الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أنواع الحوار ومشروعيتها
إن المتتبع لتاريخ الحوار بين أهل الإسلام وغيرهم من أتباع الملل في القديم والحديث يجد أنواعاً ثلاثة من الحوار تتداخل فيما بينها أحياناً، وتفترق في أحايين أُخر.
وفي هذا المبحث نود الوقوف مع كل نوع منها وبيان حكمه وأهم موضوعاته وخصائصه.
أ. حوار الدعوة
وهو أهم أنواع الحوار وأعظمها، حيث عمد أنبياء الله وورثتُهم من العلماء والدعاة إلى حوار الكافرين بغية تعريفهم بدين الله وإنقاذهم به، فالحوار الدعوي أحد أعظم وسائل الدعوة إلى الإسلام، حيث يعمد المحاور المؤمن إلى تبيان مبادئ الإسلام وفضائله ويوضح لمحاوريه ما أعده الله للمؤمنين به من عظيم الأجر وحسن المثوبة، وما توعد به الكافرين من أليم عذابه وعقابه.
ولما كان لا يتصور رجوع الناس عن معتقداتهم وإلفهم لمجرد عظة سمعوها، إذ تثور في الأذهان تساؤلات تبحث عمن يجيب عنها، ويجلي الحق فيها، كان لا بد من الحوار.
لذا تتركز موضوعات حوار الدعوة حول التعريف بالله تبارك وتعالى وصفاته، وبالإيمان ونواقضه، وباليوم الآخر وسبيل النجاة والخلاص فيه.
ويمتاز حوار الدعوة عن غيره من أنواع الحوار بخصائص وسمات، منها:
- الهدف من حوار الدعوة، الدعوة إلى الإسلام والسعي إلى إقناع الآخرين بأن الإسلام هو دين الله الذي لا يقبل الله من العباد غيره.
- التركيز في مجادلة أهل الكتاب على القضايا العقدية الفاصلة، ومحاجتهم، ومناظرتهم، لدحض شبهاتهم، ونقض حججهم، بأسلوب علمي رفيق، ثم مباهلتهم إن لزم الأمر.
- أخذ المسلمين بزمام المبادرة في هذا اللون من الحوار، إذ هو استجابة لطبيعة دينهم، ويتحقق ذلك باستضافتهم في دار المسلمين، واستقبال وفودهم، والكتابة إليهم، وغشيانهم في محافلهم وبيوتهم لدعوتهم، إذ الدعوة والبلاغ واجب المسلم بمقتضى إسلامه.
- تغلب الصفة والعلاقات الشخصية على هذا اللون من ألوان الحوار الذي يبتعد عن الصفة الرسمية التي تغلب على حوار التعامل والتعايش كما سيتبين في حينه.
والمتتبع لما ورد ذكره في القرآن عن أحوال الأنبياء يظهر له أهمية هذا اللون من ألوان الحوار، الذي لم تُغفِله دعوة نبي منهم أو مصلح ممن تبعهم بإحسان.
فها هو نوح عليه السلام يجادل ويحاور قومه قروناً طويلة، من غير كلل ولا ملل، دعاهم ليلاً ونهاراً، أسر لهم، وأعلن لهم جهاراً، فقالوا:{يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين} (هود: 32).
وعلى هذا الهدي سار أنبياء الله من بعد نوح، فقصَّ الله علينا في القرآن حوار إبراهيم مع النمرود، وحوار موسى مع فرعون، بل وذكر لنا الكثير من حوار الأنبياء مع أقوامهم.
قال ابن تيمية: " فأما المجادلة الشرعية كالتي ذكرها الله تعالى عن الأنبياء عليهم السلام وأمر بها في مثل قوله تعالى: {قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا} (هود: 32) وقوله: {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه} (الأنعام: 83) وقوله: {ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه} (البقرة: 258) وقوله: {وجادلهم بالتي هي أحسن} (النحل: 125) وأمثال ذلك فقد يكون واجباً أو مستحباً، وما كان كذلك لم يكن مذموماً في الشرع". (1)
وأرسل الله محمداً خاتم الرسل داعياً إلى الله ومبشراً بدينه، آمراً إياه بدعوة العالمين إلى هذا الدين: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة
(1) درء تعارض العقل والنقل (7/ 156).
وجادلهم بالتي هي أحسن} (النحل: 125).
