الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ: اشْتِرَاطُهُمْ لِصِحَّةِ النُّبُوَّةِ تَبْشِيرُ الْأَنْبِيَاءِ بِهَا وَالرَّدُّ عَلَيْهِمْ]
فَصْلٌ
وَالنَّصَارَى لَهُمْ سُؤَالٌ مَشْهُورٌ بَيْنَهُمْ، وَهُوَ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ يَقُولُ: مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم لَمْ تُبَشِّرْ بِهِ النُّبُوَّاتُ بِخِلَافِ الْمَسِيحِ فَإِنَّهُ بَشَّرَتْ بِهِ النُّبُوَّات " وَزَعَمُوا أَنْ مَنْ لَمْ تُبَشِّرْ بِهِ، فَلَيْسَ بِنَبِيٍّ وَهَذَا السُّؤَالُ يُورَدُ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَكُونُ نَبِيًّا حَتَّى تُبَشِّرَ بِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَنْ بَشَّرَتْ بِهِ أَفْضَلُ أَوْ أَكْمَلُ، مِمَّنْ لَمْ تُبَشِّرْ بِهِ، أَوْ أَنَّ هَذَا طَرِيقٌ يُعَرَفُ بِهِ نُبُوَّةُ الْمَسِيحِ، اخْتُصَّ بِهِ.
وَأَنْتُمْ قَدْ قُلْتُمْ: " مَا مِنْ طَرِيقٍ تَثْبُتُ بِهِ نُبُوَّةُ نَبِيٍّ إِلَّا وَمُحَمَّدٌ تَثْبُتُ نُبُوَّتُهُ بِمِثْلِ تِلْكَ الطَّرِيقِ وَأَفْضَلَ " فَأَمَّا هَذَا الثَّانِي، فَيَسْتَحِقُّ الْجَوَابَ، وَأَمَّا الْأَوَّلُ نُجِيبُهُمْ عَنْهُ أَيْضًا. لَكِنْ هَلْ تَجِبُ الْإِجَابَةُ عَنْهُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ وَهُوَ أَنَّهُ: هَلْ مِنْ شَرْطِ النَّسْخِ الْإِشْعَارُ بِالْمَنْسُوخِ؟ وَلِنُظَّارِ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ قَوْلَانِ:.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا بُدَّ إِذَا شَرَعَ حُكْمًا يُرِيدُ أَنْ يَنْسَخَهُ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُشْعِرَ الْمُخَاطَبِينَ بِأَنَّهُ سَيَنْسَخُهُ؛ لِئَلَّا يَظُنُّوا دَوَامَهُ فَيَكُونَ ذَلِكَ تَجْهِيلًا لَهُمْ.
وَالثَّانِي لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ.
وَأَيْضًا، فَمَنْ بُعِثَ بَعْدَ مُوسَى، هَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُبَشَّرًا بِهِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ.
وَبِكُلِّ حَالٍ، فَلَا رَيْبَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْمَسِيحَ عليه السلام بَشَّرَ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم كَمَا قَالَ - تَعَالَى -:
وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى -:
وَقَالَ - تَعَالَى -:
وَقَالَ - تَعَالَى -:
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146] .
فِي مَوْضِعَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ؛ أَحَدُهُمَا فِي التَّوْحِيدِ وَالْقُرْآنِ، وَالْآخَرُ فِي الْقِبْلَةِ، وَالْقُرْآنِ وَمُحَمَّدٍ.
فَقَالَ فِي الْأَوَّلِ:
وَهَذَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
وَقَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ - وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ -:
وَقَالَ - تَعَالَى -:
وَقَالَ - تَعَالَى -:
وَقَالَ - تَعَالَى -:
{أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 197] .
وَقَالَ - تَعَالَى -:
{قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد: 43] .
وَقَالَ - تَعَالَى -:
{وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 83] .
وَقَالَ - تَعَالَى -:
وَقَالَ - تَعَالَى -:
وَقَالَ - تَعَالَى -:
{فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} [يونس: 94] ..
