المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ب. حوار التعامل - الحوار مع أتباع الأديان - مشروعيته وآدابه

[منقذ السقار]

الفصل: ‌ب. حوار التعامل

قال: فما غذاؤهم على إثرها؟ قال: ((ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها)).

قال: فما شرابهم عليه؟ قال: ((من عين فيها تسمى سلسبيلا)). قال: صدقت.

قال: وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان؟ قال: ((ينفعك إن حدثتك؟)) قال: أسمع بأذني. قال: جئت أسألك عن الولد. قال: ((ماء الرجل أبيض، وماء المرأة أصفر، فإذا اجتمعا فعلا منيُُّ الرجل منيَّ المرأة أذكرا بإذن الله، وإذا علا منيُّ المرأة منيَّ الرجل آنثا بإذن الله)).

قال اليهودي: لقد صدقت، وإنك لنبي، ثم انصرف فذهب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((لقد سألني هذا عن الذي سألني عنه، وما لي علم بشيء منه، حتى أتاني الله به)). (1)

إذاً نخلص إلى القول بأن حوار الدعوة واجب ديني تتابعت النصوص على الدعوة إليه، وهو مطلب أخلاقي يفرضه علينا رحمتنا بالآخرين، وحرصنا على هدايتهم، واستنقاذهم من أوضار الكفر والعقاب الأخروي.

‌ب. حوار التعامل

رأينا أن بقاء الاختلاف بين البشر في أديانهم ومللهم واقع، شاءه الله بمشيئته وإرادته الكونية، فكيف يتعايش المختلفون؟ وماهو الأسلوب الأمثل لبناء العلاقات البشرية؟ أوليس هو الحوار والتعايش والبحث عن القواسم الحياتية المشتركة؟

إن الضرورة الحياتية تؤزنا للبحث عن قواسم مشتركة نبني عليها علاقاتنا، وهو ما يملي على المختلفين في عقائدهم ومذاهبهم اللجوء إلى لون آخر من ألوان الحوار، وهو حوار التعامل، وهو حوار بعيد عن أصول الدين والمعتقد، حوار تفرضه السياسة الشرعية، وتمليه طبيعة التعايش بين

(1) رواه مسلم ح (351).

ص: 31

البشر؛ بحكم الجوار والمصالح المتبادلة.

وقد بينت الشريعة بنصوصها أو بقواعدها العامة الأسس والضوابط المتعلقة بهذا اللون من ألوان الحوار.

وقد ظهر مثل هذا اللون من حوار التعامل والتقارب المعيشي منذ نشأة الدولة الإسلامية في المدينة، حيث عقد النبي صلى الله عليه وسلم عهوداً مع يهود المدينة، كما أبرم صلح الحديبية مع كفار قريش، وحوى الفقه الإسلامي بمذاهبه المختلفة تراثاً ضخماً في مجال العلاقات الدولية التي بينت للمسلمين أصول التعامل مع مختلف البشر.

ويركز هذا اللون من الحوار على النقاط المشتركة التي يتفق عليها المتحاورون، فيهدفون إلى تعميقها والتكاتف في سبيلها، وغالباً ما تصطبغ بالصبغة الأخلاقية أو المصلحية، كالحوار حول السلام العالمي والتعايش بين الأمم ومكافحة الشذوذ ومعالجة قضايا الانحلال الأخلاقي والتفكك الأسري.

وأبرز معالم هذا النوع من الحوار:

- الاعتراف بوجود الآخر واختياره للدين والمعتقد.

- الاعتراف باختلاف المتحاورين وخصوصية كل دين، ونبذ التوفيق والتلفيق بين أديان الأطراف المتحاورة.

- تجنب أو الحذر في البحث في المسائل العقدية الفاصلة، حفاظاً على استمرارية الحوار وضمان ديمومة التعاون على تحقيق القيم أو المصالح المشتركة.

- تجنب إطلاق الألفاظ المفسدة لأجواء الحوار، كإطلاق الكفر على المحاورين أو الحديث عن خلودهم في النار أو الطعن في مقدساتهم، وتجنب هذا ليس تسويغاً له البتة.

- إبراز أوجه التشابه والاتفاق بين الأطراف المتحاورة، والتركيز عليها لاستثمارها وتنميتها، وإقصاء أوجه التباين والافتراق لما لها من أثر سلبي على الحوار.

ص: 32

- الدعوة إلى معرفة الآخر كما يريد هو أن يُعرف، ورفع الأحكام المسبقة عنه، مع التأكيد على الدعوة إلى نسيان الماضي التاريخي، والاعتذار عن أخطائه، والتخلص من آثاره.

وهذا اللون من الحوار مشروع وجائز، فقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم في شبابه حلف المطيبين الذين اتفقوا على رد المظالم وإعانة المظلوم، وهو لون من اللقاء حول أسباب التعايش.

وحين بُعث عليه الصلاة والسلام أكد مشروعية مثل هذا العمل النبيل والتزامه به فقال: ((ما شهدت من حلف إلا حلف المطيبين ، وما أحب أن أنكثه، وأن لي حمر النعم))، وفي رواية أنه قال:((ولو دعيت به اليوم في الإسلام لأجبت)). وفي رواية عزاها ابن كثير في السيرة إلى الحميدي: ((لو دعيت به في الإسلام لأجبت؛ تحالفوا أن ترد الفضول على أهلها، وألا يعز ظالم مظلوماًً)). (1) فقد أقر صلى الله عليه وسلم اللقاء مع الكافر على مثل هذه القيمة النبيلة والخصلة الحميدة.

