المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌هل آيات الأمر بالدعوة والجدال والحوار منسوخة بآية السيف - الحوار مع أتباع الأديان - مشروعيته وآدابه

[منقذ السقار]

الفصل: ‌هل آيات الأمر بالدعوة والجدال والحوار منسوخة بآية السيف

‌هل آيات الأمر بالدعوة والجدال والحوار منسوخة بآية السيف

؟

لكن ما سقناه من آيات كريمة تحث على جدال المشركين بالتي هي أحسن، وتأمر المسلمين بحسن دعوتهم يراه بعض أهل العلم منسوخاً بآية السيف، وهي قوله تعالى:{فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصدٍ} (التوبة: 5)، حيث جعلت الآية - حسب رأيهم - شِرعة الجهاد وسيلة الدعوة للكفار، وحين تخضع أو تزول دولتهم وتذل بالجزية رقابهم، حينئذ يستيقظ ما غاب عنهم من عقولهم وما انطمس من فطرهم.

وقال ابن عطية في تفسيره لآية السيف: " وهذه الآية نسخت كل موادعة في القرآن أو ما جرى مجرى ذلك، وهي على ما ذكر مائة آية وأربع عشرة آية". (1)

وهذا الرأي على شهرته في كتب التفسير تضعفه أمور:

- أن النسخ يتضمن رفع حكم شرعي ثبت بدليل شرعي، فلا يصح هذا الرفع والنسخ إلا بدليل معتبر شرعاً، يقول الشاطبي: "إن الأحكام إذا ثبتت على المكلف، فادعاء النسخ فيها لا يكون إلا بأمر محقق، لأن ثبوتها على المكلف أولاً محقق، فرفعها بعد العلم بثبوتها لا يكون إلا بمعلوم محقق.

ولذلك أجمع المحققون على أن خبر الواحد لا ينسخ القرآن ولا الخبرَ المتواتر؛ لأنه رفع للمقطوع به بالمظنون. فاقتضى هذا أن ما كان من الأحكام المكية يدعى نسخه، فلا ينبغي قبول تلك الدعوى فيه إلا مع قاطع بالنسخ، بحيث لا يمكن الجمع بين الدليلين، ولا دعوى الإحكام فيهما. وهكذا يقال في سائر الأحكام، مكية كانت أو مدنية". (2)

ونقل السيوطي عن ابن الحصار الأنصاري قوله: "إنما يرجع في النسخ إلى نقل صريح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عن صحابي يقول: آية كذا نسخت آية كذا".

(1) تفسير ابن عطية (6/ 412).

(2)

الموافقات (3/ 105 - 106)، وما نقله الشاطبي رحمه الله من إجماع المحققين على أن خبر الواحد لا ينسخ القرآن، لا يسلم له، وإن كان هذا الرأي منقولاً عن كثيرين من أهل العلم، والصحيح عند المحققين منهم خلافه، فيجوز نسخ القرآن بخبر الآحاد إذا صح مخرجه.

ص: 63

ثم ذكر السيوطي أمراً آخر يدفع العلماء إلى القول بالنسخ، وهو تعارض النصوص، الذي لا سبيل للجمع فيه، يقول:"وقد يحكم به عند التعارض المقطوع به، مع علم التاريخ، لنعرف المتقدم والمتأخر .. ولا يعتمد في النسخ قول عوامّ المفسرين، بل ولا اجتهاد المجتهدين من غير نقل صحيح، ولا معارضة بيّنة، لأن النسخ يتضمن رفع حكم، وإثبات حكم تقرر في عهده صلى الله عليه وسلم. والمعتمد فيه: النقل والتاريخ، دون الرأي والاجتهاد". (1)

ويسوق ابن حزم ضابطاً ثالثاً لصحة ادعاء النسخ، ألا وهو الإجماع، فيقول:"فإذا اجتمعت علماء الأمة كلهم بلا خلاف من واحد منهم على نسخ آية أو حديث، فقد صح النسخ حينئذ".

