَظُهُورُهُ وَإِذْلَالُ الْمُشْرِكِينَ
وَالْمَجُوسِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ عَلَى يَدَيْهِ وَيَدَيْ أُمَّتِهِ، لَا عَلَى يَدِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.
فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ شَرْعَ أُولَئِكَ كَامِلٌ لَا تَبْدِيلَ فِيهِ، لَكَانَ مَغْلُوبًا مَقْهُورًا، وَكَانَ اللَّهُ قَدْ أَرْسَلَ مَنْ يُؤَيِّدُ دِينَهُ وَيُظْهِرُهُ، فَكَيْفَ وَهُوَ مُبَدَّلٌ؟ وَلَوْ لَمْ يُبَدَّلْ فَدِينُ أَحْمَدَ أَكْمَلُ وَأَفْضَلُ مِنْهُ، فَذَاكَ مَفْضُولٌ مُبَدَّلٌ، وَهَذَا فَاضَلٌ لَمْ يُبَدَّلْ، وَذَلِكَ مَغْلُوبٌ مَقْهُورٌ، وَهَذَا مُؤَيَّدٌ مَنْصُورٌ. وَبِبَعْضِ هَذَا تَحْصُلُ الْفَائِدَةُ فِي إِرْسَالِهِ.
فَكَانَ مِنْ أَجَلِّ الْفَوَائِدِ إِرْسَالُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي إِرْسَالِهِ.
الْوَجْهُ الْحَادِي عَشَرَ: قَوْلُهُمْ: " لَمَّا كَانَ الْبَارِي عَدْلًا جَوَّادًا أَوْجَبَ أَنْ يُظْهِرَ عَدْلَهُ وَجُودَهُ " فَيُقَالُ لَهُمْ: جُودُ الْجَوَّادِ غَيْرُ إِلْزَامِ النَّاسِ بِتَرْكِ حُقُوقِهِمْ، فَإِنَّ الْجَوَّادَ هُوَ الَّذِي يُحْسِنُ إِلَى النَّاسِ لَيْسَ هُوَ الَّذِي يُلْزِمُ النَّاسَ بِتَرْكِ حُقُوقِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ يَزْعُمُونَ أَنَّ شَرِيعَةَ الْإِنْجِيلِ أَلْزَمَتِ النَّاسَ بِتَرْكِ حُقُوقِهِمْ، وَأَنَّهُ لَا يُنْصَفُ مَظْلُومٌ مِنْ ظَالِمِهِ، وَلِهَذَا لَيْسَ عِنْدَهُمْ حُكْمٌ عَدْلٌ يَحْكُمُونَ بِهِ بَيْنَ النَّاسِ، بَلِ الْحُكْمُ عِنْدَهُمْ حُكْمَانِ: حُكْمُ الْكَنِيسَةِ، وَلَيْسَ فِيهِ إِنْصَافُ الْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ. وَالثَّانِي: حُكْمُ الْمُلُوكِ، وَلَيْسَ هُوَ شَرْعًا مُنَزَّلًا، بَلْ هُوَ بِحَسْبِ آرَاءِ الْمُلُوكِ.
وَلِهَذَا تَجِدُهُمْ يَرُدُّونَ النَّاسَ إِلَى حُكْمِ شَرْعِ الْإِسْلَامِ فِي الدِّمَاءِ
وَالْأَمْوَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، حَتَّى فِي بَعْضِ بِلَادِهِمْ يَكُونُ الْمَلِكُ وَالْعَسْكَرُ كُلُّهُمْ نَصَارَى، وَفِيهِمْ طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ مُسْلِمُونَ لَهُمْ حَاكِمٌ، فَيَرُدُّونَ النَّاسَ فِي الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ إِلَى حُكْمِ شَرْعِ الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ أَنَّ الدِّمَاءَ وَالْأَمْوَالَ وَإِنْ كَانَ يُسْتَحَبُّ لِلْمَظْلُومِ أَنْ يَعْفُوَ فِيهَا عَنْ ظَالِمِهِ، فَالْحَاكِمُ الَّذِي يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ، مَتَى حَكَمَ عَلَى الْمَظْلُومِ بِتَرْكِ حَقِّهِ كَانَ حَاكِمًا بِالظُّلْمِ لَا بِالْعَدْلِ.