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيُقَالُ: مَعْلُومٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمِلَلِ، أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ نُبُوَّةِ كُلِّ نَبِيٍّ أَنْ يُبَشِّرَ بِهِ مَنْ قَبْلَهُ؛ إِذِ النُّبُوَّةُ ثَابِتَةٌ بِدُونِ ذَلِكَ، لَاسِيَّمَا وَنُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَغَيْرُهُمَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ بَشَّرَ بِهِمَا مَنْ قَبْلَهُمَا، وَكَذَا عَامَّةُ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ قَامُوا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ تَتَقَدَّمْ بِهِمْ بِشَارَاتٌ؛ إِذْ كَانُوا لَمْ يُبْعَثُوا بِشَرِيعَةٍ نَاسِخَةٍ، كداودَ وَأَشْعَيَا وَغَيْرِهِمَا.
وَإِنَّمَا قَدْ يُدَّعَى هَذَا فِيمَنْ جَاءَ بِنَسْخِ شَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ، كَمَا جَاءَ الْمَسِيحُ بِنَسْخِ بَعْضِ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ، وَكَذَلِكَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم. فَفِي مِثْلِ هَذَا يَتَنَازَعُ الْمُتَنَازِعُونَ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ: هَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ قَدْ أُخْبِرَ بِذَلِكَ قَبْلَ النَّسْخِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ.
وَحِينَئِذٍ فَالْمُسْلِمُونَ يَقُولُونَ: شَرِيعَةُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ لَمْ تَشْرَعْ شَرْعًا مُطْلَقًا، بَلْ مُقَيَّدًا إِلَى أَنْ يَأْتِيَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وَهَذَا مِثْلُ الْحُكْمِ الْمُؤَقَّتِ بِغَايَةٍ لَا يُعْلَمُ مَتَى تَكُونُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة: 109] .
وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15] .
وَمِثْلُ هَذَا جَائِزٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمِلَلِ.
وَهَلْ يُسَمَّى هَذَا نَسْخًا؟ فِيهِ قَوْلَانِ: قِيلَ: لَا يُسَمَّى نَسْخًا، كَالْغَايَةِ الْمَعْلُومَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
فَإِنَّ ارْتِفَاعَ وُجُوبِ الصِّيَامِ بِمَجِيءِ اللَّيْلِ لَا يُسَمَّى نَسْخًا بِاتِّفَاقِ النَّاسِ.
فَقِيلَ: إِنَّ الْغَايَةَ الْمَجْهُولَةَ كَالْمَعْلُومَةِ. وَقِيلَ: بَلْ هَذَا يُسَمَّى نَسْخًا. وَلَكِنَّ هَذَا النَّسْخَ جَائِزٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمِلَلِ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ، وَعَلَى هَذَا فَثُبُوتُ نُبُوَّةِ الْمَسِيحِ وَمُحَمَّدٍ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمَا - لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْحُكْمِ الْمُطْلَقِ. وَالشَّرَائِعُ الْمُتَقَدِّمَةُ لَمْ تُشْرَعْ مُطْلَقًا.
وَسَوَاءٌ قِيلَ: إِنَّ الْإِشْعَارَ بِالنَّاسِخِ وَاجِبٌ، أَوْ قِيلَ: إِنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ، فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ قَدْ أَشْعَرَ أَهْلَ الشَّرْعِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ سَيُنْسَخُ. فَإِنَّ مُوسَى بَشَّرَ بِالْمَسِيحِ، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَمُوسَى وَالْمَسِيحُ، وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ بَشَّرُوا بِمُحَمَّدٍ، وَإِذَا كَانَ هَذَا هُوَ الْوَاقِعَ فَنُبُوَّةُ الْمَسِيحِ وَمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ - لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى ثُبُوتِ النَّسْخِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ.