أما إذا لم يحصل الإجماع - كما في مسألتنا - فإنه لا يُصار إلى النسخ إلا "إن وجدنا الأمرين لا يمكن استعمالهما معاً، أو وجدنا أحدهما كان بعد الآخر بلا شك، أو وجدنا نصاً جلياً يصرح بالنسخ، ووجدنا نصاً في ذلك من نهي بعد أمر، أو أمر بعد نهي".

أما إذا لم تقترن دعوى النسخ بدليلها، فإن ابن حزم يرد هذا، وينكره، فيقول: "لا يحل لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقول في شيء من القرآن والسنة: هذا منسوخ إلا بيقين؛ لأن الله عز وجل يقول: {وما أرسلنا من رسولٍ إلا ليطاع بإذن الله} (النساء: 64) وقال تعالى: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم} (الأعراف: 3).

فكل ما أنزل الله تعالى في القرآن أو على لسان نبيه، ففرضٌ اتباعه، فمن قال في شيء من ذلك: إنه منسوخ، فقد أوجب ألا يطاع ذلك الأمر، وأسقط لزوم اتباعه، وهذه معصية لله تعالى مجردة وخلاف مكشوف، إلا أن يقوم برهان على صحة قوله، وإلا فهو مفترٍ مبطل

ولا يجوز لنا أن نسقط طاعة أمر، أمرنا به الله تعالى ورسوله، إلا بيقين لا شك فيه". (2)

أما القرطبي فيكتفي بذمِّ هذا الصنيع وتخطئة صاحبه، إذ يقول:

(1) الإتقان في علوم القرآن (2/ 66).

(2)

الإحكام في أصول الأحكام (4/ 484).

ص: 64

"الناس في هذا بين طرفي نقيض، فمن قائل: لا يقبل في النسخ أخبار الآحاد العدول، ومن تساهل يكتفي فيه بقول مفسر أو مجتهد، والصواب خلاف قولهما". (1)

ثم إن علماء التفسير وهم ينقلون دعوى نسخ هذه الآيات نقلوا أقوال محققي أهل العلم في إحكام تلك النصوص، يقول الطبري في سياق تفسير قوله تعالى:{ولا تجادلوا أهل الكتاب} (العنكبوت: 146): " لا معنى لقول من قال: نزلت هذه الآية قبل الأمر بالقتال، وزعم أنها منسوخة، لأنه لا خبر بذلك يقطع العذر، ولا دلالة على صحته من فطرة عقل، وقد بينا في مواضع من كتابنا: أنه لا يجوز أن يحكم على حكم الله في كتابه بأنه منسوخ إلا بحجة يجب التسليم لها من خبر أو عقل". (2)

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "ما ذكره الله تعالى من مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا محكم لم ينسخه شيء، وكذلك ما ذكره تعالى من مجادلة الخلق مطلقاً بقوله:{ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} (النحل: 125).

فإن من الناس من يقول: آيات المجادلة والمحاجة للكفار منسوخات بآية السيف لاعتقاده أن الأمر بالقتال المشروع ينافي المجادلة المشروعة، وهذا غلط، فإن النسخ إنما يكون إذا كان الحكم الناسخ مناقضاً للحكم المنسوخ، كمناقضة الأمر باستقبال المسجد الحرام في الصلاة للأمر باستقبال بيت المقدس بالشام

وقوله: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن} (العنكبوت: 46)، فهذا لا يناقضه الأمر بجهاد من أمر بجهاده منهم، ولكن الأمر بالقتال يناقض النهي عنه والاقتصار على المجادلة، فأما مع إمكان الجمع بين الجدال المأمور به والقتال المأمور به فلا منافاة بينهما، وإذا لم يتنافيا، بل

(1) الإتقان (2/ 65).

(2)

جامع البيان (21/ 3).