قال ابن حجر في الفتح: " وكان حلفهم أن لا يعين ظالم مظلوماً بمكة، وذكروا في سبب ذلك أشياء مختلفة محصلها: أن القادم من أهل البلاد كان يقدم مكة، فربما ظلمه بعض أهلها فيشكوه إلى من بها من القبائل، فلا يفيد ، فاجتمع بعض من كان يكره الظلم ويستقبحه، إلى أن عقدوا الحلف ، وظهر الإسلام وهم على ذلك ". (2)

وقال القرطبي رحمه الله: "ذكر ابن إسحاق قال: اجتمعت قبائل من قريش في دار عبد الله بن جدعان لشرفه ونسبه، فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها أو غيرهم إلا قاموا معه، حتى ترد عليه مظلمته، فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول، وهو الذي قال فيه

(1) رواه أحمد ح (1658)، والبخاري في الأدب المفرد ح (570)، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي (2/ 219)، والطحاوي في مشكل الآثار ح (5217)، وصححه الألباني في فقه السيرة بمجموع طرقه (ص 72)، وانظر: السيرة النبوية (1/ 258).

(2)

فتح الباري (4/ 473).

ص: 33

الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت))، وهذا الحلف هو المعنى المراد في قوله عليه السلام:((وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة)) (1)، لأنه موافق للشرع إذا أمر بالانتصاف من الظالم". (2)

قال المباركفوري: "قوله: ((أوفوا)) من الوفاء، وهو القيام بمقتضى العهد ((بحلف الجاهليّة)) أي العهود الّتي وقعت فيها، ممّا لا يخالف الشّرع لقوله تعالى: {أوفوا بالعقود} (المائدة: 1) لكنّه مقيّدٌ بما قال الله تعالى: {وتعاونوا على البرّ والتّقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} (المائدة: 2)، ((فإنّه)) أي الإسلام ((لا يزيده)) أي حلف الجاهليّة الّذي ليس بمخالفٍ للإسلام ((إلّا شدّةً)) أي شدّة توثّقٍ، فيلزمكم الوفاء به". (3)

قال ابن القيم: " وأمّا قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: ((شهدت حلفاً في الجاهليّة ما أحبّ أنّ لي به حمر النّعم ، لو دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت))، فهذا - والله أعلم - هو حلف المطيّبين ، حيث تحالفت قريش على نصر المظلوم ، وكفّ الظّالم ونحوه ، فهذا إذا وقع في الإسلام كان تأكيدًا لموجب الإسلام وتقوية له. وأمّا الحلف الّذي أبطله فهو تحالف القبائل: بأن يقوم بعضها مع بعض وينصره، ويحارب من حاربه ، ويسالم من سالمه. فهذا لا يعقد في الإسلام". (4)

قال ابن حجر: " ذكره ابن إسحاق وغيره ، وكان جمع من قريش اجتمعوا فتعاقدوا على أن ينصروا المظلوم وينصفوا بين النّاس ونحو ذلك من خلال الخير ، واستمرّ العمل بهذا الحلف بعد البعثة النبوية ، ويستفاد من حديث عبد الرّحمن بن عوف أنّهم استمرّوا على ذلك في الإسلام ، وإلى ذلك الإشارة في حديث جبير بن مطعم

". (5)

(1) رواه مسلم ح (2530).

(2)

الجامع لأحكام القرآن (6/ 33)، وانظر شرح النووي على مسلم (16/ 82).

(3)

تحفة الأحوذي (5/ 173).

(4)

حاشية ابن القيم (8/ 101).

(5)

فتح الباري (10/ 502).

ص: 34

ومما يؤكد ديمومة هذا الحلف في الإسلام أنه كان بين الحسين بن علي وبين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان منازعة في مال كان بينهما بذي المروة، فكان الوليد يتحامل على الحسين بن علي بسلطانه في حقه، فقال الحسين بن علي: أحلف بالله لتنصفني من حقي، أو لآخذن سيفي ثم لأقومن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لأدعون بحلف الفضول.

فقال عبد الله بن الزبير، وهو عند الوليد، حين قال الحسين ما قال: وأنا أحلف بالله لئن دعا بها لآخذن سيفي، ولأقومن عنده ومعه، حتى ينصف من حقه، أو نموت جميعاً". (1)

وقد يشكل هنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا حلف في الإسلام))، فيفهم منه قطع الحلف، وهذا المعنى غير صحيح، فالرواية في صحيح مسلم من حديث جبير بن مطعم:((لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة)). (2)

وتأكيداً لهذا الفهم نسوق رواية البخاري عن أنس بن مالك، لما سئل: أبلغك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا حلف في الإسلام))؟ قال: قد حالف النبي صلى الله عليه وسلم بين قريش والأنصار في داري. (3)

قال الطبري: " ما استدل به أنس على إثبات الحلف لا ينافي حديث جبير بن مطعم في نفيه ، فإنّ الإخاء المذكور كان في أوّل الهجرة، وكانوا يتوارثون به ، ثم نسخ من ذلك الميراث وبقي ما لم يبطله القرآن، وهو التّعاون على الحقّ والنّصر والأخذ على يد الظالم كما قال ابن عباس: إلا النصر والنصيحة والرفادة ويوصى له."(4)

وقال القرطبي: "قال العلماء: فهذا الحلف الذي كان في الجاهلية هو

(1) مشكل الآثار للطحاوي ح (5217).

(2)

رواه مسلم ح (2530).

(3)

رواه البخاري ح (2294)، ومسلم ح (2529).

(4)

جامع البيان (12/ 341).

ص: 35