الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حتمية الخلاف
إن التعدّد في المخلوقات وتنوّعها سنة الله في الكون وناموسه الثابت، فلكل شيء في هذا الخلق طبيعته وخصائصه وصفاته التي تقارب غيره أحياناً، وتتنافر عنها في أحايين أخرى، وهكذا فطبيعة الوجود في الكون أساسها التّنوّع والتّعدّد.
والإنسانية خلقها الله وفق هذه السنة الكونية، فاختلف البشر إلى أجناس مختلفة وطبائع شتى، وكلّ من تجاهل وتجاوز أو رفض هذه السُّنة الماضية لله في خلقه، فقد ناقض الفطرة وأنكر المحسوس.
وقد جاء في القرآن الكريم ذكر بعض صور الاختلاف بين البشر، كاختلاف الألوان واللغات، وهما فرع عن اختلاف الأجناس والقوميات:{ومن آياته خلق السّموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إنّ في ذلك لآيات للعالمين} (الروم: 22).
وقد أكدت الآيات أن اختلاف البشر في شرائعهم هو أيضاً واقع بمشيئة الله تعالى ومرتبط بحكمته، يقول الله:{لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً} (المائدة: 48).
قال ابن كثير: "هذا إخبار عن الأمم المختلفة الأديان باعتبار ما بعث الله به رسله الكرام من الشرائع المختلفة في الأحكام المتفقة في التوحيد ". (1)
وقال تعالى: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمةً واحدةً ولا يزالون مختلفين - إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم} (هود: 118 - 119).
قال ابن حزم: "وقد نص تعالى على أن الاختلاف ليس من عنده، ومعنى ذلك أنه تعالى لم يرض به، وإنما أراده تعالى إرادة كونٍ، كما أراد الكفر وسائر المعاصي". (2)
(1) تفسير القرآن العظيم (2/ 67).
(2)
الإحكام في أصول الأحكام (2/ 64).
قال القرطبي: " {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة} قال سعيد بن جبير: على ملة الإسلام وحدها .. {ولا يزالون مختلفين} أي: على أديان شتى قاله مجاهد وقتادة ". (1)
وقال ابن كثير: " {ولا يزالون مختلفين - إلا من رحم ربك} أي: ولا يزال الخلف بين الناس في أديانهم واعتقادات مللهم ونحلهم ومذاهبهم وآرائهم .. قال الحسن البصري: الناس مختلفون على أديان شتى إلا من رحم ربك، فمن رحم ربك غير مختلف". (2)
ويقول الفخر الرازي: " والمراد اختلاف الناس في الأديان والأخلاق والأفعال". (3)
بل يرى الحسن البصري ومقاتل وعطاء وغيرهم من المفسرين أن الله خلق الناس ليختلفوا، وذلك لقوله:{ولا يزالون مختلفين - إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم} (هود: 118 - 119).
وذهب آخرون من المفسرين ومنهم ابن عباس ومجاهد وقتادة إلى أن اسم الإشارة يعود إلى الرحمة، أي: خلقهم ليرحمهم.
وذهب ابن جرير الطبري وابن كثير وغيرهما إلى عود الإشارة إلى الإثنين معاً، أي: خلقهم ليختلفوا، وليرحم من سلك الصراط المستقيم. (4)
يقول ابن سعدي: " يخبر الله تعالى أنه لو شاء لجعل الناس أمة واحدة على الدين الإسلامي، فإن مشيئته غير قاصرة، ولا يمتنع عليه شيء، ولكنه اقتضت حكمته أن لا يزالوا مختلفين، مخالفين للصراط المستقيم، متبعين للسبل الموصلة إلى النار .. ".
وعن قوله سبحانه: {ولذلك خلقهم} قال: "أي اقتضت حكمته، أنه خلقهم ليكون منهم السعداء [و] الأشقياء، والمتفقون والمختلفون، والفريق
(1) الجامع لأحكام القرآن (9/ 114).
(2)
تفسير القرآن العظيم (2/ 466).
(3)
التفسير الكبير (18/ 76).
(4)
انظر: الجامع لأحكام القرآن (9/ 114).
الذي هدى الله، والفريق الذي حقت عليهم الضلالة، ليتبين للعباد عدله وحكمته، وليظهر ما كمن في الطباع البشرية من الخير والشر .. ". (1)
وفي معنى الآية يقول محمد رشيد رضا: " {لو شاء ربك} أيها الرسول الحريص على إيمان قومه الآسف على إعراض أكثرهم عن إجابة دعوته واتباع هدايته {لجعل الناس أمة واحدة} على دين واحد بمقتضى الغريزة والفطرة، لا رأي لهم فيه ولا اختيار، وإذاً لما كانوا هم هذا النوع من الخلق المُسمّى البشر وبنوع الإنسان، بل كانوا في حياتهم الاجتماعية كالنحل أو كالنمل، وفي حياتهم الروحية كالملائكة مفطورين على اعتقاد الحقِّ وطاعة الله عز وجل، فلا يقع بينهم اختلاف. ولكنّه خلقهم بمقتضى حكمته كاسبين للعلم لا مُلْهَمين. وعاملين بالاختيار". (2)
ولما كان الاختلاف والتّعدّد آية من آيات الله، فإنّ الذي يسعى لإلغاء هذا التّعدّد كلية، فإنما يروم محالاً ويطلب ممتنعاً، لذا كان لابد من الاعتراف بالاختلاف.