ص: 65

أمكن الجمع لم يجز الحكم بالنسخ، ومعلوم أن كلاً منهما ينفع حيث لا ينفع الآخر، وأن استعمالهما جميعاً أبلغ في إظهار الهدى ودين الحق". (1)

ويستدل شيخ الإسلام لقوله بإحكام آيات الجدال بفعل النبي صلى الله عليه وسلم ومحاجته للمشركين قبل نزول آية السيف وبعدها " وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يحاج الكفار بعد نزول الأمر بالقتال، وقد أمره الله تعالى أن يجير المستجير حتى يسمع كلام الله، ثم يبلغه مأمنه، والمراد بذلك تبليغ رسالات الله وإقامة الحجة عليه، وذلك قد لا يتم إلا بتفسيره له، الذي تقوم به الحجة، ويجاب به عن المعارضة، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، علم بطلان قول من ظن أن الأمر بالجهاد ناسخٌ الأمر بالمجادلة مطلقاً ". (2)

وأيضاً فإن ابن حزم يرى آيات الجدال محكمة، بل يعتبرها نوعاً من الجهاد المأمور به:"وأما مجاهدة الكفار باللسان فما زال مشروعاً من أول الأمر إلى آخره، فإنه إذا شرع جهادهم باليد، فباللسان أولى، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((جاهدوا المشركين بأيديكم وألسنتكم وأموالكم)) ". (3)

ويستدل لرأيه أيضاً بأن النبي صلى الله عليه وسلم "كان ينصب لحسان منبراً في مسجده يجاهد فيه المشركين بلسانه جهاد هجو، وهذا كان بعد نزول آيات القتال". (4)

وهذا هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وفاته، وعليه سار أصحابه من بعده، فإن "رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل في جدال الكفار على اختلاف مللهم ونحلهم إلى أن توفي، وكذلك أصحابه من بعده، وقد أمره سبحانه بجدالهم بالتي هي أحسن في السور المكية والمدنية .. وبهذا قام الدين، وإنما جعل السيف ناصراً للحجة". (5)

(1) الجواب الصحيح (1/ 218 - 219).

(2)

الجواب الصحيح (1/ 231 - 232).

(3)

الجواب الصحيح (1/ 238).

(4)

الجواب الصحيح (1/ 238).

(5)

زاد المعاد (3/ 642).

ص: 66

وفي سياق شرح قوله تعالى: {لكم دينكم ولي دين} (الكافرون: 6)، وهي آية زعم بعض أهل العلم انها منسوخة بآية السيف، وذلك أنهم فهموا منها إقراراً للمشركين على شركهم، نُسٍخ بجهادهم وقتالهم، يقول ابن القيم: " إن هذه الأخبار بأن لهم دينهم وله دينه، هل هو إقرار فيكون منسوخاً أو مخصوصاً؟ أو لا نسخ في الآية ولا تخصيص؟ فهذه مسألة شريفة من أهم المسائل المذكورة.

وقد غلط في السورة خلائق، وظنوا أنها منسوخة بآية السيف، لاعتقادهم أن هذه الآية اقتضت التقرير لهم على دينهم، وظن آخرون أنها مخصوصة بمن يُقَرون على دينهم، وهم أهل الكتاب، وكلا القولين غلط محض، فلا نسخ في السورة ولا تخصيص، بل هي محكمة

ومنشأ الغلط ظنّهم أن الآية اقتضت إقرارهم على دينهم، ثم رأوا أن هذا الإقرار زال بالسيف، فقالوا: منسوخ

ومعاذ الله أن تكون الآية اقتضت تقريراً لهم أو إقراراً على دينهم أبداً، بل لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول الأمر وأشده عليه وعلى أصحابه - أشد على الإنكار عليهم، وتعييب دينهم وتقبيحه والنهي عنه، والتهديد والوعيد كل وقت وفي كل ناد، وقد سألوه أن يكف عن ذكر آلهتهم وعيب دينهم ويتركوه وشأنه، فأبى إلاّ مضياً على الإنكار عليهم وعيب دينهم، فكيف يقال: إن الآية اقتضت تقريره لهم؟

معاذ الله من هذا الزعم الباطل، وإنما الآية اقتضت البراءة المحضة - كما تقدم -، وأن ما هم عليه من الدين لا نوافقهم عليه أبداً؛ فإنه دين باطل، فهو مختص بكم لا نشرككم فيه، ولا أنتم تشركوننا في ديننا الحق، فهذه غاية البراءة والتنصل من موافقتهم في دينهم، فأين الإقرار حتى يدعى النسخ أو التخصيص؟

بل هذه آية قائمة محكمة ثابتة بين المؤمنين والكافرين إلى أن يُطهِر الله منهم عباده وبلاده". (1)

(1) بدائع الفوائد (1/ 140 - 141).