وقد اعتبر العلماء المجادلة والمناظرة والحوار من واجبات الإسلام التي أوجبها الله على أهل العلم والبصيرة، واستدلوا بما سبق ذكره من نصوص قرآنية تحدثت عن أمر الله لأنبيائه بالحوار أو فعلهم عليهم الصلاة والسلام.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في سياق حديثه عن قول الله تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} (النحل: 125): "والدعاء إلى سبيل الرب بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن ونحو ذلك مما أوجبه الله على المؤمنين، فهذا واجب على الكفاية منهم. وأما ما وجب على أعيانهم، فهذا يتنوع بتنوع قدرهم وحاجتهم ومعرفتهم ". (1)
وفي هذا الصدد يستدل ابن حزم على وجوب الجدال والمناظرة بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم)). (2) ويقول: "وهذا حديث في غاية الصحة، وفيه الأمر بالمناظرة وإيجابها كإيجاب الجهاد والنفقة في سبيل الله". (3)
وبالنظر إلى آثار الحوار ونجاعة طريقته في نشر الحق يجزم ابن حزم بفضل هذا الأسلوب من أساليب الدعوة، ويراه أنجع من غيره من وسائل حماية الدعوة كالجهاد في سبيل الله، إذ "قد تُهزم العساكر الكبار، والحجة الصحيحة لا تُغلب أبداً، فهي أدعى إلى الحق، وأنصر للدين من السلاح الشاكي والأعداد الجمّة .. لأن السيف مرة لنا، ومرة علينا، وليس كذلك البرهان، بل هو لنا أبداً، ودامغ لقول مخالفينا، ومزهق له أبداً.
ورُبَّ قوة باليد قد دمغت بالباطل حقاً كثيراً، فأزهقته
…
وقد قتل أنبياء كثير وما غُلبت حجتهم قط ".
(1) درء تعارض العقل والنقل (1/ 51 - 52).
(2)
رواه أبو داود ح (2504)، وأحمد ح (11837)، والنسائي ح (3096)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود ح (2186).
(3)
الإحكام في أصول الأحكام (1/ 27).
وفي المقابل، فإن "أفاضل الصحابة الذين لا نظير لهم؛ إنما أسلموا بقيام البراهين على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم عندهم، فكانوا أفضل ممن أسلم بالغلبة بلا خلاف من أحد المسلمين". (1)
ويثني ابن حزم بدليل آخر، فيقول:"أول ما أمر الله عز وجل نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يدعو له الناس بالحجة البالغة بلا قتال، فلما قامت الحجة وعاندوا الحق أطلق الله تعالى عليهم السيف حينئذ، وقال تعالى: {قل فلله الحجة البالغة} (الأنعام: 149). وقال تعالى: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق} (الأنبياء: 18) ". (2)
يقول ابن تيمية: "فكل من لم يناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرة تقطع دابرهم لم يكن أعطى الإسلام حقه، ولا وفّى بموجب العلم والإيمان، ولا حصل بكلامه شفاء الصدور وطمأنينة النفوس، ولا أفاد كلامه العلم واليقين". (3)
وكأني به رحمه الله يرد على ما سيقول الصفدي في ترجمته، فقد قال:"وضيّع الزمان في رده على النصارى والرافضة ومن عاند الدين وناقضه، ولو تصدى لشرح البخاري أو لتفسير القرآن العظيم لقلّد أعناق أهل العلوم بدرِّ كلامه النظيم". (4)
ويقول ابن القيم داعياً إلى محاورة أهل الكتاب: "جواز مجادلة أهل الكتاب ومناظرتهم، بل استحباب ذلك، بل وجوبه إذا ظهرت مصلحته من إسلام من يرجى إسلامه منهم وإقامة الحجة عليهم، ولا يهرب من مجادلتهم إلا عاجز عن إقامة الحجة، فليولِ ذلك إلى أهله، وليخلِ بين المطي وحاديها، والقوس وباريها ". (5)
(1) الإحكام في أصول الأحكام (1/ 26).
(2)
الإحكام في أصول الأحكام (1/ 26).
(3)
مجموع الفتاوى (20/ 164 - 165).
(4)
انظر: الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية (287)، وقد نقله عن جزء مخطوط لم يطبع من كتاب "أعيان العصر وأعوان النصر" للصفدي.
(5)
زاد المعاد (3/ 639).