وَلَوْ أَمَرْنَا كُلَّ وَلِيِّ مَقْتُولٍ أَنْ لَا يَقْتَصَّ مِنَ الْقَاتِلِ، وَكُلَّ صَاحِبِ دَيْنٍ أَنْ لَا يُطَالِبَ غَرِيمَهُ، بَلْ يَدَعَهُ عَلَى اخْتِيَارِهِ، وَكُلَّ مَشْتُومٍ وَمَضْرُوبٍ أَنْ لَا يَنْتَصِفَ مِنْ ظَالِمِهِ، لَمْ يَكُنْ لِلظَّالِمِينَ زَاجِرٌ يَزْجُرُهُمْ، وَظَلَمَ الْأَقْوِيَاءُ الضُّعَفَاءَ، وَفَسَدَتِ الْأَرْضُ. قَالَ تَعَالَى:
{وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة: 251] .
فَلَا بُدَّ مِنْ شَرْعٍ يَتَضَمَّنُ الْحُكْمَ بِالْعَدْلِ وَلَا بُدَّ - مَعَ ذَلِكَ - مِنْ نَدْبِ النَّاسِ إِلَى الْعَفْوِ وَالْأَخْذِ بِالْفَضْلِ.
وَهَذِهِ شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ كَمَا تَقَدَّمَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْآيَاتِ مِثْلِ قَوْلِهِ:
{وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45] .
وَقَوْلِهِ:
{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 280] .:.
وَقَوْلِهِ:
{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40] .
وَقَوْلِهِ:
{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126] .
وَقَوْلِهِ:
{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134] .
وَقَوْلِهِ:
{وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92] ..
وَقَوْلِهِ:
{وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43] .
وَقَالَ أَنَسٌ: " «مَا رُفِعَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَمْرٌ فِيهِ الْقِصَاصُ، إِلَّا أَمَرَ فِيهِ بِالْعَفْوِ» " فَكَانَ يَأْمُرُ بِالْعَفْوِ، وَلَا يُلْزِمُ النَّاسَ بِهِ؛ وَلِهَذَا لَمَّا عَتَقَتْ (بَرِيرَةُ) ، وَكَانَ لَهَا أَنْ تَفْسَخَ النِّكَاحَ، وَطَلَبَ زَوْجُهَا أَنْ لَا تُفَارِقَهُ، شَفَعَ إِلَيْهَا أَنْ لَا تُفَارِقَهُ، فَقَالَتْ: أَتَأْمُرُنِي؟ قَالَ: لَا إِنَّمَا أَنَا شَافِعٌ فَلَمْ يُوجِبْ عَلَيْهَا قَبُولَ شَفَاعَتِهِ صلى الله عليه وسلم.
الْوَجْهُ الثَّانِي عَشَرَ: قَوْلُهُمْ: " وَلَمَّا كَانَ الْكَمَالُ الَّذِي هُوَ الْفَضْلُ
لَا يُمْكِنُ أَنْ يَضَعَهُ إِلَّا أَكْمَلُ الْكُمَّالِ " فَيُقَالُ لَهُمْ: الْعَدْلُ وَالْفَضْلُ لَا يُشَرِّعُهُ إِلَّا اللَّهُ، فَشَرِيعَةُ التَّوْرَاةِ لَمْ يُشَرِّعْهَا إِلَّا اللَّهُ، وَشَرِيعَةُ الْإِنْجِيلِ لَمْ يُشَرِّعْهَا إِلَّا اللَّهُ عز وجل.
يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى مِنَ الشَّجَرَةِ تَكْلِيمًا، وَهُمْ غَايَةُ مَا قَرَّرُوا بِهِ إِلَهِيَّةَ الْمَسِيحِ أَنْ زَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ كَلَّمَ النَّاسَ مِنْ نَاسُوتِ الْمَسِيحِ، كَمَا كَلَّمَ مُوسَى مِنَ الشَّجَرَةِ، وَمَعْلُومٌ عِنْدَ كُلِّ عَاقِلٍ، لَوْ كَانَ هَذَا حَقًّا، أَنَّ تَكْلِيمَهُ لِمُوسَى مِنَ الشَّجَرَةِ أَعْظَمُ تَكْلِيمٍ كَلَّمَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّ شَرِيعَةَ الْعَدْلِ لَمْ يُشَرِّعْهَا اللَّهُ عز وجل؟ .
ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ: بَلْ شَرِيعَةُ الْعَدْلِ أَحَقُّ بِأَنْ تُضَافَ إِلَى اللَّهِ مِنْ شَرِيعَةِ الْفَضْلِ، فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالْإِحْسَانِ وَالْعَفْوِ يُحَسِّنُهُ كُلُّ أَحَدٍ، وَأَمَّا مَعْرِفَةُ الْعَدْلِ وَالْحُكْمُ بَيْنَ النَّاسِ بِهِ، فَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا آحَادُ النَّاسِ؛ وَلِهَذَا يُوجَدُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ بِالْإِحْسَانِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَأَمَّا الَّذِي يُحْسِنُ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَهُمْ بِالْعَدْلِ فَنَاسٌ قَلِيلٌ، فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّ الَّذِي يَأْمُرُ بِشَرْعِ الْفَضْلِ هُوَ اللَّهُ، دُونَ الَّذِي يَأْمُرُ بِشَرْعِ الْعَدْلِ؟ .
وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَرْسَلَ الرُّسُلَ، وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ؛ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
وَأَمْرُ الْمَسِيحِ عليه السلام لِلْمَظْلُومِ بِالْعَفْوِ عَنِ الظَّالِمِ: لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْوَاجِبِ الَّذِي مَنْ تَرَكَهُ اسْتَحَقَّ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ، بَلْ هُوَ مِنَ الْمُرَغَّبِ فِيهِ الَّذِي مَنْ فَعَلَهُ اسْتَحَقَّ الْمَدْحَ وَالثَّوَابَ. وَمُوسَى عليه السلام أَوْجَبَ الْعَدْلَ الَّذِي مَنْ تَرَكَهُ اسْتَحَقَّ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ. وَحِينَئِذٍ فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ إِيجَابِ الْعَدْلِ، وَبَيْنَ اسْتِحْبَابِ الْفَضْلِ.
لَكِنَّ إِيجَابَ الْعَدْلِ يَقْتَرِنُ بِهِ التَّرْهِيبُ وَالتَّخْوِيفُ فِي تَرْكِهِ، وَاسْتِحْبَابُ الْفَضْلِ يَقْتَرِنُ بِهِ التَّرْغِيبُ وَالتَّشْوِيقُ إِلَى فِعْلِهِ، فَذَاكَ فِيهِ رَهْبَةٌ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الرَّغْبَةِ. وَهَذَا فِيهِ رَغْبَةٌ بِلَا رَهْبَةٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْمَسِيحُ عليه السلام:.
وَلِهَذَا قِيلَ: إِنَّ الْمَسِيحَ عليه السلام بُعِثَ لِتَكْمِيلِ التَّوْرَاةِ، فَإِنَّ النَّوَافِلَ تَكُونُ بَعْدَ الْفَرَائِضِ كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ - تَعَالَى -: " مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ
حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنِ اسْتَعَاذَ بِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ» .
وَإِلَّا فَلَوْ قِيلَ: إِنَّ الْمَسِيحَ عليه السلام أَوْجَبَ عَلَى الْمَظْلُومِ الْعَفْوَ عَنِ الظَّالِمِ؛ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْوَعِيدَ وَالذَّمَّ وَالْعِقَابَ إِنْ
لَمْ يَعْفُ عَنْهُ لَزِمَ مِنْ هَذَا أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَنِ انْتَصَفَ مِنَ الظَّالِمِ، ظَالِمًا مُسْتَحِقًّا لِلذَّمِّ وَالْعِقَابِ، وَهَذَا ظُلْمٌ ثَانٍ لِلْمَظْلُومِ الَّذِي انْتَصَفَ؛ فَإِنَّ الظَّالِمَ ظَلَمَهُ أَوَّلًا فَلَمَّا انْتَصَفَ مِنْهُ ظُلِمَ ظُلْمًا ثَانِيًا، فَهُوَ ظُلْمُ الْعَادِلِ انْتَصَفَ مِنْ ظَالِمِهِ.