ص: 67

ويسوق القرطبي حجة لمن أثبت الإحكام لبعض هذه الآيات، فيقول: "والحجة لهذا القول ما رواه زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لعجوز نصرانية: أسلمي تسلمي، إن الله بعث محمداً بالحق قالت: أنا عجوز كبيرة والموت أقرب إليّ! فقال عمر: اللهم أشهد، وتلا:{لا إكراه في الدين} (البقرة: 256). (1)، فاستشهاد عمر بالآية دليل على أنه يراها محكمة.

ومثله صنع عمر مع مملوكه أسبق فقد روى ابن أبي حاتم بإسناده عن أسبق قال: كنت في دينهم مملوكاً نصرانياً لعمر بن الخطاب، فكان يعرض علي الإسلام، فآبى، فيقول:{لا إكراه في الدين} ويقول: (يا أسبق، لو أسلمتَ لاستعنّا بك على بعض أمور المسلمين). (2)

وأكد ذلك رضي الله عنه في عهدته المشهورة لأهل القدس، فقد جاء فيها " هذا ما أعطى عبد الله عمر بن الخطاب - أمير المؤمنين - أهل إيليا من الأمان: أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها: ألا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينتقص منها، ولا من خيرها، ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم .. ". (3)

وبخصوص آية السيف، فإن العلماء لهم فيها تأويلات سوى تأويلها المشهور، فقد فسرها الطبري بأنها دعوة للوحدة في وجه المشركين، لا أنها تدعو لقتالهم أجمعين، يقول الطبري:"يقول جل ثناؤه: {وقاتلوا المشركين} بالله - أيها المؤمنون - جميعا غير مختلفين، مؤتلفين غير مفترقين، كما يقاتلكم المشركون جميعا، مجتمعين غير مفترقين"(4)

ونقل عن ابن عباس وقتادة والسدي أقوالا في ذلك، فلآية - وفق تفسيره - ليست أمرا بشن الحرب على الكفار جميعا، بل دعوة للتناصر

(1) المحلى (11/ 196).

(2)

الطبقات الكبرى (6/ 158)، تفسير القرآن العظيم (1/ 312).

(3)

تاريخ الطبري (3/ 609).

(4)

جامع البيان (10/ 128)

ص: 68

والوحدة في وجه العدو الذي يقاتلنا مجتمعا.

والقول بنسخ آيات الجدال يعارضه قول طائفة من العلماء من التابعين وغيرهم، يرون آيات الجدال محكمة، ومنه قول مجاهد عن قوله تعالى:{ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن} قال: "هي محكمة، فيجوز مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن على معنى الدعاء لهم إلى الله عز وجل والتنبيه على حججه وآياته رجاء إجابتهم إلى الإيمان، لا على طريق الإغلاظ والمخاشنة، وقوله على هذا {إلا الذين ظلموا منهم} معناه: ظلموكم، وإلا فكلهم ظلم على الإطلاق

".