وَحِينَئِذٍ فَنَقُولُ الْعِلْمُ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَنُبُوَّةِ الْمَسِيحِ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى
الْعِلْمِ بِأَنَّ مَنْ قَبْلَهُمَا بَشَّرَ بِهِمَا، بَلْ طُرُقُ الْعِلْمِ بِالنُّبُوَّةِ مُتَعَدِّدَةٌ. فَإِذَا عُرِفَتْ نُبُوَّتُهُ بِطَرِيقٍ مِنَ الطُّرُقِ ثَبَتَتْ نُبُوَّتُهُ عِنْدَ مَنْ عَلِمَ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ مَنْ قَبْلَهُ بَشَّرَ بِهِ. لَكِنْ يُقَالُ: إِذَا كَانَ الْوَاجِبُ أَوِ الْوَاقِعُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إِخْبَارِ مَنْ قَبْلَهُ بِمَجِيئِهِ وَأَنَّ الْإِشْعَارَ بِنَسْخِ شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَهُ وَاجِبٌ أَوْ وَاقِعٌ صَارَ ذَلِكَ شَرْطًا فِي النُّبُوَّةِ، وَمَنْ عَلِمَ نُبُوَّتَهُ عَلِمَ أَنَّ هَذَا قَدْ وَقَعَ، وَإِنْ لَمْ يُنْقَلْ إِلَيْهِ.
فَإِذَا قَالَ الْمُعَارِضُ: عَدَمُ إِخْبَارِ مَنْ قَبْلَهُ بِهِ يَقْدَحُ فِي نُبُوَّتِهِ، وَأَنَّهُ إِذَا قُدِّرَ أَنَّهُ لَمْ يُخْبِرْ بِهِ مَنْ قَبْلَهُ، وَالْإِخْبَارُ شَرْطٌ فِي النُّبُوَّةِ، كَانَ ذَلِكَ قَدْحًا - قِيلَ: الْجَوَابُ هُنَا مِنْ طَرِيقَيْنِ:.
أَحَدُهُمَا أَنْ يُقَالَ: إِذَا عُلِمَتْ نُبُوَّتُهُ بِمَا قَامَ عَلَيْهَا مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ؛ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَبْشِيرُ مَنْ قَبْلَهُ لَازِمًا لِنُبُوَّتِهِ وَاجِبًا أَوْ أَوْ وَاقِعًا، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ لَازِمًا.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَازِمًا لَمْ يَجِبْ وُقُوعُهُ، وَإِنْ كَانَ لَازِمًا عُلِمَ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ يُنْقَلْ إِلَيْنَا إِذْ لَيْسَ كُلُّ مَا قَالَتْهُ الْأَنْبِيَاءُ الْمُتَقَدِّمُونَ عَلِمْنَاهُ وَوَصَلَ إِلَيْنَا، وَلَيْسَ كُلُّ مَا أَخْبَرَ بِهِ الْمَسِيحُ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَصَلَ إِلَيْنَا، وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ.
وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ فِي الْكُتُبِ الْمَوْجُودَةِ لَمْ يَلْزَمْ أَنَّ الْمَسِيحَ وَمَنْ قَبْلَهُ لَمْ يَذْكُرُوهُ، بَلْ يُمْكِنُ أَنَّهُمْ ذَكَرُوهُ وَمَا نُقِلَ، وَيُمْكِنُ أَنَّهُ كَانَ فِي كُتُبٍ غَيْرِ هَذِهِ، وَيُمَكِنُ أَنَّهُ كَانَ فِي نُسَخٍ غَيْرِ هَذِهِ النُّسَخِ فَأُزِيلَ مِنْ
بَعْضِهَا، وَنُسِخَتْ هَذِهِ مِمَّا أُزِيلَ مِنْهُ، وَتَكُونُ تِلْكَ النُّسَخُ الَّتِي هُوَ مَوْجُودٌ فِيهَا غَيْرَ هَذِهِ، فَكُلُّ هَذَا مُمْكِنٌ فِي الْعَادَةِ لَا يُمْكِنُ الْجَزْمُ بِنَفْيِهِ.
فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْكُتُبِ الْمَوْجُودَةِ الْيَوْمَ بِأَيْدِي أَهْلِ الْكِتَابِ، لَمْ يُقْطَعْ بِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُبَشِّرُوا بِهِ، فَإِذَا لَمْ يُمْكِنُ لِلْيَهُودِ أَنْ يَقْطَعُوا بِأَنَّ الْمَسِيحَ لَمْ يُبَشِّرْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ، وَلَا يُمْكِنُ أَهْلَ الْكِتَابِ أَنْ يَقْطَعُوا بِأَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يُبَشِّرْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ، لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ عِلْمٌ بِعَدَمِ ذَلِكَ، بَلْ غَايَةُ مَا يَكُونُ عِنْدَ أَحَدِهِمْ ظَنٌّ لِكَوْنِهِ طَلَبَ ذَلِكَ فَلَمْ يَجِدْهُ.