وَمَا أَحْسَنَ كَلَامَ اللَّهِ حَيْثُ يَقُولُ:.
وَقَالَ:
فَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْكَلَامِ وَأَعْدَلِهِ وَأَفْضَلِهِ حَيْثُ شَرَعَ الْعَدْلَ فَقَالَ:
{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] .
ثُمَّ نَدَبَ إِلَى الْفَضْلِ، فَقَالَ:
{فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 40] .
وَلَمَّا نَدَبَ إِلَى الْعَفْوِ، ذَكَرَ أَنَّهُ لَا لَوْمَ عَلَى الْمُنْتَصِفِ، لِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّ الْعَفْوَ فَرْضٌ فَقَالَ:
{وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 41] .
ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ السَّبِيلَ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى الظَّالِمِينَ فَقَالَ:
{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى: 42] .
ثُمَّ لَمَّا رَفَعَ عَنْهُمُ السَّبِيلَ نَدَبَهُمْ مَعَ ذَلِكَ إِلَى الصَّبْرِ وَالْعَفْوِ فَقَالَ:.
{وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43] .
فَهَذَا أَحْسَنُ شَرْعٍ وَأَحْكَمُهُ يُرَغِّبُ فِي الصَّبْرِ وَالْغَفْرِ وَالْعَفْوِ وَالْإِصْلَاحِ بِغَايَةِ التَّرْغِيبِ، وَيَذْكُرُ مَا فِيهِ مِنَ الْفَضَائِلِ وَالْمَحَاسِنِ وَحَمِيدِ
الْعَاقِبَةِ، وَيَرْفَعُ عَنِ الْمُنْتَصِفِ مِمَّنْ ظَلَمَهُ الْمَلَامَ وَالْعَذْلَ، وَيُبَيِّنُ أَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَيْهِ وَلَا سَبِيلَ إِذَا انْتَصَرَ بَعْدَمَا ظُلِمَ.
فَهَلْ يُمْكِنُ أَنْ تَأْتِيَ شَرِيعَةٌ بِأَنْ تَجْعَلَ عَلَى الْمُنْتَصِفِ سَبِيلًا مَعَ عَدْلِهِ وَهِيَ لَا تَجْعَلُ عَلَى الظَّالِمِ سَبِيلًا مَعَ ظُلْمِهِ؟ .
فَعُلِمَ أَنَّ مَا أَمَرَ بِهِ الْمَسِيحُ مِنَ الْعَفْوِ لَمْ يَكُنْ لِأَنَّ تَارِكَهُ مُسْتَحِقٌّ لِلذَّمِّ وَالْعِقَابِ، بَلْ لِأَنَّهُ مَحْرُومٌ مِمَّا يَحْصُلُ لِلْعَافِي الْمُحْسِنِ مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ، وَهَذَا حَقٌّ لَا يُنَاقِضُ شَرْعَ التَّوْرَاةِ، فَعُلِمَ أَنَّ شَرْعَ الْإِنْجِيلِ لَمْ يُنَاقِضْ شَرْعَ التَّوْرَاةِ؛ إِذْ كَانَ فَرْعًا عَلَيْهَا وَمُكَمِّلًا لَهَا، وَحِينَئِذٍ فَزَعْمُهُمْ أَنَّ شَرْعَ الْإِنْجِيلِ شَرَعَهُ اللَّهُ دُونَ شَرْعِ التَّوْرَاةِ كَلَامُ مَنْ هُوَ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ وَأَضَلِّهِمْ وَلِهَذَا كَانَ فَرْعًا عَلَى قَوْلِهِمْ بِالِاتِّحَادِ، وَأَنَّ الْمَسِيحَ هُوَ اللَّهُ.
فَذَاكَ الضَّلَالُ مِمَّا أَوْجَبَ هَذَا الْقَوْلَ الْمُحَالَ.