ثم ساق القرطبي قول القائلين بالنسخ، وأتبعه بقوله:"وقول مجاهد حسن، لأن أحكام الله عز وجل لا يقال فيها: إنها منسوخة؛ إلا بخبر يقطع العذر أو حجة من معقول، واختار هذا القول ابن العربي". (1)

قال ابن تيمية: "فهذا مجاهد لا يجعلها منسوخة، وهو قول أكثر المفسرين". (2)

ومن هؤلاء المفسرين ابن كثير، فهو أيضاً يميل إلى رد دعوى النسخ في آيات جدال الكفار، فيقول:"بل هي باقية محكمة لمن أراد الاستبصار منهم في الدين، فيجادل بالتي هي أحسن، ليكون أنجع فيه، كما قال تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة} الآية، وقال تعالى لموسى وهارون حين بعثهما إلى فرعون: {فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى}، وهذا القول اختاره ابن جرير، وحكاه عن ابن زيد". (3)

وقال ابن الجوزي: "وقد ذهب كثير من المفسرين إلى أن هذه الآية منسوخة بآية السيف، وفيه بُعد، لأن المجادلة لا تنافي القتال، ولم يقل له: اقتصر على جدالهم، فيكون المعنى: جادلهم، فإن أبوا فالسيف، فلا يتوجه نسخ". (4)

(1) الجامع لأحكام القرآن (13/ 350).

(2)

الجواب الصحيح (1/ 241).

(3)

تفسير القرآن العظيم (3/ 416).

(4)

نواسخ القرآن (1/ 188).

ص: 69

- وكذا ادعى بعض أهل العلم النسخ في قوله تعالى: {فإنما عليك البلاغ} (آل عمران:20)، لكن غيرهم من العلماء ضعفوه وخالفوهم فيه، وردوا عليهم دعواهم لعدم الدليل عليها. قال القرطبي:" أي: إنما عليك أن تبلغ، قيل: إنه مما نسخ بالجهاد. وقال ابن عطية: وهذا يحتاج إلى معرفة تاريخ نزولها ". (1)

- وقد ادعوا النسخ أيضاً في قوله تعالى: {وإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين} (النحل: 82)، قال ابن الجوزي:"ذهب بعض المفسرين إلى أن هذا الكلام اقتضى الاقتصار على التبليغ دون القتال، ثم نسخ بآية السيف، وقال بعضهم: لما كان حريصاً على إيمانهم مزعجاً نفسه في الاجتهاد في ذلك سكّن جأشه بقوله: {إنما أنت نذير} (هود: 12) و {فإنما عليك البلاغ}، والمعنى: لا تقدر على سوق قلوبهم إلى الصلاح، فعلى هذا لا نسخ". (2)

- وقال ابن الجوزي عن آية سورة الرعد {فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب} (الرعد: 40): "قالوا: نسخ بآية السيف، وعلى ما سبق تحقيقه في نظائرها لا وجه للنسخ". (3)

- وادعى بعض أهل العلم نسخ قوله تعالى: {لست عليهم بمسيطر} (الغاشية: 22)، فقال ابن الجوزي: "وقد قال بعض المفسرين في معناها: لست عليهم بمسلط، فتكرههم على الإيمان، فعلى هذا لا نسخ

". (4)

- وادعى بعض أهل العلم أيضاً نسخ آية سورة التين، وهي قوله:{أليس الله بأحكم الحاكمين} (التين: 8)، فقالوا:"نسخ معناها بآية السيف، لأنه ظن أن معناها: دعهم وخلِّ عنهم، وليس الأمر كما ظن، فلا وجه للنسخ". (5)

وبهذا البيان تبين أن القول بنسخ آيات الجدال دعوى لا تقبل إلا ببرهان

(1) الجامع لأحكام القرآن (4/ 46).

(2)

نواسخ القرآن (1/ 104)، وانظر (1/ 183).

(3)

المصفى من علم الناسخ والمنسوخ (1/ 40).

(4)

المصفى من علم الناسخ والمنسوخ (1/ 59).

(5)

نواسخ القرآن (1/ 252).

ص: 70

قاطع، لأن النسخ دعوى لرفع لوجوب العمل في بعض أمر الله، ولا يصار إلى مثل هذا إلا بدليل معتبر يكافئه.

ومثل هذا الدليل لم نجده عند أولئك الذين ادعوا نسخ آيات الجدال بالجِلاد، بل هم محجوجون بفعل الصحابة ثم إطباق العلماء على إحكام هذه النصوص وعدم رفع أحكامها.

ص: 71