والاعتراف بوقوع هذا الخلاف لا يعني إقرار هذه المختلفات ولا تسويغ الاختلاف فيها، لكنه يفرض على أهل الحق أن يتصدوا لهداية من قدروا على هدايته من المختلفين عنهم، مع يقينهم بالعجز عن إنقاذ الكثيرين ممن اختار العماية، قال تعالى:{أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً} (الرعد: 31).
قال القرطبي: " والمعنى على هذا: أفلم يعلم الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً أن يشاهدوا الآيات ". (3)
وعليه فإن هداية الجميع من المحال، فإن أكثر الناس لا يعلمون الحق، وأكثرهم لا يؤمنون به إن علموا به، وواجب الدعاة الدأب في دعوتهم وطلب أسباب هدايتهم، أي بذل الجهد في إزالة الخلاف ورفعه.
(1) تيسير الكريم الرحمن (2/ 396).
(2)
تفسير المنار (12/ 193).
(3)
الجامع لأحكام القرآن (9/ 330).
فإن أعرض من أعرض عن الإسلام فإنما أمر الله المسلمين بإبلاغ رسالاته في الدنيا، والله يتولى حساب المعرضين في الآخرة، قال الله مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم:{فإن تولوا فإنما عليك البلاغ} (النحل: 82).
قال القرطبي: " فإن تولوا أي أعرضوا عن النظر والاستدلال والإيمان؛ فإنما عليك البلاغ، أي ليس عليك إلا التبليغ، وأما الهداية فإلينا". (1)
وقال تعالى: {فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصيرٌ بالعباد} (آل عمران: 20).
قال الطبري: " وإن أدبروا معرضين عما تدعوهم إليه من الإسلام وإخلاص التوحيد لله رب العالمين، فإنما أنت رسول مبلغ، وليس عليك غير إبلاغ الرسالة إلى من أرسلتك إليه من خلقي وأداء ما كلفتك من طاعتي، {والله بصير بالعباد} يعني بذلك: والله ذو علم بمن يقبل من عباده ما أرسلتك به إليه، فيطيعك بالإسلام، وبمن يتولى منهم عنه معرضاً فيرد عليك ما أرسلتك به إليه، فيعصيك بإبائه الإسلام ". (2)
قال الشوكاني في سياق شرحه لقول الله تعالى: {فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب} (الرعد: 40): " أي: فليس عليك إلا تبليغ أحكام الرسالة، ولا يلزمك حصول الإجابة منهم، لما بلّغته إليهم، {وعلينا الحساب} أي: محاسبتهم بأعمالهم ومجازاتهم عليها، وليس ذلك عليك.
وهذا تسلية من الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم، وإخبار له أنه قد فعل ما أمره الله به، وليس عليه غيره، وأن من لم يجب دعوته ويصدق نبوته، فالله سبحانه محاسبه على ما اجترم واجترأ عليه من ذلك". (3)
وقال تعالى: {فذكر إنما أنت مذكر - لست عليهم بمسيطر} (الغاشية: 21 - 22).
قال الطبري: " يقول: لست عليهم بمسلَّط، ولا أنت بجبار تحملهم على ما تريد، يقول: كِلْهم إليّ، ودعهم وحكمي فيهم
…
". (4)
(1) الجامع لأحكام القرآن (10/ 161).
(2)
جامع البيان (3/ 215).
(3)
فتح القدير (3/ 90).
(4)
جامع البيان (30/ 166).
قال ابن كثير: " {فإن أعرضوا} يعني المشركين {فما أرسلناك عليهم حفيظاً} (الشورى: 48) أي: {لست عليهم بمصيطر} (الغاشية: 22)، وقال عز وجل: {ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء} (البقرة: 272)، وقال تعالى: {فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب} (الرعد: 40)، وقال جل وعلا في آية الشورى: {إن عليك إلا البلاغ} (الشورى: 48) أي: إنما كلفناك أن تبلغهم رسالة الله إليهم". (1)
فالإسلام - كما رأينا - يعترف بوجود الاختلاف وعدم إمكانية جمع الناس على دين واحد، ويطلب من الدعاة ورثة الأنبياء القيام بواجب البلاغ في الدنيا واستفراغ الوسع في الإرشاد والنصح للعالمين، ثم الله يتولى - بحكمه وعدله - يوم القيامة حساب المعاندين وجزاء المؤمنين.
(1) تفسير القرآن العظيم (4/ 121).