وَدَلَائِلُ نُبُوَّةِ الْمَسِيحِ وَمُحَمَّدٍ قَطْعِيَّةٌ يَقِينِيَّةٌ، لَا يُمْكِنُ الْقَدْحُ فِيهَا بِظَنٍّ؛ فَإِنَّ الظَّنَّ لَا يَدْفَعُ الْيَقِينَ، لَاسِيَّمَا مَعَ الْآثَارِ الْكَثِيرَةِ الْمُخْبِرَةِ بِأَنَّ مُحَمَّدًا كَانَ مَكْتُوبًا بِاسْمِهِ الصَّرِيحِ فِيمَا هُوَ مَنْقُولٌ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ، كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو:" أَخْبِرْنَا بِبَعْضِ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ فِي التَّوْرَاةِ "، فَقَالَ: إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ " يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي، سَمَّيْتُكَ الْمُتَوَكِّلَ، لَسْتَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا صَخَّابٍ بِالْأَسْوَاقِ، وَلَا تَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ تَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ وَتَعْفُو وَتَغْفِرُ، وَلَنْ أَقْبِضَهُ حَتَّى أُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ.
الْمَوْجَاءَ، فَأَفْتَحَ بِهِ أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا، بِأَنْ يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
وَلَفْظُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَالزَّبُورِ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْكُتُبُ الْمُعَيَّنَةُ، وَيُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ، فَيُعَبَّرُ بِلَفْظِ الْقُرْآنِ عَنِ الزَّبُورِ وَغَيْرِهِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:" «خُفِّفَ عَلَى دَاوُدَ الْقُرْآنُ فَكَانَ مَا بَيْنَ أَنْ تُسْرَجَ دَابَّتُهُ إِلَى أَنْ يَرْكَبَهَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ» " وَالْمُرَادُ بِهِ قُرْآنُهُ وَهُوَ الزَّبُورُ، لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْقُرْآنَ الَّذِي لَمْ يُنَزَّلْ إِلَّا عَلَى مُحَمَّدٍ.
وَكَذَلِكَ مَا جَاءَ فِي صِفَةِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ: " أَنَاجِيلُهُمْ فِي صُدُورِهِمْ " فَسَمَّى الْكُتُبَ الَّتِي يَقْرَءُونَهَا - وَهِيَ الْقُرْآنُ - أَنَاجِيلَ.
وَكَذَلِكَ فِي التَّوْرَاةِ: " إِنِّي سَأُقِيمُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ نَبِيًّا مِنْ إِخْوَتِهِمْ أُنَزِّلُ عَلَيْهِ تَوْرَاةً مِثْلَ تَوْرَاةِ مُوسَى " فَسَمَّى الْكِتَابَ الثَّانِيَ تَوْرَاةً.
فَقَوْلُهُ: " أَخْبِرْنِي بِصِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي التَّوْرَاةِ " قَدْ يُرَادُ بِهَا نَفْسُ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ كُلِّهَا، وَكُلُّهَا تُسَمَّى تَوْرَاةَ، وَيَكُونُ هَذَا فِي بَعْضِهَا.
وَقَدْ يُرَادُ بِهِ التَّوْرَاةُ الْمُعَيَّنَةُ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ هَذَا فِي نُسْخَةٍ لَمْ يُنْسَخْ مِنْهَا هَذِهِ النُّسَخُ، فَإِنَّ النُّسَخَ الْمَوْجُودَةَ بِالتَّوْرَاةِ الَّتِي وَقَفْنَا عَلَيْهَا لَيْسَ فِيهَا هَذَا.