وأما موضوع الدعوة والحوار فإنه حول أصول الدين وسبيل سعادة الدارين: {يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} (آل عمران: 64).
قال الطبري: " قل يا محمد لأهل الكتاب - وهم أهل التوراة والإنجيل - {تعالوا} هلموا {إلى كلمة سواء} ، يعني إلى كلمة عدل بيننا وبينكم، والكلمة العدل هي أن نوحد الله، فلا نعبد غيره، ونبرأ من كل معبود سواه، فلا نشرك به شيئاً.
وقوله: {ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً} يقول: ولا يدين بعضنا لبعض بالطاعة فيما أمر به من معاصي الله ويعظمه بالسجود له كما يسجد لربه، {فإن تولوا} يقول: فإن أعرضوا عما دعوتهم إليه من الكلمة السواء التي أمرتك بدعائهم إليها، فلم يجيبوك إليها، فقولوا أيها المؤمنون للمتولين عن ذلك:{اشهدوا بأنا مسلمون} ". (1)
والنبي صلى الله عليه وسلم كانت دعوته ترجماناً واقعاً لما أمر الله تعالى به من دعوة، فقد دعا صلى الله عليه وسلم المشركين إلى الإسلام على اختلاف مذاهبهم ومللهم، وكان صلى الله عليه وسلم يدعوهم ويحاورهم، وخص أهل الكتاب بمزيد من عنايته، وكان أبرز هذه الحوارات حواره مع نصارى نجران، ومكاتباته لملوك الأرض.
كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغشى الناس في مجالسهم يدعوهم ويحاورهم، ومنه ما رواه الإمام أحمد من حديث عوف بن مالك قال: انطلق النبي صلى الله عليه وسلم يوماً وأنا معه، حتى دخلنا كنيسة اليهود بالمدينة يوم عيد لهم، فكرهوا دخولنا عليهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:((يا معشر اليهود أروني اثني عشر رجلاً يشهدون أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، يحبط الله عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضبَ الذي غضب عليه)). قال: فأسكتوا، ما أجابه منهم أحد، ثم رد عليهم، فلم يجبه أحد، ثم ثلّث فلم يجبه أحد.
(1) جامع البيان (3/ 301).
فقال: ((أبيتم، فوالله إني لأنا الحاشر، وأنا العاقب، وأنا النبي المصطفى، آمنتم أو كذبتم)).
ثم انصرف وأنا معه، حتى إذا كدنا أن نخرج، نادى رجل من خلفنا: كما أنت يا محمد. قال: فأقبل. فقال ذلك الرجل: أي رجل تعلمون فيكم يا معشر اليهود؟ قالوا: والله ما نعلم أنه كان فينا رجل أعلم بكتاب الله منك ولا أفقه منك ولا من أبيك قبلك ولا من جدك قبل أبيك.
قال: فإني أشهد له بالله أنه نبي الله الذي تجدونه في التوراة. قالوا: كذبت. ثم ردوا عليه قوله، وقالوا فيه شراً.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كذبتم، لن يقبل قولكم، أما آنفاً فتثنون عليه من الخير ما أثنيتم، ولما آمن كذبتموه، وقلتم فيه ما قلتم، فلن يقبل قولكم)).
قال: فخرجنا ونحن ثلاثة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا وعبد الله بن سلام، وأنزل الله عز وجل فيه:{قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين} (الأحقاف: 10). (1)
ومن صور الحوار في الصدر الأول ما يحكيه ثوبان رضي الله عنه، إذ يقول: كنت قائماً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء حبر من أحبار اليهود فقال: السلام عليك يا محمد. فدفعتُه دفعة كاد يصرع منها. فقال: لم تدفعني؟ فقلت: ألا تقول: يا رسول الله؟ فقال اليهودي: إنما ندعوه باسمه الذي سماه به أهله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن اسمي محمد الذي سماني به أهلي)). فقال اليهودي: جئت أسألك. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أينفعك شيء إن حدثتك؟)) قال: أسمع بأذني. فنكت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعود معه فقال: ((سل)).
فقال اليهودي: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هم في الظلمة دون الجسر)).
قال: فمن أول الناس إجازة؟ قال: ((فقراء المهاجرين)).
قال اليهودي: فما تحفتهم حين يدخلون الجنة؟ قال: ((زيادة كبد النون)).
(1) رواه أحمد ح (23464)، وصححه الألباني في موارد الظمآن ح (1764).