لَكِنَّ هَذَا عِنْدَهُمْ فِي نُبُوَّةِ أَشْعَيَا، قَالَ فِيهَا: " عَبْدَيِ الَّذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي، أُنَزِّلُ عَلَيْهِ وَحْيِي، فَيُظْهِرُ فِي الْأُمَمِ عَدْلِي وَيُوصِيهِمْ بِالْوَصَايَا، لَا يَضْحَكُ وَلَا يُسْمَعُ صَوْتُهُ فِي الْأَسْوَاقِ، يَفْتَحُ الْعُيُونَ الْعُورَ، وَالْآذَانَ الصُّمَّ، وَيُحْيِي الْقُلُوبَ الْغُلْفَ، وَمَا أُعْطِيهِ لَا أُعْطِي أَحَدًا، يَحْمَدُ اللَّهَ حَمْدًا جَدِيدًا يَأْتِي مِنْ أَقْصَى الْأَرْضِ، وَتَفْرَحُ الْبَرِّيَّةُ وَسُكَّانُهَا يُهَلِّلُونَ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ وَيُكَبِّرُونَهُ عَلَى كُلِّ رَابِيَةٍ، لَا يَضْعُفُ وَلَا يُغْلَبُ وَلَا يَمِيلُ إِلَى الْهَوَى، مُشْقِحٌ وَلَا يَذِلُّ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ هُمْ كَالْقَصَبَةِ
الضَّعِيفَةِ، بَلْ يُقَوِّي الصِّدِّيقِينَ، وَهُوَ رُكْنُ الْمُتَوَاضِعِينَ، وَهُوَ نُورُ اللَّهِ الَّذِي لَا يُطْفَى. أَثَرُ سُلْطَانِهِ عَلَى كَتِفَيْهِ ".
وَهَذِهِ صِفَاتٌ مُنْطَبِقَةٌ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَأُمَّتِهِ، وَهِيَ مِنْ أَجَلِّ بِشَارَاتِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ بِهِ.
وَلَفْظُ التَّوْرَاةِ قَدْ عُرِفَ أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ جِنْسُ الْكُتُبِ الَّتِي يُقِرُّ بِهَا أَهْلُ الْكِتَابِ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الزَّبُورُ، وَنُبُوَّةُ أَشْعَيَا، وَسَائِرُ النُّبُوَّاتِ غَيْرَ الْإِنْجِيلِ.
فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِلَفْظِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فِي الْقُرْآنِ هَذَا الْمَعْنَى؛ فَلَا رَيْبَ أَنَّ ذِكْرَ النَّبِيِّ فِي التَّوْرَاةِ كَثِيرٌ مُتَعَدِّدٌ.
الطَّرِيقُ الثَّانِي مِنَ الْجَوَابِ: أَنْ نُبَيِّنَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ قَبْلَهُ بَشَّرُوا بِهِ. وَهَذَا دَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ عَلَى نُبُوَّتِهِ وَعَلَمٌ عَظِيمٌ مِنْ أَعْلَامِ رِسَالَتِهِ، وَهَذَا - أَيْضًا - يَدُلُّ عَلَى نُبُوَّةِ ذَلِكَ النَّبِيِّ إِذْ أَخْبَرَ بِأَنْبَاءٍ مِنَ الْغَيْبِ مَعَ دَعْوَى
النُّبُوَّةِ، وَيَدُلُّ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لِإِخْبَارِ مَنْ تَثْبُتُ نُبُوَّتُهُ بِنُبُوَّتِهِ. هَذَا إِذَا وُجِدَ الْخَبَرُ مِمَّنْ لَا نَعْلَمُ نَحْنُ نُبُوَّتَهُ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِي كِتَابِنَا.
وَأَمَّا مَنْ ثَبَتَتْ نُبُوَّتُهُ بِطُرُقٍ أُخْرَى كَمُوسَى وَالْمَسِيحِ، فَهَذَا مِمَّا تَظَاهَرَ فِيهِ الْأَدِلَّةُ عَلَى الْمَدْلُولِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ - أَيْضًا - يَتَضَمَّنُ أَنَّ كُلَّ مَا ثَبَتَتْ بِهِ نُبُوَّةُ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ تَثْبُتُ بِهِ نُبُوَّتُهُ، وَهُوَ جَوَابٌ ثَانٍ لِمَنْ يَجْعَلُ ذَلِكَ شَرْطًا لَازِمًا لِنُبُوَّتِهِ.